تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

جدلية العلاقة بين الفكر والمثقف

رفيعة بوكراع

جدلية العلاقة بين المفكر والمثقف

مقاربات بين علي حرب وزكي الميلاد

رفيعة بوكراع*

 

* باحثة دكتوراه فلسفة، كلية العلوم الاجتماعية، جامعة مستغانم، الجزائر.

 

 

 

المولج

تستلزم جدلية العلاقة بين المفكِّر والمثقَّف، الوقوف عند الحدود الفاصلة بينهما، وذلك انطلاقًا من الحديث عن رؤيتين في ساحة الفكر العربي المعاصر، نعني بهما رؤية اللبناني علي حرب، ورؤية السعودي زكي الميلاد، وما يبلور إشكال هذه الدراسة، هو استحداث نظرة تسعى إلى الكشف عن الرؤيتين من حيث المنطلقات والمناهج والرؤى.

قدَّم المفكِّران انشغالًا متباينًا حول العلاقة القائمة بين المفكِّر والمثقَّف، ترتسم ملامح هذا الانشغال في ذلك الجدل القائم بين المفكِّر والمثقَّف، خاصة وأن الاهتمام بمنظومة المفاهيم واستحداث عدة مفهومية هو الاستراتيجية الأساسية التي يعتمدها كل من يؤطِّر لرؤية معرفية جديدة تُغني توجهاته.

الاشتغال على جدلية هذه العلاقة هو الهاجس الذي رسم ملامح هذه القضية، واستنادًا إلى هذا الانشغال يمكن طرح الكثير من التساؤلات مستفسرة عن الحدود التي تقارب وتباعد رؤية كل من علي حرب وزكي الميلاد لمفهومي المفكِّر والمثقِّف؟ فكيف أطَّر كل منهما لهذين المفهومين؟ وما هي مهمّة المفكّر؟ وما هي مهمة المثقّف؟ وما العلاقة التي تربط بينهما ضمن مقاربتي حرب والميلاد؟

تتطلّب عملية رصد الحدود الفاصلة بين رؤية علي حرب ورؤية زكي الميلاد للموضوع، الوقوف عند الكثير من التصوّرات التي تؤطِّر كل رؤية على حدة.

أولًا: التصوُّرات المؤطِّرة لرؤية علي حرب

يشكّل التفكيك المرجعية النظرية التي يعتمدها التوجُّه النقدي لعلي حرب، والاعتماد على التفكيك يؤطِّر المنظومة المفاهيمية التي تحيلنا إلى فكر نقدي منفتح، ينادي بنقد جذري يستوجب وضع شبكة من المفاهيم، وعدة من المصطلحات تغذّي تطلُّعاته المعرفية والمنهجية.

ولسنا في حدود هذه الدراسة ومقتضياتها المنهجية، معنيين إلَّا بالوقوف عند مفهومي «المفكّر» و«المثقّف»، والعلاقة التي تربطهما. لكن وقبل هذا، لا بأس من توضيح الأرضية النظرية التي بلورت الاستراتيجية النقدية لهذا المفكّر، والتوجُّه العام الذي شكَّل رؤيته.

وانطلاقًا من التصوّرات التي تبنَّاها، سنحاول البحث عن مفهومي المفكّر والمثقّف كما قدَّمهما لنا علي حرب، ثم التساؤل عن طبيعة العلاقة التي تربطهما؟ لكن قبل مناقشة هذا الموضوع، يتعيَّن علينا أولًا أن نرصد التصوّر العام للفكر النقدي لعلي حرب.

لقد أولى علي حرب عناية خاصة بالنقد القائم على التفكيك، وبالاعتماد على هذا المنهج، بحث في صيغة جديدة لقراءة النصوص خاصة التراثية والنقدية. ومن بين الأسس التي يرتكز عليها في فكره النقدي النظر في مناطق كانت مستبعدة عن التفكير أو ممنوع التفكير فيها.

وبهذا النقد القائم على التفكيك حاول حرب أن يسائل هذا النمط من التفكير، مستهدفًا النصوص ومساءلتها واستنطاقها عمَّا تُخفيه أو تحجبه، لهذا يذهب لتعريف خريطة مشروعه النقدي بأنه نقد النصوص، أو بتعبير أدق: نقد النصوص النقدية والمشاريع المعرفية الكبرى خاصة تلك التي أنتجها رُوَّاد الفكر العربي المعاصر، الذين ارتبطت ممارساتهم النقدية في حدود النص وما يحمله من معارف وأفكار.

هكذا إذن نجد أنفسنا أمام مشروع نقدي عربي يرتبط اشتغاله بترسيخ أسلوب معرفي جديد، يتغيّر معه عمل الفكر على كثير من المستويات، على مستوى المفاهيم والرؤية والمنهج. لقد وضع حرب المشاريع النقدية السائدة موضع المساءلة والبحث والتأمُّل، بهدف إعادة بلورة أساليب نقدية تتجاوز تلك النصوص النقدية، وتلك الأنساق المغلقة التي تؤسِّسها.

بهذا المعنى حاول حرب -حسب منطقه- أن يتجاوز الأنظمة المعرفية التي تفرض هيمنتها، فالأساس الذي ينبني عليه النقد الجديد هو -في نظره- أن النص يحتمل قراءات عديدة، وبالفحص والنقد ينكشف المحتوى الأيديولوجي الذي يُخفيه النص المقروء. فاستراتيجية التفكيك النقدي -عند مفكّرنا- هي استراتيجية تتأسَّس على قراءة النص قراءة نقدية مختلفة تفكِّك الأصول والثوابت التي بقيت عالقة في الذهن.

كما حاول حرب أن يُكيِّف رؤيته النقدية الجديدة، والتي لا يمكن إنكار أهميتها ولا غزارة منتوجها في إضفاء دفعة قوية على المستوى الاجرائي للنقد، وبشكل خاص نقده للمشاريع النقدية العربية الكبرى، أن يُكيِّف هذه الرؤية مع الفكر التفكيكي في محاولة منه لنقُد تلك المشاريع الفكرية الكبرى، متخطيًا آراء أولئك المفكّرين والمثقّفين.

بهذا المعنى يُحيلنا حرب الى مؤشّر للجدل يربط المفكّر بوصفه يمارس النقد التفكيكي، بالمثقّف بوصفه يتبنَّى أسلوبًا في الخطاب يدَّعي به امتلاك الحقيقة.

لقد استقطب حرب التفكيك ليسائل به الفكر السائد، ويقيس على ضوئه النماذج الفكرية التي تمثّل سلطة وهيمنة على الفكر العربي المعاصر، وأراد أن يُكرِّس مهامه لمناهضة أنظمة الفكر السائدة ليس لأجل المناهضة، وإنما من أجل «الكشف عن آليات الخطاب وقواعده»[1].

من هنا فإن الممارسة النقدية التي تناولها حرب تنبني على محاولة التخلُّص من سلطة الأفكار، وحسب قوله: «أعني بالنقد، نقد الفكر لذاته بتساؤله عن فاعلية نماذجه التفسيرية وأجهزته المفهومية، ووضعه موضع الفحص، لهذا لا يتعلّق النقد عندنا بمناهضة هذا الاتجاه الفكري أو ذاك، إنما يتعلّق الأمر بما يمارسه الفكر نفسه من عمليات التنظير والتأصيل والقولية، وهي عمليات تحوّل الفكر من كونه أداة فهم أو قوة كشف، إلى مجرّد بنيات عقائدية، وتركيبات أيديولوجية، تمارس آلياتها في الخداع والتزييف والتعمية»[2].

فالاستراتيجية القرائية البديلة عند حرب تتميّز بالتحلّي بمنهجية نقدية، قائمة على أساس تفكيك الترسُّبات الأيديولوجية العالقة في الذهن، ويرى أن السؤال المقترن بتعثُّر المشاريع التنموية العربية يشخِّص الأزمة بالتمركز العقائدي والخطاب الشمولي، سواء كان باسم الدين أو العرف أو السياسة، معتبرًا أن الإشكال مرتبط بإبداع عقلانية قادرة على تجاوز هذا الفكر الدغمائي سواء كان دينيًّا أو سياسيًّا[3].

فالهدف الأساسي للفكر الاختلافي لعلي حرب هو زرع القلق في الثقافة المطلقة والأحادية، وهذا لن يتأتَّى إلَّا بكسر الحاجز الدلالي للمطلق بين العقل والنقل، وبين المعقول واللامعقول، والمنطق المعرفي الجديد لن يكون إلَّا بكسر الحقائق، وتجاوز المنطق الأرسطي الذي ظلَّ مهيمنًا على العقل العربي، ما كبَّل الخطاب العربي، وأنتج الاستبداد بعد أن استحال إلى سلطة فقهية لا تراعي شروط التنوير[4].

بهذا ترتكز الرؤية النقدية لعلي حرب، على تجاوز فكرة عبادة النصوص التراثية وتقديسها، بوصفها تقدّم حلولًا نهائية، في محاولة منه لتخطِّي هذا الانغلاق الفكري، بتبنّي منهج التفكيك، ويعني به الاشتغال على المعنى بفكّ بنياته، وفضح سلطته، للكشف عمَّا يمارسه الكلام من الحجب والخداع[5].

إن غرضنا من هذه الالتفاتة المعرفية، محاولة فهم التوجًّه النقدي لعلي حرب، لمعرفة طريقة مناقشته لفكرة العلاقة التي تربط ما بين المفكر والمثقف، خاصة وأن حرب يقدّم مشروعه في إطار جدل قائم بين طرفين، نقد تقليدي من جهة، وآخر تفكيكي من جهة أخرى، وعلى هذا الأساس سنقدّم رؤية حرب للجدل القائم بين المفكر والمثقف.

التعارض الجدلي بين المفكّر والمثقّف

من خلال الأطروحة النقدية التي تبنَّاها حرب يمكن رصد تصوّراته حول المفكّر والمثقّف، وترتسم هذه الأطروحة باعتماد المنهج التفكيكي، والذي به يقوم بفحص طبيعة العقل، وطريقة اشتغاله ضمن المنظومة الفكرية السائدة.

تتوضّح رؤية حرب للمفكّر والجدل الذي يربطه بالمثقّف، من خلال المهام التي يخوِّلها للمفكّر، والمتمثّلة عنده «بانتهاك منطقة المسكوت عنه في خطابات المثقّفين ومواقفهم، لتعرية مسبقات التفكير»[6].

بهذا المعنى تتوضَّح الاستراتيجية النقدية التي يمارسها المفكّر على المثقّف، إنها استراتيجية تعتمد على إعادة النظر في الفعل القرائي الشائع الذي يمارسه المثقّف. فالمثقّف يصنع قراءة تسهم في قتل النص الأصلي لأنها قراءة تدَّعي امتلاك حقيقة ما كان يقولها النص المقروء.

وفي الوجهة المقابلة، فإن المفكّر يسعى إلى استبدال هذه القراءة بأخرى، تكون أكثر منهجية، وتخلو من تقديس النصوص وادِّعاء امتلاك الحقيقة، وتحفل بأدوات البحث العلمي، لهذا فإن المفكّر يحاول «استعمال سياسة جديدة، تتعامل مع الأفكار لا كأصول ونماذج ثابتة ومقدَّسة، بل بوصفها شبكات تحويلية نتغيّر بها ونُغيِّرها»[7].

وهكذا فنحن إزاء طريقتين في التعامل مع قضايا الفكر في رأي حرب، طريقة المفكّر وهو من يتعامل مع الأفكار من منظور أنطولوجي، بصرف النظر عن هوية منتجيها أو أصحابها، أي بوصفها تجارب وجودية غنية، تتيح لنا فهم العالم على نحو مغاير[8].

في المقابل هناك طريقة المثقّف الذي يتعامل مع المسألة من منظور أنثروبولوجي، فيعمد الى خلع جنسيته على الأفكار والنصوص، لكي يحدّثنا عن فكر عربي أو عن عقل إسلامي أو عن فلسفة غربية، على ما يفعل أغلب المثقّفين العرب والمستشرقين على حدٍّ سواء[9].

بهذا المعنى فالاشتغال على خصوصية الأفكار وانتماءاتها ومطلقاتها، هو الذي يرسِّخ كشف ترسُّبات الأيديولوجيات في الفكر، واستبدالها بتفكير حر منفتح على المعرفة، وبعيدًا عن الانتماءات والأحكام المسبقة.

أما بالنسبة لموقفه من الفكر الأصولي، فقد ظلّ علي حرب ينادي في مناسبات عديدة بالتعامل مع النصوص بوصفها معطيات للقراءة والتأويل، وليس بوصفها مرجعيات مطلقة، ويرى أن تقديس النصوص والتراث، والإيمان بالقوالب الجاهزة للاستهلاك، هو مبعث الأزمة، وإن تقديس وعبادة الأصول والتعلُّق بها واستبعاد الآخر، هو الذي شلَّ التفكير العربي، فتعثَّر في إنجاز مشروعه النقدي الذي طال غيابه، فالخط الأصولي هو الجامع لأكثر الآفات: المنزع القدسي، عبادة الأسماء، المعتقد الاصطفائي، الهوام النرجسي، العقل الدغمائي[10].

وقربًا من هذا المعنى يرى حرب أن المثقف هو الذي يدَّعي امتلاك الحقيقة، ويروِّج لأنساق فكرية مغلقة، تقدّم تفسيرات نهائية للعالم، وحسب قوله: «فالمثقّف يُجابه المستجدات بلغة المحافظة والتقليد، أو بلغة التهويم والتهويل... أو بمنطق الثبات والتحجُّر»[11]، «فما حدث من انفجارات معرفية، وانهيارات أيديولوجية أو سياسية، يدعو إلى تفكيك الصورة التي رسمها المثقّف لنفسه كصاحب دور تاريخي تنويري تحريري أو نقدي»[12].

أما الاستراتيجية النقدية التي يراها حرب للمفكّر، فهي تتحدَّد في البحث فيما كان مستبعدًا من قبل، أو ممنوع التفكير فيه، أو الممتنع عن التفكير، والخروج من حدود الأطر الجامدة والراسخة والثابتة، أو خرق عادات الذهن القديمة، وتغيير السلوك الفكري، وعلى المفكّر أن يفحص الأسس التي تقوم عليها المعرفة، والآليات التي يعتمدها التفكير، كل ذلك بهدف الوصول إلى أساليب جديدة في التفكير، بهذا فإن المفكّر يقدّم أداة ملائمة للكشف عمَّا تحجَّر من تفكيرنا، أو فكّ ما انغلق من عقولنا[13].

من جانب آخر، يقوم المفكّر -في نظر حرب- بمراجعة نقدية لما يحمله المثقّف من تصوُّرات وقناعات، يقوم بفحصها، ويفكِّك نمط التفكير الذي أنتجها، ويُبدِّد المفاهيم التي يتبَّناها، وذلك لا يحصل إلَّا «بالتخلِّي عن مبدأ التعامل مع العالم والعصر بعقلية أصولية، أو مفاهيم قديمة أو بلغة شبه منقرضة الأجدى أَلَّا تنفي الوقائع، بل نعيد التفكير في الديمقراطية والمجتمع والدولة، فضلًا عن الثقافة والهوية في ضوء وقائع العالم ومجرياته»[14].

بهذا التفكيك يمكن الكشف عن منزلقات الكثير من التصوُّرات الفلسفية والمنطقية التي حكمت تاريخ الأفكار[15]، ووحدها القراءة النقدية لا الاصطلاحية لتاريخ المنطق، تعلِّمنا أنه تاريخ أزمات ومآزق، فالفكر الجديد تتمثّل قوّته في تأزيم ماضيه[16].

الأمر الذي جعل المفكّر -حسب تصور حرب- ينتقد الفعل القرائي الذي يمارسه المثقّف، فقراءة هذا الأخير قراءة تسهم في قتل النص الأصلي، واختزاله إلى مجموعة مقولات جاهزة قابلة للتصديق والتكذيب. أما المفكّر فيقوم بقراءة منهجية تحفل بأدوات البحث العلمي الرصين.

ولكن الفعل القرائي الذي يلتزمه حرب، ويخوّله للمفكّر، ويناضل من أجله في معاركه النقدية المعارضة لمختلف القراءات السائدة، قراءة الكشف والخلق، وهي قراءة تعارض القراءة الرائجة تبعًا للمنهج والفكر والظروف، وتطور المفهوم ذاته، وهي بمجملها قراءات لم تستطع أن تكشف دلالات النص الباطنية، وإنما اعتمدت على أسلوب الفهم والتفسير[17].

بهذه الرؤية يتوضّح الاسلوب القرائي الذي يمارسه المثقّف، كما يتوضّح الفعل القرائي الذي يمارسه المفكّر الذي يأخذ بعدًا نقديًّا آخر، فهو فعل واسع المهام والدلالة؛ لأنه يتصدّر مفردات الخطاب المتعلّقة بالفهم والتشخيص، وبذلك تكون هذه القراءة مرهونة باستراتيجيته، ويعتمد عليها في تطوّر أدواته ومفاهيمه وذاته[18].

لقد ظل الفكر بالترسبات الأيديولوجية العالقة به معتقلًا، ويعطي للحقيقة بعدًا ثابتًا، وهذا المعطى الجاهز هو ما ينتقده علي حرب كمفكّر نقدي يسعى إلى خلخلة أنظمة الفكر السائدة، وفضح ألاعيبها بالتفكيك. فالأسلوب الذي يعتمده حرب في مساءلة الأصول بلغته التفكيكية، يتَّصل بنقده الجذري لأفكار المثقّفين، وهم أصحاب المشاريع الذين يتصرّفون بوصفهم مُلَّاك الحقيقة، ويندرج هؤلاء المثقّفون على أصنافهم في سياق الخطاب السياسي والخطاب الأيديولوجي والخطاب الثقافي والخطاب التاريخي.

أما من حيث الإجراءات النقدية فالمفكّر -في نظر حرب- هو من «يشتغل بصياغة الأفكار وإنتاج المفاهيم»[19]، ويرى أن مهمَّته بعيدة عن إصلاح أوضاع اجتماعية أو سياسية، أو الثورة على أوضاع قائمة، إنها مهام أثبتت أنها فاشلة[20].

ويضيف حرب: إن المفكّر لا يفكّر في أوضاع بل يفتح أفقًا للتفكير، ولا يحلّ المشاكل بقدر ما يُثيرها[21]، ومشكلة المفكّر -في نظره- لا مع أفكاره، ومشكلات الفكر لا تحلّ إلَّا فكريًّا، وإن الأزمات والانهيارات هي التي تكون دافعًا لأن يعيد المفكّر النظر في أسلوب تفكيره، أما المثقّف فيرمي مشاكل عصره إلى الدين والسلطة، في حين أن الخلل يكمن في أوهامه الفكرية[22]، كما أن المفكّر هو صانع أفكاره، وصناعة الفكر هي فاعلية فكرية بالدرجة الأولى[23].

وتتمّة لرأيه يقول حرب: إن على المفكّر أن يفكّر بطريقة مغايرة على ما كان يفكّر فيه، بل ويفكّر فيما كان يستبعده من التفكير[24]، من هنا فهو يتعامل مع فكره بصورة نقدية[25]، أما المثقّف فيتعامل مع قضايا الفكر تعاملا يختلف عن المفكر، لان المفكر يتعامل مع اعمال الفكر من منظور انطولوجي، والمثقف يتعامل مع الأفكار من منظور أنثروبولوجي فيعمد إلى خلع جنسيته على الأفكار والنصوص[26].

وتأكيدًا لهذه المفارقات وتعزيزًا لها يُضيف حرب: إن المثقّف ينتظر تحسّن الأحوال الاجتماعية، وإطلاق الحريات السياسية لكي يفكّر بصورة منتجة[27]، لكنه اعتقاد خاطئ في رأيه لأن المفكّر ينتج في أسوأ الظروف[28].

على ضوء هذا الطرح يتكشَّف التوجُّه العام للفكر النقدي التفكيكي للعلي حرب، والذي تجلَّى في طريقة معالجته لجدلية العلاقة بين المفكّر بالمثقّف، ونرى أن سياق البحث لا يكون متكاملًا إلَّا بعرض مقاربة أخرى، تلك هي مقاربة زكي الميلاد.

ثانيًا: التصوُّرات المؤطِّرة لرؤية زكي الميلاد

تبرز أهمية أعمال زكي الميلاد المتعلّقة بهذا الموضوع من خلال مدوَّنة فكرية ترتكز على مَعْلَمَيْن، أحدهما يتعلّق بالمراجعة النقدية التي أجراها لرؤية حرب حول مسألة المفكّر والمثقّف، ويتعلَّق الآخر بالمحدِّدات المعرفية التي تشكّل تصوُّره الخاص حول هذه المسألة.

من هنا يمكن أن نُعالج هذا التصوُّر المنهجي للميلاد من خلال مقاربتين اثنتين، مقاربة تبحث في المراجعة النقدية التي أجراها الميلاد على تصور حرب للموضوع، وهنا نتساءل: كيف قرأ الميلاد نصوص علي حرب المتعلّقة بالمثقّف والمفكّر؟

أما المقاربة الثانية فهي معرفية، تتعلّق بالقاعدة الفكرية التي اعتمدها الميلاد في تصوُّره لمسألة العلاقة بين المفكّر والمثقّف.

1- المقاربة النقدية

إن المناقشات التي انشغلت بالمهام المنوطة بالمفكّر والمثقّف أخذت حيّزًا مهمًّا في ساحة الفكر العربي المعاصر، وفي هذا النطاق قدَّم زكي الميلاد مطالعة لما سمَّاه نظرية علي حرب في العلاقة بين المثقّف والمفكّر، والتي شرحها حرب في عدد من مؤلفاته منها: كتاب (الممنوع والممتنع.. نقد الذات المفكرة) الصادر سنة 1995م، وكتاب (أوهام النخبة أو نقد المثقّف) الصادر سنة 1996م، وهكذا كتاب (الماهية والعلاقة.. نحو منطق تحويلي) الصادر سنة 1998م، وغيرها.

عن هذه المقاربة شارحًا نظرية حرب، يقول الميلاد: «يرى حرب أن المثقّف بوصفه يدافع عن الحقوق، ويناضل من أجل الحريات، فإنه يمارس نقده على ما سمَّاه «جبهة الممنوع»، ويقصد به ما يمنع خارجًا في الواقع الموضوعي، سواء بسبب المحرَّمات والضغوطات الاجتماعية، أو من قبل السلطات المختلفة السياسية أو الدينية، وحتى الأكاديمية في بعض الأحيان»[29].

وهنا يُبدي المثقف دور المصلح الاجتماعي، الذي يقوم بمهام ذات طابع أنثروبولوجي.

وتتمّةً لهذه المقاربة من زاوية أخرى يقول الميلاد: «من وجه آخر، يرى حرب أن المثقّف بوصفه داعيةً أو مناضلًا فإنه يتعامل مع أفكاره تعامل المبشّر أو المروِّج، وفي حالة أخرى يتعامل مع الأفكار بوصفها صورة عن الواقع، أو بوصفها تخلق الواقع على طريقة كن فيكون، ولهذا فهو لا يُحسن التعاطي مع الواقع»[30].

وهنا أراد حرب من المثقّف أن يكون متهمًا[31]، لكن اللافت في الأمر أن حرب يرى في هذا النقد القاسي حسب وصف الميلاد دفاعًا عن المثقف[32]، ويرى الميلاد أن النقد الذي سطّره حرب للمثقف أثار حفيظة شريحة من المثقّفين، فهناك من وجد في هذا النقد إعلانًا لهزيمة المثقّف، وهناك من وجد فيه إعلانًا لموت المثقّف أو نهايته وهناك من وجد فيه نقدًا جذريًّا غير مسبوق[33].

أما المفكّر في نظر حرب وبخلاف المثقّف، فهو يُركِّز نقده على ما أسماه «جبهة الممتنع» ويقصد به ما يتّصل بعالم الفكر والتفكير، ولهذا يهتمّ المفكّر بتفكيك العوائق الذاتية للفكر، كما تتمثّل في عادات الذهن، وقوالب الفهم، وأنظمة المعرفة، وآليات الخطاب، والمفكّر في النهاية هو صانع أفكار، أو مبتكر مفاهيم، أو خالق بيئات مفهومية، هذه هي مهمّة المفكّر المفارقة لمهمّة المثقّف[34].

يلاحظ الميلاد أن المقاربة النقدية عند حرب وضعت المفكّر والمثقّف في موقعين متعارضين متصارعين، أحدهما يسائل والآخر يُساءَل، ومن هذه الجهة يقول الميلاد: «بقصد أو بدون قصد وضع حرب المفكّر في صدام مع المثقّف وفي تناقض وتخاصم، فهما بالنسبة إليه يمثّلان صورتين متغايرتين، يفترقان من جهة المشروعية ويتعارضان، فكل منهما له مشروعيته المغايرة»[35].

وهنا نلاحظ أن الميلاد يتعارض مع حرب في علاقة الصدام التي أحدثها بين المفكّر والمثقّف، معبرًا عن معارضته قائلًا: «وحين يصوّر حرب أن مشروعية المفكّر تتحدَّد في نقد المثقّف، فكأنه يضع المفكّر في صدام مع المثقّف أو أنه يفتعل صدامًا بينهما، ولا يخلو الأمر من تحريض وتحريض مستمر تُوحي به فكرة المشروعية، فلا مشروعية للمفكّر إذا لم ينهض بنقد المثقّف»[36].

ومن جانب آخر يرى الميلاد أن «الفارق الذي وضعه حرب في الفصل بين المثقّف والمفكّر، لا يمثّل حدًّا مقنعًا يمكن الاتِّفاق عليه، ولا يصدق عليه وصف الحدّ المنطقي الكاشف عن هوية الشيء بحدِّه وحدوده، فليس المثقّف مثقَّفًا لأنه يدافع عن الحقوق ويناضل من أجل الحريات ويقف في جبهة الممنوع، كما ليس المفكرّ مفكِّرًا لأنه يُركِّز اهتمامه على الممتنعات داخل الفكر ويتَّجه نحو أفكاره بالنقد والفحص»![37].

وبخلاف حرب فإن التصوُّر الذي يُبديه الميلاد للجدل القائم بين المفكِّر والمثقَّف، يكون قائمًا على أساس التفوُّق الإبستمولوجي والمعرفي، الذي يجعل لكل طرف حق الخوض في المشاكل الإبستمولوجية والأنثروبولوجية بمستويات معرفية متفاوتة، وفي هذا الشأن يرى الميلاد «أن هناك من يشتغل على جبهة الفكر ويكون الفكر شاغله وهمَّه ويصدق عليه وصف المثقّف، ولا يصدق عليه وصف المفكّر، وهناك من يصدق عليه وصف المفكّر وصفًا ثابتًا وراسخًا وينخرط في الشأن العام ويدافع عن الحقوق ويناضل من أجل الحريات، وهكذا تتعدَّد الحالات، وتتنوّع المفارقات الكاشفة عن اختلال الفارق في الفصل بين المثقّف والمفكّر»[38].

2- المقاربة المعرفية

إذا رجعنا إلى فكر زكي الميلاد، نجد أنه انشغل بالكثير من القضايا المطروحة على الساحة الفكرية العربية والإسلامي، وتهدف أعماله الفكرية إلى بلورة مشروع ثقافي تتوضّح أبعاده ومعالمه بالاهتمام بقيمة الثقافة، واعتبارها استراتيجية مهمّة في التحليل والنقد والاستشراف.

ومثل هذا الاهتمام نجده في الكثير من مؤلفاته، نذكر منها، كتاب «مالك بن نبي ومشكلات الحضارة» الصادر سنة 1992م، وكتاب «المسألة الثقافية.. من أجل بناء نظرية في الثقافة» الصادر سنة 2005م، وكتاب (نحن والثقافة.. تأملات في مجالنا الثقافي ومستقبلياته) الصادر سنة 2009م، وغيرها.

تعتبر مؤلفات الميلاد ومقالاته موجّهة نحو هذا الهاجس المعرفي، وقد أخذ الفكر الإسلامي وقضاياه مساحة كبيرة من انشغالاته، مؤكدًا على ضرورة التواصل مع العصر، ومواكبة العلوم والمعارف معتبرًا أن «الفكر الإسلامي -بوصفه منظومة ثقافية وحضارية- يمثّل مادة حيوية في الاشتغال على النطاق العالمي»[39].

ويرى الميلاد أن الإشكاليات والتحديات الفكرية والمعرفية التي أفرزها التحدي الغربي، دفعت بالفكر الإسلامي المعاصر نحو الاهتمام بتلك القضايا التي تشغل اهتمام العالم. حيث شكَّلت أهم البواعث الذاتية والموضوعية، الإسلامية والعالمية، الراهنة والمستقبلية التي حفَّزت الفكر الإسلامي المعاصر نحو مشاغل فكرية معاصرة، ودفعت به نحو البحث عن مسارات جديدة[40].

وضمن إشكالية العلاقات بين الحضارات، حاول الميلاد بتجربة فكرية مختلفة أن يستكشف أفقًا جديدًا يرسِّخ لفكرة اللحاق بركب الحضارة، مدفوعًا برغبة فكرية ملحّة لبناء أفضل العلاقات بين الحضارات، وتوسيع دائرة التواصل فيما بينها، وإزالة كافة صور الجهل، والتخلُّص من كل رواسب القطيعة، والوصول إلى تواصل حضاري وكوني يكرّس الانفتاح العالمي.

تبلورت هذه الرؤية في إطار نظرية أطلق عليها الميلاد تسمية «تعارف الحضارات»، وهي تهدف لتأسيس مفهوم التعارف في سياق خطاب نقدي يتَّصل بجملة المقولات الرائجة عالميًّا والمتمثّلة في نظريات «صدام الحضارات» و«حوار الحضارات» وغيرهما.

وقد طرح الميلاد نظرية تعارف الحضارات في أول إعلان لها في مقالة نشرها بهذا العنوان في مجلة الكلمة سنة 1997م، ثم تطوّرت لاحقًا، وحضرت هذه النظرية في كتاب الميلاد الموسوم بعنوان «المسألة الحضارية.. كيف نبتكر مستقبلنا في عالم متغيِّر؟»، وفي سنة 2006م أعدَّ الميلاد كتابًا حمل عنوان «تعارف الحضارات» ضمَّنه الكتابات والمقالات التي نشرت حول هذه النظرية.

وحسب اعتقاد الميلاد لا بد أن يكون للتصوُّر الإسلامي رؤيةً أو مفهومًا يحدِّد شكل العلاقات مع الأمم والمجتمعات والحضارات الأخرى، والمفهوم الذي توصَّل إليه في هذا المجال هو تعارف الحضارات، وازداد ثقةً بهذا المفهوم، وبقيمته المعرفية والأخلاقية والإنسانية لكونه مستنبطًا من القرآن الكريم الذي خاطب الناس كافة، وجاء رحمة للعالمين، وكشفت عنه آية التعارف في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}[41].

هذه بعض عناصر الأطروحة الفكرية للميلاد التي توجّه عملنا في تحديد إشكالية العلاقة بين المفكّر والمثقّف.

3- المثقّف والمثقّف الديني

ناقش الميلاد موضوع المثقّف الديني في كتابه «محنة المثقّف الديني مع العصر» الصادر سنة 2000م، وفيه تساءل: هل يمنع الدين الانسان من أن يكون مثقّفًا؟ وجاء هذا السؤال لكي يواجه الرؤية التي تشكَّلت حول المثقّف، وهي الرؤية التي اكتسبت صورتها تمامًا من صورة المثقّف الأوربي، والتي تصوّر بأن المثقّف ينتسب إلى ما هو إنساني لأنه لا يتقيَّد في تفكيره وتأمُّلاته ونظراته بعقيدة أو دين يفرض عليه قيدًا أو شرطًا يحدُّ من فكره[42].

وفي نظر الميلاد أن الكتابات الإسلامية المعاصرة لم تقدّم معالجات مهمَّة، ولم تتوسَّع في دراسة قضية المثقّف، والمثقّف الديني بوجه خاص[43]، والسبب راجع -في نظره- إلى التباس في مفهوم المثقّف، وتجدُّد الاهتمام بهذه القضية نتيجة «تجدُّد الاشتغالات الفكرية واتِّساعها على نطاق عالمي حول المثقّف وأدواره وعلائقه، ما جعل من الأهمية أن يتَّجه المشتغلون بالفكر الإسلامي والمشروع الإسلامي، وبمزيد من الحوافز والمعطيات، نحو تجديد النظر لمفهوم المثقّف والمثقّف الديني بالخصوص، الذي بإمكانه أن يسهم بدور مهم، في زمن تتّجه فيه أنظار العالم بصورة ملفتة نحو الإسلام، وبطريقة لم يسبق أن حصلت في التاريخ الحديث»[44].

إن رؤية الميلاد للمثقّف قائمة على أساس العلاقة بالدين، وهو بذلك يعارض الثقافة الأوربية التي فرضت نموذجًا للمثقّف لا يكون دينيًّا في طبعه وطبيعته، وفي ماهيته وهويته، الوضع الذي فرض غربة على المثقّف الديني، تحوّلت إلى محنة، بين إثبات وجوده وعدم الاعتراف بوجوده[45].

لهذا دعا الميلاد المثقّف لتصحيح رؤيته تجاه الدين، فعلى المثقّف -حسب رأيه- أن «يعيد النظر إلى رؤيته للدين وأن يُصحح هذه الرؤية... وكل المحاولات الفكرية التي حاولت أن تُغيّب الدين، وتعزله عن أطروحتها التنويرية والنهضوية، لم تستطع النفاذ إلى عقول الناس، واصطدمت بواقع اجتماعي يرفض بشدة إقصاء الدين، بل يزداد تمسُّكًا وإصرارًا على الاهتمام به»[46].

وفي نظر الباحث العراقي الدكتور علي المحمداوي أن أهم ما يميّز فكر زكي الميلاد هو محاولة الإبداع لأفكار ورؤى إسلامية، يمكن أن توصف بالفلسفية، لتناولها موضوعات شغلت تفكير الذهن الإنساني المعاصر، وحاكت حاجياته الفكرية والثقافية والاجتماعية... جاء ذلك من خلال أطروحاته التي كوَّنت مشروعه الثقافي والمعرفي[47].

المشروع قائم على تأكيد قيمة الثقافة والإعلاء من شأنها، وإعطائها درجة عالية من الأولوية، والاستلهام منها، والتخلُّق بها، واعتمادها كمنظور في التحليل والنقد والاستشراف، فالثقافة في نظر الميلاد هي تلك الطاقة والقوة التي تبعث على التجدُّد والتقدُّم والنهوض، مع تركيزه على الجوهر الإسلامي للثقافة، والاهتمام بأبعادها الإنسانية والأخلاقية والحضارية[48].

4- من هو المفكر في رأي الميلاد

في مقالة له تساءل الميلاد «من هو المفكّر؟» وأجاب تفصيلًا بقوله: لا يكون الشخص مفكِّرًا إلَّا بعد أن يتخطَّى وضعية المثقّف، محدِّدًا ثلاثة أمور أساسية تكشف عن صورة المفكّر، هي:

الأمر الأول: يتحدَّد على أساس عنصر التجربة، فالمفكّر هو صاحب تجربة فكرية عادة ما تكون طويلة من ناحية الزمن، وجادَّة من ناحية التعامل، وثرية من المعرفة، ومميَّزة من ناحية التقاليد، وما اكتسب المفكّر هذا الوصف إلَّا بفضل هذه التجربة المتفرِّدة بهذه الملامح والسمات، وليس هناك مفكّر من دون أن تكون في رصيده تجربة فكرية توصف غالبًا بالتخلُّق[49].

الأمر الثاني: ويتحدّد على أساس عنصر الذاتية، بمعنى أن المفكّر هو من يتحدَّث عن ذاتيته لا عن ذاتية الآخرين، عن ذاتيته ليس بمعنى إبراز هذه الذاتية والتباهي بها، والإعلاء من شأنها، أو التمحور حولها، كما ليس بمعنى التنكُّر إلى الآخرين، وتغافلهم وعدم الاكتراث بهم، والإجحاف بحقّهم، وإنما بمعنى من يشعر بذاتيته الفكرية على سبيل الفعل وليس على سبيل القوة، من يشعر بذاتيته الفكرية وليس بذاتيته النفسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو غيرها من الذاتيات الأخرى. الذاتية التي تجعل المفكّر صاحب هوية يستقل بها عن الآخرين ويتمايز، وتكسبه قوة ذاتية وثقة وشجاعة، تظهر وتتجلّى في خطابه وفكره، في شخصه وسلوكه[50].

وهذه الذاتية لا تنشأ رغبة وتمنيًا، ولا تظهر قولًا وادِّعاء، ولا تتكوّن في دفعة واحدة، ولا بطريقة طفرة سريعة، وإنما تنشأ متدرجة وبصورة بطيئة، وتظل تتنامى حتى تتجلَّى راسخة في ظهورها وحضورها.

وتنشأ هذه الذاتية ابتداء عند المثقّف، ويحسّ بها لكن بصورة أولية وبسيطة، وتظلّ في حالة نمو وتقدُّم إلى أن تصل لدرجة تكسب الإنسان صفة المفكّر، وتصل هذه الذاتية إلى أعلى درجاتها عند الفيلسوف[51].

لعل هذه الذاتية التي تشكّل تفرُّد المفكّر بهوية تميّز أفكاره وخطاباته، كان الميلاد قد أشار إليها في مقدمة الطبعة الأولى لكتابه «محنة المثقّف الديني» عندما اعتبر محمد إقبال المفكّر الذي دعا منذ وقت مبكر إلى تجديد الفكر الديني في الإسلام وقدّم هذا المفكّر نقدًا فلسفيًّا للثقافة الأوربية، اتّسم في رأي الميلاد بالعمق وجرى على أسس من الفهم العلمي.

الأمر الثالث: عنصر الابتكار، بمعنى أن المفكّر هو الذي يحقّق ابتكارًا بالفعل، على مستوى الأفكار أو النظريات أو المفاهيم أو المناهج، وعرف عند الآخرين، وفي ساحة الفكر والمعرفة بهذا الابتكار، والمفكّر ما قبل الابتكار، هو مفكّر على سبيل القوة، وبعد الابتكار هو مفكّر على سبيل الفعل، كما أن المفكّر ما قبل الابتكار هو مفكّر على سبيل المجاز والشك، وبعد الابتكار هو مفكّر على سبيل الحقيقة واليقين[52].

ونرى أن مفهوم «تعارف الحضارات» الذي جاء به الميلاد قد مثَّل عنصر ابتكار في المجال الفكري والحضاري، يُحسب له، ويُعرف به، بما يحمله من جِدة في ساحة الفكر الإسلامي.

ضمن هذه الروابط المتلازمة والمتكاملة حدَّد الميلاد رؤيته إلى المفكّر.

وبعد توضيح رؤية كل من علي حرب وزكي الميلاد لجدلية العلاقة بين المفكّر والمثقّف، جدير بنا الوقوف عند بعض الملامح التي تُقارب بين الرؤيتين.

ثالثًا: التلاقي والتقاطع بين مقاربتي حرب والميلاد

التجديد فكرة مشتركة تقارب الرؤيتين، وتنبعث هذه الفكرة متأثّرة بالتحوّلات العالمية المتسارعة، فجدلية العلاقة بين المفكّر والمثقّف أفرزها هاجس موحّد، هو الاندماج في الحراك المعرفي الذي يزخر به العالم.

كما أن المشاركة والتعارف، والانخراط في قضايا العصر والعالم، وعدم التعامل بمنطق المتفرّج او المراقب أو اللامسؤول[53]، ويتوضّح التقارب أيضًا في حاجة المثقّف إلى النقد، وهذا ما صرّح به الميلاد قائلًا: «نتّفق مع حرب في حاجة المثقّف الى النقد الذاتي وأن يكون موضوعيًّا»[54].

ولقد حاول كل منهما أن يشخّص العلاقة التي تجمع المثقّف بالمفكّر تشخيصًا مختلفًا، ولكن الطابع الذي يربطهما هو ضبط مهام النخب المعرفية، وتفعيل تواجدها لتحقيق الاندماج في الواقع والارتباط بالعصر، وهنا يقف علي حرب وجهًا لوجه أمام التحديات، يشتبك مع المهمات المطروحة، ويتعامل معها على أنها إشكالات يمكن مواجهتها بتغيير نمط في التفكير[55].

ولعل هذا ما يعنيه حرب حين يقول: «إن العصر الذي نعيش فيه لا يبقي شيئًا كما هو عليه، لا الدين ولا الحداثة ولا المجتمع ولا الدولة، لا الأصولي ولا العثماني، لا الإسلامي، لا اليساري، لا الداعية ولا المثقف، بل كل شيء أكان ذاتًا أم فعلًا يحتاج مفهومه ومعناه إلى أن يوضع على طاولة الدرس والتشريح، من أجل إعادة التجميع والتركيب أو التوظيف والتشغيل»[56].

وبهذا تتجدَّد الرؤى للمفاهيم، وانطلاقًا من هذه الإشكالية التي تجمع المفكّر بالمثقّف في سياق جدلي فعّال، نجد أن مقاربتي الميلاد وحرب وضعت مهام كل طرف في خانة معيّنة، وأكدت الحاجة إلى أعادت بناء المفاهيم.

نستنتج من كل ما سبق، أننا أمام تصوّرات جدلية حول العلاقة بين المفكّر والمثقّف، ووقفنا أمام مقاربتين فارقت بين الميلاد وحرب، ورغم اختلاف مهام المفكّر عن المثقّف في التوجُّه المعرفي والوجودي، لكن الوظائف التي تجمعهما في مقاربتي الميلاد وحرب تمثّل بنية متكاملة وفعّالة، ولكنها في نهاية المطاف تتحدَّد بالطابع المعرفي الذي يوضّح كل رؤية على حدة.

 


 

 



[1] علي حرب، نقد النص، بيروت: المركز الثقافي العربي، الطبعة الرابعة، 2005، ص13.

[2] علي حرب، أسئلة الحقيقة ورهانات الفكر مقاربات نقدية سجالية، دارالطليعة للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 1994، ص90.

[3] المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

[4] المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

[5] علي حرب، هكذا أقرأ ما بعد التفكيك، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، 2005، ص26.

[6] علي حرب، أوهام النخبة أو نقد المثقف، الدارالبيضاء: المركز الثقافي العربي، الطبعة الثالثة، 2004، ص48.

[7] علي حرب، حديث النهايات فتوحات العولمة ومأزق الهوية، الدار البيضاء - بيروت: المركز القافي العربي، الطبعة الثانية، 2004، ص57.

[8] علي حرب، الماهية والعلاقة نحو منطق تحويلي، الدار البيضاء- بيروت: المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 1998، ص98.

[9] علي حرب، الماهية والعلاقة نحو منطق تحويلي، مصدر سابق، ص 98.

[10] علي حرب، المصالح والمصائر صناعة الحياة المشتركة، الجزائر - بيروت: منشورات الاختلاف، الدار العربية للعلوم ناشرون، الطبعة الأولى، 2010،ص21.

[11] علي حرب، أزمة الحداثة الفائقة الإصلاح الإرهاب الشراكة، الدارالبيضاء - بيروت: المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 2005، ص173.

[12] علي حرب، نقد النص، مصدرسابق، ص 91.

[13] علي حرب، الماهية والعلاقة نحو منطق تحويلي، مصدر سابق، ص258.

[14] علي حرب، أوهام النخبة أو نقد المثقف، بيروت: دارالحداثة، الطبعةالأولى، 1984، ص71.

[15] عبد اللطيف الخميسي، من أجل فلسفة اختلافية نقدية عربية معاصرة، ملتقى ابن خلدون للعلوم الانسانية والأدب، Récupéré sur http://www.ebn-khaldoun.com/article_details.php?article=1991.

[16] المرجع نفسه.

[17] المرجع نفسه

[18] المرجع نفسه.

[19] علي حرب، الماهية والعلاقة نحو منطق تحويلي، مصدر سابق، ص87-88

[20] المرجع نفسه، ص88.

[21] المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

[22] المرجع نفسه، ص89.

[23] المرجع نفسه، ص92.

[24] المرجع نفسه، ص95.

[25] المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

[26] المرجع نفسه، ص99.

[27] علي حرب، الماهية والعلاقة نحو منطق تحويلي، مصدرسابق، ص89.

[28] المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

[29] زكي الميلاد، بين المثقّف والمفكّر مقاربتان ومناقشة، صحيفة اليوم، السعودية، 24 يوليو 2016م، العدد 15745.

[30] المرجع نفسه.

[31] زكي الميلاد، هل المثقفون في أزمة؟، بيروت: مؤسسة الانتشار العربي، الطبعة الأولى، ص144.

[32] المرجع نفسه، ص146.

[33] المرجع نفسه، ص143-144.

[34] زكي الميلاد، بين المثقف والمفكر مقاربتان ومناقشة، مرجع سابق.

[35] زكي الميلاد، المثقف والمفكر بين الممنوع والممتنع، صحيفة الرياض، السعودية، 27 يوليو 2017م، العدد 17930.

[36] المرجع نفسه.

[37] المرجع نفسه.

[38] زكي الميلاد، المرجع نفسه.

[39] زكي الميلاد، تطورات الفكر الاسلامي ومساراته المعاصرة، مجلة الكلمة، لبنان، السنة الخامسة، ربيع 1998م – 1419هـ، ص9.

[40] زكي الميلاد، المرجع نفسه، ص15.

[41] سورة الحجرات، آية 13.

[42] علي عبود المحمداوي، الفكر الشيعي المعاصر رؤية في التجديد والإبداع الفلسفي، دمشق: صفحات للدراسات والنشر، 2009، ص63.

[43] زكي الميلاد، محنة المثقف الديني مع العصر، بيروت: المركز الإسلامي الثقافي، 2012، ص22.

[44] زكي الميلاد، المصدر نفسه، ص33.

[45] المرجع نفسه، ص09.

[46] المرجع نفسه، ص109

[47] علي عبود المحمداوي، الفكر الشيعي المعاصر رؤية في التجديد والإبداع الفلسفي، مصدر سابق، ص59.

[48] المرجع نفسه، ص59-60.

[49] زكي الميلاد، من هو المفكر؟ صحيفة اليوم، السعودية، الثلاثاء 16 يونيو 2015م، العدد 15341.

[50] زكي الميلاد، المصدر نفسه.

[51] المرجع نفسه.

[52] المرجع نفسه.

[53] زكي الميلاد، المسألة الحضارية كيف نبتكر مستقبلنا في عالم متغيّر؟، بيروت: مركز الحضارة لتنمية الفكرالاسلامي، بيروت، ص182.

[54] زكي الميلاد، هل المثقفون في أزمة؟، مرجع سابق، ص147.

[55] علي حرب، أزمة الحداثة الفائقة: الإصلاح، الإرهاب، الشراكة، مرجع سابق، ص29.

[56] علي حرب، المصالح والمصائر صناعة الحياة المشتركة، مرجع سابق، ص123.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة