شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
العلامة والثقافة عند جيل دولوز
الدكتور حموم لخضر*
* مخبر الفلسفة والعلوم الإنسانية، جامعة مستغانم - الجزائر.
مقدمة
يرى ميشال فوكو أن عصرنا كله، سواء من خلال المنطق أو من خلال الإبستمولوجيا، وسواء من خلال ماركس أو من خلال نيتشه، عصر يحاول أن يفلت من هيغل[1]، كذلك فالبقاء ضمن دائرة الفلسفة الديكارتية والهيغيلية هو ما كان يرفضه الفيلسوف جيل دولوز، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية؛ لأنه كان يرى فيه تقوقعًا داخل تاريخ الفلسفة، حيث إن الفلسفة كانت تكتفي بمداخل إلى ديكارت (Descartes) وكانط (Kant)، وهيغل، وهوسرل (Husserl) وهيدغر (Heidegger)، وبهؤلاء كان تاريخ الفلسفة قد شكّل سلطة داخل الفلسفة والفكر عامة؛ إذ ما كان يُمكن التفكير دون قراءتهم، لكن –حسب دولوز- «من حسن الحظ كان هناك سارتر (Sartre)، لقد كان يمثّل الخارج بالنسبة لنا، كان بالفعل التيار الهوائي الخارجي، كان شيئًا من الهواء الخارجي»[2] الصافي.
ويرى دولوز أن برغسون شكّل قطيعة كاملة مع التراث الفلسفي عامة والظواهرية بشكل خاص، حيث لم يعد الوعي بمثابة حزمة ضوئية تنتزع الأشياء من ظلمتها الفطرية، كمصباح كهربائي يجعل الوعي وعيًّا بشيء ما[3]، بل هو -حسب برغسون- نور داخلي وليس خارجيًّا، أي إن الأشياء مضيئة بذاتها، وكل وعي هو شيء، ممتزج به، وبصورة الضوء وهو ما يجعل برغسون أول من أشار إلى السينما.
الثقافة: من التمثيل إلى الإرغام
على الفلسفة من منظور دولوز أن «تبدع أشكالًا من التفكير تكون جديدة كليًّا، وأن تستثمر الثورات التي تجري في الميادين الأخرى وعلى المسطحات الأخرى، لصالحها»[4]. كالثورة اللغوية خاصّة مع دي سوسير، والثورة الإبستيمولوجية مع باشلار، والتحليل النفسي الفرويدي، وكذلك الثورة التاريخية ممثّلة في جهود مدرسة الحوليات خاصة مع بروديل، والجينيالوجيا لدى نيتشه.
فقد دشّن نيتشه قطيعة مع فكر عصر الأنوار، من خلال نقده للحقيقة والعقل، ومقولات الميتافيزيقا، وكانت اللغة وسيلة نيتشه في هذه الرؤية الجديدة للفكر الفلسفي، «فنيتشه يعتبر أول من قرّب المهمة الفلسفية من حدود التفكير الجذري في اللغة»[5]، بل إن نيتشه قد «انغمس في تيار اللغة ينحت منه ما يشفي قلبه المتوقّد بالتمرّد والثورة، فترسو قلاعه الأخيرة على اسم زرادشت يُحمِّله ما في قلبه من طموح، ويشحذه باللهب بعيدًا عن الناس في جبال الألب»[6].
نيتشه كان يدرك أن إحراجه الجديد للفكر الفلسفي، وتناوله غير المعهود لمقولات ومفاهيم الميتافيزيقا لن يفهم في عصره، بل في المستقبل (الحقبة المعاصرة)؛ لذا يقول: «إن تأويلي الجديد سيضمن لفلاسفة المستقبل، الذين سيكونون سادة الأرض، الوقاحة الضرورية»[7].
ذلك أن فلسفة الاختلاف المعاصرة ارتادت حقولًا لم تكن معهودة في إطار الحقل الفلسفي التقليدي، من هنا تبدو وقاحتها، أي خروجها عن العقل والوعي الرسمي وطرقها لأبواب وحقول ظلت إلى عهد قريب بمنأى عن التناول الفكري والاشتغال الفلسفي، وخارج عالم الميتافيزيقا.
ما ينقده دولوز هو مسلّمات صورة الفكر التقليدية القائمة على التمثّل ومبدأ الهوية، ومنها المسلّمة الثامنة؛ مسلّمة النهاية أو النتيجة والمعرفة، والتي تعمل على إخضاع التعلّم للمعرفة والفكر للمنهج والثقافة للطريقة، وترى أن التعلّم لا يُسهم في مغامرة الفكر، بمعنى المطابقة «بين صورة الفكر والمعرفة، فالفكر معرفة وليس تعلّما لكن، حسب هذا المفترض لا يعدو التعلّم سوى همزة وصل بين الجهل والمعرفة. والتعلّم هو مجرّد لحظة ومجرّد شرط من لحظات ومن شروط المعرفة»[8]. حيث يكون التفكير نتاج انغلاق الذات على نفسها لا انفتاحها على قوى الخارج.
لكن الأفكار من وجهة نظر دولوز «تترتّب عن عنف تلقّاه الفكر... لن تنغلق في التعرّف وإنما تنفتح على لقاءات وتتحدّد دائمًا في علاقات بالخارج»[9]، وتتكوّن من خلال حركة التعلّم وليس كنتيجة للمعرفة واليقين والتمثّل. ذلك أن اليقينيات لا تدفعنا للتفكير مثلما تدفعنا إليه الدهشة والشك والريبة، بل والعنف، فاليقين الجامد عاجز عن توليد فعل التفكير في الفكر، وفعل التفكير هو ما يخلق صورة جديدة له، حيث إن الفكر لا يفكر إلَّا مكرهًا ومرغمًا.
ولا يسعى التفكير إلى تجنُّب الخطأ، بل محاربة البلادة والبلاهة والابتذال، أي ما يُهدِدُهُ على الحقيقة، وهذا لا يتأتَّى دون نقد مفهوم التمثّل الذي تقوم عليه صورة التقليدية للفكر، لقد كان «الجهد الأكبر للفلسفة قائمًا على جعل التمثّل لا متناهيًا، باختراع التقنيات اللاهوتية والعلمية والجمالية التي تسمح بدمج عمق الاختلاف في ذاته وبالعمل على أن يستولي التمثّل على الغامض وبأن يتلاشى الاختلاف الصغير، يتعلّق الأمر بإسالة القليل من دم ديونيزوس في شرايين أبولون[10]»[11].
إن الفكر -حسب دولوز- ليس ممارسة مألوفة طبيعية لطاقة ما، بل هو حدث طارئ يُجبر الفكر على أن يكون فاعلًا، لإثبات قوى الحياة، ولن يكون كذلك ما لم تمارس عليه هذه القوى عنفًا، لينخرط في صيرورة فاعلة، «إن إكراهًا كهذا، ترويضًا كهذا، هو ما يسمّيه نيتشه ثقافة، فالثقافة -وفقًا لنيتشه- هي في جوهرها ترويض وانتقاء، إنها تعبّر عن عنف القوى التي تستولي على الفكر لتجعل منه شيئًا فاعلًا، إثباتيًّا ولن نفهم مفهوم الثقافة هذا إلَّا إذا أدركنا كل الطرق التي يعارض بها الطريقة»[12].
لأن الطريقة تفترض دائمًا إرادة حسنة للمفكّر، فالمفكّر يريد الحقيقة بالفطرة، وذلك من أجل أن يفكّر بشكل مستقيم وجيد وشامل، تجعلنا نتفادى الخطأ والوهم وكل القوى الخارجية، «من كانط إلى هيغل، رأينا الفيلسوف يبقى، في المحصلة، شخصًا بالغ التهذيب وشديد الورع، يحب أن يخلط بين غايات الثقافة وخير الدين، أو الأخلاق أو الدولة»[13].
فإذا كان التعرّف يعمل على التوفيق بين كل الملكات حول موضوع يفترض أنه هو (عينه Le Même)، ويبقى هُو هُو، أي الموضوع عينه الذي يمكن رؤيته ولمسه وتذكّره وتخيّله، أي إننا نفكّر عندما نتعرّف على شيء ما، فإن الثقافة هي تعلّم وليس معرفة، تكوين وليس ذاكرة، «الثقافة هي حركة التعلّم ومغامرة اللاإرادي، الجارَّة وراءها الحساسية والذاكرة ثم الفكر، مع كل العنف والقسوة الضروريين، كما قال نيتشه بالضبط من أجل ترويض شعب مفكّر وإعطاء ترويض للروح»[14].
الثقافة هي مغامرة لا إرادية، حيث ملكاتنا لا تمارس فاعليتها بتناغم، كالحس المشترك الذي هو بمثابة توافق الملكات في النظر إلى موضوع معيّن حيث الواحدة تأخذ مكان الأخرى، يعطينا دولوز مثالًا على ذلك في توافق ملكات التخيُّل والذاكرة والبصر واللمس حول قطعة الشمع في مثال ديكارت، والتي لا تكون إلَّا بعد اتّفاق الملكات جميعًا حول تعيين هذا الموضوع بعينه، الاتّفاق يعني أن يظهر هذا الشيء مطابقًا بالنسبة لجميع الملكات، والحسّ السليم هو ما يحدّد إسهام كل ملكة في هذا الاتّفاق، بل إلى أي موضوع معيّن، «فالثقافة هي عنف يخضع له الفكر، تكوين للفكر تحت تأثير قوى انتقائية، ترويض يشرك كل لا وعي المفكّر»[15] بشكل لا إرادي.
فالشكل لا إرادي هو أن تعمل الملكات ضمن ضرورتها الخاصة حيث لا تعوّض بغيرها ولا تتبادل الأدوار مع الملكات الأخرى، هذا ما يسمّيه دولوز ممارسة ترانسدنتالية، حيث تُؤوّل وتفسّر كل ملكة نوعًا من العلامات التي تمارس عليها إرغامًا وعنفًا، وهي موضوع لقاء أساسي وليس موضوع تحقّق.
فليس من سمات الفكر البداهة والوثوق والتلقائية –كما يرى الكوجيتو الديكارتي- بل من سماته تصادم قوى «مناوئة بعضها لبعض، هذه القوى التي تدفع بالفكر إلى التفكير ما هي سوى العلامات، فالعلامة ليست تمثّلًا أو تصوّرًا أو فكرة في الذهن، إنما العلامة نلتقيها، أو بتعبير أدق نصطدم بها... هي ما يحدّد شيئًا فيصبح مستعصيًا، مشتبكًا، ومضفورًا، ومثنيًّا، مخفيًّا ومطويًّا، شيئًا ليس في حوزة إدراكنا المباشر، شيئًا ملفوفًا ومظروفًا ومغلوفًا؛ ولذلك فالعلامة لاقترانها به ترغمنا على التوجّه نحوه»[16]، فالعلامات تحرّك، وترغم كل واحدة من ملكاتنا على الانفعال، على البحث عن الحقيقة.
لقد كان مشروع نيشته يتمثّل في إدخال مفهومي القيمة والمعنى إلى الفلسفة كما يرى ذلك دولوز، المعنى باعتباره مقرونًا بالقوة التي تقف وراءه، والأخلاق مقترنة بقيمتها المتوخّاة منها، حيث لا يمكن معرفة معنى شيء ما، سواء كان ظاهرة إنسانية أو بيولوجية أو حتى فيزيائية حسب دولوز ما لم نعرف القوة التي تمتلك هذا الشيء وتستغلّه، أو تستولي عليه وتعبّر عن نفسها فيه، «فالظاهرة ليست مظهرا، بل هي علامة تجد معناها في قوة حالية، فالفلسفة بكاملها علم أعراض (Symptomatologie) وسيميولوجيا (Sémiologie)»[17].
أي إن الظواهر هي العلامات والفلسفة هي سيميولوجيا، بل لا يكفي -حسب دولوز- أن تكون الفلسفة تشخيص أعراض وعلامات فقط، بل إن العلامات نفسها تحيل على أنماط حياة وإمكانات وجود، فالحياة متدفّقة ونابضة، أي «إذا كان الشيء هو علامة على نفسه وإذا كانت العلامة لا تنفصل عن وجودها، هذا يعني أن الكل حياة، الكل علامات»[18].
العلامة: ملاقــاة وإبداع
ما يبرّر اشتغال دولوز على مفكرين مغمورين، هو أنهم يُغيّرون من طبيعة صورة الفكر من خلال توجيه النقد لمسلّماتها التي لم يَطلْها النقد من قبل، حيث «يُشيِّد بروست صورة للفكر في الفلسفة، ينتقد ما هو جوهري في الفلسفة الكلاسيكية العقلانية، أي مفترضات هذه الفلسفة، حيث يفترض الفيلسوف وبِطيبة أن المفكّر يريد الحق ويحبه ويرغب فيه، ويبحث عنه بصورة طبيعية»[19].
فالعقل الخالص بالنسبة لبروست لا يميل بطبيعته نحو الحقيقي، ولا يتمتّع بإرادة للحقيقة بل يبحث عن الحقيقة بإصرار نتيجة موقف محدّد، أي حينما نتعرّض لنوع من العنف يدفعه نحو ذلك. «من الذي يبحث عن الحقيقة؟ الغيور، تحت ضغط أكاذيب المحبوب، فهناك دائمًا عنف علامة ترغمنا على البحث، وتحرمنا من الاستقرار. ذلك لأن الحقيقة غير قائمة بالتوافق، ولا بالإرادة الحسنة، لكنها تفضح نفسها عبر علامات لا إرادية... الشيء الوحيد العميق هو المعنى المغلّف، والذي تتضمّنه علامة خارجية»[20].
ورغم أن العلامات تتميّز بعضها عن بعض، إلَّا أنها هي ما يشكّل عناصر ومادة هذا العالم؛ لأن كل شيء منتظم ضمن العلامات تتمظهر في شكل أشخاص أو مواد، أو مواضيع، حيث لا يمكننا أن نكتشف أية حقيقة، ولا نستطيع تعلّم أي شيء، ما لم نفكّ رموز هذه العلامات والعمل على تأويلها.
وهنا يقلب بروست «ترتيب الانفعالات، فنحن عادة ما نعتبر الغيرة نتيجة سيئة للحب، أما بنظر بروست فإن الغيرة هي غاية ومقصد، فإذا كان الإنسان يضطر لأن يحب فذلك لكي يستطيع أن يكون غيورًا؛ إذ إن الغيرة هنا هي علم دلالات الأعراض»[21].
فالغيور يبحث مرغمًا ومجبرًا للقبض على علامة مرسومة على وجه المحبوب تكون حاسمة لتبيّن كذبه أو صدقه.
في عمله حول رواية مارسيل بروست «البحث عن الزمن الضائع» يولي دولوز أهمية للعلامة بدلًا من الكلمة، فالنص مليء بالكلمات وما يغيب هو العلامات؛ لذا يجب البحث عنها بغية تأويلها وتفسيرها، فالعلامات هي أكثر مرونة من الكلمات وهي ما يُمكّن من فتح النص على آفاق جديدة تظلّ الكلمات تعجز عن بلوغها، بل ينبغي التعلّم من العلامات، لأنها هي مدار الإبداع، حيث «لا يستطيع الإنسان أن يكون نجّارًا ما لم يكن له إحساس تجاه علامات الخشب، ولا يستطيع أن يكون طبيبًا ما لم يكن يملك إحساسًا بعلامات المرض، إن الموهبة استعداد أوّلي اتجاه العلامات»[22].
أي أن يكون حساسًا اتجاه العلامات، وهذا يقتضي وجود موهبة، أي أن تكون نجًارًا مبدعًا أو طبيبًا ماهرًا يجب أن تكون منفتحًا للقائها وعنفها وموهوبًا لتتقن تلقّي العلامات ومن ثمّة تأويلها، وبدون هذه اللقاءات تظلّ تلك الموهبة مدفونة في دواخل المرء تمنعه من أن يصير، أن يبدع، وعليه ينبغي للمرء تعميق هذه اللقاءات حتى لا يسقط في سهولة التعرّفات، «فنحن نتعرّف على الأشياء، لكننا لا نعرفها أبدًا Nous reconnaissons les choses, mais nous ne les connaissons jamais»[23].
إن ما يدفعنا للتفكير هو العلامة، والعلامة موضوع لقاء، والخاصية العابرة للقاء هي التي تضمّن ضرورة ما نفكّر به، فما «هو أكثر أهمية من الفكر هو ما يجعلنا نفكّر»[24].
وكذلك كانت قراءة دولوز لبروست بمثابة لقاء، وأحسن تلقّي، وميض علامة بروست الأديب الذي صار فيلسوفًا من خلال هذا اللقاء المبدع.
يعطينا دولوز مثالّا عن العنكبوت الذي وإن وضعنا أمامه ذبابة فهو لا يتفاعل معها ولا تتولّد لديه أيّة ردّة فعل، لكن ما أن تهتز زاوية صغيرة من نسيجه، حتى نرى جسده يتحرّك، فالعنكبوت لا يتمتّع بقوى إدراك ولا إحساس، بل كل ما في الأمر أنه يستجيب إلى الإشارات والإيماءات، وتلك فاعلية كل من يجد نفسه في تلك الحالة، حيث لا يمكنه سوى الردّ على الإشارات والإيماءات.
وضد «فكرة المنهج الفلسفية، يطرح بروست فكرة الإرغام (Le Contrainte) والصدفة، فالحقيقة هي نتاج لقاء مع شيء ما يرغمنا على التفكير، والبحث عمَّا هو حقيقي، فصدفة اللقاءات، وضغط الإرغام هما موضوعا بروست الهامان، والعلامة هي ما يشكّل موضوع اللقاء، وما يمارس علينا ذلك العنف، كذلك فإن صدفة اللقاء هي ما يضمن ضرورة ما يتمّ التفكير به»[25].
وهو يأتي صدفة ولا يمكن تجنّبه، إن الإنسان الذي يبحث عن الحقيقة لا يفعل ذلك إلَّا مرغمًا ومجبرًا، ولا يبحث عنها إلَّا من خلال لقاء ما، وارتباطها بعلامة ما، فما يسعى إليه هو: تأويل، فكّ رموز، ترجمة، ومن ثَمَّ العثور على معنى العلامة، فالعلامة حدث في العالم، وهي موضوع ملاقاة وليس تمثيلًا.
لذلك يبيّن لنا بروست سبب اندهاشنا من وقوع المثقفين في حب امرأة تافهة أو متواضعة، ذلك لأنها ثرية بما تحمله من علامات أكثر من المرأة المتوقّدة الذهن، عميقة التفكير، لأنها تعوّض عن قصورها الفكري ومستواها الضحل بالعلامات، والتي قد تفضحها أحيانًا رغم حرصها على تبيان تماسك مواقفها، حيث يتيح لنا لقاء هذه المرأة العودة إلى «أصل الإنسانية، تلك الأوقات التي تتغلّب فيها العلامات على المضمون الجلي والواضح، والهيروغلوفيات على الحروف»[26].
فهذا النوع من النساء لا يقدّم لنا شيئًا ولكنه لا يكفّ أن يومض بعلامات علينا فكّ رموزها، فعطر هذه المرأة نتلقاه بعيدًا عن قوانين المادة ومقولات العقل، لا نعود فيزيائيين ولا ميتافيزيقين؛ بل علينا أن نكون مفسّرين للكتابة المصرية القديمة، أي هيروغليفيين.
الثقافة كملاقاة للعلامة، كتعلّم، هي كذلك ما يخلّصنا من تاريخ الفلسفة لكي نكتب في الفلسفة، هذا التاريخ القمعي والشمولي، يجهد في سبيل أن يكون فكرنا منسجمًا مع ما يهتمّ به هذا التاريخ؛ كالأنساق الفلسفية الكبرى والمقولات الميتافيزيقية، المذاهب والأيديولوجيات... إلخ.
فمفهوم الثقافة لدى دولوز يحتلّ حيّزًا مهما في بنائه الفلسفي، الثقافة كملاقاة، الملاقاة بوصفها تعلّمًا وليس تعليمًا، فالعالم من حولنا يتقدّم إلينا في شكل علامات محملة بالعنف البري، العنف ليس من أجل الإضرار بنا، بل عنف في شكل إرغام، لملاقاة «العلامات وتعلّم ما تريد قوله من خلال التواصل والتثاقف معها بوصفها أحداث في العالم»[27]، وليس ماهيات كما يراها تاريخ الفلسفة، حيث يقول –حسب دولوز-: دعوني أفكر من أجلكم، من خلال قواعد وتقاليد وصور أمنحها لكم.
أن تكتب في الفلسفة؛ يعني هذا -حسب دولوز- أن تكون مُبدعُا، لا يعني هذا إبداع الأفكار الصحيحة، بل الأفكار الجديدة، حيث لا ينبغي أن نبحث عمَّا إذا كانت فكرة ما صحيحة أو خاطئة، بل ينبغي البحث عن الأفكار المختلفة والجديدة، كشيء يمرّ بين الاثنين لا يكون في الأولى ولا في الثانية[28].
وهذه الأفكار لن نتوصّل إليها في عزله ولا عن انفراد، ولا عن طريق التعرّف والحكم والقواعد والمنهج والتمثيل بل في التعلّم، في لقاءات، في صيرورات «إن المهم هو العثور والالتقاء وليس التقعيد التعرّف والحكم، ذلك لأن التعرّف هو عكس الالتقاء... من الأفضل أن يكون الإنسان كنّاسًا بدلًا من أن يكون قاضيًا»[29]. أن يكون متعلّمًا خير من أن يعطي دروسًا للناس.
فالعلامات هي مدار الإبداع لدى دولوز، فإن الإبداع هو حالة يشترك فيها كل حسب اختصاصه سواء كان المرء كاتبًا أو فنّانًا أو طبيبًا أو نجّارًا... إلخ، هذه الحالة تتعلّق بحسن تلقّي العلامة وفكّ رموزها، إن الإبداع هو مبرّر بقاء الفلسفة والفن ومقاومتهما لأشكال الفكر الأخرى التي تدّعي الإبداع، هو فكر الاختلاف ما يمكننا من تجاوز الميتافيزيقا عن طريق إثبات للحياة لا نفيها كما يقول نيتشه.
والثقافة عكس الطريقة والملاقاة عكس التمثّل، عنف يدفع الفكر لأن يفكّر تحت ضغط قوى الخارج وقوى الداخل (اللاوعي)؛ ذلك لأن الفكر لا يعارض الحياة، لا ينفيها بل يثبتها، الثقافة هي ما يجعل الفكر يتجاوز حدود الحياة، ويتوقّف عن عقلنة الحياة، بحيث لا تصير الحياة بمثابة ردّ للفعل، بل يغدو الفكر فاعلًا والحياة إثباتًا.
التفكير هو بالمحصلة بحث عن إمكانات جديدة للحياة، إبداعها اختراعها، اكتشافها، ليغدو الوجود ظاهرة جمالية وفنية «لقد وضعت فكرة الملاقاة جيل دولوز عند عتبة السيمياء كفعل وحركة وصيرورة من غير أي وسائط على طريقة فردناند دي سوسير، فلا اللغة ولا التمثيل كوسيط للمعرفة، ولا ثنائية الدال والمدلول كفيلة بملاقاة العلامات؛ ولذلك لا تبدو سيمياء دولوز في العلامات «معرفة» بقدر ما هي ثقافة يتعرّف إليها الإنسان من خلال علاقته بالأشياء...، ينظر إلى تلك الفراغات الموجودة في زخرف ما تناظر أشكاله على نحو متكرّر وهو يكرّس الاختلاف»[30].
واللغة حسب دولوز ليست صورة عن الأشياء، بل هي نفسها شيء من العالم وأشيائه، وكل هو عبارة عن سلسلة علامات؛ ليست اللغة دوالَّ، بل هي تنسيق أو تركيب أو توليف ظرفي يتحقّق بالأشياء، فهي ليست تماهٍ قبليٍّ بين الفكر والدوال، بل هما فقط تلاقٍ عابر وإلحاق ظرفي يتواطأ فيه المعنى مع العلامة لاصطناع «آلة مجرّدة» هي عينها اللغة، تكون العلامات موضوع ملاقاة تتحوّل فيها الذات نفسها بقدر تحوّل العلامة[31].
ويشير دولوز هنا إلى مارسيل بروست في استعارة الشحرية والنحلة البرية (La guêpe et l’orchidée) التي يبيّن من خلالها كيف تلاقي النحلة الوردة للبحث عن الرحيق فيما هي تعمل –دون أن تدري – على تلقيح هذه الوردة، أو ما يسمّيه الاقتناص المزدوج (Une double Capture).
بالنسبة لبروست -حسب دولوز- العلامات ليست وسائل لتمثيل الواقع بل كيانات تُعلّمنا شيئًا ما، فالبحث عن الزمن الضائع هو في الواقع بحث عن الحقيقة، فالحقيقة هي ما يتمّ البحث عنها سواء في الحب والطبيعة، أو الفن، «الفن هو عالم العلامات النهائي؛ حيث يحوي جميع العلامات الأخرى بما في ذلك عملية التعلّم»[32].
الحقيقة وليس اللذّة ما نبحث عنه، لذّة الوصول إلى الحقيقة، لذّة الغيور في فكّ طلاسم كذب محبوبه، وكشف حقيقته، أو لذّة المترجم في الوصول إلى ترجمة نصّ فلسفي بغض النظر عن رأيه في ذلك النصّ، هل يفرح بمحتواه أو يحزن؟.
في الفن يرى دولوز أن العلاقة بين الذات والموضوع علاقة تبادلية؛ حيث لا يستطيع الفنان أن يعبّر عن موضوع ما دون أن يدخل في علاقة مع هذا الموضوع فيما يشبه الصيرورة، التي ترى العالم في تغيّر مستمر، حيث يجب على الفنان أن يصير ذلك الموضوع الذي يعبّر عنه، وأن يصير هذا الأخير شيئًا أخر غير ما كان عليه، وذلك بفعل العلاقة التبادلية بينهما، «فليس الفن انعزالًا عن الواقع أو استدعاء لذكرى، بل هو نتاج احتكاك الفنان بالعالم، كما يترتّب على ذلك أيضًا، أن الفنان لا يختار موضوعاته بطريقة عشوائية، بل إن الأشياء ذاتها تسعى للفوز بنظرته، ثمّة تنافس بين الأشياء للدخول في العملية التعبيرية للفنان، واكتساب معنى جمالي. وهذا ما يفسّر لنا سرّ تعلّق بعض الفنانين بموضوعات خارجية معيّنة، تكون موضوعًا متكرّرًا لإبداعاتهم الفنية»[33].
والعمل الفني في النهاية ليس نتاج تمثيل، ولا فاعلية للذات السيدة العارفة، بل هو نتاج لقاء بينها وبين العلامة التي تومض من هذه الأشياء.
العلامة السينمائية
لم يقتصر اهتمام دولوز بالعلامات على دراسته حول بروست، بل امتد كذلك إلى مجال الفن من خلال السينما، فالعلامات السينمائية هي التي تُنبئ عن الشخصيات السينمائية سواء من خلال ملامحها أو طريقة تحرّكها أو حتى من اللباس وكذلك الديكور، فالفن هو النوع الأسمى من العلامات، كما يرى دولوز، وهو علم العلامات النهائي، فهو يؤثّر في جميع العلامات الأخرى الباقية، ويعطيها جمالية؛ «لذا تتوجّه جميع العلامات نحو الفن؛ وكذلك عملية التعلّم، بل هي كانت منذ البداية عمليات تعلّم لا واعية للفن نفسه، إن علامات الفن هي ما يشكّل الجوهري في ذلك»[34].
يعلن دولوز في بداية كتابه الاختلاف والتكرار، أنه حان الوقت لتأليف كتاب في الفلسفة كما كنا نفعل منذ زمن بعيد، وذلك خلال البحث عن طرائق جديدة للتفكير الفلسفي، هذا الدرب الذي سبق أن دشّنه نيتشه، يجب أن يتواصل مع تطوّر بعض الفنون الأخرى كالمسرح والسينما، «ما أثار اهتمامي في السينما هو أن الشاشة يمكن أن تكون دماغًا... وصورة خفية للفكر توحي عن طريق نموّها وتفرّعاتها وتحوّلاتها بضرورة خلق مفاهيم جديدة دائمًا، ليس هذا راجعًا إلى ضرورة خارجية، بل تبعًا لصيرورة صورة الفكر وإشكالياتها»[35].
فالسينما ليست مجرّد وسيلة للترفيه والتسلية، بل مصدر للمعرفة وأداة من أدوات الثقافة والمعرفة، تلعب دورًا في تشكيل ثقافة الفرد لا يقلّ أهمية عن الأدوار التي تلعبها الوسائل الأخرى التقليدية للمعرفة والثقافة، «فالصورة السينمائية علامة سيميائية بامتياز، وأيقون بصري ينقل الواقع حرفيًّا أو خياليًّا، ويعني هذا أن الصورة قد تكون متخيّلًا فنِّيًّا وجماليًّا، ومن ثَمَّ لا يتحقّق سيميوزيس الصورة السينمائية إلَّا بفعل التلقّي أو التقبُّل؛ لأن الراصد هو الذي يعيد بناء الصورة فيلميًّا، ويعطي للصورة المتلقاة دلالاتها الحقيقية أو المحتملة أو الممكنة... وعليه تتحوّل الصورة السينمائية إلى علامات لفظية وبصرية وأيقونية مختلفة، تنقل لنا العالم المرصود تعيينًا أو تضمينًا، وبالتالي تستلزم التفكيك والتركيب، في ضوء سياقاتها الداخلية من جهة، ومعطياتها الإحالة والمرجعية من جهة أخرى»[36].
ألّف دولوز كتابين حول السينما وهما: «سينما 1.. الصورة حركة» في 1983م، و«سينما 2.. الصورة زمنًا» في 1985م، ويعتبر الكتابان مهمين من حيث إنه لأول مرة يهتمّ فيلسوف بالسينما، ويخصّص لها دراسة منفردة بهذا الحجم.
لقد حاول دولوز تناول السينما من وجهة نظر فلسفية، لذلك أبدع المفاهيم المناسبة للحقل السينمائي بغية البحث عن صورة الفكر التي يشيّدها الفن السابع. فمع دولوز «يُدرس الفن كأفعال للظواهر التقنية والمادية، واللامتخيلة والاجتماعية، التي تتفاعل مع النماذج الذاتية الثقافية، إنه طريق خصب للفلسفة والفن معًا»[37].
لكن دولوز في دراسته عن السينما لا يسعى إلى التفكير بدلًا عنها، ولا البحث في طرق اشتغالها وعملها، ولا التاريخ لها حسب قوله: «ليست هذه الدراسة تاريخًا للسينما، إنها عملية تبويب صورٍ وإشارات ومحاولة لتصنيفها»[38]، بل العمل من خلال الاستقلال عنها والبحث عن المفاهيم التي تقارب التجربة السينمائية، وتراعي خصوصيتها واتّساع مجالها.
هذه المفاهيم ليست جاهزة هناك في انتظارنا، بل يجب نحتها وإبداعها، حيث يعارض التحليل النفسي واللسانيات، وكل نظرية جاهزة للتطبيق على التجربة السينمائية، فهي أوسع من أن يحتويها أي فرع معرفي أو فني، ذلك أنه –حسب دولوز- أن نفهم مفهومًا ليس أكثر ولا أقل سهولة من أن نشاهد فيلمًا، حيث إن «السينما تخلق فِينا إمكانية التفكير وتعطينا الفرصة لذلك، وتضع تفكيرنا في حالة ارتجاج واهتزاز، يسمّيها دولوز بـ: (noochoc)، السينما مختلفة عن الفنون الأخرى خاصة حينما تضع تفكيرنا في حركة عن طريق الصورة - حركة، ذلك أنها عكس فن الرسم الذي يعطينا صورًا بدون حركة وعلى الروح أن تضيف لها الحركة»[39].
السينما اليوم أصبحت لا تنافس أشكال الفن الأخرى ومصادر المعلومات فقط، بل هي كذلك تعمل على تغيير الواقع وخلق أوضاع جديدة، فكثير من الحروب التي وقعت في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين، هي محاكاة، بل إعادة إنتاج لأعمال سينمائية سابقة، إن «السينما في عصر ما بعد الحداثة لم تعد تتّخذ من التعبير عن الواقع هدفًا لها، بل استبدلته بمبدأ خلق عالم من الصور لم نشاهده في أي واقع»[40].
ثم يعيد السياسيون إخراج هذا العالم الافتراضي من الصور، يعيدونه بشكل راهن، نلاحظ ذلك في الأفلام التي سبقت حرب الخليج الثانية وكذلك أحداث سبتمبر 2001م، وكذلك ما تشهده شبكة الإعلام الآلي اليوم، «فالإنترنيت تمكّن من اكتشاف إبداعات فنية افتراضية ولكن ذات فعالية واقعية»[41].
والفنّ ينتج بشكل خاص، تأثيرات حقيقية، وليست مُتخَيَّلَة فقط؛ لذلك «فإن الصورة ليست معطى ذهنيًّا فقط، بل واقع موجود»[42].
لذلك فالفنانون السينمائيون هم مفكرون كبار، مبدعون عظماء من خلال إبداعهم للصور السينمائية، هاته الصور تعبّر عن الأفكار وإن كانت في صورة مشاهد وألوان وخطوط رسم وأصوات موسيقية، «لقد بدا لنا أن كبار كتّاب السينما يمكن مقارنتهم لا بالرسامين والمعماريين والموسيقيين فحسب، بل بالمفكّرين أيضًا، ذلك أنهم يفكّرون من خلال الصور/ الحركة والصورة/ الزمن، بدل أن يسوقوا المفاهيم، فليست السينما أقل إسهامًا في تاريخ الفن والفكر، وفي ظلّ الأشكال المستقلّة الفريدة التي استحدثها هؤلاء السينمائيون ونشروها على الرغم من جميع العقبات»[43].
وهم يقدّمون كذلك عبر السينما وسائل فريدة وجديدة للتعبير، كطريقة مُبتكرة في التفكير، فإذا كان السينمائيون يفكّرون عبر الصور، فإنه على الفلاسفة أن يبحثوا عن المفاهيم المناسبة لهذا الفكر السينمائي، ما يحاوله ليس البحث عن الصور التي يبدعها الفن السينمائي، بل جعلها تتكلّم عن نفسها، كطريقة جديدة في التفكير.
فلسفة السينما لدى دولوز «تتضمّن الحركة كواقع ذهني والصورة كواقع فيزيائي، هذا ما يجعل السينما كفن خاص بعصرنا هي الأجدر على مراقبة العلاقات والتحوّلات والحركات التي تَسِم عصرنا الراهن، الصورة ليست مسندًا، بل علاقة قوى وأفعال وتفاعلات، هي بالضرورة مجموع، لا توجد صورة معزولة وحيدة، لأنها في علاقة قوى، هناك دومًا مجموع أو متعدّد، تعدّديات للصور»[44].
السيميوطيقا: منطق السينما
يرى دولوز أن اللسانيات وسائر العلوم الأخرى غير كافية، وغير مناسبة لدراسة للفن السينمائي، من هنا أهمية منطق بيرس[45] وتصنيفه للعلامات الذي كان مستقلًّا عن النموذج الألسني، حيث عمل دولوز على إيجاد منطق للسينما اعتمادًا عليه، «بهذا المعنى حاولت أن أؤلف منطقًا، منطقًا للسينما»[46].
ذلك أن دولوز يجعل من علم العلامات -اعتمادًا على بيرس- ميدانًا أكثر اتّساعًا يستوعب ما هو سينمائي دون ردّه إلى ما هو لغوي، انطلاقًا من أن السينما تعمل من خلال مفاهيم تتجاوز حدود اللغة.
ولا يعنى هذا أن التحليل اللغوي قد فشل أو عجز في تطبيق منهجه على الأفلام، فقد قدّم ميتز ولوتمان تحليلات دقيقة للعديد من الأفلام، لكنهم في الوقت الذي فعلوا فيه هذا جرّدوا السينما من خصائصها الفريدة، وتعاملوا معها بأسلوب كمّي مجرّد، في حين أن الحركة والزمن يتجاوزان ما هو لغوي وما هو كمّي[47].
فالإبداع هو الذي يمكّننا من البحث عن النشاط الفكري في الفلسفة والفن والالتقاءات الممكنة بينهما، وهما بصدد الانفتاح على التجارب الحيوية الإنسانية من خلال تناول أنواع التفكير والفنون التي ظلّت مهمّشة ومقصية من التناول النظري.
فالفنان والفيلسوف يمنحان التعبير لمن لا يملك القدرة على ذلك، فالذهاب إلى السينما أو قاعات عرض الرسومات الفنية هو لحظة حاسمة من أجل لقاء مفهوم معيّن، يكون نتيجة لقاء مع الأشياء وليس مع الأشخاص؛ لقاء مع لوحة فنية أو فيلم سينمائي أو مقطوعة موسيقية، وهذا ما مكّن دولوز في النهاية من الخروج عن الفلسفة بواسطة اللقاء مع اللافلسفي.
على أن بعض ممّن لهم موقف مناهض لعلاقة الفلسفة بالسينما، يرجعون موقفهم هذا إلى أن التدخّل الفلسفي في العمل السينمائي، ربما يؤدّي إلى إفساد عملية التلقّي الجمالي للصورة السينمائية، ويحصر الفيلم في مجرّد مضمون، يحاول من لهم توجّه فلسفي، طبعه بالصبغة الفلسفية.
وهذا يشكّل مصدر قلق للسينمائيين خاصة وأن «الفن ليس جعبة لعرض الأفكار كما يقول ميرلوبونتي[48]، لأنه كان يكفي السينما حينها الاقتصار على السيناريو المكتوب وتوفير الميزانيات الضخمة للتصوير.
لكن فهم الفيلم -كما يرى محمد اشويكة- لا يتمّ عبر المكتوب بالضرورة، بل عبر المشاهدة، وأن العلاقة بين المجالين تكمن أساسًا في تجسيد المفكّر فيه على الشاشة، أي في الانتقال من الفكرة إلى الصورة.
فالفلسفة تسعى إلى استيعاب العالم عبر اللغة، والسينما من خلال الصورة، ويضيف محمد اشويكة: إن السينما هي مجال للفكر، وليس للتسلية، وهو ما يدفع كبار الفلاسفة إلى جعل التصوير مجالًا لخطاب التفكير، لأن السينما مارست برأيه نوعًا من التفكير الفلسفي داخل السينما ذاتها، مستدلًّا على ذلك بفيلم «الأزمنة الحديثة» لشارلي شابلان، الذي قدّم طرحًا فلسفيًّا للواقع الرأسمالي الجديد بُعيد الحرب العالمية الأولى، والأزمة الاقتصادية الكبرى، موضّحًا أن السينما استطاعت أن تترجم أسئلة العالم على الشاشة[49].
خاتمة
يرى دولوز أنه ليس مثقّفًا حيث لا يملك ثقافة جاهزة، فهو يرفض، بل يشعر بالذعر من كلمة مثقّف لأنها تحيل إلى إنسان بإمكانه التكلّم في كل الشيء وتوجيه الناس نحو الصحيح من الأمور، وهذا ما يرفضه؛ لأن ما يكتبه يكون نتيجة لضرورة راهنة.
وإذا عاد إلى الأمر نفسه يتعلّمه من جديد، كمثقّف خالص بالنسبة له هو مارسيل بروست، هذا الأخير يدعونا إلى التعامل مع كتبه مثل النظرات المصوّبة إلى الخارج فإذا لم تساعدنا، علينا استعمال نظرات أخرى؛ أي علينا أن نجد بأنفسنا عدّتنا، حيث «تقاس قوّة فلسفة ما بالتصوّرات التي تخلقها أو تجدّد معناها والتي تفرض تقطيعًا جديدًا للأشياء والأفعال، ويتّفق أن يستدعي الزمن هذه التصوّرات وأن تكون مشحونة بمعنى جماعي مطابق لمقتضيات عصر، وأن يكتشفها أو يخلقها أو يعيد خلقها عدة مؤلّفين في وقت واحد... وهو يستلزم إعادة اكتشاف الطبيعة وقوّتها، إعادة خلق للمنطق والأنطولوجيا»[50]. مثلما كان سارتر هواءً صافيًا وليس مثالًا ومنهجًا أو نموذجًا، تيار هواء يغيّر بالخصوص من وضعية المثقف.
فنحن نكتب –حسب دولوز- دائمًا لنحرّر الحياة من سجنها، كتابة تتعامل مع الحروف باعتبارها امتدادًا للرموز؛ حيث لا وجود للوغوس، كل ما هناك هو هيروغلوفيات، علامات، تستدعي صدفة اللقاءات وضرورة التفكير، فللحياة قوّتها وحيويتها تتمظهر في أي عمل فكري وفني كالرسم والموسيقى والأدب، تتقدّم إلينا في شكل علامات، بل أحداث.
لذلك تكون الكتابة بصفتها تدفّقًا (Flux)، وليس باعتبارها شفرة (code) تحرّر الحياة ممّا يسجنها، وتفُكّ القيود التي تأسر قوّة الإبداع والحيوية، ذلك ما فعله بروست[51]، من خلال معارضة الفلسفة بالفكر والمراقبة، وبالحيوية والتأمّل بالترجمة والكلمات بالأسماء، والدلائل المكشوفة بالعلامات الضمنية، والاستعمال المنطقي والمترابط لجميع ملكاتنا بشكل لا منطقي، ولا ترابطي يظهر وكأننا لا نتمتّع بكل ملكاتنا في وقت واحد بل تتدخّل الموهبة في النهاية دائمًا؛ أي الإبداع.
[1] ميشال فوكو، نظام الخطاب، ترجمة: محمد سبيلا، بيروت: دار التنوير، ط 1، 1984، ص46.
[2] جيل دولوز - كلير بارني، حوارات في الفلسفة والأدب والتحليل النفسي والسياسة، ترجمة: عبد الحي أزرقان وأحمد العلمي، الدار البيضاء - المغرب: إفريقيا الشرق، 1999، ص 22.
[3] جيل دولوز، سينما الصورة - الحركة، ترجمة: جمال شحيد، بيروت - لبنان: المنظمة العربية للترجمة، ط 1، 2014، ج 1، ص 125.
[4] Gilles Deleuze:L’ile déserte et autre textes. Textes et entretiens 1953-1974. (Édition et préparée par David Lapoujade, éditions de Minuit. Paris, 2002. P191.
[5] ميشال فوكو، الكلمات والأشياء، ترجمة: مطاع صفدي وسالم يفوت وآخرون، بيروت - لبنان: مركز الإنماء القومي، (د ط)، 1990.ص 259.
[6] مهيبل عمر، الخطاب الفلسفي للحداثة، مجلة اللغة والأدب، جامعة الجزائر، العدد 10، ديسمبر 1996. ص50.
[7] ذكره: السيد ولد أباه، الحقيقة والتاريخ لدى ميشال فوكو، بيروت: دار المنتخب، ط1، 1994، ص 18.
[8] البعزازي بشير، الفرق والإبداع في الكتابة الدولوزية: من صورة الفكر إلى فكر بدون صورة، ضمن: جيل دولوز، سياسات الرغبة، سلسلة أوراق فلسفية، الفكر المعاصر، بيروت: دار الفارابي، ط1.2011م ص ص:333-334.
[9] جيل دولوز وكليربارني، حوارات في الفلسفة والأدب والتحليل النفسي والسياسة، مصدر سابق، ص35.
[10] ديونيزوس وأبولون (Apollon) (Dionysos) إلهين في الميثولوجيا اليونانية.
[11] جيل دولوز، الاختلاف والتكرار، ترجمة: وفاء شعبان، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2009، ص486.
[12] جيل دولوز، نيتشه والفلسفة، ترجمة: أسامة الحاج، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط 1، 1993، ص138.
[13] جيل دولوز، نيتشه والفلسفة، مصدر سابق، ص 133.
[14] جيل دولوز، الاختلاف والتكرار، مصدر سابق، ص 327-325.
[15] جيل دولوز، نيتشه والفلسفة، مصدر سابق، ص ص138-139.
[16] مانع فيليب، جيل دولوز أو نسق المتعدّد، ترجمة: عبد العزيز بن عرفة، دمشق - بيروت: مركز الإنماء الحضاري، ط1، 2002، ص178.
[17] جيل دولوز، نيتشه والفلسفة، مصدر سابق، ص 07.
[18] Gilles Deleuze:Immanence et Vie.in revu Rue Descartes, éd P.U.F,.Paris 1ere édition, 1998. P. 33.
[19] Gilles Deleuze: Proust et Les Signes, 3ème éditions, Quadrige- P.U.F, Paris, 2006. P. 115.
[20] Gilles Deleuze: Proust et Les Signes Op.cit, P-P:25. 23.24.
[21] بوعلي خميس، جيل دولوز، صورة الفيلسوف، بيروت: منشورات ضفاف، دار الأمان، منشورات الاختلاف، ط 1، 2014، ص 264.
[22] Gilles Deleuze: Proust et Les Signes Op.cit, P.10
[23] Ibid., P.37
[24] Ibid. P.118 - 41
[25] Ibid., P.25.
[26] Gilles Deleuze: Proust et Les Signes Op.cit, P.25
[27] رسول محمد رسول، ملاقاة العلامة قراءة في سيميائيات جيل دولوز، مجلة الكوفة، جامعة الكوفة، العراق، العدد الأول، السنة الثانية، شتاء، ص، ص 139.
[28] جيل دولوز وكليربارني، حوارات في الفلسفة والأدب والتحليل النفسي والسياسة، مصدر سابق، ص19.
[29] المصدر نفسه، ص 18.
[30] رسول محمد رسول، ملاقاة العلامة. مرجع سابق، ص 142.
[31] حدجامي عادل، فلسفة جيل دولوز عن الوجود والاختلاف، الدار البيضاء - المغرب: دار توبقال للنشر، ط 1، 2012، ص 237-240.
[32] Gilles Deleuze: Proust et Les Signes ,Op.cit,P21 - 22.
[33] بدر الدين مصطفى أحمد، دولوز الفن صيرورة وإبداع للحياة، ضمن: جيل دولوز، سياسات الرغبة، سلسلة أوراق فلسفية، بيروت - لبنان: الفكر المعاصر، دار الفارابي، ط1، 2011م، ص 227.
[34] Gilles Deleuze: Proust et Les Signes, Op.cit,PP:21 - 22.
[35] Gilles Deleuze: Pourparlers.1972 - 1990, éditions Minuit, Paris, 2003, P.205.
[36] جميل حمداوي، سيميوطيقا الصورة السينمائية:
mail.almothaqaf.com/index.php/qadaya2014/884309.htm
[37] Anne Sauvagnargues: Deleuze et L’Art, éditions, Puf, Paris,2009,P. 268.
[38] جيل دولوز، سينما الصورة - الحركة، مرجع سابق، ج 1، ص 13.
[39] Hème De Lacotte Suzanna: Deleuze: philosophie et Cinéma. Éditions L’Harmattan, Paris, 2001.P.71.
[40] مبارك سلمى، من الحداثة إلى ما بعد الحداثة في السينما، مجلة أوراق فلسفية، العدد 15، 2006، ص246.
[41] Antonioli Manola: Géophilosophie de Deleuze et Guattari. Éditions Harmattan. Paris.2003.P, Op cit,P 178.
[42] Anne Sauvagnargues: Deleuze et L’Art, Op cit,P.88.
[43] جيل دولوز، سينما الصورة - الحركة، مرجع سابق، ج 1، ص04.
[44] Anne Sauvagnargues: Cinéma, in Aux Sources de la Pensée de Gilles Deleuze.2005.PP:46 - 47.
[45] شارل ساندز پيرس Charles Sanders Peirce (1339-1914) سيميائي وفيلسوف أمريكي.
[46] Gilles Deleuze: Pourparlers ,Op.cit,P.68.
[47] بدر الدين مصطفى، التعبير السينمائي تعبير أوّلي سابق على التعبير اللغوي:
life-in-cinema.blogspot.com/2010/07/blog-post
[48] بدر الدين مصطفى، حالة ما بعد الحداثة: الفلسفة والفن، القاهرة: الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2013، ص 175.
[49] انظر أعمال ندوة: الفلسفة والسينما: أية علاقة؟، المنظمة من طرف: مجموعة البحث في تحليل الخطاب ومختبر الفلسفة والشأن العام المنتميين لكلية الآداب بنمسيك بتعاون مع مؤسسة عبد العزيز آل سعود للدراسات الإسلامية والعلوم الإنسانية بمقرّ هذه الأخيرة في الدار البيضاء.
www.qabaqaosayn.com29 mai 2014
[50] جيل دولوز، سبينوزا والتعبير، ترجمة: أنطوان حمصي، دمشق - سوريا: أطلس للنشر والتوزيع، ط 1، 2004،ص 269.
[51] Gilles Deleuze: Pourparlers ,Op.cit,P P.128 - 129.
شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
يحاول الكاتب محمد محفوظ في 166 صفحة أن بضيئ الحديث عن السلم الأهلي والمجتمعي، في الدائرة العربية والإسلامية، بحيث تكون هذه المسألة حقيقة من حقائق الواقع السياسي والإجتماعي والثقافي، وثابتة من ثوابت تاريخنا الراهن.
ينتمي مالك بن نبي وعبدالله شريط إلى بلد عربي إسلامي عانى من ويلات الاستعمار ما لم يعانه بلد آخر، سواء في طول الأمد أو حدة الصراع أو عمق الأثر. إنهما مثقفان عميقا الثقافة، مرهفا الشعور، شديدا الحساسية للمعاناة التي عاشها ملايين الجزائريين من ضحايا مدنية القرن العشرين، بأهدافها المنحطة وغاياتها الدنيئة.
عقد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات خلال الفترة الواقعة بين 6 و 8 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2012، مؤتمرًا أكاديميًّا عنوانه «الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي: تجارب واتّجاهات»، في فندق شيراتون بالدوحة، وشهد الافتتاح حشدًا كبيرًا من الباحثين والأكاديميّين من دول عربية.
يأتي الاهتمام بالقضية الفنية في فكر الأستاذ عبدالسلام ياسين من منطلق أن الوجود الحضاري للأمة كما يتأسس على أسس القوة المادية التي يمليها منطق التدافع القرآني أي التدافع الجدلي بين الخير والشر الذي هو أصل التقدم والحركة، يتأسس كذلك على جناح تلبية الحاجات النفسية والذوقية والجمالية بمقتضى الإيمان الذي هو ...
ثمة مضامين ثقافية ومعرفية كبرى، تختزنها حياة وسيرة ومسيرة رجال الإصلاح والفكر في الأمة، ولا يمكن تظهير هذه المضامين والكنوز إلَّا بقراءة تجاربهم، ودراسة أفكارهم ونتاجهم الفكري والمعرفي، والاطِّلاع التفصيلي على جهودهم الإصلاحية في حقول الحياة المختلفة
لا شك في أن الظاهرة الإسلامية الحديثة (جماعات وتيارات، شخصيات ومؤسسات) أضحت من الحقائق الثابتة في المشهد السياسي والثقافي والاجتماعي في المنطقة العربية، بحيث من الصعوبة تجاوز هذه الحقيقة أو التغافل عن مقتضياتها ومتطلباتها.. بل إننا نستطيع القول: إن المنطقة العربية دخلت في الكثير من المآزق والتوترات بفعل عملية الإقصاء والنبذ الذي تعرَّضت إليه هذه التيارات، مما وسَّع الفجوة بين المؤسسة الرسمية والمجتمع وفعالياته السياسية والمدنية..
لم يكن حظ الفلسفة من التأليف شبيهاً بغيرها من المعارف والعلوم في تراثنا المدون بالعربية، الذي تنعقد الريادة فيه إلى علوم التفسير وعلوم القرآن والحديث والفقه وأصوله، واللغة العربية وآدابها، وعلم الكلام وغيرها. بينما لا نعثر بالكم نفسه على مدونات مستقلة تعنى بالفلسفة وقضاياها في فترات التدوين قديماً وبالأخص حديثاً؛ إذ تعد الكتابات والمؤلفات في مجال الفلسفة، ضئيلة ومحدودة جدًّا، يسهل عدها وحصرها والإحاطة بها.