تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

رؤى مستقبلية

هشام الميلودي

الانفجار العظيم -Big Bong- يعتبر الزمن نتيجة لتمدد الكون الناتج عن هذا الانفجار، أي أنه بمقدار اتساع الكون ينشأ المكان بدلالة الزمن في ترابط متين إذ لا يمكن إدراك أحدهما دون الآخر، وبما أن للزمن بداية فحتماً له نهاية وهو ما تؤكده النظريات العلمية في علم الفلك التي ذهبت إلى أن الرقم ستة آلاف عام تنتهي عنده الحركة التمددية للكون ليتفضل راجعاً في حركة إنطوائية تطوي معها المكان والزمان {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ}.

وقد أدرك الإنسان منذ القدم الزمن كمحدد لوجوده ومكون لفعله الحضاري كما شعر بتأثيره العجيب وقوته الرهيبة التي تهدده بالفناء، مما يجعله يلجأ إلى المكان ليخط ويحفر فيه آثاره للمستقبل، وسعى في محاولة للتحكم فيه من خلال طقوس دينية تعلو به فوق الزمان والمكان معاً، ثم عن طريق ابتكار وسائل لقياس الوقت وتقسيمه إلى أجزاء متقايسة للحد من اتصاله وجبروته، هذا الإجراء الوقائي منح للزمان إطلاقية جعلت الماضي والمستقبل متطابقان، ويمكن القول: إن الدافع وراء استشراف المستقبل لم يكن الفضول وراءه، بقدر ما كان الخوف والرهبة -يتحدث الفيلسوف إيكو عن الخوف الميتافيزيقي- لهذا فإن الأساطير اليونانية كانت >تؤرخ< للمستقبل لا للماضي، فالأهلة لا تموت.

إن سلطة الزمن أو لنقل سلطة المستقبل هي التي منحت للشاعر ومشعوذ القبيلة مكانة الحامي، وضامن الأمن لها.

إن من يتنبأ بالمستقبل يستطيع التحكم فيه ومواجهته، فَمِنْ هو موريس وجاجامش إلى معبد دلفي باليونان ومروراً بيوتوبيامور وأطلنطا بيكون، حتى الاتحاد الدولي للدراسات المستقبلية بنيويورك، فقد كان شغل الإنسان هو توتره الدائم لمعرفة >أحداث المستقبل<، لكن كيف انخرط الإنسان في المستقبل ولم يستكنه مفهوم الزمن نفسه؟

من الفيزياء الكلاسيكية مع نيوتن ظل الزمن كائناً موضوعياً يتطابق فيه الحاضر والماضي والمستقبل، ويجري بسرعة ثابتة وكونية، بمعنى آخر: إن الزمن هو عنصر محايد إلى أن جاءت النسبية وعصفت بإطلاقيته، فظهر مفهوم جديد جمع بين الزمان والمكان Espace -Temps، وأدمجه في وحدة زمكانية: إنها مصالحة البنية والتاريخ فزيائياً.

وهكذا كان للمفهوم الجديد عن الزمن الدور الأساسي في ثورة علمية لا زلنا نشاهد آثارها إلى اليوم، بل إن التسارع التاريخي الذي نعيشه ما هو إلا نتيجة لتمكن الإنسان من ضغط الوقت إلى آلاف وملايير الأجزاء من الثانية كما هو الحال مع وحدة الفيموثانية، مما فتح الباب أمام الاحتمالات الموسومة بلا يقينية حتمية والتي ستكون علامة القرن الواحد والعشرين، كما قال حائز جائزة نوبل للكمياء إيليا بريجوجين، وأضاف بأنه ليس للزمن مستقبل، بل مستقبلات لأن الطبعة اليوم أصبحت هي التاريخ.

فأي مفهوم للتاريخ وللوقت في ظل هذه الثورة المعرفية؟

إن رهانات هذه الثورة المعرفية تعتبر حاسمة للعلوم >الحقة<، كما للعلوم الإنسانية، ويلخص بريجوجين هذه الوضعية بقوله: >كيف سيكون القرن الحادي والعشرين؟ أي مستقبل للمستقبل؟... مع نظرية الاحتمالات ستدخل المستقبلات المتعددة واللايقين إلى العلوم المجهرية نفسها، إننا ننتقل من عالم اليقين إلى عالم الاحتمالات، وبما أن الماضي يستحيل أن يكون حاضراً أو مستقبلاً، فإن المستقبل يتحول بطبيعته إلى حاضر وماض، وليست مصادفة أن تكون نظرية الفوضى هي آخر ما تفتق عنه العقل الرياضي. وبما أن الحديث أصبح عن المستقبلات بدلاً من المستقبل، فإن أية عملية استشراف للمستقبل لا يمكن لها الاستغناء عن فريق متعدد الاختصاصات، فلم يعد هناك مكان لنوستراداموس في زمان تتداخل فيه مناحي الحياة، فدمج السياسة بالاقتصاد، وهذا الأخير بالإعلام، قد جعل دفة التوقعات تتجه إلى مجالات وعلوم يمكن اعتبارها بمثابة لوحة القيادة لعالم الغد، ولهذا نصادف ذلك التلازم بين تطور العلوم والمستقبل، فهذا الأخير كثيراً ما فاجأ حتى متتبعي أفلام الخيال العلمي الذي فاقت توقعاته ورحابة خياله شارع التاريخ، ولا أدل على ذلك من تسمية التقدم الذي تعرفه المجالات العلمية بالثورات، الثورة المعلوماتية وأختها الجينية، ولارتباطهما بالبنيات الاجتماعية والمفاهيم الجديدة التي تنتج عنها، وسنحاول في ورقتنا هاته استشراف مستقبلات البشرية.

? ثورة المعلومات والمشهد الحضاري

لم يتصور كل من أرفين وهايزنيرج أستما أنهما باكتشاف نظرية الكم سيساهمان في أكبر ثورة للاتصالات ستعرفها البشرية، وذلك بعد استغلال الليزر في طريق المعلومات السريع باستعمال ميكانيكا الكم.

يعتبر التواصل سمة ملازمة للاجتماع الإنساني بل ولكل أشكال الحياة، فلا وجود بدون تواصل وإن اختلفت درجة هذا الأخير، فإذا كان الألمان يختلفون في وسيلة التواصل الأولى: هل هي الكتابة أم الصوت؟ فإن هناك إجماعاً على أن الإنسان منذ أن أدرك وجوده في العالم سعى إلى التواصل مع كل أشكال الحياة، سواء عبر اللغة مع أبناء جنسه أو مع الطبيعة عبر لغة التارو الطقوسية، فسعى إلى تطوير وسائله لتصبح أكثر فعالية: والفعالية في التواصل تعني السرعة.

أدى تطور وسائل الاتصال منذ القرن 19 إلى تصاعد عملية الأجرأة والتقسيم لعملية التواصل، انتهت في منتصف القرن العشرين إلى ظهور مفهوم المعلومة ووسائل معالجتها أو ما يسمى بتقانة المعلومات التي كان تاريخ 1948 -حين ظهر أول كمبيوتر- الانطلاقة الحقيقية لها وبسرعة هائلة توالت الأجيال اللاحقة للحواسيب. غير أن استخدام الدارات المتكاملة -Circuits intégrées- شكل نقلة نوعية وبداية صفحة جديدة في تاريخ المعلومات حين حلت شريحة سيليكون واحدة محل العديد من العناصر الإلكترونية، وأصبح تقدم الدول يقاس بعدد أودية السيليكون (Silcon Vally). لكن ربما أن الاختفاء ينجم أساساً عن نفسية البشر كما يقول مارك فايزر الرئيس الأسبق لمختبر علم الكومبيوتر في مركز آلتو، وأن الإنسان كلما تعلم شيئاً جديداً فإنه يتوقف عن الإحساس به، فقد أصبح الشق الذهني-Softwore- والبرمجيات هي السمة الأساسية لتقنيات المعلومكات على حساب الشق المادي Hordwore.

تتفق كل التوقعات على أن الانفجار المستقبلي سيكون في تكنولوجيتين رئيسيتين هما: >تكنولوجيا< الـ(د.ن.أ) والحاسوب اللذان تتضاعف قدرتهما كل عامين تقريباً وفق قانون مور الذي يكمن سره في كيفية عمل الترانزستور الذي يتحكم في تدفق الكهرباء (نظرية الكم حاضرة هنا)، وقد أدرك المهندسون أن قدرة الحاسوب تزداد بسرعة هائلة في الوقت الذي يتناقص فيه حجم الشرائح الإلكترونية المكونة له، وهو ما يعرف عند الاقتصاديين بتناقص المادة، فتوقع خبراء مركز آلتو في السبعينيات أن تصل نسبة الحواسيب إلى واحد لواحد، وبعد أن كانت عملية تشغيل حاسوب بحجم عمارة بمانهاتن شاقة، أمكن للأطفال تشغيله والدخول في رحلة ممتعة وثيرة. واستعارت شركة آبل فكرة الحاسوب الشخصي إلى أن انتهت مايكروسوفت لتصميم برامج النوافذ لتقود الحقبة الجديدة وتسبب في إفلاس ديناصورات عملاقة كـ أ.ب.م وشركة وانج التي ظنت أنها مجرد موضة عابرة، ودخل الحاسوب عصر الاستهلاك الواسع ومن طور لآخر لا تتغير في الحاسوب تصاميمه ولا بناه، ويعتقد العلماء أن الطور الرابع من الحواسيب ستدشنه بنى جديدة ستحمل معها نهاية سيطرة السيليكون. ولفهم قدرة هذه التحولات على تغيير وجه العالم الذي نعيش فيه، فإن رؤية تجمع بين قوانين الفيزياء والاقتصاد كفيلة بتغيير عاداتنا ومعداتنا وطريقة عيشنا التي ستتحكم فيها الشرائح الدقيقة التي ستدخل في كل البضائع، لتجعل من بيئتنا بيئة إلكترونية تعج بالبطاقات الذكية والمنازل والمكاتب والطاولات التي تحتوي على شرائح حاسوب كامل، وبدلاً من تبادل بطاقات العمل يكفي مصافحة الشخص لنقل كل المعلومات، ولأن الجلد مالح وناقل للكهرباء، وبذا ندخل عهد المواطنين السبرانيين -Cybumon-.

إن صعود الإنسان للقمر سُمِّي فتحاً واستكشافاً ووصفه أمسترونغ بأنه خطوة كبرى في تاريخ الإنسانية، والفتح هنا يعني التحكم، غير أنه بعد عشرين سنة من هذه >الخطوة الكبرى<، تبين أن الإنسان لا يسعه سوى سطح الأرض، وأن أجمل هدية حملها أمسترونغ من القمر كانت صورة الكوكب الأزرق كان أزرق صغيراً أيضاً، لكن طموح الإنسان لعالم لا متناهٍ جعله يحاكي عملية الانتقال في الزمان والمكان لإعادة خلق عوالم غير موجودة ضمن ذاكرة الكومبيوتر فاتحاً مجالات أخرى للعلم، فلقد وصفت الطبيعة منذ نيوتن بمعدلات تفاضلية إلا أن تماثل هذه المعادلات مع أجهزة الحاسوب، جعل من الواقع الافتراضي أداة عملية قوية وخلق نوعاً جديداً من العلم هو >العلم السبراني< الذي يعطينا القدرة على محاكاة أنظمة فزيائية معقدة كالمناخ والثقوب السوداء والطائرات بدقة متناهية.

ويلخص المستقبليون في معهد التكنولوجيا في معهد ماساشوستس أن الانتقال إلى اقتصاد المعلومات هو مثل الفرق بين الذرات والبيتات Bits (وحدة معلومات)، وبما أنه من الصعب تحريك الذرات، فإنهم يزعمون أن المستقبل سيكون محكوما بالبيتات التي ترسل من دون جهد في الأسلاك والكابلات بسرعة قريبة من الضوء ليتنحى عصر الذرات أمام عصر المعلومات والفضاء السبراني.

لكن إلى أي حد استطاعت شبكة المعلومات أن تفي بوعودها البراقة التي بترت بعصر برومثيوس المعلومات والعهد الأثيني الجديد للديموقراطية؟

لا شك أن المفهوم المركزي في ثورة الاتصالات -كما قال الفيلسوف دينيس ديكلو- هو الشبكة، فالفريسة قد سقطت بها ويكفي التقاطها، كما أن مجتمع المعرفة هو الشعار المفضل لتسويق الشبكة العنكبوتية،.

ثم هل نجحت الإنترنت في تحقيق التواصل بين أفراد المجتمع الواحد وبين الثقافات؟

إن المتتبع لصيرورة التطور الاقتصادي في الغرب سيقف على ظاهرة الرأسمالية التي اكتسحت كل مناحي الحياة، ودفعت بعجلة العولمة إلى أقصى سرعتها، ومن بين أهم خصائص هذه الثورة الاقتصادية عمليات الإدماج التي تعرفها الشركات على مستوى البورصات والأسواق المالية -Tare over- وتؤدي إلى احتكار القرارات على مستوى المساهمين، وهو وضع أثر على اقتصاد المعلومات، حيث تركزت شركات الإنترنت وكذا وسائل الإعلام في أيدي أقلية من مالكي الأسهم، فتتقلص بذلك دائرة الذين يملكون المعلومة، وتتسع دائرة المتلقين لها، وهو وضع أبعد ما يكون عن الديموقراطية والحق في الولوج إلى معلومة يتحكم فيها أصحاب رؤوس الأموال. كما أن هذه الأجهزة تتحكم في حكومة شمولية قد فاقت خيالات جورج أورويل في روايته 1984، فالآلات البدائية التي تحدث عنها أورويل في روايته نملك اليوم أجهزة تنصت أقوى بكثير وأكثر انتشارا زرعت تهديداً للحريات المدنية مثل الخصوصية والرقابة وتنصت الأخ الأكبر -Big Brother-. وقد شاهدنا العينات عقب 11 سبتمبر وقوانين مكافحة الإرهاب التي طالت أوروبا العريقة نفسها، وهناك خطر آخر قد تخلقه المعلومات وعنفها على المستوى الاجتماعي والحضاري الذي قد نفرِّق فيه بين من >يمتلك المعلومات< والذين >لا يمتلكونها<، وقد بدأ الحديث عن نظام عالمي عادل للاتصالات.

? الثورة الجينية ونهاية التاريخ

منذ ثلاثة قرون كتب إسحاق نيوتن: >أبدو لنفسي كما لو أنني صبي يلعب على شاطئ البحر، تلفت انتباهه من فينة إلى أخرى حصاة أنعم أو صدفة أجمل من العادية، بينما يمتد محيط الحقيقة العظيم أمام ناظريه دون اكتشاف<. إن هذه الكلمات لتصدق بصفة متطابقة مع ثورة الجينات التي ما انفتح كشف فيها إلا ووقفنا على نافذة تطل على عالم آخر لا قبل لنا به، فإذا كانت هذه الثورة وراء تراجع فوكوياما عن أطروحة نهاية التاريخ، فإنها دقت الإسفين الأخير في نعش نظرية التطور.

وبفضل التطور الهائل الذي عرفه نظام الحاسوب قفز مشروع الجينيوم البشري قفزة مهمة وتجاوز مراحل كانت قد خطت له من قبل في ظرف قياسي، وعكس ما كان يتنظر من خريطة جينية قد تعيد البريق للحتمية العلمية، فإن عدد الجينات المكتشفة قد تجاوز بكثير التقديرات >الجيدة< التي كانت أواخر التسعينيات، وهكذا وبعد أن ملَّ الإنسان من سبر أغوار العالم المحيط به، اتجه إلى البحث عن سر الحياة فيه.

إذا تأملنا في مشروع الجينوم البشري، فإننا سنجد أن هذا المشروع ينتج شيئاً ثابتاً وواحداً هو المعلومات، إلا أن هذه المعلومات لا تقتصر فقط على وظيفتها العلمية في تشخيص الجينوم المسؤول عن مرض ما أو في التجارب الطبية، وإنما تتجاوز هذا المجال إلى المحيط الاجتماعي والحضاري، إذ تبدأ من إشكالية تعريف الإنسان عن طريق بطاقته الجينية إلى القرارات السياسية.

إن علم الوراثة يمكننا من معرفة قابلية الأفراد للإصابة بالأمراض في مستقبل حياتهم، إلاّ إن للجهل حسناته لأنه قد يحمينا من يوجينيا جديدة سيكون لها الأثر المباشر على تقسيم الناس حسب جيناتهم، لكن هذه المرة بطريقة قانونية قد تتجلى في عقود العمل التي ستفرض على كل من يبحث عن فرص للشغل تقديم كشف جيني تدون فيه جميع الأمراض التي قد تصيبه أثناء مزاولة عمله ليتم بذلك تقدير المدة >القانونية< الموجب التعاقد بشأنها، وكذلك مدى استفادته من التأمين الصحي، لأن من لا تهددهم الأمراض الوراثية إلا قليلاً قد يدفعون تأميناً صحياً أقل، بينما يدفع أكثر من هم في خطر أكبر أو ربما يحرمون من التأمين نهائياً، وبالتالي سيواجه >المشبوهون الجينيون< على شاكلة الفيلم الأمريكي Minorituy Report تمييزاً يجعلهم في طبقة جينية أدنى مقابل الطبقات الراقية التي تتمتع بخريطة >نقية< ويكون من حقها وحدها الحصول على السلطة والامتيازات ولربما قد تستأثر بحق التصويت، فما فائدة أصوات هؤلاء الذين سيغادرون هذه الحياة بعد حين.

فهل تسير البشرية إلى هاوية التاريخ؟ وهل سيحمل المستقبل معه ما يفوق خيالات المستقبليين؟

 

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة