تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

الخطاب الصوفي في مشروع رفاعة الطهطاوي

محمد حفيان

 

 

الخطاب الصوفي في مشروع رفاعة الطهطاوي..

مضمون أيديولوجي لمحتوى معرفي

الدكتور محمد حفيان*

 

*          أستاذ محاضر، قسم الفلسفة، جامعة سعيدة، الجزائر، البريد الإلكتروني: 

Hafiane2010@yahoo.fr

 

 

 

تمهيـــــد

هناك أربع إشكالات واجهت مشروع رفاعة الطهطاوي[1]:

الإشكال الأول: سياسي مفهومي يتعلَّق بنظام الحكم، وفق ثنائية: المفهوم الليبرالي/ الحكم الأوتوقراطي

الإشكال الثاني: حضاري يتعلق بالهوية، وفق ثنائية: الأنا/ الآخر.

الإشكال الثالث: ثقافي سياسي يتعلَّق بالثقافة والسلطة وفق ثنائية: سلطة الثقافة/ ثقافة السلطة.

الإشكال الرابع: تربوي سلوكي يتعلَّق بالأيديولوجيا والمعرفة، وفق ثنائية: المحتوى المعرفي/ المضمون الأيديولوجي.

وقد كان على الطهطاوي أن يتحرّك في فضاء هذه الثنائيات المؤشكلة وفق تعاكس حدّي كل ثنائية. فمن جهة أولى، هناك مفاهيم الفكر السياسي الليبرالي المتعاكسة مع خيار محمد علي السياسي. ومن جهة ثانية، هناك هيمنة الآخر المتعاكسة مع أصالة الأنا وهويته. ومن جهة ثالثة، هناك مشروع النهضة المتعاكس مع طموح السلطة. ومن جهة رابعة، هناك المضمون الأيديولوجي للمعارف الفلسفية الأوروبية المتعاكس مع المحتوى المعرفي للعلوم الشرعية الإسلامية من جهة، ومن جهة أخرى، هناك المحتوى المعرفي للعلوم الدقيقة والتقنية الحديثة الذي لا يتعاكس مع المحتوى المعرفي للعلوم الشرعية الإسلامية.

لكن الدور الأساس المنوط بالطهطاوي، كان هو دور الحد الأوسط المنظم لعلاقة الحدين المتعاكسين، هو دور الذات التي لا يمكنها أن تنظم تنظيمًا واعيًا علاقات الحدود إن لم تعِ أولًا علاقاتها هي مع كل حد على حده.

لقد عالج الطهطاوي الإشكالات الثلاث الأولى[2] أولًا في كتابه «تخليص الإبريز»[3] الذي أصدره سنة 1834 بعد عودته من فرنسا وعرض فيه نبذًا من فنون فرنسا وعلومها ونظامها السياسي وعوائدها وأخلاق أهلها. وثانيًا: في كتابه «مباهج الألباب المصرية في مناهج الآداب العصرية»[4] الذي أصدره سنة 1869 وعرض فيه أفكاره السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

أما الإشكال التربوي المصاغ ضمن تنائيه: المحتوى المعرفي/ المضمون الأيديولوجي، فيمكننا مقاربته في كتاب «المرشد الأمين للبنات والبنين»[5] الذي كتبه في أواخر حياته وطبع سنة 1873 (أي في السنة نفسها التي توفي فيها الطهطاوي) وهذا الكتاب هو الذي يهمنا في بحثنا هذا، والذي من خلاله سنحاول تحقيق تلك الدعوى التي بادرنا إلى تقريرها حول استراتيجية إقصاء التعاكس بين حدَّي الثنائية، التي اعتمدها الطهطاوي بجعل المحتوى المعرفي لبعض قضايا التراث العربي الإسلامي مضمونًا أيديولوجيًّا للمعارف الأوروبية العلمية الحديثة.

ولأن المحتوى المعرفي الذي نعنيه هنا هو: المحتوى المعرفي للفكر الصوفي الإسلامي، فإننا سنحاول تلمُّس مدى الحضور الوظيفي لهذا الفكر، في مشروع الطهطاوي النهضوي، من خلال دراستنا لهذا الكتاب، الذي عرض الطهطاوي فيه أفكاره التربوية.

واقع المنظومة التعليمية على عهد الطهطاوي

الواقع أن الإصلاحات التي شهدتها مصر بدءًا من حكم محمد علي في مختلف المجالات قد شكَّلت قاعدة مادية للنهضة، فقد كان هدف محمد علي هو بناء دولة قوية ذات جيش قوي ونظام سياسي مركزي أوتوقراطي، لكن من المؤكد –كما يقول ألبرت حوراني- «أن اطِّراد النمو الصناعي والاقتصاد المخطط كان يلائم مصالحه الخاصة كما كان في صالح سياسته العسكرية إنشاؤه المدارس المهنية وإيفاده طلابًا إلى أوربا وحمله إياهم على ترجمة المؤلفات التقنية بعد عودتهم وتأسيسه مطبعة لطبع الترجمات»[6].

وهذا يعني أن محمد علي أدرك أهمية العلم في تحقيق مشاريعه. ولأن الأزهر لم يكن يتوفر على ذلك العلم التقني الحديث الذي تتطلّبه مشاريع الدولة الجديدة، فلم يكن أمام محمد علي إلَّا أن يترك للأزهر منظومته التعليمية، وأن ينشئ بموازاتها منظومة تعليمية عصرية على النسق الأوربي، «وقد أصابت النهضة التعليمية ازدهارًا ملحوظًا بين سنتي 1836 و1840 إذ وضعت لوائح التعليم ونظّمت المناهج في مراحله المختلفة واستكمل النظام التعليمي كيانه»[7].

فكان هناك الاختصاصات العلمية المختلفة كالطب بنوعيه البشري والبيطري والصيدلة والمحاسبة والزراعة والهندسة ونظمت المدارس الحربية. «وقد ظل الاهتمام بالتعليم يحتل جانبًا كبيرًا من اهتمام الدولة (....) ومن ذلك أنها أنشأت في سنة 1843 مدرسة تجريبية بالقاهرة لتجريب طرق جديدة في التدريس تمهيدًا للتوسع في نشر التعليم الابتدائي بأسهل طريقة وبأقل تكاليف ممكنه»[8].

لقد كان هذا - باختصار – هو واقع النهضة التعليمية على عهد محمد علي، وقد كانت من القوة والتجذر ما أهَّلها لتضمن استمراريتها رغم الانكماش والفتور الذي طالها طوال فترتي الخديوي عباس (1843-1854) والخديوي سعيد (1854-1863) لكن لما تولى الخديوي إسماعيل الحكم سنة 1863 نفث فيها روحًا جديدة، فكانت الوجه النير للنهضة الشاملة التي شهدتها مصر في عهده حيث إنه «أعاد إنشاء ديوان المدارس وافتتحت المدارس الابتدائية والتجهيزية ونظمت المدارس الحربية (....) والإدارة لتخريج رجال القانون ودار العلوم لتخريج المعلمين واضطراد إرسال البعوث العلمية إلى أوروبا وانتعشت حركة التأليف والترجمة، وصدرت الصحف الأهلية (....) والنظام التعليمي في عهد إسماعيل لم يعد مقصورًا على بعض مدارس ابتدائية وتجهيزية وخصوصية، وإنما أصبحت السياسة التعليمية تهدف إلى غاية أسمى من ذلك وهي إنشاء نظام قومي للتعليم في مصر يستمد عناصره من كلا النظامين الحديث المتمثل في مدارس الدولة، والقديم المتمثل في المكاتب الأهلية»[9].

إذا كان هذا هو واقع المنظومة التعليمية في مصر في حياة الطهطاوي فما الذي أضافه الطهطاوي إلى هذه المنظومة أو بالأحرى، ما الذي كان يمكن أن يضيفه؟

يمكننا الإجابة على الفور وبدون تردد: أن الطهطاوي لم يضف شيئًا إلى المحتوى المعرفي للمنظومة التعليمية السائدة آنذاك. والمحتوى المعرفي الذي نعنيه هنا هو المواضيع المقرّرة للتدريس من كل المواد التي يشملها البرنامج الدراسي سواء أكانت علمية أو أدبية أو علوم اجتماعية وإنسانية بل وعلوم شرعية كذلك.

وكون الطهطاوي لم يضف شيئًا إلى المواضيع المقررة من هذه المواد، بمعنى أنه لم يتعرض لها لا بالشرح ولا بالتحليل ولا بالنقد ولا بالتعديل، بل ولا بالعرض. فكتاب «المرشد الأمين للبنات والبنين» الذي يشغل حوالي خمسمائة صفحة من المجلد الثاني من الأعمال الكاملة والذي رتبه الطهطاوي على مقدمة وسبعة أبواب مشتملة على فصول وخاتمه، قد يكون كافيًا أن نعرض عناوين أبوابه السبعة[10] لنؤكد هذه الإجابة، خاصة وأن الخديوي إسماعيل ولشدة إعجابه بالمدنية الأوروبية عمل جاهدًا من أجل التمظهر بعادات الأوروبيين في كل شيء، ولم يبدِ أي تحفظ في نقل العلوم والمعارف الأوروبية الحديثة واعتماد برامجها ومقرراتها التعليمية.

وقد عبر الطهطاوي نفسه بإعجاب عن هذا المسعى بقوله: « ففي أيام دولته السعيدة كم جدد بمصر من محاسن العصر المفيدة حتى صار أفقها لجياد العلماء من أشهر الميادين (....) فقد استوعب لمصره محاسن عصره»[11].

ومن محاسن عصره التي اعتمدها هي العلوم والمعارف والتقنيات والبرامج والمقررات التعليمية الأوروبية الحديثة، ليس هذا فحسب، بل ومن محاسن عصره التي نقلها عن الأوروبيين، المساواة في التعليم بين البنات والبنين.

وقد أرَّخها الطهطاوي منوّهًا بها فقال: «فقد سوَّى -أي الخديوي إسماعيل- في اكتساب المعارف بين الفريقين ولم يجعل العلم كالإرث للذكر مثل حظ الأنثيين، فبهذا سوَّق المعارف المشتركة قد قامت، وطريق العوارف للجنسين استقامت وليل جهل النساء جلاه فجر المعارف (....) فقد أحيا في طبعهن نجاح الآمال (..) وخصّهن بمدارس كالصبيان يخرجن بها من حيِّز العلوم إلى الوجدان ومن الوهم إلى العيان».

وهذا يعني أن المساواة بين الجنسين التي بشَّر بها الطهطاوي في عنوان كتابه لم تكن هي الأخرى من بنات أفكاره يحسب له السبق فيها.

يذكر الطهطاوي –وقد جاوز عمره السبعين سنة آنذاك- سبب المبادرة إلى تأليف هذا الكتاب فيقول: «صدر لي الأمر الشفاهي من ديوان المدارس بعمل كتاب في الآداب والتربية يصلح لتعليم البنين والبنات على السوية (...) وسميتها بـ«المرشد الأمين للبنات والبنين» جعلتها برسم دولتلو عطوفتلو أفندم حسين باشا كامل، عسى أن يكون نظر عنايته لحسن طبعها شامل»[12].

فإذا علمنا أن حسين باشا كامل هذا هو ابن الخديوي إسماعيل، وأن أباه قد عيّنه للإشراف شخصيًّا على ديوان المدارس سنة 1872، ندرك مدى العناية الكبيرة التي كان يوليها الخديوي إسماعيل شخصيًّا للمنظومة التعليمية آنذاك ومدى أهمية هذا الديوان باعتباره هيئة عليا، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى، ندرك عدم تناسب حداثة المنظومة التعليمية المنقولة حرفيًّا عن أوروبا مع المدونة المُشكِّلة لمرجعية الطهطاوي الفكرية، سواء تلك التي تعلّم منها بصفة نظامية في الأزهر، أو تلك التي تعلّم منها بصفة عصامية غير نظاميه في فرنسا، بدليل أن الطهطاوي –رغم معاصرته للبداية الأولى لإصلاح النظام التعليمي على يد محمد علي– إلَّا أنه لم يطلب منه المساهمة في ذلك الجهد، ولم يعرف عنه أنه بادر هو إلى ذلك ذاتيًّا– لا من حيث تأليف البرامج والمقررات التعليمية ولا من حيت إنجازه دراسات تحليلية أو نقدية لما كان معتمدًا منها آنذاك.

حصل هذا والطهطاوي كان لا يزال شابًا في أوج عطائه، والمشروع الإصلاحي التحديثي كان لا يزال في بداياته، فما بالك وقد تطور المشروع وأوغل في الحداثة و«التغريب» في عهد إسماعيل بعد رحلة تطور دامت أكثر من أربعين سنة أصبح الطهطاوي بعدها شيخًا هرمًا لقد شاخ سنًّا وشاخ معرفيًّا. وبحكم تكوينه الديني وبحكم تجربته الحياتية أصبح مؤهلًا أكثر للتأليف في التربية، لكن ليس بالمفهوم البيداغوجي الحديث، بل بمفهوم الأدب والتأديب التراثيين المتجهين نحو تهذيب الأخلاق وتقويم السلوك.

لقد ظهر ذلك واضحًا جليًّا في كتابه «المرشد الأمين» الذي عالج فيه الكثير من الموضوعات[13] التي «جاءت على وفق المراد» وعزّزها بكل ما أمكن من المواعظ والنصائح والحكم -شعرًا ونثرًا- وبكل ما أمكن من الاستشهادات بأقوال العلماء والحكماء والفلاسفة وأعلام الصوفية، وما أمكن من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وختم الكتاب بخاتمة سمّاها «خاتمة حسنى» انتقى فيها بعض الأحاديث النبوية التي تخدم الموضوع «وتحث على كل فضل»[14] وتعلّم «أحوال المعاد والمعاش معًا»[15].

فتهذيب الأخلاق وتقويم السلوك «وتعليم أحوال المعاد والمعاش» كانت هي روح مضمون الكتاب، وهي الشاغل الذي صاحب الطهطاوي أثناء التأليف بدءًا من العنوان الدال «المرشد الأمين» وانتهاء بالخاتمة الدالة كذلك التي سمّاها «خاتمة حسنى».

فواضح إذن أن الطهطاوي ضبط وظيفة واضحة لكتاب المرشد الأمين مؤدَّاها أن يكون مرشدًا أمينًا لتهذيب الأخلاق وتقويم السلوك وتعليم أحوال المعاش والمعاد للفوز بالخاتمة الحسنى. وهي وظيفة أيديولوجية دعوية –أخلاقيًّا واجتماعيًّا– ذات بعد ديني صوفي، وهي في واقع الحال تناقض تمامًا المضمون الأيديولوجي لما كان سائدًا في المجتمعات الأوروبية تربويًّا وأخلاقيًّا واجتماعيًّا، سواء أكانت ذات أبعاد دينية أم علمانية.

لذلك فإن «الأمر الشفاهي» الذي تلقّاه الطهطاوي من «ديوان المدارس» «بعمل كتاب في الآداب والتربية» جاء من أجل «تحصين البنات والبنين» ضد خطر هذه المضامين الأيديولوجية الوافدة؛ لأن أوروبا لم تكن تمثّل –في نظر الطهطاوي– «أي خطر سياسي»[16] «لكنه كان يشعر بأنها خطر أخلاقي»[17]. ولربما كان هذا هو شعور القائم على رأس «ديوان المدارس» نفسه وشعور الخديوي إسماعيل نفسه.

إن هذا الخطر الأخلاقي هو الذي قد يفسّر صدور الأمر شفاهيًّا دلالة على الاستعجال، ويفسر كذلك سرعة إتمام إنجاز الكتاب في زمن قياسي (أكتر من 500 صفحة في أقل من سنة).

فقد وجد الطهطاوي نفسه يسارع الزمن مستنجدًا شظايا الموروث العربي الإسلامي من أجل «توليف» محتوى معرفي لا يكون بديلًا عن المحتوى المعرفي الحديث للمنظومة التربوية ولا ليزاحمه ولا ليكون موازيًا له، بل ليكون موجّهًا له؛ لأن «من المعلوم أن الغرض الأصلي من العلوم والمعارف إنما هو الانقياد لأمر الله تعالى بما اقتضته الحكمة الربانية في بعثه للرسل عليهم الصلاة والسلام؛ حيث إن الحكمة في بعثهم إنما هي لانتظام أحوال العباد في المعاش والمعاد (...)، وأولى العلوم بذاك العلوم الشرعية التي عليها مدار أحكام البلاد وراحة العباد وهي: معرفة الله تعالى والتفسير والفقه والحديث إذ هي المقصودة بالذات، وما سواها من العلوم والفنون فهي لها كالآلات والإعانات، والعلوم الشرعية هي أهم مما عداها»[18].

وأهميتها (العلوم الشرعية) لا تتأتَّى فقط من كونها أولى العلوم صلاحية «لانتظام أحوال العباد في المعاش والمعاد» –فحسب- بل وتتأتَّى كذلك من كونها هي الأعرف بالطريق إلى الله. ومادام أن الغرض الأصلي (لكل) العلوم والمعارف -حسب الطهطاوي– «هو الانقياد لأمر الله تعالى» فإن الأعرف بالطريق هو الأولى بالقيادة والتوجيه والإرشاد، وقد جاء عنوان الكتاب «المرشد الأمين» معبّرًا عن هذا الامتياز بالاعتبار السابق أولًا، وثانيًا، باعتبار أن محتواها المعرفي (أي العلوم الشرعية) هو عين مضمونها الأيديولوجي، ومضمونها الأيديولوجي هو عين محتواها المعرفي.

وقد تتضح هذه المسألة أكثر حينما نتفق على حقيقة أن العلماء والمفكرين الغربيين الذين اشتغلوا على العلوم والمعارف الحديثة لم يكن غرضهم إطلاقًا «حسن انتظام أحوال العباد في المعاد» ولا «الانقياد لأمر الله»، بل كان غرضهم عكس ذلك تمامًا، وهو تحرير الفكر والعقل والمجتمع ككل من أيديولوجية اللّاهوت ومعارفه وتحقيق رفاهية المجتمع وتطويره. أو بتعبير الطهطاوي «حسن انتظام أحوال العباد في المعاش» وليس «في المعاد».

لأن الأيدولوجيا التي كانت توجه وترشد النشاط المجتمعي الأوروبي والغربي ككل كانت تتأسس على التوجه العام للفلسفة السائدة في تلك الفترة، والتي كانت متجاوزة بل قاطعة إبستومولوجيًّا مع فكر «الانقياد لأمر الله»، وقاطعة أيضًا مع الانشغال بـ«أحوال المعاد»، وحتى مع المعارف الموصلة إلى «معرفة الله».

وهذا يعني أن المحتوى المعرفي للعلوم الحديثة يتمتع باستقلالية عن المضمون الأيديولوجي للفلسفة السائدة، بل إن هذه الأخيرة هي التي قد تضمن له تلك الاستقلالية. إن هذا يقودنا إلى القول: إن المحتوى المعرفي لكتاب «المرشد الأمين» –بما أنه جزء من المحتوى المعرفي لعلوم الشريعة- هو عين مضمونه الأيديولوجي، ومضمونه الأيديولوجي هو عين محتواه المعرفي.

وهذا، خلافًا للمحتوى المعرفي للعلوم التقنية الحديثة المشكِّلة للمنظومة التعليمية في مصر على عهد الطهطاوي، فهو مستقل عن المضمون الأيديولوجي لعلوم الشريعة الإسلامية من جهة، ومستقل كذلك عن المضمون الأيديولوجي للفلسفة السائدة في أوروبا من جهة أخرى.

لكن ليس في مطلق الزمان والمكان، بل قد يتأدلج من هذا الطرف أو ذاك، وهذا عين ما حاول الطهطاوي فعله في كتابه «المرشد الأمين»، حيث أراد «إرشاد» المحتوى المعرفي للمنظومة التربوية بالمضمون الأيديولوجي لعلوم الشريعة، من أجل قطع الطريق أمام «تسرب» أيديولوجية المعارف الفلسفية الأوربية.

هذا أولًا، وثانيًا من أجل تحقيق «حسن تربية الهيئة المجتمعية يعني الأمة بتمامها (...) حتى لا تخشى أن تأتمن أبناءها على أسرار الوطن ولا على ما يكسبها الوصف الحسن»[19].

فالأمر يتعلّق –إذن- بالتحصين الأيديولوجي الذي كان طلب من الطهطاوي أن يضيفه إلى المنظومة التربوية. وهذا هو سر «الأمر الشفاهي» الأميري الذي كان السبب في تأليف الكتاب.

فالجواب إذن عمَّا أضافه الطهطاوي إلى المنظومة التربوية أصبح الآن واضحًا. لكن بقي علينا الآن تحقيق الدعوى التي ادّعيناها من قبل وهي: أن المحتوى المعرفي الذي جعله الطهطاوي مضمونًا أيديولوجيًّا للعلوم التقنية الحديثة المشكِّلة للمنظومة التربوية في مصر، هو المحتوى المعرفي للفكر الصوفي الإسلامي، كيف ذلك؟

إن استنباط مضمرات الخطاب الصوفي ومصطلحاته في كتاب الطهطاوي «المرشد الأمين» هو ما سنحاول القيام به من خلال رصد تجليات هذا الخطاب في المباحث التالية:

أولًا: المضمون الأيديولوجي = روح الشريعة

لقد سبق منا القول: إن تهذيب الأخلاق وتقويم السلوك والحث على كل فضل هي روح مضمون «المرشد الأمين». وهي أيديولوجية أخلاقية ممتحة من روح الشريعة، وروح الشريعة هي حقيقتها[20] وحقيقتها هو الإحسان والإحسان هو التصوف.

قال الشيخ أحمد زروق: «نسبة التصوف من الدين نسبة الروح من الجسد؛ لأنه مقام الإحسان (...) إذ لا معنى له سوى ذلك لأن التصوف بني على اتّباع الأحسن واتّباع الأحسن محبوب طبعًا مطلوب شرعًا»[21].

أما علاقة علم التصوف بعلوم الشريعة «فهو كلي لها وشرط فيها، إذ لا علم ولا عمل إلَّا بصدق التوجه إلى الله تعالى، فالإخلاص شرط في الجميع (...) فالعلوم توجد في الخارج بدون التصوف لكنها ناقصة أو ساقطة»[22].

ويوضح السيوطي هذه العلاقة فيقول: «وقد ظهر لي أن نسبة علم الحقيقة إلى علم الشريعة كنسبة علم المعاني والبيان إلى علم النحو، فهو سره ومبني عليه فمن أراد الخوض في علم الحقيقة من غير أن يعلم الشريعة فهو من الجاهلين ولا يحصل على شيء، كما أن من أراد الخوض في أسرار علم المعاني والبيان من غير أن يحكم النحو فهو يخبط خبط عشواء (...) والحقيقة سر الشريعة ولبها الخالص»[23].

وقد أقر عبدالوهاب الشعراني هذا الرأي في مقدمة كتابه الطبقات الكبرى فقال: «... فالتصوف إنما هو زبدة عمل العبد بأحكام الشريعة، كما أن علم المعاني والبيان زبدة علم النحو، فمن جعل علم التصوف علمًا مستقلًا فقد صدق، ومن جعله من عين أحكام الشريعة صدق، كما أن من جعل علم المعاني والبيان علمًا مستقلًا فقد صدق، ومن جعله من جملة علم النحو فقد صدق»[24].

وقد أيّد الطهطاوي هذا التلازم بين الشريعة والحقيقة بقوله: «قال بعض الصالحين: من لم يدخل في قمقم الشريعة ويختم عليه بختام الحقيقة فليس من أحبابنا ولو مشى في ركابنا»[25].

ثانيًا: التربية الروحية «سلوك أصول مقررة وآداب محررة» = الطريق الصوفي

يقسم الطهطاوي التربية إلى قسمين:

حسية وهي تربية الجسد، ومعنوية وهي تربية الروح. «الأولى تغذية المراضع للأطفال بالألبان، والثانية تغذيتهم بإرشاد المرشد بتأديبه. الأولى للأطفال وتهذيب أخلاقهم وتعويدهم التطبع بالطباع الحميدة والآداب والأخلاق وتغذية عقولهم بتعليم المعارف والكمالات»[26].

والتربية بهذا المعنى تقتضي «أصول معلومة مقررة وآداب محررة» وغايتها «إيجاد ملكة راسخة في الصغير تحمله على التخلّق بحسن الأخلاق حسب الإمكان، بحيث تحصل من هيئة تربيته الأفعال الجميلة المحمودة عقلًا وشرعًا بسهولة ويسر كطلاقة الوجه والحلم والشفقة ولين الجانب وحسن الظن بالناس والإغضاء عن السفهاء (...) وكمال التربية وحمل المكلف على رعاية الحق للحق والخلق لينال خير الدارين»[27].

واضح، أن «تربية الروح» التي يقول بها الطهطاوي في هذا النص هي نفسها التي يتعّهدها مشايخ الصوفية في تسليك مريديهم، حيث لا يكون تلقين العلوم والمعارف غاية في ذاته، بل وسيلة فقط. أما الغاية فهي «التخلّق بحسن الأخلاق والتطبّع بالطباع الحميدة» للوصول إلى «كمال التربية» التي ينال بها «خير الدارين».

غير أنه لا يتحقّق ذلك إلَّا بوجود المرشد أو الشيخ المربي الذي يرشد ويربي وفق «سلوك أصول معلومة مقرّرة وآداب محررة»، لأن «كل من أراد الكمال بغير أستاذه وهاديه فقد أخطأ طريق المقصود؛ لأن الثمرة لا تكمل إلَّا بوجود النواة التي هي أصلها، وكذلك المريد لا يكتمل إلَّا بوجود أستاذه»[28].

ثالثًا: آداب أهل البدايات.. محو محبة النفس = مجاهدة النفس وتزكيتها

يقول ابن عطاء الله السكندري في الحكم «أصل كل معصية وغفلة وشهوة، الرضا عن النفس. وأصل كل طاعة ويقظة وعفة، عدم الرضا منك عنها»[29].

والطريق الصوفي في التربية يبدأ أولًا بمجاهدة النفس وتزكيتها ويستمر على ذلك، لأنه «لا بد لمريد الله أن يتعرف على أطوار نفسه، فبمعرفتها ومجاهدتها يصل إلى حضرة مقام الإحسان ويصير من أهل الشهود والعيان، فمن عرف نفسه عرف ربه (...) وذلك لأن للنفس من النقائص ما لله من الكمالات»[30].

ولذلك، «صار المراد بالنفس في إصلاح القوم ما كان معلولًا من أوصاف العبد كذميم الأفعال وسفاسف الأخلاق، وذلك مثل الكبر والحقد والحسد وسوء الخلق وقلة الاحتمال ونحو ذلك»[31].

وتزكية النفس بـ«محو محبتها» هو أول ما بدأ به الطهطاوي كتابه بعنوان «في محو محبة النفس من الأطفال في حال صغرهم وإزالتها عن الكبار في حال كبرهم»[32] ويعرف محبة النفس بقوله: «محبة الإنسان لنفسه هو إحساس فيه يبعثه على أن يجلب ما يقدر عليه لرضاها وشفاء غليلها وقضاء شهوتها»[33]. «فحب النفس خصلة جامعة لجميع العيوب والذنوب مخلة بالجنس البشري دالة على دناءة النفس»[34]، وسيتشهد الطهطاوي بالبيت الشعري المشهور:

عليك بالنفس فاستكمل فضائلها

فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان[35]

وعلى هذا «فاجتناب محبة النفس للتربية من أعظم أساس»[36]. لأنها عنوان تصحيح البدايات التي اتفق أكابر الطائفة الصوفية على «أن النهايات لا تصح إلَّا بها كما أن الأبنية لا تقوم إلَّا على أساس»[37]. وكما يقول الشيخ أبو مدين شعيب: «من لم يقم بآداب أهل البداية كيف يستقيم له دعوى مقامات أهل النهاية»[38].

وأساس آداب أهل البداية في تزكية النفس عند رجال التصوف هي الشريعة وهذا عين رأي الطهطاوي حيث يقول: «والذي يرشد إلى تزكية النفس هو سياسة الشرع وصدق متابعة الرسول في سائر ما جاء به من الأحكام والآداب التي نصبها الشارع وجعل مرجعها الكتاب العزيز»[39].

وحسن الانتظام هذا الذي يدعو إليه الطهطاوي لا يتحقق بالعمل لرفاهية العيش الدنيوي ولا بالعمل للفوز بجنة الآخرة إذا لم يكن العملان مقرونين بتصفية القلب من أمراض الحسد والحقد والبغض والغش والكذب والنفاق والرياء والكبر والعجب.

وهل يستطيع مجتمع ما أن ينتج حضارة وعلاقات أفراده فيما بينهم تتأسس على هذه الأمراض؟ لا، بكل تأكيد. لأن هذه الأمراض هي أمراض نفسية واجتماعية تصيب الأفراد فتتحول إلى ظاهرة اجتماعية فإن لم تستدرك بالمعالجة التربوية فسيكون تأثيرها السلبي على تطور المجتمع، بشكل لا ينتج إلَّا التخلف والانحطاط، سواء أتدثر هذا المجتمع بدثار الحداثة والعلمانية أم تدثّر بدثار المحافظة والدين.

لذلك، فقد استهل الطهطاوي كتابه «المرشد الأمين» –كما أشرنا إلى ذلك- بالدعوة إلى تطهير النفس من هذه الأمراض وتزكيتها بالأخلاق الفاضلة بدءًا مّما اعتبره مرضًا جامعًا لكل الأمراض وهو حب النفس؛ «فحب النفس خصلة جامعة لجميع العيوب والذنوب مخلة بالجنس البشري دالة على دناءة النفس». ولأن حب النفس لا يبني المجتمع السليم «حيث إن صاحبها مقصور الهمة على منفعة نفسه لا يعود نفعه في شيء على إخوانه وأبناء جنسه»[40]. لذلك فهو يوصي المربين بتطهير قلوب الأولاد من هذا المرض «أنه ينبغي في تربية الأولاد من ذكور وإناث أن يعتني بهم مربيهم بأن يطفئ من قلوبهم نار حبهم لأنفسهم وحرارة حرصهم على جلب كل شيء لخاصيتهم (...)، وكيف ينال السعادة من خصّ نفسه بالمحبة، ولم يجعل لأخيه قدر حبه، وفي الحديث الشريف: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» وهذا الحديث من أعظم آداب الدين وأسسه»[41].

إن تشديد الطهطاوي على تربية النفس وتزكيتها بمحاربة محبتها وإيثارها دال على الخلفية الصوفية التي توجهه[42]، حيث يجمع الصوفية على هذا المبدأ الذي يجعلونه شرطًا لإصلاح الفرد والمجتمع، ويربط الطهطاوي كذلك «تمدن الأمة» وتقدّمها بمدى تقدمها في التربية «على وجه تكون به أهلًا للحصول على حريتها، بخلاف الأمة القاصرة التربية فإن تمدّنها يتأخر بقدر تأخر تربيتها»[43].

ولأن التربية التي يعنيها الطهطاوي هي التربية التي تتأسس على تطهير القلب وتزكية النفس، ولأن الغاية منها هي «تحسين عوائد الجمعية التأنسية والانتفاع بأبناء الوطن،» فإنه يشدّد أكثر على تطهير قلوب وتزكية نفوس النخبة الموكل إليها قيادة المجتمع، «لا سيما تربية أبناء الأمراء والأكابر والأغنياء بتحسين أحوالهم، وتهذيب أخلاقهم، وتعويدهم من الصغر على ترك الكبر والإعجاب ومحبة النفس، وتكليفهم باستعمال الرفق واللين والتلطف مع غيرهم (...)، ومن أهم ما ينبغي تجريدهم عنه من المثالب: محبة النفس التي أفسدت أخلاق الناس، فاجتناب محبة النفس للتربية من أعظم أساس»[44].

ويرى الطهطاوي أن سعادة المجتمع والأمة لا تتحقّق إلَّا بتعميم تهذيب الأخلاق وتقويم السلوك وتزكية النفوس بالتربية الحسنة على كل أفراد المجتمع؛ فـ«حسن تربية الآحاد ذكورًا وإناثًا، وانتشار ذلك فيهم، يترتب عليه حسن تربية الهيئة المجتمعة، يعني الأمة بتمامها، فالأمة التي حسّنت تربية أبنائها واستعدوا لنفع أوطانهم هي التي تعد أمة سعيدة وملة حميدة»[45].

إن تطهير القلب وتزكية النفس من أمراض الكذب والغش والنفاق والرياء والكبر وغيرها، هي قيمة مشتركة بين كل الحضارات عبر كل العصور وليس هناك في التاريخ حضارة قامت على فلسفة تمجّد أو تدعو أو تكرّس هذه الأمراض لسبب واضح وبسيط وهو أن سر قيام الحضارات يكمن في قيمتين اجتماعيتين: إتقان العمل وإخلاص العلاقة بالمجتمع.

وهاتان القيمتان تتناقضان تمامًا مع تلك الأمراض -والتي هي في الآن نفسه– سبب ونتيجة لتخلّف المجتمعات.

إن المجتمع الذي يتأسّس على إتقان العمل والإخلاص في العلاقات والمعاملات لا شك أنه سيحقق أسباب السعادة والرفاهية لمجموع مواطنيه، غير أن هذه السعادة –في نظر الطهطاوي- سعادة دنيوية (تحسين أحوال العباد في المعاش) ستظل ناقصة ولا تكتمل إلَّا بالسعادة الأخروية (تحسين أحوال العباد في المعاد).

والسعادة الأخروية لا تتحقّق إلَّا بالإيمان القلبي الذي عبّر عنه بالقول: «وحيث إن العقل النوراني بالقلب الإنساني صدق بوجود الخالق، فلا بد أن يصدق أيضًا بملائكته وكتبه ورسله (...) فما أحسن الأمة التي تهذّب أخلاق أبنائها على ما وردت به الشريعة الغرّاء، فهذه الأمة هي السعيدة دنيًا وأخرى، قال بعض الصالحين: من لم يدخل في قمقم الشريعة ويختم بختام الحقيقة فليس من أحبابنا ولو مشى في ركابنا»[46].

وكأن الطهطاوي أراد بهذه الفقرة الأخيرة أن ينبّه إلى أهمية التصوف في العملية التربوية، وينبّه كذلك إلى أن التربية الموجبة لسعادة الدارين التي يعنيها ويدعو إليها في هذا الكتاب لا تتأسس فقط على الشريعة، بل لا بد لها أن تتأسس كذلك على علم الحقيقة؛ لأن التصوف علم الحقيقة وهي لبّ الشريعة، فالشريعة جسد والحقيقة روحه، فالشريعة بلا حقيقة جسد بلا روح[47].

يقول الشيخ أحمد زروق: «فلا تصوف إلَّا بفقه؛ إذ لا تعرف أحكام الله الظاهرة إلَّا منه ولا فقه إلَّا بتصوف؛ إذ لا عمل إلَّا بصدق وتوجّه (...)، ومنه قول مالك بن أنس: من تصوف ولم يتفقّه فقد تزندق، ومن تفقّه ولم يتصوف فقد تفسّق، ومن جمع بينهما فقد تحقق»[48]. «فالشريعة لإصلاح الظواهر والحقيقة لتزيين السرائر»[49].

واضح الآن أن الطهطاوي يؤسس لمنهج تربوي يقوم على «إصلاح الظواهر» بالإحكام الشرعية، وعلى «تزيين السرائر» بالآداب الصوفية. وبعبارة أخرى: إصلاح أعمال الجوارح وتصفية القلوب.

رابعًا: العقل

يعرف الطهطاوي العقل بأنه: «عبارة عن قوة روحانيه نورانية تدرك ما له وجود في خارج العيان أو في الأذهان على حقيقته وتدرك جميع العلاقات والمباينات في المخاطبات والمحاورات»[50].

وهذا التعريف يوافق التعريف الصوفي للعقل، فالعقل عند الغزالي له معنيان: أحدهما: «أن يطلق ويراد به العلم بحقائق الأمور فيكون عبارة عن صفة العلم الذي محله خزانة القلب. ثانيهما: قد يطلق ويراد به المدرك للعلوم فيكون هو القلب، أعني تلك اللطيفة التي هي حقيقة الإنسان. وحيث ورد في القرآن والسنة ذكر القلب فالمراد به المعنى الذي يفقه من الإنسان ويعرف حقيقة الأشياء»[51].

ويقول عماد الدين الأموي عن العقل: «أما العقل، فقال المشايخ العقل نور القلب»[52]، «وهو نور يميز به بين النافع والضار أو نور روحاني تدرك به النفس العلوم الضرورية أو قوة مهيئة لقبول العلم»[53]، والعقل «جوهر بسيط روحاني محيط بالأشياء كلها إحاطة روحانية»[54].

وكونه نورانيًّا وروحانيًّا فلأنه «هو أول جوهر قبل الوجود من ربه؛ ولهذا يسمى بالعقل لأنه أول من عقل عن ربه وقبل فيض وجو»”[55].

وهذا هو الذي يسميه الطهطاوي «العقل النوراني» المنوط بالقلب والروح الإنسانيين، ويميزه عن العقل الضعيف المنوط بالنفس الأمارة بالسوء، فيقول عن الأول: «ثم إن الله سبحانه وتعالى جعل العقل النوراني في القلب الإنساني مرآة للعارف الفاضل يميّز به الحق من الباطل (...)، وركب فيه (أي في الإنسان) العقل النوراني المضاف إلى الروح المتصرفة في الحواس»[56].

وبسبب هذه الخاصية الوظيفية للعقل النوراني عن طريق القلب والروح (التمييز بين الحق والباطل والتصرف في الحواس) يدخل العقل النوراني في صراع أبدي مع «العقل الضعيف» والنفس الأمارة بالسوء «فيحكم به العقل النوراني المودع في القلب الإنساني ولا ينظر إلى ما تأمر به النفس الأمارة بالسوء أو العقل الضعيف؛ لأن كلا منهما في حرب مع العقل النوراني، وهذا ما يسمى جهاد النفس»[57].

و«العقل الضعيف» يعادله عند الصوفية «العقل الأصغر» في مقابل «العقل الأكبر» الذي هو «العقل الأول» فيقول ابن عجيبة: «وهو (أي العقل) على قسمين: عقل أكبر وعقل أصغر، أما العقل الأكبر فهو أول نور أظهره للوجود ويقال له الروح الأعظم ويسمى أيضا بالقبضة المحمدية[58]. ومن نوره يمتد العقل الأصغر كامتداد القمر من نور الشمس، فلا يزال نوره ينمو بالطاعة والرياضة والتطهير من الهوى حتى يدخل العبد مقام الإحسان وتشرق عليه شمس العرفان فينطوي نوره في نور العقل الأكبر كانطواء نور القمر عند طلوع الشمس فيرى من الأسرار والغيوب ما لم يكن يره من قبل؛ لأن العقل الأصغر نوره ضعيف لا يدرك إلَّا افتقار الصنعة إلى صانعها ولا يدري ما وراء ذلك. بخلاف العقل الأكبر، فإنه يدرك الصانع القديم قبل التجلي وبعده لصفاء نوره وشدة شعاعه (...) فالعقل الأكبر لا يناله إلَّا المحبون الذين اختارهم إليه لمعرفته الخاصة، وأما العقل الأصغر فيعطيه للخاص والعام»[59].

وبهذا المعنى قال جمال الدين محمد أبو المواهب الشاذلي: «العقل هو ما عقلك عن المضار وفتح لك باب المسار والذي يفتح لك باب المسار هو العقل الأكبر المتلقي عن الله الأسرار، فإن وقفت مع العقل الأصغر رماك في بحر الشهوات والشبهات وأوقعك في شبكات المشكلات»[60].

و«العقل النوراني» أو «العقل الأكبر» باعتبار وظيفته يسمى كذلك «العقل القامع»[61]، ويعني به «العقل الكامل»[62].

كذلك قال الترمذي الحكيم: «إن العقل يمنع النفس عن متابعة الهوى كما يمنع العقال الدابة من مرتعها ومرعاها»[63].

وهذا العقل هو المقرون بالإيمان وبالقلب وبالبصيرة، وبهذا فهو «المودع في القلب الإنساني» و«المصدق بكل ما جاءت به الرسل» كما يقول الطهطاوي؛ فهو ليس «العقل الضعيف» عقل الفطرة وعقل الغريزة المشترك بين جميع بني البشر، بل هو عقل البصيرة وعقل القلب، هو عقل الإيمان الذي يحدثنا الحارث المحاسبي –بوثوقية- عن الترقي العرفاني بواسطته فيقول: «فورب البرية لئن استقمت واستعملت نعم الله تعالى في مسراته لترتقين في درجات العقل إلى محض الإيمان وخالص الدين وصدق اليقين»[64].

وهذا ربط واضح لدرجات عقل الإيمان بحقيقة المعرفة بالله التي محلها القلب ومنبعها القلب. «فإن للعقل نورًا يدرك به أمورًا مخصوصة وللإيمان القلبي نورًا يدرك به كل شيء (...) فبنور العقل تصل إلى معرفة الألوهية، وما يجب لها وما يجوز وما يستحيل، وبنور الإيمان القلبي يدرك العقل معرفة الذات»[65].

هناك إذن معرفتان: معرفة مصدرها العقل (مخصوصة)، بمعنى محدود هي «علم اليقين» وهناك معرفة إيمانية قلبية (مدركة لكل شيء)، بمعنى غير محدودة مصدرها الكشف، وهي «عين اليقين».

وابن عربي يحذر من الجمع بين المعرفتين «بين العلم الذي أعطاك الإيمان وبين العلم الذي اقتضاه الدليل العقلي، ولا تطلب الجمع بين الطريقتين بل خد كل طريقة على انفرادها، واجعل الإيمان لقلبك بما أعطاك من معرفة الله بمنزلة البصر لحسك بما أعطاك من معرفة ما تقتضيه حقيقته، واحذر أن تصرف نظرك الفكري فيما أعطاكه الإيمان فتحرم عين اليقين»[66]. فصاحب الهمة «لا يأخذ علمًا إلَّا من الله تعالى على الكشف (...)، وما فاز أهل الله إلَّا بالوصول إلى عين اليقين»[67].

ومن هنا محدودية العلم العقلي البرهاني ولا محدودية المعرفة القلبية الكشفية؛ «لأن مرتبة العقل العلم بالله تعالى لا المعرفة به، وبين العلم والمعرفة بون بعيد إذ المعرفة متوقفة على شهود صفات المعروف، وهذا لا يدرك بالعقل وإنما القلب السليم يدرك ذلك (...)، فصاحب القلب مساو لصاحب كشف من نبي أو كامل»[68].

باعتبار أن «صاحب القلب» هو الآخر «صاحب الكشف» يتلقى المعرفة اللدُنيَّة عن الله تعالى بالذوق والحال. ولعل الصوفية وجدوا في قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ}[69]، ما عمّق لديهم هذا الفهم الذي تأوله ابن عربي بالقول: «إن الله تعالى قال: {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} ولم يقل: لمن كان له عقل، فان العقل قيد»[70].

وتأوله الجيلي في «الإنسان الكامل» بالقول: «أي انقلاب إلى الحق فهو صرف وجه الهمة من العدوة الدّنيا، وهي الظواهر إلى العدوة القصوى، وهي الحقائق وبواطن الأمور»[71].

وهو الذي نعته أبو حامد الغزالي بالطور الآخر الذي وراء العقل «ووراء العقل طور آخر تنفتح فيه عين أخرى يبصر بها الغيب وما سيكون في المستقبل وأمور أخرى العقل معزول عنها»[72].

وبهذا المعنى قال عمر بن الفارض:

فثم وراء العقل علم يدق عن

مدارك غايات العقول السليمة[73][74]

وهو المعنى نفسه الذي قصده الطهطاوي بقوله: «ثم إن الله تعالى جعل العقل النوراني في القلب الإنساني للعارف الفاضل (...) وهو عبارة عن قوة روحانية نورانية تدرك ماله وجود في خارج العيان أو في الأذهان على حقيقته»[75].

واضح الآن، أن ما يعنيه الطهطاوي بـ«العقل النوراني» هو «القلب» بالمفهوم الصوفي. القلب الذي إذا استنار بنور الإيمان أصبح مرآة صقيلة مهيَّأً لإدراك المعارف والعلوم في أصولها وحقائقها.

وبهذا المعنى جاء ذكر القلب في القران الكريم في أكثر من مائة وعشرين مرة دالا وحاثا على التعلم والتدبر والعقل والنظر والسمع والفقه والخشوع والإيمان والإخبات والاطمئنان... إلخ.

فهذه دلالات إما متعلقة بالعلم والمعرفة أو متعلقة بالتربية والسلوك. وهي قيم متكاملة وضرورية للفرد والمجتمع لحسن انتظام أحوال العباد في المعاش والمعاد بتعبير الطهطاوي، وقد مثَّل لها بقصة تخييليه[76] شبيهة بتلك التي كتبها ابن عربي في التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية[77]، أو بتلك التي كتبها أبو حامد الغزالي مختصرة في كتابه «كمياء السعادة»[78] مع اختلاف في الصياغة والوظائف[79].

فالقلب هو الملك، والعقل خادمه ووزيره، وهو مسؤول عن استقرار أحوال المدينة التي هي البدن أو النفس، بتعديل شهوتها وتهذيب سلوك جوارحها. فالقلب –اذن- هو «بيت الرب»[80] ومحل تجلّيه وخزينة إسراره وأنواره؛ فهو يعقل عنه، وقد منحه الله قوة إدراكية خارقة تدرك ما وراء مدركات العقل.

فالعقل[81] أمام هذه المهمة بين خيارين اثنين فهو: إما أن يتعهّدها مستنيرًا بنور القلب مستدلًا بتعاليمه مؤمنًا بعميق مداركه، موقنًا بعين يقينه[82] وحق يقينه[83] المتجاوزين لعلم يقين[84] العقل.

وإما أن يكتفي باشتراطاته البرهانية لمدركاته العقلية ولمعقولاته الحسية. فإن هو أخذ بالخيار الثاني، فغاية أمره أن يقف عند حد معقول ظاهر الشريعة، وفي هذه الحالة، فإن كان صاحب هذا العقل فقيهًا، فإن أدنى وصف يمكن أن يوصف به، هو ذاك الذي أورده الطهطاوي عن الشيخ زكريا الأنصاري «إذا لم يكن للفقيه علم بأحوال القوم واصطلاحاتهم فهو جاف»[85].

وأوسط وصف يمكن أن يوصف به هو قول الإمام مالك: «من تفقه ولم يتصوف فقد تفسق». ولأن الفسق لغة هو الخروج من الشيء، فيمكننا فهم قول مالك: «تفسق» بأنه خروج عن مقتضى روح الشريعة، وروح الشريعة هي حقيقتها، والحقيقة هي أحوال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بنص الحديث الذي أورده ابن عربي في حكمه: «الشريعة مقالي، والطريقة أفعالي، والحقيقة أحوالي»[86].

وإن أخذ العقل بالخيار الأول فإنه سيباشر مهمة التعامل مع النص الشرعي وهو واعٍ بحدود مداركه ومحدوديتها، هذا الوعي سيجنّبه الكثير من إضاعة الوقت والجهد في محاولات برهانية لا طائل من ورائها ولا تصنف إلَّا في خانة العبث والعناء. وإلَّا فأي برهان عقلي أو شرعي (ظاهري) يمكن أن يبرهن به على ما قام به الخضر في حضور النبي موسى في سورة الكهف. أو ما جرى للنبي يونس الذي «التقمه الحوت» داخل المحيط دون أن يختنق. أو ما قام به (الذي عنده علم من الكتاب) الذي أتى بعرش الملكة بلقيس من اليمن إلى فلسطين قبل ارتداد الطرف... وكثير غيرها مما هو موجود في الكتاب والسنة الصحيحة مما لا يمكن إخضاعه لأي برهان عقلي.

إن التعامل مع هذه الوقائع لا تحتمل أكثر من موقفين وفق منطق الثالث المرفوع، إما التسليم والإيمان بها إيمانًا قلبيًّا. وإما إنكارها قطعيًّا لتناقضها مع المسلمات العقلية.

أما الموقف الوسط فهو موقف لا يستقيم لا مع المنطق الإيماني القلبي ولا مع المنطق العقلي. والفكر الصوفي هو فكر التسليم والإيمان القلبي المتجاوز لمنطق العقل ومدركاته. وهو الذي سمّاه الطهطاوي «العقل النوراني في القلب الإنساني» الذي يكون التفاوت فيه –حسب الطهطاوي– بين عقول الأنبياء وعقول العلماء وعقول العوام، «وبقدر تفاوت هذه العقول البصائر الشبيهة بالأبصار قوةً وضعفًا يكون التفاوت في إدراك قواعد الدين والدنيا، وبهذا يقع الإنكار لكثير من الناس في أمور الدين لنقصان العقل»[87]. «فالعقل النوراني» هو عقل «يصدق بكل ما جاءت به الرسل»[88]. وأكثر من ذلك هو عقل يصدق بكل «كلام الأئمة» دون المرور على غربال «العقل الضعيف» اكتفاء بصدق المصدر.

ولا يُخفي الطهطاوي إيمانه بالعقل النوراني القلبي الصوفي، فيقول بكل وضوح: «وكما يجب علينا الإيمان والتصديق بكل ما جاءت به الرسل وإن لم نفهم حكمته، فكذلك يجب علينا الإيمان والتصديق بكلام الأئمة وإن لم نفهم علته»[89].

«فالعقل النوراني القلبي» الصوفي لا يتعامل مع القول أو الحدث من منطلق علاقته بالمنطق العقلي وممكناته، بل يتعامل معه من منطلق يقين صدق مصدره (قائله أو فاعله). ولعل الصوفية وجدوا في تعامل أبي بكر الصديق مع خبر الإسراء والمعراج مصدرًا أصَّلوا به موقفهم هذا، حيث بنى أبو بكر الصديق موقفه على يقين صدق رسول الله وليس على الخبر أو الحدث في ذاته من حيث عقلانيته أو لا عقلانيته، بدليل ردّه الفوري على الذي أبلغه الخبر «إن قاله محمد حقًّا فقد صدق».

ويبدو الطهطاوي منسجمًا تمام الانسجام مع ما يترتب عن هذا المنطق، منطق «العقل النوراني القلبي» من منهج في التفكير والتصور، لا يشعر معه بأي حرج أو أي تناقض بين القرآن والسنة من جهة، وبين التصوف من جهة أخرى إزاء ما ورد في كليهما مما يبدو مناقضًا للمسلَّمات العقلية وخارقًا لقوانين الطبيعة باعتبار أن القرآن والسنة أصلان للتصوف.

ولأن الطهطاوي يشدّد على التحلي بالأخلاق الفاضلة التي بدأ الحديث عنها –كما مر بنا- بـ«محو محبة النفس» فإنه وجد في أخلاق المتصوفة المثال والسمو الإنساني؛ «فنفوسهم عندهم حقيرة ذليلة كبيرة، لا يشتغلون بما لا يعنيهم، ولا يلتفتون لما يلهيهم، قد تخلّقوا بكل خلق سَنِي، وتنزّهوا عن كل وصف دني[90] (...)، تخلّقوا بأخلاق الله وبأخلاق حبيبه ومصطفاه، لم يكن لهم مع الله اختيار إلا ما اختار، ومن ثم جانبوا من هذه الدنيا الدنية الإقتار والاستكثار والادخار»[91].

ولأن الصوفية بشر يعيشون بين البشر ولهم مصالح وتعاملات مع المجتمع بصفتهم أفرادًا من ذلك المجتمع، فليس لهم من ميزة تميّزهم عن باقي أفراد المجتمع إلا أخلاقهم العالية، لذلك فقد حرص الطهطاوي على ذكر ميزاتهم الأخلاقية التي بها يُعرفون بين الناس»[92].

خامسًا: الكرامات[93]

إن الحديث عن الكرامات من حيث كونها خرقًا للعلل الطبيعية وقوانينها وتجاوزًا لمبادئ العقل ومدركاته، هو حديـث عن المعقول واللامعقول وعن الممكن والمستحيل، بمعنى: هل الكرامات من الممكن المعقول أم من المستحيل اللامعقول؟

يجيب الطهطاوي جازمًا بأنه «لا خفاء أن ظهور الكرامة من الأولياء من الممكنات»[94].

ويبرهن الطهطاوي على هذا الجزم بطريقة المتكلمين فيقول: «لأنه إن لم تكن من الممكنات، فإما أن تكون من المستحيلات، وإما أن تكون من الواجبات، وباطل أن تكون من المستحيلات، فإن المستحيل هو الذي لو قدر وجوده لزم منه محال عقلي ولا يلزم من تقدير وجود الكرامات محال عقلي. وباطل أن تكون من الواجبات؛ إذ الطائفة مجمعة على أنه قد يكون الولي وليًّا وإن لم تخرق له العادة، فتعيّن أن تكون من الجائزات، وكل شيء كان من الجائزات فلا يحيله العقل، وكل ما لا يحيله العقل ولم يرد بعدم وقوعه نقل فجائز أن يكرم الله به أولياءه»[95].

لكن عن أي عقل يتحدث الطهطاوي؟ واضح أن الطهطاوي يتحدث عن العقل الذي يؤمن بأنه «لا يلزم من تقدير وجود الكرامات محال عقلي»، وهذا العقل هو «العقل النوراني في القلب الإنساني» الذي يقول به الطهطاوي، والذي تتجاوز مدركاته «العقل الضعيف» المرتبط بالنفس الأمارة بالسوء التي «تقيس بقياسه الفاسد بناءً على ما يفهمه عقلها الكاسف الكاسد»[96].

ويقسّم الطهطاوي الكرامة الى كرامة حسية: وهي من نوع «تكثير الطعام أو الشراب أو إتيان بثمرة في غير أوانها... إلخ»[97]، وكرامة معنوية: «وهي عند الله أفضل وأجل»، «كالمعرفة بالله والخشية له ودوام المراقبة[98]، والمسارعة لامتثال أمره ونهيه، والرسوخ في اليقين، والقوة والتمكين، ودوام المتابعة والاستماع من الله والفهم عنه، ودوام الثقة وصدق التوكل عليه إلى غير ذلك»[99].

والكرامة بهذا المعنى (المعنوي) هي ما يعبر عنها الصوفية بعبارة واحدة بقولهم: «الكرامة هي الاستقامة»، والاستقامة هي عين وحقيقة ما يدعو إليه الطهطاوي في كتابه «المرشد الأمين»، وهي لا تتحقق إلا بالإيمان، وهو «أن تؤمن ولا ينكر قلبك»[100]. وهذا الإيمان لا يتم إلا بـ«العقل النوراني في القلب الإنساني» الذي يؤمن بالكرامات.

وانسجامًا مع مهامه البيداغوجية في هذا الكتاب بادر الطهطاوي إلى تقديم وصفة «لتسهيل» الإيمان بالكرامات فقال: «وأبيّن لك أمورًا تسهل عليك الإيمان بكرامات أولياء الله وألَّا تستكثرها عليهم، وهي ثلاثة أمور[101] (أدلة) أنهاها بقوله: «وما أكرم الله العباد في الدنيا كرامة بمثل الإيمان والمعرفة بربوبيته، لأن كل خير من خيري الدنيا والآخرة فإنما هو فرع الإيمان بالله من أحوال ومقامات وأوراد وواردات ونور وعلم وفتح ونفوذ إلى غيب وسماع مخاطبة وجريان كرامة (...) إنما هو وجود الإيمان ووجود آثاره وإمداد نوره»[102].

لذلك يحذر الطهطاوي من إنكار كرامات الصوفية وأحوالهم، ويعتبر هذا الإنكار جحودًا وإنكارًا للإيمان ذاته، بوصفه أصلًا لتلك الكرامات وأصلًا لهذه الأحوال، بل ويعتبره (أي الإنكار) من «قلة بضاعة العقل وضيق نطاق الفضل»[103]؛ لأن الإنكار سمة الجاهل الذي «إذا سمع معقولًا غريبًا (...) قطع بتكذيب قائله وزيف ناقله»[104]، بينما التصديق سمة العاقل (الذي) «إذا سمع معقولًا غريبًا استحسنه»[105].

ويستعيذ الطهطاوي بالله من «هذا المذهب» الذي «أدرك صاحبه الخذلان والضلال»، فالله «إذا أراد أن يضل عبدًا لم ينصره عقل ولم ينفعه وفور علم»[106]؛ لأن «الانتقاد حرمان والاعتقاد عطية»[107].

ويوجّه الطهطاوي النصائح والإرشادات إلى التلاميذ الذين من أجلهم كتب هذا الكتاب فيقول: «عليكم بحفظ لسانكم مع أهل الشرع، فإنهم بوابون لحضرات الأسماء والصفات، وعليكم بحفظ قلوبكم من الإنكار على أحد من الأولياء، فإنهم بوابون لحضرة الذات، وإياكم والانتقاد على عقائد الأولياء بما علمتموه من أقوال المتكلمين فإن عقائد الأولياء مطلقة متجددة في كل آن، على حسب الشؤون الإلهية»[108].

سادسًا: النهي عن الاعتراض على أحوال الصوفية

لقد كان ولا يزال الاعتراض على التصوف والإنكار على الصوفية بل و«تفسيقهم» و«تبديعهم» شعاراً يتوشّح به كل من نصب نفسه «أمينًا على بيضة» السنة والجماعة وخاصة «تبديع» بل و«تكفير» الحلاج[109] وأبي يزيد البسطامي[110] وابن عربي[111] وابن الفارض[112] وغيرهم.

غير أن الطهطاوي يشدّد في النهي عن الاعتراض على القوم فيقول: «لا يعترض على الجنيد والحلاج وأشباههم من المتقدمين والشيخ محي الدين بن عربي وابن الفارض ونحوهما من المتأخرين G، وإن كانوا قد شطحوا أو أباحوا وتكلّموا بأشياء خارقة مما لا قدرة للجاهلين على سماعها ولا سبيل إليها، بل يسلم إليهم أحوالهم في الأقوال والأفعال، وحاشاهم أن يصدر منهم قول أو فعل مخالف لقواعد الشريعة»[113].

وينصح الطهطاوي قارئه بالقول: « فلا تكن مكذّبًا بما لا تعلم وجه حكمته، فقد قال الله تعالى: فقد {كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ}[114]»[115]، «ومن أحسن قول بعضهم: من لم يعرف مصلحتنا لا يجوز له الخوض في طريقتنا»[116].

سابعًا: الاستشهاد بأعلام التصوف

لقد أكثر الطهطاوي من الاستشهاد بأقوال مشايخ التصوف في كل المواضيع التي عالجها تربويًّا في كتابه «المرشد الأمين»، وهذا ممّا يدل على أن اختياره المنهج التربوي الصوفي كان اختيارًا واعيًا في لحظة تاريخية اتسمت ببداية التشكّل الجنيني لما أصبح يعرف بـ«الإصلاحية الإسلامية» ذات المرجعية التيمية (نسبة إلى ابن تيمية) والوهابية (نسبة إلى محمد بن عبد الوهاب) التي غالت في معاداة التصوف فكرًا وسلوكًا وأخلاقًا.

غير أن الطهطاوي ما كان يبدو متأثرًا بهذه «الإصلاحية» بل لم يكن مهتمًّا بها أصلًا، فلم يتعرض لها بالذكر لا بالإيجاب ولا بالسلب، لا بالمدح ولا بالذم، بل لم يستشهد بمرجعيتها إلَّا مرة واحدة، بالشيخ ابن تيمية في مسالة فقهية خلافية[117]. لكنه في المقابل كان لمشايخ التصوف حضور لافت، فقد استشهد بأبي يزيد البسطامي وبابـن عربي وبالجنيد وبابن الفارض وبابن عطاء الله السكندري وبالسري السقطي وبذي النون المصري وبرابعة العدوية[118] واللقاني[119] وبأبي العباس المرسي والإمام الشافعي[120]، وقوله: «حبب إلي ثلاث: عشرة الناس باللطف وترك ما يؤدي إلى التكلف والاقتداء بطريق التصوف»[121]، وبالإمام عبد الوهاب الشعراني[122]، وبأبي الحسن الشاذلي[123]، وبعلي وفا[124]، والحارث بن أسد المحاسبي[125]، وبزكريا الأنصاري[126]، وبالإمام مالك[127]، وبعلي الخواص[128]، وأبي حامد الغزالي[129]، وغيرهم.

الخاتمة

وختامًا نقول: إن الطهطاوي قد تمكَّن من توظيف الخطاب الصوفي (فكرًا وسلوكًا) في المنظومة التعليمية الحداثية -التي اعتمدها الخديوي إسماعيل في مصر- توظيفًا بيداغوجيًّا ذكيًّا شمل جميع مناحي الحياة (في البيت، في المدرسة، في العلاقات الاجتماعية والأسرية والزوجية وفي الحياة اليومية ككل). دون إثارة ديماغوجية أو تشنج أيديولوجي، مقلّلًا من ذكر كلمة «تصوف» أو «صوفي» مفضلًا توظيف مضامين الخطاب الصوفي ومصطلحاته بشكل يصعب على غير المهتم بهذا الخطاب أن يتبيّنه.

محتوى معرفي صوفي لم يُرد له أن يكون بديلًا عن المحتوى المعرفي الحديث للمنظومة التربوية ولا ليزاحمه ولا ليكون موازيًا له، بل ليكون موجّهًا له.

فواضح إذن أن الطهطاوي إنما أراد أن يؤسّس لمنهج تربوي سلوكي يقوم على «إصلاح الظواهر» بالإحكام الشرعية، وعلى «تزيين السرائر» بآداب وأخلاق الصوفية. مستلهمًا قول مشايخ الصوفية: «أصول مذهبنا (أي التصوف) ثلاثة: الاقتداء بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الأقوال والأفعال، والأكل من الحلال، والصدق والنية في جميع الأعمال».

 

 

 

 

 



[1] ينظر: محمد حفيان، الطهطاوي التأصيل المعرفي بين إرضاء الضمير وإرضاء الأمير. مجلة متون، مجلة أكاديمية محكمة تصدر عن كلية الآداب واللغات والعلوم الاجتماعية والإنسانية، جامعة سعيدة، العدد الرابع ديسمبر 2010.

[2] ينظر: محمد حفيان، المثقف النهضوي في القرن التاسع عشر بين إعادة تأصيل الزمان وإعادة تكوين المكان، رسالة ماجستير قسم الفلسفة، جامعة وهران.

[3] المجلد الثاني من المجموعة الكاملة، دراسة وتحقيق: محمد عمارة، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى أكتوبر 1973.

[4] المجلد الأول من المجموعة الكاملة.

[5] المجلد الثاني من المجموعة الكاملة.

[6] ألبرت حوراني، الفكر العربي في عصر النهضة، ترجمة: كريم عزقول. بيروت: دار النهار الطبعة الرابعة 1986. ص ص 4- 75.

[7] أحمد عزت عبد الكريم، دراسات تاريخية في النهضة العربية الحديثة (مؤلف جماعي).بيروت: دار اقرأ. الطبعة الثانية 1984، ص 592.

[8] أحمد عزت عبد الكريم، المرجع السابق، ص 593.

[9] المرجع نفسه، ص 594-596.

[10] مقدمة (في بيان تربية الأطفال من الذكور والإناث) - الباب الأول: في الإنسان - الباب الثاني: في الصفات العامة والخاصة لدى الذكور والإناث - الباب الثالث: في التعلم والتعليم - الباب الرابع: في الوطن والتمدن والتربية – الباب الخامس في الزواج والتسري – الباب السادس:في عمارة المنازل وعلاقته بتربية النساء - الباب السابع: في القرابة وحقوقها – خاتمة حسنى في حفظ الصحة.

[11] الطهطاوي، المرشد الأمين للبنات والبنين، الجزء الثاني، الأعمال الكاملة، تحقيق: محمد عماره، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى 1973. ص 272-273.

[12] المصدر نفسه، ص: 273.

[13] من مثل «كيفية تهذيب الأنانية لدى الصغار والكبار «العقل والشرع» فيما ينبغي أن يكون عليه الغذاء الصحي للمتعلم «في تعلّم أمور الدين وأحكامه»، «في الكسل والنشاط» «تهذيب الخلق»، «في أقسام التعليم»، «في التنافس في تحصيل المعرفة والعلوم»، «في آداب المعلّم والمتعلّم»، «خلق العلماء، خلق المتعلم»، «نوع العلوم وتعريف الدين»، «في حفظ صحة الإنسان»، «الشهوة والنسل»، «صفات مطلوبة في خلق المرأة»، «في الزواج والنشء»، «اشتراط العدل عند تعدد الزوجات»، «في زينة المرأة»، «في العفة والأمانة والمحبة عند الزوجين»، «في أثر الحب والود على حسن العشرة وتربية الأولاد»، «في بر الوالدين»، «في تمدن الوطن»، «في واجبات أبناء الوطن نحو وطنهم»، «في الحرية والمساواة... إلخ». هذه عينة فقط من المواضيع التي عالجها الطهطاوي في الكتاب،وهي مواضيع شاملة لجميع مناحي الحياة.

[14] المصدر نفسه، ص 765.

[15] المصدر نفسه، ص 289.

[16] الطهطاوي لا يعتبر الاستعمار خطرًا بل يعتبره نافعًا فهو يقول بكل وضوح «إن مخالطة الأغراب تجلب للأوطان من المنافع العمومية العجب العجاب حتى ولو كانت مترتبة عن ظواهر التغلب والاغتصاب فربما صحّت الأجسام بالعلل». مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية، الأعمال الكاملة: الجزء الأول، ص 398

[17] ألبرت حوراني، الفكر العربي في عصر النهضة، مرجع سابق، ص 107.

[18] الطهطاوي، المصدر السابق، ص ص 399-400.

[19] الطهطاوي، المصدر السابق، ص278.

[20] «فالشريعة لإصلاح الظواهر والحقيقة لتزيين السرائر (...) وقد تطلق عندهم (الصوفية) الشريعة على كل ما يتوصل به إلى شيء أو يكون سببًا في إدراكه. فالأسباب كلها شرائع والمقاصد كلها حقائق، الحس شريعة المعنى (...) والمجاهدة شريعة المشاهدة... وهكذا» أحمد بن عجيبة، معراج التشوف إلى حقائق التصوف، القاهرة: مكتبة أم القرى، الطبعة الأولى 2002. ص70.

[21] الشيخ أحمد زروق، قواعد التصوف، القاهرة،: المكتبة الأزهرية للتراث 1998.القاعدتان (5 و 58) ص ص 4، 29. وينظر كذلك في: أحمد بن عجيبة، إيقاظ الهمم في شرح الحكم، الجزء الثاني، بيروت: دار الفكر د.ت، ص 8.

[22] أحمد بن عجيبة، إيقاظ الهمم في شرح الحكم، الجزء الأول. بيروت: دار الفكر د.ت، ص8.

[23] جلال الدين السيوطي، تأييد الحقيقة العلية وتشييد الطريقة الشاذلية، بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 2006، ص17.

[24] عبد الوهاب الشعراني، الطبقات الكبرى، الجزء الأول، بيروت: دار الفكر.د.ت،ص4.

[25] الطهطاوي، المرشد الأمين، مصدر سابق، ص 291.

[26] الطهطاوي، المرشد الأمين، مصدر سابق، ص ص 277-278.

[27] المصدر نفسه، ص ص 277- 278

[28] عبد الوهاب الشعراني، الأنوار القدسية في معرفة قواعد الصوفية، الجزء الثاني، بيروت: مكتبة المعارف، 1993، ص 8.

[29] ابن عطاء الله السكندري، الحكم، تحقيق: أحمد عز الدين خلف الله، القاهرة: المكتبة الأزهرية للتراث 2005، الحكمة 35، ص 110.

[30] عبد السلام العمراني الخالدي، الشموس المشرقة في شرح الطريق الجامع للشريعة والحقيقة، ضمن كتاب رسائل النور الهادي، بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 2004، ص 75.

[31] عبد الرزاق القاشاتي، لطائف الإعلام في اشارات أهل الإلهام، بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 2004، ص447.

[32] الطهطاوي، المرشد الأمين. ص279.

[33] الطهطاوي، المرشد الأمين، مصدر سابق، ص279-281.

[34] الطهطاوي، المرشد الأمين، مصدر سابق، ص279-281.

[35] المصدر نفسه، ص314.

[36] المصدر نفسه، ص179.

[37] عبد الرزاق القاشاني، لطائف الإعلام في إشارات أهل الإلهام، مصدر سابق، ص 106.

[38] بومدين شعيب، أنس الوحيد ونزهة المريد، ضمن كتاب: ابن عطاء الله السكندري «عنوان التوفيق في آداب الطريق»، تحقيق: خالد زهري، بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 2004، ص76.

[39] الطهطاوي، المرشد الأمين، مصدر سابق، ص386.

[40] الطهطاوي، المرشد الأمين، مصدر سابق، ص ص 281-282.

[41] الطهطاوي، المرشد الأمين، مصدر سابق، ص ص 281-282.

[42] يقول ابن عطاء الله السكندري في الحكم الصغرى (الحكمة 55): «من أعطى نفسه نهمتها من الحلال وقع في الحرام» الحكم العطائية الكبرى والصغرى، بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 2006.ص67.

[43] الطهطاوي، المصدر السابق، ص 279.

[44] المصدر نفسه، المصدر السابق، ص 279.

[45] الطهطاوي، المصدر السابق، ص278.

[46] الطهطاوي، المصدر نفسه، ص291.

[47] عبد السلام الخالدي، رسائل النور الهادي، بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 2004، ص8.

[48] أورده أحمد زروق، قواعد التصوف، مصدر سابق، ص 4.

[49] أحمد بن عجيبة، معراج التشوف إلى حقائق التصوف، مصدر سابق، ص 70.

[50] الطهطاوي، المرشد الأمين، مصدر سابق، ص417.

[51] أبو حامد الغزالي، روضة الطالبين وعمدة السالكين (ضمن مجموعة رسائل الإمام الغزالي)، بيروت: دار الفكر، طبعة 2006، ص 114.

[52] عماد الدين الأموي، حياة القلوب في كيفية الوصول إلى المحبوب، منشور بهامش الجزء الثاني من قوت القلوب لأبي طالب المكي، بيروت: دار صادر، د.ت. ص279.

[53] أحمد بن عجيبة، معراج التشوف إلى حقائق التصوف، مصدر سابق، ص 50.

[54] جمال الدين أبو المواهب الشاذلي، قوانين حكم الإشراق إلى كافة الصوفية بجميع الأفاق القاهرة: المكتبة الأزهرية للتراث، طبعة 1999، ص92.

[55] عبد الرزاق القاشافي، لطائف الإعلام، مصدر سابق، ص320.

[56] الطهطاوي، المرشد الأمين، مصدر سابق، ص ص 284-290.

[57] المصدر نفسه، ص287.

[58] يقول ابن عربي: «... وأن الحقيقة المحمدية هي أول موجود وهي المسماة بالعقل، وهو سيد العالم بأسره وأول ظاهر في الوجود». أورده: عبد الحميد درويش، مقامات الصوفية وأحوالهم، القاهرة: مكتبة وهبة، الطبعة الأولى 2007، ص88.

[59] أحمد بن عجيبة، معراج التشوف إلى حقائق التصوف، مصدر سابق، ص50.

[60] جمال الدين محمد أبو المواهب الشاذلي، قوانين حكم الإشراق، مصدر سابق، ص92

[61] الأصل فيه قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «إن دعامة البيت أساسه، ودعامة الدين المعرفة بالله واليقين والعقل القامع، قالت عائشة (رضي الله عنها): فقلت بأبي أنت وأمي، ما العقل القامع؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): الكف عن معاصي الله والحرص على طاعة الله» عبد الرزاق القاشاني، لطائف الإعلام، ص321.

[62] عبد الرزاق القاشاني، لطائف الإعلام في إرشادات أهل الإلهام، مصدر سابق، ص321.

[63] الترمذي الحكيم، رسالة العرف، أورده: محمد عبد الله الشرقاوي، الصوفية والعقل، بيروت: دار الجيل،الطبعة الأولى 1995، ص166.

[64] الحارث بن أسد المحاسبي، الوصايا، تحقيق: عبد القادر أحمد عطا، بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 2003، ص 84.

[65] عبد الغني النابلسي، كتاب الوجود، تحقيق: السيد يوسف أحمد، بيروت: دار الكتب العلمية الطبعة الأولى 2003، ص221.

[66] محي الدين بن عربي، كتاب الوصايا – من رسائل ابن عربي، الجزء الثاني، بيروت: دار إحياء التراث العربي، الطبعة الثانية 2002، ص 191.

[67] المصدر نفسه، ص191.

[68] عبد الوهاب الشعراني، الميزان المبينة لعقائد الفرق العلية، تحقيق: جودة محمد المهدي، القاهرة: الدار الجودية، الطبعة الأولى 2007، ص61.

[69] سورة ق، الآية: 37.

[70] محي الدين بن عربي، فصوص الحكم، شرح: الشيخ عبد الرازق القاشاني،القاهرة: المكتبة الأزهرية للتراث، الطبعة الأولى 2003، ص232.

وكذلك في: ابن عربي، شرح حكم الشيخ الأكبر، تأليف: ملَّا حسن الكردي، بيروت: دار الكتب العلمية الطبعة الأولى 2006، ص.ص 253 - 254.

[71] عبد الكريم الجبلي، الإنسان الكامل، بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1997، ص 160.

[72] أبو حامد الغزالي، المنقذ من الضلال، تحقيق: عبد الحليم محمود، بيروت: دار الكتاب اللبناني، الطبعة الثانية 1985، ص131.

[73] عمر بن الفارض، التائية، شرح: عبد الرازق القاشاني، كشف الوجوه الغر لمعاني نظم الدار، تحقيق: أحمد فريد المزيدي، بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 2005، ص 240.

[74] «فثم وراء النقل» هكذا وردت في هذه النسخة.

[75] الطهطاوي، المرشد الأمين، مصدر سابق، ص.ص 417 - 284.

[76] يقول الطهطاوي: «قال بعض أكابر الصوفية: إن الله سبحانه وتعالى لما أراد أن ينشئ صورة آدم أنشأها على صورة مدينة محكمة المباني (...) ثم نصب وسط هذه المدينة قصر المملكة، منه ينشأ السكون والحركة وجعل مدار هذه المدينة عليه ومرجع الكل إليه بمصداق: أَلَا أن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد كله، ألا وهي القلب. وسماه القلب إذ هو بيت الرب (...)، ووضع سبحانه وتعالى في هذا القصر سرير العزة والسلطان وأجلس عليه ملكًا يقال له الإيمان وبث الجوارح في خدمته كالغلمان (ويذكر وظيفة كل جارحه)، ثم اتخذ الملك لنفسه وزيرًا وهو العقل (فأشار على الملك باتخاذ خاصة (وهي المقامات الصوفية)، وبالعدل في الرعية (وهي انتظام أعضاء الجسم الداخلية والخارجية)، ثم ينادي منادي الملك الرعية لمحاربة العدو وهي النفس الأمّارة بالسوء وحلفاؤها الدنيا والهوى والشيطان.فركب الملك إلى الحرب محاطًا بخاصته (المقامات والأحوال الصوفية) فالتقى الجيشان في مجمع بحريهما هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج، فكان التوكل موكلًا بالحرص والزهد، محاربًا للدنيا والتواضع، مدافعًا للعجب والإخلاص، ماحيًا للرياء والتقى، منافيًا للدعوى والخوف، موافقًا للهوى والتسبيح والتقديس في محاربة إبليس (...)، فهزموهم بإذن الله (...) وأصبحت منازل الهوى والنفس كأن لم تغنَ بالأمس.

ينظر النص كاملًا: في الطهطاوي، المرشد الأمين، ص ص من 565 إلى 567.

[77] محي الدين بن عربي، التدبيرات الإلهية، بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الثانية 2003.

[78] أبو حامد الغزالي، كمياء السعادة (ضمن مجموعة رسائل الغزالي)، مصدر سابق، ص ص 422- 423.

[79] حيث جعل العقل وزيرًا للقلب وخادمًا له في الوقت نفسه، والحواس شبكة العقل وجواسيسه يبصر بها صنائع البارئ جلّت قدرته، وجعل القلب سراجًا شمعه يبصر بنوره جمال الحضرة الإلهية، وجعله ملكًا يدير أمور المملكة، وأعضاؤها (العقل، الحواس، النفس) ويؤوّل قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} بقوله: «معناه إنا خلقنا القلب وأعطيناه الملك والعسكر وجعلنا النفس مركبه حتى يسافر عليه من عالم التراب إلى أعلى عليين، فإذا أراد أن يؤدّي حق هذه النعمة جلس مثل السلطان في صدر مملكته، وجعل الحضرة الإلهية قبلته ومقصده، وجعل الآخرة وطنه وقراره، والنفس مركبه، والدنيا منزله واليدين والقدمين خدّامه، والعقل وزيره، والشهوة عاملة، والغضب شحنته، والحواس جواسيسه (...)، فإذا رأيت واحدًا منهم قد عصى عليك مثل الشهوة والغضب فعليك بالمجاهدة، ولا تقصد قتلهما؛ لأن المملكة لا تستقر إلَّا بهما.فإذا فعلت ذلك كنت سعيدًا (...) وإلَّا كنت شقيًّا» المرجع السابق ص ص 422- 423

[80] مصداق للحديث القدسي.

[81] العقل الذي نعنيه هو عقل الإنسان المسلم الذي هو موضوع كتاب الطهطاوي الذي ندرسه وليس مطلق العقل.

[82] عين اليقين: هو ما حصل عن مشاهدة وكشف وهو لأرباب الوجدان من أهل الاستشراف على العيان.

[83] حق اليقين: هو مشاهدة الحقيقة في أرفع الأطوار، وقال الجنيد: حق اليقين أن يشاهد الغيوب كما يشاهد المرئيات، وهو لأهل الرسوخ والتمكين في مقام الإحسان.

[84] ينظر في: عبد الرزاق القاشاني، لطائف الإعلام في إشارات أهل الإلهام والقشيري، الرسالة القشيرية ومحمد شمس الدين الرازي، حدائق الحقائق، وأبو نصر السراج الطوسي، اللمع في التصوف، وأبو بكر محمد الكلاباذي، التعرف لمذهب أهل التصوف.

[85] الطهطاوي، المرشد الأمين، مصدر سابق، ص 730.

[86] الشيخ ملا حسن بن موسى الكردي، شرح حكم الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي، تحقيق: الشيخ أحمد فريد المزيدي، بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 2006، ص 452.

[87] الطهطاوي، المرشد الأمين، المصدر السابق، ص 285.

[88] الطهطاوي، المصدر نفسه، ص291.

[89] الطهطاوي، المصدر نفسه، ص 716.

[90] «الدخول في كل خلق سني والخروج من كل خلق دني» هذا التعريف قال به: أبو محمد الجريري حينما سئل عن: ما التصوف؟ ينظر في: عوارف المعارف، السهروردي، ص 38.

[91] الطهطاوي، المصدر السابق، ص675.

[92]2 «قال بعضهم معرفة الأولياء بين الناس بلطائف ألسنتهم، وحسن أخلاقهم، وبشاشة وجوههم، وقلة اعتراضهم. وصفتهم أن يكون (...) حسن الخلق لباسهم، وطلاقة الوجه حليتهم، وسخاء النفس حرفتهم، وحسن المعاشرة محبتهم، والعلم فائدتهم، والصبر سائقهم، والهدى مركبهم، والقرآن حديثهم، والذكر نهمتهم، والرضا راحتهم، والقناعة حالهم، والعبادة كسبهم، والشيطان عدوهم... إلخ» الطهطاوي، المصدر السابق، ص675.

[93] الكرامة: «هي ظهور أمر خارق للعادة من قبل شخص غبر مقارن لدعوى النبوة فما لا يكون مقرونًا بالإيمان والعمل الصالح يكون استدراجًا، وما يكون مقرونًا بدعوى النبوة يكون معجزة» الجرجاني، التعريفات ص 154.

[94] الطهطاوي، المرشد الأمين، ص 676.

[95] المصدر نفسه، ص676.

[96] الطهطاوي، المصدر السابق، ص 284.

[97] المصدر نفسه، ص، 676.

[98] «المراقبة هي استدامة علم العبد بإطلاع الرب عليه في جميع أحواله» الجرحاني، التعريفات، ص 176.

[99] أبو نصر السراج الطوسي، اللمع في تاريخ التصوف الإسلامي، بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الاولى 2001، ص 273.

[100] أبو نصر السراج الطوسي، اللمع، مصدر سابق، ص 273.

[101] الأول: أن تعلم أن قدرة الله التي لا يكبر عليها شيء هي التي أظهرت الكرامات في هذا الولي، ولا تنظر إلى ضعف العبد لكن انظر إلى قدرة السيد، فجحد الكرامة في الولي جحد للقدرة القدير (...).

الثاني: أنه ربما كان سبب إنكارك الكرامات استكثارها على ذلك العبد الذي أضيفت إليه، مع أن تلك الكرامة (...) شاهدة بصدق من تبع العبد له وهو النبي (صلى الله عليه وسلم)، فهي بالنسبة لمن ظهرت على يديه كرامة وبالنسبة إلى من ظهرت ببركة متابعته معجزة (...)، فلا تنظر إلى التابع ولكن انظر إلى عظم قدر المتبوع.

الثالث:أن تعلم أن الذي أعطاه الله سبحانه وتعالى لأوليائه من الإيمان واليقين مما أنت مصدق به ومثبت له أعظم مما استغربته أو أنكرته من الاطلاع على الغيب ونحو ذلك...». ينظر في: الطهطاوي، المرشد الأمين، ص ص 677-678.

[102] الطهطاوي، المصدر السابق، ص 678.

[103] الطهطاوي،المصدر السابق، ص285.

[104] المصدر نفسه، ص 285.

[105] المصدر نفسه، ص 285.

[106] المصدر نفسه، ص678.

[107] المصدر نفسه، ص 679.

[108] المصدر نفسه، ص 679.

[109] الحسين بن منصور الحلاج (244-309 هـ)، وهو من أهل بيضاء فارس. ويعتبر الهجويري في كتابه «كشف المحجوب» أول من نبَّه إلى الخلط الذي يقع فيه كثير من الدارسين حين «يظنون أن الحسين بن منصور الحلاج هو الحسن بن منصور الحلاج، ذلك الملحد البغدادي الذي كان أستاذ محمد بن زكريا ورفيق سعد القرمطي، ولكن الحسين بن منصور الحلاج الذي نعنيه هنا «كان فارسيًّا من بيض ااورد، ولم يكن هجر المشايخ له يعني الطعن في دينه ومذهبه، بل في حال دنياه، فقد كان في بداية أمره مريد سهل بن عبد الله فانصرف عنه دون استئذان واتصل بعمرو بن عثمان وذهب عنه بلا إذن وتعلق بالجنيد فلم يقبله، ولهذا السبب هجروه جميعًا، فهو مهجور المعاملة لا مهجور الأصل. (كشف المحجوب ص ص:362-365). قتل بتهمة الزندقة. من أعماله «الطواسين».

[110] أبو يزيد طيفور بن عيسى البسطامي (ت:261 هـ)، من أقواله: «عملت في المجاهدة ثلاثين سنة فما وجدت شيئًا أشد عليَّ من العلم ومتابعته»، وقال: «لا يعرف نفسه من صحبته شهوته»، وقال: «اطلع الله على قلوب أوليائه فمنهم من لم يكن يصلح لحمل المعرفة فشغلهم بالعبادة». (طبقات الصوفية، عبد الرحمن السلمي، ص ص من 67 إلى 74).

[111] محي الدين بن عربي (ت:683هـ)، «أجمع المحققون من أهل الله عز وجل على جلالته في سائر العلوم، كما يشهد لذلك كتبه، وما أنكر من أنكر عليه إلا لدقة كلامه لا غير، فأنكروا على من يطالع كلامه من غير سلوك طريق الرياضة خوفًا من حصول شبهة في معتقده. وهو أحد أركان هذا الطريق». (عبد الوهاب الشعراني، الطبقات الكبرى، ج 1، ص 88). له مؤلفات كثيرة من أشهرها: «الفتوحات المكية، وفصوص الحكم».

[112] عمر بن الفارض (ت:632هـ) من أقطاب الصوفية، أصله من حماة وتوفي في مصر، درس الفقه والحديث وسلك طريق الصوفية ،ويعتبر ابن الفارض شاعر الحب الإلهي، ويلقب بسلطان العاشقين، وأهم قصائده: التائبة الكبرى، وقد سأل محي الدين بن عربي ابن الفارض أن يضع لهذه القصيدة شرحًا فأجابه: «كتابك الفتوحات المكية شرح لها»، وشرحها كثيرون، منهم عبد الرزاق القاشاني بعنوان: «كشف الجواهر الغر لمعاني الدر». ينظر في الكواكب الدرية: ج2 للمناوي: ص ص من: 208 إلى 216).

[113] الطهطاوي، المصدر السابق، ص 730.

[114] سورة يونس: 39.

[115] المصدر نفسه، ص287.

[116]  المصدر نفسه، ص730.

[117] المسألة الخلافية كانت حول هل ينتفع الميت بما سعى له غيره من قراءة القرآن أو صدقة أوغيرها انطلاقًا من الآية {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} (النجم 39) التي قال عنها ابن عباس (رضي الله عنه): «هذا منسوخ الحكم». الطهطاوي، المرشد الأمين، ص:670.

[118] رابعة العدوية (ت: 153هـ)، وهي رابعة بنت إسماعيل العدوية البصرية، كانت زاهدة عابدة محبة لله سبحانه وتعالى، كانت أول من استخدم كلمة حب للتعبير عن إقبالها على الله سبحانه وتعالى... تابت على يد ذي النون المصري، وعاصرت الكثير من الزهاد الذين كانوا يأتون إليها ويأخذون منها، منهم: مالك بن دينار ورياح القيسي وسفيان الثوري. (ينظر في طبقات الصوفية للسلمي، وكشف المحجوب للهجويري، والطبقات الكبرى للشعراني، والكواكب الدرية للمناوي).

[119] اللقاني المصري المالكي (ت1041هـ) « أحد أئمة العلماء العاملين وأعيان الأولياء العارفين فكان جامعا بين الشريعة والحقيقة له منظومة جوهره التوحيد» (ينظر: جامع كرامات الأولياء لإسماعيل النبهاني الجزء الثاني: ص:371.)

[120] الإمام محمد بن إدريس الشافعي (ت:204هـ)، «ولد بغزة، ثم حمل إلى مكة وهو ابن سنتين، وعاش أربعًا وخمسين سنة، وأقام بمصر أربع سنين ونيفًا، ثم توفي بها. قدم المدينة فلزم الإمام مالك وقرأ عليه الموطأ حفظًا فأعجبه قراءته، وقال له: اتق الله، فإنه سيكون لك شأن، وجدَّ في الاشتغال بالعلم ونشر الحديث واستخرج الأحكام منه. ورجع كثير من العلماء على مذاهب كانوا عليها إلى مذهبه، قال الربيع بن سليمان: رأيت على باب دار الشافعي سبعمائة راحلة تطلب سماع كتبه»، وكان يقول: «إذا صح الحديث فهو مذهبي، وكان يقول: لا شيء أزين بالعلماء من الفقر والقناعة والرضا بها». وكان يقول: «صحبت الصوفية عشر سنين ما استفدت منهم إلا هذين الحرفين: الوقت سيف وأفضل العصمة ألا تجد»، وهو صاحب مذهب فقهي ومنشئ علم أصول الفقه، ومن أعماله المشهورة «الرسالة». (ينظر في الطبقات الكبرى للشعراني، وطبقات الصوفية للسلمي، والكواكب الدرية للمناوي).

[121] ينظر: الطهطاوي، المرشد الأمين، ص545

[122] عبد الوهاب الشعراني (ت: 973هـ)، فقيه ومحدّث وزاهد وعابد وصوفي مربٍّ. ألَّف الكثير من الكتب، منها الطبقات الكبرى، والمنن الكبرى، ومختصر الفتوحات المكية، والبحر المورود في المواثيق والعهود، وكشف الغمة عن جميع الأمة، والميزان الكبرى، والنهج المتين، والبدر المنير في غريب أحاديث البشير النذير، ومشارق الأنوار القدسية في العهود المحمدية، واليواقيت والجواهر في عقائد الأكابر، والكبريت الأحمر في علوم الشيخ الأكبر، وإرشاد الطالبين إلى مراتب العلماء العاملين، وكثير غيرها. من كلامه: «ذرة من العبادة مع الإقبال على حضرة الله خير من أمثال الجبال منها مع الملل». (ينظر الكواكب الدرية ج2، وجامع كرامات الأولياء للنبهاني الجزء الثاني).

[123] أبو الحسن الشاذلي: هو علي بن عبد الجبار الشاذلي نسبة إلى شاذلة قرية في تونس، نزيل الإسكندرية. شيخ الطائفة الشاذلية، وكان كبير المقدار عالي المنار، له عبارات فيها رموز فوَق ابن تيمية سهمه إليه فرده عليه. مات بصحراء عيذاب قاصدًا الحج ودفن هناك سنة (656 هـ)، وقد ترجم له ابن عطاء الله السكندري تلميذ تلميذه أبي العباس المرسي في كتاب: لطائف المتن فقال عنه: «إنه قطب الزمان حجة الصوفية، علم المهتدين زين العارفين السادة الأكابر، زمزم الإسرار ومعدن الأنوار». (ينظر الطبقات الكبرى للشعراني، والكواكب الدرية للمناوي، وجامع كرامات الأولياء للنبهاني).

[124] علي وفا (ت 801هـ) قال عنه الشعراني: «... له عدة مؤلفات شريفة، وأعطي لسان الفرق والتفصيل زيادة على الجمع، وقليل من الأولياء أعطي ذلك» الطبقات الكبرى ج2.

[125] الحارث بن اسد المحاسبي (ت243هـ)، يقول عنه الهجويري في كشف المحجوب: «كان عالمًا بالأصول والفروع، وكان جميع أهل العلم في زمانه يتولونه ويقتدون به، وقد عمل كتابًا في أصول التصوف اسمه «الرعاية لحقوق الله»، وله تصانيف كثيرة أخرى، وكان في كل فن عالي الحال عظيم الهمة، وكان شيخ مشايخ بغداد في وقته. لقب بالمحاسبي لأنه كان يحاسب نفسه. (ينظر كذلك: طبقات الصوفية للسلمي، والطبقات الكبرى للشعراني الجزء الأول).

[126] زكريا الأنصاري (ولد: 826هـ)، قال عنه المناوي في الكواكب الدرية: «... إلى أن أذن له غير واحد في الإفتاء والتدريس فتصدى لذلك في حياة جمع من شيوخه، انتفع به الفضلاء طبقة بعد طبقة، ثم تصدى للتصنيف حتى بلغت مؤلفاته نحو الستين، وكان يميل إلى الصوفية ويذب عنهم لا سيما ابن عربي وابن الفارض، وهو من كتب في نصرتهما وجزم بولايتهما، توفي سنة اثنين وعشرين وتسعمائة». (ينظر كذلك في الطبقات الكبرى للشعراني).

[127] الإمام مالك (ت: 179) الإمام المشهور، قال عنه المناوي في الكواكب الدرية: «إذا أراد الجلوس للحديث اغتسل وتطيّب ولبس ثيابًا جددًا وتعمّم وقعد على منصة بخضوع وخشوع ووقار أدبًا مع المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم)». من أقواله: من تفقّه ولم يتصوف فقد تفسق، ومن تصوف ولم يتفقّه فقد تزندق، ومن جمع بينهما فقد تحقق. ينقل عنه الطهطاوي قوله: «إذا كانت العلوم منحًا إلهية ومواهب اختصاصية فليس بمستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين من عسر على كثير من المتقدمين». (المرشد الأمين: ص 730).

[128] على الخواص (ت 939)، يقول عنه المناوي: علي البرنسي الأمي المعروف بالخواص كان من أكابر أهل الاختصاص ومن ذوي الكشف الذي لا يخطر والاطلاع على الخواطر على البديهة فلا يبطئ، وكان يقول: النفس إذا مدحت اتسخت وإذا ذمت نظفت، وقال: إياك أن تصغي لقول منكر على أحد من الفقهاء (الصوفية) فتسقط من رعاية الله وتستوجب المقت. الكواكب الدرية، ينظر كذلك: الطبقات الكبرى للشعراني.

[129] أبو حامد الغزالي (ت505)، لقد ترجم له الكثير، ونقل الإمام المناوي أن كتب الإمام الغزالي التي صنّفها وزّعت على عمره فخص كل يوم أربعة كراريس. ومن كلامه: إجلاء القلوب وإنضارها يحصل بالذكر، ولا يتمكن منه إلَّا الذين اتقوا، فالتقوى باب الذكر والذكر باب الكشف والكشف باب الفوز الكبير. وقال: متى رأيت إنسانا يسيء الظن بالناس طالبًا للعيوب فاعلم أنه خبيث في الباطن، والمؤمن السليم الصدر في حق كافة الخلق. من أشهر أعماله «إحياء علوم الدين» و«المنقذ من الضلال». (ينظر في: الكواكب الدرية للمناوي، والطبقات الكبرى للشعراني، وجامع كرامات الأولياء للنبهاني).

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة