تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

التراث والنقد وفهم القرآن في الفلسفة العربية المعاصرة

بدر الحمري

التراث والنقد وفهم القرآن
في الفلسفة العربية المعاصرة

محمد عابد الجابري نموذجًا

الدكتور بدر الحمري

* كاتب وباحث من المغرب.

 

 

 

 

التعامل مع التراث عند محمد عابد الجابري كان من بوابة النقد الإبستيمولوجي، عبر القطيعة مع الفهم التراثي للتراث؛ لأن تجديد الفكر العربي لا بد أن يكون على يد منهج جديد، كما لا بد من مروره من ممارسة جديدة للمعرفة أيضًا. وهل هناك معرفة جديدة غير المعرفة العلمية في ميدان الإبستيمولوجيا ومنهجها النقدي في التعامل معها، إنها معرفة تتأسس على الفكر العقلاني والترابط السببي. لكن السؤال المطروح هنا هو: كيف تعامل التفلسف العربي المعاصر -من خلال نموذج محمد عابد الجابري- مع إشكالات التراث وفهم القرآن؟ ما هي حدود هذا التعامل ومحدوديته مع النص التراثي أو النص المقدس؟

-1-
بين الفكر الأسطوري والنقد الإبستمولوجي

في مقابل الإبستيمولوجيا أو الفكر العلمي النقدي نجد الفكر الأسطوري أو السحري، وهنا نطرح السؤال الآتي: هل يمكن أن يكون الفكر الأسطوري فكرًا عقلانيًّا، قادرًا على إلغاء الغربة التي تشعر بها الذات تجاه التراث كلما حاولت أن ترى العالم على غير ما هو علية: فمرة من منظار الغير - الغرب، ومرة أخرى من منظار سالف مَضى وانقضى؟

منذ كتابه «نحن والتراث» ومحمد عابد الجابري يحاول أن يؤسّس نقده للتراث من خلال إعادة قراءته وجعله معاصرًا لنفسه ولنا في الآن نفسه؛ «لنفسه» بمعنى وضعه في إطاره التاريخي والاجتماعي والاقتصادي والمعرفي والأيديولوجي. و«لنا» بمعنى النظر إليه نظرة تاريخية تعتمد على إضفاء المعقولية على الشيء المقروء، وبالتالي البحث فيه عمَّا يمكن أن يساهم في إعادة بناء الذات العربية، وهي المهمة الملحة المطروحة في الظرف الراهن[1].

من ثمّة فإن النقد عند محمد عابد الجابري يتأطر بين الأصالة والمعاصر؛ بمعنى آخر تعدّ المسافة المنهجية التي يعمل في فضائها النقد هي مسافة بين الماضي والمستقبل، والمفارقة أن هذا الماضي مضى والحاضر نفسه ما ينفك أن يمضي ليتحوّل بدوره إلى ماضٍ آخر، بمعنى إلى تراث، وإن كان الحاضر ليس ملكًا لنا، بل هو حاضر الغرب الأوروبي الذي يفرض نفسه في صورة «ذات» للعصر كله، للإنسانية جمعاء[2]، أما المستقبل فهو لب الصراع والحلم والأمل. لكن الأهم في فكر الجابري هو الأسئلة التي طرحها وأيقظ بها الفكر العربي من سباته العميق؛ لأن سؤالًا مثل: كيف نتعامل مع التراث؟ «أو كيف نحيي تراثنا؟»[3] هو نموذج لأسئلة راهنة بما تحمله كلمة «راهنة» من دلالات في الزمن، فضلًا عن كونها أسئلة مؤسسة لكل فترة تاريخية ستأتي!

النقد عند الجابري تحدٍّ حضاري، دفاع عن الذات ضد الانغلاق واللاتاريخية والاتكالية، ضد الفهم التراثي للتراث، وكشف لطريقة التفكير. إن نقد الجابري على الجملة موجه إلى العقل العربي بُغية تحديثه وتجديد التفكير فيه.

هناك مفهوم آخر يقارب بشكل كبير مفهوم النقد عند الجابري نجده خاصة في مقدمة مؤلفه «نحن والتراث» إنه مفهوم الـ«كسر»؛ فعندما يتحدث الرجل عن تحديث وتجديد الفكر العربي يؤكد أن هذا الكلام سيبقى كلامًا فارغًا ما لم تستهدف، أولًا وقبل كل شيء، كسر بنية العقل العربي المنحدر إلينا من «عصر الانحطاط» أول ما يجب كسره -عن طريق النقد الدقيق الصارم- هو ثابتها البنيوي: القياس...[4] الكسر وليس القطع هذا هو المعنى الجوهري للنقد عند الجابري، ونضيف إليه معنى «التشريح»، يقول محمد عابد الجابري: «إن تحرير الذات من هيمنة النص التراثي يتطلّب إخضاع النص التراثي لعملية تشريحية دقيقة وعميقة تحوّله بالفعل إلى موضوع للذات، إلى مادة للقراءة»[5]. ورغم هذا الكسر والتشريح والفصل فهو لا يعدو أن يكون سوى خطوة تمهيدية تمكّن الذات من استرجاع فاعليتها وشخصيتها: هويتها وتاريخها.

من الواضح أن كل من يقرأ المقدّمة النظرية لمؤلف «نحن والتراث» يلاحظ أن معالم مفهوم النقد عند الجابري قد بدأت تتشكّل ملامحه الأولى فيه، ونكاد نجزم بكثير من اليقين أن المؤلفات التي جاءت فيما بعد خصوصًا تلك التي تنتقد «العقل العربي» ليست سوى تطبيق للخطة المنهجية المرسومة للقطيعة الإبستيمولوجية التي سبق وضعها في المقدمة السابقة؛ فالقول بالقطيعة مع التراث السلفي لا يمكن أن يتحقّق إلَّا بخطوات مضبوطة حسب الجابري نصوغها هنا على الشكل الآتي:

أولًا: أن يتعامل المتأمّل الباحث مع فكر هذا الفيلسوف أو ذاك، أو فرقة أو تيار، بوصفه بنية، أي كلًّا تتحكم فيه ثوابت ويغتني بالتحوّلات التي يجريها عليها حول محور واحد. إن تفكيك بنية العلاقات المعرفية التي تربط التراث بعضه مع بعض يعني أن يضع الباحث كل الشروحات والفهم السابق للتراث بين قوسين، ويقتصر فقط على التعامل مع التراث بصيغة مباشرة. يصبح النقد هنا هو التعامل المباشر مع الموضوع/ التراث. وهذا ما يسمّيه الجابري بالمعالجة البنيوية.

ثانيًا: خطوتها هي التحليل التاريخي بمعنى ربط فكر أي فيلسوف، صاحب النص، بسياقه التاريخي في بعده السياسي والثقافي والاجتماعي والأيديولوجي عمومًا. ويستعير الجابري هنا مفهوم النقد الجينيالوجي من الفيلسوف الألماني فريديريك نيتشه ليشرح قوله السابق، يقول الجابري: «إن هذا الربط ضروري من ناحيتين: ضروري لفهم تاريخية الفكر المدروس وجينيالوجيته، وضروري لاختبار صحة النموذج «البنيوي» الذي قدّمته المعالجة السابقة [...] المقصود الإمكان التاريخي: الإمكان الذي نتعرّف على ما يمكن أن يقوله النص وما لا يمكن أن يقوله، وما كان يمكن أن يقوله ولكن سكت عنه»[6].

ثالثًا: التحليل السابق سيبقى ناقصًا ما لم يُكشف عن الوظيفة الأيديولوجية والاجتماعية والسياسية، التي قام عليها موقف صاحب النص أو كان يطمح إليها حتى يبقى فكره معاصرًا لنفسه ومرتبطا بعالمه[7].

ثلاث خطوات إذن، هي المحدّد الرئيس والأولي لنقد التراث؛ خطوات متداخلة ومترابطة ومتعالقة مع بعضها البعض.

إذا كانت الممارسة النقدية في الغرب الأوربي تعتبر تقليدًا راسخًا، تدعمه التقاليد السياسية، وترسّخه المنظومات الفلسفية منذ عصر النهضة، فإن الأمر يختلف عندنا في العالم العربي، فالنقد ينعت في العادة بكونه أداة هدم وتقويض، وتغفل جوانبه الإيجابية البناءة. النقد في الذاكرة العربية يرادف الهدم، إن لم يرادف الهرطقة، ويدخل في باب البدع، وبخاصة عندما يكون متعلقًا بموضوع مركزي مثل موضوع «العقل الديني»[8].

-2-
النقد طريق الحداثــة

الحداثة عند الجابري تنبني أساسًا على النقد؛ بمعنى تفكيك الآليات العملية والذهنية المتعلّقة بالعقل العربي، أي بالخطاب العربي الحديث والمعاصر، وبناء فهم «جديد» للتراث انطلاقًا من الأصول، وجعله معاصرًا لنا؛ لأن البنية التي حكمت الفكر العربي الحديث والمعاصر هي بنية تبلورت في «عصر الانحطاط» واستمرت في شكلها الثابت. ولا مجال للمقارنة بين الحداثة الغربية والحداثة كما نطمح لها نحن في مجتمعاتنا العربية الإسلامية؛ لأن الحداثة في الغرب قد قطعت أشواطًا معرفية كبرى: من النهضة إلى الأنوار ثم التحديث حتى أصبح الفكر الغربي المعاصر يتحدّث عمَّا بعد الحداثة، هكذا فعندما يتحدّث أدباء ومفكرو أوروبا عن الحداثة فلا يجب أن نفهم هذا الحديث كما هو عندنا. الوضع يختلف، ولا مجال للمقارنة: إن «النهضة» و«الأنوار» و«الحداثة» لا تشكّل عندنا مراحل متعاقبة يتجاوز اللاحق منها السابق، بل هي عندنا متداخلة ومتشابكة متزامنة ضمن المرحلة المعاصرة التي تمتدّ بداياتها إلى ما يزيد على مائة عام[9].

ونضيف أن ما يقترحه الجابري وبقوة هو نقد «الاستبداد» بمعنى «فضح» أصوله ومظاهره في التراث حتى يتسنى لنا النجاح في تأسيس حداثة خاصة بنا. الحداثة هنا لا تعني رفض التراث ولا القطيعة معه، مع الماضي، بقدر ما تعني «الارتفاع بطريقة التعامل مع التراث إلى مستوى ما يسميه بـ«المعاصرة»؛ أي مواكبة التقدّم الحاصل على الصعيد العالمي.

طريق الحداثة هو طريق نقد التراث، ونقد فهمنا وتعاملنا التراثي مع التراث كما أشرنا سابقًا، ويلزم عن كل هذا التعامل مع الآليات العقلية وتفكيكها؛ وتفكيك ونقد الآليات العملية الذهنية لا يمكن أن يكون إلَّا بـ«تقصٍّ إبستيمولوجي» يرى أن أغلب الإنتاج النظري الذي بلوره مفكرو الإسلام، تنحل في نهاية تحليل أسسه وقواعده العامة إلى واحد من هذه الأنظمة المعرفية: «البيان والعرفان والبرهان»[10]. إن تحديث العقل العربي يقتضي أن يكون موضوع اهتمامه «ليس الأفكار ذاتها، بل الأداة لهذه الأفكار وأن التداخل بين الفكر كأداة للإنتاج الأفكار والفكر بوصفه مجموعة الأفكار [...] تداخل صميمي وواقعية لا جدال فيه»[11].

وقبل نصف قرن تقريبًا، أي منذ صدور كتاب «نحن والتراث»، هل تحقّق حلم إعادة بناء الذات العربية كما جرى التخطيط له في مقدمة الكتاب؟[12] هل تحقّق للذات العربية معنى لوجودها؟ أي هل للذات العربية وجود ومعنى؟ أم أنها بقيت حبيسة جملة من الأيديولوجيات المتطاحنة والمتناحرة فيما بينها، ولم تخرج بعد إلى فضاء الحرية والتحرّر الواسع؟ كيف يمكنُ أن نقرأ حضور الذات العربية منذ زمن النهضة إلى اليوم؟ أما زالت الوحدة الإشكالية هي هي، في تطابقها مع نفسها وشروطها التاريخية التي أنتجتها؟ أم تغيّرت بفعل تغيّرات الزمن الممتدّ إلى قرن ونيّف؟ وأقصدُ هنا بالذات إشكالية التخلف.

-3-
النقد والحداثة والقرآن

نستطيع أن نجيب عن هذه الأسئلة بنوع من الريبة والشك في جدوى البحث عن الأجوبة، بل في جدوى الكتابة اليوم؛ أي في زمن يرفض الكتابة، والكلمة، ولا يريد أن يؤمن إلَّا بالصورة والرقمنة السريعة من جهة، ثم إننا جرّبنا، وبحرقة كبيرة، مرارة الكتابة والجواب والسؤال في آن واحد بعدما فشلنا في ذلك زمن النهضة العربية والعصر النهضوي اليوطوبي، فهل نتوقّف عن الكتابة لنعلن بعد ذلك عن موت المثقف العربي؟

لا أريد أن أكون متشائمًا في هذا المقام، ولا أن نوزّع البالونات على أحلام الناس، لكن واقع الوطن العربي اليوم يشهدُ بأننا منكسرون ومبعثرون وناقصون ثقافيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا، وضعفاء في فهم القضايا الدينية التي تتحكّم في شعورنا الجمعي بوعي أو دون وعي. لكن بما أنّ المقام مرتبط بشكل مباشر بالكتابة، فالسياق يدعونا إلى السؤال حول مصير المثقف العربي؟ هل صحيح نعاني أزمة وجود المثقف العربي؟

لا شك أن أولى أسباب غياب المثقّف عن ساحات الصراع التاريخي، ما يعرفه الوطنُ العربي الكبير اليوم من تعدُّد في كل أشكال الانحطاط: ثقافي، فكري، سياسي، ديني، عرقي، إعلامي... إلخ. فهل يحق للمثقّف العربي اليأس والحزن والقطيعة مع الكتابة؟ أو يعمل على مجاراة التيارات السائدة دون نقدها وتفكيكها وتبيان وجوه البشاعة فيها، أو حتى تقديم المشورة لمن تهمه المشورة؟ ووسط كل هذا العبث الذي نعيشه ما هو مصير الباحث العربي؟ أله نصيب في العيش؟ أم ليس له إلَّا التيه والعبث في خارطة المعرفة المعاصرة واجترار النظريات العلمية الغربية دون فهم أو تعقيل؟ أو الهجرة السرية والعلنية إلى بلاد أخرى؟

أقول هذا الكلام الشائك لوعينا نسبيًّا، وأخفي أسئلة أخرى، لثقتي في نباهة القارئ، ومعرفته المسبقة أنّ فصول السعادة والكرامة والسرور في الفكر العربي لم تكتب بعدُ. صحيح أن هناك باحثين في العالم العربي يحفرون في الصخر، لكنهم قلة قليلة، لا يتجاوزن عدد أصابع اليدين، وهل ينفع ذلك أمام الملايين من فقاعات الصابون المنتشرة في الفضاء العربي؟

هل لدينا اليوم مثقّف الأنوار العربية على غرار مثقّف الأنوار الألمانية كما هو المثال مع إيمانويل كانط؟ وكم عدد الفلاسفة والشعراء والأدباء والفنانين والروائيين في الوطن العربي؟ وهل هناك كُتّاب تُعدّ أدوارهم أقوى من أدوار السياسيين في توجيه ضمير الإنسانية؟ وهل هناك كتابة تنزل إلى مستوى «ما يريده الجمهور»؟ أم أن الجمهور يجب أن يسمع ويقرأ ويحلّل ويناقش ما يريد المثقّف؟

لا تغرّنَّكم ثقافة الآلة والعقل التقني - الإلكتروني وغزو الفضاء والتفكير فيما يوجد خارج الكرة الأرضية؛ لأنها ليست الأصل، ولن تكون في يوم من الأيام المرجع الأساس لإنسانية الإنسان، وكيف يعقل أن يفكر الإنسان في موضوع خارج الكرة الأرضية وداخله المعرفي والقيمي مخرّب ومدمّر ومشتّت وتائه؟

لا بدّ من التوقّف قليلًا أمام هذا الزحف اللامعقول للصورة والتقنية والإعلام (المواطن)، قصد إعادة التفكير فيه، حول كيفية تعاملنا معه، وكيفية تعامله معنا!

هل استطاعت الذات العربية المثقّفة التعبير عن نفسها بحرية؟ وهل تمتلك هوية معرفية تميّزها عن غيرها؟ هل عندما يتكلّم المثقّف العربي يقول كل شيء، ويتواصل مع كل الثقافات، ويساهم في بناء الإنسان، ويداوي جرحه التاريخي العميق: الفتنة؟! هل يتصالح المثقّف العربي مع الجماهير، ما دامت تعتبره خائنًا لمسؤولية التنوير وقول الحقيقة للسلطة؟ هل يتصالح المثقّف مع نفسه وهو يرى الأفول الحضاري الذي لحق مجتمعاته العربية، أفي تلك المشاهد شيء من تأنيب ضمير العالم؟

-4-
الحق في اليأس

هل صار للمثقّف اليوم أن يعلن –عن جدارة واستحقاق- عن اليأس العربي الشامل؟ أم أننا سنتشبث بالأمل ونمضي قدمًا في التأكيد على أن الخيط الناظم للجواب عن كل تلك الأسئلة وأخرى هو التفكير الناقد، سواء الموجّه إلى الذات أو الموضوع؟، وهل ينفع نقد موجّه لذات مجروحة ومشتتة ومنهكة بصراعاتها الداخلية والخارجية، وجروحها تكادُ تكون جروحًا خطيرة ومميتة: جرح الهوية، والتطرف، والجهل، والفساد، والتخلّف، والتشتّت؟ أم النقد نوع من أنواع طرق التفكير المضادة، أي عندما يبلغ الجرح مداه في التعفّن فلا ينفع حينئذ إلَّا الكي؟ وعندما نقوم بالنقد فكأننا نفرغ تاريخ الذات العربية من كل محتوياتها المعرفية والتاريخية والسياسية والأنطولوجية العميقة؟ وإذا كانت المهمة في يد المثقّف الناقد: هل يستطيع أن يضبط مختلف التحوّلات الأساسية التي طرأت على العقل في الزمن العربي الحديث والمعاصر؟

هذه المهمة الأخيرة تقتضي من النقد أن يكون على شاكلة الحفريات أو الجينيالوجيا، حيث يصحّ تسميته بحفريات النقد، أو جينيالوجيا النقد، محاولة في إقامة تاريخ نقدي معرفي للعقل العربي المعاصر، بمعنى أنّ العمل الذي سيقوم به المثقف سيكون بمثابة قراءة للمشاريع الفكرية العربية عبر مساءلة ظروف فشلها، والوقوف على العقلاني واللاعقلاني فيها، من منطلق أنّ كل عائق ساعد في انحطاط الذات العربية هو بالضرورة عنصر لا عقلاني ينبغي فضحه، أما العناصر العقلانية فهي كلّ العناصر التي لم تستثمر في إقامة نهضة عربية شاملة؛ لأننا لو استثمرنا ما هو عقلاني في تراثنا وفكرنا وتاريخنا وشعورنا الديني لأمكنَ للذات العربية النهضوية أن تكون كذلك ناهضة متنوّرة تعيش زمانها بلا خجل.

وأول سؤال نقدي يمكنُ أن نوجّهه مثلًا لمشروع الجابري التفلسفي: هل كانت هناك ضرورة لكتابة عصر تدوين جديد تعاد فيه كتابة التاريخ العربي؟ لماذا لم نقرأ العقل العربي من أرضية مؤسِّسة محدّدة في امتداداتها التراثية والحديثة والمعاصرة أيضًا، أرضية يقوم عليها لبُّ الذات العربية وبناؤُها الهرمي الصلب، بحيث إذا صلح صلح سائر العقل العربي؟

إني أقصد بالأرضية المؤسسة النصّ القرآني، وفي هذا المقترح يمكنُ أن يجد المثقّف الناقد إشارات توصله إلى فهم الانحطاط والتخلّف التاريخي والفساد الذي آلت إليه الذات العربية.

 وما دمنا نتحدّث عن مشروع محمد عابد الجابري يمكنُ أن نطرح مجموعة من التساؤلات، نُجملها في صيغة إشكالية واحدة على الشكل الآتي: لماذا تأخّر محمد عابد الجابري في قراءة النص القرآني؟ هل لهذا التأخّر مبرّرات منهجية نقدية أو معرفية حالت دون قراءة جينيالوجية للعقل الديني العربي، على غرار العقل الأخلاقي والعقل السياسي؟ أليست قراءة النص الديني القرآني هي أصل الأصول وبداية البدايات التي يُرتجى من ورائها تحقيق تنوير شامل وكلي؟

من الواضح أن قراءة القرآن الكريم لم تحسم بعد، ولا توقّفت اجتهادات المفكرين، وهذا يدل على أن النص القرآني نص كوني منفتح على التأويلات التي لا يمكنُ بأي حال من الأحوال أن تحتويه وتحجر عليه. من أين يأتي إذن ضعف الفهم؟ يأتي من ضعف نقد الأطروحات التي تقدّم بها العقل العربي الإسلامي في فهم القرآن، وتأتي أيضًا من قوة الأيديولوجيات التي تحاول أن تفرض سلطتها على فهم النص القرآني، وبُعدنا عن الفهم المعرفي العميق للغته ومفاهيمه وآياته. فهل كان فهم الجابري للقرآن الكريم فهمًا معرفيًّا أم أيديولوجيًّا؟ وكيف قرأ الجابري النصّ القرآني؟

-5-
فهم القرآن وإشكالية نقد الفهوم الأخرى

أقف هنا مع مستويات النقد من خلال المدخل الذي كتبه محمد عابد الجابري للنص القرآني، وقبل ذلك لا بدّ من تسجيل بعض الملاحظات المنهجية، أجملها في أربعة ملاحظات يمكن صياغتها بصيغ مختلفة على الشكل الآتي:

1- إشكالية الزمان المعرفي الفارق بين (نحن والتراث) و(مدخل إلى القرآن الكريم)، وأية علاقة يمكن أن تُقام بين فهم التراث، وفهم العقل العربي، وفهم القرآن الكريم؟

2- دواعي الكتابة في موضوع القرآن الكريم.

3- لماذا (مدخل إلى القرآن الكريم) وليس (نقد فهم القرآن الكريم)، كما هو حال نقد العقل العربي على الأقل انسجامًا مع منهج النقد الإبستيمولوجي الذي يتبنّاه الجابري؟

4- «قراءة بعدية» أم أوَّلية للقرآن.

إن الفراغ الذي تركته دراسة بنية العقل العربي وتكوينه عند الجابري صعب جدًّا، لأننا لا يمكنُ أن نتصوّر عقلًا عربيًّا قد تكون خارج فهم النص القرآني وتأويله، ولا يمكنُ أن يعتبر بأي حال من الأحوال (ذيل وتكملة) للبيان والبرهان والعرفان، الشيء الذي جعل الجابري يعترف منذ بداية (مقدّمة في فهم القرآن) أنه لا يتحرّك ضمن «حلقات سلسلة ما»[13]، مما يعني أنه داخل مجهول معرفي غير محدّد المعالم السائرة إليه. كذلك الشأن بالنسبة لمشروعه في نقد العقل العربي فلم يكن خاضعًا لأي تخطيط مسبق.

قد يعني الكلام السابق أن التفكير الفلسفي عند الجابري كان ارتجاليًّا وغير خاضع لضوابط مسبقة أو برنامج عمل يمكنُ أن يسير عليه الفيلسوف مثل موظف إداري خاضع لترتيبات الإدارة أو المؤسسة التي ينتمي إليها، لكن من جهة أخرى فإن هول الانحطاط الذي نعيشه -وما زلنا- يمكن أن يجعل الفيلسوف بطلًا مغامرًا ذا منزلة كبيرة في تناول إشكالات الذات العربية، ليس لأنها معدودة ولكن لكثرتها، وبالتالي لم يمكن من الصعب اختيار الموضوع ما دام الأفق الإشكالي واحد: التخلّف الحضاري. إلَّا أنّ اختيارًا عن اختيار يختلف، فنقد العقل وتحليل بنيات تكوينه ليس مثل فهم القرآن الكريم كما سيأتي بيان ذلك.

ثم بدأ محمد عابد الجابري في تحليل نقد للعقل السياسي العربي بعدما «استفزه»[14] الموضوع، ليتأكد لدينا مرة أخرى أننا أمام موضوعات غير خاضعة لمنطق الاختيار المسبق، وإنما هي موضوعات ومفاهيم وقضايا تستفز العقل العربي، إلَّا أننا لا نعلم كيف سيكون التفلسف المؤسس على الاستفزاز لا على الشك والدهشة والسؤال؟

وبينما هو منهمك في مراجعته الأخيرة لنقد العقل السياسي، وقفت الأخلاق أمام ناظره منادية: أليست الأخلاق جزءًا من السياسة في الفلسفة: ألم يكن تدبير النفس مرتبطًا بتدبير المدينة؟

ثم يأتي التفكير في فهم القرآن الكريم بسبب غياب العقل في أحداث جسام وردود فعل خطيرة في الفكر العربي والإسلامي المعاصر، ولعله يقصد بذلك أحداث 11 سبتمبر 2001 وما تلاها من ردود فعل أيديولوجية خطيرة تهدّد تماسك الأمن العالمي! كما كان تأليف مشروع نقد العقل العربي بأجزائه الأربعة كردّ فعل على ظروف النكسة سنة 1967، وكيف أن الرجل انحاز فيه «صراحة إلى العقلانية والديمقراطية»[15]، وفي التجربتين معًا يمارس الجابري نوعًا من «القراءة البعدية»، أو النقد البعدي لأنه لم يكن مشغولًا بصورة مباشرة بتلك الأحداث والتطوّرات رغم كتابته لمقالات تهتم بالحدث الراهن آنذاك، إلَّا أنها لم تكن بعيدة عن مجال اهتماماته، أي بمشروع بدأ يطل من نافذة هموم المثقّف العربي باستمرار. هل هذا يعني أن مشروع النقد الإبستيمولوجي عند الجابري جاء كردّ فعل غير مفكّر فيه مسبقًا، خاضع للصدفة ورد الفعل والتحيز؟

-6-
النقد بين الفعل وردّ الفعل

إذا سلّمنا بما جاء سابقًا من استفزاز، وتحيّز، وردّ الفعل، كدوافع أساس للتفكير الناقد عند الجابري، فإنا الطريق الذي يبقى أمامنا هو طريق السؤال فقط: لماذا كان نقد العقل العربي على تلك الشاكلة التي قدّمها الجابري؟

نقول: إن واقع التفلسف عند الجابري كان يدلّ على رد فعل صريح تجاه ما يعيشه العقل العربي من تخلّف، فكانت المواجهة معه ومن خلاله، في ساحته الكبيرة والغامضة أيضًا؛ وهو في ذلك يلتحق بزملائه في التفلسف: عبد الله العروي في مفهوم العقل، وطه عبد الرحمن في العمل الديني وتجديد العقل.

لذلك كان الجابري وفيًّا لمنهجية التفلسف المغربي المعاصر، وإن كان بآليات مختلفة، تتّخذ من النقد الإبستيمولوجي رؤية معرفية إلى العقل، خاصة إبستيمولوجيا جاستون باشلار في مفهومه للقطيعة، وإبيستيمي ميشال فوكو في تحليله للخطابات، مع العلم أن الحفريات عند ميشال فوكو استفادت بشكل قوي من نتائج دراسات جاستون باشلار.

هذا الوفاء إلى العقل العربي، هو الذي دعاه إلى التعامل المباشر مع التراث؛ بحيثُ «لا سبيل إلى التجديد، والتحديث إلَّا من داخل التراث نفسه وبوسائله الخاصة وإمكاناته الذاتية أولًا، أما وسائل عصرنا المنهجية والمعرفية فيجب أن نستعين بها فعلًا، ولكن لا يفرضها على الموضوع، وتطويع هذا الأخير في قوالبها بل بالعمل، على العكس من ذلك، على تطويع قوالبها بالصورة التي تجعلها قادرة على أن تمارس قدرتها الإجرائية، أعني وظيفتها كأدوات علمية»[16].

اختيار تفكيك العقل العربي ونقد: قديمه حديثه، سياسة وثقافة، دينًا وعلمانية، لم يكن من أجل إقامة منهج معرفي راسخ في الدقة فقط، بل أيضًا من أجل الابتعاد عن التفسيرات اللاهوتية التي تسقط صاحبها في الأيديولوجيا والدوغما وتسطيح القضايا المصيرية للعقل العربي نفسه. يقول د. محمد عابد الجابري: «لا أرى أن العالم العربي في وضعيته الراهنة يتحمّل ما يمكنُ أن نعبّر عنه بالنقد اللاهوتي. يمكنُ أن نمارس النقد اللاهوتي من خلال القدماء. أعني أن نستعيد، بشكل أو بآخر، الحوار الذي دار في تاريخنا الثقافي ما بين المتكلمين بعضهم مع بعض وما بينهم وبين الفلاسفة، ونوظف هذا الحوار في قضايا عصرنا لإزالة الضباب عنها وجعلها محلّ حوار....»[17].

 

 

 



[1] نحن والتراث، ص: 08.

[2] نفسه.

[3] نفسه.

[4] نفسه.

[5] نفسه.

[6] الحداثة والتراث، ص: 32.

[7] نفسه.

[8] نفسه.

[9] نفسه.

[10] ينظر تكوين العقل العربي.

[11] تكوين العقل العربي، ص: 12.

[12] نحن والتراث، ص: 06.

[13] مدخل إلى القرآن، ص: 13.

[14] نفسه.

[15] نفسه، ص: 14.

[16] محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي: دراسة تحليلية نقدية لنظم المعرفة في الثقافة العربية، نقد العقل العربي، 2، ط4، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1994، ص: 568.

[17] محمد عابد الجابري، التراث والحداثة، ص: 257.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة