تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

فكرة التطور المنهجي ومأسسته لدى الشيخ محمد رضا المظفر

حسن كريم الربيعي

فكرة التطوُّر المنهجي ومأسسته

لدى الشيخ محمد رضا المظفر

الدكتور الشيخ حسن كريم ماجد الربيعي*

 

*         جامعة الكوفة، كلية الفقه، العراق.

 

 

 

تمهيد: المفاهيم لغةً واصطلاحًا

التطوُّر لغة واصطلاحًا

التطوُّر لغة: الطور، وهو الامتداد في شيء من مكان أو زمان[1]، يقال: طوره أي تجاوز حده[2]، قال تعالى: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا}.

إن كلمة التطوّر كلمة حديثة الاشتقاق في اللغة العربية، ولا يرقى تاريخ نحتها إلى ما قبل عصر الترجمة الحديثة، لكن أصل اشتقاقها من الطور بمعنى العهد الزمني، فهي تدل على الانتقال من طور إلى طور، أي من وجود في حالة ضمن فترة زمنية إلى طراز وجود آخر في فترة زمنية أخرى[3].

التطوُّر اصطلاحًا: استخدم المصطلح في سياقات متعدّدة، ووجد طريقه إلى الخطاب الاجتماعي والفلسفي والعلمي الطبيعي، وعمّم هربرت سبنسر مصطلح التطوّر إلى التطوّر الاجتماعي، بعدما كانت نظرية داروين في قضية التطوّر البيولوجي هي السائدة أو اختص بها المصطلح[4].

وفي بعض التعاريف أنه الحركة من أدنى إلى أعلى، ومن شأنها الكشف عن ماهية الظواهر وإلى بزوغ الجديد، وما له علاقة بتطوّر الأنسقة اللاعضوية والكائنات الحية والمجتمع الإنساني والمعرفة[5].

وهذا المصطلح وإن كان ينصرف إلى التطوّر البيولوجي، ولكن التطوّر الثقافي الاجتماعي استخدمه عدد كبير من علماء الاجتماع والأنثربولوجيا في تفسير التقدّم عبر التاريخ من الأنساق الاجتماعية والثقافية البسيطة إلى أخرى أكثر تعقيدًا[6].

الإصلاح في اللغة والاصطلاح

الإصلاح لغة: الصلاح ضد الفساد، وهما مختصان في أكثر الاستعمال بالأفعال، وقوبل في القرآن تارة بالفساد وتارة بالسيئة[7]. جمع الراغب الاصفهاني (ت 502هـ) جملة من الآيات القرآنية الدالّة على معنى الإصلاح منها:

1- قال تعالى: {خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا}[8].

2-قال تعالى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا}[9].

3- قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}[10].

4-قال تعالى: {أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا}[11].

5- قال تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} {وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا}[12].

6- قال تعالى: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}[13].

7- قال تعالى: {وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ}[14].

8- قال تعالى: {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ}[15].

9- قال تعالى: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي}[16].

10- قال تعالى: {إِنَّ اللهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ المُفْسِدِينَ}[17].

ومن هذه النصوص نرى استعمال الإصلاح مقابل الإفساد والفساد، ويأتي مصطلح الإصلاح والصلاح لتغيير حالة الفساد السابق ومحاولة تعديله نحو حالة الاستقامة والتغيير.

وفي ضوء ذلك لا يمكن أن نصف حالة ما عمله الشيخ المظفر بأنها حركة إصلاحية؛ لأن الواقع الثقافي يحتاج إلى تطوّر ونمو نحو التكامل آنذاك أو الضرورة لتكامل المعرفة.

والإصلاح هو التغيير إلى الأفضل؛ ذلك أن مقابل الإصلاح هو الإفساد، وحاول الفكر الغربي أن يقلّل من شأن الإصلاح ويُعلي من شأن الثورة.

والثورة هي: التغيير الجذري في حين أن الإصلاح هو التغيير الجزئي، ويرى محمد عمارة أنه لا فرق بينهما[18]، وقد خلط محمد عمارة بين الإصلاح والإحياء والتجديد، فذكر حركة جمال الدين الأفغاني الإصلاحية، وقال: إنها مثّلت إحياءً وتجديدًا[19]، والحقيقة أن هذه المفاهيم والمصطلحات مختلفة وفيها ما فيها من جدل ونقاش.

وذكر محمد عمارة الإصلاح الفكري لمحمد عبده (1323هـ/ 1905م) وحدَّده بنقاط ثلاثة:

1- تحرير الفكر من قيد التقليد.

2- إصلاح أساليب اللغة العربية.

3- التمييز بين ما للحكومة من حق الطاعة على الشعب وما للشعب من حق العدالة على الحكومة[20].

فإذا كان الإصلاح مقابل الإفساد فهذا فيما يبدو بعيد عن نظر الشيخ المظفر وفق تصوّر تغيير حالة الإفساد والفساد الفكري في الدراسة الدينية، ولا يتطرّق إليه لدراسات سائدة ومهيمنة منذ قرون خلت.

التجديد لغةً واصطلاحًا

التجديد لغة: ثوب جديد أصله المقطوع ثم جعل لكل ما أُحدث إنشاؤه، قال تعالى: {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ}[21]، وقوبل الجديد بالخَلِق[22].

التجديد اصطلاحًا: حاول محمد عمارة أن يرفع التناقض في الفكر الإسلامي بين اكتمال الدين وبين التجديد ونفي أن تكون هناك تناقضات، ونسب هذا التوهّم إلى المناهج الوضعية الغربية، فعنده أن التجديد هو السبيل لاستمرارية -أي ثبات- الدين الكامل، وليس نافيًا لثبات واكتمال هذا الدين[23]، مع هذا فهو يصرّح أنه انعقد الإجماع على أن التغيّر والتطوّر والتجدّد هو سنة من سنن الله في الكون والوجود والظواهر، مادية كانت أو اجتماعية أو فكرية[24].

لكنه انتهى إلى اعتبار السلفية ونهجها من التجديد، فصرّح من أن السلفية تجديد وفي التجديد سلفية، وكل المجدّدين في مسيرتنا الحضارية بهذا المفهوم –التمييز بين جوهر الدين والإضافات والنواقص والبدع التي طرأت وعدت على جوهره وأصوله– كانوا سلفيين[25].

كيف لا تحصل الإضافات في الفكر والاجتماع، وطرائق جديدة في الوسائل مع ثبات الأصول الإنسانية والخصائص الإسلامية، ولكن السلفية والسلفيين قد حكموا على الآلات المستعملة والتقنيات بالكفر مع استعمالهم لها، بل عارضت المنجز العلمي مع استعماله.

هذا الكلام يعبّر عن عقيدة الكاتب في جر الكلام إلى التأويل العقائدي بعيدًا عن البحث الموضوعي، فهو تارة يذكر حقيقة التغيّر في المادة والفكر، ولكن يُبقي البحث بمنجز تراثي يصحّ ربما عليه مفهوم المحراثية في معرفة الحقيقة.

التجديد: هو آلية خلق الأفكار الجديدة أو التقنيات الجديدة، أو أشكال السلوك الجديدة التي تُفضي إلى أمكانية حدوث التغيّر الثقافي والتطوّر، والإبداع الثقافي القادر على التحوّل والتجديد[26].

لذا يعتمد التجديد على العملية الإبداعية للإنسان، كما يعتمد التوازن بين التراث والتجديد[27].

لا يصبح الاكتشاف -مثلًا- تجديدًا إلَّا إذا قام المجتمع بتبنيه فعليًّا[28]، وله عدة أنماط منها: التجديد في الوسائل، والتجديد في المنتج، وله نظم. بل تكوَّن في فرنسا علم اجتماع التجديد في نتاج بناء اجتماعي[29].

وفي ضوء هذه التعاريف الاصطلاحية يمكن بيان أن التجديد هو تغيير الأدوات التراثية في فهم الواقع الاجتماعي وتطويره، وهي أدوات الشيخ المظفر في تغيير وتطوير الواقع العلمي، ولكن الأساس العلمي عمود التجديد والتطوير حينئذٍ.

إلَّا أنه على رؤية الاكتمال السلفي حسب محمد عماره ومن تبعه من أصحاب النظرة السلفية لا يمكن التجديد والتطوير وهم في خانة الاختناق من عدم فهم الأسس والأصول، ونظرية التفريع عند مدرسة اهل البيت (عليهم السلام) التي تنظر إلى التغيّر في الواقع المادي والفكري تبعًا لحقب الزمان والمكان.

فالسلفية تبعت المنظّر لها ولم تتّبع الأسس، ويظهر ذلك في حالة التعصُّب ضد الطبري (ت 310هـ) بعد نفيه الفقاهة عن ابن حنبل، ثم آلت الأمور إلى ثقافة الكراهية بين المسلمين وتكفير الآخر، التي أوصلت المجتمع الإسلامي الآن إلى موقف لا يحسد عليه.

المنهج لغة واصطلاحًا

إن مفهوم المنهج في اللغة يفهم بوروده في النص القرآني قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}[30]، فإن المنهج هو الطريق الواضح. ثم فرَّقوا بين الشرعة والمنهاج، بأن الشرعة ما ورد به القرآن، والمنهاج ما وردت به السنة[31]. ونهج الطريق أبانه وأوضحه، ونهجه سلكه[32].

أما المنهج في الاصطلاح فهو: الخطة التي يعتمدها علم ما في تحقيق أهدافه[33].

يُعدُّ المنهج في الدراسات كافَّة هو الوسيط الضروري الذي لا يُستغنى عنه في إنجاز أغراض العلم.

ويراد بالمنهج في نطاق النظرية بغية الوصول إلى نتائج مقبولة، وغايته إضفاء العلمية والموضوعية على الحكم الذي يتوصل إليه[34].

ظهرت المنهجيات المعاصرة في تجدّد مستمر، في حين ظل المنهج الأكاديمي في العالم العربي والإسلامي غير متجدّد ويحكمه القدم والعقم، وهو ما نراه في مناهج العلوم الإنسانية في جامعاتنا إذ ترفض الاقتراحات لتطويره، بينما تطوّرت كثيرًا المنهجيات الغربية[35] في شتى العلوم التطبيقية والإنسانية.

ويتّصل بهذا المنحى ما فكّر به سماحة الشيخ المظفر F في تشكيل حداثة إسلامية بتطوير المنهج ومأسسة الدراسة الدينية.

المأسسة

وتعني: تحويل العمل والبحث إلى شيء منظّم مؤسساتي، وبعبارة ريموند وليمز: مصطلح معتاد لأي جزء منظم من المجتمع[36].

المبحث الأول: فكرة التطوُّر المنهجي

تُعدُّ المناهج وتطوُّرها من سمات الرقي العلمي في كل المؤسسات العلمية والفكرية في العالم، ويبدو أن الفلسفة من محرّكات التطوُّر والبحث عن التجدُّد فضلًا عن العلم والتقنية، وفي هذا النطاق يمكن القول: إن الشيخ المظفر قد تأثَّر بأفكار أستاذه محمد حسين الأصفهاني، وربما تأثَّر أيضًا بآغا ضياء الدين العراقي، اللذين تقلَّص فكرهما في عصرنا.

فالشيخ المظفر قد استمد التطوُّر وفكرة النقد والمناهج فيما يبدو منهما، وفي هذا الصدد يذكر الشيخ محمد مهدي الآصفي أن المظفر قد تأثَّر بأفكار وآراء الأصفهاني في الأصول والفقه والفلسفة؛ حيث تبع منهجه في تبويب الأصول، كما تأثَّر بمبانيه الخاصة، وكان يُجلّه إجلالًا كبيرًا ويخلص إليه[37].

ومن تجلّيات فكره المتطوّر يذكر أنه كان لا يبالي من أن يحاضر للصفوف الأولى، ولا تمنعه مكانته المرموقة ولا إمكاناته الفكرية العالية، حتى كأنه يبدو للإنسان لأول وهلة، أنه يخاطب زملاء له في الدراسة لا طلابًا بهذا المستوى[38].

وهذا السلوك مارسه الرُّوَّاد من الأساتذة، فأنا أذكر أن الأستاذ حسين علي محفوظ وغيره كان يجلسون معنا ويشعرونا بأنا أساتذة أمامهم، وهو منهج غاية في الروعة لصناعة جيل يعتمد على نفسه ويعتدُّ بنفسه، ويرسّخ نهج التواضع؛ فإن العلم رأسه التواضع كما في مقولة الإمام علي (عليه السلام).

وكان الشيخ المظفر يواكب الثقافة العصرية منذ بدء شبابه فيتذوّقها، وحاول أن يشق طريقًا إلى هذا اللون الجديد مع جماعة، ومنه بدأت مراسلة المقتطف وبعض دور النشر في مصر ولبنان لغرض المواكبة مع هذا اللون الجديد، وأخذ الشيخ المظفر نصيبًا وافرًا من هذه العلوم الجديدة التي تأثَّر بها تأثُّرًا بالغًا إلى جنب تأثُّره بشيوخه في الفقه والأصول والفلسفة[39].

وهذا ما يجب أن نفعله اليوم من الانفتاح على أطروحات الحداثة وما بعدها، ومواكبة الأفكار وبيان خصائص هذه المدارس الفكرية، والاطّلاع على مناهجها، وتطوير قدراتنا ومهارتنا في بيان أفكارنا.

إن فكرة التطوُّر في المناهج تمثّل حاجة للتوسعة والإلمام الفكري، وسدّ الضعف والفجوات الدراسية في منهج طالب العلم، التي تكاد تجمد على مادة واحدة معادة، فإن الأشياء المادية تتطوّر وكذلك هي الأفكار قابلة للتطوّر.

إن التطوّر سنة في الوجود، فقد تطوّرت المناهج العلمية أثر حركة الترجمة في بغداد، وكذلك أثر الحركة المعاكسة في طليطلة الإسبانية، وإلى اليوم تمارس الترجمة في نقل الثقافة المغايرة وتطوّرها.

إن التطوّر المنهجي قد وصل أوجه في الثقافات الغربية، فقد باتت المناهجية سمة الكثير من العلوم، ونحن اليوم بحاجة لتغيير مناهجنا وصياغتها بلغة العصر وثقافته، فلا يقبل الطالب اليوم ثقافة تم تجاوزها، إن الفكر الديني الإسلامي قد وضع الأسس والأصول، ومنها يكون التفريع في كل مناحي الحياة العامة من فهم العقيدة والأخلاق والقانون.

لقد كانت فكرة التطوّر تراود الشيخ المظفر وذلك لمكانة النجف الأشرف منبع العلم فلا بد أن تواكب العصر، وتتابع الفكر والثقافة في البلدان الأخرى، لكي تحافظ على ديمومتها وفكرها العالمي، وتكسب نظرة الثقافات الأخرى إليها.

يذكر الشيخ الآصفي أن الشيخ المظفر كان يلاحظ مكانة النجف الأشرف الدينية التي تتطلّب المساهمة في نشر الفكر الإسلامي في العلوم المنهجية وتطوّرها، والنشر والتأليف والخطابة التي ثبت ضعفها وعدم منهجيتها، وهي رسالة خطيرة إلى اليوم[40].

إن المنهج القديم ربما يضيع الطالب في فهم عباراته، وتأخذه الأيام والساعات التي تصرف في فهم العبارة أو إرجاع الضمائر أو التعقيد أو الرموز مع أنها ربما كانت تعبّر عن آراء المجتهد الشخصية مقابل آراء الذين سبقوه.

إن إعادة قراءة المناهج الدينية وفق الخطوط العريضة للمذهب أو أصوله، يستدعي أن تخرج الآراء الشخصية ولا تناقش بوصفها آراء المذهب، مما يسبّب إشكاليات هي في الأصل خارج خطوط المذهب أو الإسلام، كمسألة تحريف القرآن الكريم التي ألصقت بالإمامية مع أنها آراء خاصة وشاذَّة عند بعض العلماء من الأخباريين أو بعض الأصوليين، ولا تُعبّر في حقيقة الأمر عن أصول المذهب.

لقد راعى الشيخ المظفر في منهجه التطوّري طريقة اكتساب المعرفة المعاصرة باعتماد نظام الصفوف، وجمع بين المنهج الصوتي والعملي في الإيضاح، مغادرًا نظام الحلقة، وقراءة العبارة والجهد في إيضاحها، وهذه بادرة تُعدُّ مبكّرة في أواخر الخمسينات من القرن الماضي.

كما حاول الشيخ المظفر مأسسة الدراسة والكتابة والتأليف ليتخلَّص من الطابع الفردي[41]، وكان يرى أن توسيع المناهج الدراسية هي الخطوة الأولى[42] في البناء الفكري والعلمي.

نحن بحاجة لتطوير المناهج دائمًا، بل لا بد من لجنة أو لجان لتطوير المناهج التي بها يمكن أن نواكب ما يطرح وما يكتب في عالمنا اليوم، وليكون لنا محلًّا في هذا العالم نُعبِّر فيه عن أفكارنا وثقافتنا المتميّزة، ونخرج من حالة المحلية إلى الكونية.

لقد نقل الآصفي عنه F قوله: «إنما يهمنا أن ينهض المشروع نهضة تليق بسمعة النجف»[43].

فكرة التطوّر التي شعر بها سماحة الشيخ المظفر هي فكرة تأسيسية في النجف الأشرف للخروج من دوامة إعادة المنهج القديم وتكراره وفق لغة عصره –أي عصر المناهج القديمة-، لقد عرض الشيخ المظفر مسائله الفكرية عرضًا جديدًا وإن اتَّبع أساتذته في الأصول كالأصفهاني إلَّا أنه واصل التأسيس الحديث[44].

فكتابه (أصول الفقه) كان بادرة جيدة في تطوير البحث الأصولي، أما المنطق فقد كان ممارسة بلغة عصرية أراد منها الشيخ المظفر أن يبدأ بالتحوّل الكبير لطالب العلوم الدينية، وتوسيع مداركه وتطوير قابلياته المعرفية.

يذكر عمار أبو رغيف في كتابه (محمد رضا المظفر هو العنوان) من أنه لا غنى للباحث في تاريخ الحركة الإسلامية في العراق من قراءة المظفر قراءة تمحيص وتحليل ضمن منهج علمي، يعني المنهج المعتمد على معطيات المعرفة المعاصرة، والمسلّح بروح النقد والمتحلّي بالإنصاف[45].

يبدو من كلام أبي رغيف من أن الجدل المعرفي في هذه التجربة بين السلب والإيجاب قد أوضحها مسلك ومنهج الشيخ المظفر بتطبيق جدل الأصالة والمعاصرة، وما الحداثة إلَّا نقد وجدل فيما نقبل وفيما نرفض لا أن نرفض بادّعاءات غير علمية أبدًا.

إن تجربة المظفر التاريخية هي تجربة في الحداثة ورفع القصور في فهم الأفكار المحيطة، فإن الأفكار لا حدود لها، وإن المناهج التي سرقت شبابنا هي حاضرة بعد التقارب الكوني وذوبان المحلية، إلَّا عند التقليديين الذين لا ينظرون إلى أنفسهم.

ذكر السيد السيستاني في كتابه (الرافد) عن هذه المرحلة المعاصرة «أن الفترة التي نعيشها الآن بمقتضى العوامل الاقتصادية والسياسية تمثّل الصراع الحاد بين الثقافة الإسلامية والثقافات الأخرى على مختلف الأصعدة، فلا بد من تطوير علم الأصول وصياغته بالمستوى المناسب للوضع الحضاري المعيش، وقد ركّزنا في بحوثنا على بعض الشذرات الفكرية التي تلتقي مع حركة التطوّر لعلم الأصول من خلال الاستفادة من العلوم المختلفة قديمها وحديثها كالفلسفة وعلم القانون وعلم النفس وعلم الاجتماع، ومن خلال محاولة التجديد على مستوى المنهجية وعلى مستوى النظريات»[46].

 وهذه هي دعوة الشيخ المظفر بعينها في توسيع دائرة البحث في الفكر الديني، وكل هذه العلوم لها دخالة في فهم الفكر لدى المجتهد وغيره، وخاصة علم الاجتماع الذي تطوّر وتفرّع إلى علم الاجتماع الديني وعلم اجتماع الأسرة وعلم اجتماع المعرفة وعلم اجتماع الزيارة الدينية وغيرها من التخصّصات الدقيقة في فهم المجتمع وتحويله إلى ثقافة أرقى.

نقل محمد جعفر الحكيم في كتابه (تاريخ وتطوّر الفقه والأصول) أن كتاب أصول الفقه يُعطي الطالب سعة فكرية، وإحاطة بقسم كبير من الآراء الحديثة[47].

فقد كان الشيخ المظفر يبحث عن التجدُّد والتطوُّر، جاء في كلمة المجمع الثقافي الديني لمنتدى النشر في طبعته الثانية لكتاب (السقيفة): «وعلى كثرة من كتب فيه في عصرنا الحاضر لم أجد من أخضعه للتطوّر فغيّر في مناهج البحث، وجدّد في طريقة الاستنتاج، وبدل في أساليب العرض إلى ما يلائم اذواق العصر، فكانت حاجته كبيرة إلى من يعالجه معالجة موضوعية مجردة من ناحية، ويأخذ بيده إلى حيث يرجى له من التطوّر الذي تقتضيه مناهجنا العلمية الحديثة من ناحية أخرى»[48].

ونال كتاب (السقيفة) إطراءً من السيد عبد الحسين شرف الدين فقد أشار إلى نقطة البحث أي فكرة التطوّر المنهجي، وذكر قائلًا: «وكنا فيمن عقد الأمل بالمنتدى يوم تأسيسه، وناط به الرجاء أن يكون له الأثر المحمود في توجيه الناشئة الدينية، وبناء الجيل الطالع، وتجديد ميراث النجف في بعث يلائم التطوّر الحاضر»[49].

وعن تجربته الشاقة في التطوير للمنهج ونظامه ذكر الشيخ المظفر قائلًا: «بعض رجالنا الذين كانوا يحلمون بإصلاح نواقص الدراسة العلمية في معاهد النجف الأشرف، فإن هذه النواقص بفقدان نظم التربية والتدريس في الامتحانات والمواد العلمية والشهادات...»[50].

ويبدو أن فكرة التطوّر قد تطابقت تمامًا قبل أن أقرأ هذا العنوان واطّلع عليه، فإن الفكرة كانت تعيش معه في روحه وكيانه، وقد حولها مشروعًا على أرض الواقع، أثمر وأنتج الكبار من العلماء والمفكّرين، وكذا المؤلفات المنهجية التي أخذت صداها في الأوساط العلمية وما زالت.

وهذا ما أكده الشيخ الآصفي الذي رأى أن الشيخ المظفر توافر على وعي كبير لا يلائم مناخات الوسط الذي اكتنفه آنذاك، إلَّا أنه استطاع أن يخطو خطوات واسعة عبر مشاريعه العملية، وظل وفيًّا لأفكاره في الإصلاح والتجديد[51].

وقد طوّر المظفر فعلًا المناهج، وحوّل الأفكار إلى مسارات عمل كانت تواكب التطوّر الهائل في المناهج والمواد الدراسية، قبل أن نصل إلى عصر المعلومات والأفكار الهائلة والقريبة منا كثيرًا.

المبحث الثاني: مأسسة الافكار

إن التحوّل من الفردية إلى الجماعية المنظمة هي الخروج من الطابع الفردي الذي ساد قبل عصر المظفر إلى الطابع الجماعي في إنتاج المعرفة الذي دعا إليه الشيخ المظفر عبر المأسسة والتنظيم الجماعي، ونحن اليوم أحوج ما نكون إلى مأسسة الأفكار للخروج من التصوّرات المنفلتة التي طغت اليوم.

إن تأسيس المراكز البحثية هي ذات خدمة اجتماعية وثقافية واقتصادية تدفع بالتنمية نحو الرقي والرفاهية وتهتم بها الدول المتطوّرة كثيرًا.

أما نمط الأسلوب التقليدي قد انتهى وأنه لا يحقّق ربما إلَّا الذاتية والانفرادية، والتفكير عبر النمط السائد هو تأسيس عابر فعلًا نحو التمركز حول المعرفة وحدها.

نقل الأستاذ حسن الحكيم في كتابه (المفصل في تاريخ النجف الأشرف) أن الشيخ المظفر أقدم ومن ورائه أعضاء جمعية منتدى النشر لإحياء فكرة التنظيم في الدراسة النجفية، والجمع بين الدروس الحوزوية والدروس الجامعية الحديثة[52].

كانت كلية الفقه تدار من قبل جمعية منتدى النشر فمرت بمرحلة ازدهار في المدة الواقعة بين 1958 – 1974 [53].

فالشيخ المظفر من الذين ساهموا في تطوّر الحركة الفكرية في النجف الأشرف بتأسيس جمعية منتدى النشر[54] الذي ترأسها وكان من أعضائها السيد محمد تقي الحكيم والشيخ محمد تقي الإيرواني والسيد هادي الفياض والشيخ أحمد الوائلي ومحمد صادق القاموسي وغيرهم[55].

هذه الجمعية هي التي نظّمت العمل الكتابي وإدارة الكلية بجهود مشتركة، وقد أسهمت في صياغة العمل بالطابع الجماعي وفق المأسسة، التي تحدّدت كما ذكر عبد الكريم آل نجف في خطوط ثلاثة هي:

1- خط تنظيم الدراسة وإصلاح المناهج الدراسية.

2- خط النشر والتأليف.

3- خط الإصلاح على صعيد الخطابة[56].

وقد حاول هذا المشروع بناء جيل من الخطباء القادرين على تحقيق المتطلّبات الجديدة للدين والمجتمع، وفي سنة 1363هـ، أعلن تأسيس كلية للوعظ والإرشاد[57]، وفي ضوء هذا المنجز عُدَّ الشيخ المظفر رائد تجربة التحديث والتنظيم والبرمجة للدراسة الحوزوية[58].

لقد أثمرت المأسسة نتائج كبيرة في مخرجات هادفة لا زالت عالقة في أذهان الناس من علماء ومفكّرين كبار كان دورهم بارزًا في الساحة الإسلامية، هذه التجربة كانت رائدة فعلًا ولكنها توقّفت ولم يكتب لها الديمومة لأسباب قاهرة فعلًا.

هذه التجربة في المنهج والمأسسة كانت ناجحة وحقّقت بعض أهدافها، وعُدَّت رائدة على المستويين النظري والعملي، لكنها لم تستمر وتتطوّر ربما للظروف التي مرَّ بها العراق مما أدى إلى خنق الفكرة ولكنها لم تمت أبدًا.

 

 



[1] أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا، معجم مقاييس اللغة، وضع حواشيه: إبراهيم شمس الدين، بيروت: دار الكتب العلمية، 1429هـ/ 2008م، ج2، ص82.

[2] أبو القاسم الحسين بن محمد الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، ضبط: هيثم طعيمي، بيروت: دار احياء التراث العربي، 1423هـ/2002 م، ص 322.

[3] طوني بينيت ولورانس غروسبيرغ وميغان موريس، مفاتيح اصطلاحية جديدة معجم مصطلحات الثقافة والمجتمع، ترجمة: سعيد الغانمي، بيروت: المنظمة العربية للترجمة،2010م، ص 188.

[4] طوني بينت وآخرون، مفاتيح اصطلاحية، ص 190.

[5] مراد وهبة، المعجم الفلسفي، القاهرة: دار الثقافة الجديدة، 1979م، ص 113.

[6] شارلوت سيمور سميث، موسوعة علم الإنسان المفاهيم والمصطلحات الأنثربولوجية، ترجمة: مجموعة من أساتذة علم الاجتماع، بإشراف: محمد الجوهري، القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2009 م، ص209.

[7] الراغب الأصفهاني، المفردات، ص 295.

[8] سورة التوبة، آية: 102.

[9] سورة الأعراف، آية: 56.

[10] سورة البقرة، آية: 82.

[11] سورة النساء، آية: 128.

[12] سورة النساء، آية: 128-129.

[13] سورة الحجرات، آية: 9-10.

[14] سورة محمد، آية: 2.

[15] سورة الاحزاب، آية: 71.

[16] سورة الأحقاف، آية: 15.

[17] سورة يونس، آية: 81.

[18] محمد عمارة، إزالة الشبهات عن معاني المصطلحات، القاهرة: دار السلام،1431هـ/ 2010م، ص99.

[19] المرجع نفسه، ص101.

[20] المرجع نفسه، ص102.

[21] سورة ق، آية 15.

[22] الراغب الأصفهاني، المفردات، ص 93.

[23] محمد عمارة، إزالة الشبهات، ص184.

[24] المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

[25] محمد عمارة، إزالة الشبهات، ص 188.

[26] شارلوت، موسوعة علم الإنسان، ص 187.

[27] شارلوت، موسوعة علم الإنسان، ص 187.

[28] جان فرنسوا دورتيه، معجم العلوم الإنسانية، ترجمة: جورج كتورة، بيروت: مجد، 1432هـ/ 2011م، ص 198.

[29] المرجع نفسه، ص 200.

[30] سورة المائدة، آية: 48.

[31] الحسن بن عبدالله، أبو هلال العسكري، معجم الفروق اللغوية الحاوي لكتاب أبي هلال العسكري وجزءًا من كتاب السيد نور الدين الجزائري، تحقيق: جماعة المدرسين، قم: مؤسسة النشر الإسلامي، 1426هـ، ص 298.

[32] محمد بن أبي بكر الرازي، مختار الصحاح، دمشق: مطبعة الملاح، بلا، ص 586.

[33] فوزي كمال ادرهم، نحو منهج جديد للدراسات الإسلامية، مجلة المنهاج، السنة السابعة، العدد 27، ص 72.

[34] ناظم عودة، تكوين النظرية في الفكر الإسلامي والفكر العربي المعاصر، بيروت: دار الكتاب الجديد، 2009م، ص 17.

[35] حسن كريم ماجد الربيعي، البحث المعرفي جدواه مفاهيمه مناهجه تطبيقاته، النجف الأشرف: الثقلين، 2015م، ص 16.

[36] ريموند وليمز، الكلمات المفاتيح، ترجمة: نعيمان عثمان، بيروت: المركز الثقافي العربي، 2007م، ص 171.

[37] محمد رضا المظفر، قطوف دانية في العقائد الفلسفة الأصول المنطق التاريخ والأدب، بيروت: دار الزهراء 1414هـ/ 1993م، ص9، من مقدمة الشيخ الآصفي.

[38] المظفر، المصدر نفسه، ص 10، من مقدمة الآصفي.

[39] المظفر، قطوف، ص 10، من مقدمة الشيخ الاصفي.

[40] للمزيد ينظر: المظفر، قطوف، ص14- ص19، من مقدمة الشيخ الآصفي.

[41] المظفر، قطوف، ص 15 من مقدمة الآصفي.

[42] المرجع نفسه، ص 6.

[43] المرجع نفسه، ص 19.

[44] ميثاق العسر، العقل العملي في أصول الفقه جذوره الكلامية والفلسفية، بيروت: مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، 2012م، ص 139.

[45] عمار أبو رغيف، محمد رضا المظفر هو العنوان، النجف الأشرف: معهد الدراسات العقلية، ص135.

[46] منير عدنان القطيفي، الرافد في علم الأصول، محاضرات السيد علي الحسيني السيستاني، بيروت: دار المؤرخ العربي، 1414هـ/ 1994م، ص17.

[47] محمد جعفر الحكيم، تاريخ وتطوّر الفقه والأصول في حوزة النجف الأشرف العلمية، بيروت: المؤسسة الدولية للدراسات والنشر، 1423هـ/ 2002م، ص218.

[48] محمد رضا المظفر، السقيفة، قم: مؤسسة انصاريان للطباعة والنشر، 2008م، ص9.

[49] المرجع نفسه، ص 12.

[50] محمد رضا المظفر، من أوراق الشيخ محمد رضا المظفر، إعداد وتعليق: محمد رضا القاموسي، بلا معلومات طباعة، ص 129.

[51] محمد مهدي الآصفي، الشيخ محمد رضا المظفر وتطوّر الحركة الإصلاحية في النجف، قم: مؤسسة التوحيد للنشر الثقافي، 1419هـ/ 1998م، ص7.

[52] حسن عيسى الحكيم، المفصل في تاريخ النجف الأشرف، ج16، ص294.

[53] الحكيم، المفصل، ج 16، ص 295.

[54] محمد هادي الأميني، معجم رجال الفكر والأدب، 1413هـ/ 1992، ج3، ص 1217.

[55] حسين الشاكري، ذكرياتي كشكول مبوب، ج2، ص 258.

[56] عبد الكريم آل نجف، من أعلام الفكر والقيادة والمرجعية، النجف الأشرف: مركز الهدى، 2008 م، ص 23.

[57] المرجع نفسه، 24.

[58] المرجع نفسه، 25.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة