تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

الاتصال غير اللفظي في القرآن الكريم

خلاف جلول

 

 

الاتصال غير اللفظي في القرآن الكريم

دلالاته وتأثيره.. العين نموذجًا

 

الدكتور خلاف جلول*

* أستاذ بجامعة سطيف 2 - الجزائر.

 

مقدمة

الإنسان بطبعه كائن اتصالي، وقد هدته هذه الطبيعة إلى اللغة؛ وهي مجموعة الرموز التي اتّفقت عليها جماعة بشرية، لتحقيق التفاهم بين أفرادها. إلَّا أن هناك مشاعر وأحاسيس وأفكارًا يصعب على الفرد نقلها من خلال الكلام والكتابة؛ لذلك احتاج الإنسان إلى لغات أخرى غير لفظية، للتواصل كتعبيرات الوجه ونظر العينين...

تعتبر العين أهم قناة يطلّ من خلالها الانسان على العالم الخارجي لإدراك المحسوسات، ومعرفة الموجودات. ولا تقف أهمية العين عند حدود الإدراك الحسي للأشياء، وإنما تتعداها لتصبح من الناحية التواصلية رسول القلب ومرآته؛ لذلك حظيت العين باهتمام الباحثين في مجال الاتصال غير اللفظي، من خلال دراستهم للوظائف التي يؤدّيها السلوك البصري في السياق التواصلي، كإرسال معلومات واستقبال أخرى، وتنظيم التفاعل المواجهي بين الأفراد.

إن التراث العربي زاخر بحديثه عن العين وأهميتها، كقناة من قنوات الاتصال، في عملية إرسال واستقبال الرسائل المختلفة، وقدرتها على التأثير في الناظر إليها، بل قد يتعدّى تأثيرها في الناظرة إليه.

ولقد أولى القرآن حاسّة البصر أهمية كبرى من خلال الآيات العديدة التي وردت فيها الكلمة سواء بلفظ «البصر» أو بلفظ «العين»، مؤكدًا أن العين وسيلة فعالة للحصول على المعلومات، فقال تعالى {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى}[1]، فإطالة النظر فيما عند هؤلاء من زخارف الدنيا قد يكون سببًا في حالة الركون إليهم، وسكون النفس عن القيام بأهدافها وطلب المعالي.

كما ذكر القرآن من خلال سورة النور، أن النظر له دور كبير في السلوك الجنسي، لأنه يزود الشخص بالمعلومات الكافية للإثارة الجنسية فقال سبحانه {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}[2].

وتحدَّث القرآن الكريم عن المعاني التي رسمتها الدموع المنهمرة من العيون تأثرًا بسماعها للقرآن الكريم، قال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}[3].

وجاء في السنة ما يؤكّد الدور الاتصالي للعين، فعن أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «إياكم والجلوسَ في الطرقات، فقالوا: يا رسول الله، ما لنا من مجالسنا بُدٌّ نتحدّث فيها، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): فإذا أبيتم إلَّا المجلس فأعطوا الطريق حقه فقالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: غضّ البصر، وكفّ الأذى، وردّ السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»[4].

من هنا جاء التساؤل الرئيسي التالي: ما هي أهم دلالات ومعاني الاتصال بالعين في القرآن الكريم، وما مدى تأثير هذه اللغة في الآخرين؟

تساؤلات الدراسة

1- هل توجد آيات قرآنية تدلّ على لغة العين في القرآن الكريم؟

2- ما هي الدلالات والمعاني التي تحملها لغة العينين في القرآن الكريم؟

3- كيف يمكن الاستفادة من لغة العين في إيصال أفكارنا إلى الآخرين من جهة، وفي قراءة معاني هذه اللغة في الطرف الذي نجري معه العملية الاتصالية من جهة ثانية؟

4- ما هي التأثيرات المختلفة التي تحملها لغة العين من خلال الآيات القرآنية التي وردت فيها؟

منهج الدراسة

تمّ الاعتماد على المنهج الوصفي التحليلي الذي يصف الظاهرة موضوع الدراسة، من خلال تتبّع الآيات القرآنية التي وردت فيها العين كأداة للفعل الاتصالي، ثم تحليل وتفسير هذه الآيات من خلال دراسة أقوال العلماء في تفسير الآيات القرآنية موضوع البحث، للوصول إلى المعاني والأفكار التي تحملها واستنتاج التأثيرات المختلفة التي تحدثها.

مفاهيم ومصطلحات الدراسة

1- الاتصال

أ- تعريف الاتصال لغة

من «وصل، والواو والصاد واللَّام أصلٌ واحد يدلُّ على ضمّ شيء إلى شيء حتى يعلّقه»[5].

يقال: «وصلت الشيء وصلًا وصلةً»[6]، ومنه قوله تعالى ﴿وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾[7]، «والوصل ضد الهجران». والاتِّصال مصدر صناعي من وصل وهو: «أن يكون لأجزاء شيء حدّ مشترك»[8].

ومن خلال تتبّع الأصل اللُّغوي نجد أنَّها كّلها تشير إلى الاشتراك والضم والنَّقل والتَّقارب، وهذا هو جوهر الاتِّصال الذي هو نقل الأفكار وغيرها بين الأفراد والجماعات بما يؤدّي للتَّقارب والاشتراك فيها بما يساهم في التَّفاهم والوحدة.

ب- الاتِّصال الإنساني اصطلاحًا

معظم التَّعريفات الاصطلاحية لمفهوم الاتِّصال الإنساني هي لغربيين، ويوجد قليل من الّتعريفات العربية للاّتصال الإنساني، ومن بينها أنَّه «عملية يستطيع خلالها طرفان أن يصلا إلى حالة من المشاركة التَّامة أو الجزئية في فكرة أو اتِّجاه أو إحساس أو تحفُّز لعمل معيّن»[9].

2- الاتصال غير اللفظي

يعني «الحوار النفسي الذي يجري بين الأطراف المعنية والمعاني المنتقلة بينهم، لا من خلال النطق، بل من خلال الصمت والملامح العامة للإنسان الصامت كنظرات العيون وتعبيرات الوجه وحركات الجسم»[10]، أو هو «كل ما تنقله لغة الجسد أو الأشياء أو الحال من معانٍ للآخرين»[11].

وفي تعريف آخر هو: «إشارات وإيماءات جسدية ترسل رسالات محدّدة في مواقف وظروف مختلفة، تظهر لك المشاعر الدفينة وتخرجها للسطح، فتصل من خلالها معلومات أو أفكار عن الشخص الآخر. بحيث لا يستطيع إخفاء الأفكار التي تدور في ذهنه»[12].

وهكذا يتّضح أنه إذا كان الصمت توقُّفًا عن الكلام اللفظي، فإنه ليس توقّفًا عن الكلام النفسي وبالتالي عن الاتصال، ففي الصمت الكثير من المعاني التي يمكن أن تُعد أساسًا في عملية التواصل والتفاهم بين الناس.

3- التأثير

التأثير هو: «ذلك التغيّر الذي يطرأ على المستقبل للرسالة الإعلامية»؛ فقد تُلفت الرسالة انتباهه ويدركها، وقد يتعلّم منها شيئًا، أو أنه قد يغيّر من اتجاهه النفسي ويكون اتجاهًا جديدًا وقد يتصرّف بطريقة جديدة أو يعدّل من سلوكه القديم[13].

أو هو: «تلك التّغييرات الّتي تحدث لدى المستقبل نتيجة تعرّضه للرسالة، ويعتبر مقياسًا لمدى نجاح المرسل في تحقيق أهدافه من القيام بالاتِّصال»[14].

وكلا التعريفين يُشيران إلى حالة التغيّر التي تطرأ على مستقبل الرسالة ويكون هذا التغيّر في السلوك والمواقف والاتجاهات ويحدث في النفس قبل الجسد.

4- الاتصال بالعين

يطلق على الاتصال بالعين عدّة مصطلحات مشابهة مثل الاتصال البصري، ولغة العيون، يرى رالف أميرسون أن عيون البشر تتحدّث تمامًا كألسنتهم، لكن بميزة واحدة وهي أن لغة العيون لا تحتاج إلى قاموس بل هي مفهومة في جميع أنحاء العالم.

ويشير محمد كشاش إلى أن العين تنطق بأغراض شتّى، شأنها شأن اللسان، ولكن ميزتها في بعض الأحيان الكتمان والتورية[15].

ويمكن تعريفها بعملية نقل وتبادل الرسائل عبر حاسة البصر، بمجموعة من الإشارات كحركة الجفون وذرف الدموع... وموقعية العين.

الاتصال غير اللفظي تأثيره وعلاقته بالاتصال اللفظي

كما يؤثِّر الكلام الذي ينطق به اللسان في نفس السامع وعلاقته بالمتكلّم، فإن الكلام الذي يختفي بين الجوانح ويظهر في قسمات الوجه وعلى العينين، يؤثّر هو الآخر في نفس السامع وموقفه من المتكلّم، من خلال سلوكه أو مشاعره.

ونحاول أن نوضّح ذلك من خلال المثال الذي ذكره الله تعالى في سورة يوسف (عليه السلام) في قوله تعالى: {فلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ لَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ}[16].

حيث إن امرأة العزيز في محاولة لردّ الاعتبار وتبرير فعلتها -رغم خطئها- جمعت نسوة المدينة؛ اللاتي عِبْنَ عليها وقوعها في حب يوسف، في مأدبة وأرادت أن تنقل لهن رسالة بصرية، وتبيّن لهن من خلال المشاهدة من يكون هذا العبد، فكان تأثير هذه الرؤية كبيرًا تعدّدت فيه ردود فعل النِّسوة، ويمكن تفصيل ذلك الّتأثير وما نتج عنه من ردود فعل على الّنحو التَّالي:

أولًا: أن النِّسوة أكبرنه، ولقد تفاوت العلماء في تفسيرها على أقوال:

1- أنَّهن «أعظمنه وهبن ذلك الحسن الرائع والجمال الفائق»[17].

2- وقيل: «إنَّهن حضن»[18]، واستخدام لفظة أكبرنه من الكبر؛ لأن المرأة «بالحيض تنتقل من حد الصغر إلى الكبر»[19]. أو «أن المرأة إذا خافت وفزعت أسقطت ولدها فحاضت»[20]. وفي هذا القول دلالة واضحة على مدى التَّأثير القوي للجمال في النَّفس البشرية بما قد ينعكس على النَّاحية الجسدية.

3- قول آخر: أنّهن لما سمعن بشغف امرأة العزيز به، رسمن له صورةً جميلة في مخيلتهن إلَّا أنّهن لما رأينه على الحقيقة وجدنه أشد جمالًا مما كنّ يتخيلن[21].

وسواء كان الإكبار بمعنى الإعظام والدهشة، أو الحيض، فإنَّه كان مقدمة لردود فعل أخرى، فقد ظهرت آثار الدهشة على شكل سلوكيات، وهذا يّتضح بانتقالي للّنقطة التّالية.

ثانيًا: وقطَّعن أيديهن: لقد كانت الدهشة بمكان، بحيث ذهلت الّنسوة عمَّا في أيديهن من السكاكين ممّا أدّى بهنّ إلى قطع أيديهن قطع إبانة بفصلها عن بقية الجسد أو على الأقلِّ خدشنها[22]، أو «أن القطع كان للأنامل والخدش للأكف».

يقول صاحب البحر المحيط: «{وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} أي جرحنها، والتضعيف للتكثير إما بالنّسبة لكثرة القاطعات، وإما بالّنسبة لتكثير الحزّ في يد كلّ واحدة منهن، فالجرح كأّنه وقع مرارًا في اليد الواحدة، وصاحبتها لا تشعر لما ذهلت بما راعها من جمال يوسف، فكأنّها غابت عن حسها»[23].

لقد كان الجرح شديدًا متكرّرًا، ولم يكن خاصًّا بواحدة بل كان من أكثرية النّسوة، ممّا يدلّل على شدّة تأثير الجمال الظاهر ليوسف عليهن[24]، وبما يؤكّد أن تأثير الحسن حقيقة عامة.

ثالثًا: {قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ}: حاشا كلمة تفيد معنى التنزيه[25]، فهنّ لما شاهدن جماله الفائق ما كان منهن إلَّا تنزيه الله على عجيب قدرته على خلق مثل هذا الجمال الرائع الذي يتميّز به يوسف[26].

رابعًا:{مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ}: ينفين عنه البشرية؛ لأنّهن لم يشاهدن مثل هذا الجمال على أحد من البشر أبدًا، ووصفنه بأّنه ملك، وذلك بناء على ما ركز في الّنفس أن لا شيء أحسن من الملائكة[27].

العلاقة بين الاتصال غير اللفظي واللفظي

هناك علاقة وثيقة بين الاتصالين الناطق والصامت، أدرك الجاحظ بعض هذه العلاقة حيث قال: «والإشارة واللفظ شريكان، ونعم العون هي له ونعم التّرجمان هي عنه وما أكثر ما تنوب عن اللفظ وما تغني عن الخطِّ... وفي الإشارة بالطَّرف والحاجب وغير ذلك من الجوارح مرفق كبير ومعونة حاضرة في أمور يسترها النَّاس من بعض ويخفونها من الجليس وغير الجليس»[28].

وحدد علماء الاتصال مثل مارك ناب[29]، ستة منها هي:

1- الّتنظيم: تنظيم الّتدفُّق الاتصالي بين المشاركين، بمعنى أن الاتّصال الصامت يعطي انطباعًا للشخص ليكمل الحديث أو يتوّقف عنه[30]، ومثال ذلك في القرآن الكريم: قوله تعالى {عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى}[31]، وعبس في وجهه أي ظهر التغيّر والعبوس في وجه القائل، وتولّى في بدنه، أي أعرض، وفي هذا تأنيب لهذا الفعل الاتصالي الذي يُوحي لابن مكتوم بالتوقّف عن السؤال، رغم أنه لا يراه.

2- التناقض: يتحدّث المرء بأمر ما لكن تعابير وجهه أو أفعاله تدلّل على أمر مناقض تمامًا لما تلفّظ به؛ ومثال ذلك قوله تعالى حكاية عن المنافقين {وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ}[32]، فعضّ أطراف الأصابع من المنافقين؛ يظهر نقيض ما كانوا يبدونه للمؤمنين من الإيمان فيظهرون على حقيقتهم ممّا يجدون في قلوبهم من الغيظ والكراهة لما هم عليه. ومثاله في الواقع الإداري: أن يطلب المدير من موظفه أن يحضر له أوراقًا معينة أمام زبون، ثم يُعطيه إشارة من عينه ألَّا يحضرها، فالموظف في هذه الحالة تلقّى رسالتين: الأولى ناطقة، والثانية صامتة؛ والتي كانت أكثر صدقًا بالنسبة للموظف.

3- البديل: الاتّصال الصامت قد يكون بديلًا عن الاتصال اللفظي، ومثاله قوله تعالى {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ في المَهْدِ صَبِيًّا}[33]، فالإشارة هنا وتعبيرات الوجه أحيانًا تغني عن الكلام. قال ميمون بن مهران: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ}، قالت: كلّموه، وقد قال العرب قديمًا: «ربّ إشارة أبلغ من عبارة».

4- التكميل: يمكن للاتصال الصامت أن يكون مكملًا أو معدلًا للرسائل اللفظية، مثل الابتسامة بعد طلب شيء من شخص، أو ضرب المنضدة بعد التفوُّه بعبارة معينة. وكإشارة الرسول بإصبعيه الوسطى والسبابة بعد بيانه استحقاق كافل اليتيم للجّنة، وهذا فيه إكمال بيان لدرجته في الجّنة ومدى التلازم حيث يقول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا»، وأشار بالسبَّابة والوسطى، وفرَّج بينهما شيئًا عنه[34].

5- الّتأكيد: الاتِّصال الصامت كذلك قد يكون مؤكِّدًا للرسائل اللفظية، ونجد مثاله في القرآن الكريم قوله عز وجل {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا}[35] حيث كان عضّ اليدين من الظالم يوم القيامة مؤكدًا على ندمه الذي بيّنه بالقول.

6- الإعادة والتكرار: حيث يقوم الاتصال الصامت بإعادة القول المنطوق، ومثاله: قولُك لشخصٍ ما؛ تعال هنا، ثم تشير إليه.

حركات العين ودورها في عملية الاتصال والتأثير

ليست العيون وسيلة لرؤية الخارج فقط، بل هي أيضًا وسيلة بليغة للتعبير عمَّا في الداخل ونقله للخارج، والمعاني التي يمكن أخذها من العيون كثيرة، فهناك النظرات القلقة المضطربة، وغيرها المستغيثة المهزومة المستسلمة، وأخرى حاقدة ثائرة، وأخرى ساخرة، وأخرى مصمّمة، وأخرى سارحة لا مبالية، وأخرى مستفهمة، وأخرى مُحِبَّة. والإنسان يتعامل مع لغة العيون كوسيلة للتعبير عمَّا في نفسه للآخرين، وكوسيلة لفهم ما في نفوس الآخرين[36].

وقد تحدَّث القرآن الكريم عن لغة العيون، وما تنقله من رسائل، وما تحدثه من تأثير في الآخرين وبين عدة أنواع منها. لكل واحدة مدلولها الاتصالي الذي يختلف عن مدلول الأخريات ومن هذه العيون نذكر:

1- النظرة المزدرية (دلالة الاحتقار): لقد ورد في القرآن ذكر لعين الإنسان في سياقها التواصلي، وذلك عندما تنظر إلى الناس نظرة احتقار واستصغار، كما في قوله تعالى على لسان نبي الله نوح {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ}[37] وتزدريهم في الآية بمعنى تستهين بهم.

والظاهر من سياق الآية أن الخطاب موجّه من نوح (عليه السلام) إلى كفار قومه، الذين كانوا يحتقرون فقراء المؤمنين، فقد دلّت نظرات عيون الكفار بحركة معينة على الاحتقار والانتقاص، ولا شك أن نظرات العيون في هذه الحالة، كانت أعمق في التأثير، وفي الدلالة على معنى الاحتقار، من قولهم: نحن نحتقركم أو ما شابه.

وهكذا تخطئ العين عندما تتخذ من المظهر والوضع الاجتماعي مقياسا لإصدار الحكم، فإما تحكم عليه بالرفعة والشرف أو بالدونية والضعة والحقيقة في أكثر الحالات عكس ذلك.

2- النظرة الشاخصة (دلالة الدهشة): كما ذكر القرآن الأبصار وهي دالة بحركاتها ذكرها وهي دالة بسكناتها، من ذلك حديثه عن الأبصار الخاشعة، وقد وصفها القرآن في قوله تعالى: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ}[38]، وقوله: {وَلَا تَحسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ}[39]، والمعنى «أجفانهم لا تطرف» لشدة ما ترى من الهول.

وهي نظرة شاخصة تكبر فيها حدقة العين، وتصاحبها تعبيرات وجهية تدل على الخوف، وفي «الآيتين وصف دقيق لما يحدث للأبصار حال الخوف من اتّساع حدقة العين، وشدة التحديق بها، وعدم غمضها. وقد ذكر أهل الاختصاص أنه عند الخوف الشديد تتّسع حدقة العين، وفي حالات الفرح والانشراح تميل إلى التضيق»[40].

وقد بيّن ابن منظور أن الشخوص لا يقتصر على البصر وإنما يتعدّاه إلى الكلمة داخل الفم، «فشخصت الكلمة في الفم تشخص إذا لم يقدر على خفض صوته بها» فشاخص الكلمة وشاخص البصر يلتقيان في العجز، فالأول عاجز عن خفض صوت كلمته والثاني عن تحريك عينه[41].

3- النظرة الذليلة (دلالة الضعف): وهي التي يتحاشى صاحبها الأخرين، إحساسا منه بالضعف نحوهم قال تعالى {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ}[42].

«والخشوع حقيقته: الخضوع والتذلل، وهو هيئة للإنسان، ووصف الأبصار به مجاز في الانخفاض والنظر من طرف خفي نظر منبعث من حركة الجفن الخفية. وهي نظرة الخائف المفتضح؛ وهو كناية لأن ذلة الذليل وعزة العزيز تظهران في عيونهما»[43].

إنها حالة الإنسان الخاسر، الذي تيقّن بالهلاك عند عرضه على نار جهنم، فحاله تنبئ عنه، فهو يحرّك أجفانه بذل وخشوع، ويسترق النظر على أمل أَلَّا يراه أحد أو أنه لا يستطيع أن يملأ عينيه برؤية نار جهنم، فيقوم بهذه الحركة الجسدية الدالة على الذلة والهوان، وبأسلوب بليغ عميق مؤثّر، تعطي لمن يشاهد هذا الموقف دلالة واضحة على ذل صاحبها وخوفه، والخزي الذي لحق به جراء تكذيبه وعصيانه.

4- النظرة الخائنة (دلالة كشف المستور): وهي العين التي تخون وتفضح صاحبها وتكشف أسراره ورغباته الداخلية العميقة والتي لا يرغب بالإفصاح عنها.. قال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}[44]، إن التعبير القرآني {خَائِنَةَ الأعْيُن}، يعبّر بدقة مذهلة عن حقيقة هذه الظاهرة. فالإنسان يحاول باستمرار أن يخفي أفكاره، والعين تحاول باستمرار أن تكشف وتفضح هذه الأسرار من دون أن يشعر وكأنها تخونه، فهو تعبير علمي رائع.

جاء في بحث علمي نشر في منتصف 2015 في جريدة الجارديان ما يؤكد هذه الحقيقة بشكل علمي وهو تحت عنوان: How your eyes betray your thoughts أي «كيف يمكن لعيونك أن تكشف أفكارك»! يتحدث عن خيانة betray العين لصاحبها، وقد وجد الباحثون أن سرعة حركة العين وعدد هذه الحركات وشكلها وتوقيتها... كل هذا يمكن قراءته واكتشافه من خلال تقنية التصوير السريع ومعالجة البيانات ببرامج خاصة على الكمبيوتر. ويعتقد العلماء أن هذه الحركات التي لا يمكن أن نرصدها بالعين المجردة، ولكن يمكن تصويرها بكاميرات حديثة، تخبرنا بما يدور في دماغ الإنسان من دون أن يشعر وكأن هذه الأعين تخونه وتفضحه»[45].

5- النظرة المعرضة (دلالة عدم الاهتمام): قال الله تعالى {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}[46].

وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَن {وَلَا تَعْدُ عَيْنَاك عَنْهُمْ} أَيْ لَا تَتَجَاوَز عَيْنَاك إِلَى غَيْرهمْ مِنْ أَبْنَاء الدُّنْيَا طَلَبًا لِزِينَتِهَا؛ حَكَاهُ الْيَزِيدِيّ. وَقِيلَ: لَا تَحْتَقِرهُمْ عَيْنَاك؛ كَمَا يُقَال فُلَان تَنْبُو عَنْهُ الْعَيْن؛ أَيْ مُسْتَحْقَرًا. وهو بِمَنْزِلَةِ لَا تَنْصَرِف عَيْنَاك عَنْهُمْ، وَمَعْنَى لَا تَنْصَرِف عَيْنَاك عَنْهُمْ لَا تَصْرِف عَيْنَيْك عَنْهُمْ، فَالْفِعْل مُسْنَد إِلَى الْعَيْنَيْنِ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَة مُوَجَّه إِلَى النَّبِيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)؛ وَيَزِيدك وُضُوحًا قَوْل الزَّجَّاج: إِنَّ المَعْنَى لَا تَصْرِف بَصَرك عَنْهُمْ إِلَى غَيْرهمْ مِنْ ذَوِي الْهَيْئَات وَالزِّينَة[47].

لقد أشار القرآن من خلال توجيهه للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعدم مجاوزة فئة المؤمنين إلى غيرهم، إلى أن الإقبال بالعين نحو الشخص دليل على الاهتمام به وأن مجاوزته بها دليل الإعراض عنه وعدم الرغبة فيه.

6- العين الممتدة (دلالة الطموح والرغبة): قال الله تعالى: {لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ}[48]، وقال تعالى: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى}[49].

قال الزبيدي: «المدّ طموح البصر إلى الشيء، يقال مَدَّ بصره إلى الشيء، إذا طمح به إليه،... مددت عيني إلى كذا نظرته راغبًا فيه»[50].

وقال سيد قطب: «والعين لا تمتد، إنما يمتد البصر أي يتوجّه، ولكن التعبير التصويري يرسم صورة العين ذاتها ممدودة إلى المتاع، وهي صورة طريفة حين يتصوّرها المتخيّل، والمعنى وراء ذلك ألَّا يحفل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك المتاع الذي آتاه الله بعض الناس، رجالًا ونساءً امتحانًا وابتلاءً، ولا يلقي إليه نظرة اهتمام، أو نظرة استجمال، أو نظرة تمنٍّ، فهو زائل وشيء باطل، ومعه هو الحق الباقي من المثاني والقرآن العظيم»[51].

وقال ابن عادل: «وقرّر الواحدي هذا المعنى فقال: إنما يكون مادًّا عينيه إلى الشيء، إذا أدام النظر نحوه، وإدامة النظر إلى الشيء تدلّ على استحسانه وتمنّيه، وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) لا ينظر إلى ما يستحسن من متاع الدنيا»[52].

وقال الشعراوي (رحمه الله): «والمراد بمدّ العين ليس إخراج حبّة العين ومدّها، ولكن المراد إدامة النظر والإمعان، ولكن الحق سبحانه عبّر في القرآن هذا التعبير، وكأن الإنسان سيخرج حبة عينه ليجري بها، وليمعن النظر، وهذا ما يفهم من منطوق الآية يُشير إلى المفهوم المراد، وهذا عين الإعجاز»[53].

وبالنظر إلى هاتين الآيتين نلحظ الحركة الجسدية المستعملة فيهما، والمنهي عنها، ألا وهي مدّ العين، ودلالاتها الواضحة العميقة هنا، أَلَّا ينظر الإنسان إلى ما عند غيره متمنيًا أن يكون له، حسدًا وطمعًا، لأن هذا الرزق قد يكون ابتلاءً واختبارًا من الله تعالى للكفار أو المؤمنين، واستخدام هذه الحركة الجسدية فيه بلاغة وإعجاز لإيصال المعلومة لنا بعمق وتأثير، ولننتهِ عن هذه العادة الذميمة، ونقتنع بما آتانا الله تعالى من عظيم فضله وجزيل نعمه.

7- النظرة المزلقة (دلالة الحسد): تتحوّل –الأعين- أحيانًا أثناء الاتصال مع الغير من وسيلة نفعية إلى وسيلة إيذائية، وقد ورد ذلك عند حديث القرآن عن أعين الكافرين المصوبة في حسد وعداء، نحو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال الله تعالى: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ}[54].

وتُشير الآية إلى حالة الإيذاء البصري عند الاتصال بالعين، يقول محمد سيد طنطاوي في التفسير الوسيط: «قولهم {لَيُزْلِقُونَكَ} من الزلق بفتحتين وهو تزحزح الإنسان عن مكانه، وقد يؤدّى به هذا التزحزح الى السقوط على الأرض يقال: زلقه يزلقه وأزلقه يزلقه إزلاقًا إذا نحّاه وأبعده عن مكانه، واللام فيه للابتداء، أي لما سمعوا الذكر كادوا يزلقونك، أي وإن يكاد الذين كفروا ليهلكونك أو ليزلون قدمك عن موضعها، أو ليصرعونك بأبصارهم من شدة نظرهم إليك شزرًا بعيون ملؤها العداوة والبغضاء حين سمعوا الذكر وهو القران الكريم»[55].

وعند ابن كثير: قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: «{لَيُزْلِقُونَكَ} لينفذونك {بِأَبْصَارِهِمْ} أي يعينونك بأبصارهم، بمعنى يحسدونك لبغضهم إياك لولا وقاية الله لك وحمايته إياك منهم، وفي هذه الآية دليل على أن العين إصابتها وتأثيرها حق بأمر الله عز وجل كما وردت بذلك الأحاديث المروية من طرق متعددة كثيرة، يقول (صلى الله عليه وآله وسلم): «عَلامَ يَقْتُلُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ؛ إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مِنْ أَخِيهِ مَا يُعْجِبُهُ فَلْيَدْعُ لَهُ بِالْبَرَكَةِ»[56].

8- نظرة الواجب الغض منها (دلالة التعفف): أشار ابن حزم عند كلامه عن مدلول الإشارة إلى دور السلوك البصري في التواصل والتراسل بين المحبين، وكيف أنه به يتواصل وتضرب المواعيد، وأما الجاحظ فقد استشهد في باب دلالات الإشارة بالأبيات التالية:

أشارت بطرف العين خيفة أهلها

إشارة محزونِ ولــم تتكـلـم

فأيقنت أن الطرف قد قال مرحبا

وأهـلا وسهـلا بالحبيـب المتيـم

ويُلحظُ هنا أنَّ الشاعر «نَفَى الكلام اللفظي لا مطلق الكلام، ولو أراد بقوله: «ولم تتكَّلمِ» نفي غير الكلام اللفظي، لانتقض بقوله: «فأيقنتُ أنَّ الطرفَ قدْ قالَ مَرْحبًا»، لأنه أثبت للطرفِ قولًا بعد أنْ نفى الكلام، والمراد نفي الكلام اللفظي وإثبات الكلام اللغوي»[57].

وقال الألوسي: «وكثيرًا ما يَعرف الإنسان مُحبّه ومبغضه من خلال النظر، ويكاد النظر ينطق بما في القلب»[58].

وسدًّا لباب الفتنة أمر الله بوجوب غض البصر قال تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}[59].

ولخطورة السلوك البصري غير المشروع، قدّم القرآن غضّ البصر على حفظ الفرج، من باب تقديم الأسباب عن نتائجها، قال الزمخشري فإن قلت: لِمَ قدّم غضّ الأبصار على حفظ الفروج؟ قلت: لأن النظر بريد الزنا ورائد الفجور[60].

وفي تأثير غضّ البصر في النفس وفي الآخرين فإن غضّ البصر يمنع وصول أثر السهم المسموم إلى القلب، فيقوّي إيمان الإنسان بربه، بما يورث المسلم الفراسة الصادقة والثَّبات والشَّجاعة، وهذا يكسبه مهابة في قلوب النَّاس واحترامًا.

9- العين الباكية (دلالة التمويه): قال تعالى: {وَجَاؤُواْ أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ * قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ * وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ}[61].

في هذا النص القرآني يحاول إخوة يوسف جمع أكبر عدد ممكن من عناصر الاتصال في محاولة لإثبات صحّة الرسالة التي يريدون نقلها إلى أبيهم، فعلى الرغم من أنها رسالة كاذبة في أصلها، إلَّا أنهم حاولوا التمويه من خلال استخدام نوعي الاتصال، الناطق والصامت، وهذا الأخير كان من خلال استخدام لغة العيون، بطريق البكاء بين يدي والدهم –كما نفهم من النص القرآني- هو الرسالة الأولى التي نقلوا الخبر من خلالها. وقد اختاروا لها وقت الظلمة حتى لا ينكشف تصنُّعهم للبكاء فيفتضح أمرهم. ثم استخدموا لغة الإشارة، وذلك من خلال الدم الذي جاؤوا به على القميص، في محاولة للتدليل على صدق دعواهم.

ولا شك أن نقل الخبر بهذه الصورة يجعله أكثر قوة وتأثيرًا. فعلى الرغم من أنَّ البكاء لم يكن إلَّا دموع التماسيح، وأنّ الدم كان كاذبًا -وبغض النظر عن اقتناع سيدنا يعقوب (عليه السلام) بذلك- إلَّا أنّ إخوة يوسف ما جاؤوا بهذه القرائن الصامتة إلَّا لعلمهم بأنها تدعّم موقفهم وتقوّي الرسالة التي يريدون نقلها.

ومن هنا تتجلّى لنا قدرة الأداء القرآني الدقيق في التعبير عن الانفعالات التي توجد في النفس الإنسانية، والتي حاول إخوة يوسف تأخير اللقاء بأبيهم إلى العشاء لستر هذه الانفعالات التي توجد على الوجوه مثل حالة الاضطراب، وافتعال البكاء الذي يناقض كذب ألسنتهم، فتنكشف سيماهم الكاذبة. لذلك يجب على المتحدّث بلغة العيون التنبُّه إلى طبيعة البكاء وحمله على المعنى الحقيقي المقصود. فكم من دمعة تذرف فيحسبها الناظر بكاء وحزنًا، وما درى أن الدمعة تخدعه كما تخدعه الكلمة.

خاتمـة

في نهاية هذه الدراسة لا بدّ من وضع خلاصة تتضمّن عدة نقاط، تمثّل أهم نتائجها، التي استندت إلى ما ورد في هذه الدراسة من محاور وتتلخّص النتائج في الآتي:

1- حرص القرآن الكريم على تنويع طرق إيصال المعاني للمستقبل، فلم يقف عند حدّ الكلام المنطوق وإنما تضمن مواقف تمّ فيها توظيف لغة الجسد، وبيان أهمية هذا النوع من التواصل من خلال آيات قرآنية عديدة.

2- لقد تنوّعت الألفاظ الدالة على الاتصال البصري في القرآن الكريم بتنوّع السياقات؛ ومن تلك الألفاظ: خشع، زلق، شخص، طرف، غضّ، عرض، خان... ممّا يدل على ثراء النص القرآني بمصطلحات اللغة الجسدية ومعانيه الدقيقة.

3- إن تكرار ألفاظ العين بهذا الشكل هو اعتراف بالقيمة الاتصالية الخارجية للعين وضرورة توظيفها في العملية التواصلية بين البشر.

4- للاتصال البصري دلالات عبّرت عن سياقات موقفية مختلفة؛ كالدلالة التواصلية (النظر في خفاء)، ودلالة الحسد (العين المزلقة)، ودلالة الاحتقار (العين المزدرية)، كما أن بعض النظرات التي تصدر عن الانسان في عالم الغيب مثل (الشاخصة، والخاشعة...)، تدل على قدرة العين على التعبير والتواصل في المواقف غير العادية.

5- للعيون دورٌ مهمّ في الاتصال بالآخرين، ولنظرات العيون إلى الآخرين في أثناء التعامل معهم علاقة مباشرة بالأثر المتروك في نفوسهم. ومن هنا فإنّ لهذه النظرات أدبًا خاصًّا لا بد من مراعاته والحرص عليه.

 

 



[1] سورة طه: 131.

[2] سورة النور: 30.

[3] سورة المائدة: 83.

[4] البخاري أبو عبد الله محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، كتاب الاستئذان، بيروت: دار صار، ط1، 2004، برقم (6229).

[5] أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا، معجم مقاييس اللغة، تحقيق وضبط: عبد السلام محمد هارون، دار الجيل، ط1، 1991، ج6، ص 115.

[6] جمال الدين أبو الفضل محمد بن مكرم ابن منظور، لسان العرب، تحقيق: عامر أحمد حيدر، بيروت، لبنان: دار الكتب العلمية،، ط 1، 2003 ج11،ص 868.

[7] سورة القصص: 51.

[8] أبو البقاء أيوب بن موسى الحسيني الكفوي، الكليات معجم المصطلحات والفروق اللغوية، مؤسسة الرسالة، تحقيق: عدنان المصري، ط2، 1993، ص 39.

[9] صلاح الدين جوهر، علم الاتِّصال مفاهيمه، نظرياته، مجالاته، مكتبة عين شمس، 1979، ص 11.

[10] عودة عبد عودة عبد الله، الاتصال الصامت وعمقه التأثيري في الآخرين في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية، الشارقة، ص6.

[11] فاطمة عرفات الحلو، الاتصال الصامت وتأثيره في الآخرين دراسة قرآنیة موضوعية، رسالة ماجستير، كلية أصول الدين، غزة، فلسطين، 2008، ص14.

[12] محمد محمود بني يونس، سيكولوجيا الواقعية والانفعالات، عمان: دار المسيرة، ط 1، 2007 م، ص 340.

[13] جلول خلاف، وسائل الاتصال الحديثة وتأثيراتها على العلاقة الأسرية، رسالة ماجستير، جامعة الأمير عبد القادر، قسنطينة، الجزائر، 2005، ص 34.

[14] نضال أبو عياش، الاتصال الإنساني من النظرية إلى التطبيق، كلية فلسطين التقنية، ط1، 2005، ص 104.

[15] مدحت محمد أبو النصر، مهارات الاتصال الفعال مع الآخرين، من موقع https://books.google.dz/ تاريخ الدخول 24-02-2017.

[16] سورة يوسف: 31.

[17] الألوسي أبو الفضل محمود، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، بيروت: دار احياء التراث العربي، د ط، م12، ص 344

[18] الفخر الرازي، التفسير الكبير، طهران: دار الكتب العلمية، ط2، م17، ص 127.

[19] الزمخشري أبو القاسم محمود بن عمر، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجه التأويل، دار احياء التراث العربي، د ط، د س، م2، ص 317.

[20] الفخر الرازي، التفسير الكبير، مرجع سابق، م17، ص 317.

[21] الشعراوي محمد متولي، تفسير الشعراوي، أخبار اليوم، القاهرة: قطاع الثقافة، ط3، 1991، م11، ص 6934.

[22] ابن جرير الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ضبط: صدقي جميل العطار، بيروت: دار الفكر، ط1، 2001، ج12 ص 4816.

[23] أبو حيان الأندلسي، تفسير البحر المحيط، بيروت، لبنان: دار الكتب العلمية، ط1، 2001 ج5، ص 346.

[24] عبد الرحمن بن ناصر السعدي، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، بيروت: مؤسسة الرسالة، ط1، 1996، ص 352.

[25] الزمخشري، الكشاف، مرجع سابق، م2، ص 317.

[26] المرجع نفسه، م2، ص 317.

[27] المرجع نفسه، م2، ص 317.

[28] الجاحظ، البيان والتبيين، بيروت، دار الجيل، د ط، ج1، ص 43

[29] Knapp, mark L. Nonverbal Communication in Huma Interaction-New York: Holt, Richard and Winston co., 1972, p9 - 12.

 

[30] صالح خليل أبو إصبع، الاتِّصال والإعلام في المجتمعات المعاصرة، عمان، الأردن: دار آرام للدراسات والنشر والتوزيع، ط 3، 1999 م، ص 43.

[31] سورة عبس: 1-2.

[32] سورة آل عمران: 120.

[33] سورة مريم: 29.

[34] البخاري أبو عبد الله محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، كتاب الطلاق - باب اللعان، مرجع سابق، رقمه 5304.

[35] سورة الفرقان: 27.

[36] عوض بن محمد القرني، حتى لا تكون كَلًّا طريقك إلى التفوق والنجاح، جدة: دار الأندلس الخضراء، ط6، 1999، ص126.

[37] سورة هود: 31.

[38] سورة الأنبياء: 97.

[39] سورة إبراهيم: 42.

[40] عدنان شريف، من علم الطب القرآني، بيروت: دار العلم، ط6، 2005، ص 298.

[41] ابن منظور، لسان العرب، مرجع سابق، ص45.

[42] سورة الشورى: 45.

[43] محمد الطاهر ابن عاشور، التحرير والتنوير، بيروت: مؤسسة التاريخ العربي، ط1، 2000، م13، ص 277.

[44] سورة غافر: 19.

[45] عبد الدائم الكحيل، آفاق متجددة في إعجاز القرآن الكريم والسنة المطهرة، من موقع:http://www.kaheel7.com/ar

تاريخ الدخول 21-02-2017.

[46] سورة الكهف: 28.

[47] محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي أبو عبد الله، الجامع لأحكام القرآن، القاهرة: دار الكتب المصرية، ط2، 1964، ج13 ص134.

[48] سورة الحجر 88.

[49] سورة طه: 131.

[50] محمد بن محمد بن عبد الرزاق الزبيدي، تاج العروس من جواهر القاموس، دار الهداية، د.ط،، دس، ج9 ص 155.

[51] سيد قطب، في ظلال القرآن، بيروت: دار الشروق، ط13، 1987، ج4 ص 2154.

[52] أبو حفص عمر بن علي بن عادل، تفسير اللباب مج، بيروت: دار الكتب العلمية، د.ط، د.ت، ج1 ص 3167 .

[53] محمد متولي الشعراوي، تفسير الشعراوي، مرجع سابق، ص 1874.

[54] سورة القلم 51.

[55] سيد محمد طنطاوي، التفسير الوسيط للقرآن الكريم، القاهرة: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 1998، ص321.

[56] إسماعيل بن كثير، تفسير القرآن العظيم، الرياض، السعودية: دار طيبة للنشر والتوزيع، ط2، 1999، ص201.

[57] عودة عبد عودة عبد الله، الاتصال الصامت وعمقه التأثيري في الآخرين في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية، مرجع سابق، ص42.

[58] الألوسي أبو الفضل محمود، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، مرجع سابق، ج26، ص78.

[59] سورة النور: 30.

[60] الزمخشري، الكشاف، مرجع سابق، ج 4 ص 289

[61] سورة يوسف 16-17.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة