تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

التسامح الإسلامي والتعايش بين الأمم

فريدة أولمو

 

 

التسامح الإسلامي والتعايش بين الأمم..

الطاهر بن عاشور أنموذجًا

فريدة أولمو*

 

 

* أستاذ فلسفة الدين، قسم الفلسفة، جامعة باتنة 1، الجزائر.

 

 

 

المقدمة

من المفاهيم المعاصرة التي طالها الجدال والسجال والنقاش مفهوم التسامح الإسلامي، فبين ناكر لأخلاق التسامح والسماحة في الشريعة الإسلامية وفي السنة النبوية، وبين ناكر للتسامح في تعاملات المسلمين مع الآخرين من ذوي الديانات الأخرى، وهكذا. إشاعات وتداعيات متعددة من مختلف الاتجاهات الفكرية والمعرفية في زمن العولمة والقرية الكونية.

من المفاهيم التي تحتاج إلى تحديد معناها الدقيق إذن معنى «التسامح الإسلامي»، إذ لا بد من ضبط معناه اللغوي والاصطلاحي، وتبيين مفهومه من حيث تداوله المعرفي بعيدًا عمَّا يوصف به في كل البيئات الأيديولوجية، لا بد من التعامل مع هذا المفهوم ولوازمه الثقافية والسياسية باعتباره ثابتة من ثوابت المجتمعات الإسلامية.

لذلك، وبعيدًا عن المضاربات الفكرية والتوظيفات الأيديولوجية المتعسفة، نحن بحاجة الى ضبط المعنى الجوهري لهذا المفهوم وتحديد مضمونه وجذوره الفكرية والمعرفية وبيان موقعه في سلم القيم والمبادئ الأخلاقية.

الأطروحة الأساسية في دراستنا هي الدفاع عن السماحة الإسلامية وأثرها في التواصل والتعايش بين الأمم المختلفة، وهذا من أصول وأساسيات رسالة التوحيد. ومن بين التساؤلات الفرعية في هذه الدراسة:

ما المقصود بالتسامح الإسلامي؟ ما الرابط بين التسامح ومقاصد الشريعة الإسلامية؟

هل يمكننا التأصيل لفعل التسامح الأخلاقي من منظور الشيخ المصلح محمد الطاهر بن عاشور التونسي؟

إلى أي مدى إبطال الآراء المتطرفة المنكرة للتسامح الإسلامي؟ وما مدى التنظير الفعلي من قبل فلاسفة الإسلام وأئمته وباحثيه؟

اعتمدنا في هذه الدراسة على مجموعة من المناهج المعتمدة أكاديميًّا، منها المنهج التحليلي والمنهج النقدي، كما لجأنا إلى الوصف المقارن في بعض مباحث الدراسة ليتسنّى لنا الاستشهاد والمحاجات بشكل عقلاني ومنطقي أحيانا كثيرة.

أولًا: ماهية التسامح

المبحث الأول: المعنى الغربي للتسامح

تشتق كلمة التسامح tolerance في الإنجليزية من الكلمتين اللاتينيتين tolere أي يعاني ويقاسي، tolerantia وتعني لغويًّا التساهل. وتستخدم tolerance في اللغة الإنجليزية بمعنى استعداد المرء لتحمل معتقدات وممارسات وعادات تختلف عمَّا يعتقد به، وتعني أيضًا فعل التسامح نفسه. وتشي toleration بدرجة أكبر إلى التسامح الديني، أي السماح بوجود الآراء الدينية وأشكال العبادة المتناقضة أو المختلفة مع المعتقد السائد.

ويقول قاموس المورد أن هذه الكلمة تعني:

1- التسامح أو القدرة على الاحتمال[1].

2- المتسامح وtolerable الصفة تعني محتمل أو ممكن احتماله.

3- tolerate بمعنى يتسامح بـ، أو يجيز أو يحمل، وtoleration بمعنى التسامح الديني.

ويشير قاموس أكسفورد[2] الى أن:

1. tolerance تعني الاستجابة أو الموافقة على الآراء أو السلوك الذي لا توافقه أو تحبه.

2. tolerant تعني إمكانية قبول آراء وسلوك الأفراد غير المتوافقين معهم.

3. tolerable تعني الموافقة وتحمل الأفكار والمعتقدات البغيضة أو غير المستحبة لنا، المكروهة.

4. tolerate تعني السماح للأفعال التي لا نوافقها بالتعايش معها لكن لا نشجعها.

5. toleration تعني السماح للآراء والأفعال غير المرغوبة بالحدوث والاستمرار.

ويرى بيتر نيكلسون ب. أن اللغة الإنجليزية تحوي المفردة toleration التي تستخدم فيها لوصف المبدأ المعلن القائل بأن على المرء أن يكون متسامحًا، وتعني في الاستعمال العادي فعل ممارسة التسامح بالضبط، أو الميل إلى أن يكون المرء متسامحًا وتستخدم كلمة tolerance لوصف فعل التسامح، أو ممارسته، ووجدت قبل أن توجد toleration، وكل هذه المفردات مشتقة من الفعل tolerate ونعت tolerant والفاعل tolerato.

ويفرّق محمد أركون بين مفردة إباحة التسامح toleration التي طبقًا لقاموس ويبستر: إبداء تفهم أو تساهل إزاء معتقدات، أو ممارسات تختلف أو تتعارض مع معتقدات الذات أو ممارستها، والقبول بالحياد عن معايير معينة ومفردة.

وتعني tolerance السياسة التي تنتهجها حكومة ما وتبيح بموجبها ممارسة معتقدات دينية، وعبادات غير معتمدة رسميًّا. ويشير قاموس ليتره الفرنسي في القرن التاسع عشر إلى الأصل الفلسفي لهذا التعبير في تعارض آراء معينة مع آرائنا. وعلى الرغم من اختلاف المفردتين من حيث أصلهما اللاتيني أو الإنجليزي إلَّا أنهما تحملان المعنى نفس، أي (التحمّل والتعايش) مع أشياء غير محببة لنا أو غير مقبولة، وتحمّلنا نتيجة لذلك شيئًا سلبيًّا لا نتوافق معه، وأن تحمّلنا هذا وصبرنا على الآخرين من أجل التعايش معهم.

وفي ضوء ما تقدم فإن كلمة التسامح تعني في اللغات الغربية القبول والتساهل، وتحمل الآراء والأفكار والمعتقدات المختلفة عن آرائنا وأفكارنا ومعتقداتنا.

جاء في قاموس اللاروس الفرنسي أن التسامح (Tolérance) يعني احترام حرية الآخر، وطرق تفكيره وسلوكه، وآرائه السياسية، والدينية.

وجاء في قاموس العلوم الاجتماعية أن مفهوم (Tolérance) يعني قبول آراء الآخرين وسلوكهم على مبدأ الاختلاف، وهو يتعارض مع مفهوم التسلّط والقهر والعنف، ويعد هذا المفهوم أحد أهم سمات المجتمع الديمقراطي.

يعتقد الفلاسفة والمؤرخون الغربيون، وخاصة الأنجلو سكسون، أن فكرة التسامح مصدرها البروتستانية في القرنين السادس والسابع عشر، ويعود أصلها إلى جون لوك (1632-1704م)، حيث تتضح الحقيقة التاريخية لتطور مفهوم التسامح في كتابه رسالة في التسامح (Lettre sur la tolérance) سنة 1689م[3] إذ يعلن في طيّات هذه الرسالة: «أن التسامح جاء كرد فعل على الصراعات الدينية المتفجرة في أوروبا، ولم يكن من حل أمام مفكري الإصلاح الديني في هذه المرحلة التاريخية، إلَّا الدعوة والمناداة بالتسامح المتبادل، والاعتراف بالحق في الاختلاف والاعتقاد....»[4].

وهذه الحقيقة يؤكدها عدد كبير من المفكرين، فبعد قرن من الحروب الدينية، والاضطهاد الطائفي الديني في أوروبا، حصل الاعتراف بالحق في الاختلاف الديني، أقرته مراسيم وقوانين ودساتير.

وقد قام بالدفاع عن مبدأ «التسامح» كقيمة أساسية، مؤسسو الفكر الليبرالي وأصبح لأفكارهم الجديدة حقًا في الوجود[5].

وفي الفكر الإسلامي العربي لم تكن ثمَّة حاجة للصراع الديني ولا للعنف والتعصب لظهور التسامح لا كقيمة أخلاقية ولا كمبدأ، فالتسامح فعل عملي أسس له الدين الإسلامي وأصَّله من خلال ألفاظ ودلالات كثيرة سنوضحها في النقاط اللاحقة، ومنه نتساءل ما المعاني العربية للتسامح؟

المبحث الثاني: المعنى العربي للتسامح

يختلف معنى التسامح في اللغة العربية عن معناه في اللغات الأجنبية، فقد جاء في قاموس لسان العرب أن السماح والسماحة: الجود، سمح سماحة وسموحة وسماحًا، والمسامحة: المساهلة، وتسامحوا: تساهلوا[6]، وفي الحديث الشريف يقول الله عز وجل: اسمحوا لعبدي كإِسماحه إلى عبادي، والِإسماح لغة في السماح بمعنى جاد وأعطى من كرم وسخاء.

ويأتي السماح في قاموس المنجد بمعنى الجود والكرم والتساهل، فسمح: سماحًا وسماحة العود بمعنى ساهل ولان، وسامحه في الأمر ساهله ولاينه ووافقه على مطلوبه، وتسامح: تساهل، والتسامح التساهل.

ولا يخرج القاموس المحيط في تحديده للمعنى اللغوي للتسامح عن ذلك، فنجد سَمُحَ: كَرُمَ وسَماحًا سَمَاحة وسُمُوحًا سُموحَةً وسَمْحًا وسِماحًا: جاد وكَرُمَ، سُمَحاء: كُرماء، وتسامحوا: تساهلوا.

ويرى أحد الباحثين أن مفردة التسامح تحمل في اللغة العربية معنى:

1. سمح سماحة أي جاد وأعطى من كرم وسخاء.

2. وقد يقال: اسمح في المتابعة والانقياد، وهناك من يقول: أسمحت نفسه إذا انقادت.

3. وتأتي بمعنى الإعطاء، ويقال: سمح لي فلان أي أعطاني، وهذا يشبه المعنى الأول الجود.

4. وسمح لي بذلك: يسمح سمحانًا واسمح وسامح أي وافقني على المطلوب.

5. والمسامحة تعني المساهلة، وتسامحوا أي تساهلوا.

6. وتأتي بمعنى الاتساع لقول العرب: عليك بالحق فإن فيه لسمحًا أي متسعًا.

7. وتأتي بمعنى الاستقامة والتثقيف إذ يقال: سمِح الرمح أي تعديله.

8. وتأتي بمعنى السرعة.

9. وقيل سمح بمعنى هرب.

ويعني هذا أن كلمة التسامح لا تحمل في اللغة العربية شيئًا من المعاني اللغوية الغربية ولا الاصطلاحية الحديثة للتسامح؛ لأنها لا تنطلق في دلالتها هذه من مبدأ المساواة الذي يعدّ شرطًا في الدلالة الحديثة للتسامح.

المبحث الثالث: المعنى الدولي السياسي للتسامح

من زاوية ثالثة حاولت الأمم المتحدة وضع تعريف عالمي متفق عليه من قبل المجتمع الدولي. وتجلّى ذلك عندما أعلنت عبر اليونسكو إعلان المبدأ العالمي للتسامح في 16 تشرين الثاني 1995، وعرفت فيه التسامح على أنه[7]: «الاحترام والقبول بتنوّع واختلاف ثقافات عالمنا، وهو ليس مجرد واجب أخلاقي ولكنه أيضًا ضرورة سياسية وقانونية، وهو فضيلة تجعل السلام ممكنًا عالميًّا، وتساعد بالتالي على استبدال ثقافة الحرب بثقافة السلام.

يعدّ التسامح ليس تنازلًا أو مجاملة للآخر، بل هو قبل كل شيء موقف يقوم على الاعتراف بالحقوق العالمية للشخص الإنساني والحريات الأساسية للآخر؛ ولذلك فإن التسامح ينبغي أن يطبق من طرف الأفراد كما من طرف الجماعات والدول.

التسامح هو مفتاح حقوق الإنسان والتعددية والديمقراطية.

إن تطبيق التسامح يعني ضرورة الاعتراف لكل شخص بحقه في حرية اختيار معتقداته والقبول بأن يتمتع الآخر بالحق نفسه، مما يعني أنه ليس هناك حق لفرد بأن يفرض آرائه على الآخرين.

والواقع أن الجهود الدولية تتَّجه إلى استيعاب هذا التحديد وتعميم استعماله نظرًا لثرائه وشموليته بكونه يربط بين مفاهيم التسامح ونشر قيم الديمقراطية وثقافة حقوق الإنسان، وهو ما يعدّ مطلبًا ملحًّا لمواجهة انتشار قيم التعصب والكراهية والعنف والإرهاب[8].

كما أن الاختلاف في الدلالة اللغوية لمفهوم التسامح لم يمنع من الوصول إلى نوع من التقارب في التعريف الاصطلاحي للتسامح، حيث نجد أن أغلب الباحثين والكتاب العرب من المعاصرين توصلوا إلى تجاوز المعاني والدلالات اللغوية التي يحملها مفهوم التسامح ليقتربوا كثيرًا من الطرح الغربي له.

وفي هذا الصدد نجد محمد عابد الجابري يرى التسامح على أنه «موقف فكري وعملي قوامه تقبُّل المواقف الفكرية والعملية التي تصدر من الغير، سواء كانت موافقة أو مخالفة لمواقفنا» أو هو «احترام الموقف المخالف»[9].

ويتفق محمد جابر الأنصاري مع هذه النظرة عندما يعرف التسامح على أنه «تعايش المختلفين بسلام، إذا توافر بينهم حد أدنى من التكافؤ والمساواة أو القبول بالآخر...»[10].

ولا يبتعد ماجد الغرباوي عن النظرة المعاصرة للتسامح عندما يعرفه على أنه «اتخاذ موقف إيجابي متفهم من العقائد والأديان والأفكار، يسمح بتعايش الرؤى والاتجاهات المختلفة بعيدًا عن الاحتراب والإقصاء على أساس شرعية الآخر المختلف دينيًّا وسياسيًّا وحرية التعبير عن آرائه وعقيدته»[11].

وعلى غرار الآراء والاتجاهات المختلفة التي حاولت وتحاول التأسيس لمفهوم التسامح في الفكر الإسلامي، ارتأينا في هذه الدراسة التطرق إلى العلامة المفكر والمصلح محمد الطاهر بن عاشور؛ والوقوف عنده على مفهوم التسامح وأسسه من خلال كتابه: «أصول النظام الاجتماعي في الإسلام»[12].

ثانيًا: السماحة عند الشيخ محمد الطاهر بن عاشور

المبحث الأول: ترجمة وسيرة الطاهر بن عاشور

هو المصلح والمفكر والناقد التونسي العلامة محمد الطاهر بن عاشور (1879-1973م) الشهير بمؤلفاته: «التحرير والتنوير» و«مقاصد الشريعة الإسلامية»، و«أصول التقدم في الإسلام» وكتابه الطريف «أليس الصبح بقريب».

وقد تعهّد الموروث الدينيّ الإسلامّي بالتجديد وتطوير العديد من أبوابه ليناسب العصر الحديث، فكان شيخًا علّامةً للإسلام وشيخًا لجامع الزيتونة المعمور.

وقد شغل مهمة عضو مراسل لمجمعي اللغة العربية بالقاهرة ودمشق منذ سنة 1955م.

ولم يكن الشيخ محمد الطاهر بن عاشور أحد الأعلام البارزين في الحركة الإصلاحية فقط، بل كان بحق في مطلع القرن العشرين من عظمائه المجدّدين، فقد انبرى طيلة حياته المديدة أكثر من 90 عامًا يجاهد في طلب العلم، وفي كسر وتحطيم أطواق الجمود والتقليد التي قيّدت العقل المسلم وصرفته عن التفاعل مع القرآن الكريم وربطه بالحياة المعاصرة.

ولقد أبدع شيخنا حين سئل عن طوائف المسلمين وتكفيرهم فقال في كتابه «أصول النظام الاجتماعي في الإسلام»: «وفيما عدا ما هو معلوم من الدين بالضرورة من الاعتقادات فالمسلم مخيّرٌ في اعتقاد ما شاء منه إلَّا أنّه في مراتب الصواب والخطأ. فللمسلم أن يكون سنيًّا سلفيًّا، أو أشعريًّا أو ماتريديًّا، وأن يكون معتزليًّا أو خارجيًّا أو زيديًّا أو إماميًّا. وقواعد العلوم وصحة المناظرة تميّز ما في هذه النحل من مقادير الصواب والخطأ، أو الحق والباطل. ولا نكفر أحدًا من أهل القبلة»[13].

ومن المواقف المشهورة للطاهر بن عاشور رفضه القاطع استصدار فتوى تبيح الفطر في رمضان، وكان ذلك عام (1381هـ/ 1961م) عندما دعا الحبيب بورقيبة الرئيسُ التونسي السابق العمالَ إلى الفطر في رمضان بدعوى زيادة الإنتاج، وطلب من الشيخ أن يفتي في الإذاعة بما يوافق هذا، لكن الشيخ صرّح في الإذاعة بما يريده الله تعالى، بعد أن قرأ آية الصيام، وقال بعدها: «صدق الله وكذب بورقيبة». فخمد هذا التطاول المقيت، وهذه الدعوة الباطلة بفضل مقولة ابن عاشور[14].

المبحث الثاني: السماحة عند محمد الطاهر بن عاشور

نحاول الوقوف على خصائص وأسس التسامح الإسلامي عند الشيخ بن عاشور مفصلة كما أوردها في مؤلفاته بدءًا من التعريف اللغوي لديه يقول: «التسامح مصدر سامحه إذا أبدى له سماحة قوية... وأصل السماحة السهولة في المخالطة والمعاشرة، وهي لين في الطبع في مظان تكثر في أمثالها الشدة»[15]؛ ويستطرد: «وأنا أريد بالتسامح إبداء السماحة للمخالفين للمسلمين بالدين وهو لفظ اصطلح عليه العلماء الباحثون عن الأديان من المتأخرين من أواخر القرن الماضي [القرن التاسع عشر] أخذًا من الحديث: «بُعثت بالحنفية السمحة»، قد صار هذا اللفظ حقيقة عرفية في هذا المعنى»[16].

قال الطاهر بن عاشور في تحفته الفكرية «مقاصد الشريعة» مبينًا مفهوم التسامح ومؤصلًا له: «فالسماحة: السهولة المحمودة فيما يظن الناس التشديد فيه. ومعنى كونها محمودة أنها لا تفضي إلى ضر أو فساد»[17].

و«إن حكمة السماحة في الشريعة أن الله جعل هذه الشريعة دين الفطرة، وأُمور الفطرة راجعة إلى الجبلة، فهي كائنة في النفوس، سهل عليها قبولها، ومن الفطرة: النفور من الشدة والإعنات. قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا}[18] وقد أراد الله تعالى أن تكون شريعة الإسلام شرعية عامة ودائمة، فاقتضى ذلك أن يكون تنفيذها بين الأمة سهلًا، ولا يكون ذلك إلَّا إذا انتفى عنها الإعنات»[19].

ويقول في موضع آخر: «السماحة: سهولة المعاملة في اعتدال، فهي وسط بين التضييق والتساهل، وهي راجعة إلى معنى الاعتدال والعدل والتوسط. ذلك المعنى الذي نوّه به أساطين حكمائنا الذين عنوا بتوصيف أحوال النفوس والعقول، فاضلها ودنيّها، وانتساب بعضها من بعض. فقد اتفقوا على أن قوام الصفات الفاضلة هو الاعتدال، أي التوسط بين طرفي الإفراط والتفريط؛ لأن ذينك الطرفين يدعو إليهما الهوى الذي حذرنا الله منه في مواضع كثيرة، منها[20] قوله تعالى: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}»[21].

وسماحة الشريعة ترتبط بمبدأ العدل الذي قرّره القرآن الكريم، وبيَّنه الرسول K، ونذر حياته لتحقيقه في عالم الواقع، وفي ذلك يقول ابن القيم: «إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم، ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجَوْر، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن دخلت فيها بالتأويل؛ فالشريعة عدلُ الله بين عباده، ورحمته بين خَلْقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه، وعلى صدق رسوله K أتم دلالة وأصدقها»[22].

ونطاق السماحة والتيسير في الإسلام لا يقتصر على شؤون العبادة، وإنما يتسع لكل أحكام الإسلام؛ من معاملات مدنية، وتصرفات شخصية، وعقوبات جزائية، وتشريعات قضائية، ونحوها، ويظهر ذلك جليًّا من خلال تتبُّع نصوص قواعد الشريعة، وارتباطها بالمقاصد الشرعية، التي تدور حول جلب المنفعة ودرء المفسدة[23].

والتسامح بهذا المعنى، هو علاقة ذات طبيعة مناقضة لما ساد تاريخيًّا من علاقات بين أصحاب الأديان والعقائد والمختلفة؛ إذ «كان أهل الأديان منذ عُرف التاريخ يجعلون الدين جامعة ومانعة، أي: كما يجعلونه جامعًا للمتديّنين به في المودة وحسن المعاشرة والعصبية، كذلك يجعلونه مانعًا من الامتزاج والمعاشرة والمودة مع المتدينين بغير دينهم، ثم تشب بينهم بحكم التولد والتدرج صدف الكراهية ثم البطش بأولئك المخالفين، وشواهد التاريخ على ذلك كثيرة»[24].

ويشخّص الشيخ محمد الطاهر بن عاشور موقف التعصّب باعتباره حالة نفسية تتملّك صاحب العقيدة تجاه من يخالفه فيها، فالمتشيّع لعقيدة ما «ربما أحسّ من ضلال مخالفه بإحساس يضيق به صدره وتمتلئ منه نفسه تعجّبًا من قلّة اهتداء المخالفين إلى العقيدة الحقة وكيف يغيب عليهم ما يبدو له هو واضحًا بيّنًا»[25].

يستخلص المصلح مبدأ التسامح من المتن النصي التأسيسي في الإسلام، ويستعرض من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ما يجعله يستفيد بأن «القرآن وكلام الرسول K في مناسبات يعلّم المسلمين أن الاختلاف ضروري في جبلة البشر وأنه من طبع اختلاف المدارك وتفاوت العقول في الاستقامة، وهذا المبدأ إذا تخلّق به المرء أصبح ينظر إلى الاختلاف نظرة إلى تفكير جبلي تتفاوت فيه المدارك إصابة وخطأً، لا نظره إلى الأمر العدواني المثير للغضب»[26].

ولمّا كان التسامح أصلًا مؤصلًا في نصوص الإسلام التأسيسية، بالنسبة إلى بن عاشور، فإن ترجمته العملية تجسّدت في سلوكيات أوائل المسلمين تجاه غيرهم من أصحاب الديانات الأخرى، وتحديدًا لمّا «مازج المسلمون أممًا مختلفة الأديان دخلوا تحت سلطانهم من نصارى العرب ومجوس الفرس ويعاقبة القبط وصابئة العراق ويهود أريحاء، فكانوا مع الجميع على أحسن ما يعامل به العشير عشيره، فتعلموا منهم وعلموهم، وترجموا كتب علومهم، وجمعوا لهم الحرية في إقامة رسومهم، واستبقوا لهم عوائدهم المتولدة من أديانهم، وربما شاركوهم في كثير منها بعنوان عوائد، كما كان عملهم في عيد النوروز وعيد الغمس في مصر»[27].

وفي ذكر أسبقية الشريعة الإسلامية في إقرار الحرية الدينية وضبط موقف الأغلبيات تجاه الأقليات ومنها الدينية، يقول الدكتور محمد عمارة: «جاء الإسلام فسلك الاختلافات في إطار الوحدة، وجعل التنوّع هو السنة والقاعدة والقانون، ووضعه لبنات في البناء الجامع، وقرّر أن الآخر هو جزء من الذات، وذلك لأول مرة في تاريخ الشرائع والأمم والدول والحضارات...»[28].

وكما قال الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي في مقاله (التسامح هو العظمة الإسلامية): «عقد سماحة الشيخ الإمام محمد الطاهر بن عاشور F فصلًا جعله خاتمة لكتاب أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، اتخذ له عنوان التسامح، وقد أتى سماحته كعادته بالجديد المفيد، جمع فيه بين التحرير والتنوير. ونظرًا لأهميّته، ولأن هذه القيمة التسامح يزداد الاهتمام بها باعتبارها من القيم التي تشتد إليها الحاجة في هذا الزمن الذي تكاد تختلط فيه المفاهيم وتلتبس على الناس، فيلبس الإسلام والمسلمون تهم التعصب والتزمت والظلامية والإرهاب! فإن هذا الأمر يستوجب من أهل الذكر من علماء الدين وحملة الأقلام وقادة الرأي وولاة أمور المسلمين فضلًا عن الهيئات العلمية والجامعات الدينية والمجامع الفقهية أن يبين كل من موقعه وبأسلوبه حقائق الأمور، وهم لا شك منتهون إلى أن الإسلام براء من كل ما يلصق به من شبهات واتهامات.

ويرى بعض النقاد أن احترام حرية التدين قد عبّر عنه تعبيرًا سيئًا جدًّا بكلمة تسامح؛ ذلك لأن الأمر يتعلق بإلزام يقرره العدل وبواجب لا يحتمل التساهل. إن التسامح يقتضي لا أن يتخلى المرء عن قناعاته، ولا أن يكفّ عن إظهارها والدفاع عنها والدعوة لها، بل إنما يعني الامتناع عن استعمال أية وسيلة من وسائل العنف والتجريح والتدليس، وبكلمة واحدة: احترام الآراء وليس فرضها. وليس من السهل الاختيار بين الرأيين؛ ذلك لأن هذه الشكوك والتحفظات قد أثيرت في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين»[29].

ويرى آخرون أن الصلة بين التسامح والحرية لدى الطاهر بن عاشور مسألة جوهرية، فهو من دون شكّ متشبع بالمفهوم الغربي للتسامح حسب آراء بعض الدارسين الجدد مثل حمادي ذويب؛ لذلك يقرّ أن التسامح هو «إبداء السماحة للمخالفين للمسلمين بالدين، وهو لفظ اصطلح عليه العلماء الباحثون في الأديان من المتأخرين من أواخر القرن الماضي». إن التسامح في رأيه يدور حول حرية الآخر غير المسلم في عقيدته، ولا يتعلق بترك الحرية للمسلم فيما يعتقده، لكن هل من سند لهذا الاستنتاج؟ أنا لا أعتقد أنّ المسلمين أخذوا التسامح من الغربيّين، باعتباره قيمة لها علاقة بالغرب، وإنّما هم رجعوا في كثير من الأحيان إلى السلوك الذي غلب على الممارسة الإسلاميّة عبر التاريخ، ووظّفوا هذا التّسامح الذي لاحظناه، والذي كان موجودًا بشكل يفوق ما هو موجود في المجتمعات المسيحية في خدمة هذه القيم الجديدة التي لم يكن يؤمن بها كثيرًا الشيخ محمد الطاهر بن عاشور؛ لأنّه كان من الذين يدعون إلى قتل المرتدّ؛ أي الذي يغيّر دينه عمدًا. وهو يعتبر أنّ ضمان سلامة الجسم الاجتماعي ينبغي أن تُقدّم في هذا المجال على صدق الاعتقاد وعلى عمق هذه الاعتقاد. ولذلك، فلا الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، ولا الإصلاحيون في العصر الحديث كانوا متأثّرين بكلّ المنظومة التي يدخل في نطاقها هذا التسامح، باعتباره من حقوق الإنسان الحديثة، وإنّما هو بحث عن توازن اجتماعي يقلّص أكثر ما يمكن من العنف. وهذا توجّه سليم في حدّ ذاته؛ لأنّ قلّة التسامح ينتج عنها ممارسة العنف، وهم لم يكونوا من دعاة هذا العنف. ولذلك فالقضيّة لا تتعلّق في نظري بمدى التأثّر بالغرب بقدر ما هي من مقتضيات الاجتماع الحديث، لا سيّما أنّهم عاشوا هذا الانتقال من وضع إلى وضع آخر مغاير على جميع الأصعدة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة وغيرها؛ فكانوا يبحثون عمّا يحقّق هذا الانسجام وما يبعده عن العنف، ولذلك كانوا متسامحين من هذه الناحية وهذا أمر طبيعي.

في إحدى الدراسات[30] يقول ابن عاشور F: «إن الحرية خاطر غريزي في النفوس البشرية، فيها (أي الحرية) نماء القوى الإنسانية من تفكير وقول وعمل، وبها تنطلق المواهب العقلية متسابقة في ميادين الابتكار والتدقيق. فلا يحق أن تسام بقيد إلا قيدًا يدفع به عن صاحبها ضر ثابت أو يجلب به نفع».

ويؤكد أصالة الحرية وفطريتها في موضع آخر بقوله: «والحرية بهذا المعنى حق للبشر على الجملة؛ لأن الله لما خلق للإنسان العقل والإرادة وأودع فيه القدرة على العمل فقد أكنَّ فيه حقيقة الحرية وخوّله استخدامها بالإذن التكويني المستقر في الخلقة».

يقول ابن عاشور: «وقد دخل التحجير في بني البشر في حريته من أول وجوده، إذ أذن الله لآدم وزوجه -حين خلقا وأسكنا الجنة - الانتفاع بما في الجنة، إلا شجرة من أشجارها. قال تعالى: {وَيَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ}، ثم لم يزل يدخل عليه التحجير في استعمال حريته بما شرع له من الشرائع والتعاليم المراعى فيها صلاح حاله في ذاته، ومع معاشريه، بتمييز حقوق الجميع ومراعاة إيفاء كل بحقه».

وهكذا تتأسس رؤية ابن عاشور إلى الحرية على أصالة مزدوجة متكاملة فيها: أصالة فطريتها الملازمة لكل فرد في خلقته، وأصالة مبدأ تقييدها وعقلنتها، باعتباره الشكل الوحيد الممكن لتحقيقها وإنجاحها.

يقول في مثال آخر عن حرية العمل: «وأما حرية العمل فإن شواهد الفطرة تدل على أن هذه الحرية أصل أصيل في الإنسان، فإن الله تعالى لما خلق للإنسان العقل وجعل له مشاعر تأتمر بما يأمرها العقل أن تعمله، وميز له بين النافع والضار بأنواع الأدلة، كان إذن قد أمكنه من أن يعمل ما يريد مما لا يحجمه عنه توقع ضرر يلحقه... فكانت حرية العمل والفعل أصلا فطريا...».

ثالثًا: التأصيل الأخلاقي لمبدأ التسامح في الإسلام

قال رسول لله K عن أبي أمامة: «ثلاث من أخلاق المؤمن: الملاطفة، والمسامحة، والمباذلة»، وجاءت الوصايا الكريمة تكرارًا ومرارًا تطالب بالرحمة واللين والرفق والمساهلة حتى في الأوقات والظروف الحرجة، كرد الأذى والدفاع عن العرض أو الدين أو النفس؛ منها ما قاله أبو بكر الصديق: «إنك ستلقى أقوامًا قد فرغوا أنفسهم لله في الصوامع فذرهم وما فرغوا أنفسهم له، ولا تقتلن مولودًا، ولا امرأة، ولا شيخًا كبيرًا، ولا تعقرن شجرًا بدا ثمره، ولا تحرقن نخلًا، ولا تقطعن كرمًا»[31].

وقال لقمان الحكيم داعيًا إلى التصدي للتعصب والعنف وغيرها من مشتقات التطرف والظلم: «يا بني، كذب من قال: إن الشر بالشر يطفأ، فإن كان صادقًا فليوقد نارين، وينظر هل تطفئ إحداهما الأخرى، وإنما يطفئ الخير الشر كم يطفئ الماء النار»[32].

من هذه الحكمة العظيمة يتبين لنا أن جدلية الخير والشر وصراع الأضداد متواصل بين البشر، فحيث يتجلى التسامح يعانده العنف، وحيث يكمن العفو يكمن التطرف والتعصب ولا يمكن بحال من الأحوال إدارة الجدل بين الخير والشر وبين الفضائل والرذائل إلا بالرجوع لدائرة القيم العليا والفلسفة الأخلاقية تماشيا مع مبادئ الشريعة الإسلامية.

يقول عادل العوا في كتابه الموسوم «التسامح من العنف إلى الحوار»: يترتَّب على الشخصية الإنسانية السوية فهمُ الكائن وما ينبغي أن يكون. ولا مناص لأفاضل الناس من أن يقوِّموا، في وجودهم وفعالهم، الإمكاناتِ الإنسانية المتاحة لهم تقويمَ اختيار عقلاني على الدوام؛ وبهذا الاختيار يرجِّحون عملًا على عمل، وسلوكًا على سلوك. وقد يكون اختيارُهم العقلاني ذا صفة دينية الرجحان، ويُعرَف اصطلاحًا عندئذٍ باسم «التكليف»، أو يكون اختيارًا عقلانيًّا بترجيحٍ إنساني المنطلق، فيكون اختيارًا نقديًّا، اختيارًا ذاتيًّا بشريًّا أو دنيويًّا. وكلا الاختيارين سلوك راهن يعدُّ التسامح في إطار الثقافة العربية الإسلامية قيمةً مرموقة أبدًا.

لذلك حاول الفلاسفة المسلمون ومنذ البداية بحث مسألة القيم وفق منهج العقل، كما حاولوا في العديد من الأحوال التوحيد والجمع بين العقل والنقل في البحث والتنظير للفضائل والتأصيل للقيم الأخلاقية والتربوية، وقد بيّنت سور القرآن الكريم وآياته أسس الأخلاق ومكارمها[33].

المبحث الأول: التأصيل الفكري للتسامح عند مسكويه

«ما يلفت النظر أن مسكويه وضع قواعد فلسفة أخلاقية حديثة ليست نظرية محضة، ولا عملية محضة، بل هي وسط بينهما تهدف للوصول إلى أرقى أنواع الحياة الفكرية والسلوكية لدى الإنسان وقد عبّر في كتابه: تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق على ضرورة تحسين وتسوية أفعالنا وأخلاقنا قائلًا: يجب أن نحصل لأنفسنا خلقًا حسنًا فتصدر عنّا أفعال كلها جميلة بلا تكلّف ولا مشقّة بل بصناعة ودراية»[34].

ومسكويه من الفلاسفة الذين تنبهوا إلى مسألة التسامح الأصيل النابع من الشريعة الإسلامية التي قال فيها: «والشريعة هي التي تقوم الأحداث وتعدهم للأفعال المرضية وتعد نفوسهم لقبول الحكمة وطلب الفضائل والبلوغ إلى السعادة الإنسانية بالفكر الصحيح والقياس المستقيم وعلى الوالدين أخذهم بها»[35].

وفي نسقه الأخلاقي يعد التسامح فضيلة من جملة الفضائل التي يفترض في الإنسان أن يتمتع بها؛ ويؤكد مسكويه أنّه من «الواجب الذي لا مرية فيه أن نحرص على الخيرات التي هي كمالنا، والتي من أجلها خلقنا، ونجتهد في الوصول إلى الانتهاء إليها، ونتجنب الشرور التي تعوقنا عنها وتنقص حظّنا منها»[36].

والفضائل عنده تنقسم بحسب النفس فهناك ثلاث قوى للنفس هي: القوة الناطقة، والقوة الشهوانية، والقوة الغضبية. ويجب أن تتحلى النفس بكامل الفضائل من وجهة نظره، ويقول بأن الحكماء أجمعوا «على أن أجناس الفضائل أربع، هي: الحكمة والعفة والشجاعة والعدالة»[37].

وما يهمنا من هذه الفضائل هي العفة إذ بها يرتبط مفهوم التسامح، فالعفة هي «فضيلة الحس الحيواني (الشهواني)، وظهور هذه الفضيلة في الإنسان يكون بأن يصرف شهواته بحسب الرأي، أعني أن يوافق التمييز الصحيح حتى لا ينقاد لها، ويصير بذلك حرًّا غير متعبد لشيء من شهواته»[38].

والفضائل التي تندرج تحت العفة هي: «الحياء، الدعة، الصبر، السخاء، الحرية، القناعة، الدماثة، الانتظام، حسن الهدى، المسالمة، الوقار، الورع».

وما يهمنا في هذه الفضائل هو فضيلة السخاء؛ لأنها هي الجنس الذي تنتمي إليه فضيلة التسامح، لذلك فالفضائل التي تندرج عنده تحت السخاء ستة، هي: «الكرم، الإيثار، النبل، المواساة، السماحة، المسامحة»[39].

التسامح ليس فضيلة واحدة عند مسكويه بل هو فضيلتان هما: السماحة، والمسامحة، وكلاهما أحد أشكال السخاء، ومن ثم ينتميان في آخر المطاف إلى العفة التي هي من كبرى الفضائل عنده، والتي يفترض في السلوك الأخلاقي أن يتجاوزها في الطريق إلى الخير والسعادة.

يقول مسكويه: «وأمّا السماحة فهي بذل بعض ما لا يجب، وأما المسامحة فهي ترك بعض ما يجب والجميع بالإرادة والاختيار»[40].

يقول عماد الهلالي: «إن متغيرات الواقع العربي الإسلامي، دفعت بمسكويه نحو فلسفة الأخلاق، التي اتخذت من الإنسان محورًا لمباحثها، في تشكيل أسس مشروعه الفلسفي للأخلاق والتربية. وهذا الميل لم يتجاهل الإسلام وما أفرزه من أنظمة فكرية، وهذا واضح في أسس ثقافته الفلسفية التي منحته فرصة انتخاب منظومات فلسفية تتجاوب مع طبيعة الأجواء الجديدة التي يعيش فيها الإنسان العربي»[41].

إن ما قدمه مسكويه في حقل البحث الأخلاقي القيمي ذو أهمية عالية باعتبارين، واحد تاريخي وآخر نظري ذاتي. فعلى الصعيد الأول تتاح لنا إمكانية النظر الفسيح والمفعم بالمشكلات الكثيرة المتوالفة والمتمايزة التي كانت تهيمن في الفكر العربي الوسيط، بحيث يكف الاعتقاد عن أن يكون صحيحًا والقائم على وضع هذا الفكر في رؤية بسيطة مبسطة تختزله إلى واحد من أبعاده.

وأما على الصعيد الثاني (النظري الذاتي) فنحن نرى أن المنظومة الأخلاقية القيمة لمسكويه أثارت من المسائل والمشكلات، في حينه ما أغنى التفكير الفلسفي العربي ودفع به إلى الأمام[42].

هذا لأن مسكويه اهتم بالأخلاق اهتمامًا موضوعيًّا علميًّا، إذ كان هدفه تقويم الخلق على أساس فلسفي سليم يرتقي به من رتبة البهائم والترقي في مراتب السعادة. وهو الواصف الشخص الحاصل على صحته النفسية الأخلاقية: «كالشمس تفيد القمر، كلما أشرقت عليه أفادته من ذاتها، وليس كالكتاب ينفع الغير دون أن يستفيد هو مما يحمله من نفائس العلم شيئًا».

وعلى هذا فالإصلاح الخلقي لا يقتصر على إصلاح المرء لنفسه، ولكنه يرمي أيضا إلى إصلاح المرء غيره[43].

وليجعل الإنسان العقل أساسًا للوعي الإنساني وليحرك الحوار كوسيلة من وسائل الوصول إلى حل الخلافات، وليدفعه إلى التفكير ويقوده إلى الأخذ بأسباب العلم، وينطلق الإيمان من موقع العلم الذي يتآخى مع الفطرة والوجدان،... ويثير أمام الإنسان والإنسانية الضوابط الأخلاقية والتطلعات الروحية والقوانين الشرعية من خلال الانفتاح على مسؤولياته في الحياة»[44].

وهذا ما يذكرنا بموقف سقراط ومطالبة الفيلسوف بإنزال الأخلاق من السماء إلى الأرض.

المبحث الثاني: الماوردي والتسامح الإسلامي نظريةً وتطبيقًا

الماوردي هو أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري الشافعي المواردي (364 - 450هـ/ 974 - 1058م).

قدّم الماوردي معالجة أخلاقية واسعة في الكثير من مؤلفاته منها الآداب السلطانية، تسهيل النظر وتعجيل الظفر، أما أخلاق التسامح فقد أعطاها أهمية كبرى في كتابه «أدب الدنيا والدين» متناولًا تعريف النفس وعلاقة التسامح بالأخلاق الإسلامية، فالنفس عنده: «مجبولة على شيم مهملة وأخلاق مرسلة لا يستغني محمودها على التأديب، ولا يكتفي بالمرضي منها عن التهذيب».

يرى الماوردي أن الأخلاق غرائز كامنة تظهر بالاختيار وتقهر بالاضطرار، ويؤكد أن للنفس أخلاق تحدث عنها بالطبع ولها أفعال تصدر عنها بالإضافة، إذا النفس عند الماوردي قسمان لا تنفك منهما (أخلاق الذات، وأفعال الإرادة).

والأخلاق نوعان: غريزية ومكتسبة، ومن مبادئ الفضائل العقل، وهو أول الفضائل؛ لأنه أصل الفضائل بحدوثها عنه وبتدبيرها به، والعدل فهو آخرها؛ لأنه نتيجة الفضائل، لأنها مقدرة به؛ لذلك صار آخرها، وهما مؤتلفان. وهو يقول: «أول الفضائل العقل والعدل بتقديرها نتيجة الفضائل فكان آخرها وهما قرينان مؤتلفان، ولم يتألف أمران إلا كان أحدهما محتاجًا إلى الآخر اضطرارًا، وما سواها من الفضائل واسطة بين العقل والعدل يختص العقل بتدبيرها، والعدل بتقديرها فيكون العقل مدبرًا والعدل مقدرًا...»[45].

ويحرص الماوردي على رصد ما يلزم من أدب حتى يتربى عليه الإنسان منذ طفولته إذ يقول: «وأما الأدب اللازم للإنسان عند نشأته وكبره فأدبان: أدب مواضعة واصطلاح، وأدب رياضة واستصلاح»[46].

ويقول في أخلاق الحكام والسلاطين: «الملك كالبحر تستمد منه الأنهار، فإذا كان عذبًا عذبت وإذا كان مالحًا ملحت»[47]، وهذا مصداق لقول رسول الله[48] K: «اثنان من الناس إذا صلحا صلح الناس، وإذا فسدا فسد الناس: العلماء والأمراء».

لا يعنينا أدب الرياضة والاستصلاح لأنه لا علاقة له بالتسامح، أمّا أدب المواضعة والاصطلاح فهي التي ترتبط بالتسامح. وعندما يربط الماوردي هذه الآداب بأخلاق الحاكم يقول: «من يبدأ بسياسة نفسه أدرك سياسة الناس».

ويذهب الماوردي إلى أن آداب المواضعة والاصطلاح ضربان هما: «أحدهما ما تكون المواضعة في فروعه والعقل موجب لأصوله، والثاني ما تكون المواضعة في فروعه وأصوله». وهذا الأخير مثل: الصبر والجزع، وكتمان السر، والكلام والصمت والمروءة.

وترتبط فضيلة التسامح عند الماوردي بالمروءة «التي هي حلية النفوس وزينة الهمم، فالمروءة مراعاة الأحوال، إلى أن تكون على أفضلها، حتى لا يظهر منها قبيح عن قصد، ولا يتوجه إليها ذم باستحقاق»[49].

يؤكد الماوردي «أن حقوق المروءة أكثر من أن تحصى، وأخفى من أن تظهر»، وتنقسم حقوق المروءة وشروطها إلى قسمين:

أولًا: شروط المروءة في نفسه.

ثانيًا: شروط المروءة في غيره.

يذكر الماوردي أن شروط المروءة في النفس هي: العفة والنزاهة والصيانة، أما شروطها في غيره فثلاثة: المؤازرة، والمياسرة، والإفضال.

يقول الماوردي: وأمّا المياسرة فنوعان: أحدهما العفو عن الهفوات، والثاني المسامحة في الحقوق، واستنادا إلى هذا النص فهناك شكلان للتسامح والمياسرة عند الماوردي:

أولا: العفو عن الهفوات

يفترض في الرجل الفاضل أن يعفو عن الهفوات التي تقع من الآخرين، وعليه أن يتسامح، إذ يقول الماوردي: «فأمّا العفو عن الهفوات، فلأنه لا مبرأ من سهو وزلل ولا سليم من نقص أو خلل، ومن رام سليمًا من هفوة والتمس بريئًا من نبوة فقد تعدى على الدهر بشططه، وخادع نفسه بغلطه وكان من وجود بغيته بعيدًا، وصار باقتراحه فردًا وحيدًا»[50].

ويرصد الماوردي المقدمات التي قادته إلى النتيجة على الإنسان أن يعفو عن الهفوات، لأنه:

1- لا مبرأ من سهو وزلل.

2- ولا سليم من نقص أو خلل.

3- ومن رام سليمًا من هفوة.

4- والتمس بريئًا من نبوة.

5- فقد تعدى على الدهر بشططه.

6- وخادع نفسه بغلطه.

7- وكان من وجود بغيته بعيدًا.

8- وصار باقتراحه عبدًا وحيدًا.

تلك المقدمات أساسية يفرضها العقل، وتلك هي حجة العقل على التسامح بالنسبة إليه.

لكنه لم يكتفِ بذلك، بل قدّم دعمًا لهذه الحجة من التراث الفارسي وتراث الحكماء وعندما يعود لأخلاق السلاطين والحكام يشترط توفر أربعة أخلاق متقابلة هي:

1- الرقة والرحمة: يحمد صاحبها لأن من يترك الرقة والرحمة يضيع حقوق الناس ويفسد الطباع ويحرك مطامع المنافسين، وإما الإفراط بالرقة والرحمة يحدث فسادًا ويصبح كالطبيب الذي يرحم المريض من مرارة الدواء فتؤذيه رحمته إلى هلاك المريض فتصير رحمته أبلى من قسوته ورفقته بل أضر من غلضته، إذن الرحمة مركبة من الود والجزع.

2- القسوة والغلضة: فإذا زادت عن حدها أدت إلى مجاوزة الحدود في الحياة والتسوية بين الشك واليقين، فلا يأمن سليم ولا يتميز سقيم، وإنما تكمن الصرامة في قلة الغفلة عن الجرائم، ومعرفة الأمور على الحقائق حتى لا يختلط أمر السقيم بالسليم، والخائن بالأمين، ولا يتصور الخالع بصورة الطائع كما قال الماوردي، فإذا اعتدل الملك في هذان الخلقان فرق بذلك بين أهل الحق والباطل، إذن فالقسوة خلق مركب بين البغض والجرأة[51]..

3- السماحة والعطاء: وهو بذل ما يحتاج إليه عند الحاجة وإيصاله إلى مستحقيه بحسب الطاقة، وإذا كان الحاكم غيّر ذلك وتجاوز هذا الحد فأعطى في غير حق، صار مسرفًا ولأموال المسلمين مبذرًا، ويمكن التفصيل في السخاء والعطاء في كتابه أدب الدنيا والدين الذي يقول فيه: «فالسخاء خلق مركب من الحياء والإيثار»[52].

4- البخل والإمساك: وهنا يرى أن خير المماليك هو «ملك بخيل على نفسه وسخي على رعيته»، وإذا استقام الملك على الخلقان في العطاء والمنع، ولم ينقص في حق، ولم يبسط في باطل، صلح حاله واستصلح.

ثم يعود الماوردي مرة ثانية إلى حجته السابقة فيعيد بسطها من جديد فيقول:

1- وإذا كان الدهر لا يوجده ما طلب.

2- ولا ينيله ما أحب.

3- وكان الوحيد في الناس مرفوضًا قصيًّا.

4- والمنقطع عنه وحشيًّا.

5- لزمه مساعدة زمانه في القضاء.

6- ومياسرة إخوانه في الصفح والإغضاء[53].

يقول: «وإذا كان الإغضاء حتمًا، والصفح كرما ترتب بحسب الهفوة، وتنزل بقدر الذنب والهفوات نوعان صغائر وكبائر، فالصغائر مغفورة والنفوس بها معذورة؛ لأن الناس مع أطوارهم المختلفة، وأخلاقهم المتفاضلة لا يسلمون منها...»[54].

وهنا يتوجب التسامح أما الكبائر فنوعان أيضًا يقول: «أن يهفو بها خطيًّا، ويزل بها سهيًّا، فالحرج فيها مرفوع، والعتب عليها موضوع، لأن هفوة الخاطئ هدر ولومه هذر».

وبهذا القول تتحدد أسس وحدود التسامح الذي روى لنا فيه الماوردي أيضًا عن الأحنف بن قيس؛ وابن عون أن غلامًا عربد على قوم، فأراد عمه أن يسيء به، فقال: يا عم، إني قد أسأت وليس معي عقلي، فلاتسئ بي ومعك عقلك.

واستطرد الماوردي في كتابه هذا يروي لنا أشعارًا وأمثالًا عن مختلف أنواع الأغلاط والأخطاء التي يوجب على المرء المسامحة فيها والتي يتعذر عليه تجاوزها ونسيانها.

ثانيًا: المسامحة في الحقوق

الشكل الثاني من أشكال المياسرة هو المسامحة في الحقوق، إذ يقول الماوردي: «وأما المسامحة في الحقوق، فلأن الاستفاء موحش والاستقصاء منفر، ومن أراد كل حقه من النفوس المستصعبة بشح أو طمع، لم يصل إليه إلا بالمنافرة والمشاقة ولم يقدر عليه إلا بالمخاشنة والمشاحة، لما استقر في الطباع من مقت من شاقها ونافرها وبغض من شاحها ونازعها. كما استقر حب من ياسرها وسامحها، فكان أليق من الأمر استلطاف النفوس بالمياسرة والمسامحة وتآلفها بالمقاربة والمساهلة».

يقسم الماوردي المسامحة في الحقوق إلى قسمين:

أولًا: المسامحة في العقود، فهو «أن يكون فيها سهل المناجزة قليل المحاجزة، مأمون الغيبة، بعيدًا عن المكر والخديعة».

ثانيًا: المسامحة في الحقوق، وتتنوع «المسامحة في نوعين:

1- المسامحة في الأفعال: «فهي اطِّراح المنازعة في الرتب وترك المنافسة في التقدم، فإن مشاحة النفوس فيها أعظم والعناد عليها أكثر، فإن سامح فيها ولم ينافس كان مع أخذه بأفضل الأخلاق، واستعماله لأحسن الآداب أوقع في النفوس من إفضاله برغائب الأموال ثم هو أزيد في رتبته وأبلغ في تقدمه، وإن شاح فيها ونازع كان مع ارتكابه لأخشن الأخلاق واستعماله لأهجن الآداب، وأنكى في النفوس من حد السيف وطعن السنان، ثم هو أخفض للمرتبة وأمنع من التقدم».

2- المسامحة في الأموال: «وأما المسامحة في الأموال فتتنوع ثلاثة أنواع: مسامحة إسقاط لعدم، ومسامحة تخفيف لعجز، ومسامحة إنكار لعسرة».

ولن نخوض في هذا النوع من المسامحة والمياسرة لنترك الباحثين يعودون إلى المصدر تصفحًا واطلاعًا ونقول ما قاله صاحب كتاب الآداب السلطانية: «واعلم أنك ما حييت ملحوظ المحاسن، محفوظ المساوئ... فكن أحسن حديث ينشر، يكن سعيك في الناس مشكورًا وأجرك عند الله مذخورًا».

يجمع الماوردي في كثر مما كتب بين الأخلاق والسياسة ويقر بأن أول ما يلزم السلطان فعله هو حماية الدين والحث على العمل به، ويطالب الماوردي باتّباع اليسر وترك العسر أي الابتعاد عن التسلط بالقوة، فعلى الحاكم أن يعامل الرعية بعطف وأن ينصف المظلوم، ويعاقب الظالم وكل المعاملات الأخلاقية تنهج وفق الشرع والعقل الراجح للظفر بسعادة الدنيا من...[55].

الخاتمة

مما سبق نستنج أن ما ذهب إليه مسكويه والماوردي وغيرهما هو ما تطمح إليه الدراسات المعاصرة في محاولة التأصيل لهذا المفهوم؛ لذلك يجزم بعضهم أن التسامح هو «موقف من يقبل لدى الآخرين وجود طرق تفكير وطرق حياة مختلفة عمَّا لديه هو... وبذلك يصبح مبدأ التسامح مبدأً توافقيًّا ويكون الغرض منه ليس الأخذ بالممنوعات ولكن الوصول إلى التوافقات»[56].

يقول الطاهر بن عاشور: «فيكون من النشأة على مكارم الأخلاق معدل لذلك الحرج وشارح لذلك الصدر الضيق، حتى يتدرب على تلقي مخالفات المخالفين بنفس مطمئنة وصدر رجب ولسان طلق لإقامة الحجة والهدى إلى المحجة دون ضجر ولا سآمة»[57].

وإن كان يقصد بالمخالفين ذوي الديانات الأخرى إلا أنه دعا للسمو بأخلاق التسامح نحو الفضائل الكبرى؛ إن الشيخ الطاهر بن عاشور يجعل من موقف التسامح موقفًا أخلاقيًّا رفيعًا (من مكارم الأخلاق) يقوم على قبول واقع الاختلاف، وعلى ضرورة التعايش السلمي بين المختلفين دينيًّا وفكريًّا وجعل المحاجة الفكرية سبيلًا أوحدًّا للتعامل فيما بينهم.

والقبول بالاختلاف الذي يؤسس له هذا الموقف التسامحي الأخلاقي يتضمّن، بالتبعية، القبول بمبدأي التعدّدية الدينية والفكرية وحرية الاختيار.

يرتبط إذن مفهوم التسامح، من حيث هو مدلول يفيد العلاقة الإيجابية بين المتخالفين دينيًّا وفكريًّا.

بعد هذا التأصيل بالعقل والنقل لقيمة التسامح في دين الإسلام يقول سماحة الشيخ ابن عاشور: «إن التسامح من خصائص دين الإسلام وهو أشهر مميزاته وأنه من النعم التي انعم بها على أضداده وأعدائه وأدل حجة على رحمة الرسالة الإسلامية المقرر بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}»[58].

ولما كانت الأخلاق تتجلى رقةً وحنانًا واستيعابًا للآخرين، فإننا نلاحظ أن الله تعالى يذكر نبيه بالقاعدة الذهبية التي جعلته داعيةً ناجحًا ومقبولًا، ويؤكد له أن حيازته على هذه السجية إنما هي بفضل الله وتوفيقه، وفي هذا الجو المفعم بالأخلاق وطيب القلب والعفو، نحدد علاقتنا بالأشياء والأشخاص، لتكون بأجمعها مشدودة إلى هذه القيم النبيلة، وسائدة في هذا الاتجاه.

فالأصل في العلاقة بين بني الإنسان بصرف النظر عن اتجاهاتهم الأيديولوجية والفكرية، هو الرحمة والإحسان والبر والقسط وتجنب الإيذاء. ذكر الفخر الرازي في تفسيره الكبير حينما أمر الله لموسى باللين في مخاطبة فرعون، لوجهين:

الأول: إنه كان قد ربّاه فرعون، فأمره أن يخاطبه بالرفق رعاية لتلك الحقوق.

الثاني: إن من عادة الجبابرة إذا غلظ لهم في الوعظ، أن يزدادوا عتوًّا وتكبرًا، والمقصود من البعثة حصول النفع لا حصول زيادة الضرر، فلهذا أمر الله تعالى بالرفق.

وتكون السهولة واللين بالسلوك، مصداق قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ..}[59]. وقوله تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}[60].

ونستنج من خلال هذا البحث أن الإنسان المعاصر شديدُ الغفلة، لأنّه قد تناسى أصله الأخلاقي المتمثّل في الدين، وراح –حسب الدكتور طه عبد الرحمن- يعوّض الأخلاقيّة بالعقلانية المجرّدة التي هي أقلّ رُتب العقلانيّات الإنسانيّة، والتي قد تشترك في مجرّد العقل مع غير الإنسان، فقد تناسى هذا الإنسان العقلانيّة المسدّدة والمؤيّدة اللتين تتنزّل الأخلاق فيهما مرتبةً عالية تستند إلى الأصل الديني للإنسان.

فالدكتور طه عبد الرحمن يقول: إنّ العقل له ثلاث مراتب يتنزّل فيها: فأولًا، هناك العقل المجرّد والنّظري والمحض، وهو الذي حظي من الدكتور عبدالرحمن بتأبين كبير، وحكمَ بعدم صلوحيّته أخلاقيًّا ومنطقيًّا كونه ضيّقًا ومحدودًا وفقيرًا. ثانيًا، هناك العقل المسدّد، وهو العقل الذي له صلوحيّة عمليّة ولكنّها محدودة، كونه غير مؤيّد بالدليل الصحيح والعمل القويم.

ثالثًا، هناك العقل المؤيّد؛ وهو العقل الذي يحظى باحتفال رائع من طه عبدالرحمن فهو العقل الصالح الذي يجعل كلّ طبيعة آية، كما أنّه يرتقي بالنظري إلى آفاق موسّعة تتعدى ما هو طبيعي[61].

ينطلق الدكتور طه عبدالرحمن من فرضية سمو الإسلام وحاجة الإنسانية إليه، بما في ذلك الغرب، وأنه آن الأوان للمثقف والحاكم أن يقدما الإسلام على صورة تليق بسموه؛ لأن المشكلة هي أن الحكام والمفكرون أساؤوا تقديم الإسلام من حيث إنهم يظنون أنهم يحسنون هذا التقديم»، ويترقى الدكتور طه عبدالرحمن في بيان التوسع المعنوي من خلال الارتقاء في مراتب الأخلاق، أخلاق الإسلام وأخلاق الإيمان وأخلاق الإحسان، هذه الأخيرة التي تحقق الإخلاص ويقصد بإخلاص المواطن «التجرد من الأسباب التي تبعث على الظلم»[62].

 

 

 

 



[1] منير البعلبكي، قاموس المورد، بيروت: دار العلم للملايين، 2005، ص975.

[2] راجع قاموس أكسفورد الحديث، تأليف العزبي وآخرون، ط8، 2002.

[3] جون لوك: هو فيلسوف إنجليزي.

[4] جون لوك، رسالة في التسامح، ترجمها عن اللاتينية مع تقديم وتعليق عبد الرحمن بدوي، بغداد: مركز درسات فلسفة الدين، سلسلة ثقافة التسامح، 2006، ص121.

[5] ريمون بولان، الحرية في عصرنا، ترجمة وتقديم: عادل العوا، دمشق: دار طلاس، 1993، ص161.

[6] جمال الدين أبو الفضل محمد بن مكرم بن منظور، لسان العرب، مج (2)، بيروت: دار صادر، 1955-1956م، ص490. راجع أيضًا: الشيخ محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي: مختار الصحاح، بيروت: دار الفكر، ص312.

[7] راجع: إعلان المبادئ المتعلقة بالتسامح الذي أعلنه ووقعه المؤتمر العام لليونيسكو في 16 نوفمبر 1995، رسالة اليونيسكو، آذار/ مارس 1996، ص34. 

[8] نحو رؤية حضارية لمفهوم التسامح، جريدة الغد، العدد 7137، 4 شباط - فبراير 2005، على شبكة المعلومات العالمية الانترنيت: http:/www.alghad.jo/news

[9] محمد عابد الجابري، قضايا في الفكر المعاصر، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1997، ص20. 

[10] علي أسعد وطفة، المضامين الإنسانية في مفهوم التسامح، على شبكة المعلومات العالمية الإنترنت، الموقع: http:/www.kwtanweer.com.

[11] ماجد الغرباوي، التسامح ومنابع اللاتسامح مقاربة تمهيدية، مجلة قضايا إسلامية معاصرة، بغداد: مركز دراسات فلسفة الدين، العدد 28-29، 2004، ص145.

[12]محمد الطاهر بن عاشور، أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، تونس: دار سحنون، والقاهرة: دار السلام، 2006.

[13] محمد الطاهر بن عاشور، أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، تونس: دار سحنون والقاهرة: دار السلام، 2006،ص172.

[14] راجع: الطاهر بن عاشور.. العالم الشجاع، موقع قصة الإسلام، إشراف د. راغب السرجاني

[15] محمد الطاهر ابن عاشور، أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، تونس: دار سحنون والقاهرة: دار السلام، 2006، ص 213

[16] المصدر نفسه، ص113.

[17] محمد الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة، الطبعة الأولى، الشركة التونسية للتوزيع، تونس 1978، ص61.

[18] سورة النساء، الآية 28.

[19] محمد الطاهر بن عاشور، المصدر نفسه، ص61.

[20] المصدر نفسه، ص60.

[21] سورة ص، الآية 26.

[22] ابن قيم الجوزية، إعلام الموقعين، ج3، بيروت: دار الجيل، ص3.

[23] عبدالكريم زيدان، حالة الضرورة في الشريعة الإسلامية، بيروت: مؤسسة الرسالة، ص5.

[24] محمد الطاهر بن عاشور، أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، تونس: دار سحنون، والقاهرة: دار السلام، 2006، ص 215.

[25] المصدر نفسه، ص216.

[26] المصدر نفسه، ص217.

[27] المصدر نفسه، ص219.

[28] محمد عمارة، الإسلام والأقليات الماضي، الحاضر والمستقبل، القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، ط 1، 2003، ص 12

[29] محمد عابد الجابري، قضايا في الفكر المعاصر، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، 1997، ص28.

[30] ابن عاشور، احترام الأفكار، مجلة السعادة العظمى، ع18، مج1، 16 رمضان 1322هـ، ص ص273-281.

[31] الفردوس بمأثور الخطاب، رقم 2468، الجزء 2، ص87.

[32] وصية أبي بكر الصديق ليزيد بن أبي سفيان لما بعثه إلى الشام، انظر السرخسي، شرح السير الكبير، قدم له د. عبد العظيم العناني، تحقيق: أبو عبد الله محمد حسن الشافعي، بيروت: دار الكتب العلمية، 1997م، الجزء الأول، ص31 - 32.

[33] عبد الله بن سيف الأزدي، فصول من الأخلاق الإسلامية في ضوء الكتاب والسنة دار الأندلس، ط1، 2000م، ص7.

[34] ابن مسكويه، تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق، تقديم: حسن تميم، بيروت: دار مكتبة الحياة للطباعة والنشر، ط2، ص28. 

[35] المصدر نفسه،ط1، ص45.

[36] المصدر نفسه، ص12.

[37] المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

[38] المصدر نفسه، ص15.

[39] المصدر نفسه، ص16.

[40] المصدر نفسه، ص17.

[41] راجع مقال عيسى جابلي: مسكويه فيلسوف الأخلاق، ذواتنا، صحيفة ثقافية فكرية، تصدر عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، يوم 16/04/2015، المملكة المغربية على الموقع:

http://thewhatnews.net/index.php

[42] المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

[43] أحمد بن مسكويه، تهذيب الأخلاق، طبعة مكتبة الحياة، 1961، ص222.

[44] محمد حسين فضل الله، عن التغيير والتمايز الحضاري ومحاكاة الخلافة الراشدة، عن بحوث وقراءات، بيروت: الدار العالمية، ط1 1994م، ص210.

[45] الماوردي ابو الحسن علي بن محمد بن حبيب، تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملك وسياسة الملك، تحقيق: محي هلال السرحان وحسن الساعاتي، بيروت: دار النهضة العربية، ط1، 1981، ص12.

[46] الماوردي، أدب الدنيا والدين، المصدر السابق، ص228.

[47] الماوردي ابو الحسن علي بن محمد بن حبيب، تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملك وسياسة الملك، مصدر سابق، ص44. 

[48] المصدر نفسه.

[49] المصدر نفسه، ص265.

[50] المصدر نفسه، ص254.

[51] المصدر نفسه، ص ص 109-110.

[52] الماوردي، أدب الدنيا والدين، شرح وتعليق: محمد كريم راجح، بيروت: دار إقرأ، ط5، 1986م، ص169.

[53] المصدر نفسه، ص254.

[54] المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

[55] المصدر السابق، ص223.

[56] عاطف علبي، التسامح والثقافات، مجلة التسامح، تصدر عن وزارة الاوقاف والشؤون الدينية في سلطنة عمان، العدد الخامس، 2004، ص300.

[57] محمد الطاهر بن عاشور، أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، تونس: دار سحنون، والقاهرة: دار السلام، 2006، ص216. 

[58] القرآن الكريم، سورة الأنبياء، الآية 107.

[59] القرآن الكريم، سورة آل عمران، الآية 159.

[60] القرآن الكريم، سورة فصلت، الآية 34.

[61] راجع : طه عبد الرحمن، سؤال الأخلاق؛ مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربيّة، المركز الثقافي العربي، الطبعة الرابعة 2009م، وراجع أيضًا: العمل الديني وتجديد العقل، 1989م، بين عقلانيات ثلاث وهي التي ذكرتها بالأعلى.

[62] طه عبد الرحمن، روح الحداثة، لبنان، المغرب: المركز الثقافي العربي، ط1، 2006، ص223.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة