تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

التراث وإشكالية القطيعة .. مناقشة في ثلاثة أطروحات عربية

صلاح الدين العامري

التراث وإشكالية القطيعة..

مناقشة في ثلاثة أطروحات عربية

الدكتور صلاح الدين العامري*

 

*    أستاذ الحضارة بالمعهد العالي للحضارة الإسلامية في تونس. البريد الإلكتروني:

slaheddine.alamri17@gmail.com

 

 

الكتاب: التراث وإشكالية القطيعة في الفكر الحداثي المغاربي.. بحث في مواقف الجابري وأركون والعروي.

الكاتب: الدكتور امبارك حامدي.

الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت.

سنة النشر: 2017م.

-1-

أصل هذا الكتاب بحث جامعيّ لنيل شهادة الدّكتوراه، أعدّه امبارك الحامدي[1] تحت إشراف الدكتور محمد بوهلال في رحاب الجامعة التونسيّة، وناقشه سنة 2015م.

ويندرج هذا العمل ضمن الجهود المبذولة في سياقات الانفتاح والاستفادة من مناخ الحريّات في العمل الأكاديمي العربيّ. وقد نال التّراث الإسلامي النّصيب الأوفر من هذه الجهود، وصار ممكنًا إخضاعه للنّظر العلمي الحديث، وما يقتضيه من مراجعة للمسلّمات، وجرأة على ما يعدّ غالبًا من البديهيّات والثّوابت التي تناقش.

وتبرز قيمة هذا التحوّل في مستويين اثنين: أحدهما الجرأة على صياغة قراءة نقديّة للماضي، والآخر القدرة على كشف التّلاعبات والتوظيفات السّياسيّة والأيديولوجيّة التي خضعت لها النّصوص التراثيّة.

وتندرج هذه الإشكالية بدورها ضمن مشغل بحثيّ أكبر هو علاقة التراث بالحداثة. وقد اختار الحامدي أن يفهم هذه العلاقة الملتبسة من خلال ثلاث تجارب رائدة قادها ثلاثيّ مغاربي هم: محمّد عابد الجابري ومحمّد أركون وعبد الله العروي.

ولا يشترك هذا الثلاثيّ في المجالين الجغرافي والزمني فحسب[2]، بل يشترك أيضًا في الأفقين الفكريّ والنظريّ باعتبار أنّ ثلاثتهم ممّن نهلوا من معين الجامعات الغربية عامة والفرنسيّة خاصّة، وممّن تضلّع في الفكر الغربي الحديث، وإنْ بتفاوت وتمايز واضحين.

وآية ذلك مثلًا ما ذكره الباحث في المقدّمة النّظرية، ويتمثّل في اعتماد الجابري منهجًا وحيدًا في تشريع القطيعة مع التّراث، وتبنّي أركون في المقابل منهجيّة تداخليّة متعدّدة الحقول المعرفيّة (pluridisciplinaire) انسجامًا مع ما اعتبره تعدّدًا في مستويات التّراث.

وتستحقّ هذه المدوّنات الثّلاث أن توسم بالمشاريع الفكريّة، نظرًا إلى عمقها وتماسكها ودرجة الاهتمام بها في مجال البحث الأكاديميّ.

ومن هذه الزاوية وغيرها تتأتّى جدّة الكتاب وأهمّيته اعتبارًا لحجم ما قدّمه الجابري وأركون والعروي من مقاربات، ولما تتطلّبه هذه المقاربات من جهود للإحاطة بها.

ولم تكن هذه هي الصّعوبة الوحيدة التي واجهها الباحث في إنجاز عمله، بل كان عليه العودة إلى المقاربات الإبستيميّة الغربيّة التي نهل منها الثلاثيّ المذكور.

وقد بيّن متن الكتاب وهوامشه أنّ امبارك الحامدي لم يكتفِ بما ذُكر في المدوّنة الثلاثيّة حول المراجع النظريّة الغربيّة، بل عاد إليها في مصادرها ونقل منها مباشرة، وحلّلها وناقشها في المدخل النظريّ المعمّق الذي استهل به الكتاب. وعاد إليها في المتن كلّما دعت الحاجة إلى التّوضيح والتّفسير، أو لبيان الوشائج القويّة التي تنعقد بين أحد المفكّرين الثلاثة والأطروحات أو المناهج التي استندوا إليها.

ولئن اشتغل الحامدي بمفهوم «القطيعة» مع التّراث الذي تبنّاه الباحثون الثلاثة، فإنّه خلق ما يمكن أن نصطلح عليه بـ«مسافة أمان معرفيّة» بينه وبين ما طُرح من مقاربات.

وأظهر في هذه المسافة ذاته البحثيّة المتوجّسة من ثقافة الانبهار والتسليم، والحرص في المقابل على إعمال سلاح النّقد، مهما علا كعب القائل.

وفعلًا، فقد فكّك بقدر من النّجاح والتوفيق ما قيل في المدوّنة حول القطيعة، ثمّ ركّبه بلغة علميّة تحترم الشروط الأكاديميّة الصارمة للجامعة التونسيّة.

وقطع الباحث بوضوح مع خطابات التّمجيد والتّبخيس السّائدة في مثل هذه الدّراسات، سواء تجاه التّراث أو تجاه الدّراسات الحديثة المشتغلة به. وترجم قطيعته المنهجية واللّغوية والأسلوبيّة بمجموعة من الأسئلة النقديّة الدقيقة صدّر بها مقدمة الكتاب، وبمجموع الإجابات الصّريحة والمضمّنة على امتداد المتن وحواشيه.

-2-

جاء الكتاب في أربعة فصول، خصّص الباحث الفصل الأوّل منها للمدخل النّظريّ، فتتبّع جذور مفهوم القطيعة في الفكر الغربيّ مبيّنًا الحقول المعرفيّة الحاضنة للمفهوم، وعاد إلى جذوره المنغرسة في علمي الرّياضيات والفيزياء.

وحاول الحفر في السّياقات التي احتضنت طرح سؤال مركزيّ، هو: كيف تتطوّر العلوم؟ عن طريق التّراكم أم عبر القطائع؟ وانصرف الاهتمام إلى عرض الأطروحتين، وإن بدا التّركيز واضحًا على الثّانية.

واستند إلى أربعة مراجع أساسيّة رائدة في دراسة تاريخ العلوم وفلسفة المعرفة... وهم: الإنجليزي كارل بوبر، والفرنسي غاستون باشلار، والأمريكي توماس كون، والنمساوي بول فيرابند.

وتتبّع وجوه الائتلاف والاختلاف بين هذه المراجع في تحديد أسس هذه القطيعة المنهجيّة وحدودها وأبعادها. وراعى الباحث في ترتيب هذه النّماذج التدرّجَ من الثورة الدوريّة إلى الثورة الدّائمة في كيفيّة تقدّم العلم وتطوّر حقائقه.

كما رصد الباحث تحوّل مفهوم القطيعة من العلوم الدّقيقة إلى العلوم الإنسانيّة، فانتقى نموذجين، هما ميشال فوكو ولوي ألتوسير. ودقّق فضاء اشتغال الباحثيْن وحدّد ما بينهما من اتّفاق وافتراق في المقاصد والمناهج.

وتطرّق في الفصل الثاني إلى مفهوم «القطيعة» ودواعيه عند المفكّرين المغاربة الثّلاثة. فبدأ بتعريف التّراث لدى كلّ واحد منهم، وحدّد مستوياته. وسعى إلى تحديد عوائق التّراث وطبيعتها ودرجتها والعوامل المحتضنة لظهورها. ويسهم هذا الجهد، في تقدير الكاتب، في تحديد دور هذه العوامل في رسم طبيعة القطيعة ودرجتها وأفقها.

وخصّص الفصل الثالث لتحليل مستويات القطيعة عند الثالوث المغاربي في شكل مقارنيّ. وخلص إلى وجود ثلاثة مستويات من القطيعة، وخصّ كلّ مفكّر بمبحث خاصّ، فكان عابد الجابري منظّر القطيعة الصّغرى.

واستند في هذا التّصنيف إلى دعوته المزدوجة إلى الفصل مع العقلين العرفانيّ والبيانيّ فصلًا إبستيمولوجيًّا من جهة، وإلى دعوته إلى الوصل مع الخطّ البرهانيّ العقلانيّ الرّشديّ من جهة أخرى. وجعل المشروع الأركوني معبّرًا عن القطيعة الوسطى.

وبنى الحامدي تصنيفه على الخلفيات المنهجيّة التي وظّفها أركون في قراءة التّراث، واستند إلى الرّهانات التي عقدها على كلّ منهج من المناهج التي أجراها في نقد التّراث. وجعل مقاربة العروي المنهجيّة النّقديّة للتّراث عنوانًا للقطيعة الكبرى.

وذكر الكاتب في هذا السّياق أنّ «العلاقة التي دعا إليها العروي مع التراث تحتكم إلى مرتكزات نظريّة ومنهجيّة أفضت به إلى النتائج الآتية: أولًا: تحديد نوع تلك العلاقة (القطيعة)، ثانيًا: تحديد طبيعتها (تاريخيّة)، ثالثًا: رسم حدودها ومداها (كبرى/ تامّة)» (ص267).

وأفرد امبارك الحامدي الفصل الرّابع والأخير لنقد مفهوم القطيعة الوارد في أطروحات ثالوث الحداثة المغاربيّ، وقد حافظ على التّرتيب السّابق فسلّط نقده على الجابري أولًا، وشمل نقده المسلّمات العامّة والمقدّمات النّظريّة والاختيارات المنهجيّة، وهي مجموع المستندات التي أفضت إلى تبنّي مقولة القطيعة الصّغرى، وبيّن ما عدّه وهنا وأحاديّة ومحدوديّة فيها. وسلّط نقده على أطروحة القطيعة الصّغرى التي تبنّاها الجابري من حيث خصائصها ورهاناتها ومحصولها الفكريّ والواقعيّ.

ثم انتقل إلى محاورة الطّرح الأركونيّ في كلّيته أيضًا وإن كانت حدّة النقد أكثر خفوتًا. وقد تطرّق في البداية إلى نقد مفهومه للتّراث وعوائقه، وإلى موقفه من مركزيّة الفكر الغربيّ ونرجسيّته، وبيّن حدود العقل الاستطلاعي الذي تبنّاه. وتوقّف عند ما عدّه عيوبًا منهجيّة.

ويعود هذا الخلل في تقديره إلى ترسانة المناهج المقطوعة عن سياقاتها الأصليّة وأسسها الإبستيمولوجيّة، وإلى طريقة توظيفها التي تحوّلت في أكثر من موقع إلى إسقاطات وفق منطق الإكراه. وسعى إلى تبيّن حدود الدّعوة إلى القطيعة الوسطى وعوائقَها الواقعيّةَ والنّظريّة.

وأتبع ذلك بنقد سلس لتاريخانيّة العرويّ، وحصر تقصير العروي في سمتين أساسيّتين، هما: تبخيس الذّات والتّناقض. وأضاف إليهما محدوديّة المدوّنة التّراثيّة التي اعتمدها العروي، وعجزها عن ضمان حجيّة الأحكام التي صاغها في شكل قواعد ومسلّمات في حقّ التراث، وقلّل من قوة دعوته إلى قطيعة كبرى لصعوبة إمكانها من الناحيتين الواقعية والمعرفيّة. وختم الفصل بمقارنة بين تمثّلات المفكّرين الثّلاثة.

ورغم ما يمكن اعتباره تسرّعًا في بعض الاستنتاجات، فإنّ الباحث استطاع التوقّف عند وجهين أساسيّين من التّماثل والتّمايز بين المقاربات الثّلاث: وتركّز الوجه الأوّل على المنطلقات العامّة والأسس المنهجية، وعلى تعريف التراث، وعلى التأريخ للأزمة، وعلى مفهوم العقل والعقلانية.

واتّصل الوجه الثاني بالأسس المنهجية من حيث الواحدية والتعدّد، وبقدرة كل واحد منهم على الاستفادة من المراجع النظريّة الغربيّة.

-3-

ما نختم به هو أنّ الدكتور امبارك الحامدي كان شجاعًا حين تطرّق إلى موضوع يبدو مستهلكًا إذا اعتبرنا الأعمال التي تناولته أو اقتربت منه. وأنّه نجح إلى حدّ ما في إخراج الدراسات المهتمة بعلاقة التراث بالحداثة من خطابها السّجالي التّقليدي إلى رحاب الدراسات الأكاديميّة الصّارمة. وقد ساعده في ذلك سعة اطّلاعه على العلوم الإنسانيّة ومناهج البحث الحديثة. ولا ننسى أيضًا فضل الجامعة التونسيّة وأساتذتها الأكفاء على الباحث والبحث.

 

 

 



[1] ينتمي امبارك الحامدي إلى الجيل الجديد من الباحثين التونسيين الذين يمثّلون البحث العلمي في أرقى صوره وأدقّ تفاصيله وأميز معانيه. وهو من مواليد مدينة ڤفصة الواقعة في الوسط الغربي للبلاد التونسيّة، ويدرّس حاليًّا في جامعتها، ويتميّز بحذقه اللغات الأجنبيّة وهي لغة العلوم الإنسانيّة، وقد ساعده هذا المكتسب في مقاربة موضوعه مثلما سنبيّن لاحقًا في المتن.

[2] انظر: ص 9 من الكتاب.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة