شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
بلاغة التصلية في التراث العربي الإسلامي..
من الوظيفة الّتعبّدية إلى الوظيفة الحجاجيّة
الدكتور عبدالفضيل ادراوي*
تقديم
تروم هذه الأسطر الدفاع عن وجهة نظر يزعم صاحبها أن خطاب التصلية في التراث العربي الإسلامي يتجاوز مجرَّد كونه طقسًا تعبديًّا محدودًا، تنحصر وظيفته في ترجمة الاستجابة الإيمانية للشخص في علاقته بنصوص وحيانية عديدة ندبت إلى ترديد التصلية وتكريرها بوصفها ذكرًا مباركًا مثابًا عليه.
فقد عُدَّت التصلية من أبرز صيغ الذكر والدُّعاء في التراث العربي الإسلامي، وهي من الملفوظات الأساس التي لها إجلال خاص في وجدان المسلم[1].
ومن يتأمّل المأثور من كلام الرسول والأئمة (عليهم السلام)، يجد احتفاءً بيّنًا بهذه الشعيرة، التي وردت بصيغ مختلفة، وحائزة قدرًا لا يُستهان به من الحيوية الإبداعية، والطاقة التعبيرية الخاضعة لوعي جمالي، يُسَخِّر أرقى الإمكانات البلاغية المتاحة، ويوظف أثرى الصيغ الأسلوبية الممكنة التي تجعلها مغتنية بأبعاد تربوية تخليقية، ومرامٍ تأثيرية حجاجية عميقة، تتواشج تمامًا مع منطق الأدوار الرّسالية الدقيقة المنوطة بالرسول والأئمة في المجتمع الإنساني.
التصلية شكلًا شرعيًّا بسيطًا
التصلية في معناها البسيط تخصيص الرسول وأهل بيته والأنبياء والأولياء بالدعاء والتزكية، وفق كيفية حدّدت خطوطها العريضة نصوص الوحي وتوجيهاته. فهي شكل بسيط، يقوم على الاختزال والاختصار «لا يتجاوز الكلمات المعدودة»[2]، له غاية تعبُّدية محضة، يعكس الدلالة القريبة للممارسة الدينية أو (فقه المناسك)، بما هو ملفوظ مباشر يقصد به السلام على الرسول والأنبياء والصالحين، والدعاء لهم والسلام عليهم، وربط الصلة بهم وعدم قطيعتهم.
فهي إذن ملمح من ملامح التعبّد، وصيغة محدّدة من صيغ الذكر، تجد أصلها في القرآن الكريم في قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّون على النَّبِيّ، يَا أَيُّها الذينَ آمَنُوا صَلُّوا عَليْهِ وَسَلِّمُوا تَسْليمًا}[3].
فهي صيغة توقيفية، يمكن أن نقول عنها: صيغة بسيطة تؤول إلى صورة تلفظية أساس: «اللهم صلِّ على محمد وآل محمد كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم، وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد»[4].
وهي صيغة متواترة وشائعة، نظرًا إلى طابعيها التعبُّدي والتعليمي، مطلوبة في الصلوات اليومية، وهي من أجزائها، لا تتمّ الصلاة من دونها، بحسب ما هو مقرّر ومأثور بين المسلمين. فهي من هذا المنظور ، وبعبارة أ. مونتاندون خطاب يبدو فيه «اللفظ محيلًا على مضمون أكثر مما يحيل على تقنية في التأليف»[5].
كما أنها شكل تعبيري بسيط، بالنظر إلى تقاليده في طريقة التركيب وفي طبيعة الأسلوب. فالأشكال البسيطة -كما يرى أ. يولس- ترتبط بما هو شفهي، ولا ترقى إلى مستوى الجنس الأدبي المركب والممتد. والبسيط عنده يتميّز بكونه يؤسّس لتقاليد جديدة غير محدّدة ولا متوافَق عليها في عرف الأجناس، وهو من حيث منتجه أو مرسله لا يرتبط بمنتج معين ومعروف[6].
وتبعًا لبساطة صيغ التصلية عُدّت من تفريعات الذكر والدعاء، وعرفت حضورًا بيّنًا في جل الخطابات والأجناس الأخرى، كالخطب والرسائل والقصص وغيرها. بل إنها صارت بمثابة اللازمة المعنوية واللفظية التي لا يتخلَّى عنها الكتاب. وقد عدَّها البعض بمثابة التهيُّؤ الروحي لتحقّق المطالب ونيل الحاجات، فـ«الصلاة على النبي وآله وصحبه المنتجبين مقدمة فضلى ومباركة لقبول أي طلب»[7].
غير أن التصلية في هذا المستوى تكون مجرّد موضوعة جزئية واردة ضمن التشكيل الفني لهذا النوع أو ذاك، وفي مستوى آخر، تتواتر التصلية متحقّقةً نصوصًا متعددةً، وذات هوية بلاغية خاصة، ينجذب جانب منها نحو المحايثة والتجريد، وينجذب جانبها الثاني نحو المغايرة والتنوّع.
فتعرف غنىً بيّنًا وثراءً لافتًا من حيث تنويعاتها الفنية، وطرق تشكّلها وفق سياقات خطابية وتداولية عديدة، تختلف لغة ودلالةً وحجمًا، الأمر الذي يبرّر تخصيص هذا النمط من القول بمعاينة بلاغته النوعية، وقياس طاقاته التعبيرية التداولية في سياق التواصل الإنساني.
التصلية وسمات التواصل والتلاقي
يبدو خطاب التصلية وسيلة تربوية تروم تحقيق نفس الغايات والمرامي الترشيدية التخليقية المنشودة في منظومة الفكر الإسلامي. فهي في جوهرها تجسيد عملي وتحقيق فعلي لربط أواصر التواصل بالأنبياء والصالحين والأولياء، وإعلان الارتباط بهم والكينونة معهم؛ «وَأَمْضِي مَعَ الفَائِزينَ مِنْ عِبادِكَ الصَّالِحينَ»، «فَسُقْني بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصّالِحينَ وَفي زُمْرَة أَوْلِيائِكَ المُتَّقِين»[8]، «أَتَيْتُكَ بِأَبِي وَأُمّي زَائِرًا عَارِفًا بِحَقِّكَ مُوَالِيًا لِأَوْلِيَائِكَ»[9].
وهذا في حدِّ ذاته سلوك منشود ومبتغى في منظومة الفكر الإسلامي عمومًا، بما هو ممارسة لتثبيت الخط العملي للعقيدة الإسلامية كما جسدته تلكم النماذج الصالحة التي استحقت التخليد بالتصلية والتسليم.
إن كل شخصية مقدسة استطاعت أن تثبت اسمها في الذاكرة الإسلامية على مر التاريخ، تحظى بواجب التذكر والاستحضار والتخليد، عبر الصلاة والتسليم عليها، سواء أكانت مفردة أم ضمن جماعة من الصالحين، لأنها فرد «من السلف الصالح، وفرد من الأسرة المسلمة الممتدة عبر توالي الأجيال»[10].
في الزيارة الجامعة الصغيرة[11]: «الّلهُمّ صَلِّ على مُحمّد وَآلِه، السّلامُ على أولياءِ الله وأَصْفيائِه، السَّلامُ على أُمَناءِ الله وأَحِبّائِه، السَّلامُ على أنصار الله وخلفائه، السلام على مَحَالِّ معرفةِ الله، السلام على مساكنِ ذكرِ الله، السلام على مظهري أمر الله ونهيه، السلام على الدُّعاة ِإلى الله، السلام على المُستَقِرِّين في مَرْضاةِ الله، السلام على المُخلِصين في طاعةِ الله، السلام على الأَدِلَّاء على الله، السلام على الذين من والاَهُم فَقَدْ وَالى الله، وَمَنْ عَاداهُم فَقدْ عَادى اللهَ، وَمَنْ عَرَفَهُم فَقَدْ عَرَفَ اللهَ، وَمَنْ جَهِلَهُم فَقَدْ جَهِلَ الله، وَمَن اعْتَصَمَ بِهم فَقَدْ اعْتَصَمَ بالله، وَمَنْ تَخَلَّى مِنْهُم فَقَدْ تَخَلَّى مِنَ الله عزّ وجَلّ، وأُشهِدَ الله أَنِّي سِلمٌ لِمَنْ سالَمتُم وحَرْبٌ لِمَنْ حَارَبْتُم، مُؤمِنٌ بِسِرِّكُم وَعَلانِيتِكُم، مُفوِّضٌ في ذلك كُلِّهِ إِلَيْكُم، لَعَن اللهُ عَدُوَّ آلِ مُحمّد من الجن والإنس، وَأَبْرَأُ إلى الله مِنهُم، وَصَلَّى اللهُ على محمّد وآلِه».
يجسّد نص التصلية استحضارًا مباشرًا للصالحين، ولذكرياتهم الإيمانية، وما يقترن بذلك من سلام ودعاء وشهادة. وفيها يعبّر المتحدّث عن مشاعره التبجيلية الصادقة تجاه هذه الأمة من المؤمنين التي سبقته بالإيمان، واستحقت الثناء لأنها نالت الاصطفاء الإلهي بإخلاصها.
فقد أقامت الصلاة، وأدّت الزكاة، وأمرت بالمعروف، ونهت عن المنكر، ونهضت برسالة الدعوة إلى توحيد الله، وعبّدت الناس لله الأحد، ورفعت كلمةَ التوحيد ومهّدت الطريق للأجيال اللاحقة، فكأن المصلّي يعبر عن وفائه لذلك ويرد هذا الجميل، عبر مشاعر السلام والحب التي يعلنها تجاه السلف، ويبغي تحقيق التواصل معهم.
تبدو التصلية من هذه الناحية عملا ًتربويًّا وترشيديًّا، يساهم في إقامة جسور التواصل بين الأجيال وبين الأفراد، «ليتعارفوا ويتآلفوا، ثم تطبع في قلوبهم روح الانقياد إلى الله والانقطاع إليه وطاعة أوامره»[12]، ما يساهم في تحقيق «التواصل» و«التوارث» و«التسالم» و«التحابب» و«التلاقي» بين أجيال الموحدين، ورموز الصلاح والتقوى، وخاصة القادة منهم.
تجسد التصلية هذا الترابط وتبلوره بين الأجيال، وتعبّر عن مشاعر الخلف تجاه السلف، بما يبلور «اللقاء بين أجيال المؤمنين»[13] ويمتّن «رابطة الولاء والمحبة بين الأئمة وأوليائهم وبين أفراد المجتمع فيما بينهم»[14].
وهذا يحقّق التواصل بين الخلف والسلف، وبين الحاضر والماضي، بين الأحياء وبين الأموات.
التّصلية وذهول التسليم لجلال المخاطَب
إن المصلي في توجّهه إلى مخاطبه، المعني بالتصلية والسلام، لا يعلن عن مطالبه الخاصة ولا يهتم بها، وإنما ينقلها إلى الشخصية التي يخاطبها ويصلي ويسلم عليها، فهو يثق بأن هذه الشخصية المخاطبة، سابقة عليه زمنيا، وهي متقدّمة عليه في الإيمان، ما يجعلها مؤهّلة لمساعدته في تحقيق مطالبه، ويرى لها الكفاءة والأهلية للنيابة عنه، فتستحق منه الوفاء والإخلاص، والعهد بمواصلة السير على النهج نفسه.
ويطمع في نيل الشفاعة منها واستحقاق العطف منها: «.. فَاشْفَعُوا لِي عِنْدَ الله، وَاسْتَنْقِذُوني مِنْ ذُنُوبِي عِنْدَ اللّه، فَإِنَّكُم وَسيلَتِي إِلى الله، وَبِحُبِّكُم وَبِقُربِكُمْ ِأَرْجُو نَجاةً عِنْدَ الله، فَكونُوا عِنْد الله رَجائي، يَا سادَتِي يَا أَوْلِياءَ الله صَلَّى اللهُ عَليهِم أَجْمَعين، ولَعَنَ اللهُ أَعْداءَ الله ظَالِميهم مِنَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرينَ، آمينَ رَبَّ العالَمِينَ..»[15].
فيبدو كيف يؤسّس نصّ التصلية جانبًا من بلاغته النوعية بالتركيز على سمات التواصل واللقاء التي يرغب المتكلّم في إقامتها ونسج خيوطها، ويُوليها أهمية أكثر من مطالبه وحاجياته الخاصة.
بل إن المطالب الشخصية تغدو هي الأخرى تصبّ في خانة إعلان الولاء والجهر بالانضمام لخط هذه الشخصيات المخاطبة، وإعلان البراءة من أعدائها، دليلًا على إثبات الوفاء والإخلاص. بل إن المصلّي يرى في ذلك جوهر التعبُّد وصميم التقرب إلى الله.
لذا فهو كثيرًا ما يستغل أجواء الخطاب وروحانيته، للاعتراف بتقصيره أمام الله ويعلن أن قصده من صلاته على الصالحين وسلامه عليهم إنما هو عمل في سبيل إحياء رسالة هؤلاء الذين سبقوه، وفي سبيل إبقائها متجدّدة: «.. وَهذَا مَقَامُ مَنْ أَسْرَفَ وَأَخْطَأَ وَاسْتَكَانَ، وَأَقَرَّ بِمَا جَنَى، وَرَجَا بِمَقَامِهِ الخلاَصَ... الّلهُم اجْعَلْ لي لِسانَ صِدْقٍ في أَوْليائِكَ المُصْطَفينَ، وَحَبِّبْ إِلَيَّ مَشَاهِدَهُمْ وَاجْعَلْنِي مَعَهُمْ في الدُّنْيا وَالآخِرَةِ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ»[16].
ومن السمات النوعية لنصوص التصلية، اعتمادها صيغة الخطاب المباشر، واستحضار الشخصيات المعنية بالتصلية عبر توظيف أفعال كلامية بصيغ تتعدّد ملفوظاتها لكنها تتّحد في تحقيق الاستحضار المباشر للشخصية؛ فيتوجّه إليها بالأمر؛ «فكونوا لي..»، «فاشفعوا لي»، وبالنداء «أيها النبي - يا أمين الله - يا حجة الله – يا ولي الله - يا سادتي..»، وغيرها من الأساليب التي تتيح المخاطبة المباشرة والتموضع في محضر المخاطب بما يجعله شاخصًا حاضرًا، وفي مقام من «يسمع الكلام ويرد السلام».
هذا الإجراء البلاغي يتيح للمتكلّم انتهاج خطاب المحاورة الانفرادية التي فيها يستحضر الشخصية ويكلّمها مباشرة، ويثني على مناقبها ويتقرّب منها، رجاء استحقاق الشفاعة ونيل القرب منها. وهذا في حدّ ذاته مظهر حجاجي، مفاده الإقناع بتميّز هذه الشخصيات، وبيان قيمتها وجلالها وقداستها، من جانب، ثم تثبيت ثقافة التواصل والارتباط بها عبر التصلية بعد موتها، فأحرى أن تكون واجبة الاتباع والامتثال في حياتها ووجودها بين الناس.
كما تعتمد التصلية نَفَسًا ترشيديًّا تخليقيًّا من خلال التركيز على ذكر مآثر السابقين وأخلاقهم وجهادهم وتضحياتهم في سبيل نصرة الحق، وإخلاصهم في الانقياد لله وتوحيده وإعلاء كلمة الدين. ما يجعل معاينة البلاغة النوعية لهذا الخطاب مرتكزة إلى وظيفيتها التأثيرية، بما سعي نحو الإصلاح الاجتماعي والتوجيه التربوي والأخلاقي.
التصلية الكاملة والعمق الحجاجي
من الأمور اللافتة في صيغ التصلية نَفَسُها الِحجاجيُّ، وحماسها الواعي في التأصيل لمبدأ الإمامة في العقيدة الإسلامية. إن أغلب الصيغ تؤول في نهاية المطاف إلى أطروحة تثبيت قضية الإمامة الشرعية ومركزيتها في العقيدة، بوصفها قضيةً جوهريّةً وأصلًا متأصلًا في الاعتقاد والإيمان، وطريقًا للخلاص وتبرئة الذمة.
إن التصلية لا ترد إلَّا في صيغتها الكاملة، التي يمكن إرجاعها إلى ملفوظ بسيط تؤول إليه كل الصيغ المتداولة؛ (الّلهم صل على محمد وآل محمد)، حيث ترد الصلاة على الرسول متبوعة بالصلاة على أهل بيته.
كما نجد تحذيرات صريحة من الصلاة البتراء، «لا تُصَلّوا عَلَيَّ الصّلاة الَبتْراء، فَقَالوا: وما الصّلاةُ البَتْراءُ؟ فقال: تقولون: الّلهُمّ صَلِّ على مُحَمّد وتُمسِكُون بَلْ قُولوا: اللّهمَّ صَلِّ على مُحمّد وعلى آلِ مُحَمَّد»[17].
هذا الأمر يجعل الصيغة ترقى إلى لترتبط بسياق عقدي أعمق. ويكفي لتوضيح هذا الأمر معاينة فقرات من نصوص تصلية متضمنة لأسماء الأئمة محدّدين ومعينين، ومرتَّبين بالطريقة نفسها التي عرفت توليهم الإمامةَ في حقب تاريخية متعاقبة: نقرأ في دعاء الافتتاح؛ «اللّهُمّ صَلِّ على محُمدٍ عبدِك ورَسولِك.. وصَلّ على عَلِيٍّ أميرِ المؤمنين، وَوَصِيّ رسولِ ربّ العالمين، عبدِك ووليِّك، وأخِي رسُولِك، وحُجَّتِك على خلقك، وآيتِك الكبرى، والنّبإِ العَظيمِ، وصَلِّ على الصّديقةِ الطاهرةِ فَاطمةَ الزّهراءِ، سيدةِ نساءِ العالمين، وصَلّ على سِبْطي الرّحمة وإماميْ الهُدى، الحسنِ والحسينِ سيّدَيْ شَبابِ أهلِ الجَنّة، وصَلِّ على أئمةِ المسْلمين عَلِيِّ بنِ الحُسين، ومُحمّدٍ بنِ عليٍّ، وجعفرٍ بنِ محمّد، ومُوسَى بنِ جَعفرٍ، وعَلِيِّ بْنِ مُوسَى، وَمُحمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، وعَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ، والحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، والخَلَفِ الهَادِي المَهْدِيِّ؛ حُجَجِكَ عَلَى عِبَادِكَ، وَأُمَنَائِكَ فِي بِلَادِكَ..»[18].
فتبدو التصلية ملفوظًا يجسّد أمر الإمامة، من خلال التنصيص على أسماء الأئمة الشرعيين، وبيان ارتباطهم بخط الرسالة عبر ابنة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) السيدة فاطمة، بوصفها الحلقة الرابطة بين الأئمة وبين الرسالة والنبوة. وذلك بالتركيز على مواصفات تقديسية إجلالية، يختصّون بها ويُعرفون بها، اصطفاهم بها الوحي وجعلها من سماتهم، مستندة إلى سند غيبيّ، ومرجعيةِ جعلية توقيفية.
هذه التوصيفات هي نفسها التي تتواتر في صيغ التصلية، ويتمّ توظيفها في سياقات مختلفة، لتغدو موضوعة الإمامة والرسالة علامة لغوية ودعوى إقناعية، موجِّهةً وعي المسلم، من أجل تمثّل سرّ هذا الربط والتلازم. فهي بمثابة خطاب عقدي مختصر يروم ترسيخ فكرة أن الرسالة لا تنفصل عن الإمامة، وأن لا انفصال بين (الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)) وبين (الأئمة) من بعده. فتكون عنوان الامتثال للأمر الإلهي بالصلاة على النبي وعلى الآل «لا تصلوا عليَّ الصلاة البتراء»، وإشعارًا بأن طريق التعبّد لا يوصل إلَّا بانتهاج سبيل محمد والأئمة من بعده.
تبعًا لذلك تكون التصلية توجيهًا لفظيًّا دالًّا، مُراده تثبيت عقيدة الولاء لخط الإمامة، القائم على التسليم بإمامة الرسول الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعترته من أهل بيته. فتساهم التصلية بصيغها الكاملة المتكرّرة بإلحاح في الأخذ بيد الإنسان وتعريفه مصيره ومصالحه الدينية والدنيوية بغاية تحقيق «الخلاص القيمي والمعنوي الروحي، بما هي الغايات الكبرى المنشودة»[19].
بلاغة الهمس بسر التَّعبُّد
تساهم التصلية بصيغتها الرابطة بين النبوة والإمامة، في خدمة الغايات الإقناعية الترشيدية لعقيدة الإمامة الشرعية، وفي مقدّمتها ترسيخ هذا المعتقد في المتلقّين، وتربيتهم على الإيمان بخط الإمامة التي تعدُّ امتدادًا لخط النبوة والرسالة. فهي تتجاوز مجرّد الحلية اللفظية، لتصبح بمثابة سمة تكوينية في التصلية، لها وظيفتها التواصلية ترشيدًا وإقناعًا، بغية تمثُّل الناس لهذا المفهوم وتجسيده عمليًّا في حياتهم. خاصة بملاحظة تعمُّد التكرار الواعي والهادف لصيغة التصلية الكاملة التي يقترن فيها ذكر الرسول بالآل[20] .
ويربط روح الله الخميني ربطًا طريفًا بين التصلية وبين البسملة من جانب الوظيفة العقدية التربوية، ومن جانب أبعادهما الروحية والمعنوية. فتواتر التصلية في الخطاب الإسلامي بصيغتها الكاملة غير البتراء، يوازي ورود البسملة في مفتتح كل سورة من سور القرآن الكريم؛ فالبسملة في القرآن المجيد هي لفتح العالم بما حوى، والكون بما استوعب على الله جل جلاله، لتنبيه كل الموجودات وتعريف المخلوقات بحقيقة خلقتها الراجعة إليه سبحانه والمتوقّفة عليه. فلا وجود ولا حقيقة للشيء في ذاته إلَّا بافتقاره إلى موجده وخالقه.
أما التصلية فهي دليل الربط وطريق الوصول إلى الله؛ فلا إمكان لمعرفة الله تعالى أو البلوغ إليه، إلَّا بمعرفة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومعرفة الأئمة من عترته وأهل بيته، أي بمعرفة الإمامة الشرعية الموصلة إلى النجاة الحقة[21].
لذلك يُشير هذا العارف إلى البعد العمليّ التداوليّ للتصلية، لدورها في تحفيز المسلم نحو السير والسلوك إلى الله، مع التبصر والفهم الصائب للطريق الواجب اتّباعه[22].
إن التصلية بصيغتها التامة «تُذكّر العبد السالك حصولَ التوحيد الحقيقي «(اللّهُم) توجه طلبي إلى الله وحده مصدر العطاء، فهو منتهى غايات الطالبين، و(صَلّ) إعلانُ الحاجة إلى النبي الخاتم والولي المطلق (النبي الأكرم محمد والأئمة من أهل بيته) في هذا المعراج السلوكي من المقامات الشاملة التي لا بد للسالك أن يتوجّه إليها في جميع المقامات»[23].
إن السير التعبُّدي للإنسان في هذه الحياة يستلزم إذن الارتباط والتوسُّل بالرسول وبأهل بيته، فـ«العبد السالك لا بد أن يراقب نفسه، وألَّا يقصر في طاعة الرسول التي هي طاعة الله، وفي طاعة الولي (الإمام) التي هي طاعة الرسول، لئلَّا يحرم مساعدة الولي المطلق في بركات العبادة، بمساعدة ولي النعم والرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام المعصوم المُعَيَّن، المخصوص بالولاية والطاعة بعد الرسول»[24].
ومن هنا نفهم قيمة التصلية في المنظومة الإسلامية عمومًا، ومغزى ترغيب القرآن الكريم[25] والأحاديث النبوية الشريفة[26]، في هذه التصلية، والإلحاح عليها في كل الأوقات والأحوال. حتى اعتبرها القاضي عياض فرضًا عامًا: «اعلم أن الصلاة على النبيّ فرض على الجملة غير محدّد بوقت لأمر الله تعالى بالصلاة عليه»[27].
واعتبرت دعامة لقبول الأعمال في قول الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام): «إذا كانت لك إلى الله سبحانه حاجة فابدأ بمسألة الصلاة على رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثم سلْ حاجتك؛ فإن الله أكرم من أن يسأل حاجتين، فيقضي إحداهما ويمنع الأخرى»[28].
التصلية وبلاغة الولاء.. بلاغة الاصطفاء الوحياني
لا يفتأ المصلي في كل مناسبة يخاطب فيها الأنبياء والأئمة يجاهر بعقيدته الصحيحة كما يؤمن بها، ويميّز نفسه عن تيارات الانحراف والجحود التي قد تعرفها الساحة العقدية. فيقرّ لشخصية الرسول بكونه الإمام الحق، والقائد والولي الشرعي، ويعترف في حضرته بسلطته على الناس وبحتمية الانصياع والقبول بما يدعو إليه، أو ينهى عنه ويحذر منه. فهو معيَّن من الله ومرسل من عنده. ومن ثمَّة فاختياراته وتوصياته بشأن قضايا المجتمع والسياسة تكون جزءًا من قداسته وسلطته، وهي تستوجب حتمًا التنفيذ والاتِّباع والطاعة، وإلَّا فإن في مخالفتها مساسًا بجوهر الاعتقاد لدى الفرد.
في مقطع يخاطب فيه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «بِأَبي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسولَ اللهِ، زُرْتُك عَارفًا بِحَقِّكَ، مُقِرًّا بِفَضْلِكَ، مُسْتَبْصِرًا بِضَلَالَةِ مَنْ خَالَفَكَ وَخَالَفَ أَهْلَ بَيْتِكَ، عَارِفًا بِالهُدِى الذِّي أَنْتَ عَلَيْه..»[29]، يُستحضر الأئمة من آل الرسول، ويتم الإقرار في حضرتهم بمكانتهم والاعتراف بجلالة قدرهم: «اللّهم يَا مَنْ خَصَّ مُحمَّدًا وَآلَهُ بِالكَرَامة، وَحبَاهُم بِالرّسالة، وَخَصّصَهُم بِالوَسيلَة، وَجَعَلَهُم وَرَثَةَ الأَنْبِيَاءِ، وَخَتَمَ بِهِم الأَوْصِياءَ وَالأَئِمَّة، وَعَلَّمَهُم عِلْمَ ما كان وما بَقِي، وَجَعَلَ أَفْئِدةً من الناس تَهْوي إِليْهِم»[30].
يتبيَّن أن المتحدِّث يحاجج لأفضلية هذه الشخصيات بالاستناد إلى سلطة الغيب، والاتِّكاء على معطيات الوحي بما هو سلطة نصية فاعلة وحاسمة في مخيال كل فرد مسلم.
وهو يجعل الأفضلية المطلقة لهذه الشخصيات قائمة على حجة الاصطفاء الرباني الذي لا مجال معه للاختيار الشخصي. فالرسول والأئمة من آل البيت أناس منتظمون ضمن مبدأ (الجعل) الإلهي، ولحقيقة التعيين الفوقيّ التوقيفيّ، الذي لا تدخّل ولا خيار فيه للإنسان إلَّا القبول بما ارتضاه الله واختاره.
بلاغة التوصيف التّفضيليّ
تنزع كثير من نصوص التصلية منزع انتصار المصلِّي لرؤيته العقدية ولاختيارات خاصة تجد مرجعيتها في مقرّرات الوحي وتوجيهاته بشأن تفضيل الشخصيات المخصوصة بالتصلية وأهليتها لأن يُقتدى بها وتُتَولى دون سواها. يتم ذلك من خلال جملة من الأوصاف التي ينْتقيها المتحدِّث بدقة ويُضفيها على مخاطبيه، بما يجعل منهم شخصيات تستلزم الركون إلى جانبها والاصطفاف إلى معسكرها، بوصفها مَجمَع الفضائل الحميدة: «أَنْتَ أَحْسَنُ الخَلْقِ عِبادَةً، وَأَخْلَصَهُمْ زَهادَةً، وَأَذَبَّهُمْ عنِ الدّين، أَقَمْتَ حدودَ الله بِجُهْدِكَ وَفَلَلْتَ عَسَاكِرَ المارِقينَ بِسَيْفِكَ، تُخْمِدُ لَهَبَ الحُرُوبِ بِبِنانِك وَتَهْتِكُ سُتورَ الشُّبَهِ بِبِيَانِك، وَتَكْشِفُ لُبْسَ البَاطِلِ عَنْ صَرِيحِ الحَقِّ، لا تَأْخُذُكَ في الله لَوْمَةُ لائِمٍ»[31].
يسطر المصلي جملة شمائل ومواصفات مثالية وحيانية، تغدو بموجبها الشخصيات المخاطبة في التصلية مقدَّمة على من سواها، ومهيَّأة لتحمّل أعباء العمل الرّسالي، والاستعداد للتضحية وتحمّل المصاعب والمشاق، بما تتميَّز به كمالات مادية ومعنوية: «الدّافِعُ حيثياتِ الأَباطيلِ، والدّافِعُ صَوْلاتِ الأَضاليل... أَضاءَ الطَّريقَ لِلْخابِطِ.. فَهُوَ أَمِينُكَ المَأْمُونُ وَخازِنُ عِلْمِكَ المَخْزِون»[32]. وهو «أَمِينُكَ عَلى وَحْيِكَ وَنَجِيبُكَ مِنْ خَلْقِكَ وَصَفِيُّكَ مِنْ عِبَادِكَ، إِمَامُ الرَّحْمَةِ وَقَائِدُ الخَيْرِ وَمِفْتاَحُ البَرَكَةِ».
هذه التوصيفات تجعل من المخاطب شخصًا يستمد أفضليته من تصدّيه لتنفيذ برنامج الإصلاح في المجتمع الإنساني، ومن مبادرته للقضاء على صور الباطل وأنواع الانحراف.
إن حجة الأفضلية المعتمدة في المحاججة راجعة إلى السبق في مجال التضحية من أجل رفع الظلم وإقامة العدل والاستعداد لتحمل كل الصعاب: «وَأَشْهَدُ يا مَوْلَايَ أَنّكَ نَهَضْتَ بِأَعْباءِ الإِمامَةِ وَاحْتَذَيْتَ مِثالَ النّبُوّةِ في الصَّبْرِ وَالجِهادِ وَالنّصيحَةِ لِلْعِبادِ وَكَظْمِ الغَيْظِ وَالعَفْوِ عَنِ النَّاسِ»[33].
وعلى هذا المنوال يكون جميع الأشخاص الذين يقصدهم المصلّي ويُسلِّم عليهم، حائزين أفضليتهم ومكانتهم من الله، فهم حجج الله، مكلّفون بوظائف تضمن نصرة الدين وهداية البرية وتعليم الناس وترشيدهم (نبي الله، رسول الله، صفوة الله، صفيه، خيرته، سيد الأولين، مطه، طاهر، أذهب الله عنهم الرجس، طهرهم، الطاهرات، أصحابك الطيبين..).
يبدو التركيز على التوصيفات المميِّزة لشخصية الرسول والأئمة والصالحين، خطة فنية واستراتيجية بلاغية، واضح نَفَسَهَا الإقناعيّ؛ تروم ترسيخ حقيقة أفضلية هؤلاء، وخصّهم بالتقديم على من سواهم، بوصفهم نماذجَ بشريةً معنيةً بالتقديم والثناء والتقديس، في أفق الارتقاء بها إلى موقع القدوة المستحقة منصب الإمامة، الواجب اقتفاء خطاها في الإيمان والأخلاق.
يدرك المصلّي إذن أن هؤلاء الأشخاص هم بعبارة أَلْفْرِدْ بِلْ: «المقررون بقرار إلهي... ولهم مكانتهم الدينية... من عترة النبي»[34]، و«الوارثون لمكانته السامية، وعلومه ومناقبه الروحية الخاصة»[35]، لهم ارتباط نَسَبِي بالبيت النبوي، وهم تبعًا لذلك ذوو مسؤوليات ترشيدية وتخليقية تبدو إلى حدٍّ كبير امتدادًا لمسؤوليات الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم). فهم من يضمن «سلامة الهداية الدينية للأمة الإسلامية من الناحية الروحية»[36].
وارتباطًا بأجواء التصلية وبسياقها التّعبدي المحكوم بروحانية الإيمان، وبمهابة المخاطَب المجلّل بالقداسة والتقوى، فإن المصلّي يستند غالبًا إلى سرد معايير ووقائع أهَّلَت الشخصية المخاطبة لتكتسب سمات من التميُّز والتفوُّق، وتبعًا لذلك تُستدعى في سياق تفضيلي يوجب تحقّق الإذعان لجلال هذه القداسة والتسليم لكمالها، ما يجعل منها حجة مقنعة نافذة التأثير.
نقرأ في زيارة النبي من بعد: «.. غَمَسْتَهُ في بَحْرِ الفَضيلَةِ والمَنْزِلَةِ الجَليلَةِ والدَّرَجَةِ الرَّفيعَةِ، والمَرْتَبَةِ الخَطيرَةِ، وَأَوْدَعْتَهُ الأَصْلابَ الطَّاهِرَةَ، وَنَقَلْتَهُ مِنَ الأَرْحامِ المُطَهَّرَةِ، لُطْفًا مِنْكَ لَهُ وَتَحَنُّنًا مِنْكَ عَلَيْهِ. إِذْ وَكَّلْتَ لِصَوْنِهِ وَحِرَاسَتِهِ وَحِفْظِهِ وَحِيَاطَتِهِ مِنْ قُدْرَتِك عَيْنًا عَاصِمَةً، حَجَبْتَ بِها عَنْهُ مَدَانِسَ العُهْرِ وَمَعَائِبَ السِّفَاحِ حَتَّى رَفَعْتَ بِهِ نَوَاظِرَ العِبَادِ، وَأَحْيَيْتَ بِهِ مَيْتَ البِلادِ، بِأَنْ كَشَفْتَ عَنْ نُورِ وِلادَتِهِ ظُلَمَ الأَسْتارِ، وَأَلْبَسْتَ حَرَمَكَ بِهِ حُلَلَ الأَنْوارِ»[37].
يتمثّل المخاطب شخصية مثالية، مقدّسة بكمالها وبطهرها، وبمواصفاتها المعجزة المستمدّة من الغيب.
وهذه في حدِّ ذاتها حجج مقنعة تستند إلى سلّم القيم الإيجابية التي تُعدُّ من المشتركات المتَّفق عليها، غير القابلة للردّ أو التشكيك.
وتبعًا لذلك يتحيَّز المصلِّي إلى هذه الجهة المخصوصة بالتصلية والسلام، ويعيّنها أو يفردها بالثناء والاعتراف، مانحًا إياها مركز السبق والأفضلية على من سواها، موقنًا أنها بحق تمثّل منظوره الإيماني وتماشي قناعاته العَقَدية، فيعتبرها وحدها الكفيلة بتحمّل المسؤولية الكبرى في القيادة والولاية.
«السَّلامُ عَلَيْكُمْ أَئِمَّةَ الهُدَى، السَّلامُ عَلَيْكُم أَهْلَ التُّقَى... أَشْهَدُ أَنَّكُم الأَئِمَّة الرَّاشِدُون المهدِيُّون، وَأَنّ طاعَتَكُم مَفْروضَةٌ، وَأَنّ قَوْلَكُم الصِّدْقُ، وَأَنّكُم دَعَائِمُ الدّين، وَأَرْكانُ الأرض... مَنَّ بِكُمْ عَلَيْنا دَيَّانُ الدّين، فَجَعَلَكُم فِي بُيوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فيها اسْمُه»[38].
فالمخاطبون –بحسب منظور المصلّي- أشخاص على مستوى من التّميُّز والفرادة، مخصوصون بالإمامة وبالقيادة وهداية الناس؛ لأن سماتهم الصدق والتقوى وجماع الخير كله. فهم مجعولون من الله لحراسة دينه وتنفيذ برنامجه؛ لذلك كانت طاعتهم واجبة ومفروضة، بحجة الجعل الإلهي وبسلطة الوحي والانتداب الرباني.
ختـــامــا
لقد بدا خطاب التّصليّة في التراث الإسلاميّ -إذن- شكلًا تعبيريًّا بسيطًا ومختزلًا، ثريًّا بطاقات تعبيرية هائلة، وسالكًا نهجًا بلاغيًّا نوعيًّا، ما منحه هويةً تواصلية خاصة جعلته يرتقي إلى أن يكون بوابة تربوية اعتمدت لترسيخ العقيدة الحقة في نفسية المؤمن، خاصة عبر صيغة التصلية الكاملة غير البتراء، التي تقترن فيها الصلاة على الرسول والصلاة على أهل بيته.
وقد تبيَّن أن أطروحة الإمامة الشرعية تشكّل جوهر التّصليّة الإقناعيّ وغاياتها التأثيرية، التي تهمس للمؤمن بتلازم خَطَّي الإمامة والرسالة. وبذلك تتجاوز التصلية مجرّد كونها صيغة من صيغ الذكر الحسن، لتغدو علامة لغوية ورسالة حجاجية تروم توجيه السلوك وتغيير القناعات في سبيل بناء الشخصية المؤمنة الواعية.
[1]* باحث بكلية الآداب في تطوان، المغرب. البريد الإلكتروني: d_abdelfdil2006@hotmail.com
لقد خصّص صاحب الشفا فصولًا بكاملها لبيان فضيلة التصلية، وكونها من موجبات المغفرة والشفاعة. انظر مثلًا: ص 66 (فصل في كيفية الصلاة عليه)، ص 72 (فصل في فضيلة الصلاة عليه)، ص 75 (في ذم من لم يصلِّ عليه)، ص77 (في تخصيصه بتبليغ صلاة المصلين). وهي فصول تتضمّن روايات عديدة ومتواترة ، وتشكّل دعامة أساسًا لفهم أهمية نصوص التصلية في المخيال العربي الإسلامي، وارتقائها إلى مستوى الحجة الإقناعية المسلّم بها في سياق التخاطب الإسلامي.
ينظر: القاضي عياض (ت544هـ)، الشفا بتعريف حقوق المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم)، تحرير: عبد السلام محمد أمين، منشورات محمد علي بيضون، بيروت: دار الكتب العلمية، ط2، 2002، ج2.
وفي السياق نفسه يورد ابن القيم الجوزية موردًا مطوّلًا من كتابه في فضل الصلاة والسلام على خير الأنام (صلى الله عليه وآله وسلم)، انظر: جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على خير الأنام (صلى الله عليه وآله وسلم)، تحقيق: زائد بن أحمد النشيري، دار عالم الفوائد، (د ت).
[2]محمود البستاني، القواعد البلاغية في ضوء المنهج الإسلامي، مشهد: منشورات مجمع البحوث الإسلامية، ط1، 1414هـ، ص 290.
[3]سورة الأحزاب، الآية: 56.
[4] الإمام البخاري (أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم )، صحيح البخاري، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1401هـ-1981م. ج1، ص 190.
[5] Alan Montandon, Les formes brèves, Ed. hachette, 1992, p. 59.
[6] André Jolles, Formes simples, (Traduit de l›allemand par Antoine Marie Buguet ), Ed. seuil, Paris, 1972, p.58.
[7] جاسم الأسدي، الدعاء أمل وعطاء، منشورات ناظرين، ط 1، 2004م ، ص 238.
[8] مقطع وارد في زيارة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من بعد. ينظر: مفاتيح الجنان، ص 395.
[9] الشيخ عباس القمي، مفاتيح الجنان، ويليه: الباقيات الصالحات، تعريب: محمد رضا النوري، منشورات دار الثقلين، ط2، 1998م، ص 578. (مقطع وارد في زيارة الإمام الرضا).
[10] محمد مهدي الآصفي، الدعاء عند أهل البيت (عليهم السلام)، قم: المركز العالمي للدراسات الإسلامية، ط2، 1422هـ، ص 302.
[11] عباس القمي، مفاتيح الجنان، تعريب: محمد رضا النوري، منشورات دار الثقلين، ط2، 1998، ص617.
[12] محمد رضا المظفر، عقائد الإمامية، بيروت: دار الصفوة، ط9، 1993، ص 126.
[13] محمد مهدي الآصفي، الدعاء في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، مرجع سابق، ص 302.
[14] محمد رضا المظفر، عقائد الإمامية، بيروت: دار الصفوة، ط9، 1993م، ص 126.
[15] الشيخ عباس القمي، مفاتيح الجنان، مصدر مذكور، ص 165.
[16] مفاتيح الجنان، مصدر مذكور، ص559.
[17] السيد مرتضى الحسيني الفيروزآبادي، فضائل الخمسة من الصحاح الستة، بيروت: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، ط 7، 1413هـ، ج 1، ص 268 (باب في النهي عن الصلاة البتراء)، نقلًا عن: الصواعق المحرقة، ص 268.
[18] الشيخ عباس القمي، مفاتيح الجنان، مصدر مذكور، ص 240.
[19] صلاح قنصوة، نظرية القيم في الفكر المعاصر، دار التنوير، ط2، 1984م، ص 219.
[20] نستحضر في هذا السياق قول أحد مهندسي الإشهار لمنتوج (كوكا كولا): «إن التكرار بمقدوره أن يوصلنا إلى أية غاية، إن قطرة الماء تنتهي إلى اختراق الصخرة، وإذا تمكنتم من التصويب الموجّه والمحكم، بشكل متواصل ومن دون انقطاع، فإن المسمار حتمًا ينفذ في الرأس». ينظر: محمد الولي، الاستعارة في محطات يونانية وعربية وغربية، الرباط: منشورات دار الأمان، ط2، 1426هـ/ 2005م، ص 248.
[21] روح الله الموسوي الخميني، تفسير آية البسملة، محاضرات معرفية، بيروت: دار الهادي، ط2، 1420هـ/ 2000 م، ص 23.
[22] روح الله الموسوي الخميني، الآداب المعنوية للصلاة، عربه عن الفارسية وشرحه وعلق عليه: السيد أحمد الفهري، قم - إيران: مؤسسة دار الكتاب الإسلامي، ( د.ت).
[23] روح الله الموسوي الخميني، الآداب المعنوية للصلاة، ص 543.
[24] الآداب المعنوية للصلاة، مرجع مذكور، ص 547.
[25] قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}. سورة الأحزاب، الآية: 56.
[26] قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «الصلاة عليَّ نور على الصراط» وقوله: «إن أبخل الناس من ذكرتُ عنده ولم يُصَلِّ عليَّ». كنز العمال، الحديثان رقم 2144 و 2149.
[27] القاضي عياض، الشفا بتعريف حقوق المصطفى، ج2، ص 57-58.
[28] نهج البلاغة، الإمام علي بن أبي طالب، تحقيق: أنصاريان، منشورات المستشارية الثقافية للجمهورية الإسلامية الإيرانية بدمشق، ط1، 1422هـ/ 2007م، ص 638.
[29] مفاتيح الجنان، مصدر مذكور، ص 392.
[30] الصحيفة السجادية الجامعة، الإمام علي بن الحسين زين العابدين، تحقيق: الشيخ محمد باقر الموحدي الأبطحي، بيروت: دار الصفوة، ط2، 1412هـ/ 1992م، ص43.
[31] مفاتيح الجنان، مصدر مذكور، ص 446.
[32] الصحيفة العلوية المباركة، (أدعية الإمام علي (عليه السلام))، جمع: عبد الله بن صالح السماهيجي، بيروت: دار المرتضى، ط1، 1418هـ/1997م، ص 54 -55.
[33] مفاتيح الجنان، مصدر مذكور، ص 653.
[34] ألفرد بل، الفرق الإسلامية في الشمال الإفريقي من الفتح العربي حتى اليوم، ترجمه عن الفرنسية: عبدالرحمن بدوي، بيروت: دار الغرب الإسلامي، ط3، 1987م، ص 152-153.
[35] المصدر نفسه، ص 153.
[36] المصدر نفسه، ص 153.
[37] مفاتيح الجنان، مصدر مذكور، ص 393.
[38] محمد صالح الجوهرجي، ضياء الصالحين في الأدعية والأعمال والصلوات والزيارات، بيروت: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، ط1، 1418هـ، 1998م، ص 485.
شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
يحاول الكاتب محمد محفوظ في 166 صفحة أن بضيئ الحديث عن السلم الأهلي والمجتمعي، في الدائرة العربية والإسلامية، بحيث تكون هذه المسألة حقيقة من حقائق الواقع السياسي والإجتماعي والثقافي، وثابتة من ثوابت تاريخنا الراهن.
ينتمي مالك بن نبي وعبدالله شريط إلى بلد عربي إسلامي عانى من ويلات الاستعمار ما لم يعانه بلد آخر، سواء في طول الأمد أو حدة الصراع أو عمق الأثر. إنهما مثقفان عميقا الثقافة، مرهفا الشعور، شديدا الحساسية للمعاناة التي عاشها ملايين الجزائريين من ضحايا مدنية القرن العشرين، بأهدافها المنحطة وغاياتها الدنيئة.
عقد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات خلال الفترة الواقعة بين 6 و 8 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2012، مؤتمرًا أكاديميًّا عنوانه «الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي: تجارب واتّجاهات»، في فندق شيراتون بالدوحة، وشهد الافتتاح حشدًا كبيرًا من الباحثين والأكاديميّين من دول عربية.
يأتي الاهتمام بالقضية الفنية في فكر الأستاذ عبدالسلام ياسين من منطلق أن الوجود الحضاري للأمة كما يتأسس على أسس القوة المادية التي يمليها منطق التدافع القرآني أي التدافع الجدلي بين الخير والشر الذي هو أصل التقدم والحركة، يتأسس كذلك على جناح تلبية الحاجات النفسية والذوقية والجمالية بمقتضى الإيمان الذي هو ...
ثمة مضامين ثقافية ومعرفية كبرى، تختزنها حياة وسيرة ومسيرة رجال الإصلاح والفكر في الأمة، ولا يمكن تظهير هذه المضامين والكنوز إلَّا بقراءة تجاربهم، ودراسة أفكارهم ونتاجهم الفكري والمعرفي، والاطِّلاع التفصيلي على جهودهم الإصلاحية في حقول الحياة المختلفة
لا شك في أن الظاهرة الإسلامية الحديثة (جماعات وتيارات، شخصيات ومؤسسات) أضحت من الحقائق الثابتة في المشهد السياسي والثقافي والاجتماعي في المنطقة العربية، بحيث من الصعوبة تجاوز هذه الحقيقة أو التغافل عن مقتضياتها ومتطلباتها.. بل إننا نستطيع القول: إن المنطقة العربية دخلت في الكثير من المآزق والتوترات بفعل عملية الإقصاء والنبذ الذي تعرَّضت إليه هذه التيارات، مما وسَّع الفجوة بين المؤسسة الرسمية والمجتمع وفعالياته السياسية والمدنية..
لم يكن حظ الفلسفة من التأليف شبيهاً بغيرها من المعارف والعلوم في تراثنا المدون بالعربية، الذي تنعقد الريادة فيه إلى علوم التفسير وعلوم القرآن والحديث والفقه وأصوله، واللغة العربية وآدابها، وعلم الكلام وغيرها. بينما لا نعثر بالكم نفسه على مدونات مستقلة تعنى بالفلسفة وقضاياها في فترات التدوين قديماً وبالأخص حديثاً؛ إذ تعد الكتابات والمؤلفات في مجال الفلسفة، ضئيلة ومحدودة جدًّا، يسهل عدها وحصرها والإحاطة بها.