شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
العدالة قيمةً ومعيارًا: تطلّعات إنسانيّة وحضاريّة
بيروت في: 20 ربيع الثاني 1438هـ الموافق 19 كانون الثاني/ يناير 2017م
محمد تهامي دكير
لتسليط الضوء على قيمة العدالة سواء على المستوى الاجتماعي، أو العدلة كمفهوم عقائدي وتشريعي في الفقه الاسلامي، وللتأكيد على أهمية وضرورة العمل على تحقيق العدالة في الواقع، وتبرئة الإسلام من كل مظاهر الظلم التي ترتكب باسمه اليوم، أو تحت شعارات دينية ودعوية أو مشاريع سياسية، وللكشف عن علاقة العدل والعدالة كمفهوم وتشريع وأصل عقائدي، بحقوق الإنسان وإعمار الأرض ومن ثم نشوء الحضارة وازدهارها واستمراريتها..، نُظِّم في بيروت، وبدعوة من جامعة المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) العالمية في لبنان، وبالتعاون بين جامعة فردوسي في مدينة مشهد بالجمهورية الإسلامية الإيرانية ومركز الحضارة لتنمية الفكر الاسلامي في بيروت، المؤتمر التمهيدي لأعمال الملتقی العالمي للعدالة والأخلاق في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، تحت شعار: «العدالة قيمةً ومعيارًا: تطلّعات إنسانيّة وحضاريّة».
حضر المؤتمر عدد من المفكرين والعلماء وأساتذة الجامعة والحوزات من لبنان والجمهورية الإسلامية الإيرانية.
الجلسة الافتتاحية
في الجلسة الافتتاحية وبعد الإشارة إلى أهمية موضوع المؤتمر في ظل التحديات التي يتعرض لها الإسلام وتشريعاته وعقائده، أكد ممثل جامعة المصطفى العالمية في لبنان الشيخ الدكتور علي رضا بنياز في كلمته على كون البشرية -وعلى مر التاريخ- في سعي حثيث للكشف مرهم يُداوي جراحها وآلامها جراء الحروب والضغائن المختلفة، ويخفف عنها ما تقاسيه جراء ما تعانيه من مشاكل على مختلف الصُّعد الحياتية، وقد وجدت في العدالة ترياقها الشافي وفي الأخلاق إكسيرها المعافي، يؤخذ من معين الفطرة السليمة، حيث قال الله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}.
فكانت العدالة من الكنوز الخفية التي غفل الناس عنها في حملة خوضهم تحديات الحياة وتقلباتها؛ لذلك أرسل الله عز وجلّ رسله لدفن تلك الضغائن وتوجيه البشرية لاتّباعهم، من خلال الامتثال لقيم الإيمان والعدل ومراعاة الحقوق والواجبات. من هنا برزت أهمية البحث في مفهوم العدل في الإسلام، وضرورة العمل من أجل تحقيق العدالة ونشرها من أجل النهوض الحضاري للأمة، وهذا ما ستحاول الأوراق والبحوث المقدمة في هذا المؤتمر الإضاءة عليه، ومعالجة الإشكاليات المعرفية والواقعية المحيطة به.
الجلسة الأولى
تحت عنوان: «موقع العدالة ودورها في الحضارة الإنسانيّة: رؤية دينيّة» عُقدت الجلسة الأولى برئاسة الشيخ سامر عجمي (أستاذ بجامعة المصطفى K)، وقد تحدث فيها عميد كلية الإلهيات في جامعة فردوسي ورئيس الملتقى العالمي للعدالة والأخلاق في مدرسة أهل البيت A، الدكتور غلام رضا رئيسيان عن «دور العدالة في الحضارة الإسلامية»، في البداية أكد الباحث أن الحضارات لها عناصرها ومکوناتها، بعضها مشترکة بین الحضارات الدینیة وغیر الدینیة وبعضها مختصة بالدینية فقط. ومن المکونات المشترکة بین جمیع الحضارات: التنظیم السیاسي، الأمن والسلام، الازدهار العلمي والتکنولوجي، الازدهار الاقتصادي، عمران البلاد، الرخاء والرفاهیة، ومن أهم هذه العناصر القسط والعدل.. وهذا العنصر بمعناه العام، أي وضع الشيء في موضعه، أو إعطاء کل ذي حق حقه، له دور هام في تکوین واستمرار کل حضاره. لذلك قيل: «الحکم یبقی مع الکفر ولایبقی مع الظلم». ولکن دور العدل في الحضارة الإسلامیة یختلف مع دوره في غیرها من الحضارات، ولیس المراد من الاختلاف هنا، الاختلاف في ماهیته، بل الاختلاف في نطاقه وشمولیته لجمیع شؤون الحیاه الفردیة والاجتماعیة.
لذلك عندما نعود إلى القرآن الکریم والأحاديث والروایات النبوية، نجد أن العدل یشمل جمیع جوانب الحیاة البشریة. ومن المنظور الإسلامي فالعدل رُکن المعاد والإیمان بالآخرة، بل هدف التشریع الإلهي السامي وفلسفة البعثات السماویة والرسالات الربانیة، ومن شروط التصدي للمسؤولیة التنفیذیة في المجتمع الموحد، بل ومن المسؤولیات الأخلاقیة والاجتماعیة للإنسان المؤمن الموحد، الهادف إلی بناء نفسه وبناء المجتمع الحضاري الذي یتطلع إلی السمو والكمال؛ لذلك يؤكد الباحث أن العدل إذا سیطر علی أفراد المجتمع وتحلّوا بقيمه في جمیع شؤونهم الخاصة والعامة فإن هذا المجتمع سيصبح حضاريًّا بامتياز، وستنعكس قيم العدل تقدمًا وازدهارًا وسموًّا ورقيًّا، وهذا هو الهدف الرئيس من أي تطور حضاري ينشده الإنسان على وجه الأرض، وهو تجلٍّ من أهم تجليات الاستخلاف الإلهي للإنسان في الأرض، لعمارتها وفقًا للمنظور الإلهي الذي يقوم على العدل في الخلق وفي الهدف من الخلق كذلك.
الكلمة الثانية كانت للأب إدغار الهيبي، (بروفسور مشارك في جامعة القديس يوسف، ومدير المعهد العالي للعلوم الدينيّة وأمين عام اللجنة الأسقفيّة لراعويّة الخدمات الصحيّة وشؤون البيئة في لبنان)، وقد جاءت ورقته تحت عنوان: «العدالة حاجة إنسانية اجتماعية: رؤية مسيحية».
في البداية أكد الباحث أن العدل يعتبر في العلاقات الشخصيّة بين البشر، معيارًا رئيسيًّا لنيل الثقة وتأسيس الصداقات وحفظ الكرامات وصون الأعراض، وفي العلاقات الجماعيّة، تُعتبر العدالة نبراس الحكم وأساس الملك ومبدّد الظلم ومحيي الاستقرار. أمّا في الحياة الروحيّة والدينيّة، فيصبح العدل رديف البرّ، وكلاهما يُقاس في ميزان الحقّ الذي منبعه ومصبّه الله جلّ اسمه. ثم شرع في الكشف عن مفهوم العدالة والعدل في المسيحية، حيث أكد أنّ العدل هو الفضيلة الأخلاقية، التي قوامها إرادة ثابتة وراسخة، لإعطاء الله والقريب ما يحقّ لهما. والعدل تجاه الله يُدعى «فضيلة العبادة». أما تجاه البشر، فهو يهيئ لاحترام حقوق كل واحد، وجعل العلائق البشرية في انسجام يعزّز الإنصاف بالنسبة إلى الأشخاص والخير العام.
لكن السؤال المفصلي -في نظر الباحث– عندما يتناول الأفراد والمجتمعات والدول مسألة العدالة هو: عن ماذا نبحث؟ عن الحُكم؟ أم عن السلام؟ أم عن النمو أم عن الاستقرار؟ ولمن الأولويّة، أللعدل أم للحق أم للحريّة ؟
وانطلاقًا من مقاربةٍ مثلّثة الأبعاد (الشخصيّة والاجتماعيّة والروحيّة) وللإجابة عن هذا السؤال: تحدث الكاتب عن المقام الجوهريّ الذي تشغله فضيلة العدل في العقيدة المسيحيّة، وعلاقتها الجذريّة بالإيمان بالله وبالحقّ من ناحية، وبمبدأ العدالة الاجتماعيّة من ناحية أخرى. مبينًا ترابط القيم المحوريّة التي تقوم من أجلها العدالة، والتي هي -في نظره– تتلخص في: الحقيقة والحريّة والسلام والمحبّة. كما استعرض الشبكة المبدئيّة المكوّنة لمركّب العدالة الاجتماعيّة بكل أبعادها الحقوقيّة والدينيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والبيئيّة، مؤكدًا في الأخير أن السلام الذي تنشده البشرية لا يمكن أن يتحقق دون عدالة تركز على خدمة الإنسان واحترام إنسانيته وحقوقه.
الشيخ محمد زراقط (الأستاذ بجامعة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم) تحدّث بدوره عن «العدالة حاجة إنسانيّة واجتماعيّة: رؤية إسلاميّة»، في البداية أشار الباحث إلى الأهمية التي أولاها المسلمون وعلى رأسهم المتكلمون والفقهاء لمفهوم العدل والعدالة؛ لأن العدل من الصفات الإلهية، وقد خصّ المتكلمون هذه الصفة بمباحث كثيرة وجدل عميق، تناولها من حيث الحقيقة والتجلي، وكذلك تمت مناقشتها من خلال البُعد الاجتماعي والتشريعي، وصولًا إلى التطبيق في المجال السياسي والتحديات التي واجهت العدالة في هذا المجال والمضمار الخاص. وقد أكد الباحث على كون صفة العدل الإلهي قد انعكست بالضرورة في التشريع، مع الأخذ بعين الاعتبار مفهوم الرحمة الإلهية التي تخللت هذا التشريع وَوجَّهته في الكثير من الأحيان لتعطي لمفهوم العدالة بُعدًا إنسانيًّا يُراعي الكثير من التحديات التي تواجه الإنسان.
وفي الأخير، أكد الباحث على أهمية الالتفات إلى أن العدالة مطلب اجتماعي إنساني خاصة في العلاقة بين الحاكم والمحكوم؛ لأن هذا الجانب عانى عبر التاريخ ولا يزال يعاني من خلل واضطراب في المفهوم والتطبيق، ما انعكس سلبًا على حقوق الإنسان في المجتمع والحضارة الإسلامية.
الجلسة الثانية
تحت عنوان: «أسس العدالة وتجلياتها في البناء الحضاري الاسلامي والانساني»، انطلقت أعمال الجلسة الثانية بورقة للدكتور جعفر مرواريد (عضو الهيئة العلمية في كلية الإلهيات في جامعة فردوسي، والأمين العلمي لمؤتمر العدالة والأخلاق الدولي) تحت عنوان: «الاجتهاد القائم على العدالة: أساس الحضارة الإسلامية الحديثة»، في البداية أشار الباحث إلى أن كل حضارة -ومنها الحضارة الإسلامية- تتألف من جانبين خارجي وداخلي. والجانب الداخلي يشكّل الخطاب والرؤى والنظرة للحضارة، كما أنّ قوة كل حضارة تقوم على «الخطاب» و«رویتها للعالم من حولها (أي أيديولوجيتها)». والحضارات الحية والديناميكية هي حضارات تمتلك خطابات شاملة، ومتنوعة في الوقت نفسه (كثيرة الأضلاع). هذه الخطابات الشاملة لها القدرة على جذب الأفكار والنظريات المختلفة، كما أنها تمنح التنوّع الفكري والعرقي والثقافي هوية وانسجامًا تحت مظلة الوحدة.
والحضارة الحية في نظره، لا تخاف من الفكر المنافس أو المختلف والمتنوع لأنها تتمتع بأسلوب «المقارنة والاقتباس» ومقارنة الأسس الفكرية المتنوعة، مع استخدام النهج القرآني {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} والعمل بوصايا أهل البيت (عليهم السلام) في قولهم: «اضرِبوا بعض الرأي ببعض، یتولد منه الصواب»، وبالتالي تجعل نهجها الحوار الحضاري، الذي يؤدي إلى النقد المستمر والتواضع الأخلاقي.
من هذا المنطلق، يؤكد الباحث أن حياة أي خطاب ديني تقوم على قدرته على التوليف المستمر واحتوائه لوجهات النظر المتنوعة والكثيرة. ثم تحدث عن العدالة والحقوق الطبيعية – الفطرية أو الذاتية التي تكشف أن فلسفة الخلق الهادف تعتبر خلق العالم على أساس نهج العدل (العدل التكويني)، وهذا العدل التكويني منشأ للعدل التشريعي، وهذا ما نشاهده في الحقوق المتبادلة بين الآباء والأبناء في التشريع الديني، والشارع بوضعه القوانين فإنه يحفظ هذا الحق الموجود في الطبيعة.
وبما أن الإنسان علی فطرته وطبیعته يمتلك حقوقًا فطرية، لذلك يجب على المجتهدين والمفكرين المجددين إعادة قراءة السنّة الدينية وتقديم قراءة جديدة لها، حيث تؤدي من منطلق الدين إلى استيفاء الحقوق الطبيعية والفطرية، والسعي لتقديم قراءة عن الدين منطبقة مع الحقوق الفطرية له أهمية كبيرة –في نظر الباحث- لعدة أسباب منها: أنه إذا كان التفسير الذي يقدّمه المجتهدون عن الدين يؤدي إلى التعارض الظاهري بين الدين والحقوق الفطرية، فإن الشيء الذي سيفشل من الناحية الاجتماعية والبراغماتية هو التفسير المنسوب إلى الدين.
وفي الأخير، أكد الباحث أن إحدی خصائص الفقاهه في الاسلام، الواقعیة والاهتمام بالمصالح الحقیقیة والواقعیة؛ لأن «الأحکام الشرعیة تابعة للمصالح الواقعیة». كما تحدث عن العدالة وعلاقتها بالدين والتدين ووجهة نظر الشهيد مطهري في كتابه «المبادئ العامة لعلم الاقتصاد»، الذي هو مشروع لم يكتمل من أجل إثبات فعالية منهجية «الاجتهاد محور العدالة»، والذي أكد فيه أن أصل العدالة هو من معايير الإسلام. فالعدالة في سلسلة علل الأحكام وليس في سلسلة المعلولات. كما أشار الى رأي الإمام الخميني الذي يعتبر أن أساس الحكومة بسط العدل في المجتمع، وأنها معيار لتحقق الأحكام، وأن الهدف من إقامة الحكومة بواسطة الإسلام هو إقامة العدل.
والخلاصة، فالتأثير الذي يمكن أن تتركه العدالة على عملية الاستنباط والتفقّه يتجلى في مجالين، الأول: العدالة بعنوان «قاعدة فقهية» يمكن أن يكون له دور هام في استنباط أو تطبيق «الحکم»، مثل بقية القواعد الفقهية. الثاني: يمكن للعدالة أن تكون واحدة من «مقاصد الشريعة» و«روح الشريعة » ومعيارًا للاجتهاد الفعّال في شرح المدارس الإسلامية والنظام الإسلامي.
الورقة الثانية في هذه الجلسة قدّمها الشيخ شفيق جرادي (مدير معهد المعارف الحكمية في لبنان) عن «معيارية العدالة في البناء الحضاري: الاجتماعيّ والإنسانيّ».
وقد تحدّث فيها عن المرتكزات الثلاثة التالية:
أوّلها: تحديد معنى القيم كالعدالة، وكيف يمكن، ومتى يمكن اعتبارها معيارية؟ ثم الانشغال بترابط مجال القيم الإسلامية بالعدالة، وعلى أي أساس اعتبرناها معيارية في البناء الحضاري.
ثانيها: التفريق بين معنى «حضارة» و«الحضارة»، إذ باتت الدراسات المعاصرة تتحدّث عن أن كل زمن يمثّل فرادة حضارية خاصة، وهو الذي نسمّيه بـ«الحضارة».
ثالثًا: هل بإمكاننا أن نجد ونتلمّس وجه العدالة في الحضارات الفاعلة بعالم اليوم؟ وفي العلاقات الدولية؟ أم أن العدالة الحضارية هي الفرادة الخاصة للإسلام والمسلمين؟
وعليه، فإنّ الحاجة للإسلام الحضاري ما زالت قائمة كحاجة معاصرة اليوم، وكيف هو المشهد الدولي المعاصر اليوم أمام تطلعات عالم المسلمين نحو بناء حضارتهم العادلة، بل بناء «الحضارة العادلة»؟
أما الدكتور عباس جوارشكيان فقد تحدث عن: «الأسس العقلانية للعدالة في الحضارة الاسلامية» حيث يرى أن العدالة تعتبر السمة الأكثر وضوحًا والأكثر أهمية والأكثر عمومية والأكثر أساسية في الحياة الاجتماعية والمنظمة للحیاة الإسلامية. وتحقیق مثل هذه السمات والمیزات مع مثل هذا النطاق وأبعاده الشاملة، سیکون متاحًا وممکنًا من خلال نموذج معرفي وعقلاني خاص وشامل فقط، کما یتطلب عقلانیة خاصة أیضًا. كما تحدث بالتفصيل عن المعايير والمؤشرات.
أما بخصوص توحید أسس عدالة الحضارة الإسلامیة، فقد أكد الباحث أن الإسلام ومن خلال جهوده الرامیة لخروج الفرد والمجتمع من التعددیة نحو الوحدة ومن الشرك نحو التوحید، فإنه یوفّر أساس عدالة الحضارة الإنسانیة. کما أن التوحید یعتبر المحور الأساسي لعدالة الحضارة الإسلامیة القائم علی إرساء حاکمیة التوحید داخل الفرد والمجتمع وأیضًا في النظام الحضاري المنبثق من حیاة الإنسان والمجتمع البشري أیضًا.
وبناءً علی الموقف التوحیدي، فالعدالة من وجهة نظر الإسلام، تعني أداء الحق والقیام بالمهام، وواجب الطاعة والعبودیة ومراعاة حقوق الفرد والمجتمع، وکسب الفضیلة والکمال والعمل بالقیم والاستجابة لاحتیاجات المؤسسات والاستفادة من المنافع الدنیویة والأخرویة، والالتزام بقوانین الحیاة الاجتماعیة والعمل بالأحکام والقواعد الإسلامیة.
وهذا التكامل والوحدة في النموذج الإنساني، يكاد يكون غائبًا في الفكر الغربي والثقافة اللیبرالیة المهیمنة علی الحضارة اليوم، حيث تسود الفردانية والأنانية القاتمة.
ومن الطبیعي أن مثل هذه الفردانیة القاتمة والشدیدة، لاتکون نتیجتها إلّا التعددیة الشاملة، التنوّع في الفهم والمعرفة في مجال القیم والسلوکیات في أسلوب وطریقة الحیاة. وفي مثل هذه الأجواء والمجال الفارغ من المفاهیم والأسس الإنسانیة المشترکة، لن یتبقی مکان للحدیث عن العدالة وباقي القیم الأخلاقیة المطلقة، والمفاهیم العامة والإنسانیة الشاملة.
في الوقت الذي نجد فيه الإسلام وفي ضوء تعالیمه التوحیدیة قد وفّر الأرضیة اللازمة لإقامة وإرساء العدالة الاجتماعیة والحضاریة بشکلها العملي والنظري، حيث نجد الحق أساس جمیع معاییر العدالة الإسلامیة.
الورقة الأخيرة قدّمها الأستاذ محمود حيدر (باحث في الفلسفة ورئيس مركز دلتا للأبحاث المعمقة – بيروت) تحت عنوان: «فلسفة التعرف تلازم العدل والتخلّق في التلاقي بين الأديان والحضارات»، وفيها حاول الباحث مقاربة مفهوم التعرُّف بوصفه ركنًا مؤسسًا في فلسفة القيم. ومثل هذا المقصد ينبني على فهم التعرُّف الساري بين الثقافات والحضارات والأديان، بما هو تعرُّفٌ مسبوق بالإيمان بحقانية التغاير المتأتية من سنَّة الاختلاف. وحيث يتخذ التعرُّف هذا المسرى، فإنه حسب الباحث، يصبح لدى المتعرَّف شأنًا متأصلًا في وجوده الذاتي الخاص، وفي حضوره التاريخي سواءً كان فردًا او جماعةً أو حيِّزًا حضاريًّا.
والمتعرِّف الذي تعقّل فضيلة التعرف وتخلَّق بها، مُدركٌ بأن ما يفعله إنما يدخل ضمن سَيْرِيَّة تحويل الجهل الى معرفة، والبعيد الى قريب، والآخر المختلف إلى نظير مساوٍ له في الآدمية. أما هذه السَّيْرِيَّة فلا تنهض وتنمو إلَّا باقتران جوهري بين الإيمان بمكانة الإنسان السامية في الوجود، والعمل على تصديق هذا الإيمان قولًا وعملًا في الآن عينه.
ومفهوم التعرُّف بما هو الكشف عن مجهول هو سبيل الحق إلى معرفة الخلق، وإرادة المعرفة بالموجود الإنساني عن طريق التوجُّه نحوه قصد معرفته وفهمه كما هو بماهيته وهويته، ومن دون فرض أو إكراه، والتعرُّف بما هو علم معاملة مع الغير وفق مبدأ الخيرية واللطف. وهو ما يتصل بالبعد الأخلاقي الذي ينظم الصلة بالغير، ويقيمها على مبدأ العدل والتسامح والقبول والمعايشة الرحمانية، وكذلك التعرُّف بوصفه معطىً إلهيًّا أوجبته الأديان على مؤمنيها، ليكون لهم سبيلًا للاهتداء إلى الخالق عبر الاقتراب من مخلوقاته لمعرفتهم.
والمتعرِّف بهذه المزايا -في نظر الباحث- هو الذي يشاهد الغير في نفسه، ويشاهد نفسه في الغير بعين اللحظة، يضيف الباحث: كما لو كان هو والغير نفسًا واحدة. فلو تحقَّق له مقام الغيرية يكون قد قطع المسافة المكتظَّة بالرّيب حيال هذا الغير الذي هو نظير له في الآدمية. ولكي تنعقد موازين الصلة بين الذات والغير على نصاب التعرُّف، لا مناص من قيامها على صفاء النية، وسموِّ القصد، ولطف المقاربة. وحين يأخذ التعرُّف سبيله إلى حقول التنوّع يثبُت الوصل بين الذات ونظيرها. حيث إن أفضل درجات هذا الوصل ما نشأ ونما وسرى في حقول الغيرية، وصولًا إلى الخير العام ومن فسحاته.
وفي الأخير يؤكد الباحث أن التعرُّف هو وليد شرعي للتغاير، بل هو استجابة المتعرِّف لنداء المعرفة بكل من يغايره الفهم في الثقافة والمعتقد. وبقدر ما يتسامى التعرُّف على العصبيات والتحيُّزات والهويات، بقدر ما يتصل بها جميعًا بوصف كونها ظاهرات اجتماعية، توجِبُ النظر إليها، والتعامل معها كوقائع يفترضها التدافع الطبيعي في عالم الناس.. وبهذا يغدو التعرُّف جوهرًا أصيلًا في ذات المنتمي، يفيض من خلاله على الغير بما يختزنه من جميل، ثم ليستحثَّ هذا الغير الى إفاضة معاكسة هي أدنى إلى رد الجميل بالجميل.
ولتظهير ما يمكن اعتباره هندسة تفكيرية لـ«فلسفة التعرُّف»، فقد أسس الباحث مسعاه على مبنَيَيْن رئيسين، الأول: متصلٌ بالتلازم الوطيد بين الإيمان الديني وإرادة التعرُّف، والثاني: متعلقٌ بـ«سعة النظر» بما هي ضرورة للتعرُّف الرحماني.
التوصيات
واختتم المؤتمر بعرض مجموعة من التوصيات تلاها معاون البحوث في جامعة المصطفى العالمية في لبنان السيد حسين إبراهيم منها:
أولًا: تأليف لجنة أكاديمية لوضع محاور أبحاث في موضوع العدالة: تعريفًا دينيًّا، وتطبيقًا اجتماعيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا وحقوقيًّا في مجتمعات متنوعة الانتماء الديني والمذهبي والعرقي.
ثانيًا: إقامة اتحاد دولي من علماء ومفكرين إسلاميين ومسيحيين وتحرريين لبيان أسس العدالة الحضارية والدفاع عنها في المنتديات الدولية والحراك المدني في العالم.
ثالثًا: عقد مؤتمر دولي استكمالًا لمؤتمر العدالة الذي عقد بطهران.
رابعًا: تفعيل الحوار في موضوع العدالة الاجتماعية بين المسلمين والمسيحيين وبين النخب المُتمسكة بحقوق الإنسان وكرامته، والدعوة إلى تفعيل آليات التعرف والتواصل والحوار، وتسليط الضوء على المطالب التي تسود العالم، ومحاولة إخراج ذلك من كونه وجهة نظر تتحكم بها مصالح الدول والأنظمة.
شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
يحاول الكاتب محمد محفوظ في 166 صفحة أن بضيئ الحديث عن السلم الأهلي والمجتمعي، في الدائرة العربية والإسلامية، بحيث تكون هذه المسألة حقيقة من حقائق الواقع السياسي والإجتماعي والثقافي، وثابتة من ثوابت تاريخنا الراهن.
ينتمي مالك بن نبي وعبدالله شريط إلى بلد عربي إسلامي عانى من ويلات الاستعمار ما لم يعانه بلد آخر، سواء في طول الأمد أو حدة الصراع أو عمق الأثر. إنهما مثقفان عميقا الثقافة، مرهفا الشعور، شديدا الحساسية للمعاناة التي عاشها ملايين الجزائريين من ضحايا مدنية القرن العشرين، بأهدافها المنحطة وغاياتها الدنيئة.
عقد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات خلال الفترة الواقعة بين 6 و 8 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2012، مؤتمرًا أكاديميًّا عنوانه «الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي: تجارب واتّجاهات»، في فندق شيراتون بالدوحة، وشهد الافتتاح حشدًا كبيرًا من الباحثين والأكاديميّين من دول عربية.
يأتي الاهتمام بالقضية الفنية في فكر الأستاذ عبدالسلام ياسين من منطلق أن الوجود الحضاري للأمة كما يتأسس على أسس القوة المادية التي يمليها منطق التدافع القرآني أي التدافع الجدلي بين الخير والشر الذي هو أصل التقدم والحركة، يتأسس كذلك على جناح تلبية الحاجات النفسية والذوقية والجمالية بمقتضى الإيمان الذي هو ...
ثمة مضامين ثقافية ومعرفية كبرى، تختزنها حياة وسيرة ومسيرة رجال الإصلاح والفكر في الأمة، ولا يمكن تظهير هذه المضامين والكنوز إلَّا بقراءة تجاربهم، ودراسة أفكارهم ونتاجهم الفكري والمعرفي، والاطِّلاع التفصيلي على جهودهم الإصلاحية في حقول الحياة المختلفة
لا شك في أن الظاهرة الإسلامية الحديثة (جماعات وتيارات، شخصيات ومؤسسات) أضحت من الحقائق الثابتة في المشهد السياسي والثقافي والاجتماعي في المنطقة العربية، بحيث من الصعوبة تجاوز هذه الحقيقة أو التغافل عن مقتضياتها ومتطلباتها.. بل إننا نستطيع القول: إن المنطقة العربية دخلت في الكثير من المآزق والتوترات بفعل عملية الإقصاء والنبذ الذي تعرَّضت إليه هذه التيارات، مما وسَّع الفجوة بين المؤسسة الرسمية والمجتمع وفعالياته السياسية والمدنية..
لم يكن حظ الفلسفة من التأليف شبيهاً بغيرها من المعارف والعلوم في تراثنا المدون بالعربية، الذي تنعقد الريادة فيه إلى علوم التفسير وعلوم القرآن والحديث والفقه وأصوله، واللغة العربية وآدابها، وعلم الكلام وغيرها. بينما لا نعثر بالكم نفسه على مدونات مستقلة تعنى بالفلسفة وقضاياها في فترات التدوين قديماً وبالأخص حديثاً؛ إذ تعد الكتابات والمؤلفات في مجال الفلسفة، ضئيلة ومحدودة جدًّا، يسهل عدها وحصرها والإحاطة بها.