شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
بعد عشرين عاماً من الصدور..
كل عام وأنتم كلمة
إدريس هاني
مضى زمن ليس بالقصير على نشأة تجربة تحمل مشروعاً فكريًّا ونهضويًّا تمّ التعاقد عليه قبل عقدين من الزمان. هو عمر رحلة من العطاء والتفكير لمجلّة الكلمة. التي لم تأتِ من فراغ. بل هي ثمرة ما قبلها من سنوات من الانشغال بسؤال النهضة والتجديد.
منذ عشرين سنة وهذه المجلة تكدح كدحاً جميلاً وقلقاً أيضاً، لم تكبُ كبوة واحدة في الصدور ولا عثرت عثرة واحدة خارج ثقافة التسامح والحوار والتقارب. وفي الغالب تعرَّف القارئ إلى هذه التجربة من خلال خطابها الذي ناضل قدر الوسع في زمن مبكّر لكي يكون خطاباً إيجابيًّا يجمع ولا يُفرّق.يستنهض ولا يُميت. يهتم بقضايا الفكر الإسلامي والإنساني في كل مستوياته حيث كان هذا هو المطلوب. أن نخاطب الجميع لا أن نخاطب طبقة محصورة، خطاباً للأمّة وليس خطاباً لنخبة.
رفضنا قبل عقدين ما من شأنه تعكير صفو هذا العالم العربي والإسلامي الذي غرق فيما يكفيه من ثقافة التفرقة والتجزئة وثقافة الاستئصال والإساءة. نبذناه تحت طائلة حرصنا على نهضة الأمّة وليس تحت أيَّة طائلة سياسية أو قانونية أو سلطة ما غير سلطة الفكر والمسؤولية الفكرية. وكانت رقابتنا ذاتية والكل يعرف حدوده.
حافظت المجلة على هذا الذوق الإصلاحي وعلى نهجها بالقدر نفسه الذي حافظت على موعد صدورها. في ذكرى (عشرين عاماً) من صدورها، لا زلت أذكر المخاض الذي تولَّدت فيه هذه التجربة. كانت الحاجة إلى الكلمة حاجتنا أولاً قبل أن تكون حاجة المتلقّي. فلقد بدأنا نملّ من الخطاب الأيديولوجي المتحيّز والمتحجّر غير المفتوح وغير المحاور وغير المسؤول. فالفكر المسؤول يُحسن الإنصات للآخر. ويُؤمن بالتجديد. ويُحسن التقاطع مع المختلف على أرضية مشتركة للنقاش.
بدأ يتبلور اتِّجاه لدى المؤسسين على أنّ الحاجة إلى الفكر الحر والنقدي والارتقاء بالخطاب ليستجيب لأسئلة التقدُّم والاجتهاد والتجديد بات أمراً ناجزاً. واستمر هذا الإحساس حتى جاء الجواب ذات ليلة حين أخبرني كلّ من الصديقين الأستاذ زكي الميلاد والأستاذ محمد المحفوظ أنّه جاء الفرج، وأنّ ما نبغيه تحقق، وأنّ مرحلة جديدة من العطاء والإنجاز قد بدأت. لم نكن في حاجة إلى ميثاق أيديولوجي لكي نتدبَّر الموقف، فلقد أدرك الجميع ما يفكّر فيه الآخر بحكم المعايشة والعلاقة والانشغال والتجربة.
لقد كان حلماً مشتركاً، والكلّ يشعر بما بشعر به الآخر. ذلك لأنّ الكلّ نما وترعرع بيولوجيًّا وثقافيًّا تحت أعين البعض الآخر. فلقد ساهم في نجاح هذا المشروع كوننا في مجلة الكلمة على معرفة وعلاقة ببعضنا منذ بداية الشباب.فالأحاسيس مشتركة والطموح مشترك والقلق مشترك والحلّ مشترك. اللحظة التأسيسية كانت تعكس الرغبة في التحدِّي والمسؤولية في الوقت نفسه. حين تمّ تدبيج العدد الأول بمحاذير ما يجب أن ينشر أو لا ينشر كان المقياس هو المجتمع وما يُصلحه لا ما يفسده. رفضنا قبل غيرنا ومنذ هذا التّاريخ كل خطاب فيه إثارة لأي نعرة تعصبية دينية أو عرقية أو طائفية.
كان همّنا النهضة والسمو بالفكر لخدمة قضايا الأمة. أمّا الإخوة الذين ساهموا في التأسيس فلهم تاريخ في الإسهام بالجواب عن أسئلة النهضة ولا زالوا. الأستاذ زكي الميلاد شخص كنت شخصيًّا أكاد أوقّت ساعتي على حركته، فهو شديد الانضباط، ومهووس بسؤال النهضة، واهتم اهتماماً سابقاً برموز فكر الإصلاح، وكتب عن مالك بن نبي، ثم كتب عن محمد إقبال. الأستاذ المحفوظ هو مشروع نهضوي وتربوي يمشي على الأرض، ومأخوذ أخذاً خاصًّا بالفكر السياسي. والحقيقة أنّني نهضوي جدًّا ولكن شقاوة النقد كانت تخلق لي بعض المتاعب والحساسية، لقد كنت متّفقاً على نهج خطاب الإصلاح والنهضة، ولكنّي كنت ولا زلت أتمنى للمجلة ألَّا تأسر نفسها في خطاب نهضوي بصورة أيديولوجية تُغيّب السؤال النقدي.
فلا شكّ أنّها انفتحت على نقاد كثيرين لكنها لم تنفتح على نصوصهم النقدية كلها. أقصد بالنقد هنا ما من شأنه أن يخلط أوراق الفكر ليُحفّز إلى المزيد من التفكير والتفكّر. كانت الحساسية هنا ليست ضد النقد ورسالته، وإنما طغى على المجلة الخوف على رسالتها الإصلاحية والتقريبية. وربما حصل تقدُّم هادئ في مسار النقد ولكنه غير كافٍ على الأقل بالنسبة لما أعتقده من حقيقة النقد ووظيفته. لكن أهمّ شيء كان يجمع بيننا قبل الفكر وبعده هو الميثاق الأخلاقي الذي يُؤطّر السياسة الفكرية بأهدافها النبيلة التي تضع رسالة الإصلاح نصب عينيها. فنحن نعرف بعضنا جيداً، ونختلف كإخوة داخل البيت الواحد، وعلاقتنا قريباً تبلغ عقدها الثالث، وكان الأصدقاء يتحمّلون شقاوة ما نقدم عليه من أعمال نقدية قد لا يتَّفقون معها، لكن كانت الأمور تمشي على مستوى رفيع من التسامح والتفهُّم.
وجدت المجلة لها شريحة من القرَّاء في المغرب، وعلى الرغم من كثرة الانشغالات والأسفار كنت بين الفينة والأخرى ومن منطلق تمثيلي للمجلة في المغرب أحاول استكتاب شرائح معيّنة، ولقيت قبولاً حسناً من القراء، إذ لا يخلو بيت أو مكتبة لا توجد فيها المجلة لا سيما لمن كان يتعاطى الفكر الإسلامي أو الفكر العربي. وحرصنا أن تكون هناك لجنة علمية استشارية من كل الاتجاهات والأفكار، كمؤشّر على أنّ رسالة المجلة هي للأمّة جميعاً ولكل مستويات الفكر، ولا زال هذا هو اعتقادنا. وكان من نصيبي أن طرحت فكرة الاستشارة على شخصين اعتقدت حينئذٍ أهمية انضمامهما إلى المجلة، وكان الإخوة في إدارة المجلة مرحبين بهما، وأقصد كلًّا من الدكتور فتحي عثمان (رحمه الله) والدكتور طه عبد الرحمن.كان الأوّل مفكراً إسلاميًّا رائداً غادر مصر وقضى حياته في كالفورنيا، وكانت له مشاركة في المجلة. أما د. طه عبد الرحمن فقد كان مفكّراً مغربيًّا مثيراً للجدل في تسعينات القرن الماضي ولا يزال.
فضَّلت المجلة أن تُنوِّع في نوعية ومستوى خطابها ليشمل أكثر من فئة، وابتعدت عن المحاور الغارقة في التخصص والنخبوية؛ لأن رسالتها عامة تستهدف كل شرائح القراء. فالجانب التربوي حاضر فيها، فلا يمكن الحديث عن تنمية الوعي من دون استهداف الفئة التي في طريق النمو. وهكذا كان الإغراق في الأبحاث التخصصية التي لا تساهم في وعي المتلقّي باتجاه سؤال النهضة والإصلاح ليست هدفاً للمجلة. وقد حافظت على هذا النوع من الاعتدال والجمع بين العمق والتبسيط، بين رسالة الفكر ورسالة المجتمع. وفي هذا الإطار اهتمت المجلة بملفات ساخنة في مجال المجتمع المدني والعولمة والفكر التربوي ودراسات المستقبل والفن وفلسفة الجمال وهلم جرَّا، وقدَّمت أبحاثاً رائدة في هذا المجال.كما قدمت نصوصاً مترجمة في مناحي شتّى من الفكر الإنساني والكثير من الاختصاصات.كما نشرت قراءات في كتب أعلام فكرية متنوعة، وغطَّت أنشطة وفعاليات فكرية مختلفة في باب التقارير، وكذا نشرها لملخصات عن رسائل وأطاريح جامعية ومؤلفات ومنشورات حديثة.
لا زالت المجلة تعتقد بأنها ستبقى شاهداً على عصر يتطلَّب مزيداً من الإصرار على رسالة التقدُّم والإصلاح والنهضة. لم نيأس بعدُ من هذا المطلب الحضاري، لكن وجب أن تُدرك المجلة وندرك معها أنّ العالم يتغيَّر وأنّ خطابنا يجب أن يُواكب حركة التغيير تلك.فلا شكّ في أنّ الزمان يمرّ أمامنا مرور السحاب، وأنّ الخطاب النهضوي لما قبل عشرين سنة ليس هو نفسه خطاب اليوم. هناك أجيال ينسخ بعضها بعضاً. وهي غير مدركة لتلك الكليشهات التي تُشكِّل خلفيات رسالة الفكر السابقة. هناك هموم جديدة لم تكن يومها قد ظهرت، وهناك مقاربات استجدَّت في هذا المجال. هذا دون أن نغفل أنّ أصحاب المجلة هم أيضاً لم يتوقَّفوا في تنمية إمكاناتهم وقدراتهم؛ لأنّهم نهضوا بهذا الجهد في زمن مبكّر ونهضوا بعبء رسالة ثقيلة لم يتحمَّلها أقرانهم يومها، وهذا مدخر في رصيد هذه التجربة التي كبرت معنا وكبرنا معها.
وفي الختام لا زلت مؤمناً بجوهر رسالة الكلمة من حيث أبعادها التربوية التي تستنهض الوعي، كما لا زلت مؤمناً بمنابذتها كلّ فكر غير مسؤول يُثير ما من شأنه التشجيع على الفرقة والتجزئة. فهي رسالتنا سبّاقون إليها منذ ما قبل تأسيس المجلة التي كانت مجرَّد تتويج لها، ولكنّي لا زلت غير مقتنع بالوتيرة التي تسلك عليها المجلة في مجال رسالة النقد الذي يهدف إلى تطوير المعرفة. فتنمية الفكر لا تقوم إلَّا على رسالة النقد الجريء ولكنه المسؤول أيضاً. لست بالضرورة مع فعل خرق الطابوهات بالضرورة وبلا شروط، بل مع ما يمكن أن نُسميه تدبير الطابوهات وفتح مساحات جديدة فيما لم يُفكَّر فيه أو إعادة التفكير فيما تم التفكير فيه. تظل القيمة المضافة لمجلة الكلمة في كونها رسمت سياسة فكرية تقوم على احترام رسالة الفكر المسؤول كلها، وتحمل رسالة تسامح للمختلف كله حتى لو تعذّر على المجلة القبول بنشر بعض المقالات وهو نادر ما يحصل، فذلك لاعتبارات تخص سياستها القاضية بعدم الإساءة؛ لأنّ رسالتها إصلاحية نهضوية تهدف نشر التسامح الفكري والديني والإنساني. نعم، لكل تجربة مهما كانت إمكاناتها نقائص وهنَّات، ويظل الكمال هدفاً أمامنا نسعى أن نتطوَّر في اتِّجاهه. وكل عام وأنتم كلمة.
شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
يحاول الكاتب محمد محفوظ في 166 صفحة أن بضيئ الحديث عن السلم الأهلي والمجتمعي، في الدائرة العربية والإسلامية، بحيث تكون هذه المسألة حقيقة من حقائق الواقع السياسي والإجتماعي والثقافي، وثابتة من ثوابت تاريخنا الراهن.
ينتمي مالك بن نبي وعبدالله شريط إلى بلد عربي إسلامي عانى من ويلات الاستعمار ما لم يعانه بلد آخر، سواء في طول الأمد أو حدة الصراع أو عمق الأثر. إنهما مثقفان عميقا الثقافة، مرهفا الشعور، شديدا الحساسية للمعاناة التي عاشها ملايين الجزائريين من ضحايا مدنية القرن العشرين، بأهدافها المنحطة وغاياتها الدنيئة.
عقد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات خلال الفترة الواقعة بين 6 و 8 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2012، مؤتمرًا أكاديميًّا عنوانه «الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي: تجارب واتّجاهات»، في فندق شيراتون بالدوحة، وشهد الافتتاح حشدًا كبيرًا من الباحثين والأكاديميّين من دول عربية.
يأتي الاهتمام بالقضية الفنية في فكر الأستاذ عبدالسلام ياسين من منطلق أن الوجود الحضاري للأمة كما يتأسس على أسس القوة المادية التي يمليها منطق التدافع القرآني أي التدافع الجدلي بين الخير والشر الذي هو أصل التقدم والحركة، يتأسس كذلك على جناح تلبية الحاجات النفسية والذوقية والجمالية بمقتضى الإيمان الذي هو ...
ثمة مضامين ثقافية ومعرفية كبرى، تختزنها حياة وسيرة ومسيرة رجال الإصلاح والفكر في الأمة، ولا يمكن تظهير هذه المضامين والكنوز إلَّا بقراءة تجاربهم، ودراسة أفكارهم ونتاجهم الفكري والمعرفي، والاطِّلاع التفصيلي على جهودهم الإصلاحية في حقول الحياة المختلفة
لا شك في أن الظاهرة الإسلامية الحديثة (جماعات وتيارات، شخصيات ومؤسسات) أضحت من الحقائق الثابتة في المشهد السياسي والثقافي والاجتماعي في المنطقة العربية، بحيث من الصعوبة تجاوز هذه الحقيقة أو التغافل عن مقتضياتها ومتطلباتها.. بل إننا نستطيع القول: إن المنطقة العربية دخلت في الكثير من المآزق والتوترات بفعل عملية الإقصاء والنبذ الذي تعرَّضت إليه هذه التيارات، مما وسَّع الفجوة بين المؤسسة الرسمية والمجتمع وفعالياته السياسية والمدنية..
لم يكن حظ الفلسفة من التأليف شبيهاً بغيرها من المعارف والعلوم في تراثنا المدون بالعربية، الذي تنعقد الريادة فيه إلى علوم التفسير وعلوم القرآن والحديث والفقه وأصوله، واللغة العربية وآدابها، وعلم الكلام وغيرها. بينما لا نعثر بالكم نفسه على مدونات مستقلة تعنى بالفلسفة وقضاياها في فترات التدوين قديماً وبالأخص حديثاً؛ إذ تعد الكتابات والمؤلفات في مجال الفلسفة، ضئيلة ومحدودة جدًّا، يسهل عدها وحصرها والإحاطة بها.