شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
الإسلام
بين الحداثة وما بعد الحداثة
الدكتور فريد أمعضشـو*
* كاتب وباحث من المغرب، البريد الإلكتروني: farid.amaadachou@yahoo.fr
الكتاب: الإسلام بين الحداثة وما بعد الحداثة.. مواقف ومواقف مُضادّة.
المؤلف: جميل حمداوي.
الناشر: نشر المعرفة – الرباط.
الصفحات: 160 من القياس الوسط.
سنة النشر: الطبعة الأولى، 2014م.
يعدّ المجال الفكري أحدَ المجالات المعرفية التي اهتمّ بها –وما يزال– الدكتور جميل حمداوي، الذي يشتغل –كما يقول– «ضمن رؤية أكاديمية موسوعية»، أساسُها الخوضُ والتأليف في ميادين علمية وأدبية وفنية متعددة ومتنوعة. وله في هذا المضمار عددٌ من الدراسات والأبحاث المنشورة في كتب مستقلة مثل كتابه الموسوم بـ«قطوف من حدائق الفكر»، الصادر بالرباط، عام 2013م، أو في أعمال مشتركة وفي دوريات وصُحف وطنية وعربية، ورقية وإلكترونية، وهي من الوفرة بمكان. ولعلّ أحدثها كتابُه «الإسلام بين الحداثة وما بعد الحداثة: مواقف ومواقف مُضادّة»، الصادر في شتاء 2014، عن دار نشر المعرفة بالرباط، والذي سنحاول تقديم مراجعة أو قراءة له، عبر سبع نقاط أساسية.
- 1 - نبـذة عن الكـتاب
الكتابُ الذي بين أيدينا إصدارٌ فكريّ للباحث المغربي المعروف جميل حمداوي، عرف طريقه إلى المكتبات وإلى سوق القراءة مؤخراً، يقع في 160 صفحة من القِطْع المتوسّط، موزّعة على فصلين كبيرين غير متكافئين كَمّيًّا (72 ص. في الفصل الأول – 51 ص. في الفصل الثاني)، ومقدمة وخاتمة مركزتين، علاوة على مدخل، بمثابة تقديم، تعْدادُ صفحاته عشرٌ، بقلم المفكر السعودي أ. زكي الميلاد، عَنْوَنه بعبارة تعكس مضمونه الرئيس، نصُّها «الحداثة والاجتهاد.. مُقاربة فكرية جديدة».
وقد استهلّ د. حمداوي مؤلَّفَه بفِقْرة إهدائية موجّهة إلى والديه، حُبْلى بالاعتراف بالجميل وبالإحسان اللامحدود الذي غمراه به منذ مولده، وإلى جميع إخوته وأفراد أسرته، وإلى كل مَنْ علّمه حتى أمسى كاتباً ذا صيت داخلي وخارجي. وتحتلّ أكثر فضاء وجه غلاف الكتاب صورة معبِّرة، طافحة بالدلالات، تشير العناصر المؤثثة لها إلى الأقانيم والمكوّنات الأساسية لبنية العنوان والمؤلَّف كله، وهي: الإسلام، والحداثة، وما بعد الحداثة.
يتناول الكتابُ رُمّتُه إشكالية فكرية معقدة أثارت سجالاً ونقاشاً ملحوظين في العصر الحديث، وما تزال مستمرة بشكل أو بآخر، إنها إشكالية علاقة الإسلام بالحداثة، سواء الأولى أو الثانية (ما بعد الحداثة). بحيث سلّط الباحثُ الضياء على واقع هذه الإشكالية، وتطوُّر معالجتها في السياق الثقافي العربي الإسلامي خصوصاً، متوسِّلاً بـ«منهج نقدي فكري قائم على التأريخ والتحقيب والأرْشَفة الببليوغرافية، واستعراض المعلومات والمواقف، وتقويم الآراء في ضوء مجموعة من الأدلة والحُجَج والبراهين النصية والعقلية»[1].
- 2 - بين الاجتـهاد والحـداثة: من التمـايز إلى التقـارب
إن بحث العلاقة بين الاجتهاد والحداثة أهمُّ ما ركّز عليه زكي الميلاد في «التقديم» الذي خصّ به كتاب جميل حمداوي، قيد القراءة. فمع إقراره بأن الحداثة مُنتَج غربي حديث، تشكّل -عبر مراحل- استجابةً لمجموعة من التطورات والتحولات التي شهِدَها المجتمع الأوروبي، منذ بواكير عصر النهضة، إلَّا أنه لا يُنكر إسهاماتٍ فكرية وعلميةً جادت بها عقول المسلمين مُذ القرن الميلادي السابع، تقترب كثيراً من هذه الحداثة، وتتقاطع معها في المرتكزات والأسس التي تنبني عليها، وتتجسّد تلك الإسهامات فيما أطلق عليه، في السياق العربي والإسلامي، «الاجتهاد»، بوصفه مفهوماً إسلاميًّا صرفاً. بل إنه يزعم أن الاجتهاد هو المفهوم الأصيل الذي بإمكانه أن يقوم مقامَ الحداثة، بوصفها مفهوماً ابتكره الغربيون، وقصّروه –بكثير من التعسف– على كِيانهم الحضاري وتاريخهم وجغرافيتهم، مؤكِّدين أن الحداثة شأن غربي ابتداء وانتهاءً، وكأن الأمم والثقافات الأخرى لا حظَّ لها من الحداثة، ولا إسهامَ لها في بناء صَرْحها الكوني!
يقول أ. الميلاد: إن «مفهوم الاجتهاد، في المجال الإسلامي، هو المفهوم الذي يعادل، أو الذي بإمكانه أن يعادل، مفهوم الحداثة في المجال الغربي»[2]. ويقول في موضع آخَرَ: «الاجتهاد إذاً هو المفهوم الذي ينتسب إلى الحضارة الإسلامية، ويقارب مفهوم الحداثة الذي ينتسب إلى الحضارة الغربية»[3].
ويستند الكاتب، لتأييد رأيه هذا والمنافحة عنه، إلى تشابه العناصر الجوهرية التي يقوم عليها المفهومان معاً، وإنْ اختلفت مرجعيتهما، وهي: العقل والعلم والزمن[4]. ذلك بأنهما يُعطيان العقل والمنزع العقلاني اعتباراً خاصًّا، ويحثان على التفكر وإعمال الذهن واستفراغ الوُسْع في مجالات دراسة الأفكار والنظريات والأحكام. ويدعوان إلى الاستزادة من المعارف، والتفقّه فيها، والانفتاح على آفاق بحْثية وعلمية أرْحَب وأشْسَع. كما يُلحّان على الارتباط باللحظة الحضارية، ومواكبة النوازل والمستجِدّات وتغيرات الزمن، وتقديم الحلول لِما يطرأ من إشكالات وقضايا في حياة الإنسان...
وبناءً على هذه المقاربة، يخلص زكي الميلاد إلى أن التمايُز الذي يمكن رَصْدُه بين مفهومي الحداثة والاجتهاد، في جوانبَ بعينها، لا يعني الفصل الصارم ولا التخارُج النهائي بينهما، بل إن ما يجمع ويؤلِّف بينهما أكثر ممّا يفرّق. لذا، لم يتردّدْ في تأكيد التقارب الشديد بين المفهومين، الذي يصل به بعضُهم إلى حدّ المطابقة بينهما.
وبفضل الاجتهاد استطاع أبناء الأمة الإسلامية أن يحققوا مُنْجَزات مهمة جدًّا، وأنْ يرْتقوا بمجتمعهم ويُبوِّئوه مكان الصدارة، في عالم الأمس، على امتداد قرون من الزمن. وظل بابه مفتوحاً في المجالات التي يجوز فيها إعمال آلية الاجتهاد إلى وقتٍ متأخر حين بدأنا نسمع دعوات شاذة تنادي بخلاف ذلك! وقدّم مُجْتهِدُو الأمة إجابات شافية عن كثير من المسائل والقضايا برُكوب هذه الآلية، بما تستتبعه من تدبر وتفكر وعقلانية.
يقول أحدُ الباحثين المغاربة: «مفهوم الاجتهاد إبداع إسلامي محض، نشأ في أحضان الحضارة العربية الإسلامية، ورضع من ثديها، وأصبح فيما بَعْدُ سلاحَ المسلمين لمواجهة التحديات، وتكييف العديد من الأفكار في المناخ العربي الإسلامي. وبه استطاع المسلمون التفاعل مع الحضارات الأخرى أخذاً وعطاءً، وضمنوا انفتاحهم على باقي الحضارات المُتاخِمة لهم في الشرق والغرب. كما استطاع مفهوم الاجتهاد أن يحسم الصراع في العديد من القضايا التي طرأت في الأمة، ولم يوجَدْ حكمٌ لها في مصادر التشريع الأخرى»[5].
إن هذه الدينامية الاجتهادية التي ميّزت الدولة الإسلامية إلى حين تراجع سلطانها، وأفول نجمها، تعكس الحداثة في أوضح تجلياتها، وتنمّ عن أنّ المسلمين مارسوا الحداثة وعاشوها، حتى وإنْ لم يستخدموا مصطلحها، وحتى إنْ تمايزت – في كثير من الجوانب – عن تلك التي امتدّت إلينا من الغرب حديثاً عبر قناة الاستعمار، الذي نجمت عنه مثاقفة واحتكاك بالآخر المتقدم علميًّا وتقنيًّا.
يقول د. محمد سلام شكري مؤكداً هذه الفكرة: «صحيح أن الحداثة، في أصلها ونشأتها، غربية التحقق والتطور، إلَّا أن أفكار الحداثة تشكَّلت عبر اجتهادات ذاتية ومشاريع فكرية فردية لم تكتمل شروط تبلْوُرها كمشروع مجتمعيّ وتاريخي.. إنها أفكار واجتهادات ابن رشد والرازي والتوحيدي وابن خلدون وابن المقفع ذِكْراً لا حصراً. إلَّا أن الحداثة في دلالتها الغربية لم تهُب رياحُها على العرب والمسلمين إلا في القرن التاسع عشر، وقبله بقليل في نهاية القرن الثامن عشر أثناء حملة نابليون على مصر؛ حيث انتزعت أصواتُ مدفعية الفرنسيين بشواطئ الإسكندرية العربَ من سُباتهم التاريخي الطويل ليتأكّد، وبالملموس، تأخرهم التاريخي مقارنةً بالنصارى»[6].
ومثلما كان الاجتهاد عاملاً أساسيًّا في ازدهار الأمة العربية والإسلامية قديماً، وفي تقدمها على مختلِف الصُّعُد والمستويات، فإنه يظل اليومَ، كذلك، إحدى أبرز الآليات التي يُراهَن عليها لانتشال هذه الأمة من أوحال التخلف والتقهقر والتقليد والتخبط والاضطراب، وللدخول بها إلى عالم الحداثة كما تبلور غربيًّا.. عالم العولمة والتكنولوجيا المتطورة والثورة الاقتصادية والمعرفية، بعد التحرر –إلى حد ما– من سطوة الماضي، وضغط الذاكرة، دون أن يعنيَ ذلك –بطبيعة الحال– القطيعة مع الماضي/ التراث مطلقاً، وإغفاله تماماً!
وقد ألْفَيْنا مفكرين كُثْراً يربطون نهوض الأمة اليوم، وارتقاءَها من جديد في مدارج العلم والفكر والتحضر، بإعمالها آليةَ الاجتهاد على أوسع نطاق. ومنهم د. محمد أيت حمُّو الذي أكّد أنه «لن يدخل الفكر العربي المعاصر عالم الحداثة بالنقل الآلي لتراث الأنا أو لتراث الآخر، وإنما بالاجتهاد»[7].
- 3 - في تعـريف الحـداثة وما بعد الحـداثة
إن الدارس المتتبِّع لِمَا كُتِب ويُكتب في هذا الإطار يلمس، بوضوح، غياب تعريف نهائي، يكون «جامعاً مانعاً» بلغة المَناطِقة، للمفهومين، وإنْ كانا كَثيريِ الدَّوران في كتابات الباحثين المعاصرين وخطاباتهم، سواء في السياق الثقافي الغربي أو العربي الإسلامي.
ويزداد هذا التّأبِّي على قبول تعريف واحد، متفق عليه، حين يتعلق الأمر بالمفهوم الأول. فمصطلح «الحداثة» (Modernité) يعد من أكثر الاصطلاحات حضوراً في مشهدنا الثقافي، منذ عقود؛ ولذا تُنُووِل كثيراً، واهتم به دارسون من تخصصات معرفية شتى، وجاءت تنظيراتهم وتعريفاتهم لمفهومه متعددة ومختلفة ومتضاربة أحياناً؛ نظراً لعدة اعتبارات.
فإذا أخذنا، على سبيل المثال، الجهد المميَّز الذي بذله عبدالله العروي في سياق سعيه إلى تحديد ماهية الحداثة، نجد أنه قد قدّم، ها هنا، نظرات عميقة، واجتهادات رصينة، كانت محطّ تقدير وتثمين لدى الكثرة الكاثرة من الباحثين والمهتمين بموضوعة الحداثة. ورغم أنه لم يستعمل مصطلح «الحداثة» في كتاباته الأولى، في الستينات والسبعينات، إلا أن مفهومها «صاحَبَه تاريخاً وفكراً وسياسة وإبداعاً، وصادَقَه صداقة العقل والوُجْدان. بل يمكن القول: إنّ مجمل كتاباته التاريخية والفكرية والإبداعية والسياسية والمنهجية كانت تحُوم، ولعقود عدة منذ مؤلَّفه التدشيني – المرجعي «الأيديولوجية العربية المعاصرة»، حول الإجابة عن إشكالية الحداثة ومآزقها وعوائقها، ودور الوعي التاريخي في تجاوز التأخر في الوطن العربي».
وبمُكْنة الباحث الوقوفُ على مضمون تلك الحداثة ومقتضياتها ومرتكزاتها ونحو ذلك ممّا يمتّ بصلة إليها في جملةٍ من المفاهيم المتردِّدة في كتابات العروي، مِنْ مِثل: التحديث، والإصلاح، والوعي التاريخي، والحرية، والدولة الحديثة، والعقلانية، والفردانية، والتقدم، والتاريخانية، والتغيير، والعلم، والمثقف، والصيرورة، والنسبية، والحاضر، والمستقبل، والثورة[8].
ولكنّنا نلحظ في كتاباته التالية حضور الحداثة، مفهوماً ومصطلحاً معاً، وإيلاءَها مزيداً من العناية العلمية والتنظيرية سعياً إلى كشف النقاب عن جملةٍ من عوائقها، وإلى تبديد الغموض الذي طالما لفّ مفهومها غربيًّا وعربيًّا.
يقول العروي في إحدى هذه الكتابات متسائلاً ومُجيباً: «بدايةً ما الحداثة؟ لقد قمْنا بإعطاء تعريفات عدة لها: تعريف تاريخي، تعريف اقتصادي، تعريف سوسيولوجي، تعريف فني... إلخ. فما هو أساسي، بالنسبة لمَعْنايَ، هو ما أسمّيه بمعنى اللحظة التي أنا بصدد الإشارة إليها. فالسؤالُ الأساس هو: مِن أيّ مظهر نبدأ، وإلى أي مظهر ننتهي؟ في الغرب يكون المفهوم بادياً عند المؤرخين؛ كما عند المؤرخ جيل ميشولي وعند المؤرخ جاكوب بوكارت، ثم عند الاقتصاديين، ثم لدى رجال الأدب إلخ...»[9].
فالعروي يشير إلى أن المفهوم عابر للمجالات المعرفية والحياتية عموماً، ولم يكن قطّ وقفاً على الاقتصاد أو التاريخ أو غيرهما؛ ولذا كثُر الخائضون فيه، وتباينت آراؤهم وأقوالهم في تحديده على نحو واضح؛ فترى للحداثة مفهوماً أو مفاهيم اقتصادية، وأخرى اجتماعية، وأخرى تاريخية، وأخرى أدبية... على أن هذه المفاهيم/ التعريفات أوْضَحُ في السياق الغربي مقارنة بغيره من السياقات الثقافية والحضارية، ومنها – طبعاً – سياقنا نحن.
ولكن الأساسي، في تصور العروي لمفهوم الحداثة، أنها تحيلنا على لحظة أو حدث تاريخي أو صيرورة واقعية عرفتها أوروبا الغربية بدايةً من عصر النهضة، وبلغت أوْجَها انطلاقاً من القرن الثامن عشر، الذي مَيَّزَه عقل أنواريّ أفضى إلى بناء غربٍ جديد أكثر تحديثاً وحداثةً من ذي قبْلُ، سطعت شمسُه على العالم كله، بما رسّخه من مبادئ وقيم معروفة.
ثم إن هذه الحداثة لم تتحققْ دفعة واحدة، ودون مقدمات وممهّدات، بل حصلت عبر مراحل متعاقبة، وتبلورت بفضل جملة من التحولات المفصلية في التاريخ الأوربي الحديث، وما تزال في طور الإنجاز والتشكّل والاغتناء، وليست لحظة ناجزة تامة! إنها صيرورة تاريخية غير مكتملة بعْدُ. وهي نسبيةٌ لا مُطْلَقة، بشرية لا حاصلُ قدر غيبيّ أو مشيئة علوية؛ أي إنها «فعالية الإنسان وقيمة دوره التاريخي في صناعة مصيره واختياراته، وفي إبداع مشاريعه الفكرية المتنوعة والمركّبة، كمرايا مجسّدة لقدرته على السيادة الحرّة لذاته ومسؤولية أفعاله، وكذا امتلاك ملكاته العقلية التي لم يعد يخشى استعمالها في معرفة قوانين الطبيعة، والسيطرة عليها، وتنظيم عقلاني محكم لمجالاته المشتركة في المجتمع أو الدولة»[10].
ومن سِمات الحداثة، أيضاً، أنها زمنية وتاريخية لا تاريخٌ أو تحقيب لأفكار، وأنها دينامية ومتغيرة لا ساكنة وثابتة، وأنها منشغلة باللانهائي وباللّامُنْجَز لا بالمنتهي والمنجز.
ويؤكد العروي أن الحداثة جَدَليّة تقوم على الصراع بين المتناقضات، وتتخذ طابعاً كونيًّا وتمايُزيًّا في آن واحد. يقول أحد دارِسِي مفهوم الحداثة لدى العروي: «إن مفهوم الحداثة في فكر عبد الله العروي هو مفهوم موسوم بالصراع والجدل والتنافس والفعل المنجز المسؤول والسيرورة التاريخية والزمانية والنسبية والمعضلة التاريخية والمقاربة التاريخانية والعلمنة والتمايز والكونية. أي إن الحداثة هي حداثة منطق الفكر الحديث المُضادّ لمنطق الفكر التقليدي؛ منطقِ العالم العتيق الوسيطي. فهي تعد، بحسب المؤرخين، الحصيلة النهائية للثورات المتتالية التي عرفتها الحضارات الإنسانية. وعلى هذا الأساس، ميّز العروي بين المنظور الستاتيكي الذي ينبني على العلاقة التضادّية بين الحداثة والتقليد، والمنظور الديناميكي الذي يتأسّس على التحديث والتقليدانية؛ أي بين منطق الحداثة وسيرورة التجارب التاريخية للتحديث»[11].
ولئن كان بعضُهم يرى أنّ علاقة الحداثة بالذاكرة/ الماضي مبنية على القطيعة والانفصال، وأنهما يقفان على طرفيْ نقيض، وينتميان إلى زمنين متباينين تماماً، إلَّا أنّا نجد كثيرين يُلِحُّون على قوة الرابطة بينهما، على أساس أن الحداثة تتوقف على الانطلاق من التراث، واستلهامه في تشييد أي نموذج حداثي أو تحديثي أو تنموي. وأوروبا الحديثة نفسُها لم تَبْنِ حداثتَها الملحوظة إلَّا بالاستناد إلى تراثها اليوناني والروماني، والاستفادة منه ومن تراث أمم أخرى كذلك.
والأمر نفسه ينسحبُ علينا نحن؛ إذ ليس بالإمكان بناء حداثة حقيقية قوية من فراغ، أو من خلال استيراد منجزات الآخَر المختلف عنا حضاريًّا وثقافيًّا، والاكتفاء بها وَحْدَها، بل يلزم العودة إلى موروثنا الغني، وفرز الجوانب المضيئة والمشرقة فيه للانطلاق منها في بناء الحاضر، واستشراف المستقبل؛ وعليه، نفهم الزمن على أنه سلسلة متصلة الحلقات، يأخذ لاحِقُها برقاب سابقه.
على أنّ هذا لا ينبغي أن يتخذ صورة اجترار حرفي للماضي، بل يتعيّن التعامل مع التراث الأصيل بعقلية جديدة، وبآليات منهجية جديدة، وقراءته قراءةً نقدية جادّة وواعية وموضوعية تسجّل ما له وما عليه معاً.
ولعل مِنْ أبرز الدعاة إلى التعامل النقدي العقلي والبنيوي العلمي مع التراث المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري، فهو يؤكد أن الحداثة «لا تعني رفض التراث، ولا القطيعة مع الماضي، بقدر ما تعني الارتفاع بطريقة التعامل مع التراث إلى مستوى ما نسمّيه بـ«المُعاصَرَة»؛ أعْني مواكبة التقدم الحاصل على الصعيد العالمي»[12].
ويُضيف الجابري في موضع آخر، أنه «بدون التعامل العقلاني مع تراثنا لن نتمكن قطّ من تعميم الممارسة العقلانية على أوسع قطاعات العقل العربي المعاصر؛ القطاعِ الذي يُنعت بالأصولي حيناً، والسلفي حيناً آخر. كما أنه يبدو بدون هذه الممارسة العقلانية على معطيات تراثنا لن يكون في إمكاننا قط تأصيل العطاءات الفكرية التي يقدّمها، أو بالإمكان أن يقدّمها، قطاع آخر من فكرنا العربي المعاصر»[13].
إن الحداثة، إذاً، صيرورة تاريخية مستمرة، لانهائية، يُسْهم في بلورتها الماضي والحاضر معاً، وتنفلت من إسار القولبة والتسييج داخل إطار زمكاني قارّ ووحيد، وترتبط بالإبداع والاجتهاد والتقدم والانفتاح والدينامية والنسبية والعلم والتمدُّن والتحضر والعقل والنزعة المنهجية التجريبية، وتحيلنا مباشرةً على الديمقراطية والتِّقانة الحديثة والدولة المدنية والمِلْكية الفردية وحقوق الإنسان وحرياته العامة والخاصة.
ويكشف البحث في الحداثة ومفاصلها عن وجهين بارزين لها؛ وجه ظاهر محسوس، ووجه باطن غير محسوس. فأما الأولُ فيتجلى في بُعْدها المادي الشكلي؛ أي في المخترَعات والمنجزات العلمية والتكنولوجية لموجة الحداثة الغربية.
وأما الثاني فيتمثل في الحداثة العقلية والنظرية المؤسَّسة على «منطق الفكر الحديث»؛ بتعبير مفكرنا الكبير عبد الله العروي. ويسمّي المفكر الجزائري محمد أركون الوجه الأول بـ«التحديث»، بوصفه «مجرد إدخالٍ للتقنية والمخترعات الحديثة (بالمعنى الزمني للكلمة) إلى الساحة العربية أو الإسلامية»، على حين يسمي الثاني بـ«الحداثة» من حيث إنها «موقف للروح أمام مشكلة المعرفة»[14].
وتربط بين الحداثة والتحديث علاقة جدلية تلازمية؛ لأن الحداثة الفكرية عامل أساسٌ وجوهريّ لقيام التحديث داخل المجتمع، ولأن أي عملية تحديثية تتوقف على خلفية نظرية مسبّقة وعلى حداثة عقلية تكون فاعلاً في إحداثها بالضرورة. ومن هنا، يَغدو البُعْدان وجهيْن متكاملين للحداثة، ولا يُتصَوَّر قيامها، واقعيا، في غياب أحدهما.
ويبدو أن مفهوم «ما بعد الحداثة» (Postmodernité) لا يقل غموضاً والتباساً عن السابق، ويعكس ذلك حجم السجال المُثار حوله، والتباين في تمثّل مدلوله، وتعدّد التعريفات المقدمة له، التي تصل أحياناً حدّ التضارب؛ كما هو الأمر بالنسبة إلى مفهوم «الحداثة». ولعل هذه الأسباب هي التي تفسّر قلة الاهتمام به على صعيد الفكر والنقد العربيين المعاصرين. على أن ذلك ما كان ليمنع من ظهور كتابات، في سياقنا الثقافي، في الآونة الأخيرة، تحاول تحديد دلالته، وبيان أسسه وخواصّه، وتتبّع نشأته وتطوره.
فقد عرّفه الباحث المصري د. سمير سعيد حجازي بأنه «حركة فكرية فلسفية ونقدية هدفُها التحرّرُ من المركزية ومن الأسس العقلانية العلمية، وهدم النظام والقواعد والمنطق وكافة المبادئ التي نهض عليها مشروع الحداثة الغربية، وجعل وظيفة النقد الإنشاء بواسطة الانطباع والرومانسية الفردية التي تطمس معالم الأثر الجوهرية، وتلغي كافة ثوابته وأدواره الإنسانية والحضارية»[15].
وعرّف د. جميل حمداوي، بتفصيل، ما بعد الحداثة بأنها «مجموع النظريات والتيارات والمدارس الفلسفية والفكرية والأدبية والنقدية والفنية التي ظهرت بعد الحداثة البنيوية والسيميائية واللسانية؛ لتقويض الميتافيزيقا الغربية، وتحطيم المَقولات المركزية التي هيمنت على الفكر الغربي منذ أفلاطون؛ كالأصل، والهُوية، والعقل، والصوت... مُستخْدِمةً في ذلك آليات التشتيت والتفكيك والتشكيك والتغريب والتأجيل. وتقترن ما بعد الحداثة بفلسفة الفوضى والعدمية والتقويض واللامعنى واللانظام»[16].
يُفهَمُ من هذين التعريفين، ومن تعاريف مفهومية أخرى، أن ما بعد الحداثة حركة أو نظريات ارتبطت بثلاثة مجالات رئيسة، هي: المجال الفكري، والمجال الأدبي النقدي، والمجال الفني.
وعليه، فإنها شأنٌ تناوله الفلاسفة ونقاد الأدب والفنانون، وإنْ كان هؤلاء الأخيرون سَبّاقين إلى الإبداع والخوض في تيار ما بعد الحداثة؛ ذلك بأن هذا الأخير ظهر –كما يقول بعض مؤرِّخي المذاهب والأفكار– في سبعينات القرن التاسع عشر، في ميادين الرسم والتشكيل والعمارة، مع جون واتكنز تشابمان (J. W. Chapman)، بخلاف آخرين يعودون به إلى زمن متأخر؛ بحيث يذكرون أن أول من استخدم مصطلح «ما بعد الحداثة» هو المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي (A. J. Toynbee)، حوالي سنة 1954 [17].
ومن الحقل الفني انتقلت ما بعد الحداثة لتكتسح سائر المجالات: الفلسفة، والنقد الأدبي، والإبداع، وعلم الاجتماع، والاقتصاد، والسياسة. وإنْ اختلف حضورها، وتلوَّن بتلويناتٍ من مجال لآخر، تَبعاً لاختلاف هذه المجالات نفسها أحياناً؛ الأمرُ الذي يخوّل لنا الحديث، في هذا الصدد، عن «ما بعد حداثات» لا عن «ما بعد حداثة واحدة»؛ كما هو الشأن بالنسبة إلى الحداثة عَيْنِها.
ولعل من أهمّ النظريات والاتجاهات والمذاهب النقدية والفكرية والفنية في «ما بعد الحداثة»: التفكيكية، والهِرْمينوطيقا، والفينومينولوجيا، وجمالية التلقي، والنقد الثقافي، والنقد النسوي، ونظرية الجنوسة، والمقاربة التداولية، والنظرية النقدية لمدرسة فرنكفورت، والتاريخانية الجديدة، والنقد البِيئي، ونظرية ما بعد الاستعمار، والنظرية العرقية[18].
وقد ظهرت هذه النظريات والتيارات انطلاقاً من منتصف القرن الماضي، بعد البنيوية ومدارسها المختلفة، في اللغة والنقد وغيرهما.
ويؤكد دارسون أن ما بعد الحداثة ظهرت، في الغرب، لتصحيح مسارات الحداثة، وتقويم أوَدِها، وتجاوز عثراتها ونقائصها؛ ولذا، يحلو لبعضهم وَسْمها بـ«الحداثة الثانية». وقد حمل لواء هذه الحداثة جملة من الأعلام، الذين تركت أفكارهم تأثيرات واضحة في الفكر والأدب الغربيين، وفي آداب وثقافات أخرى، ومنهم على سبيل التمثيل: جاك دِريدا، وميشيل فوكو، وجان بودريار، وجان فرانسوا ليوتار، وجيل دولوز.
إن فلسفة ما بعد الحداثة ونقدها، وكتاباتها عموماً، ترمي إلى تحقيق أهداف عدة، أشار التعريفان السابقان إلى بعضها؛ ذلك بأن ما بعد الحداثة تتوخى الثورة والتحرر من المقولات المحورية التي رانت على الفكر الغربي قديماً وحديثاً، وتقويضها وهدمها؛ من مثل الدالّ والمدلول، واللسان والكلام، والحضور والغياب، والعقل والمنطق، والجوهر، والأصل، والوجود، والصوت، ونحوها من الأسس التي قامت عليها الحداثة الغربية.
وهي إذ تعمل على هدمها وتفكيكها ونقدها، فإنها تروم –بالمقابل– البناء، أو إعادة البناء بالأحْرَى، والإنشاء «بواسطة الانطباع والرومانسية التي تطمس معالم الأثر الجوهرية، وتلغي كافة ثوابته وأدواره الإنسانية والحضارية»؛ على حد قول سمير حجازي.
وذكر د. حمداوي أن التفكيك وتحطيم أسس الميتافيزيقا الغربية التي سادت أرداحاً متطاولة من الزمن كان بواسطة تشغيل آليات التشتيت والاختلاف والتغريب والتأجيل.
واستعرض الباحث نفسُه غايات أخرى تستهدف تحقيقَها ما بعد الحداثة، تحت عنوان «مرتكزات ما بعد الحداثة لدى الغربيين»؛ ومن أبرزها التشكيكُ في ثوابت الحداثة الغربية ويقينياتها، وانتقاد الخطاب الرسمي الغربي والمؤسسات التي تروّجه، والسعي إلى تحرير الإنسان من سلطانها ومن أوهام الأيديولوجيا والميثولوجيا وفلسفة التمركز التي تجدّ لترسيخها ونشرها بشتى السبل، وتحطيم الحدود بين الأجناس الأدبية، والاستخفاف بنظرية الأدب المبنية على التصور الأرسطي الكلاسيكي الممتدّ إلينا من القرن الخامس ق.م.
وتتّسم ما بعد الحداثة بسمات أخرى كثيرة، سَرَد حمداوي عدداً منها في قوله: «تتميز نظريات ما بعد الحداثة عن الحداثة السابقة بقوة التحرر من القيود والقواعد، والانفكاك عن اللوغوس والتقليد وما هو متعارَف عليه، وممارسة كتابة الاختلاف والهدم والتشريح، والانفتاح على الغير عبر الحوار والتفاعل والتناصّ والتعايش، ومحاربة لغة البَنْيَنَة والانغلاق والانطواء، مع فضح المؤسسات الغربية المهيمنة، وتعرية الأيديولوجيا البيضاء، وعقلية الإنسان السوبرمان، والاهتمام بالمدنّس والهامش والغريب والمتخيّل والمختلف، والعناية بالعرْق واللون والجنس والأنوثة وخطاب ما بعد الاستعمار...»[19].
كما تمتاز ما بعد الحداثة، لدى الغربيين، بفَوْضَوِيتها وعدميتها، وبنشر اليأس والشكوك، وباللانظام واللاانسجام، وبطابع الغموض والغرابة إلى حد كبير، وبدلالات نصوصها العائمة التي تفضي إلى الإبهام وغياب المعنى، وبهيمنة خطاب الصورة البصرية...[20]
- 4 - الحـداثة وما بعد الحـداثة: سـياق النـشأة والتطـور
إن الحداثة والحداثة البعدية مُنتَجان دخيلان على ثقافتنا وعلى واقعنا، ظهراً في فضاء حضاري مُخالِف لفضائنا، هو الغرب، ولا سيما أوروبا الغربية، في زمنين متباعدين. ذلك بأن الحداثة لحظة تاريخية مفصلية عاشتها أوروبا منذ بدايات عصر النهضة، أواخرَ القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر، وهو عصر تميّز بالاكتشافات الجغرافية، وبدْء مسلسل أوروبا التوسعي الإمبريالي خارج حدودها، واستعمارها عدداً من المناطق في إفريقيا وآسيا وأمريكا، واستغلالها مقدَّراتها وخيراتها المختلفة.
وتميَّز –قبل ذلك– بالثورة على النظام الفيودالي وعلى الإكليروس والنفوذ الكنسيّ الذي عانت منه أوروبا طَوالَ العصر الوسيط، الذي يُوصَف –في كثير من الكتابات– بأنه «عصر الظلمات» والتخلف والتردّي اجتماعيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا وثقافيًّا، في أوروبا بطبيعة الحال.
وكان لصعود الطبقة البورجوازية الأثر الحاسم في قيام هذه اللحظة الحضارية المُشرقة التي توّجت، في القرن الثامن عشر، بلحظة أخرى أكثر إشراقاً وتقدّماً، بفضل ثورات اقتصادية وعلمية وفكرية عرفتها أوروبا الغربية بداءةً، ونشرت أضواءها لاحقاً على عموم هذه القارّة وخارجها.
وهذا ما يدل على أن الحداثة الغربية تطورت وتشعبت وتقوَّت بمرور الزمن إلى أن بلغت ذُرْوتها، قبل أن يعقبها طور الأفول والتراجع، وظهور حركة أخرى على أنقاضها. وتلك سُنة ثابتة تخضع لها الحداثات والحضارات كلها؛ كما سبق أن أبرز عبد الرحمن بن خلدون، في مقدمته، لدى حديثه عن الدورة الحضارية للأمم والدول.
يوضح الباحث المغربي محمد سلام شكري سياق ظهور الحداثة الغربية قائلاً: «ترتبط الحداثة بسياق تاريخي تعالق، بشكل كبير، مع سيرورة الفصل بين الشأن الديني والشأن السياسي، وذلك بعد صراع ضد المؤسسة الدينية الكاثوليكية التي فرضت وصايتها العقائدية والسياسية، وبسطت احتكارها الاقتصادي للإقطاعيات الأوروبية طيلة العصر الوسيط؛ حيث تمَّ قلبُ الفهم البشري وفق منهج جديد يعتمد على قراءة الطبيعة ككتاب مفتوح، عوضَ قراءة الكتاب الديني كطبيعة أولى مُعْطاة»[21].
وقد استمرّت هذه الحداثة إلى حدود ستينات القرن الماضي لتتجسّد في «حداثة ثانية»، ذات خصوصيات ومميزات عديدة ألْمَمْنا بجملة وافرة منها سابقاً. وعلى امتداد هذه المسيرة الزمنية الطويلة خضعت لحركة مدّ وجَزْر، ولثنائية الانبساط والانقباض، ولم تكن خطّيةً تتّبع مساراً تطوُّريا تصاعُديا فقط.
لقد حملت الحداثة، شأنَ ظواهر وأفكار كثيرة، بذور تراجعها بين جنباتها؛ هذه البذور قادت إلى ميلاد حركة ما بعد الحداثة قبل نصف قرن من الزمن أو يزيد. الأمر الذي جعل من خصائص الحداثة –كما يقول عبد الله العروي– أنها «تربّي في ذاتها ضدها».
ويُبيّن الباحث حسن بيقي هذه الفكرة بقوله: «لا حداثة دون حداثة مضادة كما يرى مفكرنا العروي؛ فهي تَحْبَلُ في أحشائها بنقيضها، بل هو مواكبٌ لحياتها على نحو دائم. وبعبارة أخرى، فما يضادّ الحداثة ليس عَرَضاً طارئاً من أعراضها، أو تابعاً من توابعها، أو مُلْحَقاً من لواحقها، وإنما يعدّ مكوّناً جوهريًّا في بنية الحداثة ذاتها. فكلما تقدمت الحداثة وترسّخت في الأذهان وفي المجتمع وفي الشعور، تعالت أصواتٌ محذِّرة من مفعولاتها وتداعياتها على مصير حياة الإنسان، وتهافت قيمه العقلية والأخلاقية والفنية»[22].
وعلى غرار ما بعد الحداثة، فقد ظهرت الحداثة أولاً بين صفوف رجالات الفن، في إيطاليا، خلال القرن الخامس عشر. ثم انتقلت، تباعاً، خلال القرون الثلاثة الموالية، إلى ميادين العلم التجريبي والفلسفة والسياسة، قبل أن تعمّ سائر مجالات المعرفة والحياة.
وفي الواقع، فـ«ليس هذا التمرْحُل بمثابة اختصار تبسيطي لتحولات الحداثة، بل هو عنوان يشي بوجود حداثات، ويعلن أن الحداثة الحقيقية بدأت بلغة الجسد والتفات الفنانين إلى قيمة التجسيم والتمثيل للرموز الدينية في أعمال فنية تحتفل بالجمال الطبيعي، وضمنه الجمال البشري، بالعودة إلى الجمال المتعالي والمجرد والذي يتجلى لدى الجماعة المُؤمنة في الجمال الإلهي»[23].
وبخصوص السياق العربي والإسلامي، نجد دارسين كثراً يتحدثون عن «حداثة إسلامية» قائمة منذ القديم، ذات خواصّ محددة تجعلها مغايرة لتلك التي عرفها وعاشها الغرب منذ عصر النهضة الأوربية.
ويرى آخرون أننا بدأنا نطرح قضية الحداثة، ونتساءل عنها، في وقت متأخر ميّزه انتقال الغرب المتقدم إلى الطور الموالي للحداثة. وهو ما يخلق هوة عميقة وسحيقة بيننا وبين الغرب، ويجعل أمر لَحاقنا به بعيد المنال، وإن لم نقل متعذراً الآن!
يقول د. أحمد الطريبق: «لقد أسّس الغرب الحداثة كواقع مباشر، وعاشه كأمر مُحايث واقعي في الزمان والمكان. بينما ظل المسلمون يُمْعنون في الأفول، وحمل الأثقال على العقل، وإجادة الغوص في الظلام، وينظرون بدهشةٍ إلى ما يحصل من لمعان وحياة في الضفة الأخرى، ثم يتساءلون: لماذا؟ وكيف؟ في الوقت نفسه الذي كان فيه نيتشه ينتقد بعنف الحداثة نفسها، ويدعو إلى ما هو أبعد! من الواضح أننا، في القرن التاسع عشر، حينما كان الإصلاحيون والنهضويون يطرحون سؤال الحداثة، كان مفكرو الغرب يطرحون سؤال ما بعد الحداثة. إنها مُفارَقة غريبة ومعقدة وصعبة! كيف نطرح سؤال الحداثة في زمنٍ كانت هذه الأخيرة تشهد الأفول والنهاية؟!»[24].
ويجتهد لفيفٌ من دارسينا ومفكِّرينا في تأصيل الحداثة في سياقنا الخاصّ، ويبحث آخرون عن حداثة إسلامية من خلال سعيهم إلى لَمْلَمَة عناصرها والتقاطها من تراثنا الغني والمديد.
وبعيداً عن هذا النقاش، نرى ضرورة الإقرار بما يعد حقيقة، في نظرنا، وهو أن المسلمين قد عرفوا الحداثة، بمفهومها غير الضيّق الذي يحصرها –تعسفاً– في المجال الحضاري الغربي الحديث، وعاشوها في المشرق والمغرب الإسلاميين، ونقلوها إلى جهات وأمم أخرى كثيرة. وهي حداثة تولّدت من سياقها الذي انبثقت فيه، وحملت طوابع ثقافية وحضارية خاصة.
إنها حداثة مستمَدّة من الوحي الرباني، قرآناً وسُنّة، وموفِّقة بين متطلبات الدنيا والآخِرة، وبين ما هو مادي وما هو روحي، على نحْوٍ متوازن ومُحْكم، وموجّهة إلى الناس كافةً بحُكْم عالمية رسالة الإسلام. يقول تعالى: {وَمَا أرْسَلْنَاكَ إلَّا كَافّةً للنّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً، وَلَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُون}[25].
وقد امتدّت هذه الحداثة من مجيء الدعوة الإسلامية وهي حداثة حقيقية، إنسانية، سامية، قيمية وروحية، مطلقة ومثالية، مدنية وعملية ومادية. لذا، وُصفت بالخيرية، والكونية، ورفعة مبادئها، وتميُّز قيمها.
وعلاوة على هذه الحداثة، التي سمّاها د. حمداوي «حداثة الدعوة الإسلامية»، عرف المسلمون، منذ القرن 3هـ، فتراتٍ حداثية متعاقبةً ثلاثاً، هي: الحداثة العباسية التي تزامنت مع حقبة ازدهرت فيها الدولة الإسلامية في شتى الميادين الحياتية، وغلب عليها الطابع العلمي والفكري والسياسي.
ثم «حداثة الحركة السلفية»، بعد عصر الانحطاط والضعف والركود والانقسام، والتي كان وراءها مصلحون ونهضويون ومفكرون شغَلَهم، طويلاً، بحْثُ إشكالية تقدم الغرب الإمبريالي، وتأخُّر الشرق/ المسلمين! فجاءت آراؤهم وإجاباتهم، ها هنا، متفاوتة ومتعددة؛ بحيث إن منهم مَنْ أرجع سبب تخلف المسلمين، وتراجع إشعاع حداثتهم، إلى تفكك أوصال الدولة الإسلامية، وانتقالها من نظام الخلافة إلى «المُلْك العَضُوض»، وابتعاد أبنائها عن النبع الصافي لدينهم، وعن سنة الأسلاف ونمط حياتهم، قبل أن يدبّ الخلاف إلى صفوف المسلمين.
لذا، فقد رأى هؤلاء –وأقصد تحديداً السيد جمال الدين الأفغاني– أن السبيل إلى الإصلاح والنهضة والحداثة واستعادة المجد الضائع إنما يكون بالتمسُّك بالدين في أصوله الثابتة، والاحتذاء بسيرة السلف الصالح عقيدةً وعَمَلاً، والوحدة ونبذ التفرقة والتشتت السياسي والمذهبي، والاهتمام بالعلم والعقل. وقد كانت صحيفة «العروة الوُثقى»، التي أسّسها الأفغاني، بمعية تلميذه محمد عبده، في باريس، منبراً لترويج هذه الأفكار ونشرها في وقتٍ كان العرب والمسلمون يواجهون تحديات صعبة من جرّاء الاستعمار الغربي الغاشم، وضعف بُنى مجتمعاتهم الداخلية اجتماعيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا وثقافيًّا.
ويتفق شكيب أرسلان مع الأفغاني في أنّ سبب انحطاط المسلمين وتخلفهم يكمن في الابتعاد عن دينهم، وجهلهم بشريعتهم. وعليه، فإن الطريق القويمة إلى النهضة والتنمية والتنوير، حَسَبَه، تتجلى في الحداثة الدينية القائمة على الوحدة، وفهم الدين فهما صحيحاً، وتلازم القول والفعل، وكذا التضحية والجهاد واسترخاص كل غالٍ ونفيس نُصرةً للإسلام والمسلمين.
إذ يقول أرسلان، في كتابه «لماذا تأخر المسلمون؟ ولماذا تقدّم غيرهم؟»، إن «الواجب على المسلمين لينهضوا ويتقدّموا، ويعرجوا في مصاعد المجد، ويترقّوا كما ترقى غيرهم من الأمم، هو الجهاد بالمال والنفس، الذي أمر به الله في قرآنه مرات عديدة، وهو ما يسمّونه اليوم التضحية».
ولا بد من ربط دعوته/ كلامه هذا باللحظة التاريخية التي عاش فيها؛ حيث كانت معظم الأمة يرزح تحت نير الاستعمار الإمبريالي الجَشِع، الذي توسّل بكل الوسائل لإخضاع العرب والمسلمين تمهيداً لاستغلال خيرات بلادهم واستنزافها.
وإذا كان الاثنان قد ركّزا، في دعوتيْهما لإخراج الأمة من بُوتَقة التخلف والضعف والانهزام، على الحداثة الدينية، وعلى الاعتصام بحبل الله، وترك التشتت وعوامل الفُرْقة، فإن الشيخ محمد عبده –مع مناداته أيضا بهذه الحداثة، ودعوته إلى الوحدة واتباع نَهْج السلف في تحقيق النماء والتقدم وتسيُّد العالم خلال القرون الأولى– يُلِحُّ على أن يطال الإصلاح مجالات أخرى كثيرة في حياة المسلمين، مع تركيزٍ أوْضَحَ على مسألة التربية والتعليم وإشاعة العلم، بوصف ذلك المدخل الضروري إلى كل تحديث أو إصلاح أو تنوير؛ لأنه اعتقد –كما يقول د. محمد عمارة– أن «التربية هي العصا السحرية التي تغيِّر كل شيء، وتبدّل كلَّ سَلبي فتجعله إيجابيًّا، وتعدّل كل منقوص فتجعله كاملاً، وتطلق كل مقيّد فتجعله متحرِّراً»[26].
وذهب السُّوري عبد الرحمن الكواكبي، في كتابه «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، إلى أن مردّ تخلف المسلمين، وتراجع أنموذجهم الحداثي، إلى ساستهم وسياستهم تجاه الرعية، والتي كانت قائمة على الحكم الفردي الإطلاقي، وتغييب مبدأ الشورى، والاستبداد الذي عَدَّه أصْلَ كل فساد، وأكّد أنه يرمي إلى التفقير والتجهيل والاستغلال والاستئثار بكل شيء.
ومن هنا، كان لا مناص من أن يركّز الكواكبي، في دعوته، على الحداثة السياسية، بوصفها السبيل إلى النهوض والتقدم والتحديث المأمول، وقد ربط ذلك بالتحرر من الاستبداد، وإرساء مؤسسات الشورى والعدالة السياسية، ونشر قيم الحرية والعلم والوعي. ولا شك في أن دافع الكواكبي إلى التركيز على هذه الحداثة بعَيْنِها ما كان يعيشه العالم العربي من وضع سياسي مُزْرٍ تحت حكم العثمانيين، الذين سَنّوا سياسة التتريك في تعاملهم مع هذا العالَم...
وأوْلى المصري قاسم أمين اهتماماً كبيراً للحداثة الاجتماعية من خلال تركيزه، في دعوته الإصلاحية النهضوية، على المرأة، بوصفها نصف المجتمع أو المجتمع كله؛ فنادى بتعليمها، ومعاملتها معاملةً تليق بها، وإعدادها من كافة النواحي لتكون عنصراً فاعلاً في المجتمع، ولتُسْهم، بإيجابية، في تقدم هذا الأخير وتنميته والارتقاء به.
ومنهم من رأى أن الحداثة الاقتصادية والعلمية والتقنية هي سبب تقدم الآخَر، وتقهقرنا في سلم التحضر والتمدّن... إلخ.
وتتمثل اللحظة الحداثية الأخيرة فيما أسْماه المؤلِّف «حداثة السلفية الجديدة»؛ كما تجسّدت في اجتهادات أنور عبد الملك، وعادل حسين، وطارق البشري، وحسن حنفي، وأضرابهم.
وترتكز هذه الحداثة، التي قامت على أنقاض سابقتها، على ثلاثة أسس[27]؛ أولها بناء حضارة إسلامية مستقلة ومتمايزة؛ بحيث لا تكون عالة –في وجودها– على التجربة الحداثية الغربية، ولا تتأسس علاقتها بها على الانبهار والاستلاب، بقدر ما تنبني على التعامل الواعي معها، من موقع النِّدّية والتدافع المتكافئ بينهما.
وثانيها تمثُّل الوحْي سلوكاً ومنهجَ حياة، وهنا يظهر البُعْد السلفي في هذه الحداثة. وآخرُها الانطلاق من الذات الأصيلة في أي عملية تحديث أو تنوير أو نهضة، دون أنْ يعني ذلك التقوقع عليها، بل إنها لا تجد حرجاً في الانفتاح على الآخرين، المختلفين عنّا، والتفاعل معهم أخذاً وعطاءً، شرْطَ التحلي بروح ناقدة متبصِّرة لدى إرادة الاستفادة من ثمار الحداثات الأخرى، ولا سيما الغربية الحديثة التي سجّلت إنجازات مُبْهِرة في عدة مجالات.
وظهرت ما بعد الحداثة، في السياق الثقافي الغربي، خلال النصف الثاني من القرن 20، ردَّ فعل على البنيوية اللسانياتية، وعلى هيمنة جملة من المقولات المركزية، التي تحيل على السيطرة والاستغلال والأيديولوجيا البيضاء...، في الغرب. وكذلك استجابةً للتطور الذي عرفه هذا الأخير، في العصر الحاضر، في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والتكنولوجية والإعلامية.
وتأثراً بالواقع الأوروبي الجديد الذي ميّزته فلسفات وأيديولوجيات واتجاهات متعددة ومتنوعة، عرفتْ طريقها إلى الظهور على مراحل، وفي لحظات تاريخية متعاقبة. وقد «احتفلت ما بعد الحداثة بأنموذج التشظي والتشتيت واللاتقريرية كمقابل لشُموليات الحداثة وثوابتها، وزعزعت الثقة بالأنموذج الكوني وبالخطية التقدمية وبعلاقة النتيجة بأسبابها. وحاربت العقل والعقلانية، ودعت إلى خلق أساطير جديدة تتناسب مع مفاهيمها التي ترفض النماذج المتعالية، وتضع محلّها الضرورات الروحية، وضرورة قبول التغيير المستمرّ، وتبجيل اللحظة الحاضرة المُعاشة»[28].
وشهدت الحداثة البعدية، منذ ظهورها إلى اليوم، تحولات وتطورات عدة كمًّا وكيفاً، وتزايد الاهتمام بفلسفتها وأفكارها ونظرياتها غربيًّا. ولكن المواكبة العربية والإسلامية لها، والاستفادة من وجوهها الإيجابية التي لا تتصادم مع قيمنا وثوابتنا، تبدو ضعيفة عموماً، ويحفّها الحذر من كل جَنْب.
علماً بأن العرب لم يطرحوا إشكالية علاقتهم بهذه الحداثة إلَّا مؤخراً، على حين احتكوا بالحداثة القبلية الغربية منذ «صدمة الحداثة» في القرن التاسع عشر، في أعقاب الحملة النابليونية على أرض الكنانة، وبَعْدها قيام محمد علي باشا؛ مؤسسِ مصر الحديثة، بإرسال بعثات طلابية إلى دول غربية بغرض الاطلاع على مظاهر حداثتها، والوقوف على أسباب تقدمها وتفوقها؛ قصد الاستفادة من تجاربها في بناء دولة حديثة قادرة على مجابهة التحديات المُحْدقة بها من الداخل والخارج معاً. بل إن العرب والمسلمين –كما يؤكد كثيرون– عاشوا حداثتهم منذ قرون بعيدة، في كافة الميادين.
- 5 - الحـداثة وما بعد الحـداثة: نظـرة تقييـمية
إن نظرة موضوعية إلى الحداثة القبلية والحداثة البعدية تُفْضي، حتماً، إلى الإقرار بإيجابياتهما الكثيرة إقراراً لا يَنفي ما لهما من سلبيات. والحديث هنا عن الحداثة في سياقها الغربي تحديداً.
وقد جرد الباحث جميل حمداوي جملة وافرة من تلك الإيجابيات والسلبيات في فصْلَي الكتاب. ولعل إيجابياتهما ونقطهما المشرقة هما دافع المؤلِّف إلى عقد مقارنة بين الإسلام والحداثة ليُثبت أن ديننا يقبل كثيراً ممّا جاءت به الحداثة وما بعد الحداثة في الغرب، بل إنها من صميمه، على أن الواجب، هنا، استحضارُ الخلفيات والسياقات الثقافية والحضارية المتباينة حتى لا يُوصَفَ كلامُنا وفهمنا بالقصور والنظرة التجزيئية إلى الأمور.
إن للحداثة الغربية إيجابيات وسلبيات؛ كما لا يخفى على أيّ دارس متعمِّق في تناول الظواهر المدروسة. ولذا، أكد محمد أركون أن «للحداثة مخالب تحت قفازات من حرير»[29].
ولا ريب في أن هذا الطابع المزدوج لها هو مُسْتنَدُ بعضهم في تبني موقف تقارُبيّ حِيال إشكالية علاقتنا بالحداثة الغربية، يتأسس على تلك القواسم المشتركة بين الإسلام وهذه الحداثة، وهي قواسمُ/ نقط تقاطع إيجابية بالضرورة؛ منها السعيُ إلى تحقيق التنمية والتحديث والتنوير والنهضة الشاملة، واحترام حقوق الإنسان وحرياته وتكريمه، ونبذ العنف والكراهية والتزمُّت والانغلاق، وإشاعة قيم التواصل والانفتاح والحرية والمساواة والتضامن، والإتيان بالمبادرات التي تخدم مصالح الناس جميعاً.
ويذهب دارسون كثيرون إلى أن الحداثة ليست بالأمر الغريب على الإسلام والمسلمين، بل إنهم عرفوها وعاشوها، بالصورة التي أرادوها لها، والتي تستمدّ مقوِّماتها من الوحي الرباني، منذ البعثة النبوية، ونقلوها إلى الشعوب والمناطق الأخرى التي فتحوها، أو كانت لهم علاقات معها في الشرق والغرب معاً؛ فسطعت شمسُها وشمس الإسلام على العالم كله يومئذٍ، بما في ذلك أوروبا التي كانت غارقة في الجهل والفوضى والهمجية والتخلف والاستعباد. وهذه حقيقة يقرّ بها الغربيون أنفسُهم؛ مثل المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه (Sigrid Hunke)، في كتابها «شمس العرب تسطع على الغرب».
إن حداثة المسلمين هذه هي الحداثة الحقيقية حسب روجيه جارودي، بوصفها تجسيداً عمليًّا وروحيًّا «للإسلام المعياري/ المثالي»؛ على حد عبارة د. محمد سبيلا، تقوم على التوفيق بين متطلبات الجسد والروح، وتحثّ على العمل المُفْضي إلى الفلاح دُنيا وآخِرَة، وتدعو إلى الاجتهاد والجدّ والوسطية والاعتدال، وتروم تحقيق نهضة إنسانية عامة في المجالات كلِّها؛ بفضل مبادئها ومُثلها وقيمها السامية المستمَدَّة من الشرع الحكيم.
أما الحداثة الغربية فيعُدُّها جارودي زائفة، واهمة، مادية بَشِعة غير إنسانية، برّاقة مبنية على الشعارات الجوفاء وعلى سلسلة من الأكاذيب؛ من مثل أكذوبة الديمقراطية، وأكذوبة حقوق الإنسان كما يروّج لها الغرب قوْليًّا! كما أنها مبنية على الاستعمار والاستغلال والاحتكار والاغتناء الربوي والجشع الإمبريالي والتلويث البيئي.
لذا، انتقدها الرجل بشدة، وعمل على فضحها وإبراز وجهها الحقيقي الذي طالما سعت الحداثة الغربية إلى إخفائه، والظهور بمظهر مخالف خادع. ودعا جارودي بالمقابل، إلى الاحتراز لدى التعامل مع مظاهرها ومنجزاتها، وإلى عدم الانبهار بها، وإلى تأسيس حداثة إسلامية أصيلة وشاملة، حداثة حقيقية متوازنة ينسجم مظهرها مع مخبرها بصدق، ويكون هدفها الأساسُ خدمة الإنسان، وإعمار الأرض، وإشاعة قيم الحرية والتعاون والتعارف وغيرها من المُثُل والمبادئ العليا التي جاءت بها رسالة الإسلام الخاتِمَة.
وأسْفرت الحداثة الغربية عن نتائج في الزاوية المُقابِلة إنْ خدمت أبناء الغرب إلَّا أنها أضرّت بالآخرين في أماكن عدة من المعمورة، ولا سيما في العالم المتخلف؛ فأثارت رَدّات فعل مناهضة، ومواقف معارضة تعاظمت مع مرور الزمن. فهذه الحداثة أنتجت تحديثاً على صُعُد مختلفة، أحْوَجَ الغرب الإمبريالي إلى احتلال مناطق أخرى، واستغلال خيراتها، والاعتداء على أهاليها، من جرّاء بحثه عن أسواق لتصريف مُنتَجاته، وعن مناطق يتزوَّد منها بالموادّ الخامّ التي يتوقف عليها نشاط اقتصاده.
وترتَّب عن تهافته على المُستعْمَرات نشوء حروب كونية مدمّرة قاسية. كما تميَّز تعامله مع الآخر المستضْعَف بالاستكبار والتعالي ورميه بصفات الدونية والبدائية وغيرهما. وجعل تعامله هذا محكوماً بالربح والرأسمالية المتوحشة واقتصاد السوق، حتى وإنْ اقتضى ذلك الدَّوْس على جملةٍ من القيم التي أظهر انتصاره لها في الأوراق والإعلام.
فالحداثة الغربية، إذاً، ليست كلها نعيماً، كما أنها ليست كلها جحيماً. بل إن الجانبين معاً حاضران فيها؛ إذ أتتْ بإنجازات خدمت الإنسانية، ويَسَّرتْ سُبل حياتها، ونقلتها من طور الهمجية والتخلف والعبودية المقيتة إلى طور آخر ميزتُه الرئيسة إعادة الاعتبار للإنسان، وتقدير دوره الفاعل في حركية التاريخ، وضمان رفاهيته وتفوُّقه. ورافقها –أيضاً– ما أضرَّ بصورتها، وتمخَّضت عنها مظاهر حداثية وتحديثية سبّبت متاعبَ كثيرةً للأمن العالمي، وللوجود البشري في شتى بقاع العالم، بل إن انعكاساتها وتداعياتها ما تزال مستمرة في كل مكان!
والأمرُ نفسُه ينسحب على ما بعد الحداثة. فهي –من ناحية أولى– حركة تراهن على تحرير الإنسان، وتخليصه من سيطرة الأوهام والأساطير وأيديولوجيا المتغلِّب، وتتوخى تقويض المَقولات المركزية التي هيمنت على التفكير الغربي منذ القِدَم، باعتماد آليات التفكيك والتشتيت والتغريب والتأجيل؛ وذلك في أفق بناء مقولات وقيم جديدة على أنقاضها. وتحارب ثقافة النخبة وعقيدة التمركز الغربي وتفوق الإنسان الأبيض/ الأوروبي، مع إعطائها أهميةً بالغة لثقافة الهامش والمسحوقين وللفولكلور الشعبي لِما يختزنه من قيم متأصلة ومن عوائد عفوية عريقة.
وتنتقد ما بعد الحداثة الخطاب الرسمي الغربي المالك للقوة والسلطة، والاستشراق غير الموضوعي في نظرياته وتصوراته عن الذات والآخر، والظاهرة الكولونيالية في ثوبيها القديم والجديد. وتؤمن بالاختلاف والمُغايَرَة والتعددية وانفتاح النصوص والخطابات على سياقاتها المرجعية وعلى آفاق القراءة والتأويل، بخلاف فكرة البنينة والانغلاق التي أشاعتها المذاهب البنيوية اللسانياتية منذ بدايات القرن الماضي.
وينضاف إلى ما ذكرنا أمور أخرى ذات صلة بالحداثة البعدية، تتلاقى فيها مع الإسلام؛ من قبيل الدعوة إلى التسامح والتعايش والتواصل والتفاعل مع الأغيار تأثيراً وتأثراً، ونبذ الإقصاء والتطرف والعدوان والتحيزات غير المبنية على أسس معقولة وموضوعية، والتشجيع على ممارسة التفكير والتدبر في ملكوت الله والتأويل العلمي والبحث المنهجي المؤسّس والتأمل في النصوص الدينية وقراءتها بعُمقٍ للوقوف على دلالاتها المقصودة بدلَ الاكتفاء بفهم دلالاتها السطحية الظاهرة التي قد لا تكون هي المُرادَة، والدفاع عن حقوق الإنسان وحرياته.
وهي –من ناحية أخرى– فلسفة (وممارسات) تمتاز بغير قليل من الغرابة والشذوذ، وتهدم نفسها بنفسها في أحايين كثيرة، وتتصف بالفوضوية والعبثية والعدمية والسوداوية، ويصل بها الأمر –في أحيانٍ– إلى الإلحاد والتطرف في الرأي، وتشيع اليأس والشكوك. وهي مظاهر يتبرّأ منها الإسلام، ويدعو إلى تجنبها واجتنابها، ويحذّر من عواقب اتّباعها أو التشبُّه بفاعِلِيها.
- 6 - إشكالية الإسلام والحداثة في منظور الفكر العربي والإسلامي
تعدّ هذه الإشكالية من أبرز الإشكاليات التي ناقشها المفكرون العرب والمسلمون المُحْدَثون، ولا سيما في العقود الأخيرة، وألّفوا فيها دراسات وأبحاثاً، يتضح من تصفحها أن أصحابها لم يتبنّوا موقفاً واحداً من تلك الإشكالية، بل تعدّدت واختلفت آراؤهم حِيالَها، وقد أحصى منها د. حمداوي ستة، يمكننا أن نُجْملها، ها هنا، في ثلاثة مواقف بارزة: موقف إيجابي مرحِّب بالحداثة، قابل لمعطياتها ونتائجها. وموقف ناقد ورافض لها، بالنظر إلى سلبياتها ونقائصها ونقطها السوداء الكثيرة. وموقف وَسَط مُنْبَنٍ على قاعدة التوفيق بين الحداثة الغربية والحداثة الإسلامية، والإفادة من المظاهر الإيجابية المُشْرقة فيهما معاً.
ولعل من أبرز مُتبَنِّي الموقف الأول المفكر الجزائري محمد أركون، الذي انتصر للحداثة الغربية، ومجّدها، وعَدَّها الحداثة الحقيقية الفعّالة الآن، والمُوائمة لطبيعة اللحظة الحضارية التي نعيشها؛ لذا، دعا إلى الانفتاح عليها، والاستفادة من أفكارها ومنجزاتها المادية والعلمية والتقنية.
ولا ينكر أركون حقيقة الحداثة الفكرية والفعلية التي عرفها المسلمون خلال العصر الوسيط، يومَ كانوا أسياداً يقودون العالم، مستدلًّا بأصوات حداثية اشتهرت بجُرأتها وعقلانيتها وفكرها التنويري؛ كابن رشد، إلَّا أنها كانت –في نظره– صالحة لعصرها الذي قامت فيه، أما الآن فقد أمسَتْ جزءاً من الماضي، وموضوعاً للحفريات والدراسات التاريخية، وغير صالحة لبناء حداثة معاصرة. فهي، إذاً، دعوة صريحة إلى ترك الماضي/ التراث/ التقليد، والانْكباب على حضارةِ الغرب المتطور ماديًّا وعلميًّا وحداثتِه التي رأى فيها –كما لدى عدد من الليبراليين العرب المحدثين– المُخَلِّص من التخلُّف والانحطاط.
وهذا يدْعُونا إلى التساؤل عن مدى وَجاهة هذا الخيار وصحته تاريخيًّا وفكريًّا، ألمْ تَبْنِ شعوب حداثة قوية، في الوقت المعاصر، دون الانسلاخ عن هويتها وأصالتها وتراثها (حالة اليابان أنموذجاً)؟!
الواقع أن التراث هو أساس أي حداثة. فالغرب أقام نهضته وحداثته، خلال القرنين 15 و 16، بالعودة إلى تراثه الأصيل الضارب بجذوره في أعماق التاريخ. وبنَتْ شعوب كثيرة تجاربها الحداثية بالاستناد، أولاً، إلى ماضيها وما تختزنه ذاكرتها من قيم ونقط مُشِعّة. ولم يثبت أنْ بَنَتْ أمة حداثة أو أنموذجاً حضاريًّا متيناً دون رجوعها إلى تاريخها، واستفادتها من إيجابياته في شتى المجالات.
يقول أحدُ باحِثِينَا المعاصرين مؤكِّداً هذه الفكرةَ: «البداية هي التراث، وليس التجديد من أجل المحافظة على الاستمرار في الثقافة الوطنية، وتأصيل الحاضر، ودفعه نحو التقدم، والمشاركة في قضايا التغير الاجتماعي. التراث هو نقطة البداية، كمسؤولية ثقافية وقومية، والتجديد هو إعادة تفسير التراث طبقاً لحاجات العصر. فالقديمُ يسبق الجديد، والأصالة أساسُ المعاصرة، والوسيلة تؤدي إلى الغاية. التراث هو الوسيلة، والتجديد هو الغاية؛ وهي المساهمة في تطوير الواقع، وحلّ مشكلاته، والقضاء على أسباب معوّقاته، وفتح مغاليقه التي تمنع أي محاولة لتطويره»[30].
ويدعو المفكر التونسي عبد المجيد الشرفي صراحةً إلى الانخراط في الحداثة الغربية، واستلهامها إنْ أردنا اللَّحاق بركب الدول المتقدمة، مؤكداً أن هذه الحداثة لم تعد اليوم شأناً غربيًّا خاصًّا، بل أضحت نظاماً كونيًّا، يَطْرح نفسه كمثال يُحتذى لأي إقلاع حضاري وحداثي. يقول: «الحداثة عندي ليست مشروعاً بقدر ما هي نمط حضاري نشأ في الغرب، ولكنه أصبح كونيًّا بكل متطلباته المعرفية والمادية. ولهذا، فليس للمسلمين من خيار آخر غير الانخراط في هذا النمط الحضاري. وما نظام الحكم الديمقراطي إلَّا أحد تجليات الحداثة، فكلّ محاولة للرجوع إلى نظامٍ غيرِه قائمٍ على الخلافة، أو على أي شكل آخر من مزْج الدين بالسياسة، محكومٌ عليها بالفشل عاجلاً أم آجِلا»[31].
ومن الواضح أن منتقِدِي الحداثة الغربية، في فكرنا الحديث والمعاصر، كثيرون، ونستطيع التمييز في موقفهم العامّ منها بين جملة وجهات نظر رصد عدداً منها د. جميل في تأليفه الذي نحن بصدد قراءته. فهذا محمد سبيلا المفكر المغربي المعروف، ينتقد الحداثة الغربية، مركزاً على جانبها الخُلُقي، متوسِّلاً في ذلك بمنهج الألمان في النقد الأخلاقي المتأثر ببعض النزعات الصوفية؛ كما عند كانط وهيجل وشبنجلر وغيرهم. ويرى الرجل نفسُه إمكانية استثمار هذا المنهج النقدي في حال التعامل مع الحداثة العربية والإسلامية؛ من أجل التصحيح والضبط والتقويم.
وانتقد الحداثة الغربية، كذلك، في بُعْديها العقلي النظري والمادي، المفكر والمنطقي المغربي المشهور طه عبد الرحمن، في كتابه «سؤال الأخلاق»، مستنداً إلى فكر نقدي جَرِيء. وأبرز أن صرح الحداثة تضافرت جهود كل الشعوب والأمم، كلٌّ بحظِّه وحجم إسهامه المتفاوت عن غيره، لبنائه عبر تاريخها المديد، وليست من صنع المجتمع الغربي وَحْدَه؛ كما يزعم كثيرون. ودعا في كتابه الآخَر «روح الحداثة» إلى التأسيس لحداثة إسلامية نابعة من هويتنا وأصالتنا وتاريخنا، مستجيبة لحاجياتنا وظروفنا الخاصة، منطلقة من مبادئ ديننا وقيمه، مشدّداً على ضرورة إعادة قراءة النص القرآني بما يضمن فهما أعمق، واستيعاباً أكثر لمعانيه، بوصف ذلك يزوّدنا بالطاقة الإبداعية اللازمة لبناء حداثة إسلامية حقيقية، روحية قيمية علمية عملية جميعاً، يقول: «لا دخول للمسلمين إلى الحداثة إلَّا بحصول قراءة جديدة للقرآن الكريم».
ومِثْلُ هذه الدعوة إلى قراءة جديدة لنصوص الوحي رأيناها، كذلك، عند المرحوم الجابري الذي ذهب إلى أنه يستحيل تحقيق نهضة عربية إسلامية حقة، اليوم، ما لم ننطلق من تراثنا، الذي يلزمنا قراءته بمناظير منهاجية أنجع، وبعقلية جديدة معاصرة تنطلق من تصورات بنيوية موضوعية.
وعلى غرار د. طه، دعا المفكر المصري حسن حنفي إلى «أسلمة الحداثة»، مؤكداً أن الإسلام لا يعارض الحداثة، بل إنه دين الحداثة بامتياز؛ بحيث يحث على التأمل في خَلْق الله تعالى، ويدعو إلى استخدام العقل وإلى إعمار الأرض، ويكرّم الإنسان، وينهى عن استعباده والإساءة إليه، ويحارب التعامل الربوي والاحتكار والشعوذة وغير ذلك من الظواهر والمظاهر السلبية. بيد أن واقع المسلمين يكشف، بالملموس، عدم تمثلهم تلك الحداثة، وعدم تشرُّبهم قيمَها ومبادئها المُثلى، وابتعادهم عن ينابيع دينهم الصافية التي كان ينهل منها أسلافهم قبل أن يدبّ الخلاف والضعف إلى أوصال الأمة.
وفي السياق نفسِه، يعقد المفكر الليبي سالم القمودي مقارنة بين الإسلام والحداثة؛ فيخلص إلى أن ديننا أرقى بكثير من حداثة الغرب، بكل مفاصلها المادية والفكرية، وإلى أنه يتجاوزها؛ بفضل قيمه السامية، وأخلاقه المثالية، ورسالته الكونية، وطبيعته الموفقة بين المادي والروحي على نَحْوٍ متوازن. وأشار إلى أنه سبقها إلى مقولاتها ومفهوماتها النسبية (أقصد الإيجابية طبعاً) بقرون عديدة، وإلى أنه لم يكن قطُّ معادياً للحداثة العلمية والتطبيقية.
ونجد، في سياقنا الثقافي، دعوات دينية، لا تخلو من تطرف في الرأي، ترفض الحداثة، بصفة مطلقة، سواء أكانت غربية أم عربية إسلامية. ويبدو أن هذا الموقف المتشدّد ظهر كردّ فعل على عنف الحداثة المعاصرة، وطريقة تعامل الغرب الإمبريالي مع الشعوب المستضعَفة، بما فيها المجتمعات العربية خلال القرن المنصرم، واستخفافه بها واستغلاله مُقَدَّراتِها وثرواتها الطبيعية وغيرها.
ويفسّر بعضهم هذا الموقف بعجز أصحابه عن استيعاب الحداثة المعاصرة، وتمثلها وتفهُّم جوهرها! ولذلك، نراهم يصفون هذه الحداثة وما جاءت به بالكفر والكذب ونحو ذلك من الصفات؛ فالحداثة -عندهم- كفر، والديمقراطية كفر، وبرامج الأحزاب السياسية أكاذيب، والضرائب أكْلٌ لأموال الناس بالباطل، والمفكرون المتحررون مرتدّون، والحُكّام كَفَرَة لا يسوسون رعاياهم بشرع الله. وأمام هذا الوضع، تجد أصحاب هذا الخطاب التكفيري يُولون وجوههم شطر التراث/ الماضي، منكفِئين عليه، رافضين الانفتاح على الحضارة الغربية والاستفادة من منجزاتها في مجال الحداثة والتحديث.
وبين مَنْ يرفض الحداثة الغربية ويتمسك بالحداثة الإسلامية، وبين منْ يدعو إلى الانخراط في الأولى، نجد لفيفاً من دارسينا ومفكرينا، كثيرَ العدد، ينادي بالتوفيق بين الحداثتين على نحو واعٍ ومتكامل، مِنْ مُنْطَلق أن كل واحدة منهما تنطوي على جوانب مشرقة من الوفرة بمكان، وعلى أن كلًّا منهما تجود بما يصلح لنا، اليوم، لإقامة نهضتنا وحداثتنا المأمولة. ولذا، فمِنَ المتعيِّن، حسب هذا الموقف، استثمار تلك الإيجابيات، والانطلاق منها لبناء الحاضر، واستشراف المستقبل.
فقد تبيَّن لنا ممّا تقدَّم أن الإسلام عرف حداثة مثالية معيارية حقيقية، ذات خصوصيات كثيرة، وأن المسلمين عرفوا، منذ العصر العباسي، نماذج حداثية متعاقبة، وإنْ لم تَسِرْ وَفق خطية تصاعدية متصلة، بل اعترتها حركات مدّ وجزر، قوة وضعف.
إلَّا أن العالم العربي سيدخل مرحلة من الوهن والركود والتراجع الحضاري، فترَتْ خلالها جُذوة حداثته العريقة، وفَقَدَ استقلاليته وهيبته التاريخية، حين داهمه المحتلّ الغربي، وصدمه خلال القرن التاسع عشر، ليدرك أنه كيان ضعيف عسكريًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا وعلميًّا. ممّا أدَّى إلى مباشرته سلسلة من الإصلاحات في هذه القطاعات الحيوية كلها كما هو معلوم.
إن هذه التجربة (أو التجارب بالأحْرَى) الحداثية حُبْلى بالعطاء وعناصر القوة والتفوُّق والنجاح، ولا سيما في مرحلتها الأولى حين كانت مرتكِزةً على الشرع الرباني، ومعتمِدَة على مبادئه ومُثله وقيمه السامية. ولذا، يغدو من الواجب علينا الرجوع إلى منجزات تلك الحداثة الأصيلة، واتخاذها منطلقنا الثابت لبناء أي نهضة أو حداثة اليوم. وبعبارة أخرى، لا بد من خطوة إلى الوراء من أجل خطوتين إلى الأمام.
وتبيّن لنا، أيضاً، أن حداثة الغرب، في اللحظة الحديثة والمعاصرة، واقعٌ اكتسح العالم كلَّه، وأبْهَره بما رافقه ونجم عنه من تحديث اقتصادي وتقني هائل، ومن حداثة فكرية وعقلية فائرة. إن هذه الحداثة، بمختلِف أبعادها، تفرض أنموذجها الحضاري علينا، وتلج إلى عمق بيوتنا دون استئذان، وتلحّ على أن تحضر في كافة مجالات حياتنا.
لذا، لا يُمكن أن نسلم من الاحتكاك بمظاهرها، ولا يمكن أن نتجاهلها، بل ينبغي التعامل معها بحذر ووعي، والإفادة من إيجابياتها الكثيرة التي يتوقف عليها تسهيل حياتنا، والتي لا تخدش قِيَمنا، ولا تصدم ثوابتنا، ولا تعارض مقوّمات وجودنا الدينية والثقافية والحضارية.
وبهذا يتحقق الجمع بين الأصالة والمعاصرة، وبناء حداثتنا اليوم على أسس متينة، تجعلها منفتحة على الحداثة والتحديث الحاصلين في الغرب المتقدم، دون الانسلاخ قيد أنملةٍ عن تراثنا وهويتنا وماضينا، هذا التراث الذي يلزمنا إعادة قراءته بكيفية وعقلية جديدتين طلباً للاستفادة القصوى من إيجابياته ونقط قوته العديدة جدًّا.
ونقف في أحد كتب الجابري على نصٍّ جميل، صياغةً وفكرةً، يعبّر عن هذا الموقف التوفيقي بين الحداثة والتراث، يقول فيه: «الحداثة اليوم حداثة غازية كاسحة، إنْ لم تأخذ بها أخذتك، وإنْ لم تعمل جاهداً من أجل المساهمة في صُنعها، أو على الأقلّ من أجل تبْيِئتها في واقعك وخصوصيتك، جرفتك واقتلعتك من جذورك، أو همّشتك وألْقَتْ بك جانباً خارج الحاضر والمستقبل؛ تجترّ الماضي، بل يجترّ الماضي نفسه فيك. ولا يعني هذا أنه علينا أن نعْرض عن تراثنا إعراضاً، ونرتمي بكليتنا في الحضارة المعاصرة، وكأننا كائنات لا تراث لها! كلَّا، إن تأسيس الحداثة فينا وعندنا يتطلب إعادة الانتظام في تراثنا، إعادة بناء علاقتنا به بصورة حداثية. إن الحداثة تبدأ باحتواء التراث وامتلاكه؛ لأن ذلك وحده هو السبيل إلى تدشين سلسلة من القطائع معه، إلى تحقيق تجاوز عميق له، إلى تراث جديد نصنعه؛ تراثٍ جديد فعلاً، متصل بتراث الماضي على صعيد الهوية والخصوصية، ومنفصل عنه على صعيد الشمولية والعالمية»[32].
وإلى هذا الرأي يميل جميل حمداوي أيضاً. إذ يقول في آخر الفصل الأول من كتابه «أتبنّى شخصيًّا منظور التوفيق بين الحداثة الغربية والحداثة الإسلامية. ويعني هذا الجمع بين الأصالة والمعاصرة، وخير الأمور أوسطها»[33].
ويقول، في موضع آخر أسبق، موضِّحاً كلامه هذا: «الحداثة كونية وعامة وإنسانية، يشارك فيها الجميع إبداعاً وتأصيلاً وتأسيساً، وليست مقتصرة على الغرب فقط، بل يمكن أن يشارك فيها اليابانيون والصينيون والهُنود والأفارقة والمسلمون؛ لأن الحداثة تنبني على التلاقح والمثاقفة والتناصّ والتكامل والتفاهم والتعاون والتواصل. وفي الوقت نفسه، يجب أن نحافظ على شخصيتنا المعنوية، ونتشبّث بأصالتنا وتقاليدنا وعاداتنا وقيمنا ومعتقدنا. هذا هو الموقف الذي أتبناه شخصيًّا»[34].
- 7 - إشـكالية الإسلام وما بعد الحـداثة في منظـور الفكـر العربي والإسلامي المعـاصر
لقد عرف الغرب ما بعد الحداثة، فكرة وممارسة، بعد أواسط القرن المنصرم، وتناول مفكِّروه قضاياها وأسئلتها المؤرقة منذ ذلك الحين، وإنْ لم يحصل بينهم اتفاق على أكثرها، وفي طليعتها تعريف هذه الحداثة البعدية، وتحديد سياق ظهورها في المجال الثقافي الغربي؛ ذلك بأن بعض الباحثين يؤكدون أنها قامت لنقد الحداثة، وفضح سلبياتها ونقائصها، وتصحيح مساراتها، وتجاوزها نحو الأفضل.
على حين يرى فريقٌ آخرُ من الدارسين أنها تعد امتداداً للحداثة، وبلورة لمشروعها المفتوح على المستقبل، وقد ارتدت لبُوساً جديداً. ويزعم آخرون أنها ظهرت استجابة لمجموعة من التحولات الجذرية التي طرأت على المجتمعات الغربية، واقتضت أنْ توازيَها تغيُّرات مماثلة على الصعيد الفكري والعلمي والفني.
ولعل هذا التضارب في الآراء بخصوص تحديد ماهية الحداثة البعدية، وبيان حيثيات ظهورها في منشئها الأصلي، هو الذي أخَّر اهتمام العرب والمسلمين بها، ينضاف إلى ذلك اعتقادهم بأنها نَتاجُ بِيئة ثقافية وحضارية مُخالِفة تماماً لبيئتهم، وبالتالي لا تصلح لهم، ولا يمكن المراهنة عليها للدفع بشعوبهم إلى الأمام.
ثم إنّ هؤلاء لم ينتهوا بَعْدُ من إشكالات الحداثة وأسئلتها، ولم يضمنوا مسايرة النهضة والثورة العلمية والاقتصادية والتقنية التي يعيشها الغرب منذ عقود بعيدة، فكيف يستطيعون الانتقال إلى طور ما بعد الحداثة؟!
وتبعاً لذلك، لم يلتفت الفكر العربي المعاصر إلى هذه الحداثة الثانية بصورة جلية، ولم يتطرق إلى الكتابة عنها وعن إشكالية علاقة الإسلام بها إلا في السنوات القليلة الماضية، رغم أن هذه الفكرة شغلت الفكر الغربي منذ الستينات، ولا تعدو أن تكون جلّ الكتابات العربية والإسلامية، في هذا الإطار، «مجرد إشارات عابرة لا تفتح أفقاً، ولا تحرّك ساكناً، ولا تثير جدلاً، ولا تكوّن رؤية»؛ كما يقول المفكر السعودي المعروف د. زكي الميلاد[35]. ولكنه يتنبّأ بأنْ تنال هذه الإشكالية اهتماماً متزايداً، في المجال الثقافي العربي، مستقبلاً، لتصير –مع مرور الوقت– «مرشّحة لأنْ تصبح في قلب النقاش الفكري العربي؛ لأن الأنظار بدأت تلتفت إليها، ولأن النقاشات العابرة حول العالم تجاه هذه القضية سوف تُلقي بظلالها علينا، وعندئذٍ سوف نتعرف على حوافز بإمكانها أن تعلي من شأن هذه الفكرة، وبشكلٍ يفوق فكرة الحداثة نفسها»[36].
ويأتي كتاب حمداوي «الإسلام بين الحداثة وما بعد الحداثة» ليُسْهِم في مناقشة هذه القضية، وليرصد –قبل ذلك– مختلف مواقف مفكرينا وباحثينا من إشكالية علاقتنا بما بعد الحداثة، وعددُها –كما وضّح الكاتب في الفصل الثاني من الكتاب– ستة، يمكننا إجمالها في ثلاثة كبرى؛ على نحو ما سنبيِّن في الأسطر الموالية.
فبعضُ المشتغلين بحقل الفكر الإسلامي المعاصر يمجدّون ما بعد الحداثة، ويرَوْن فيها أملاً ومشروعاً حضاريًّا وتنويريًّا متميزاً. ومن هنا، نُلْفيهم يُعَدِّدون إيجابياتها ونقطها المُشْرقة التي بإمكاننا الانفتاح عليها، والاستفادة منها في بناء حداثتنا ونهضتنا المنشودة اليوم.
ومن ذلك أنها تسعى إلى تحطيم البنى القديمة، وتقويض المقولات المركزية التي رانت على الفكر الغربي قديماً وحديثاً، وإقامة مَقُولات وقيم بديلة محلَّها. ومن ذلك أنها تدعو إلى الانفتاح والتواصل مع الآخر والتسامُح ونبذ العنف والإقصاء والتحيزات المقيتة، وأنها تؤمن بالاختلاف والتعدد، وتهتمّ بالأنوثة والذكورة معاً... وغير ذلك من المقاصد والمرتكزات التي قامت عليها الحداثة الثانية. ولعل من أبرز مُتَبنِّي هذا الرأي الباحث الباكستاني أكبر صلاح الدين أحمد في كتابه «الإسلام وما بعد الحداثة.. الوعود والتوقعات» (2009).
ونجد –في الضفة المقابلة– عدداً من المفكرين والدارسين العرب والمسلمين يرفضون ما بعد الحداثة، وينتقدونها بشدّة؛ بالنظر إلى كونها تُشيع الفوضى والعبث والسوداوية والعدمية والتشكيك واللامنطق واللانظام. ومن هؤلاء الباكستاني ضياء الدين سردار في كتابه «ما بعد الحداثة والآخر: الإمبريالية الجديدة للثقافة الغربية» (1998)؛ فقد نَقَدَ فيه الفكر الما بعد حداثي، وأوضح معايبه وسلبياته على جميع المستويات، وصرّح بأنه فكر يعكس حضارة أكثر ظلماً وقسوة واعتداءً في علاقتها بالشعوب الأخرى المستضعفة.
وتبنّى موقفَ الانتقاد، كذلك، المفكر المصري الراحلُ عبد الوهاب المسيري، الذي رفض أفكار ما بعد الحداثة وتصوراتها، وعدّها أيديولوجيا النظام العالمي الجديد التي تتوسل بالقوة الناعمة والإغواء، عوضَ العنف وخوض الحروب المدمِّرة؛ لاستغلال الضعفاء واستلابهم وإخضاعهم، وتدمير هوياتهم وثقافاتهم، وفرض أنموذجها الحضاري على العالم أجْمَع.
وبخلاف موقفه من هذه الأيديولوجيا العدائية، انحاز المسيري إلى الحداثة الغربية، ووقف منها موقفاً إيجابيًّا؛ فراح يستعرض جوانبها المشرقة المفيدة للبشرية كلها، ولا سيما ما يتعلق منها بالحداثة المادية والتقنية والعلمية.
ويرى سالم القمودي، في كتابه «الإسلام كمُجاوِز للحداثة وما بعد الحداثة» (2008)، أنّ ثمة ما يمكن طرْحُه كبديل أرقى وأفضل بكثير من حداثة الغرب وما بعد حداثته معاً.. إنه الإسلام بما يمتاز به من مُثُل وقيم سامية، ورؤية عادلة، ورسالة عالمية متميزة حقًّا، ودفاع عن الإنسان وحقوقه وحرياته... الأمرُ الذي يجعله «مُجاوزاً» للحداثتين المذكورتين معاً، وأقْدَرَ على الإجابة عن شتى أسئلة الإنسان الوجودية المُحيِّرة، وإشكاليات الحياة المعقدة.
ويذهب أصحاب الموقف الثالث إلى أن ما بعد الحداثة ليست كلها نعيماً، وليست كلها جَحيماً؛ كما هو الشأن بالنسبة إلى الحداثة نفسها، بل إن لها إيجابيات وسلبيات. والواجبُ علينا انتقاء جوانبها الإيجابية المشرقة فقط، واستثمارها في بناء النهضة والتنمية؛ من مثل أفكارها المتعلقة بالتسامح والتعدد والانفتاح والتواصل والحرية.
وهذه الجوانبُ نفسها هي التي دعت بعضهم إلى تأكيد وجود تقارُبٍ بَيِّنٍ بين الإسلام وما بعد الحداثة في عددٍ من القواسم المشتركة؛ كما يتضح –مثلاً– من قول الباحث المصري د. خليل العناني، في مقاله «عن الوجه الديني لما بعد الحداثة» (2006): «إن ديالكتيك العقل الإنساني (خصوصاً الغربي) يقترب بشكلٍ حثيث، على الأرجح من دون قصْد، من القيم الإنسانية التي رسّخها الإسلام، وبنى عليها حضارته العريقة طوال قرون عدة؛ ما يحمّل الفقهاء والمُجدِّدين ورجال الدين في العالم الإسلامي عبْئاً ثقيلاً في إعادة تقديم هذه القيم السامية في ثوب حضاري يُلْهم الآخرين»[37].
ويميل د. جميل، من بين كل المواقف التي اتُّخِذت من إشكالية الإسلام والحداثة البعدية، إلى هذا الرأي الانتقائي؛ إذ يقول بوضوح: «هذا هو الرأي الذي أتبنّاه شخصيًّا حين التعامل مع إشكالية الإسلام وما بعد الحداثة؛ لأنّ الحداثة لها مزايا كثيرة لا يمكن إنكارها، ولما بعد الحداثة أيضاً نقط إيجابية، فما علينا –نحن المسلمين– سوى الاستفادة منها قدْر الإمكان، مع الاعتماد على الذات في خلْق حداثتنا الخاصّة بنا، وتمثل حداثة الإسلام، قرآناً وسُنّة، في هذا البناء التنويري التنموي»[38].
خـاتمـة
في ختام هذه المراجعة/ القراءة نؤكّد أن كتاب الدكتور جميل حمداوي إضافةٌ إلى رصيد مكتبتنا الفكرية، التي ما زالت تشكو نقصاً في الأعمال التي تعالج الإشكالية المطروحة في الكتاب المذكور، ولا سيما تلك التي تتناول، بعمق فكري وبحث منهجي، قضية علاقة الإسلام بتيار ما بعد الحداثة.
فقد اجتهد المؤلِّف في جرد مواقف الفكر العربي والإسلامي الحديث والمعاصر من الحداثة وما بعد الحداثة الغربيتين، وفي تصنيفها، وفي تحليلها، وفي مناقشتها بإفاضة، دون أن يغفل تقديم وجهة نظره، المبنية على دلائل عدة، في تلك القضية المعقدة الشائكة التي لم يحسم النقاش العلمي فيها بعد. ولهذه الاعتبارات، يكتسي العمل الذي بين أيدينا أهمية مؤكَّدة في بابه، ويغدو مرجعاً غنيًّا ومفيداً للباحثين في موضوع علاقتنا بالتيار الحداثي، سواء في طبعته الأولى أو الثانية، ولعُموم القرّاء كذلك.
[1] جميل حمدواي، الإسلام بين الحداثة وما بعد الحداثة، ص 16 (من المقدمة).
[2] المرجع نفسه، ص 6.
[3] نفســه، ص 11.
[4] نفســه، ص 6 + ص 11 – 13.
[5] مصطفى الرويجل، ما بين المسلمين والحداثة، مجلة «الأزمنة الحديثة»، الرباط، ع.8، يونيو 2014، ص 46.
[6] محمد سلام شكري، الإسلام والحداثة، مجلة «الأزمنة الحديثة»، ع.8، ص 40.
[7] محمد أيت حمو، أفق الحوار في الفكر العربي المعاصر، منشورات الاختلاف (الجزائر) – دار الأمان (الرباط)، ط.1، 2012، ص 194.
[8] حسن بيقي، مفهوم الحداثة في فكر عبد الله العروي، مجلة «الأزمنة الحديثة»، ع.8، ص 76.
[9] النزعة الإسلامية والحداثية والليبرالية (بالفرنسية)، ص 23. نقلاً عن المقال السابق، ص 75.
[10] حسن بيقي، مفهوم الحداثة في فكر عبد الله العروي، م.س، ص 80.
[11] نفســه، ص ص 78 – 79.
[12] محمد عابد الجابري، التراث والحداثة.. دراسات ومناقشات، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء – بيروت، ط.1، 1991، ص 15.
[13] محمد عابد الجابري، بُنية العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط 1986، ص 552.
[14] نقلاً عن مقال «مفهوم الحداثة في فكر عبد الله العروي» لبيقي، م.س، ص 77.
[15] سمير حجازي، مناهج النقد الأدبي المعاصر بين النظرية والتطبيق، دار الآفاق العربية، القاهرة، ط.1، 2007، ص 229.
[16] جميل حمدواي، الإسلام بين الحداثة وما بعد الحداثة، ص 100، بتصرف.
[17] نفســه، ص 101.
[18] يمكن الاطلاع على أغلب هذه المذاهب والنظريات في كتاب جميل حمداوي الموسوم بـ«نظريات النقد الأدبي في مرحلة (ما بعد الحداثة)» (جزآن)، شركة مطابع الأنوار المغاربية، وجدة/ المغرب، ط.1، 2012.
[19] جميل حمدواي، الإسلام بين الحداثة وما بعد الحداثة، ص ص 23 – 24. وانظر كذلك: ص ص 100 – 101.
[20] نفســه، من ص 105 إلى ص 109.
[21] محمد سلام شكري، الإسلام والحداثة، م.س، ص 40.
[22] حسن بيقي، مفهوم الحداثة في فكر عبد الله العروي، م.س، ص 81.
[23] محمد سلام شكري، الإسلام والحداثة، م.س، ص 40.
[24] أحمد الطريبق، مسألة الحداثة والإسلام، مجلة «الأزمنة الحديثة»، ع.8، ص 20.
[25] سورة سـبأ، الآية 28.
[26] نقلاً عن «الإسلام بين الحداثة وما بعد الحداثة»، م.س، ص 43.
[27] المرجع نفسه، ص 61.
[28] ميجان الرويلي وسعد البازعي، دليل الناقد الأدبي، المركز الثقافي العربي، ط.2، 2000، ص 142.
[29] محمد أركون، قضايا في نقد العقل الديني.. كيف نفهم الإسلام اليوم؟، تر: صالح هاشم، دار الساقي، لندن – بيروت، ط 2006، ص 213.
[30] مصطفى الرويجل، ما بين المسلمين والحداثة، م.س، ص 52.
[31] نقلاً عن كتاب «الإسلام بين الحداثة وما بعد الحداثة»، م.س، ص ص 81 – 82.
[32] الجابري، حوار المشرق والمغرب، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط 1990. نقلاً عن مقال مصطفى الرويجل، م.س، ص 52.
[33] جميل حمداوي، الإسلام بين الحداثة وما بعد الحداثة، ص 91.
[34] نفســه، ص 87.
[35] نقلاً عن المرجع السابق، ص 96.
[36] نفســه، ص 96.
[37] نفســه، ص 143.
[38] نفســه، ص ص 141 – 142.
شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
يحاول الكاتب محمد محفوظ في 166 صفحة أن بضيئ الحديث عن السلم الأهلي والمجتمعي، في الدائرة العربية والإسلامية، بحيث تكون هذه المسألة حقيقة من حقائق الواقع السياسي والإجتماعي والثقافي، وثابتة من ثوابت تاريخنا الراهن.
ينتمي مالك بن نبي وعبدالله شريط إلى بلد عربي إسلامي عانى من ويلات الاستعمار ما لم يعانه بلد آخر، سواء في طول الأمد أو حدة الصراع أو عمق الأثر. إنهما مثقفان عميقا الثقافة، مرهفا الشعور، شديدا الحساسية للمعاناة التي عاشها ملايين الجزائريين من ضحايا مدنية القرن العشرين، بأهدافها المنحطة وغاياتها الدنيئة.
عقد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات خلال الفترة الواقعة بين 6 و 8 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2012، مؤتمرًا أكاديميًّا عنوانه «الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي: تجارب واتّجاهات»، في فندق شيراتون بالدوحة، وشهد الافتتاح حشدًا كبيرًا من الباحثين والأكاديميّين من دول عربية.
يأتي الاهتمام بالقضية الفنية في فكر الأستاذ عبدالسلام ياسين من منطلق أن الوجود الحضاري للأمة كما يتأسس على أسس القوة المادية التي يمليها منطق التدافع القرآني أي التدافع الجدلي بين الخير والشر الذي هو أصل التقدم والحركة، يتأسس كذلك على جناح تلبية الحاجات النفسية والذوقية والجمالية بمقتضى الإيمان الذي هو ...
ثمة مضامين ثقافية ومعرفية كبرى، تختزنها حياة وسيرة ومسيرة رجال الإصلاح والفكر في الأمة، ولا يمكن تظهير هذه المضامين والكنوز إلَّا بقراءة تجاربهم، ودراسة أفكارهم ونتاجهم الفكري والمعرفي، والاطِّلاع التفصيلي على جهودهم الإصلاحية في حقول الحياة المختلفة
لا شك في أن الظاهرة الإسلامية الحديثة (جماعات وتيارات، شخصيات ومؤسسات) أضحت من الحقائق الثابتة في المشهد السياسي والثقافي والاجتماعي في المنطقة العربية، بحيث من الصعوبة تجاوز هذه الحقيقة أو التغافل عن مقتضياتها ومتطلباتها.. بل إننا نستطيع القول: إن المنطقة العربية دخلت في الكثير من المآزق والتوترات بفعل عملية الإقصاء والنبذ الذي تعرَّضت إليه هذه التيارات، مما وسَّع الفجوة بين المؤسسة الرسمية والمجتمع وفعالياته السياسية والمدنية..
لم يكن حظ الفلسفة من التأليف شبيهاً بغيرها من المعارف والعلوم في تراثنا المدون بالعربية، الذي تنعقد الريادة فيه إلى علوم التفسير وعلوم القرآن والحديث والفقه وأصوله، واللغة العربية وآدابها، وعلم الكلام وغيرها. بينما لا نعثر بالكم نفسه على مدونات مستقلة تعنى بالفلسفة وقضاياها في فترات التدوين قديماً وبالأخص حديثاً؛ إذ تعد الكتابات والمؤلفات في مجال الفلسفة، ضئيلة ومحدودة جدًّا، يسهل عدها وحصرها والإحاطة بها.