تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

مؤتمر دولي : نحو ثقافة الحوار بين الأديان

محمد تهامي دكير

مؤتمر  دولي: نحو ثقافة الحوار بين الأديان

بيروت، 12 - 13 أيلول / سبتمبر 2017 م

محمد تهامي دكير

«الكراهيةُ والتعصّب، يستهدفان أوّلًا، الجسور والقناطر والمعابر، فهما أوّل ضحايا الحروب والنِّزاعات، ومعلومٌ دورها وأهميتـها، في «الـوصل» و«التفاعل» بين جهات ومُكونات أيّ مجتمع أو دولة...».

د. عقيل سعيد محفوض

 

للتعرف إلى أهمية الحوار بشكل عام، ولتعزيز وبناء ثقافة الحوار بين الأديان على وجه الخصوص، في ظل التحديات التي تتخبّط فيها الأمة العربية والإسلامية، مع انتشار ظواهر التعصب والعنف ورفض الآخر، ولاستشراف مستقبل الحوار بين الأديان، نظّمت جامعة المعارف، بالتنسيق مع الجمعية اللبنانية لتقدم العلوم (LAAS)، مؤتمرًا تحت عنوان: «نحو ثقافة الحوار بين الأديان»، وذلك في بيروت/ لبنان، بين 12 و 13 أيلول/ سبتمبر 2017م.

شارك في المؤتمر عدد كبير من رجال الدين والفكر والأكاديميين وأساتذة جامعات ومُهتمين بالحوار الإسلامي المسيحي، من لبنان والعالمين العربي والإسلامي، وقد توزَّعت البحوث والدراسات المقدمة على خمس جلسات ناقشت خمس محاور رئيسة هي:

المحور الأول: تشكّل الثقافة الدينية والتعددية الفكرية.

المحور الثاني: معوِّقات الحوار بين الأديان.

المحور الثالث: دور المؤسسات الدينية في ثقافة الحوار.. تجارب عملية.

المحور الرابع: مؤسسات الحوار.

المحور الخامس: مستقبل الحوار.

فيما يلي قراءة في عدد من الأوراق المُقدمة في هذا المؤتمر..

_ الجلسة الافتتاحية

في البداية تحدّث رئيس جامعة المعارف الدكتور علي علاء الدين، فأشار إلى تزايدِ الاهتمام العالميِّ بقضيةِ الحوارِ على المستوياتِ الدينيةِ والثقافيةِ والحضارية، والحوارِ بين الأديان على وجه الخصوص.. وفي هذا الإطارِ بادرتْ جامعةُ المعارف، بالتعاونِ مع الجمعيةِ اللبنانيةِ لتقدمِ العلومِ إلى الدعوةِ لعقدِ المؤتمرِ الدوليِّ الأول: «نحو ثقافة الحوار بين الأديان»، لأننا -يقول د. علاء الدين-: نعتقدُ أنّ ما نحتاجُ إليه هو تأسيس أو بناء ثقافةٍ للحوار، يستطيعُ من خلالِها الإنسانُ قبولَ الآخرِ المختلفِ دينيًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا.

كما أشار إلى أنّ ما يطمحُ إليه هذا المؤتمر هو البحثُ في كيفيةِ تشكّلِ ثقافةِ الإنسانِ الدينيةِ التي ينظرُ من خلالِها إلى نفسِه، وإلى الآخرِ من الدين نفسِه، وإلى الأديان الأخرى.. لأن سلوكَ الإنسانِ –في نظره- هو حصيلةُ الثقافةِ التي تربّى عليها، وتحوّلت بعد ذلك إلى قيمٍ ومفاهيمَ وممارسات. كما تطمحُ الدعوةُ إلى ثقافةِ الحوارِ أنْ يُصبحَ هذا الحوارُ مفهومًا وممارسةً، أحدَ المكوّناتِ الأساسيةِ لشخصيةِ الإنسانِ الفكريةِ ولممارساتِه المجتمعية.

ثم تحدث بعده رئيس الجمعية اللبنانية لتقدم العلوم البروفسور نعيم عويني، الذي أكد أهمية المؤتمر وسبب اختيار العنوان الذي يؤكد ثقافة الحوار، فكلمة ثقافة تعطي للحوار أطرًا أفضل وأهم، وبُعدًا علميًّا ثقافيًّا بتنا –كما يقول- نحتاج اليوم إليه في بلدنا، كما أن الحوار بين الأديان لا ينفصل عن الظروف السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي ينتمي اليها أطرافها، لا بل يرتبط بها ارتباطًا وثيقًا بها، فيؤثر ويتأثر بها بشكل مباشر.

وفي الأخير أكد الدكتور نعيم عويني أن ثقافة الحوار بين الأديان، تعني الاحترام والإصغاء وقبول الاختلاف، ومن أهم شروطها الانفتاح المتزايد على الآخر والثقة به، وأنّ الحوار بين الأديان سيكون أكثر إلحاحًا في المستقبل؛ لأنّ المؤشرات التي نراها تؤشر إلى أنّ هذا العصر سيعيش أزمات متعددة ستؤثر سلبًا على الحضارات والثقافات كلها، لذا لا بد من تدارك الموضوع بسرعة وإلَّا عدنا للخلافات الدينية والصراعات الفكرية التي قد تجر الجميع الى الهاوية.

أما الأمين العام للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلاميّة في إيران الشيخ محسن الآراكي، فقد تحدث عن أهمية مرجعية العقل، وخصوصًا ما يطلق عليه عقل ما قبل التشريع، لأنه العقل الذي على أساسه يتم قبول التشريع، القبول المنطقي لحقانية التشريع، وهو العقل الذي على أساسه يمكن أن تثبت به إلهية الإله، ووحدانية الإله، ونبوة النبي..؛ لذا -يقول الشيخ الأراكي- لا بد -إن أردنا أن ندخل في حوار بين الأديان- أن نؤسس لهذا العقل، وأن نحدّد المعالم والأسس التي يقوم عليها هذا العقل السابق للتشريع، أو العقل السابق على الأديان كلها، العقل الذي تقوم على أساسه حقّانية الدين، وتقوم على أساسه منطقية الفكر الديني.

وهذه الأسس يمكن أن تكون أساسًا للحوار بين الأديان. وفي الأخير دعا جامعة المعارف لتأسيس قسم خاص للحوار بين الأديان، أو قسم خاص لدراسة الأديان، والمذاهب كلها؛ لأنّ اجتماع الأديان في جامعة واحدة أو في مدرسة واحدة، هو الذي يمهّد لهذا الحوار تمهيدًا عمليًّا.

ثم ألقى كلمة غبطة بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق للروم الأرثوذكس الأب بوركريوس جرجي (عميد كلية اللاهوت في جامعة البلمند)، ومما جاء فيها: تسعى كنيستنا إلى فتح باب الحوار على إخوتها المسلمين والمسيحيين، وإلى المبادرة على الدوام لملاقاة الآخر والتعاون معه بمحبة وودٍّ كبيرين، نحن شعب يؤمن بالسلام، ويتوق اليه، وقد سعى عبر تاريخه الى تفادي منطق الحرب والسلاح، وأدرك أنّ المواجهات العُنفية لا تؤدي سوى إلى الدمار والتشتت والضياع وتعميق جروح الحقد والعداوة، لا إلى بناء الأوطان وصون الكرامات والقيم السامية.

نحن نؤمن بالحوار والعيش الكريم المشترك، ونرفض كلّ ما من شأنه أن يسيء إلى الإسلام السمح، الذي اختبرنا وإياه طيب أخوة وسلام عيش.. وفي الأخير أكد أن ثقافة الحوار وحدها قادرة على أن تلد خبرات التكامل والإبداع، وما أبعد بيئاتنا عن روح الخلق والإبداع! و إنسانيتنا اليوم في مخاض، هي بحاجة إلى صوت مشرقي أصيل، نابع من خبراتنا المتبادلة وعيشنا المشترك، صوت يذكّرها بجدوى الحوار والتعايش معًا من أجل التحرر من سطوة السياسات والمصالح الضيقة، وبلوغ ذهنية إنسانية تقوم على الميثاق والمصالحة.

أما رئيس جامعة الزيتونة في تونس، الأستاذ الدكتور هشام قريسة، فقد تحدث عن لزوم التعارف والتعايش لتحقيق مهمة الاستخلاف في الأرض؛ لأن من مقاصد الأديان التواصل بين الناس وإقامة المواثيق الاجتماعية وإرساء نوع من الأمان الديني، لتتمكن هذه الطوائف من التواصل المفضي إلى اختيار الأصلح من النظم الاجتماعية التي تساعد على تحقيق ما سماه ابن خلدون في مقدمته بالعمران البشري. هذا المقصد الأسمى من الخلق، والذي هو التعارف أكده القرآن الكريم، في العبارة ذاتها في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}.كما أكد أنّ قيام الحياة الإنسانية على ميثاق التعايش السلمي، والتعاقد الاجتماعي، في نظام قانوني يكفل حرية التديُّن، ويربط واجبات مختلف الأطراف السياسية والجماعات الدينية وكذلك حقوقهم، وتدير شؤونهم سلطة سياسية تنفيذية واحدة، وتتأسس مصالحهم على الانتفاع المشترك والعادل بخيرات البلاد التي يستظلون بوحدتها وتضامنها وأمنها... وعندما لا تجتمع هذه الأمور الثلاثة تحيد الأمة عن سَنَن الدين، ويكون هذا مؤديًا إلى وقوع الفتن فيها.

أما كلمة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز التي ألقاها الشيخ غسان حلبي، فقد أشار فيها إلى ما أسماه بـ«الشجاعة في ثقافة الحوار»؛ لأن هذه الثقافة –في نظره- تكاد تكون معدومة في المؤسسات التعليمية والدينية والاجتماعية وسواها من المؤسسات والهيئات ذات التأثير في تشكُّل ثقافة الإنسان ونظرته إلى الآخر.. في الوقت الذي أضحت مسألة ثقافة الحوار ضرورة ملحَّة بسبب النزوع إلى ثقافة الصراع والصدام تحت عناوين دينية، وهنا تكمن الأهمية الفائقة –كما يقول- للعمل الجدي المحكم كما يجب أن يكون في موضوع ثقافة الحوار، ولا أقول بين الأديان، بل بين البشر الذين يؤمنون بالثمرات الطيبة للرسالات السماوية؛ لذلك لا بد من تصحيح المفاهيم وتحريرها، في إطار التشجيع على قيم المواطنة والعيش المشترك، ومن الجدية التفكير ببناء الجسور الفكرية بين العاملين المؤمنين بثقافة الحوار في كل المستويات، والشجاع من يبني الجسور التي يصل بها الآخر.

أما كلمة رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى التي ألقاها الشيخ علي الخطيب فقد احتضنت مجموعة من النقاط أو القواعد الأساسية التي يمكن أن تتأسس على حوار جدي وفاعل، فالأديان السماوية من وجهة نظر إسلامية هي واحدة في مبادئها العامة، وإنما الاختلاف هو في التفاصيل التي اقتضتها الظروف، والحوار هو مبدأ من مبادئ الدين الحنيف، وهو يقتضي الاعتراف بالآخر والقبول به كما هو. والحوار لا يعني الحوار العقائدي للوصول إلى صحة أو بطلان ما يعتقده الآخر؛ لأن الإسلام يعترف بأهل الكتاب، وهم أهل الديانات السماوية وبخصوصيتهم العقائدية، وحرية ممارستهم الدينية. كما يدعو إلى حسن الجوار والتعايش مع الآخر، وعدم الإكراه الفكري، بل يدعو إلى الإنصاف والعدل ويرفض الظلم والعدوان.. وبالتالي فإنّ الحروب المسماة زورًا بالحروب الدينية ما هي إلَّا حروب أنظمة ومصالح قُيدت باسم الدين.

وفي الأخير أكدت الكلمة على أننا بحاجة الى مصارحة أهل الأديان بعضهم للبعض الآخر ولسنا بحاجة إلى حوار الأديان؛ لأنّ الأديان متصالحة مع نفسها، لأنّ الدين عند الله واحد. إنّ الحوار الذي نحن بحاجة إليه –يضيف- هو الحوار الذي عنوانه: ما الأسس التي يجب أن تحكم عيشنا؟ وما القواسم المشتركة والقواعد التي من الممكن أن نتوصل إليها لنبني حضارة الإنسان، وسلام الإنسان، وحرية الإنسان وكرامة الإنسان؟.

تحدث في هذه الجلسة كذلك د. مجدي عاشور ممثلًا المستشار العلمي لمفتي الديار المصرية، فقال: نحن لا نريد حوارًا بين الأديان وإنما نريد حوارًا بين أهل الأديان؛ لأنّ الأديان متواصلة ومتراكمة، من لدن سيدنا آدم إلى سيدنا محمد (عليهما السلام). وعند غياب الحوار بين أهل الأديان، وبين أهل الطوائف جميعًا ينتج لنا ما نحن فيه الآن، وهو إما ظهور الإلحاد وإما ظهور التطرف والإرهاب؛ لذلك دعا إلى تحديد المفاهيم، وإبراز إنسانية الأديان، وأنها تدعو إلى صناعة الحياة وليس إلى صناعة الموت.

ثم توالت الكلمات حيث تحدث الشيخ ماهر حمود عن أهمية الحوار في القرآن الكريم باعتباره النموذج الذي يجب أن يحتذى ويؤخذ به. وأن الحوار مع الآخر يقتضي الاعتراف به وبوجوده، وأن ننزل إلى مستواه، وأن نخاطبه بلغته، فهذا شرط رئيس للحوار. أما من يرفض الحوار فإنما يُدين نفسه؛ لأن ذلك يعني أنه ليس على ثقة فيما يحمل من أفكار أو دين أو سلوك.

أما غبطة بطريرك أنطاكية وسائر المشرق ورئيس مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك فقد أشار في كلمته التي ألقاها بدل عنه المطران منير خير الله راعي أبرشية البترون، إلى التاريخ الطويل للعيش بين المسيحيين والمسلمين في لبنان، والمنطقة العربية، في ظل قيم الانفتاح والاحترام المتبادل والحوار الصادق، والعيش معًا بأخوة وسلام، مؤكدًا أن الحوار الإسلامي المسيحي ليس حوارًا بين مثقفين فقط، فهو يهدف أولًا إلى تشجيع العيش المشترك والانفتاح والتعاون. وأن ما تطمح له الكنيسة المارونية عبر الحوار الصادق والفطن والودود هو إرساء ثقافة جديدة بين طرفيه، ثقافة ركناها الحرية والمحبة.

وبعد كلمة ممثل الفاتيكان السفير البابوي في لبنان التي ألقاها المستشار الأول في السفارة البابوية المونسنيور إيفان سانتوس، كانت الكلمة الختامية لراعي المؤتمر، رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، وقد ألقاها الدكتور بيار رفول، ومما جاء فيها: لا شك أنّ مؤتمركم الكريم هذا سيحيط بالأسباب والظواهر، ويؤشر إلى العلاج الناجع، وحسنًا فعل المنظِّمون مشكورين، بأن وضعوا عنوانًا لهم: البحث عن ثقافة الحوار بين الأديان، بعدما باتت أسوأ الانتهاكات البشرية تُرتكب باسم الدين. فمن المؤسف –في نظره- أن نشعر اليوم باتِّساع موجة الكفر بالدين بين الجيل الجديد، في مقابل اتساع ظاهرة أكثر خطورة وهي العصبية الدينية العمياء، وتكفير الآخر، ومحاولة الغائه، ويحدث ذلك داخل الدين نفسه قبل أن يحدث بين الأديان. نعم، علينا أن نبدأ بالعائلة لنعلّم أولادنا فيها ثقافة الحوار، ونواصل تلقي هذه الثقافة في مؤسساتنا التربوية، وكذلك في رحاب الجامع والكنيسة، من خلال العظات والخطب، وعلينا أيضًا –يضيف- أن نحصّن احترام الآخر والمساواة في قوانيننا، بمعزل عن انتماء الفرد الديني والثقافي، والفكري والعرقي. وحسنًا فعلت دول عدة حين أصدرت قانونًا يقضي بتجريم فعل ازدراء الأديان، ومكافحة كافة إشكال التمييز، ونبذ خطاب الكراهية.. وإذا كان جوهر الدين هو التواصل مع الله، فكيف يمكن أن نتعلَّم هذا التواصل ونعيشه، إذا افتقدنا القدرة على التواصل مع من حولنا بالحوار والكلمة.

_ الجلسة الأولى

انطلقت أعمال المؤتمر بالجلسة الأولى التي ناقشت المحور الأوّل: «تشكّل الثقافة الدينيّة والتعدّديّة الفكريّة»، وقد ترأسها الوزير الدكتور عدنان السيّد حسين (رئيس الجامعة اللبنانيّة السابق)، وتحدث فيها في البداية الشيخ شفيق جرادي (المدير العام لمعهد المعارف الحكميّة للدراسات الدينيّة والفلسفيّة) عن: «تشكُّل الثقافة الدينيّة: جدليات في مسيرة الحياة الممتدة». في البداية أشار الباحث إلى أن الحديث حول الثقافة والدين في علاقتهما الجدلية التي تشكّل نسيجهما التثاقفي، هو مدخل لازم للحديث حول تشكّل ثقافة دينية خاصة، ذلك أن الحديث حول الثقافة يستدعي النظر إلى الأمر من خارج خصوصيتها، لموضعتها من جهة، وإتاحة الفرصة للحكم عليها من جهة أخرى.. وهنا لا بدَّ -يضيف الباحث- من استعراض الحيثيات التي نظر إليها من تعامل مع الدين بوجه عام، باعتباره مظهرًا ثقافيًّا، وعليه سمح لنفسه باستخدام منهجيات دراسة الظاهرة الثقافية، لقراءة الدين بما هو دين، بغض النظر عن خصوصية كونه وحيانيًّا أو غير وحيانيّ، إسلاميًّا أو مسيحيًّا، أو يهوديًّا، أو إلى ما هنالك...

وكمدخل لدراسة إشكالية التشكّل الثقافي للدين، من المفيد -يقول الباحث- أن نقيِّم نظرة من اعتقد أن الدين ظاهرة ثقافية، وهي تعكس الجانب المُعلمَن للدين من حيث هو منظومة عقيدة وقيم وسلوك، وبالتالي مبنى خاصًّا للنظام الاجتماعي، يعبِّر عن نفسه كونه دينًا. وإلى نظرة الموحّدين الوحيانيين للدين بعامّة.

ثم شرع الباحث في بسط الكلام في تشكّل الثقافة الإسلامية حسب وجهتي نظر، أوّلهما ما أفرزته أدبيات اتجاه «ثقفنة الإسلام» على محورية النص؛ مبدأً ومآلًا. واتجاه «الإسلام الفطري» الذي يعتبر وحدة الكينونة والنص في فهم الدين وثقافته محورًا لرؤيته وتأويله. ومن خلال عرض ومناقشة نقدية للعناوين التالية: الثقافة وعلمنة الدين، الثقافة على ضوء المبنى الماضوي، التشكلات الدينية – الثقافية للإسلام السياسي الماضوي عند سيد قطب، والمسار الرسمي لتشكّل الثقافة الدينية، الإسلامية (الإسلام الفطري).. أكد الباحث أن القراءة الإسلامية تقوم على اعتبار أن الإنسان منتمٍ لبُعد دنيوي، وآخر، هو فوق الطبيعة، أي بُعد إلهي، هذا فضلًا عن الجوانب والأبعاد الأخلاقية – القيمية، والاحتياجات الغريزية والعاطفية والفيزيائية، ثم تلك الأبعاد المسلكية النفعية أو المتسامية.. وأن الوحي هو مصدر مؤثّر وفاعل في حياة الإنسان، ومنشئ لقواعد التكامل في كامل جوانبه وأبعاده. بما في ذلك الإضاءة على موقع الناس من محيطهم الطبيعي والاجتماعي.. وحسب هذه القراءة الإسلامية، فالإنسان لا يملك شيئًا، بل هو مستخلف من مالك الملك الذي هو الله سبحانه. وبالتالي فهو مسؤول عن إدارة صلاح العالم وإدارته نحو كمالاته وتنضيج خيراته. بما في ذلك القابليات الذاتية القائمة في الإنسان نفسه، بما فيها: العلم، والقدرة، والإرادة، والحرية، والاختيار، والإبداع...

إلَّا أن الصورة هنا -يضيف الباحث- ليست على النحو المنجز والفعلي، بل إن القراءة الإسلامية، تعتبر أن ما عند الإنسان هو على نحو الجعل الفطري، الذي يحمل قابليات مهيِّئة للانتقال من مرحلة الإمكان والكمون إلى مرحلة التحقق والظهور، وشرط هذا الانتقال؛ وعيٌ داخلي للذات «معرفة النفس»، ووعي عميق بالآفاق «معرفة العالم»؛ لذا، فإن الثقافة تمثّل «البصيرة»، والتزامها الجدّي هو عين «الاستقامة»، ومن دون البصيرة والاستقامة لا يمكننا رسم مسار العلاقة المخلصة مع الله، أو ما بعد الطبيعة؛ لأن هذا المسار هو الذي نسميه «الدين».

بناءً عليه، فالثقافة التي نودُّ البحث عنها هي التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا وعميقًا بالدين، بل هي عينه.. وهكذا يؤمن العقل بالثقافة ومرجعية النص، ما يضفي على الواقع الثقافي نمطًا حياتيًّا معرفيًّا خاصًّا.

وفي الأخير خَلُص الباحث إلى أن التشكّل الفعلي للثقافة الإسلامية، وإن كان يعتمد على النص، والواقع، ومجريات الوقائع والأحداث، وغير ذلك.. إلَّا أن الدور الفاعل والمحوري يبقى للعقل الذي يلحظ كل ذلك، ومن ضمن ما يلحظه العادات والتقاليد والأعراف. ليقوم بدور المنظّم والمظهِّر لطبيعة الثقافة المعتمدة. وفي كل هذه، يدخل العقل كمفصل حسّاس، سواءً أكان العقل المستطلع، أو العقل المكتشف، أو العقل المبدع. وإذا انصبغت هذه المجالات بصبغة الدين، فإن العقل –في نظر الباحث- يتقدم كرسول بشري تولّد من حضرة الذات الإلهية، ليجمع بين ما هو سماوي، وما هو أرضي في معادلة العيش والثقافة.

«البُعد التربوي الاجتماعي في تشكّل الثقافة الدينيّة» هو عنوان الورقة التي قدَّمها الدكتور عبد الحكيم الغزّاوي (مدير معهد العلوم الاجتماعيّة – الفرع الثالث في الجامعة اللبنانيّة)، في البداية عرَّف الباحث الثقافة ووظائفها وعلاقتها بالتربية، كما تحدث مفصّلًا عن الثقافة الإسلامية وأدوارها وعلاقة الثقافة بالدين، كما تحدث عن التربية وأهدافها ودورها في إكساب القيم والسلوك وخصائص ومميزات التربية الإسلامية، بعد هذا التأسس النظري للثقافة والتربية شرع الباحث -بناء على ذلك- في الحديث عن نظرة الدين الإسلامي حول الوحدة الإنسانية والتعامل مع الآخر، والبُعد التربوي الاجتماعي، ودوره في تشكّل الثقافة (الدينية) الإسلامية والتحديات التي تواجه الثقافة الإسلامية.

فإذا كانت الثقافة هي «نسق معرفي مركب، يتضمن المعتقدات والشرائع والآداب والمذاهب والنظم… يكتسبه الإنسان من انتمائه إلى مجتمع معين، ويحدد له ما ينبغي أن يكون عليه موقفه واتجاهه وسلوكه، في مواجهة الغير من الأشياء والظواهر والناس، فإن من أهم وظائفها أنها:

توفّر للفرد وسائل إشباع حاجاته النفسية والاجتماعية، كما توفر للأفراد تفسيرات جاهزة لطبيعة الكون وأصل الإنسان ودوره في الكون، وتنمِّي في الفرد الشعور بالانتماء والولاء للجماعة التي ينتمي إليها، وكذلك للإقليم الذي ينتمي إليه، والوطن الذي ينتمي إليه، وقد يشتد هذا الشعور بالانتماء عند الأفراد إذا اشتدت عزلتهم، بالإضافة إلى إكساب الفرد اتجاهات السلوك العام باعتباره عضوًا في مجتمع قومي يتميز بسمة دينية أو خلقية معينة.

من هنا، فدراسة الثقافة تبرز حقيقة مفادها أن الثقافات تتنوع بتنوع الأمم والجماعات العرقية وسائر التجمعات الأخرى بين الناس.

أما علاقة الثقافة بالتربية، فإنّ التربية –في نظره- هي الوسيلة الأساس التي تحقق بها الثقافة وظائفها وأهدافها، كما أن العملية التربوية نفسها هي أحد العناصر الثقافية، أو هي ذلك الجزء المصقول من ثقافة شعب معين. وإذا كانت الثقافة الإسلامية فهي: «نسق معرفي مُركب، يتضمن المعتقدات والشرائع والآداب والمذاهب والنظم الإسلامية.. فإن من أهم أدوارها أنها تُكسِبُ الشخصيّة الإسلاميّة المُرونة والقُدرة على التكيّف مع مُعطيات الحياة، كما أنّها أيضًا تمنحها التوازن؛ لأنّ الشريعة الإسلامية هيَ شريعةٌ متوازنة تجمع بين الحاجات الروحيّة والحاجات الماديّة.. من هنا يمكن النظر إلى العلاقة بين الثقافة والدين من خلال اعتبار أن الدين يمثل مستوى أول ثقافة كاملة لشعب أو أمة أو حضارة، كما يُعتبر ثقافة –كما يقول الباحث- من واقع كونه يُعبِّر عن رؤية للعالم: للطبيعة، والوجود، والإنسان؛ ومن واقع كونه يقدم تصورًا لبناء المجتمع الإنساني على نحو يغطي أحيانًا أدق تفاصيل هذا المجتمع: اقتصاديًّا، وسياسًا، وأخلاقيًّا، وأحوالًا شخصية.

كما يمثل الدين في مستوى آخر من العلاقة عاملًا من العوامل الأساسية في تعبئة ثقافة ما، وشحنها بالرموز والمضامين والمطالب، وتشكيل حقلها الخاص داخل الاجتماع المدني. أما التربية الإسلامية فإنها تستمد خصائصها ومميزاتها من خصائص الإسلام ومميزاته، ومن أهم خصائصها الربانية والشمولية والجمع بين التوازن والوسطية الثبات والمرونة والتدرج والإنسانية والإيجابية... إلخ.

وبخصوص رأي الدين في الوحدة الإنسانية والتعامل مع الآخر، فقد استعرض الكاتب مجموعة من القواعد المستقاة من القرآن الكريم والمتعلقة بالوحدة الإنسانية مثل: الأصل الإنساني الواحد: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}[1].

القاعدة القرآنية في المعاملة الإنسانية: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ}[2]. القاعدة القرآنية في العدالة الإنسانية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[3]. إطعام الأسير قُربة لله: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا}[4]. قتال المقاتلين وإكرام المسالمين: قال تعالى: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ المُعْتَدِينَ}[5]. الإسلام دين العقل الصريح والعلم النافع الصحيح، والإسلام يرعى مصالح العباد في الدنيا والآخرة.. وأخيرًا تحدث الباحث عن التحديات التي تواجهها الثقافة الاسلامية، والتي حصرها في ضرورة الاجتهاد، لوضع حلول للمشاكل: السياسية والاقتصادية والاجتماعية... إلخ، التي يطرحها واقع المجتمعات المسلمة المعاصر، وضرورة الجمع بين الأصالة والمعاصرة، للخروج من إشكالية التغريب والتقليد، والموقف الصحيح من الآخر المخالف، والإسهام في تحقيق التقدم الحضاري.

ومن الأوراق المقررة في هذه الجلسة كذلك: «صورة الذات في المنظور الديني» للمونسنيور الدكتور بولس الفغالي.

_ الجلسة الثانية

ولمناقشة المحور الثاني: «معوّقات الحوار بين الأديان»، عُقدت الجلسة الثانية برئاسة الشيخ أحمد قبلان (المفتي الجعفري الممتاز)، ومن الأوراق المقدمة فيها: «في ثقافة الكراهيّة وتشويه صورة الدين، الظاهرة الدينية، الحرب، التوحش» للدكتور عقيل محفوظ (رئيس قسم الدراسات في مركز دمشق للأبحاث - سوريا).

في البداية أشار الباحث إلى أن الحديث عن «الظاهرة الدينية»، «الكراهية»، «التوحش»، يعني موضوعًا من ثلاثة حدود أو أبعاد، ومن الواضح أنها مترابطة تاريخيًّا، كما يجري في مشرقنا الجميل، وخاصة في سورية والعراق، حيث برزت أكثر مظاهر التوحش المرتبطة بالدين أو التي توسلته في السياسة والحرب.. لكن يجب ألَّا نُحمِّل الظاهرة الدينية وحدها كل هذا الحمل الثقيل، فقد أدت العقائد الكبرى –كما يقول- من غير الأديان، مثل الماركسية والنازية وغيرها، دورًا في إنتاج الكراهية والعنف، وما الحربان العالميتان الأولى والثانية، بكل أهوالهما، سوى مثال على ذلك.

ولكن لماذا تمثل الكراهية (الدينية على نحو خاص) «نظامَ إنتاج» للعنف والتوحش؟ وكيف للفواعل الدينية - السياسية من جماعات ونظم وأحزاب وحتى أفراد، أن تَعُدَّ الكراهية أمرًا ملازمًا لـ«معناها» وضرورةً لتحفيز «هويتها» و«أناها» في مواجهة ما تَعُدُّهُ مصدرَ تهديدٍ، وفي انتهاز ما تَعُدُّه فرصة؟

هذه الأسئلة يُجيب عنها الباحث من خلال مجموعة من العناين: عالم بدون روح، في العقلية الدوغمائيةً، الكراهية، المقدَّس، الكراهية، الحرب، ثقافة التوحش.

بالنسبة لـ(عالم بدون روح) رأى الباحث أن فواعل الدين تواجهُ تحدياتٍ عميقةً، لأنها أصبحت أحد مداخل الصراع والكراهية، فيما أصبحا (أي الصراع والكراهية) أحد مداخلها أيضًا، إذ لا يمكن –بنظر حُراس المعنى الديني المُشوّه- أن تكون مؤمنًا إن لم تكن كارهًا لإيمانٍ آخر أو إيمانِ الآخر، ورافضًا له، متبرأً منه!

وفي نظره، إذا لم يتمكن «أهل الدين» من تجاوز هذه الفواعل فإنّ من المحتمل أن تزداد ظاهرة الكراهية بين الجماعات والشعوب والدول، كما بين الأفراد، وحتى على مستوى الإنسان/ الفرد نفسه. ويكون أهل الدين حالتئذٍ قد تخلّفوا عن تحقيق مقتضى الرسالة.

أما بخصوص العقلية الدوغمائية فإنها تحيل إلى نظام إدراك وفهم ونظر للعالم، ينطلق صاحبُها من ثوابت ورؤية ومرجعيات معينة، ويرى أنه يملك المعرفة والحقيقة المطلقة، ويقيم دينامية تمييز وفصل مع الآخر مُعززة ومحروسة، كما يعني الجماعة المُغلقة أيضًا.. وبالتالي يتم التركيز –كما يقول الباحث- على أهمية الخلافات، والتأكيد باستمرار على عدم صحة المحاجات التي تُقرِّب بينهما.. وبعدها، إنكار ثم احتقار الوقائع التي قد تظهر تناقض العقائد والإيمانات.. وبالتالي، الرفض المستمر لمحاولات التوفيق أو التقريب أو المصالحة، واليقين الدائم بامتلاك المعرفة حصريًّا... إلخ.

أما بخصوص عنواني الكراهية، المقدّس؛ فإن الباحث يرى أن الكراهية تخرج من عباءة المقدّس، وتحكي السرديات الدينية عن أول كراهية أنتجت عنفًا في العالم، بحادثة قتل «هابيل» على يد «قابيل»، ومنذئذٍ وهاجس الإنسان هو ضبط الكراهية، وفق معايير سماوية أو وضعية، ولكن بقدر قليل من النجاح؛ إذ إن ضوابط الكراهية أصحبت هي نفسها حضًّا عليها ومصدرًا رئيسًا من مصادرها، ومبرِّرًا أو مسوّغًا لها أيضًا...كما تؤسّس السرديات الدينية لكراهية مقدّسة أو عنف مقدّس، ومفتاح الجنة هو الولاء من جهة والبراء من جهة أخرى، وجهاد الأنا وجهاد الآخر، جهاد الأنا بمعنى مقاومة النفس الأمَّارة بالسوء والشك والكفر، وجهاد الآخر بمعانٍ عديدة منها عدَّه موضوعًا للدعوة والهداية أو الهيمنة والسيطرة، أو مواجهته بالقوة وبحدِّ السيف.

إن الكراهية والتعصب –كما يقول الباحث- تستهدفان أولًا الجسور والقناطر والمعابر، فهي أول ضحايا الحروب والنزاعات، ومعلوم دورها وأهميتها في «الوصل» و«التفاعل» بين جهات ومكوّنات أي مجتمع أو دولة، وما يحدث أنها تستهدف قبل ذلك ومعه المدارك والهويات الجمعية والروابط المشتركة.

وتحت عنوان الكراهية، الحرب، تحدث الباحث عن أنماط الكتابة والتعبير في المنطقة اليوم، حيث تظهر كراهية فائقة، لا تنقضي بالموت أو القتل، إنما تصل إلى التمثيل بجثث الضحايا، ما قد يدفع الأفراد أو الجماعات المستهدفة، أن تفعل الشيء نفسه تقريبًا، إن أمكنها ذلك.. وهكذا تتطور «ثقافة الكراهية» إلى «ثقافة التوحش» و«الإبادة»، كما يحدث في المشهد السوري اليوم.

وأخيرًا، أكد الباحث على وجود تلازم غير قابل للانفكاك -حتى اليوم- بين الدين أو المقدّس وبين الكراهية المفضية إلى العنف والتكفير في تاريخ المنطقة، تلازم يحيل إلى علاقة مركبة واستخدام أو توظيف متبادل، تعزّزه بُنى ثقافية واجتماعية واقتصادية متأخّرة، وبُنى سياسية تسلُّطية ثقيلة الوطأة، وبالتالي فمع منطق الفرقة الناجية والعقليات الدوغمائية والكراهية المقدّسة يبدو أنه الوضع سيستمر إلى ما لا نهاية..!!

من الأوراق التي قدمت في هذه الجلسة كذلك، ورقة للشيخ الدكتور أكرم بركات (أستاذ الدراسات العليا في الحوزة العلميّة وأستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانيّة)بعنوان: «صورة الآخر في المنظور الديني»، في البداية أكد الباحث أن الأديان التوحيديّة تجتمع في اعتقاد واضح بأنّ جميع الناس، والكون معهم، خلقُ الله، وأنّهم جميعًا واقعون تحت إرادته وتدبيره وربوبيتّه، وبدل أن يكون ذلك مدعاة لاتحاد إنساني، كانت المفارقة في مشهد «التجويم (أو الغوييم والمقصود به الأغيار بالعبرية) من قبل اليهود، والهرطقة من قبل المسيحيّين، والتكفير من قبل المسلمين، حتى أضحى شعار الدين التوحيدي في نظر الكثيرين مقسِّمًا، لا موحِّدًا، لواء حربٍ، لا عنوان سلام. وأضحى الدين في نظر أولئك معوِّقًا من التقارب مع الآخر، بدل أن يكون مقرِّبًا منه تحت خيمة الربّ الواحد. هل مشهد هذه الأديان يعبِّر عن واقع النظرة الدينيّة الحقّة، أم أنّ هناك التباسًا في فهم الدين من قبل المنتسبين إليه، أو استغلالًا له من قبل النفعيين من هذا الانتساب؟

للإجابة عن هذه الإشكاليّة اعتمد الباحث على مبنى يتألف من أربعة أركان هي:

الفطرة الإنسانية الصافية التي خلقها الله تعالى في جبلّة كل إنسان، في كلّ زمان ومكان، العقل القطعيّ بشقّيه النظري والعملي/ النصّ الإسلامي الثابت من قرآنٍ كريم، وحديثِ معصومٍ معتبر، والسيرة الموثوقة لرسول الإسلام محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وممّا يُغني الإجابة الاستعانة بسيرة أئمة أهل بيت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، بحسب مذهب الشيعة الإمامية، والتي تمثّل امتدادًا لسيرة الرسول محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، لا سيّما مع تنوّع الظروف والأدوار التي مرّوا بها في حياتهم.

انطلاقًا من هذا المبنى بأركانه الأربعة حاول الباحث تُحدّيد صورة الآخر من المنظور الدينيّ الإسلاميّ.. فناقش وعالج الكثير من القضايا المرتبطة بالنصوص المتعلقة بالموقف من الآخر فهمًا وتأويلًا ورفضًا.. ثم شرع في مناقشة قضية الاعتقاد بنظرة الله السلبية اتجاه الآخر، وبمصيره المشؤوم عند ربِّه؛ لأن ذلك يؤثِّر في نظرة المؤمن إلى الآخر والتعامل معه، وذلك من خلال الكشف عن الموقف من مصير الآخر في الآخرة من منطلقين: العقيدة والعمل.

حيث أكد على وجود مواقف مختلفة تجاه هذه المسألة، فحالات غير المعتقد بالحقّ –يقول الباحث- تدور بين جحودٍ وتقصيرٍ وقطعٍ وقصورٍ. ولكل حالة حُكم خاص بها.. مثلًا في حالة وجود يقينٍ تامٍّ بما يعتقده الكافر حقًّا، ممَّا يفقده الدافع للبحث عن اعتقاد آخر، فهي كسائر حالات اليقين عند الإنسان التي لا يمكن أن يصحَّح فيها عقاب الإنسان على تبعات عدم إيمانه بعقيدة يتيقَّن بخلافها، أمّا حالة القصور المعرفيّ، فهي مشابهة للحالة الثالثة من ناحية حكم العقل القطعيّ بقبح العقاب من الله تعالى، باعتباره نوعًا من الظلم، فمن كان قاصرًا عن إدراك الحقيقة، غير مقصِّر في السعي للوصول إليها، ولم يعتقد بها بسبب هذا القصور، فكيف يمكن للعادل أن يعاقبه؟! أليس عقابه يشبه عقاب المجنون أو الطفل الصغير على ما يرتكبه من دون وعيه لذلك؟!

وهذا ما أكده عدد من كبار فقهاء الإمامية يقول: «إنّ أكثرهم [أي الكافرين] إلَّا ما قلّ وندر جهّال قاصرون لا مقصِّرون، أمّا عوامهم فظاهر، لعدم انقداح خلاف ما هم عليه من المذاهب في أذهانهم، بل هم قاطعون بصحّة مذهبهم، وبطلان سائر المذاهب، نظير عوام المسلمين، فكما أنّ عوامنا عالمون بصحّة مذهبهم، وبطلان ساير المذاهب من غير انقداح خلاف في أذهانهم؛ لأجل التلقين والنشوء في محيط الإسلام، كذلك عوامهم من غير فرق بينهما من هذه الجهة. والقاطع معذور في متابعة قطعه، ولا يكون عاصيًا وآثمًا، ولا تصحّ عقوبته في متابعته. وأمّا غير عوامهم فالغالب فيهم أنّه، بواسطة التلقينات من أوّل الطفوليّة والنشوء في محيط الكفر، صاروا جازمين ومعتقدين بمذاهبهم الباطلة، بحيث كلّ ما ورد على خلافه ردّوها بعقولهم المجبولة على خلاف الحقّ من بدو نشوئهم، فالعالم اليهوديّ والنصرانيّ كالعالم المسلم، لا يرى حجّةَ الغيرِ صحيحةً، وصار بطلانُها كالضروريّ له، لكون صحّة مذهبه ضروريّة لديه لا يحتمل خلافه..

وبالجملة إنَّ الكفار، كجهَّال المسلمين، منهم قاصر، وهم الغالب، ومنهم مقصِّر، والتكاليف أصولًا وفروعًا مشتركة بين جميع المكلّفين، عالمهم وجاهلهم، قاصرهم ومقصِّرهم..»، أمّا مصيره باعتبار عمله فإنّ ما يُفهم من النصوص الدينيّة –يقول الباحث-كون العمل الإنسانيّ الكماليّ نوعًا من التجلي للكمالات الإلهيّة، لذا كان محل نظرة رحمة من الله تعالى في النصوص الإسلاميّة.. وبخصوص التعامل مع الكافر أو المخالف، فقد أكد الباحث على وجود منظومة حقوقية وتشريعية في هذا المجال يؤطرها العدل والرحمة واحترام إنسانية وكرامة الإنسان، كما يظهر ذلك جليًّا في قول الإمام علي بن أبي طالب C في نهج البلاغة: «فَإِنَّهُمْ –أي الناس- صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ».

كما استعرض الباحث حقوق المخالف/ الكافر، كما ينص عليها الفقه الإسلامي منها: المساواة في الشهادة عليه، ووجوب برّ الكافر أبًا وأمًّا، واحترام حقه كجار، والوفاء بعهده، وجوب أداء الأمانة له، وحماية الكافر المستجير... إلخ. كما تحدث الباحث بالتفصيل عن الأحكام الشرعيّة المترتِّبة على تكفير الآخر، حيث ناقش قضية قتاله وجهاده.. وأخيرًا، وبعد استعراض الأحكام الشرعيّة المتعلّقة بالكافر الواردة في السّنّة النبويّة، أكد الباحث أن البعض -وبكلّ أسفٍ- ضيَّق لباس الخيمة، ونسجها على مقاسه، وطيَّن البعض تلك الجوهرة بما أخفى شعاعها، وأفلت البعض حبّات تلك المنظومة من نظامها الجامع، فبدل أن يتمّ ظهور الدِّين، ظهر الإلغاء والإقصاء والتكفير.

ومن الأوراق المقدمة في هذه الجلسة أيضًا «الإسلاموفوبيا» للدكتور طلال عتريسي (أستاذ علم الاجتماع والمستشار العلمي والأكاديمي في جامعة المعارف).

_ الجلسة الثالثة

وقد ترأسها المطران منير خير الله راعي أبرشيّة البترون المارونيّة، لمناقشة المحور الثالث: «دور المؤسّسات الدينيّة في ثقافة الحوار: تجارب عمليّة»، وقد تحدث فيها الدكتور عبد الأمير زاهد (أستاذ الدراسات الإسلامية المعاصرة في جامعة الكوفة، وعضو هيئة البحث العلمي في وزارة التعليم العالي في العراق) عن: «الدور الديني لمرجعية النجف المعاصرة في صناعة السلام بين أهل الأديان وبناء الدولة المدنية»، حيث حاول الباحث في هذه الورقة الإجابة عن مجموعة من الأسئلة منها: هل الوظيفة المرجعية لمرجعية النجف ناتجة عن طبيعة التكوين الفكري للنجف الأشرف من حيث التاريخ والجغرافية الحضارية الكاشفة عن نوع القيم وطبيعتها؟ وهل الأساس في مواقفها ووظيفتها السمات المنهجية والمعرفية لمدرسة النجف الدينية، أم الأساس عوامل الصيرورة التاريخية والسوسيولجية لهذه المرجعية؟ مثل التزامها بأسس عملية الاجتهاد وأسس التفكير النقدي، والمنهجية المقارنة في المعرفة الدينية، والاهتمام بالمعاصرة والبرهانية في المنهج التأهيلي، في محاولة للكشف عن الماورائية في صنع القرار، مع الأخذ بالاعتبار عنصري الثبات أو التحوُّل، وتطور المستند المنهجي لذلك التفكير والمستجدات النظرية الناتجة عنه بالأهداف والنظريات الفكرية؟

في البداية تحدث الباحث عن تاريخ النشأة التأسيسية والجغرافية الحضارية للنجف، من زمن البابليين إلى أن اتخذها الشيعة مقرًّا للمرجعية العلمية والدينية بسبب وجود مرقد الإمام علي بن أبي طالب فيها.. وهكذا نجد أنها بدأت (قبرًا) لشخصية عظيمة، ثم صارت مزارًا مقدّسًا للناس، وقد جرت فيه مراسيم منح الإجازات، ثم صارت مدينة للمعرفة فتنامى في رواقها التدوين والتأليف والتدريس ونقد المعرفة وإنتاجها، وكتبت الأدبيات الأولى للتشيع، ثم امتازت إضافة إلى ما تقدم من مهام بأنها مقر نائب الإمام وهو المرجع العام للشيعة، ومنها كانت تصدر التوجهات العامة والخاصة لأتباع مذهب الشيعة الإمامية.

أما بالنسبة لأسس التفكير العلمي للمرجعية الدينية في النجف، فقد تحدث الباحث عن خاصية الاجتهاد في مرجعية النجف ومقتضياته، فأشار إلى أن الشيعة الإمامية لم يتأثروا بإقفال باب الاجتهاد الذي قامت به السلطة، لأنهم أصرَّوا على إبقاء الاجتهاد مرجعية إلى جانب النص لاحتواء مستجدات العصور ومشكلاتها.. ويقتضى الاجتهاد التوصل إلى منهجية برهانية لإنتاج المعرفة، واستخدام هذه المنهجية لتحليل وتوصيف الوقائع والتصرفات وإعطاء حكمها الشرعي؛ لذلك -يقول الباحث- فالنجف لا تتعامل مع الدين بنموذجه التاريخي، وإنما بنموذجه الحركي مع الزمن، ولكن المنضبط بالقوانين الخاصة بتحليل النص وتلمُّس المصلحة والمقاصد.

ومن الاجتهادات التي تميَّزت بها مدرسة النجف، احتضانها لأتباع الأديان والمذاهب الأخرى، بوصفهم مواطنين عراقيين، والاعتراف الواقعي بوجودهم الفكري والعقائدي في جميع إنحاء العالم، وتجسَّد ذلك بمواقف عملية منها:

دعوة المرجعية الدينية للنجف المسيحيين العراقيين إلى عدم مغادرة العراق رغم ظروفهم الصعبة، وإغاثة تجمعاتهم بعد النزوح، أبان أزمة هجوم داعش على سهل نينوى، واستضافتهم في النجف وكربلاء. كما دعت مرجعية النجف على ضرورة إدامة الحوار والتفاهم مع علماء الأديان والمذاهب، وترى أَلَّا يقتصر ذلك على وقت الأزمات، بل طالبت بأن يكون حوارًا مستمرًا في جميع الأوقات.

وقد قدمت مدرسة النجف -يقول الباحث- أنموذجًا لاجتهاد يعالج إشكالية التنوُّع، وسبل إدارته فكريًّا وفلسفيًّا، وتؤسس على فكرة الإقرار بالتنوُّع كحقيقة وجودية كونية، ولأنه موجود فلا بد من التعامل معه بوصفه واقعًا، ومقتضى الإقرار بوجوده ربما قبوله على ما هو عليه وتسويغ التحاور معه دينيًّا، وهذا يفضي إلى تحقّق حوارات متراكمة تؤدي في الغالب إلى تفاهم اجتماعي بمعزل عن الاختلاف العقائدي فينتج عنه «مجتمع متنوّع فيه هويات ثقافية ولكنها متصالحة»، وينتج عن هذا الصلح سلام مجتمعي وتماسك اجتماعي، تنمو في ثناياه قيم الحرية والكرامة والابتكار والتقدم والسعي لاكتشاف سبل سعادة الإنسان.

وبخصوص التوصيف العقائدي للآخر الديني والمذهبي في تصور النجف، فإن عقيدة المرجعية الدينية في النجف -كما يقول الباحث- تقوم أساسًا على ثلاثة أركان مهمة هي: التوحيد والنبوة والمعاد، وهذه (إجمالًا) محل وفاق عند كل الأديان، وهذه العقيدة تؤسس لمنطقة مشتركة بين أهل الأديان، فضلًا عن أنها تجمع أهل المذاهب الإسلامية على وعي عقائدي واحد بما يقلّل من نزعات الإقصاء والتكفير.

أما اعتقادات المذهب وهي متفرّعة عن تلك كتفريع العدل عن التوحيد وتفرع الإمامة عن النبوة، وهذان أصلان في الانتماء المذهبي لكنهما ليسا معيارًا للإيمان وعدمه عند الشيعة؛ لذلك فإن أغلبهم لا يرى من لا يقول بأصل العدل أو الإمامة كافرًا، وإنما من آمن بالعدل والإمامة يحقّق بذلك لذاته منزلة عالية من القرب يوم القيامة، وبهذا يتأسس أن أهل الأديان مؤمنون بقدر يسمح بالحوار والتفاهم، وأن أهل مذاهب الإسلام مسلمون، مصونة حقوقهم بما يؤسس للتفاهم والبناء. هذا الموقف العقائدي ترتَّبت عليه مواقف عملية مهمة عبر التاريخ، أشهرها التضامن مع الشعب الفلسطيني حيث طالبت بعد نكبة 1948 بدعمه وأفتت مرجعية السيد الحكيم في الستينات بدفع الزكاة والخمس للشعب الفلسطيني ونصرته من دون النظر الى المذهبية الدينية المختلفة. وفتوى حرمة القتال ضد الأكراد، وضبط ردود أفعال الناس إزاء عملية الإرهاب التي كانت تقوم بإبادات جماعية لأتباع المرجعية. بالدعوة إلى الصبر والحلم وتحريم الاعتداء على من لم يثبت ضده أي عمل عدواني.

وأخيرًا -يقول الباحث- كشفت ملحمة الدفاع عن العراق، أن المرجعية الدينية تمارس دورًا أبويًّا لكل العراقيين بمختلف تنوّعاتهم. وأن دورها هو دور المنقذ، حينما تحصل انهيارات وكوارث سياسية واجتماعية. وأنها قادرة على صنع تكاتف وطني لمواجهة النزعات الظلامية ولا يقتصر خطابها على الشيعة، وحرصها على حضارة العراق بكل روافدها الدينية ورموزها وأماكنها المقدسة من دون تحيُّز لدين أو مذهب.

كما تحدث في هذه الجلسة الدكتور محمد علوش (باحث وإعلامي من مصر) عن مؤسسة الأزهر، فيما تحدّث الأب بورفيريوس جرجي (عميد كلية اللاهوت في جامعة البلمند – لبنان) عن مؤسسة الكنيسة.

_ الجلستان الرابعة والخامسة

لمناقشة المحور الرابع: «مؤسسات الحوار»، عقدت الجلسة الرابعة برئاسة المطران كيرلّس بسترس (راعي أبرشيّة بيروت للروم الملكيّين الكاثوليك).

ومن الأوراق المقدمة فيها: «دور المؤسّسات التعليميّة» للأب الدكتور سليم دكّاش (رئيس جامعة القدّيس يوسف)، و«دور المؤسّسات الأهليّة والمدنيّة والشبابيّة» للبروفسور جورج القرم (أستاذ محاضر في جامعة القدّيس يوسف وفي الجامعة الأميركيّة في بيروت).

ولمناقشة المحور الخامس: «مستقبل الحوار» عقدت الجلسة الخامسة برئاسة الشيخ ماهر حمود، وقد تحدث فيها: د. أحمد عبدالحليم عطية (الأستاذ في جامعة القاهرة) عن: «وعي المشترك الديني والأخلاقي والإنساني والقيمي». في البداية أكد الباحث أن ما يشغل الساحة العربية والإسلامية اليوم هو مستقبل الحوار. فهل هناك مستقبل للحوار؟ بالنسبة للباحث، فإن وعي المشترك الديني الأخلاقي والإنساني والقيمي هو التحقيق لثقافة الحوار، وأن ما يمكن أن نطلق عليه «قانون الروح» أو «دستور المثال الأعلى الكوني» أو ما أسماه الإمام القشيري «نحو القلوب» يمكن أن يؤسّس أخلاق المستقبل ويكون تحقيقًا لوعي المشترك وتجسيدًا للحياة في عالم واحد.

ومن متابعة الجوانب المختلفة لثقافة الحوار، يرى أن هناك ثلاثة أشكال أو صور يمكن أن يتخذها الحوار بين الأديان: أولًا الحوار العقائدي وهو أصعبها، وفي الغالب يكون على المستوي النظري، وثانيًا: الحوار بين الأديان الذي تدعو إليه المؤسسات الدينية الرسمية، والذي قد يبدو في الغالب إعلاميًّا، ويتخذ أحيانًا صيغة سياسية. وهناك البحث العلمي في حوار الأديان، الذي يسعي للإجابة عن سؤال: كيف يمكن أن نحيا معًا مع اعتراف واحترام كل منا بعقائد الآخر؟

وبعد تأكيده إمكانية أن تكون فلسفة الدين وفلسفة الأخلاق والقيم، مدخلًا لبناء أو المساعدة في بناء برنامج يمكن أن يتّفق حوله حكماء وسياسيو العالم ومفكروه لمواجهة الدمار المرتقب وتحقيق المواطنة الكونية المرتجاة والعيش سويًّا في عالم واحد.. تحدث الباحث بالتفصيل عن مفهوم الدين الكوني عند كانط وعن النظرية العامة للقيمة باعتبارها تحقيقًا للخير الكلي، وتجارب فلسفية في المشترك والعيش معًا. حيث أكد أنه بالإمكان احتفاظ كل منا بعقائده والتوجه إلى ما يُطلق عليه كانط الدين في حدود العقل الذي يسمح لنا بفهم واحد للدين يقبل تعدّد الأديان.

أما بخصوص فلسفة الأخلاق والقيم فالأديان السماوية المنزلة إلى الإنسانية فى إطار نظرية أو عقيدة التوحيد، جاءت كلها –كما يقول الباحث- لتؤكد حرية الإنسان وكرامته وعزته وقاومت الظلم والعدوان عليه وأعلنت حقوقه كلها، حيث نادت باستقلاله عن الضغوط التي تزهق أنفاسه وتشعره بالقهر والتسلط والإذلال والمهانة سواء كانت ضغوطًا خارجية أو داخلية تحدُّ من حريته وتفقده التحكم فى مبادراته وتحيطه بالأغلال، وهذا هو مجال القيم.

وإذا كنا على المستوى الأخلاقي –يضيف الباحث- نريد أن نحقق السعادة، فإننا على المستوى الاجتماعي والسياسي؛ نستهدف تأكيد الديمقراطية والسلام والتعاون الدولي واقتسام الكوني والمحبة الكوكبية. وبهذا يتضح لنا أن الهدف الأقصى هو إيجاد نظرية أكثر شمولًا للحضارة الإنسانية لا تكون نظرية القيمة الأخلاقية إلَّا جزءًا صغيرًا منها.

وتحت عنوان «المشترك والغيرية والعيش معًا» تحدث الباحث عن كيفية ترجمة المشترك الديني والأخلاق إلى برنامج فلسفي معاش، يعبّر عن إنسانية قوامها حق الاختلاف والاحترام والمحبة.

وبعد الحديث عن الجهود العربية في الحوار الاسلامي المسيحي، أكد الباحث على أخلاق المستقبل باعتبارها مواصلة للمشروع الأخلاقي البشري.. حيث تستشعر البشرية حاجاتها إلى لغة إنسانية جديدة، قادرة على الحوار والتواصل والإقناع والتفاهم، الحوار الذي يؤكد أهمية كل ثقافة وهويتها وإسهامها التاريخي في تطور البشرية، مما يطرح علينا التأكيد على مفهوم الهوية المنفتحة باعتبارها أساس الوعي الجمعي التاريخي المتنوع المنفتح على الغير.

ومن الأوراق المقدمة في هذه الجلسة: «ثقافة الحوار في مواجهة ثقافة الإقصاء» التي قدمها القسيس د. إدكار طرابلسي (ئيس معهد اللاهوت الإنجيلي - لبنان)، في البداية أشار الباحث الى أن المنطقة تعيش ظروفًا صعبة في ظل المؤامرات الغربية؛ لذلك لا بدّ -يقول الباحث- أن نعرف كيف نعيش في مجتمع متنوّع ومتنافر ويضمّ أناسًا من خلفيّات دينيَّة ومذهبيّة وحضاريَّة وإثنيَّة وسياسيَّة واقتصاديَّة واجتماعيَّة مختلفة، هل نتقاتل، أو نتنافر، أو نتعايش بالتكاذب، أو نتحاور ونبني حالة تكامل مجتمعي إيجابيّة وسليمة وصحيّة؟ وإذ نعترف بوجود حالات مَرَضيّة قاتلة في مجتمعاتنا، وعلى رأسها التعصّب الدينيّ والفرقة والتكفير وغيرها، نبدأ رحلة التفكير في علاج ناجح يشفينا من اللّعنات القاتلة.

ولمعالجة هذه الظواهر يقترح الباحث العودة إلى التراث الإبراهيمي وكذلك مواقف يسوع المسيح لنتعلّم منها كيف نتعايش مع الآخرين ونقبلهم ونرتبط بهم بعهود أخوّة وحسن جوار، وكذلك معالجة الخوف من «الآخر»، عبر الحوار وإيجاد جوامع مشتركة، أو عبر بناء جسور الثقة بين الناس، أو كما فعل يسوع الذي مدّ يمين الخدمة إلى الآخر، فهذا الفعل يُقرّب المسافات بين المختلفين ويجعلهم إخوة.

فعند يسوع –يقول الباحث- ليس من «غريب» أو «بعيد» أو «آخر» وهو الَّذي علّم: «أحبّوا أعداءكم. باركوا لاعنيكم. أحسِنوا إلى مُبغضيكم، وصلّوا لأجل الَّذين يُسيئون إليكم ويطردونكم لكي تكونوا أبناء أبيكم الَّذي في السَّماوات»[6].

أما بخصوص معالجة الوضع اللبنانيّ والشرقيّ، فقد استعرض الباحث مواقف عدد من المفكرين الكبار الذين عالجوا هذه المسألة مثل: أديب إسحق، وأمين الريحاني، وخليل سعادة وغيرهم، حيث دعوا إلى تجاوز التعصب، مهما كان موضوعه وشكله، واقترحوا مفهوم التضامن كمفهوم أسمى وأسلم من مفهوم التعصب، وكذلك الانفتاح في مجال الرأي والانفتاح الاجتماعيِّ على الآخرين.

لذلك دعا الباحث إلى ضرورة هدم جدران الفصل والتباعد بين المجموعات والمذاهب الدينيّة، والتخلّص من التعصّب ضدّ الآخر لأن هذا مُعيب ومرفوض وخَطِر.. وأن يكون الشعار قول الرب: «طوبى لصانعي السلام، لأنّهم أبناء الله يُدعون»[7].

ومن أوراق هذه الجلسة كذلك «نحو مشروع (ميثاق) ديني – إنساني – عالمي للحوار وقبول الآخر» للشيخ علي رضا بي نياز (من جامعة المصطفى العالمية في لبنان).

_ التوصيات

وقد انتهت فعاليات المؤتمر بإصدار مجموعة من التوصيات نذكر منها:

أولًا: توصيات عامة

- الانطلاق من إنسانية الإنسان بناءً على قاعدة الاستخلاف في الأرض لإعمارها وفق الهدف التكاملي الاختياري المرسوم لإيجاد أرضية مشتركة للحوار.

- الاستفادة من توق الإنسانية إلى لغة الحوار والتلاقي، لتعزيز ثقافة الحوار وقبول الآخر المختلف مقابل ثقافة الإقصاء أو التفرد.

- تحويل ثقافة الحوار إلى تربية وممارسة اجتماعية، وفق مبدأي الانفتاح والثقة في الحوار مع الآخر.

- دعم مختلف المؤسسات الأهلية والمدنية والتربوية والشبابية والإعلامية الناشطة في مجال الحوار وقبول الآخر.

- التنبُّه إلى مشاريع الفتن الخارجية التي تعمل على تأجيج ثقافة النزاع والتقاتل والإقصاء.

ثانيًا: على مستوى المؤسسات التعليمية (الجامعات والمعاهد الدينية)

- التأسيس لمنظومة قيمية تربوية حاكمة في تكريس ثقافة الحوار.

- التأكيد على الاجتهاد الفكري لتوليد الأنماط المعرفية المساعدة على خلق مناخات الحوار.

- فتح اختصاصات أكاديمية تُعنى بالحوار بين الأديان في كليات العلوم الإنسانية.

- إعادة النظر في المناهج التعليمية التي تُسيء إلى الأديان والمذاهب.

ثالثًا: على المستوى الإعلامي

- توظيف مختلف وسائل الإعلام (المرئية والمسموعة والمقروءة والإلكترونية) من أجل تعزيز سبل الحوار والانفتاح على الآخر.

- توحيد المصطلحات التي تخدم ثقافة التقارب والحوار بين الأديان.

- الاستفادة من تجارب التاريخ، لاستحضار محطات الحوار والتلاقي بين الديانات.

 


 



[1] سورة النساء، آية 1.

[2] سورة الممتحنة، آية 8.

[3] سورة المائدة، آية 8.

[4] سورة الإنسان، آية 8.

[5] سورة البقرة، آية 190.

[6] مت 5: 43-45.

[7] مت 5: 9.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة