شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
نظرية المعرفة عند أبي حامد الغزالي..
مقاربة نقدية لقراءة زكي نجيب محمود
الدكتور محمد حفيان*
* باحث وأستاذ محاضر، كلية العلوم الاجتماعية، جامعة سعيدة، الجزائر.
تمهيد: حول منهج الدكتور زكي نجيب محمود
يعترف الدكتور زكي نجيب محمود في كتابه (تجديد الفكر العربي) أنه لم تتح له فرصة طويلة الأمد تمكّنه من مطالعة التراث العربي على مهل، فقد انشغل طويلًا بالفكر الأوروبي دراسةً وتدريسًا حتى سبقت إلى خاطره ظنون بأن ذلك هو الفكر الإنساني الذي لا فكر سواه. لكنه في أعوامه الأخيرة -وهو في أنضج سنِّيه- أخذته «صحوة قلقة» قادته إلى المبادرة بطرح السؤال الذي كان قد طرحه قبله، وطرحه بعده الكثيرون من الذين فوجئوا فانتبهوا، وهو: كيف نوائم بين ذلك الفكر الوافد الذي بغيره يفلت منا عصرنا أو نفلت منه وبين تراثنا الذي بغيره نفلت من عروبتنا أو نفلت منها؟
إنه لمحال أن يكون الطريق إلى هذه المواءمة هو أن نضع المنقول والأصيل في تجاور، بحيث نشير بأصابعنا إلى رفوفنا فنقول: هذا هو شكسبير قائم إلى جوار أبي العلاء، فكيف إذن يكون الطريق؟ كيف السبيل إلى ثقافة موحدة متسقة يعيشها مثقف حي في عصرنا هذا، بحيث يندمج فيها المنقول والأصيل في نظرة واحدة؟»[1].
وقد أجاب الدكتور زكي نجيب محمود عن هذا السؤال بقوله: «هو أن نأخذ من الأقدمين وجهات النظر بعد تجريدها من مشكلاتهم الخاصة، التي جعلوها موضع البحث، وذلك لأنه بعيد جدًّا لتطاول الزمن بيننا وبينهم، أن تكون مشكلات حياتنا اليوم هي نفسها مشكلاتهم. إذن لم يعد يُجدي أن أحصر بحثي في مشكلاتهم التي طويت موضوعاتها طيًّا، ولكن الذي قد يعود علينا بالنفع العظيم من حيث الحفاظ على كيان لنا عربي الخصائص، هو أن ننظر إلى الأمور مثل ما نظروا، أو قل بعبارة أخرى: أن نحتكم في حلولنا لمشكلاتنا إلى المعايير نفسها التي كانوا قد احتكموا هم إليها»[2].
أما في كتابه (المعقول واللَّامعقول في تراثنا الفكري) فمن خلال عنوانه يبدو واضحًا أن الكاتب إنما يريد أن «يقف مع الأسلاف في نظراتهم العقلية وفي شطحاتهم اللَّامعقولية كليهما، بمعنى يفرز بين ما هو معقول وما هو لا معقول في التراث العربي الإسلامي.
وقد اعتبر الكاتب هذه العملية رحلةً على طريق العقل اهتدى فيها بدرجات الإدراك في صعودها من البسيط إلى المركب، وهي المراحل التي أشار إليها الغزالي عند تأويله لآية النور: فالمشكاة، والمصباح، والزجاجة، والزيتونة، هي عنده درجات من الوعي تتصاعد وتزداد كشفًا ونفاذًا. «فاستخدمت بدوري هذه المراحل لأرى من خلالها خمسة قرون من تاريخ الفكر في المشرق العربي، من القرن السابع الميلادي إلى بداية القرن الثاني عشر؛ إذ خُيِّل إليَّ أن السابع قد رأى الأمور رؤية المشكاة، والثامن قد رآها رؤية المصباح، والتاسع والعاشر قد رأياها رؤية الزجاجة، التي كانت كأنها الكوكب الدري، ثم رآها الحادي عشر رؤية الشجرة المباركة التي تضيء بذاتها. وذلك لأني قد رأيت أهل القرن السابع وكأنهم يعالجون شؤونهم بفطرة البديهة، وأهل القرن الثامن وقد أخذوا يضعون القواعد، وأهل القرنين التاسع والعاشر قد صعدوا من القواعد المتفرقة إلى المبادئ الشاملة التي تضم الأشتات في جذوع واحدة، ثم جاء الحادي عشر بنظرة المتصوف التي تنطوي إلى دخيلة الذات من باطن لترى فيها الحق رؤية مباشرة»[3].
إن التماس طريق العقل في الثقافة العربية بالنسبة للدكتور زكي نجيب محمود، يعني «أننا نتخيَّر من تلك الثقافة مواقفها التي عالجتها بالإدراك السليم، لا بالعاطفة حتى وإن كانت رضية ودافئة»[4].
ويقصد الكاتب بالعاطفة «اللاعقل» في مقابل «العقل» الذي «يتقيد بالروابط السببية التي تجعل من العناصر المتباينة حلقات تؤدي في النهاية إلى نتيجة معينة، أما «العاطفة» أو «اللاعقل» فهي التي يؤثر صاحبها اختيار الطريق المحبب إلى النفس، بغض النظر عن تحقيق النتائج»[5].
إن خطة السير المحددة على ضوء تأويل الإمام الغزالي لآية النور المبيِّن لدرجات الإدراك السليم للفرد الواحد في نموه العقلي، قادت الدكتور زكي نجيب محمود إلى أن يقرأ التراث العربي الإسلامي «مهتديًا بتلك الدرجات الإدراكية وملتمسًا لكل درجة منها عصرًا تمثلت فيه، ورجالًا تمثلت فيهم وكتابات تجلت فيها»[6].
فالنور هنا هو قوة الإدراك، وأولى الصور الإدراكية هي المحسوسات «وهي التي رمزت إليها الآية الكريمة بالمشكاة، وماذا بداخل المشكاة ؟ بداخلها مصباح في زجاجة، أما المصباح فهو العقل الذي يدرك المعاني (...)، والزجاجة هنا ترمز إلى الخيال، ويقصد بالخيال هنا القدرة على حفظ ما تريده الحواس مخزونًا حتى يعرض على العقل عند الحاجة إليه (...)، لكن قوة خيال هذه –الزجاجة- من أين تأتيه؟ نعم، إنه موصوف في الآية بأنه كالكوكب الدري لمعانًا، لكن لهذا الضياء الساطع مصدرًا، فهو يوقد من شجرة مباركة، والشجرة هنا في تأويل الغزالي هي الروح الفكري الذي يؤلف بين العلوم العقلية»[7].
والشجرة المباركة تستمد قوتها ونورها من ذاتها وليس من معين خارجي {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ}، «إذن فهي المصدر الإدراكي الأخير الذي يقوم بذاته، ثم يكون منه المدد لغيره من صور الإدراك، هو أقرب شيء إلى ما نسميه في المصطلح الفلسفي بـ«الحدس» أو الإدراك بالفطرة أو بالبصيرة؛ لأنه إدراك يلمع دفعة واحدة يبرهن على غيره لكنه هو نفسه لا يحتاج إلى برهان»[8]، إنه إلهام؛ إذ إن هذا التدرج في تطور الإدراك العقلي بالنسبة للفرد الواحد على نحو ما شرحه الغزالي تأويلًا لآية النور[9]، ألهم الدكتور زكي نجيب محمود فكرة إسقاطه على تطور الإدراك العقلي في العصور الثقافية الإنسانية، «فعصر ثقافي كانت تسوده التجارب الأولية بالعالم المحيط وظواهره، فكان تعليله عند أهله بالأساطير، تلاه عصر انخرط فيه الفكر لينصب في قوالب وأطر هي التي يطلقون عليها اسم «العقل»، وكان ذلك عند اليونان الأقدمين، ثم أعقب هذا وذاك وحي بالمبادئ والقيم التي تمسك بثمرات العقل في شجرة واحدة، وكان ذلك في ديانات الشرق الأوسط التي انتهت إلى الإسلام»[10].
ثم إسقاطه كذلك على تطور الإدراك العقلي وتتبع مساره في التراث العربي، بمعنى أنه «التمس ذلك العقل في خواطر البداهة أولًا، ثم في محاجّات المنطق ثانيًا، ثم في حدس الصوفية ثالثًا»[11].
فمدارج الإدراك العقلي كما ترسَّمها الكاتب، تبدأ «بالعفوية النشيطة الحية، ومعقبة عليها بالتنظيم والتنسيق وتقعيد القواعد، ثم منتهية بإدراك المبادئ الأشمل والأعم. لولا أن الغزالي يضيف إلى ذلك مرحلة رابعة يكون عندها تأمل مُسدَّد بقوة الإلهام. وسأجعل هذه المدارج نفسها معالم طريقي عندما أشق لنفسي طريقًا في دنيا تراثنا الفكري، باحثًا عن العقل كيف بدأ، وكيف نما، وفي أي اتجاه استقام به السير أو انعرج؟[12].
ومن هنا فإن مهمتنا ستنصب على البحث عن الأدوات الإجرائية في موقف الدكتور زكي نجيب محمود إزاء أبي حامد الغزالي، على ضوء المنهج الذي اعتمده في الفرز بين ما هو معقول وبين ما هو لا معقول في تراث الغزالي الفكري، والذي على أساسه «عمَّده» نموذجًا وحيدًا للمرحلة التي رمز إليها بـ«الشجرة المباركة» في كتابه «المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري»، وصنّفه فيها مثالًا للعقلانية والعلمية رؤيةً ومنهجًا.
أبو حامد الغزالي: «الشجرة المباركة» مثال العقلانية
في الفصل السابع من القسم الأول الذي يعنونه بـ«الشجرة المباركة» يصل المؤلف إلى ذروة صعوده في تتبعه لدرجات الإدراك والوعي في التراث العربي الإسلامي عبر مراحل مساره التاريخي، من المشكاة إلى المصباح في مرحلة ثانية، إلى اشتداد وهج المصباح في مرحلة ثالثة، ثم في المرحلة الرابعة إلى الزجاجة التي تحيط بالمصباح التي اشتدت سطوعًا حتى كانت كالكوكب الدُّرِّي، الذي منه يطل على المصدر الذي يستمد منه الكوكب الدُّرِّي قوته، وهو الشجرة المباركة التي هي {زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ}، «أي إن الإدراك هنا يستمد شعلته من نبع باطني ذاتي يكفي صاحب الإدراك فيه أن يخلص النظر إلى قلبه فإذا هو مهتدٍ إلى الحق، وتلك هي نظرة المتصوفة»[13].
إن مرحلة الإدراك القصوى التي رمز إليها الكاتب بـ«بالشجرة المباركة»، وهي القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي) حسب التحقيب الذي اعتمده الكاتب، اكتمل فيها العقل فبلغ مداه واتسع أفقه، وعندما يبلغ الشيء مدى تطوره يبدأ في الرجوع القهقري، فكذلك العقل في المرحلة الخاتمة حينما آل الإدراك إلى القلب، أي إلى التصوف.
ويبدو أن لتراث أبي حامد الغزالي مستويين في رأي الدكتور زكي نجيب محمود، فهو يصنفه في مستوى التراث المعقول، ويصنفه كذلك في مستوى التراث اللامعقول. ففي مستوى التراث المعقول هو قمّة العقلانية، بل ويعجب من «علميته المنهجية في النظر»، التي يرى أنها «تصلح أن تكون نموذجًا للمنهج العلمي كيف يكون». «أما في مستوى التراث اللامعقول، فيصنفه كذلك نموذجًا له، بل ويناقض حكمه السابق بالقول: «إن الغزالي قد ظهر ليكون قوة رجعية قابضة»[14].
وسنحاول عبر هذا البحث استبطان دراسته للغزالي عبر المستوى الأول، لنرى مدى تطابق الحكم الذي اعتمده في هذا التصنيف مع معيارية خطاب الغزالي أولًا، ومع معيارية أداة التصنيف نفسها، وهي العقل ثانيًا. ولنسأل: ما الذي ميَّز الغزالي ليكون النموذج البارز للتراث «المعقول» في رأي الدكتور زكي نجيب محمود؟
الواقع أن للغزالي مكانة خاصة عند الدكتور زكي نجيب محمود، فقد جعله ممثلًا وحيدًا لمرحلة من مراحل تطور الإدراك العقلي، بل قمة اكتمال الإدراك العقلي، والكاتب وإن سمى هذه المرحلة بلذ هذا العصر «الشجرة المباركة» كعنوان للفصل السابع من الكتاب، وكذلك كعنوان لجزء من القرن الرابع وكل القرن الخامس (العاشر والحادي عشر الميلاديين) إلا أن الغزالي في حقيقة الأمر كان هو العنوان في الحالين؛ لأنه «هو الشجرة المباركة»[15].
وهو ينظر إليه بإجلال وتعظيم، فقد «طالت قامته حتى رآه (الكاتب) من بعيد كالنخلة الفارعة فهابه وتخشع له، وإن الناقد له ليتردد مائة مرة قبل أن يقدم على نقده؛ لأنه يعلم أنه واقف بإزاء طود شامخ راسخ أخلص النظر والقول، لم يكتب ما كتبه ليملأ الصحف بزخرف اللفظ، ولا ليلهي قارئه بقدرة يتظاهر بها أمامه ليتعالم في كذب، بل كتب ما كتبه مخلصًا صادقًا، ينظر إلى الفكرة المعروضة بين يديه نظرة تشملها من كافة وجوهها، فإذا انتهى به النظر إلى الحكم آمن به ودافع عنه بكل ما أوتي من قدرة على جمع الشواهد من مأثور القول، وعلى إقامة الحجة العقلية الخالصة يسوقها لتساير تلك الشواهد المأثورة عن السالفين الصالحين»[16].
والملاحظ أن الكاتب لم يبسط القول في حق أي عَلَم من أعلام الفكر العربي الإسلامي بالقدر الذي بسطه مع الغزالي، ولم يسترسل في معاني الإجلال والإكبار قدر استرساله مع الغزالي، حتى لقد ختم بالقول: «كان الغزالي في تراثنا الفكري الشجرة المباركة، شمخت بفروعها ورؤوسها، وامتدت على العصور بظلالها (...)، فله علينا حق التعظيم وليس عليه منا لوم إذا جاء الناس من بعده صغارًا تابعين»[17].
لكن هذا ليس كافيًا للتسليم للكاتب في حكمه القاطع باعتبار الغزالي مثال العقلانية، وهو «الشجرة المباركة» -حسب ما حدد الكاتب نفسه لهذا المفهوم من دلالة-، وهو في الوقت نفسه مثال اللاعقلانية.
فهل سنجد فيما كتب الدكتور زكي نجيب محمود عن الغزالي ما يبرر هذا الحكم؟
لقد درس الدكتور زكي نجيب محمود الغزالي وفق التدرج المنهجي التالي:
أولًا: التعرض لتجربته في «المنقذ من الضلال».
ثانيًا: منهج الغزالي العلمي بين ديكارت وبيكون.
ثالثًا: مفهوم اليقين عند الغزالي.
رابعًا: مفهوم العقل عند الغزالي.
أما فيما يخصنا –نحن- فإننا سنتتبع دراسة الدكتور زكي نجيب محمود لهذه المباحث لكن بشاغل واحد سيشكل خيطًا ناظمًا لها، وهو البحث عبرها عن إجابة السؤال السابق.
أولًا: تجربة الغزالي في «المنقذ من الضلال»
لم يطل الكاتب الحديث عن هذه التجربة، إذ اكتفى بتأكيد القول: إن الغزالي «هو الشجرة المباركة التي تنمو بقوة فطرتها دون أن تتكئ على المعين الخارجي كما يفعل الصغار»[18].
والمماثلة هنا واضحة بين خصائص «الشجرة المباركة» التي تضيء بذاتها[19] وبين الغزالي الذي «نضح الأفكار من المعين الغزير الدافق في نفسه الخصبة الغنية المثمرة، فلم يعبأ أن جاءت تلك الأفكار متفقة أو مختلفة مع معاصريه»[20].
إن الكاتب بهذا التقييم، وإن قصد به الإكبار والإجلال، إلا أنه أظهر الغزالي في صورة « المتفرد» الذي لا يهمه من أمر مجتمعه شيء إلَّا خاصة نفسه، والواقع أن الغزالي لم تكن غايته من تأليف الكتاب تحدي معاصريه برفض علومهم وتسفيهها –وهو الذي تعلمها فأتقنها–، إنما كانت غايته «أن يبث غاية العلوم وأسرارها وغائلة العلوم وأغوارها، وأن (يحكي) ما قاساه في استخلاص الحق من بين اضطراب الفرق مع تباين المسالك والطرق، وما استجرأ عليه من الارتفاع عن حضيض التقليد إلى بقاع الاستبصار... إلخ»[21].
ومع ذلك فليس هذا المهم ولا هو المطلوب، بل المهم والمطلوب في كتاب «المنقذ من الضلال «هو الشاغل المعرفي الذي صاحب الغزالي في تجربته حين عاشها وحين كتبها، والشاغل المعرفي هو كما عبر عنه الغزالي نفسه بقوله: «فقلت في نفسي أولًا إنما مطلوبي العلم بحقائق الأمور، فلا بد من طلب حقيقة العلم ما هي»[22].
وهنا السؤال: كيف طلب الغزالي حقيقة العلم؟ أي بأي منهج ؟ هل طلبه بمنهج علمي نظري أم بمنهج سلوكي صوفي كشفي؟.
ثانيًا: منهج الغزالي العلمي.. الغزالي وديكارت وبيكون
يرى الدكتور زكي نجيب محمود أن للغزالي منهجًا علميًّا يكاد يجمع كل أطراف المنهج الرياضي عند ديكارت والمنهج التجريبي عند بيكون. هذان العالمان هما –بتعبير الكاتب– «إمامان من أئمة المنهج العلمي في تاريخ الفكر البشري كله (...)، ويعدان فاتحة العصر في الفكر الأوروبي بسبب المنهاج الجديد، ومع ذلك فيكاد لا يكون في منهجيهما نقطة واحدة لم يوردها الغزالي شرطًا من شروط النظرة العلمية التي نثر أصولها على صفحات كتبه نثرًا»[23].
ويقارن الكاتب بين ما يدعو إليه ديكارت من عدم التسليم بأية فكرة إلَّا إذا كانت من اليقين الذي لا يرقى إليه شك، وبين ما يقوله الغزالي عن العلم اليقيني «الذي تنكشف فيه العلوم انكشافًا لا يبقى معه ريب»[24]؛ لكونهما (الغزالي وديكارت ) اعتمدا المنهج الرياضي الذي يقوم على استخراج النتائج اليقينية من مسلمات يقينية بحكم كونها حقائق أولية بديهية كالاثنين أكثر من الواحد، بعد الشك في المعلومات التي سبق تحصيلها عن طريق ما يسميه الغزالي بـ«الجليات»، وهي «الحواس والضروريات»، وقبل ذلك الشك في «التقليدات»[25].
وهنا يتوقف الدكتور زكي نجيب محمود ليحذر القارئ من سرعة الظن بأن الغزالي ومن بعده ديكارت، قد أصابا الحق حين تشككا في صدق الحواس على نحو ما فعلا فيقول: «فأقول في ذلك ما قاله فلاسفة التحليل التجريبيون المعاصرون في نقدهم لديكارت: إن ما قد ظنه الغزالي خطأ وقعت فيه حاسة البصر ثم صححه العقل، إنما هو خطأ في الاستدلال العقلي لا في الإدراك الحسي»[26].
إن الدكتور زكي نجيب محمود يقول هذا من منطلق الفلسفة الوضعية المنطقية باعتباره «الصوت الوحيد الذي يعبر عنها في شرقنا العربي» كما لا حظ ذلك محمود أمين العالم[27]؛ لذلك فهو يشدد على أن «لا يشكك القارئ كما تشكك الغزالي وديكارت في أمانة الحواس وما تدركه؛ لأن ما تدركه الحواس عن الأشياء الخارجية محال أن تكون كذبًا من حيث هو خبرة معينة وقعت لصاحبها، حتى لو اختلفت الناس جميعًا بعد ذلك في خبراتهم عن تلك الخبرة المعينة»[28]، وللدكتور مقال بعنوان «الشك الفلسفي» قال فيه: «وما هذا الشك الفلسفي إلَّا كلام يراد به تزجية الفراغ وتسرية الهموم، فيما أظن»[29].
وبعد أن ينتهي الغزالي من بسط منهجه شاكًّا في «العقليات» كما شك في «المحسات»[30] يعلق الدكتور زكي نجيب محمود فيقول: «هكذا رسم لنا الغزالي طريقًا للشك المنهجي لا نرى بعده ما ننسبه إلى ديكارت ولا ننسبه إليه»[31].
ولنا أن نسأل «هل انتهى الغزالي إلى الغاية من الشك؟ وهل هذا هو منتهى منهجه؟ ونجيب:
نعم، إن هذا هو منتهى الشك ومنتهى المنهج كذلك، منتهى الشك لأنه ليس بعده إلَّا السفسطة، ومنتهى المنهج لأنه بداية التراجع عنه.
وهذا ما انتهى إليه الغزالي فعلًا، إذ لم يوصله «الشك» إلَّا إلى السفسطة، ويعترف بذلك فيقول: «فلما خطرت لي هذه الخواطر (يعني الشك في المدركات الحسية والعقلية)، وانقدحت في النفس حاولت لذلك علاجًا فلم يتيسر، إذ لم يكن دفعه إلَّا بالدليل ولم يمكن نصب دليل إلَّا من تركيب العلوم الأولية، فإذا لم تكن مسلَّمة لم يمكن تركيب الدليل، فأعضل هذا الداء ودام تقريبًا من شهرين أنا فيهما على السفسطة بحكم الحال لا بحكم المنطق والمقال»[32].
ولم يكن له من مخرج من تلك الأزمة والشفاء من ذلك المرض -الذي اعتبره البعض مرضًا عقليًّا نتج عن قلق وخوف من خطر سياسي[33]- إلَّا بالتراجع عن منهجه، أي بالتراجع عن الشك في «الضروريات العقلية»، لكن هذا التراجع لم يكن بموجب نظر عقلي بل بنور إلهي كشفي.
هذا النور الإلهي الكشفي هو الذي حاول الدكتور زكي نجيب محمود تأويله على غير هذه الصفة، فقال: «وما هذا النور إلَّا حقائق يراها صادقة بالفطرة»[34]. والواقع أن هذا التأويل يجانب تمامًا المعنى الذي يدل عليه منطوق النص الذي هو على النحو التالي: «...حتى شفى الله تعالى من ذلك المرض وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال، ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوقًا بها على أمر ويقين، ولم يكن ذلك بنظم دليل وتركيب كلام، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر، وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف، فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المحررة فقد ضيق رحمة الله (...)، إن الله تعالى خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليه من نوره، فمن ذلك النور ينبغي أن يطلب الكشف، وذلك ينبجس من الجود الإلهي في بعض الأحايين»[35].
فالنص هنا واضح كل الوضوح، يعترف فيه الغزالي بشفائه من مرض «السفسطة» التي عاشها «حالًا» ولم يعشها «مقالًا». ويعترف كذلك بتراجعه عن الشك في «الضروريات العقلية»، حيث أصبحت «مقبولة وموثوق بها»، ويعترف كذلك بأن هذا التراجع عن الشك «لم يكن بنظم دليل وترتيب كلام، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر»، ويعترف أخيرًا بأن «ذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف» التي هي معارف كشفية.
وما ذاك التأويل الذي قال به الدكتور زكي نجيب محمود إلَّا بغرض تبرير التماثل الذي كرَّسه بين «منهج الشك» عند الغزالي و«منهج الشك» عند ديكارت، وهذا التماثل الذي اكتسب «شرعية معرفية» مسلمًا بها لدى كل الذين درسوا هذا الموضوع، وكذلك تكريس القول الشائع بأن الغزالي أوجد وأرسى «قواعد» منهج الشك، بناءً على ما أبداه من شك في مدركات الحواس والعقل في كتابه «المنقذ من الضلال».
غير أنه يمكننا إبداء بعض الملاحظات حول هذا الموضوع فنقول:
أولًا: إن هذا الشك (شك الغزالي في مدركات الحواس ومدركات العقل) هو حال عارض في حياة الغزالي، على شكل «مرض نفسي» لم يدم أكثر من شهرين، وهو غير الشك الصحي الذي يجب أن يتحلى به كل باحث، وهو الذي اعتمده الغزالي وجعله شرطًا للمعرفة الصحيحة بقوله: «فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والضلالة»[36].
ثانيًا: إن هذا الشك افتقر إلى القصدية التي يتطلبها المنهج، بمعنى أن الغزالي لم يكن يقصد «رسم طريق للشك المنهجي»؛ إذ لم يكن مخيرًا في ذلك الشك الذي اعتبره هو نفسه «مرضًا» و«داءً».
ثالثًا: إن ذلك الشك لم يكن مفكَّرًا فيه، أي إنه لم يأتِ من طريق الإمعان الفكري، بل أتى من طريق الخاطر النفسي باعتراف الغزالي نفسه، «فلما خطرت لي هذه الخواطر وانقدحت في النفس حاولت لذلك علاجًا فلم يتيسر»[37].
وفوق ذلك فهو خاطر مرضي في نظر الغزالي نفسه، مما ينفي عنه تمامًا ليس فقط القصدية بل الرضا كذلك، لكن لا يفهم من ملاحظتنا هاته أننا نشترط القصدية في سلامة الأفكار وجديتها وأصالتها، فالأفكار الأصيلة والجدية والسليمة كثيرًا ما تأتي من طريق الخاطر تمامًا مثلما تأتي من طريق الإمعان الفكري المتأتي من إعمال العقل. لكننا أردنا -فقط– أن نبدي تحفظنا على قول من قال: إن الغزالي قصد وضع قواعد منهج الشك.
رابعًا: إن الغزالي لم يكتب عن هذا الشك في إطار متن تدوين العلوم، بل في إطار الحكي عن تجربة سفسطائية مرَّ بها، لذلك فقد حكى عنه (أي الشك) في مدخل الكتاب بعنوان: «مدخل السفسطة وجحد العلوم»، واعتبره في هذا المدخل داءً سفسطائيًّا بقوله: «فأعضل هذا الداء (داء الشك) ودام تقريبًا من شهرين أنا فيهما على السفسطة بحكم الحال لا بحكم النطق والمقال»[38]، أي إنه عاش هذا الشك السفسطائي كمرض نفسي عارض، لكنه لم يقل به ولم يعتمده لا كتابة ولا تدريسًا؛ بدليل أن جلّ كتبه المشهورة كتبها بعد هذه التجربة ولم يعتمد فيها هذا الشك السفسطائي، ولم يؤثَر عنه أنه كان يدعو له في دروسه.
خامسًا: إن هذا المرض السفسطائي أصاب الغزالي مباشرة بعد تحرره من ربقة التقليد «والارتفاع عن حضيضه إلى بقاع الاستبصار»[39]، ومع بداية عمله الدؤوب من أجل «استخلاص الحق من بين اضطراب الفرق»[40].
ولم يباشر الغزالي هذا الجهد النقدي المعرفي (نقد المعرفة) إلَّا بعد أن شُفي من لوثة ذاك المرض (مرض الشك)؛ ولذلك فلا عجب أن جاءت كل كتبه خلوًا منه. وها هو يعترف بكل صفاء ووضوح: «ولما شفاني الله تعالى من هذا المـرض بفضـله وسعة جوده انحصرت أصناف الطالبين عندي في أربع فرق (...)، فقلت في نفسي: الحق لا يعدو هذه الأصناف الأربعة، فهؤلاء هم السالكون سبل طلب الحق فإن شذ الحق عنهم فلا يبقى في درك الحق مطمع؛ إذ لا مطمع في الرجوع إلى التقليد بعد مفارقته (...)، فابتدرت سلوك هذه الطريق واستقصاء ما عند هذه الفرق»[41].
واضح إذن أن الغزالي بعد أن شفي وعـادت نفسـه إلى الصحـة والاعتدال، «ورجعت الضروريات العقلية مقبولة وموثوقًا بها لـديـه على أمـر ويقين»[42]، اختار «نقد المعرفة» منهجًا علميًّا لـ«درك الحق» والبحث عن «اليقين» عوضًا عن الشك في مدركات الحواس والضروريات العقلية الذي لم يوصله إلَّا إلى السفسطة. فما هو اليقين الذي كان يبحث عنه الغزالي إذن؟
ثالثًا: مفهوم اليقين عند الغزالي.. المماثلة مع ديكارت
يدرس الدكتور زكي نجيب محمود مفهوم اليقين عند الغزالي بالاعتماد أكثر على كتابـين من كل الكتب التي كـتبها الغـزالي التي تناول في بعضها مفـهـوم اليـقين، والكتابان هما: «ميزان العمل» و«معيار العلم» وهذا الأخير –وهو الذي اعتمده أكثر- هو في فن المنطق، أما الأول فيكاد يكون تكملة للثاني.
يقول الغزالي في آخر كتاب معيار العلم: «وإذا كانـت السعـادة في الدنـيـا والآخرة لا تنال إلًّا بالعلم والعمل، وكان يشتبه الحقيقي بما لا حقيقة له وافتقر بسببه إلى معيار، فكذلك يشتبه العمل الصالح النافع في الآخرة بغيره، فيفتقر إلى ميزان تدرك به حقيقته، فلنصنف كتابًا في ميزان العمل كما صنفناه في «معيار العلم»، ولنفـرد ذلك الكتـاب بنفسـه ليتجرد له من لا رغبة له في هـذا الكـتاب»[43].
وبحسب الترتيب التاريخي لمؤلفات الغزالي الذي حققه الدكتور عبدالرحمن بدوي في كتابه «مؤلفات الغزالي»، فإن الكتابين يعتبران من أوائل ما كتب الغزالي، فـ«معيار العلم» في الترتيب الثامن عشر، و«ميزان العمل» في الترتيب الواحد والعشرين، حسب الترتيب العام لكتب الغزالي التي بلغت أكثر من ثلاث مئة كتاب عدا تلك التي عدت منحولة.
وهذا يعني أن الغزالي كتب الكتابين في بداياته الأولى، حين كان شغوفًا بالفلسـفة اليونانـية وبالمنطق خاصة، وبالكلام والجدل والمناظرات، حتى «أدخله سيلان ذهنه في مضايق الكلام ومزال الأقدام»[44].
ولعل اختيار الدكتور زكي نجيب محمود لكتاب (معيار العلم) على الخصوص، وبالذات من هذه الفترة من حياة الغزالي التي كان يعتقد فيها «أن العقل أعلى الملكات»[45] إنما لِمَا وجد فيها (الدكتور زكي نجيب محمود) ما يسهل عليه إقامته الدليل على صواب المماثلة التي أقامها بين الغزالي وديكارت. ففي أول حديث له عن اليقين عند الغزالي بدأ بقوله: «شغل الغزالي بفكرة اليقين على نحو ما رأينا ديكارت بعد ذلك، شأن كثيرين من رجال الفلسفة قدامى ومحدثين حين أرادوا أن يقيموا بناء الفكر العلمي على أسس لا يطرأ عليها خلل»[46].
فما هي –إذن– هذه الأسس التي بنى الغزالي عليها اليقين؟
يجيب الدكتور زكي نجيب محمود بقوله: «وكانت الطريق السائدة بين الفلاسفة أجمعين والغزالي بينهم أن يتخذوا من منهج العلـم الرياضي نموذجـًا، ومادام العلم الرياضي قائمًا على استخراج النتائج اليقينية من مسلمات مفروض فيها أنها يقينية أيضًا بحكم كونها حقائق تراها البديهة رؤية مباشرة، إذن فقد انجلى الطريق أمامنا، وهو أن نبدأ دائمًا من حقائق أولية بديهية ثم نستخرج منها ما يلزم عنـها وبذلك نضمن اليقين ابتداءً ووسطًا وانتهاءً وذلك ما حاوله الغزالي»[47].
ثم يستشهد بكتاب «معيار العلم» بقول الغزالي: «البرهان الحقيقي ما يفيد شيئًا لا يتصور تغيره ويكون بحسب مقدمات البرهان فإنها تكون يقينية أبدية لا تستحيل ولا تتغير أبدًا. وأعني بذلك أن الشيء لا يتغير وإن غفل إنسان عنه، كقولنا: الكل أعظم من الجزء، والأشياء المساوية لشيء واحد متساوية وأمثالها، فالنتيجة الحاصلة منها أيضًا تكون يقينية»[48].
إن هذا الاستشهاد الذي يعتبر العتبة الأولى لبداهة اليقين استثمره الدكتور زكي نجيب محمود ليؤسس عليه استشهادات أخرى على شكل متواليات، يتأسس فيها التالي على الذي قبله لينتج في الأخير عن الكل ما يتوخاه الدكتور زكي نجيب محمود.
ولنتتبع ذلك في تعليقه على النص السابق حيث يقول: «والذي تجدر ملاحظته لأهميته هو أن النتيجة العلمية مادامت قد أقيمت على مثل هذا البرهان اليقيني فإنها تكون معصومة من الخطأ عصمة كاملة، فإذا عرفنا حقيقة ما بنيت على أسس اليقين العلمي استحال علينا بعد ذلك أن نصدق أحدًا يزعم لنا خلافها مهما كانت منزلته ومهما كان مصدره»[49]. (لنلاحظ قوله: «مهما كانت منزلته ومهما كان مصدره»)، هذه المتوالية التي تأسست على «البرهان اليقيني» السابـق ونتجت عنه، ستتأسس عليها –كذلك– متوالية أخرى وتكون نتيجة لها، وهو هذا الاستشهاد بقول الغزالي: «بل لو نقل عن نبي نقيضه فينبغي أن يقطع بكذب الناقل أو بتأويل اللفظ المسموع عنه»[50].
النص هنا تمهيد للقول بالشك في نبوة النبي إذا كان ما نقل عنه يناقض البرهان اليقيني، فالتدرج البرهاني هنا يتخذ شكل بيداغوجية الانتقال من العام إلى الخاص، ففي النص الأسبق كانت الدعوة إلى عدم تصديق أي أحد «مهما كانت منزلته ومهما كان مصدره»، وفي النص السابق صارت الدعوة إلى تكذيب الناقل عن النبي أو تأويل ما نقل عنه. وإذا لم يكن تأويله إلى ما يقبله العقل ممكنًا، فالإجابة هنا يجدها الدكتور زكي نجيب محمود جاهزة عند الغزالي في قوله: « فشك في نبوة من حكي عنه بخلاف ما عقلت إن كان ما عقلته يقينًا فإن شككت في صدقه لم يكن يقينك تامًّا»[51].
ويبادر الدكتور زكي نجيب محمود إلى سَدِّ ثغرة قد يخترق منها هذا «الحصن» البرهاني فيقول: «وأما أن نحتمل صدق الرواية برغم أنها مناقضة لما أثبتناه بالبرهان اليقيني على النحو الذي بيَّناه فأمر لا يجوز وروده»[52]، فهذه نتيجة دحرج (داعية الوضعية المنطقية)[53] القارئ إليها. ويتساءل داعيًا: «فماذا يريد العربي في عصرنا أساسًا أقوى من هذا الأساس ليكون به علمي المنهج والنظر»[54].
بل إن الدكتور زكي نجيب محمود ليؤصل لدعوته تلك حينما يقرر وبدون تردد أسبقية الغزالي على غيره من علماء أوروبا بقوله: «ولقد تنبَّه ديكارت وبيكون معًا بعد الغزالي بخمسة قرون إلى خطورة هذا الأساس المنهجي في التفكير، لأنهما جاءا في أعقاب قرون دينية هي القرون الوسطى، حيت كانت الحجة التي تقام على فكرة مَّا، هي أنها منسوبة لفلان الفلاني من القدماء أو مأخوذة من الكتاب الفلاني الذي هو موضع ثقة وتصديق، فقال الرجلان ديكارت في فرنسا وبيكون في إنجلترا: إن صدق الفكرة لا يقام على قائلها مهما يكن شأنه، وكذلك قال الغزالي قبلهما في أكثر من موضع من كتبه الكثيرة»[55].
وبعد أن يطمئن الدكتور زكي نجيب محمود لهذه المماثلة يعود إلى الحقائق الأولية التي يقام على منهجها بناء العلم اليقيني ليتساءل عن: متى تكون الحقيقة الأولية أولية؟
ليجيب نقلًا عن الغزالي فيقول: «يقول الغزالي في «معيار العلم»: إن الأولي يقال على وجهين: «أحدهما ما هو أولي في العقل أي لا يحتاج في معرفته إلى وسيط، كقولنا: الاثنان أكثر من الواحد. والثاني أن يكون بحيث لا يمكن إيجاب المحمول أو سلبه على معنى آخر أعم من الموضوع، فإذا قلنا «الإنسان يمرض ويصح لم يكن ذلك أوليًّا له بهذا المعنى؛ إذ يقال على ما هو أعم منه وهو الحيوان. نعم، للحيوان أولي لأنه لا يقال على ما هو أعم منه»[56].
وبعد أن يشرح الدكتور زكي نجيب محمود هذه الفكرة التي اتضح من خلالها نوع «اليقين» الذي قصده الغزالي في هذه المرحلة من حياته العلمية وهو «اليقين الرياضي»، أصر الدكتور على إعادة تأكيد ذلك بالقول: «هذا هو ما يحدد به الغزالي شروط الحقيقة الأولية التي هي أساس البناء العلمي اليقيني كائنًا ما كانت مادة العلم الذي نقيم بناءه»[57].
إن هذا التأكيد قد يدعونا للتساؤل عن: إمكانية تطور مفهوم اليقين لدى الغزالي؟ ويدعونا للتساؤل كذلك عن: لماذا اقتصر الدكتور زكي نجيب محمود على إبراز مفهوم اليقين عند الغزالي –فقط- بوصفه يقينًا رياضيًّا، وأهمل أو تجاهل دلالات أخرى لمفهوم اليقين يكون الغزالي قد قال بها في كتبه وخاصة تلك التي ألَّفها أثناء الخلوة وبعد الخلوة؟.
أم أن الدكتور زكي نجيب محمود لم يقف على أي تغير في دلالة المفهوم على امتداد عمر الغزالي العلمي؟
الواقع أن الخلوة كانت عتبة فارقة في حياة الغزالي كلها بين ما قبلها وما بعدها، بدءًا من إخلاص النية في أعماله كلها والتي من أجلِّها تعلُّم العلم وتعليمه، «ولاحظت أعمالي وأحسنها التدريس والتعليم فإذا أنا فيها مقبل على علوم غير مهمة ولا نافعة في طريق الآخرة، ثم تفكرت في نيتي في التدريس فإذا هي غير خالصة لوجه الله تعالى بل باعثها ومحركها طلب الجاه وانتشار الصيت»[58].
وانتهاءً بسلوكه الذي تغير تمامًا من النقيض إلى النقيض، فقد روى الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أحدهم أنه قال: «وقد زرته (أي الغزالي) مرارًا وما كنت أحدس في نفسي مع ما عهدته عليه من الزعارة، والنظر إلى الناس بعين الاستخفاف كبرًا وخيـلاء واعتزازًا بما رزق من البسطة والنطق والذهن وطلب العلو (كان هذا قبل الخلوة) أن صار على الضد وتصفى عن تلك الكدورات، وكنت أظنه متلفعًا بجلباب التكلف متنمسًا بما صار إليه فتحققت بعد السبر والتنقير أن الأمر على خلاف المظنون، وأن الرجل أفاق بعد الجنون»[59]، وكان هذا بعد الخلوة.
فإذا كان سلوك الغزالي قد تغيَّر هذا التغيُّر الجذري[60] بعد الخلوة فما كان ذلك ممكنًا إلَّا بعد تصحيح النية في ممارسة العلم تعلُّمًا وتعليمًا. وتصحيح النِّية لا ينتج عنه –فقط– تصحيح السلوك، بل وينتج عنه كذلك –وهذا هو الأهم في بحثنا- تصحيح المفاهيم.
ومن المفاهيم التي بادر الغزالي إلى تصحيحها، هي اعتباره: «العقل أعلى الملكات الإدراكية»، وهذا الاعتبار هو الذي حدَّد مفهوم اليقين الذي سماه الدكتور زكي نجيب محمود «اليقين الرياضي».
ولأن العقل لم يعد أعلى الملكات الإدراكية عند الغزالي بعد الخلوة، فإن اليقين تبعًا لذلك لم يعد يتحدَّد به، بل أصبح يتحدد بـ«طور آخر وراء العقل» «تنفتح فيه عين أخرى يبصر بها أمورًا، العقل معزول عنها كعزل قوة التمييز عن إدراك المعقولات، وكعزل قوة الحس عن مدركات التمييز»[61].
وهذا «الطور» هو الكشف[62] والذوق[63] الذي هو كالمشاهدة، ومحله القلب، ولا يوجد إلَّا في سلوك طريق التصوف الذي يصقل ويصفي القلب كما تصقل المرآة ويجعله مستعدًا لأن تتجلى فيه العلوم اليقينية، فالقلب الصقيل هو «بالإضافة إلى حقائق المعلومات كالمرآة بالإضافة إلى صور المتلونات، فكما أن للمتلونات صورة ومثال، تلك الصورة ينطبع في المرآة ويحصل منها كذلك لكل معلوم حقيقة، ولتلك الحقيقة صورة تنطبع في مرآة القلب وتتضح فيها (...) فالقلب مرآة مستعدة لأن يتجلى فيها حقيقة الحق في الأمور كلها»[64].
وحقيقة الحق هي اليقين الذي ما بعده يقين والذي يتوقف إدراكه على تصفية القلب وتزكيته، وإنما خلت القلوب من العلوم اليقينية إلَّا بسبب «كدورة المعاصي والخبث الذي يتراكم على وجه القلب من كثرة الشهوات، فإن ذلك يمنع صفاء القلب وجلاءه فيمتنع ظهور الحق فيه لظلمته وتراكمه»[65].
ويعرف الغزالي هذا القلب المدرك للعلوم اليقينية، بأنه: «لطيفة ربانية روحانية، وتلك اللطيفة هي حقيقة الإنسان، وهو المدرك العالم العارف من الإنسان (...)، وحيث ورد في القرآن والسنة لفظ القلب فالمراد به المعنى الذي يفقه من الإنسان ويعرف حقيقة الأشياء»[66].
ويربط الغزالي بين تزكية القلب وحصول أنوار الإيمان وإشراق نور المعرفة فيه، وتبعًا لذلك يقسّم تجلي أنوار ذلك الإشراق والإيمان إلى ثلاث مراتب:
الأولى: «إيمان العوام، وهو إيمان التقليد المحض».
الثانية: «إيمان المتكلمين، وهو ممزوج بنوع استدلال، ودرجته قريبة من درجة إيمان العوام».
الثالثة: «إيمان العارفين، وهو المشاهد بنور اليقين»[67].
ويضرب الغزالي مثلًا لهذه المراتب: «بأن تصديقك بكون زيد مثلًا في الدار له ثلاث درجات:
الأولى: أن يخبرك من جرَّبته بالصدق ولم تعرفه بالكذب ولا اتَّهمته في القول، فإن قلبك يسكن إليه ويطمئن بخبره بمجرد السماع، وهذا هو الإيمان بمجرد التقليد، وهو مثل إيمان العوام.
الثانية: أن تسمع كلام زيد وصوته من داخل الدار ولكن من وراء جدار فتستدل به على كونه في الدار فيكون إيمانك وتصديقك ويقينك بكونه في الدار أقوى من تصديقك بمجرد السماع، وهذا إيمان ممزوج بدليل، والخطأ أيضًا ممكن أن يتطرق إليه؛ إذ الصوت قد يشبه الصوت، وقد يمكن التكلف بطريق المحاكاة إلَّا أن ذلك قد لا يخطر ببال السامع؛ لأنه ليس يجعل للتهمة موضعًا ولا يُقدِّر في هذا التلبيس والمحاكاة غرضًا.
الثالثة: أن تدخل الدار فتنظر إليه بعينيك وتشاهده، وهذه هي المعرفة الحقيقية والمشاهدة اليقينية، وهي تشبه معرفة المقربين والصدِّيقين؛ لأنهم يؤمنون عن مشاهدة فينطوي في إيمانهم إيمان العوام والمتكلمين، ويتميزون بمزية بيِّنة يستحيل معها إمكان الخطأ»[68].
ومن هنا يفرق الغزالي بين طريق الصوفية في إدراك اليقين وطريق «النظار (الفلاسـفة والمتكلمين)، فالعلوم والمعارف التي تحصل في القلب تختلف من حيث طرق حصولها، «فتارة تهجم على القلب كأنه ألقي فيه من حيت لا يدري، وتارة تكتسب بطريق الاستدلال والتعلم، فالذي يحصل لا بطريق الاكتساب وحيلة الدليل يسمى إلهامًا، والذي يحصل بالاستدلال يسمى اعتبارًا واستبصارًا (...)، والأول يختص به الأولياء والأصفياء، والثاني وهو المكتسب بطريق الاستدلال يختص به العلماء، وحقيقة القول فيه أن القلب مستعد لأن تتجلى فيه حقيقة الحق في الأشياء كلها، وإنما حيل بينه وبينها (بالموانع من الكدورات والمعاصي)، فهي كالحجاب المسدل الحائل بين مرآة القلب وبين اللوح المحفوظ الذي هو منقوش بجميع ما قضى الله به إلى يوم القيامة، وتجلي حقائق العلوم من مرآة اللوح في مرآة القلب يضاهي انطباع صورة من مرآة في مرآة تقابلها»[69].
ولأن هذه الطريقة التي بها يتلقى القلب أو يلهم العلوم اللَّدُنية اليقينية، قد يصعب على الكثير فهمها أو تصورها، فإن الغزالي عمد إلى إيضاح ذلك بمثال محسوس قال فيه: «إنه لو فرضنا حوضًا محفورًا في الأرض احتمل أن يساق إليه الماء من فوقه بأنهار تفتح فيه ويحتمل أن يحفر أسفل الحوض ويرفع منه التراب إلى أن يقرب من مستقر الماء الصافي فينفجر الماء من أسفل الحوض ويكون ذلك الماء أصفى وأدوم، وقد يكون أغزر وأكثر، فذلك القلب مثل الحوض والعلم مثل الماء وتكون الحواس الخمس مثال الأنهار، وقد يمكن أن تساق العلوم إلى القلب بواسطة أنهار الحواس والاعتبار بالمشاهدات، حتى يمتلئ علمًا ويمكن أن تُسد هذه الأنهار بالخلوة والعزلة وغض البصر، ويعمد إلى عمق القلب بتطهيره ورفع طبقات الحجب عنه، حتى تتفجر ينابيع العلم من داخله»[70].
إن ما يمكن ملاحظته في هذا النص، هذا الازدواج الوظيفي للحواس في علاقتها بالقلب، فهي تارة تكون رافدًا معرفيًّا وتارة أخرى تكون حاجبًا معرفيًّا، ولقد أشار إلى هذا المعنى كذلك محي الدين بن عربي حيث حذر من الجمع بين العلم الذي اقتضاه الدليل العقلي أو حصل عن طريق الحواس وبين العلم الموروث عن طريق الإلهام والكشف بقوله: «ولا تطلب الجمع بين الطريقتين (...)، واحذر أن تصرف نظرك الفكري فيما أعطاكه الإيمان فتحرم عين اليقين»[71].
بمعنى: لا تجعل علوم الكشف والذوق موضوعًا لتفسيراتك العقلية فتحجبك عن علوم «عين اليقين» من حيث كنت تحاول إدراكها «فعين اليقين» عند الصوفية هي علوم اللوح المحفوظ، وعلوم اللوح المحفوظ لا تدرك لا بالحواس ولا بالعقل ولكنها تدرك بالقلب عن طريق الذوق والكشف.
«فالقلب –كما يقول الغزالي– قد يتصور أن يحصل فيه حقيقة العالم وصورته تارة من الحواس وتارة من اللوح المحفوظ، كما أن العين يتصور أن يحصل فيها صورة الشمس تارة من النظر إليها، وتارة من النظر إلى الماء الذي يقابل الشمس، ويحكي صورتها، فمهما ارتفع الحجاب بينه وبين اللوح المحفوظ رأى الأشياء فيه وتفجر إليه العلم منه فاستغنى عن الاقتباس من داخل الحواس، فيكون ذلك كتفجُّر الماء من عمق الأرض، ومهما أقبل على الخيالات الحاصلة من المحسوسات كان ذلك حجابًا له عن مطالعة اللوح المحفوظ، كما أن الماء إذا اجتمع في الأنهار منع ذلك من التفجر في الأرض، وكما أن من نظر إلى الماء الذي يحكي صورة الشمس لا يكون ناظرًا إلى نفس الشمس. فإذن للقلب بابان، باب مفتوح على عالم الملكوت وهو اللوح المحفوظ وعالم الملائكة، وباب مفتوح على الحواس الخمس المتمسكة بعالم الملك والشهادة (...)، فأما انفتاح باب القلب إلى الاقتباس من الحواس فلا يخفى عليك، وأما انفتاح بابه الداخل إلى عالم الملكوت ومطالعة اللوح المحفوظ، فتعلمه علمًا يقينيًّا بالتأمل في عجائب الرؤيا واطلاع القلب في النوم على ما سيكون في المستقبل، أو كان في الماضي من غير اقتباس من جهة الحواس، وإنما ينفتح ذلك الباب لمن انفرد بذكر الله تعالى (...)، فإذن الفرق بين علوم الأولياء والأنبياء، وبين علوم العلماء والحكماء هذا، وهو أن علومهم تأتي من داخل القلب من الباب المنفتح إلى عالم الملكوت، وعلم الحكمة يأتي من أبواب الحواس المفتوحة إلى عالم الملك»[72].
أين هذا الكلام من ذاك الذي استشهد به الدكتور زكي نجيب محمود من كتاب «معيار العلم» خاصة، بطريقة انتقائية، إسقاطية، تماثلية، كان كل هدفها هو «ديكرتة» (من ديكارت) الغزالي و«بيكونته» (من بيكون) بأثر رجعي.
ولأن المبحث الذي نحن بصدده لا يحتمل أكثر مما قلناه عن «اليقين» عند الغزالي فسنكتفي بما قلناه، وإلَّا فإن ما كتبه الغزالي عن «اليقين» في كتبه الكثيرة أكبر من أن يقال في مبحث صغير كهذا.
إنما أردنا فقط أن نشير إلى أن الغزالي لم يقل بـ«اليقين الرياضي» –فقط– كما حاول الدكتور زكي نجيب محمود إيهام قارئه، بل إنه استقر –أثناء الخلوة وبعدها– على القول كذلك باليقين الكشفي القلبي الصوفي، الذي يسمى في الاصطلاح الصوفي «عين اليقين» و«حق اليقين» وإن لم ينكر الغزالي «علم اليقين» والذي هو «ما كان بشرط البرهان لأرباب العقول» كما يقول القشيري[73]، وهو الذي حرص الدكتور زكي نجيـب محمود على إبرازه والتركيز عليه. وفي المقابل أهمل وتجاهل تمامًا «عين اليقين»[74]، كما تجاهل «حق اليقين»[75].
رابعًا: مفهوم العقل عند الغزالي
يُعَنوِن الغزالي الباب السابع من الجزء الأول من كتاب: (إحياء علوم الدين) على النحو التالي: «في العقل وشرفه وحقيقته وأقسامه»، ويبدأ «ببيان شرف العقل»، فيقول مستفتحًا: «اعلم أن هذا مما لا يحتاج إلى تكلف في إظهاره، لا سيما وقد ظهر شرف العلم من قبل العقل، والعقل منبع العلم ومطلعه وأساسه، والعلم يجري منه مجرى الثمرة من الشجرة والنور من الشمس والرؤية من العين، فكيف لا يشرف ما هو وسيلة السعادة في الدنيا والآخرة»[76].
ثم يورد الغزالي الكثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وأقوال الصحابة والعلماء للاستشهاد بها على فضل العقل وشرفه، ومن أشهر الأحاديث التي وردت في العقل ما يسمى بـ«حديث العقل»، وهو قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «أول ما خلق الله العقل فقال له: أقبل، فأقبل. ثم قال له: أدبر، فأدبر. ثم قال الله عز وجل: وعزتي وجلالي، ما خلقت خلقًا أكرم عليَّ منك، بك آخذ، وبك أعطي، وبك أثيب، وبك أعاقب».
ويعقّب الغزالي بسؤال افتراضي: «فإذا قلت: فهذا العقل إن كان عَرَضًا، فكيف خُلق قبل الأجسام، وإن كان جوهرًا فكيف يكون جوهرًا قائمًا بنفسه ولا يتحيز؟» ويجيب: «فاعلم أن هذا من علم المكاشفة فلا يليق ذكره بعلم المعاملة، وغرضنا الآن ذكر علوم المعاملة»[77].
ولعل هذا هو الذي طمأن الدكتور زكي نجيب محمود (داعية الوضعية المنطقية) على أن يعتمد كتاب إحياء علوم الدين لعرض مفهوم العقل عند الغزالي –وقد رأينا كيف أنه تفادى اعتماد هذا الكتاب حين عرضه لمفهوم «اليقين» وعلاقته بالحواس والعقل والقلب- حتى لا يقع على مفاهيم قد تصطدم مع قناعاته ومع ما يريد تقريره.
قال الغزالي في مفهوم العقل ما يلي: «اعلم أن الناس اختلفوا في حد العقل وحقيقته، وذهل الأكثرون عن كون هذا الاسم مطلقًا على معانٍ مختلفة، فصار ذلك سبب اختلافهم. والحق الكاشف للغطاء فيه أن العقل اسم يطلق بالاشتراك على أربعة معانٍ، كما يطلق اسم العين مثلًا على معانٍ عدة، وما يجري هذا المجرى، فلا ينبغي أن يطلب لجميع أقسامه حد واحد بل يفرد كل قسم بالكشف عنه.
أما المعنى الأول: فهو الوصف الذي يفارق الإنسان به سائر البهائم، وهو الذي استعد به لقبول العلوم النظرية وتدبير الصناعات الخفية الفكرية، وهو الذي أراده الحارث بن أسد المحاسبي حيث قال في حد العقل: إنه غريزة يتهيأ بها إدراك العلوم النظرية.
المعنى الثاني: هي العلوم التي تخرج إلى الوجود في ذات الطفل المميز بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات، كالعلم بأن الاثنين أكثر من الـواحد، وأن الشخص الواحد لا يكون في مكانين في وقت واحد. وهو الذي عناه بعض المتكلمين حيث قال في حد العقل: إنه بعض العلوم الضرورية كالعلم بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات.
المعنى الثالث: علوم تستفاد من التجارب بمجاري الأحوال، فإن من حنكته التجارب وهذبته المذاهب يقال: إنه عاقل في العادة، ومن لا يتصف بهذه الصفة فيقال: إنه غمر جاهل، فهذا نوع آخر من العلوم يسمى عقلًا.
المعنى الرابع: أن تنتهي قوة تلك الغريزة إلى أن يعرف عواقب الأمور، ويقمع الشهوة الداعية إلى اللذة العاجلة ويقهرها، فإذا حصلت هذه القوة سمي صاحبها عاقلًا، من حيث أن إقدامه وإحجامه بحسب ما يقتضيه النظر في العواقب لا بحكم الشهوة العاجلة.
فالمعنى الأول هو الأس والمنبع، والثاني هو الفرع الأقرب إليه، والثالث فرع الأول والثاني؛ إذ بقوة الغريزة والعلوم الضرورية تستفاد علوم التجارب، والرابع هو الثمرة الأخيرة، وهي الغاية القصوى، فالأولان بالطبع والأخيران بالاكتساب»[78].
ويلاحظ الغزالي اختلاف الناس حول هذه المعاني للعقل، ويعرب عن ذلك بصيغة من يرد على من قال خلاف ذلك: «قد اختلف الناس في تفاوت العقل ولا معنى للاشتغال بنقل كلام من قلَّ تحصيله، بل الأولى والأهم المبادرة إلى التصريح بالحق، والحق الصريح فيه أن يقال: إن التفاوت يتطرق إلى الأقسام الأربعة سوى القسم الثاني وهو العلم الضروري بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات (...) وكل ما يدركه إدراكًا محققًا من غير شك، وأما الأقسام الثلاثة فالتفاوت يتطرق إليها»[79]. وبعد أن يدل على هذا التفاوت ويعرضه، يعود فيؤكد أن «من أنكر تفاوت الناس في هذه الغريزة (العقل) فكأنه منقلع عن ربقة العقل»[80].
إن الدكتور زكي نجيب محمود بعد أن ينهي عرضه المختصر لهذه المعاني الأربعة للعقل كما قال بها الغزالي، يعود فيؤكد الإشادة بعقلانية الغزالي بالقول: «إلى هنا وإمامنا الغزالي عقلاني النظر إلى أقصى الحدود، لا يختلف ولا يتخلف في مضمار العقل عن أئمة المنهج العقلي على طول التاريخ الفكري من أقدم قديمه إلى أحدث حديثه»[81].
وبعد هذه الإشادة –مباشرة– يعرب عن شكه في صدقية هذه العقلانية التي -وإن قال بها الغزالي نظريًّا- إلَّا أنه لم يمارسها عمليًّا في كتبه، «لكن الذي يستوقف نظري هو أنني لا أجد المنهج العقلاني الذي أوصى به الغزالي مطبقًا عند الغزالي نفسه فيما بحث وكتب وألّف، وإلَّا ففي أي كتاب من كتبه نراه قد حرص على أن يقيم نتائجه على أفكار أولية بالمعنى المنطقي لهذه العبارة، أي بالمعنى الذي يجعل تلك الأفكار الأولية فطرية في جبلة الإنسان لا سبيل إلى إنكارها لأن إنكارها تنكُّر منا لتلك الفطرة!»[82].
ولأن المنهج العقلاني القائم على أوليات يقينية من أساساته اعتبار أن «صدق الفكرة لا يقام على قائلها مهما يكن شأنه»، فإن الدكتور زكي نجيب محمود يأخذ على الغزالي أنه لم يلتزم بهذا المبدأ فيقول: «إنه ليغلب على الغزالي في تأليفه، طريقته مثلًا في إحياء علوم الدين أن يبدأ بذكر المأثور من أقوال السلف في الموضوع الذي يهم بالكتابة فيه، ثم ينطلق على أساس هذا المأثور فيذكر للقارئ ما أراد أن يذكره، فكأنه يبدأ بالرواية عن الماضي ليجعل تلك الرواية سنده فيما ينوي أن يقوله، وذلك بعينه ما حذّرنا من فعله إذا أردنا لأنفسنا منهجًا عقليًّا في ميادين الدراسة على اختلافها، إن قولنا: «قال فلان» مهما تكن منزلة فلان هذا، هو أبعد ما يكون عن الاستناد إلى أفكار أولية يقينية بحكم منطقها لا بحكم منزلة قائلها»[83].
وهنا يجب أن نتوقف لنسأل: ماذا كان ينتظر الدكتور زكي نجيب محمود من الغزالي ليكون علمي المنهج؟ هل كان ينتظر منه -مثلًا- وقد تناهى إلى علمه حادثة الخليفة عمر مع سارية، أن يكذبها لكونها تتعارض مع المنطق ومع المعقول رغم مكانة وصدقية الذين نقلوها بالتواتر؟ وكيف كان مطلوبًا من الغزالي أن يستند في هذه الحادثة إلى أفكار أولية يقينية؟ وما هي هذه الأفكار الأولية اليقينية المطلوب الاستناد إليها في هذه الحادثة مثلًا غير أن يكذبها جملة وتفصيلًا؟
الواقع أن ما لاحظه الدكتور زكي نجيب محمود من عدم التزام الغزالي بالمنهج العلمي الموصل إلى اليقين، إنما يدل ويؤكد ما أشرنا إليه سابقًا من أن الدكتور لم يدرس الغزالي دراسة تراعي تجربته العلمية، وتراعي –كذلك- تطور دلالات جهازه المفاهيمي قبل الخلوة وبعدها، وإلَّا فإن الغزالي يحدد بكل وضوح في كتاب (المنقذ من الضلال) الأقنية التي بها نصل إلى اليقين، وهي:
- البرهان.
- الذوق والكشف.
- التسامع والتجربة بحسن الظن.
«فالتحقيق بالبرهان: علم.
وملامسة عين تلك الحالة: ذوق.
والقبول من التسامع والتجربة بحسن الظن: إيمان.
فهذه ثلاث درجات. ووراء هؤلاء قوم جهال هم المنكرون لأصل ذلك»[84].
ليس هذا -فحسب– بل إن الغزالي يؤكد حصول اليقين بالتواتر والتسامع فضلًا عن المشاهدة بقوله: « فإن وقع لك الشك في شخص معين أنه نبي أم لا؟ فلا يحصل اليقين إلَّا بمعرفة أحواله إما بالمشاهدة أو بالتواتر والتسامع»[85].
ويقول الغزالي في تأكيد التواتر كمصدر للمعرفة اليقينية في حديثه عن «ما يجب تصديقه» ما يلي «ما أخبر عنه عدد التواتر فإنه يجب تصديقه ضرورة، وإن لم يدل عليه دليل آخر فليس في الإخبار ما يعلم صدقه بمجرد الإخبار إلَّا المتواتر، وما عداه فإنما يعلم صدقه بدليل آخر يدل عليه»[86].
فأين التناقض –إذن- وأين التخلي عن الالتزام العملي بمنهج البحث عن اليقين الذي نظَّر له الغزالي؟
والواقع أن التناقض هو في أقوال الدكتور زكي نجيب محمود الذي تخلى عن منهجه «الوضعي المنطقي» في إدراك اليقين، حين عدَّ بعض الحالات السيكولوجية أقنية «للإدراك السليم» بقوله: «وللإدراك السليم صور ليست كلها أقيسه أرسطية جفت في هياكلها عصارة الحياة، بل إن منها ما هو أقرب إلى عفوية الطفل في إدراكه، ومنها ما هو ممتزج بالسخرية اللطيفة، ومنها ما هو إدراك بالبصيرة النافذة تصل إلى الحق بلمحة واحدة»[87].
فهل هذه الإدراكات «السليمة» قائمة على البرهان اليقيني؟ وما معنى الإدراك الممتزج بالسخرية اللطيفة؟ وهل هو أكثر سلامة وعلمية من الإدراك بالتواتر؟
إن الدكتور زكي نجيب محمود، لم يتوقف عند حد هذه «التهمة» بل يضيف إلى الغزالي «تهمة» أخرى، وهي: «مهاجمة العقل»، فيقول: «أرى أني أميل إلى القول بأن الغزالي حين نصب نفسه للهجوم على الفلسفة الأرسطية، كما رآها فيما كتبه الفارابي وابن سينا، كان في حقيقة أمره قد نصب نفسه لمهاجمة العقل، إذا ما مسَّ هذا العقل قضية إيمانية في مجال الدين ولم يكن هذا هو منهجه العلمي الذي أوصى باصطناعه عند النظر»[88].
لكن الدكتور لم يذكر لنا في أي كتاب «أوصى» الغزالي بمناصرة العقل إذا ما مسَّ هذا العقل قضية إيمانية في مجال الدين؟ بل ويناقض الدكتور نفسه حينما يستشهد بنصوص للغزالي تثبت فعلًا أن الغزالي لم يوصِ بمناصرة العقل إذا ما مسَّ أصلًا من أصول الدين: فيقول: «يقول الغزالي في المقدمة الثانية لكتابه «تهافت الفلاسفة»: إن الخلاف بين الفلاسفة يقع في ثلاث أقسام»[89].
ويعلق الدكتور زكي نجيب محمود على ما قاله الغزالي في القسم الثالث فيقول: «هذا القسم الثالث من اختلافات الفلاسفة هو ما يهتم به الغزالي، لماذا؟ لأنه يخشى أن يؤدي النظر العقلي إلى نتيجة تصدم أصلًا من أصول الدين، وهو موقف لا يكون إلَّا من رجل لا يريد لحكم العقل أن يكون مطلقًا فيحدد له ما يجوز له أن يتناوله وما لا يجوز، ولو كان الغزالي عقلانيًّا صرفًا لما وجد فرقًا عند العقل بين أن يكون الموضوع المطروح للنظر من القسم الأول أو من الثاني أو من الثالث، وأعني الأقسام التي ذكرناها عنه مند قليل؛ لأن الأمر عندئذٍ يصبح مرهونًا بمنهاج السير وحده بغض النظر عند مادة الموضوع»[90].
في هذا التعليق حكم الدكتور زكي نجيب محمود على الغزالي بثلاثة أحكام:
الحكم الأول: إن الغزالي يخشى أن يؤدي النظر العقلي إلى نتيجة تصدم أصلًا من أصول الدين.
الحكم الثاني: لا يريد لحكم العقل أن يكون مطلقًا.
الحكم الثالث: ليس عقلانيًّا صرفًا.
وهذه الأحكام تثبت فعلًا تناقض الدكتور زكي نجيب محمود، ففي الحكم الأول لم يأتِ الدكتور بجديد إنما حصّل حاصلًا، وقد كان منتظرًا منه أن يثبت أن هذا «لم يكن هو منهج الغزالي العلمي الذي أوصى باصطناعه عند النظر».
أما في الحكم الثاني والثالث، فكذلك لم يأتِ فيهما بجديد، فقد نقل الدكتور كثيرًا من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي استشهد بها الغزالي على شرف العقل وتدل كلها على ربط العقل بالشرع، ومنها مثلًا هذا الحديث الذي رواه عمر (رضي الله عنه) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «ما اكتسب رجل مثل فضل عقل يهدي صاحبه إلى هدى ويرده عن ردى، وما تم إيمان عبد ولا استقام دينه حتى يكمل عقله»[91].
فهذا يدل على أنه لو كانت نية الغزالي وقصده أن يكون «عقلانيًّا صرفًا» لآمن باليقين العقلي فقط، ولم يتجاوزه إلى الإيمان بيقين الذوق والكشف، والإيمان بيقين التسامع والتواتر كما أوضحنا قبل قليل.
فهذا هو موقف الغزالي من العقل، وهو موقف واضح وصريح، وليس غريبًا إن لم يقل الغزالي بغيره، إنما الغرابة والتناقض فهما في موقف الدكتور زكي نجيب محمود من «عقلانية» الغزالي؛ إذ كيف يستقيم له القول وهو يحكم حكمًا قطعيًّا بهذه الأحكام الثلاثة على «لا عقلانية» الغزالي، وفي الوقت نفسه وفي الكتاب نفسه بل وفي الفصل نفسه يحكم له بالعقلانية ويشيد به وبعقلانيته أيّما إشادة، بمثل قوله: «هذا العقلاني العظيم»، «إمامنا الغزالي عقلاني النظر إلى أقصى الحدود»، «إنه (أي الغزالي) منهاجي النظر من الطراز الأول»، «ويكفيني أن الغزالي قد دعا بهذه القوة إلى النظر العقلي»، «هكذا رسم لنا الغزالي طريقًا للشك المنهجي لا نرى بعده شيئًا تنسبه إلى ديكارت ولا تنسبه إليه»، «لقد بلغت علمية النظر عند هذا الإمام...»، «أما عن نظرته العلمية المنهجية».
ويماثل بين الغزالي وديكارت وبيكون فيقول: «ومع ذلك فيكاد لا يكون في منهجيهما نقطة واحدة لم يوردها الغزالي شرطًا من شروط النظرة العلمية التي نثر أصولها على صفحات كتبه نثرًا»، «كان الغزالي في تراثنا الفكري شجرة مباركة».
ويعبر عن إعجابه «بهذه العلمية المنهجية في النظر والتي تصلح أن تكون نموذجًا للمنهج العلمي كيف يكون»، «أقول بينما يجد كاتب هذه الصفحات (يعني نفسه) ذاهلًا حيال تلك القدرة والمنهجية العلمية»[92]، «... فإذا انتهى به النظر إلى حكم آمن به ودافع عنه بكل ما أوتي من قدرة على جمع الشواهد من مأثور القول، وعلى إقامة الحجة العقلية الخالصة يسوقها لتساير تلك الشواهد المأثورة من السالفين الصالحين»[93]، «قل ما شئت عن الإمام الغزالي في قوة حجته، وفي قدرته القادرة على التحليل، وفي سعة أفقه وغزارة علمه وحضور بديهته، وفي عقلانية نظرته فلن تجاوز الحق»[94]... إلخ.
فهل يعقل أن يُقرّ الدكتور زكي نجيب محمود للغزالي بكل هذه العلمية والمنهجية والعقلانية ثم يعود بعد قليل وفي الكتاب نفسه ليتنكَّر لها وليقول: «... فماذا نتوقع من طراز المثقفين الذين يبدؤون برفض العلم أساسًا وبالتنكًّر للعقل معيارًا؟ ولنأخذ الغزالي نموذجًا لهذا الطراز، فهو يناصر اللاعقل مناصرة حارَّة، ويعجب ممن يركنون الى العقل»[95]، أليس هذا هو عين التناقض؟
والحقيقة أن هذا التناقض إنما يدل على أن الدكتور زكي نجيب محمود إنما قرأ «الخطاب الغزالي» قراءة إسقاطية تماثلية إجتزائية، ولم يقرأه في كليته، أي انطلاقًا من منطق توجهه العام في تاريخيته بمراعاة تطور دلالات جهازه المفاهيمي. وهذا ما قد يفسر هذه الوثوقية التي صاحبته وهو يشيد بعقلانية وعلمية ومنهجية الغزالي، وصاحبته كذلك وهو يسحبها منه ويتنكر لها.
وليس ذلك غريبًا إذا علمنا أن الدكتور لم يعتمد في كل ما كتبه عن الغزالي إلَّا على خمسة كتب على تفاوت فيما بينها في نسبة الاعتماد، فقد اعتمد أكثر على «معيار العلم»، وأقلّ منه «ميزان العمل»، وأقلّ منهما «المنقذ من الضلال»، وأقلّ من ذلك بكثير وبنسبة قد لا تكاد تذكر على الجزء الأول -الفصل المتعلق بالعقل فقط- من كتاب «إحياء علوم الدين» وعلى كتاب «تهافت الفلاسفة» خاصة المقاطع المتعلقة بالمسائل التي كفّر بسببها الغزالي الفلاسفة، ومع ذلك لم يتوقف عندها بل أشار إليها إشارة خفيفة، لكنه توقف عند مسألة خرق العادة، ليزن بها عقلانية الغزالي، وسنعود إليها.
فالدكتور زكي نجيب محمود حينما أشاد بعقلانية وعلمية ومنهجية الغزالي كان واقعًا تحت تأثير منطق كتاب «معيار العلم»، وأكمل الإشادة لكن بانتقائية شديدة من كتاب «المنقذ من الضلال»، واقترب من الجزء الأول من كتاب إحياء علوم الدين –فقط- ليقرأ مفهوم العقل عند الغزالي[96] وليشيد به، لكنه ما أن يصل إلى كتاب «تهافت الفلاسفة» حتى يبدأ القول بـ«لا عقلانية» الغزالي.
وفي هذا الكتاب يتوقف الدكتور وقفة قصيرة عند المسألة السابعة عشرة بصفة خاصة «لشيوع ذكرها على أقلام الباحثين»، وهي المسألة المتعلقة باستحالة خرق العادة أو بعدم استحالتها، أو بتسمية أخرى هي المسألة الخاصة بفكرة السببية، وهي بالنسبة للغزالي المعجزات والكرامات، غير أن الدارسين اعتادوا دراستها تحت عنوان: السببية.
خامسًا: السببية أو خرق العادة.. التماثل بين الغزالي ودافيد هيوم
كما ماثل الدكتور زكي نجيب محمود بين الغزالي وديكارت وبيكون في المنهج العلمي، فها هو ذا يدرس ظاهرة أو مسألة خرق العادة أو السببية ليماثل بشأنها بين الغزالي والفيلسوف الإنجليزي دافيد هيوم (1711-1776)، لكن قد يكون من خلال التنبيه الذي صدَّر به الدكتور المبحث والذي مفاده «إنه ليندر بين الباحثين منا من يتناول فكرة السببية عند الفيلسوف الإنجليزي دافيد هيوم دون أن يعلق عليها بقوله: إن الغزالي قد سبقه إلى هذه الفكرة نفسها على ما بين الرجلين من زمن مديد»[97].
قلنا قد يكون في هذا التنبيه ما يشير إلى عدم اقتناع الدكتور بهذه الفكرة فكرة المماثلة أو بالأحرى يشير إلى تراجعه عنها؛ لأن دراسته السابقة للسببية ودراسة الآخرين لها كانت تتأسس –أولًا وأخيرًا– على مفهومها عند دافيد هيوم، وإن لم يكن يشار إليها عند الغزالي إلَّا من باب «السبق العلمي» في إطار إثبات «الذات».
أما الآن فإن دراسته لها وإن كان منطلقها الأساس وموضوعها هو مفهومها عند الغزالي، إلَّا أنها لا تكون معزولة عن «تراث» البحوث العالمية التي بحثتها في إطار دراستها لفلسفة دافيد هيوم، بمعنى أن دراسة الدكتور زكي نجيب محمود للسببية عند الغزالي في هذا الكتاب ستكون متأثرة حتمًا بنتائج تلك البحوث، وبالتالي ستكون إسقاطية، بل وستوظف نتائج تلك الدراسات والبحوث للتدليل على «لا علمية» الغزالي و«لا عقلانيته».
ومن هنا، ربما وجد الدكتور زكي نجيب محمود نفسه مهيأً لتقبل مثل هذه النتائج والأحكام، بل ومطالبًا بتبريرها، ولتبريرها «علميًّا» عمد الدكتور زكي نجيب محمود إلى المزاوجة بين: المماثلة والمقارنة، حيث بدأ مماثلًا بين الغزالي ودافيد هيوم وانتهى مقارنًا بينهما.
فكيف ماثل وكيف قارن؟
أولًا: المماثلة، لقد اعتبر الدكتور زكي نجيب محمود فكرة السببية «فكرة مشتركة عند الرجلين»[98]، ولتأكيد هذه «الاشتراكية» يستعمل الدكتور تعابير تفيد ذلك من مثل «يقول الغزالي وهيوم معًا»[99]، ومن مثل «أما الغزالي وهيوم فيذهبان إلى القول»[100] وهكذا....
لكن كيف اشتركا في فكرة السببية وإلى أي حد؟
لقد اشتركا في القول: إن حادثة مَّا لا يجوز أن تُعدّ سببًا في حادثة أخرى لمجرد أننا نراهما متصاحبتين متلازمتين دائمًا أو متعاقبتين بلا تخلف، فمهما تعددت الحالات التي رأينا فيها الحادثتين أو الشيئين متلازمين متعاقبين فذلك لن يزيد على كوننا قد «تعودنا» هذا التلازم أو التعاقب بحيث إذا وقعت إحداهما توقعنا حدوث الأخرى بحكم الرابطة التي ألفناها بينهما، ولكن هل يعني ذلك استحالة أن يحدث في المستقبل غير ما ألفنا فتقع إحدى الحادثتين ولا تصحبها الأخرى؟ يقول الغزالي وهيوم معًا: كلَّا «ليس ذلك محالًا عند العقل»[101].
بل ويؤكد الدكتور زكي نجيب محمود توافقهما في القول: بـ«أن لكل حادثة استقلالها الذاتي عن الحادثة الأخرى، وما الرابطة السببية المزعومة بين حادثة سابقة وأخرى لاحقة إلَّا عادة تعودناها، لا شأن لها بطبيعة الأشياء نفسها، ومن ثم جاز عندهما أن يأتي ظرف تحدث فيه أولهما ولا تعقبها الأخرى»[102].
ويورد الدكتور نصًّا للغزالي نموذجًا لما هو مشترك بينهما ويحقق تماثلهما، يقول الغزالي: «الاقتران بين ما يعتقد في العادة سببًا وما يعتقد مسببًا ليس ضروريًّا عندنا، بل كل شيئين ليس هذا ذاك ولا ذاك هذا ولا إثبات أحدهما متضمن لإثبات الآخر، ولا نفيه متضمن لنفي الآخر، فليس ضرورة وجود أحدهما وجود الآخر، ولا من ضرورة عدم أحدهما عدم الآخر»[103].
وينقل الدكتور كذلك بعض الأمثلة التي ساقها الغزالي «لأشياء قد نظن فيها قيام رابطة سببية ضرورية بين السابق واللاحق، مثل: «الري والشرب والشبع والأكل والاحتراق ولقاء النار والنور وطلوع الشمس والشفاء وشرب الدواء وهلم جرَّا، إلى سائر ما نشاهده من مقترنات في الطب والفلك والحرف والصناعات»[104].
إلى هنا والتماثل قائم بين الغزالي ودافيد هيوم، لكنهما اختلفا بعدها، فافترقا فامتنعت المماثلة وجازت المقارنة.
ثانيًا: المقارنة، يبدأ الدكتور زكي نجيب محمود المقارنة على النحو التالي: «... لكن بينما يترك هيوم المسألة عند هذا الحد (...) جاوز الغزالي هذا الحد»[105].
إن توقف دافيد هيوم «عند هذا الحد» استحق عليه من الدكتور زكي نجيب محمود هذا التقييم: «... يمكن النظر إلى تحليل هيوم للسببية على أنه تحليل لحقيقة القانون العلمي»[106].
يترتب عن هذا –منطقيًّا- أن الغزالي لو توقف هو كذلك «عند هذا الحد» لاستحق هو الآخر التقييم نفسه، هذا أمر بديهي، غير أنه كان للدكتور تقييم آخر لتحليل الغزالي للسببية، حيث اعتبره تحليلًا «مبطلًا لفكرة القانون العلمي من جذورها»[107].
وقد يتبادر إلى ذهن القارئ أن التقييمين جاءا مفصولين عن بعضهما بصفحات عدة وبكلام طويل، لا ليس هناك شيء من هذا، فالتقييمان جاءا في فقرة واحدة وفي كلام موصول وفي جملة متصلة، وهو التالي: «بينما يمكن النظر إلى تحليل هيوم للسببية على أنه في الوقت نفسه تحليل لحقيقة القانون العلمي، نرى تحليل الغزالي للسببية مبطلًا لفكرة القانون العلمي من جذورها»[108].
فما الذي أضافه الغزالي على ما كان مشتركًا بينه وبين دافيد هيوم حتى استحق عليه هذا الحكم «القاسي»؟
إن ما أضافه الغزالي يحدده الدكتور زكي نجيب محمود نفسه بالآتي «... وإلى هنا التشابه قائم بين الغزالي وهيوم في تحليلهما لفكرة السببية، لكن بينما يترك هيوم المسألة عند هذا الحد وبذلك لا ترتد فكرة السببية إلَّا إلى أسس سيكولوجية في تكوين الإنسان وطرائق إدراكه للأشياء، بحيث إذا شاهد شيئين وقد تلازما في الوقوع سارع إلى ربطهما معًا برابطة سببية –أقول إنه بينما وقف هيوم عند هذا الحد من تحليل الفكرة- جاوز الغزالي هذا الحد وأضاف ما يفيد بأن وراء العادات الإدراكية عند الإنسان تقديرًا من الله أن تجيء الأشياء المقترنة على صورة من التساوي بحيث تظل مقترنة دائمًا، وقد لا يريد الله للأشياء مثل ذلك الاقتران فيبطل ما بينهما من ضرورة التلازم، وعندئذٍ قد نرى النار محيطة بقطعة الورق دون أن تحترق»[109].
لقد تعمدنا عدم الاقتصار على ذكر ما أضافه الغزالي فنقلنا النص كاملًا لمعرفة السياق الذي تم على أساسه تقييم الرجلين. واضح من النص أن ما أضافه الغزالي هو القول بتدخل القدرة الإلهية لإمضاء نتيجة الاقتران بين الأشياء أو إبطالها، فهذه الإضافة -فقط– هي التي جعلت الدكتور زكي نجيب محمود، ينهي التماثل الذي أقامه بين الغزالي ودافيد هيوم، فيقول: «بهذه الإضافة التي أضافها الغزالي يزول من أساسه التشابه الحقيقي (يعني التماثل) بينه وبين هيوم ويصبح كل من الرجلين طراز وحده»[110].
وكذلك، فهذه الإضافة وحدها –فقط- هي التي بموجبها أصبح تحليل الغزالي للسببية «مبطلًا لفكرة القانون العلمي من جذورها» في نظر الدكتور زكي نجيب محمود، وعلى هذا يحق لنا الآن طرح هذين السؤالين على الدكتور زكي نجيب محمود:
الأول: كيف حلل هيوم حقيقة القانون العلمي من خلال تحليله للسببية؟
الثاني: لماذا صار ربط السببية بقدرة الله ومشيئته «مبطلًا لفكرة القانون العلمي من جذورها»؟
ويجيب الدكتور بما يلي «ففي حالة هيوم نستطيع القول -بناءً على تحليله للسببية-: إن أي قانون علمي ينتظم ظاهرة معينة من ظواهر الطبيعة ما هو في أساسه إلَّا أن يكون في تلك الظاهرة جوانب ارتبط بعضها ببعض دائمًا فيما شاهدناه فبات مرجعًا لدينا أن نتوقع استمرار هذا الارتباط نفسه بين تلك الجوانب في المستقبل، ففي ظاهرة «المطر» مثلًا شاهدنا في كل حالاته الماضية أن ثمة ارتباطًا بين درجة الحرارة ودرجة الرطوبة ودرجة الضغط الجوي واتجاه الريح... إلخ، فأصبحنا نرجح كلما توافرت هذه الجوانب نفسها بهذه الدرجات نفسها أن يسقط المطر، لأنه ليس في الأمر من وجهة نظر هيوم، أكثر من ظواهر ارتبطت في إدراكنا فتكونت لدينا العادة بأن نتوقع ارتباطها على هذا النحو دائمًا، وأما عند الغزالي فقد أدخل في الموقف عاملًا آخر هو «تقدير الله» وبذلك لم يعد ارتباط الظواهر في إدراكنا كافيًا وحده، لنستخرج لأنفسنا منه قانونًا من قوانين الطبيعة، إذ قد يتم الارتباط كله بين العناصر المكونة للظاهرة المعينة كلها، ومع ذلك يريد لها الله ألَّا تفعل فلا تفعل، قد تتوافر درجة الحرارة ودرجة الرطوبة ودرجة الضغط الجوي واتجاه الريح... إلخ، وما حدث معه سقوط المطر دائمًا في جميع الحالات الماضية، ومع ذلك فربما قدر الله سبحانه أن لا يكون مطر فلا يكون، وبهذا ينتفي العلم من أساسه؛ لأن العلم ينهار كله ولا يبقى منه في أيدينا شيء»[111].
وهذا التعليل يستدعي منا الملاحظة التالية: وهي أن اتخاذ ظاهرة المطر مثلًا للتطبيق أمر نراه غير دقيق، وربما يكون «حيلة» من الدكتور لتفادي الدقة، لأن هذه الظاهرة مألوفة ولا تحقق الدهشة لصعوبة ملاحظة ما يحدث من خلل مفاجئ في علاقات العناصر بعضها ببعض (درجة الحرارة، درجة الرطوبة، الضغط الجوي، اتجاه الريح... إلخ) هذا الخلل المفاجئ الذي قد يستعصي على الملاحظة والقياس حتى بالنسبة لأجهزة الرصد المتطورة هو المانع لنزول المطر، وهو ما يعبَّر عنه عند الفلاحين في الجزائر بالقول: «اخسر الرعد» ولا يندهشون لذلك.
ولهذا –وتوخيًا للدقة- فسنقترح المثال الذي قال به الغزالي وهو: اقتران النار بالقطن لأنهما إذا اقترنا ولم يحترق القطن، فالدهشة والتعجب والاستغراب والتساؤل كلها أمور ستقع لا محالة ومن أيٍّ كان، فكيف سيفسر لنا الدكتور زكي نجيب محمود تحليل دافيد هيوم لهذه الظاهرة؟
الحقيقة أن النص السابق الذي علل به الدكتور «علمية» تحليل هيوم للسببية ولحقيقة القانون العلمي لا ينطبق إلَّا على ذلك المثال «غير الدقيق»، أعني «ظاهرة المطر»، ولا ينطبق أبدًا على المثال المقترح أي اقتران النار بالقطن، ولذلك فسنحاول نحن من جهتنا تطبيق هذا المثال باختلاق قصة تخييلية تصور الفيلسوفين الغزالي وهيوم أمام نار مشتعلة، فيأخذان معًا ورقتين من رزمة أوراق كانت معهما، فيلقيان الورقة الأولى في النار فتحترق فسيتفقان في تفسير هذا الاحتراق بالقول معًا: ليس هذا الاحتراق لأن في النار ذاتها ما يحتم أن تحترق الورقة إنما الأمر هو مجرد تتابع بين الأحداث تعودناه، فنحن متفقان على أن اقتران شيئين في الحدوث يدل على أن أحدهما قد حدث عند حدوث الآخر، لكنه لا يدل على أنه قد حدث بسبب حدوث الآخر، ولذلك فليس مستحيلًا أن يحصل مرة أخرى اقتران بين النار والورقة ولا يحصل احتراق. فيتفقان على أن يجربا ذلك، فيلقيان معًا بالورقة الثانية في النار... لكنها لم تحترق. نعم لم تحترق. فيقولان معًا: هذا أمر ليس مستحيلًا وقد توقعنا وقوعه غير أنه لا بد من تفسير. فاختلى كل واحد منهما بنفسه مفكرًا... فأطالا التفكير... وكان الغزالي أول من وجد تفسيرًا فأسرَّ به إلى هيوم، فقال هيوم: عجبًا، لقد اقتحمني التفسير نفسه اقتحامًا رغم أنني لم أتعمد التفكير فيه، وهو إلى الآن لازال يلح عليَّ إلحاحًا.فيقول الغزالي: قل به، وهكذا سنظل متفقين متماثلين، لست أدري ما سرُّ ترددك رغم ما يبدو عليك من اقتناع؟ ألست مؤمنًا بقدرة الله؟ وأن الله قادر على كل شيء وهو خالق الطبيعة وخالق القوانين التي تحكمها كذلك، وهو الذي يتحكم فيها؟ ألم يقل للنار: {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} فكانت بردًا وسلامًا ولم تحرق إبراهيم، فهذه الورقة لم تحترق مثلما لم يحترق إبراهيم لأن الله كذلك أمر النار ألَّا تحرق الورقة فامتثلت لأمره. فالنار «جماد ولا فعل لها».
وخصومنا من الفلاسفة يدَّعون «بأن فاعل الاحتراق هو النار فقط، وهو فاعل بالطبع لا بالاختيار فلا يمكنه الكف عمَّا هو في طبعه بعد ملاقاته لمحل قابل له»، وهذا ما أنكره أنا (الغزالي) وأقول: فاعل الاحتراق هو الله تعالى، فأما النار فهي جماد لا فعل لها. فما الدليل على أنها الفاعل؟ ليس لأولئك الفلاسفة الخصوم دليل إلَّا مشاهدة حصول الاحتراق عند ملاقاة النار، والمشاهدة تدل على الحصول عنده ولا تدل على الحصول به»[112].
إن حجة الفلاسفة لإثبات فعل موجودات العالم سطحية إذ يبين التحليل أن ملاحظتهم تخلط بين رابطة التساوق والتتالي المكاني - الزماني (عندها) وبين الفعلية (بها وأنه لا علة له سواها)، والغزالي بكشفه هذا الخلط يهدف إلى بيان أن نسبة الفعل إلى موجودات العالم كاذبة وهو يتمكن بذلك من إرجاعها لإرادة الله الحرة من كل ضرورة (...) وما دامت هذه الإرادة حرة فما حدث كان يمكن ألا يحدث[113]
ويواصل الغزالي عرض تفسيره فيقول: «و إذا ثبت أن الفاعل يخلق الاحتراق بإرادته عند ملاقاة الورقة النار أمكن في العقل ألَّا يخلق الاحتراق مع وجود الملاقاة (...) فليس مستحيلًا في نفسه مهما أحلنا الحوادث إلى إرادة مختار»[114].
عندما أنهى الغزالي تفسيره نظر إليه هيوم بإعجاب وقال له: لقد أحسنت التفسير يا صديقي، غير أنني متردد في قبوله والقول به، وسأشرح لك سر ترددي: إنني من زمان غير زمانك ومن مجتمع غير مجتمعك، فزماني: القرن الثامن عشر وهو زمن ثورة العقل على الدين عندنا نحن الغربيين والدعوة إلى التحرر من قيوده وتفسيراته ومقولاته، وهو زمن الاحتكام إلى العقل والعقل وحده، وتفسيرك هذا هو تفسير ذو خلفية دينية واضحة، وهو لهذا السبب سيرفض رفضًا قاطعًا في مجتمعي الذي لم يعد يقبل إطلاقًا بالتفسيرات الدينية الميتافيزيقية... إيه عفوًا يا صديقي، الميتافيزيقيا في زماننا هي بمعنى ما ما اعتبرته أنت في كتابك «المنقذ من الضلال» «طورًا آخر وراء العقل»، هي طور آخر وراء فيزياء الطبيعة، لذلك فإنني سأتجنب أية إشارة إلى الدين في تفسيري، حيث أرجعتُ الظاهرة «إلى أسس سيكولوجية في تكوين الإنسان وطرائق إدراكه للأشياء»...
أعلم أنك لم تسمع من قبل بكلمة «سيكولوجيا». فالسيكولوجيا في زماننا هي كذلك طور آخر وراء العقل، وهي نوع من الميتافيزيقيا، لكن متعلقة بالإنسان فهي ميتافيزيقيا الإنسان أي ما وراء فيزياء الإنسان. إذن وكما لاحظت فكلانا أرجع الظاهرة إلى طور آخر وراء العقل، ومع ذلك نحن مختلفان ولن يماثل أحدنا الآخر...
فقال الغزالي وهو يودعه: لكن يا صديقي إنك لم تجب بعد –كما أجبتُ أنا- عن من الفاعل الذي خلق الاحتراق بإرادته عند ملاقاة الورقة النار في المرة الأولى، ولم يخلق الاحتراق مع وجود الملاقاة في المرة الثانية؟ مع أنني أعلم يقينًا أنك لن تجد أنت وغيرك تفسيرًا لعدم احتراق الورقة عند ملاقاة النار خارج التفسير الذي قلت به أنا... فهذا فراق بيني وبينك.
وهذا يعني في نهاية التحليل أن الغزالي أقرَّ بوجود الفاعلية السببية، بينما هيوم لم يُقر بوجودها، ومحاولة البعض المماثلة بينهما ليست إلَّا محاولة بدون طائل؛ لأن لكل منهما موردًا ومَصَبًّا يختلف عن مورد الآخر ومصبِّه، فهذا الإشكال هو إشكال فلسفي لوقائع وأحداث غير عادية حاول الرجلان إعطاء تفسير عقلي لها لكن من منطلقات ثقافية وحضارية متباينة.
أما الغزالي فعالج ذلك الإشكال من منطلق العقيدة الإسلامية والمذهب الأشعري تحديدًا، وكذلك من منطلق الإشكالية العامة التي كانت تؤطِّر الفعل الثقافي الفكري آنذاك وهي إشكالية التوفيق بين العقل والنقل، ولقد كانت مسألة وقوع الكرامات من بين المسائل التي نوقشت وبُحثت ضمن هذه الإشكالية من حيث الاستحالة والجواز.
والكرامة في المصطلح الصوفي الإسلامي تعني «ظهور أمر خارق للعادة على يد شخص غير مدَّعٍ للنبوة مثل كرامات أهل الصوفية»[115].
والدكتور زكي نجيب محمود يعالج هذه المسألة من حيث استحالة وقوعها أو جوازه، من منطلق الفلسفة الوضعية المنطقية التي يناصرها ويدعو لها، والتي تصنف الكرامات ضمن «اللامعقول» ردًّا على الذين يحاولون «عقلنتها» باعتبار «أن العقل لا يحيلها»، أي لا يراها مستحيلة، من أمثال الغزالي والقشيري والصوفية كلهم.
قال القشيري عن الكرامات ما يلي: «ظهور الكرامات عن الأولياء جائز والدليل على جوازه أنه أمر موهوم حدوثه في العقل لا يؤدي حصوله إلى رفع أصل من الأصول، فواجب وصفه سبحانه بالقدرة على إيجاده، وإذا وجب كونه مقدورا لله سبحانه فلا شيء يمنع جواز حصوله»[116].
ويتخذ الدكتور زكي نجيب محمود من هذا النص نموذجًا ومنطلقًا لتطبيق منهجه الوضعي المنطقي حول هذه المسألة فيرد بما يلي: «ونحب أن نسوق على هذا القول العجيب ملاحظتين، الأولى هي أنه إذا كانت الكرامات جائزة الحدوث على مقتضيات العقل كما يزعم صاحب الرسالة فما حاجته بعد ذلك إلى تعليل بقدرة الله تعالى على إيجاد الكرامات؟(...)، والملاحظة الثانية هي أن صاحب «الرسالة» قد أطلق لنفسه الأعنة كلها لا العنان الواحد في استخدامه لكلمة «عقل» حين قال: إن ظهور الكرامات جائز، لأنه أمر لا يناقض العقل (...)، فقد كان من حق صاحب «الرسالة» أن يقول: «إن ظهور الكرامات عن الأولياء جائز بغير دليل، وأما أن يقول: إنه جائز بدليل أن العقل لا يناقضه؛ فقد وضع فعل الكرامة –في هذه الحالة- على مستوى واحد مع سائر أفعال الظواهر الطبيعية التي ضبطها العلماء ضبطًا رياضيًّا، أعني أنه بذلك قد أزال عن الكرامة خصوصيتها التي هي أن تجيء مضادة لما يجري على سنن العقل مما يستطيعه كل رجال العلوم»[117].
بمثل هذا التحليل الوضعي المنطقي حكم الدكتور على تحليل الغزالي للسببية بكونه «تحليلًا مبطلًا لفكرة القانون العلمي من جذورها»، وهو الحكم الذي مهّد به لإعادة تصنيف الغزالي بإدراجه ضمن «تراثنا اللامعقول»، والذي خصص له القسم الثاني من كتاب: «المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري» تحت عنوان: «شطحات اللاعقل».
[1] د. زكي نجيب محمود، تجديد الفكر العربي، بيروت: دار الشروق، الطبعة الخامسة 1978، ص 6.
[2] د. زكي نجيب محمود، المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري، بيروت: دار الشروق، الطبعة الثالثة 1981 ص 7.
[3]المصدر نفسه، ص 9.
[4] المصدر السابق، ص 19.
[5] المصدر نفسه، ص 17.
[6] المصدر نفسه، ص 21.
[7] المصدر نفسه، ص ص: 22-23.
[8] المصدر نفسه، ص : 24.
[9] ينظر في: أبو حامد الغزالي، مشكاة الأنوار، ضمن مجموعة رسائل الغزالي، بيروت: دار الفكر، 2006.
[10] الدكتور زكي نجيب محمود، المعقول واللامعقول، مصدر سابق، ص 24.
[11] المصدر نفسه، ص : 24.
[12] الدكتور زكي نجيب محمود، المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري، مصدر سابق، ص 24.
[13] المصدر نفسه، ص 317.
[14] المصدر نفسه، ص 318.
[15] المصدر نفسه، ص 319.
[16] المصدر السابق، ص 318.
[17] المصدر نفسه، ص 319.
[18] المصدر نفسه، ص 319.
[19] المصدر نفسه، ص 9.
[20] المصدر نفسه، ص 319.
[21] أبو حامد الغزالي، المنقذ من الضلال، تحقيق: الدكتور عبد الحليم محمود، بيروت: دار الكتاب اللبناني، الطبعة الثانية 1985، ص 79.
[22] الغزالي، المنقذ من الضلال، مصدر سابق، ص ص 81-82.
[23] د. زكي نجيب محمود، المعقول واللامعقول في ثراتنا الفكري، مصدر سابق، ص 320.
[24] الغزالي، المنقذ من الضلال، مصدر سابق، ص 82.
[25] يوضح الغزالي خطوات منهجه فيقول: «... ثم فتشت عن علومي فوجدت نفسي عاطلًا عن علم موصوف بهذه الصفة (صفة اليقين) إلَّا في الحسيات والضروريات، فقلت: الآن بعد حصول اليأس لا مطمع في اقتباس المشكلات إلَّا من الجليات وهي الحسيات والضروريات، فلا بد من إحكامها أولًّا لأتيقن أن ثقتي بالمحسات وأماني من الغلط في الضروريات من جنس أماني الذي كان من قبل في التقليدات ومن جنس أمان أكثر الخلق في النظريات (...)، فأقبلت بجد بليغ أتأمل في المحسات والضروريات، وانظر هل يمكنني أن أشكك نفسي فيها؟ فانتهى بي طول التشكيك إلى أن لم تسمح نفسي بتسليم الأمان في المحسات أيضًا، وأخذ يتسع هذا الشك فيها ويقول: من أين الثقة بالحواس وأقواها حاسة البصر، وهي تنظر إلى الظل فتراه واقفًا غير متحرك، وأنه لم يتحرك دفعة بغتة بل على التدرج ذرة ذرة حتى لم تكن له حالة وقوف، وتنظر إلى الكوكب فتراه صغيرًا في مقدار دينار، ثم الأدلة الهندسية تدل على أنه أكبر من الأرض في المقدار. هذا وأمثاله من المحسات يحكم فيها حاكم الحس بأحكامه ويكذبه حاكم العقل ويخونه تكذيبًا لا سبيل إلى مدافعته». أبو حامد الغزالي، المنقذ من الضلال، مصدر سابق، ص 83.
[26] «وذلك أنني إذا رأيت الظل واقفًا غير متحرك فاستدللت من ذلك نفي الحركة عنه، فإنما كان الخطأ هو في هذا الاستدلال لأن الذي نبهني للخطأ بعد ذلك هو لقطة حسية أخرى جاءتني عن طريق المشاهدة –والمشاهدة إدراك بحاسة البصر بعد ساعة– كما يقول الغزالي، وكذلك حين رأيت الكوكب صغيرًا في مقدار دينار فالخطأ هنا هو أن أستدل مما أراه نتيجة لا تلزم بالضرورة عنه، والواجب المنهجي هو أن أقول: إن حجم الكوكب في رؤيتي هو كحجم الدينار، أما ماذا يكون حجمه في الحقيقة فطريق العلم به طريق آخر». د. زكي نجيب محمود، المعقول واللامعقول، مصدر سابق، ص 324.
[27] أورده الدكتور أحمد ماضي، في بحث بعنوان: الوضعية المحدثة والتحليل المنطقي في الفكر الفلسفي العربي، (المؤتمر الفلسفي العربي الأول)، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعةالثانية: نوفمبر 1987، من ص171 إلى 202.
[28] د. زكي نجيب محمود، المعقول واللامعقول، مصدر سابق، ص 324.
[29] د. زكي نجيب محمود، قشور ولباب، بيروت: دار الشروق، الطبعة 1981، ص 185.
[30] «قد بطلت الثقة بالمحسات أيضًا، فلعله لا ثقة إلَّا بالعقليات التي هي من الأوليات كقولنا: العشرة أكثر من الثلاثة، والنفي والإثبات لا يجتمعان في الشيء الواحد، والشيء الواحد لا يكون حادثًا قديمًا، موجودًا معدومًا، واجبًا محالًا، فقالت الحواس: بم تأمن أن تكون ثقتك بالعقليات كثقتك بالمحسات وقد كنت واثقًا بي؟ فجاء حاكم العقل فكذبني، ولولا حاكم العقل لكنت تستمر على تصديقي، فلعل وراء إدراك العقل حاكما آخر إذا تجلى كذب العقل في حكمه كما تجلى حاكم العقل فكذّب الحس في حكمه، وعدم تجلي ذلك لا يدل على استحالته، فتوقَّفت النفس في جواب ذلك قليلًا وأيدت إشكالها بالمنام وقالت: أما تراك تعتقد في النوم أمورًا وتتخيل أحوالًا وتعتقد لها ثباتًا واستقرارًا ولا تشك في تلك الحالة فيها، ثم تستيقظ فتعلم أنه لم يكن بجميع متخيلاتك ومعتقداتك أمل وطائل، فيما تأمن أن يكون جميع ما تعتقده في يقظتك بحس أو عقل هو حق بالإضافة إلى حالتك التي أنت فيها، لكن يمكن أن تطرأ عليك حالة تكون نسبتها إلى يقظتك كنسبة يقظتك إلى منامك وتكون يقظتك نومًا بالإضافة إليها، فإذا وردت تلك الحالة تيقنت أن جميع ما توهمت بعقلك خيالات لا حاصل لها». أبو حامد الغزالي، المنقذ من الضلال، مصدر سابق، ص ص 83-84.
[31] د. زكي نجيب محمود، المعقول واللامعقول، مصدر سابق، ص 326.
[32] أبو حامد الغزالي، المنقذ من الضلال، مصدر سابق، ص ص 84-85.
[33] ينظر في: د. عبد الأمير الأعسم، الفيلسوف الغزالي، بيروت: دار الأندلس، الطبعة الثانية 1981، ص ص 76-82.
[34] د. زكي محمود، المعقول واللامعقول، مصدر سابق، ص 85.
[35] أبو حامد الغزالي، المنقذ من الضلال، مصدر سابق، ص 85.
[36] أبو حامد الغزالي، أورده ناجي حسين جوده، المعرفة الصوفية، بيروت: دار الجيل، الطبعة الأولى 1992، ص 76.
[37] أبو حامد الغزالي، المنقذ من الضلال، مصدر سابق، ص 84.
[38] أبو حامد الغزالي، المنقذ من الضلال، مصدر سابق، ص 85.
[39] المصدر نفسه، ص 79.
[40] المصدر نفسه، ص ص 75-79.
[41] المتكلمون: وهم يدعون أنهم أهل الرأي والنظر.
الباطنية: وهم يزعمون أنهم أصحاب التعليم.
الفلاسفة: وهم يزعمون أنهم أهل المنطق والبرهان.
الصوفية: وهم يدعـون أنهم خـواص الحضـرة وأهـل الشهـادة والمكاشفة». أبو حامد الغزالي، المنقذ من الضلال، مصدر سابق، ص 86.
[42] المصدر نفسه، ص 85.
[43] أبو حامد الغزالي، معيار العلم ، المطبعة العربية بمصر، الطبعة الثانية 1346هـ/ 1927م، ص 223.
[44] الذهبي، أورده: عبدالرحمن بدوي، مؤلفات الغزالي، الكويت: وكالة المطبوعات، الطبعة الثانية 1977،ص 527.
[45] عبدالرحمن بدوي، مؤلفات الغزالي، المرجع السابق، ص 11.
[46] زكي نجيب محمود، المعقول واللامعقول، ص ص 326-327.
[47] زكي نجيب محمود، المعقول واللامعقول، ص ص 326-327.
[48] أبو حامد الغزالي، معيار العلم، ص 159. وأورده : زكي نجيب محمود في: المعقول واللامعقول، ص 327.
[49] زكي نجيب محمود، المعقول واللامعقول، المصدر السابق، ص 327.
[50] أبو حامد الغزالي، معيار العلم، ص 159. وأورده: زكي نجيب محمود في: المعقول واللامعقول، ص 327.
[51] أبو حامد الغزالي، معيار العلم، ص 159. وأورده: زكي نجيب محمود في: المعقول واللامعقول، ص 327.
[52] المصدر نفسه، ص 327.
[53] يقول الدكتور زكي نجيب محمود: «إنني في الفلسفة نصير الوضعية المنطقية». ينظر في: قشور ولباب، مصدر سابق، ص 160.
[54] زكي نجيب محمود، المعقول واللامعقول، مصدر سابق، ص 327.
[55] المصدر نفسه، ص 328.
[56] أبو حامد الغزالي، معيار العلم، ص 162. وأورده: زكي نجيب محمود في: المعقول واللامعقول، ص ص 329-330.
[57] زكي نجيب محمود، المعقول واللامعقول، مصدر سابق، ص 330.
[58] أبو حامد الغزالي، المنقذ من الضلال، مصدر سابق، ص 124.
[59] الإمام الذهبي، أورده عبدالرحمن بدوي، مؤلفات الغزالي، مرجع سابق، ص 528.
[60] يقول أبو بكر بن العربي شاهدًا عن هذا التغير الجذري: «رأيت الإمام الغزالي في البرية وبيده عكازه وعليه مرقعة وعلى عاتكه ركوة، وقد كنت رأيته ببغداد يحضر مجلس درسه نحو أربعمائة عمامة من أكابر الناس وأفاضلهم، يأخذون عنه العلم، قال: فدنوت منه وسلمت عليه وقلت له: يا إمام، أليس تدريس العلم ببغداد خير من هذا؟ قال : فنظر إليَّ شزرًا وقال: لما طلع بدر السعادة في فلك الإدارة، أو في سماء الإدارة وجنحت شمس الوصول في مغارب الأصول.
تركت هوى ليلى وسعدى بمنزل
وعدت إلى تصحيح أول منزل
ونادت في الأشواق مهلًا فهذه
منازل من تهوى رويدك فانزل
غزلت لهم غزلًا دقيقًا فلم أجد
لغزلي نساجًا فكسرت مغزلي
أورده : الطاهر المعموري، الغزالي وعلماء المغرب، الجزائر: المؤسسة الوطنية للكتاب/ تونس: الدار التونسية للنشر، الطبعة الأولى 1990، ص ص 66-67.
[61] أبو حامد الغزالي، المنقذ من الضلال، مصدر سابق، ص 131.
[62] الكشف في الاصطلاح الصوفي: هو الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية وجودًا وشهودًا. الجرحاني، التعريفات، تحقيق: محمد صديق المنشاوي، القاهرة: دار الفضيلة، 2004، ص 155.
[63] الذوق: في الاصطلاح الصوفي: هو في معرفة الله عبارة عن نور عرفاني يقذفه الحق بتجليه في قلوب أوليائه، يفرقون به بين الحق والباطل من غير أن ينقلوا ذلك من كتاب أو غيره. الجرحاني، التعريفات، ص 93.
[64] أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، الجزء الثامن من المجلد الثالث، دار الفكر، الطبعة الثانية 1980.ص ص 22-23.
[65] المصدر نفسه، ص 23.
[66] المصدر نفسه، ص 6 و 8.
[67] أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، المصدر السابق، ص ص 26 - 27.
[68] المصدر نفسه، ص ص 27 - 28 .
[69] المصدر نفسه، ص 32.
[70] المصدر نفسه، ص ص 35 - 36 .
[71] محي الدين بن عربي، كتاب الوصايا (ضمن رسائل بن عربي)، بيروت: دار إحياء التراث العربي، الطبعة الثانية 2002م، ص 391.
[72] أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، مصدر سابق، ص ص 35- 38.
[73] أبو القاسم القشيري، الرسالة القشيرية في علم التصوف، بيروت: دار إحياء التراث العربي، الطبعة الأولى 1998م، ص 151.
[74] الذي هو «ما كان بحكم البيان أي بطريق الكشف، وهو لأصحاب العلوم الذين ثبتت علومهم وتوالت على قلوبهم حتى استغنوا عن البرهان». القشيري، الرسالة، ص151.
[75] وهو «ما كان بنعت العيان، وهو لأصحاب المعارف الذين غلب على قلوبهم ما شغلهم عن ذكر غير الله». القشيري: الرسالة، ص151.
[76] أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، الجزء الأول من المجلد الأول، دار الفكر، الطبعة الثانية 1980، ص 140.
[77] المصدر نفسه، ص 142.
[78] أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، المصدر السابق، ص ص 145-146.
[79] المصدر نفسه، ص 149.
[80] المصدر نفسه، ص 150.
[81] زكي نجيب محمود، المعقول واللامعقول، مصدر سابق، ص 334.
[82] المصدر نفسه، ص 334.
[83] المصدر نفسه، ص 334.
[84] أبو حامد الغزالي، المنقذ من الضلال، مصدر سابق، ص 128.
[85] المصدر نفسه، ص 132.
[86] أبو حامد الغزالي، المستصفى في علم الأصول، بيروت: دار الكتب العلمية 1996. ص 112.
[87] زكي نجيب محمود، المعقول واللامعقول، مصدر سابق، ص 19.
[88] المصدر نفسه، ص 336.
[89] فأولًا: قد يختلف الفلاسفة على لفظ مجرد وطريقة استعماله كاختلافهم على الاسم «جوهر» حين يشيرون به إلى الله، فيقول بعضهم عن «الجوهر» أنه «الموجود لا في الموضوع»، أي إنه هو القائم بنفسه الذي لا يحتاج إلى مقوم يستند إليه، ويرد عليهم آخرون بقولهم: إن الجوهر إنما يتحيز في مكانه، وهنا يعلق الغزالي بقوله: «إننا إذا اتفقنا على معنى اللفظ بأنه هو قيام الموجود بنفسه دون حاجة منه إلى سواه فماذا يهم إذا أطلقنا على مثل هذا الموجود اسم «جوهر» أو لم نطلقه؟ إن هذا إنما يكون من قبيل البحث اللغوي الذي لا ضير علينا منه.
وثانيًا: قد يختلف الفلاسفة على أفكار ليست مما يصدم أصلًا من أصول الدِّين، «ومن ظن أن المناظرة في إبطال هذا من الدين فقد جنى على الدين... فإن هذه الأمور تقوم عليها براهين هندسية حسابية لا يبقى معها ريبة، فمن يطلع عليها ويتحقق أدلتها... إذا قيل له: إن هذا خلاف الشرع لم يسترب فيه وإنما يستريب في الشرع... وأعظم ما يفرح به الملاحدة أن يصرح ناصر الشرع بأن ما قد ثبت بالبراهين العقلية على خلاف الشرع فيسهل عليهم طريق إبطال الشرع إن كان شرطه أمثال ذلك.
وثالثًا: قد يجيء الاختلاف بين الفلاسفة حول أمر يتعلق بأصل من أصول الدين كالقول في حدود العالم وصفات الصانع وبيان حشـر الأجساد والأبدان... إلخ». أبو حامد الغزالي، تهافت الفلاسفة، بيروت: المكتبة العصرية، 2008، ص ص46 و47. وأورده زكي نجيب محمود في: المعقول واللامعقول، ص 337.
[90] المصدر نفسه، ص 337.
[91] أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، الجزء الأول، مصدر سابق، ص 142. وأورده : زكي نجيب محمود، في المعقول واللامعقول، ص 332.
[92] الإحالات من 1 إلى 10 من المصدر نفسه، (1) 332- (2) 334- (3) 331- (4) 330- (5) 326-(6) 321 – (7)320 – (8) 320 – (9) 319 – (10) 318.
[93] المصدر نفسه، ص 318.
[94] المصدر نفسه، ص 345.
[95] المصدر نفسه، ص 456.
[96] أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، الجزء الأول، مصدر سابق، ص 142.
[97] زكي نجيب محمود، المعقول واللامعقول، ص 338.
[98] المصدر نفسه، ص 338.
[99] المصدر نفسه، ص 338.
[100] المصدر نفسه، ص 339.
[101] المصدر نفسه، ص 338.
[102] المصدر نفسه، ص ص 338-339.
[103] أبو حامد الغزالي، تهافت الفلاسفة، مصدر سابق، ص 176. وأورده زكي نجيب محمود في: المعقول واللامعقول، ص 339.
[104] أبو حامد الغزالي، تهافت الفلاسفة، ص 176. وأورده زكي نجيب محمود في: المعقول واللامعقول، ص 339.
[105] المصدر نفسه، ص 340.
[106] المصدر نفسه، ص 341.
[107] المصدر نفسه، ص 341.
[108] المصدر نفسه، ص 341.
[109] المصدر نفسه، ص 340.
[110] المصدر نفسه، ص 341.
[111] المصدر السابق، ص 341.
[112] أبو حامد الغزالي، تهافت الفلاسفة، مصدر سابق، ص ص 176-177 .
[113] أبو يعرب المرزوقي، مفهوم السببية عند الغزالي، تونس: دار أبو سلامة للطباعة والنشر، الطبعة الثانية 1985م، ص 37.
[114] أبو حامد الغزالي، تهافت الفلاسفة، ص ص179 و184.
[115] ممدوح الزوبي، معجم الصوفية، بيروت: دار الجيل، الطبعة الأولى 2004، ص 343.
[116] أبو القاسم عبد الكريم القشيري، الرسالة القشيرية، مصدر سابق، ص 429.
[117] زكي نجيب محمود، المعقول واللامعقول، ص ص 401-402.
شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
يحاول الكاتب محمد محفوظ في 166 صفحة أن بضيئ الحديث عن السلم الأهلي والمجتمعي، في الدائرة العربية والإسلامية، بحيث تكون هذه المسألة حقيقة من حقائق الواقع السياسي والإجتماعي والثقافي، وثابتة من ثوابت تاريخنا الراهن.
ينتمي مالك بن نبي وعبدالله شريط إلى بلد عربي إسلامي عانى من ويلات الاستعمار ما لم يعانه بلد آخر، سواء في طول الأمد أو حدة الصراع أو عمق الأثر. إنهما مثقفان عميقا الثقافة، مرهفا الشعور، شديدا الحساسية للمعاناة التي عاشها ملايين الجزائريين من ضحايا مدنية القرن العشرين، بأهدافها المنحطة وغاياتها الدنيئة.
عقد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات خلال الفترة الواقعة بين 6 و 8 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2012، مؤتمرًا أكاديميًّا عنوانه «الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي: تجارب واتّجاهات»، في فندق شيراتون بالدوحة، وشهد الافتتاح حشدًا كبيرًا من الباحثين والأكاديميّين من دول عربية.
يأتي الاهتمام بالقضية الفنية في فكر الأستاذ عبدالسلام ياسين من منطلق أن الوجود الحضاري للأمة كما يتأسس على أسس القوة المادية التي يمليها منطق التدافع القرآني أي التدافع الجدلي بين الخير والشر الذي هو أصل التقدم والحركة، يتأسس كذلك على جناح تلبية الحاجات النفسية والذوقية والجمالية بمقتضى الإيمان الذي هو ...
ثمة مضامين ثقافية ومعرفية كبرى، تختزنها حياة وسيرة ومسيرة رجال الإصلاح والفكر في الأمة، ولا يمكن تظهير هذه المضامين والكنوز إلَّا بقراءة تجاربهم، ودراسة أفكارهم ونتاجهم الفكري والمعرفي، والاطِّلاع التفصيلي على جهودهم الإصلاحية في حقول الحياة المختلفة
لا شك في أن الظاهرة الإسلامية الحديثة (جماعات وتيارات، شخصيات ومؤسسات) أضحت من الحقائق الثابتة في المشهد السياسي والثقافي والاجتماعي في المنطقة العربية، بحيث من الصعوبة تجاوز هذه الحقيقة أو التغافل عن مقتضياتها ومتطلباتها.. بل إننا نستطيع القول: إن المنطقة العربية دخلت في الكثير من المآزق والتوترات بفعل عملية الإقصاء والنبذ الذي تعرَّضت إليه هذه التيارات، مما وسَّع الفجوة بين المؤسسة الرسمية والمجتمع وفعالياته السياسية والمدنية..
لم يكن حظ الفلسفة من التأليف شبيهاً بغيرها من المعارف والعلوم في تراثنا المدون بالعربية، الذي تنعقد الريادة فيه إلى علوم التفسير وعلوم القرآن والحديث والفقه وأصوله، واللغة العربية وآدابها، وعلم الكلام وغيرها. بينما لا نعثر بالكم نفسه على مدونات مستقلة تعنى بالفلسفة وقضاياها في فترات التدوين قديماً وبالأخص حديثاً؛ إذ تعد الكتابات والمؤلفات في مجال الفلسفة، ضئيلة ومحدودة جدًّا، يسهل عدها وحصرها والإحاطة بها.