شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
الهرمنيوطيقا وفهم النص الديني
مقاربة في منهج الفهم
بيروت، 21 نيسان/ أبريل 2015م
محمد تهامي دكير
الهرمنيوطيقا، علم التأويل الكتابي -كما عرّفها القاموس العربي الفرنسي– أو النظرية التأويلية الحديثة في فهم الكتاب المقدس، منهج ظهرت بوادره مع ما يُطلق عليه في تاريخ الفكر الفلسفي والديني الأوروبي الرومانسية الألمانية، حيث يعتبر الفيلسوف شلاير ماخر مؤسس الهرمنيوطيقا الحديثة، والذي وفي إطار بحثه عن نظرية عامة لفهم النص وتأويله دعا إلى ضرورة التمييز بين الجانب الموضوعي في اللغة الذي يشترك فيه الكاتب أو المؤلف مع سائر المتكلمين بلغة معينة وبين الجانب الخاص أو الذاتي للكاتب الذي يُعبر عن نفسيته وميوله الفكرية ورؤيته للكون.
وبالتالي، فإذا كانت اللغة بوجودها الموضوعي تحدد للكاتب طريقة التعبير التي يسلكها في عرض آرائه وأفكاره، فإنه هو كذلك يدخل عليها تعديلات. وعليه فكل نص يتميز بجانبين: موضوعي يتعلق باللغة، وذاتي يرتبط بفكر المؤلف وكيفية تعبيره عن ذاته.
وهنا يأتي المنهج الهرمنيوطيقي ليقدم تأويلات مجازية، الهدف منها الكشف عن مقصود المؤلف في أي نص.
وإذا كانت الهرمنيوطيقا قد انطلقت أساسًا للبحث عن قواعد لتفسير نصوص الكتاب المقدس وفهمه وتأويله، فإنها سرعان ما تجاوزت ذلك ليشمل اهتمامها العلوم الإنسانية بشكل عام.
من هنا، وفي إطار التثاقف الحضاري والتفاعل الثقافي بين العالمين الغربي والإسلامي، دعا عدد من الكُتّاب والمفكرين المعاصرين إلى الاستفادة من هذا المنهج لقراءة نصوص الوحي الإسلامي، فيما توجّس البعض الآخر من هذا المنهج خيفة، لخلفياته الفلسفية والدينية والبيئة الحضارية المغايرة التي نشأ وظهر فيها، بالإضافة إلى أهدافه والنتائج التي كشفت عنها تطبيقاته في أوروبا والتي لا تزال محل جدل ونقاش هناك.
من هنا تأتي أهمية هذا المؤتمر الذي نظتمه جامعة المصطفى العالمية (فرع لبنان) بهدف تقويم نظرية الهرمنيوطيقا والكشف عن الموقف العلمي منها، وبحث مدى إمكانية توجيهها وفق المباني المعهودة في الفهم الديني الحوزوي، وكذلك مقارنة النظريات الهرمنيوطيقية مع هذه المباني التقليدية في فهم النص الديني، وهل هناك أوجه تشابه والتقاء بينهما؟
بالإضافة إلى مناقشة الإشكاليات المطروحة من طرف البعض على هذا المنهج.. بهدف الوصول إلى بلورة منهج معاصر في فهم الدين، يتلاءم مع خصوصية الوحي مع الاستفادة من المُعطيات المعاصرة والتطور الواقع في مجال المناهج المتعلقة بالعلوم الإنسانية على وجه الخصوص.
شارك في المؤتمر لفيف من الباحثين والأكاديمين والمفكرين من العالمين العربي والإسلامي، حيث قدمت خلال أربع جلسات مجموعة من الأوراق والدراسات.
الجلسة الافتتاحية
في الجلسة الافتتاحية ألقى الشيخ الدكتور علي رضا بي نياز ممثل جامعة المصطفى العالمية في لبنان، كلمة فأشار فيها إلى أهمية قواعد فهم القرآن ومقدماته مثل الاستماع والانصات، وكيف أن الفهم في القرآن لا ينفصل عن الهداية والعمل؛ لذلك لا بد من تحفيز البحث عن مقدمات الفهم وشروطه والآليات المستودعة في القرآن والسنة.
ورغم ما بذله المسلمون في فهم القرآن منذ بداية نزوله إلَّا أن تطاول الزمن وانقطاع الصلة بالوحي –يقول الشيخ بي نيازي– ترك أثره على عملية فهم القرآن، التي تحولت إلى صيرورة فكرية غير بسيطة حيث اختلف في المنهج المؤتمن عليها، بين من أعلن العجز عن فهم القرآن بحجة أنه كتاب لا يفهمه إلَّا من خُوطب به، وحصر أدوات فهمه في الموروث من الأخبار والسنن، بينما رآى آخرون أن الكتاب الذي يُبين كل شيء لا يمكن أن يُتكل في فهمه على غيره، فولدت من هذه الأفكار وأخواتها ما عرف بمناهج التفسير في التراث الإسلامي.. كما أنتج المسلمون أدواتهم المنهجية التي حسبوا أنها تعينهم بل وتكفيهم في أداء واجب التدبر في كتاب ربهم، وبينوا هذه القواعد المنهجية في علوم عدة منها علوم العربية والبلاغة وأصول الفقه.
ثم أشار إلى المناهج المعاصرة مثل الهرمنيوطيقا التي اختلف الباحثون في مدى وأهمية الاستفادة منها، داعيًا إلى دراسة هذا المنهج وكشف غوامضه ومقارنته بالمناهج التراثية واتخاذ الموقف العلمي منه.
الجلسة الأولى
انطلقت أعمال الجلسة الأولى لمناقشة المحور الأول: الهرمنيوطيقا في سياق منهج الفهم، وقد تحدث في البداية الشيخ الدكتور محسن الأراكي (الأمين العام لمجمع التقريب بين المذاهب في إيران) عن «الهرمنيوطيقا والقواعد العامة لفهم النص»، وقد استعرض الباحث سبع ركائز يقوم عليها فهم النص، فالنص في مفهوم الهرمنيوطيقا هو حصيلة امتزاج فضاءين على مستوى المعنى، فضاء للنص وفضاء للمفسر، وبما أن الخلفية الفكرية للمفسر لها مدخلية في فهم النص، فلا يمكن الحديث عن الفهم المطابق للواقع في أي تفسير. من هنا تصبح عملية فهم النص لا حدود لها، بحيث يمكن أن نقدم قراءات متعددة لنص واحد كما يقول الباحث الشيخ الأراكي. ويضيف: وعند مواجهة النص الواحد، لا وجود لفهم ثابت غير مطاط، ولا وجود لإدراك نهائي غير قابل للتغيير والتعديل.
وبما أن الهدف ليس الوصول إلى مقصود الكاتب فإن صاحب النص نفسه يصبح قارئًا للنص، وفهمه له يصبح فهمًا وتفسيرًا إلى جانب بقية التفسيرات.
ومن خلال ذلك، فليس هناك ما يمكن تسميته بالتفسير الصحيح للنص. والخلاصة التي يصل إليها الباحث الشيخ الأراكي، هي أن المنهج الهرمنيوطيقي يتناغم مع نظرية النسبية التفسيرية، وهي بذلك تفسح المجال واسعًا أمام شتى التفسيرات المتطرفة للنص.
من هنا يقترح الباحث البديل المنطقي والسليم لقراءة نصوص الوحي، وهو ما قدمته النظريات الدلالية التي قدمها علم أصول الفقه.
الشيخ محمد زراقط (الأستاذ في جامعة المصطفى العالمية ومدير لجنة التفسير وعلوم القرآن فيها) تحدث عن: «الهرمنيوطيقا.. تأملات في منبتها الغربي: دراسة في المصطلح»، حيث أشار في البداية إلى المواقف المختلفة من الهرمنيوطيقا عندما طرحت في مجال التداول الفكري الإسلامي، فقد رأى الرافضون لهذا المنهج أنه مقدمة وذريعة لرفض النص الديني عبر تمييع دلالته، وفسح المجال لتعددية تفسيرية تتطابق مع ما أطلق عليه سابقًا بالتفسير بالرأي.
كما تحدث الباحث زراقط عن الجذور الغربية للهرمنيوطيقا وتعريفاتها المتعددة، والعناصر المنهجية المعتمدة في مجال فهم النص الديني، مؤكدًا أننا بحاجة إلى اتخاذ موقف من بعض مدارس الهرمنيوطيقا، والبحث عن إمكانية الاستفادة من بعض الاكتشافات التي توصل إليها العقل في مجال تعامله مع النص الديني.
الورقة الثالثة في هذه الجلسة قدمها د. الشيخ حسين مختاري (رئيس المركز العالي للدراسات التقريبية – في إيران)، وجاءت تحت عنوان: «تحليل مباني الفهم عند شلاير ماخر»، وقد أشار فيها إلى موقف هذا الفيلسوف من النص، وكيف حاول حل معضلة إبهام النصوص، عبر تقديم بعض القواعد، والالتفات إلى الخصوصيات النفسية للمتكلم. فقد أكد ماخر على أهمية فهم أسلوب الصياغة ومحوريتها في معرفة الحالة النفسية، وبما أن الأسلوب يتجلى في اللغة وقواعد الكتابة، فسوف يقال –كما يقول الباحث– أن الأسلوب مرآة للهوية الشخصية للمؤلف، لأن الفرد واللغة أمران لا ينفكان، واللغة حاكية عن فكر المؤلف.
كذلك تحدث الباحث عن توسيع مجال الهرمنيوطيقا لدى شلاير ماخر ليتجاوز النصوص المقدسة، وذلك بسبب سوء الفهم، أو لوجود نصوص كثيرة مبهة وغامضة. وبما أن الإدراكات والأحاسيس مشتركة بين البشر فإن ماخر يرى أن هذا الحس المشترك يعتبر عنصرًا أساسيًّا في الهرمنيوطيقا.
أما في المجال الإسلامي فقد أشار الباحث إلى علماء الأصول والتفسير الذين ركّزوا على بحث الفهم العُرفي وظواهر الكلام، ولم يؤمنوا بسوء الفهم في تفسير النصوص الدينية، وإنما هناك فهم مخالف للواقع. ومن خلال القواعد والقوانين المعتمدة يمكن الوصول إلى المعنى الحقيقي، لكن لا يمكن إنكار الخلفيات الذهنية للمفسر عند تفسير النصوص غير المحكمة.
الورقة الرابعة في هذه الجلسة كانت للدكتور جميل حمداوي (باحث في الفكر الإسلامي من المغرب)، ونظرًا لتعذر حضوره فقد قرأها نيابة عنه الشيخ لبنان الزين، وقد حملت عنوان: «السيميوطيقا التأويلية عند بول ريكور: في خدمة الكتب المقدسة والنصوص الأدبية والفلسفية»، وفيها رأى الباحث أن سيميوطيقا بول ريكور الفيلسوف الفرنسي إنما جاءت كرد فعل على لسانيات البنية والعلامة والتفكيك، من أجل الخروج من عالم داخلي مُغلق ومُسيّج بالثوابت البنيوية والثنائيات الضدية، إلى عالم أوسع وأرحب يعتمد على التأويل والذات والمقصدية، واستحضار الغير والقارئ، وهذا يعني أن سيميوطيقا بول ريكور تتجاوزالداخل إلى الخارج، وتتجاوز الدال والمدلول نحو المرجع، وتربط الذات بالمقصدية، وتتأرجح بين الذاتية والموضوعية، وبالتالي فحسب الباحث فقد استطاع بول ريكور أن يعيد الاعتبار لمجموعة من المفاهيم التي تم استبعادها في المقاربات العلمية الصرفة، كالتحليل البنيوي السردي، والسيميائيات، والأنثروبولوجيا البنيوية.
الجلسة الثانية
ترأسها الشيخ محمد زراقط، وناقشت محور: الهرمنيوطيقا ومنهج الفقه الإسلامي، وقد تحدث فيها من العراق د. عبد الجبار الرفاعي (مدير مركز فلسفة الدين) عن: «الدرس الهرمنيوطيقي بالعربية: الراهن والماضي»، حيث تناول معنى الهرمنيوطيقا ومدلولها، ودور بعض شيوخ الأزهر في تدشين الهرمنيوطيقا لأول مرة في النصف الأول من القرن الماضي. وقد ركز الباحث على جهود الشيخ أمين الخولي في مجال اللغة، ودعوته إلى القراءة التزامينة للقرآن الكريم، كما تناولت الورقة بذور المنحى الهرمنيوطيقي في مدرسة النجف مع السيد الشهيد محمد باقر الصدر، الذي أشار إلى ذات الفقيه في الاستنباط الفقهي، وأثرها في تحديد مدلول النص ومعناه، وأهم المنابع للذاتية لخصها الشهيد الصدر في:
1- تبرير الواقع.
2- دمج النص ضمن إطارخاص.
3- تجريد الدليل الشرعي من ظروفه وشروطه.
4- اتخاذ موقف معين بصورة مسبقة تجاه النص.
الدراسة الثانية في هذه الجلسة قدّمها السيد حسين إبراهيم (مدير المؤتمر وأستاذ بجامعة المصطفى العالمية)، وقد تحدث فيها مفصلًا عن تاريخ الهرمنيوطيقا في الغرب، كما تحدث عن منهج أصول الفقه في فهم النص، متسائلًا عن مدى وإمكانية استفادة هذا العلم من الدراسات اللغوية ومن الهرمنيوطيقا في سياق منهج الفهم.
وحاصل البحث –كما يقول الباحث– أن منهج أصول الفقه ليس لديه موقف رافض بالكلية لجذر مصطلح الهرمنيوطيقا وبعض تاريخه، بل هو نفسه يقوم منهجًا للتفسير وفهم المراد في النص الديني، وإن كان لديه موقفه المنهجي من بعض الآراء الهرمنيوطيقية، التي تضرب المنهج المعهود في التخاطب العرفي بين العقلاء. كما أن علم أصول الفقه يحاول بناء منهج موضوعي معياري في التعامل مع النص الديني، والنسبية في الفهم فيه نسبية ظنية عقلائية رضيها المُشرع وقام القطع على اعتبارها، وهي نسبية في الفهم مع وجود واقع وجودي تقاربه نسبية في الفهم هذه.
أما القول بتاريخية النص الديني فلا تقبل على إطلاقها، لأن الوحي وإن كان له تاريخ وفهمه له تاريخ أيضًا لكن القرآن بيان إلهي يعبر عن حقائق فوق التاريخ، هي حقيقة الوحي الإلهي.
السيد علي الموسوي (الأستاذ بجامعة المصطفى العالمية) تحدث عن: «الهرمنيوطيقا وأصول الفقه: قراءة في فكر الشهيد الصدر»، وقد تناول فيها مفردتي (الفهم) و(المراد) بوصفهما محور الاهتمام المشترك بين الهرمنيوطيقا وأصول الفقه، ضمن محاور أربعة هي:
1- مقومات الفهم الهرمنيوطيقي للنص عند غادامر.
2- أصول الفقه وفهم المراد.
3- إشكالية الانقطاع.
4- فلسفة الفقه.
وقراءة الفهم.. حيث طرح في الحوزة العلمية مؤخرًا مصطلح فلسفة الفقه، والغرض منه هو دراسة علمية الفهم الفقهي من الخارج، أي دراسته بوصفه ظاهرة فهم. وأمام هذا التعريف يقول الباحث: نجد ارتباطًا بنحو ما بالهرمنيوطيقا المعالجة لظاهرة الفهم والباحثة عن مكوناته.
الجلسة الثالثة
أدارها الشيخ حسن الهادي لمناقشة محور «الهرمنيوطيقا والتأويل»، وقد تحدث فيها في البداية الشيخ شفيق جرادي (رئيس معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية) عن: «فلسفة الهرمنيوطيقا وتأويلية النص: تعاند أم تواصل»، حيث تناول بالتفصيل الفرق بين الهرمنيوطيقا والتأويل كمنهج إسلامي، محذرًا من الخلط التعسفي بينهما، إذ التأويل نهج تطوري لحلقة التفسير القرآني أو الروائي، وهو أسلوب أو منهج للربط بين ظاهر النص وأفقه المعنائي المشير إلى حقيقة ما. أما مصطلح الهرمنيوطيقا فهو من مولد آخر ولوظيفة أخرى، وبالتالي فالمشابهة بينه وبين التأويل لا تعني أنه هو، بل هو غيره. من هنا يضيف الباحث: فإن الاختلاف بين الهرمنيوطيقا والتأوليل فيه بُعد من أبعاد فلسفة اللغة؛ ولذا الهرمنيوطيقا تعتبر اللغة منبعاً لكل معنى، وبالتالي فإن مقصد النص هو إحالتنا على فهم ما، لا على مفهوم أو وجود وحقيقة وجودية، وهذا ما لا تتبناه المدرسة التأويلية.
إن التأويلية عملية استكشاف وحركة بناء للهوية والانتماء والذات؛ لذلك دعا الباحث إلى تطوير التأويلية الإسلامية من خلال ربطها بعالم الدعاء، لأن الدعاء يمثل مسيرة الروح من بطنان الأرض إلى عنان سماء الملكوت والمعنى، وفيه ربط بين عالمين من الوجود عبر اللغة.
الورقة الثانية في هذه الجلسة قدمها د. محمد الخضراوي(رئيس وحدة بحث القرآن في جامعة الزيتونة - تونس)، وحملت عنوان: «جدلية التفسير والتأويل مدارات الفكر الهرمنيوطيقي المتمرد»، وقد تناول الباحث فيها بالبحث والتحليل نظام البنية القرآنية بلحاظ اشتماله على جملة من الآيات التعبيرية التي تكوّن مجاله الدلالي وتصنع جهازًا للتواصل بينه وبين مختلف المقامات الثقافية، ما يجعل من القرآن محاورًا معرفيًّا للواقع بكل مستوياته الفكرية والعقدية، كما يؤلف نظام التفسير والتاويل –في نظر الباحث– بوصفه ممارسة تعبيرية، العناصر الجمالية والأسلوبية التي يقوم عليها معيار الأداء، أو البلاغ، بمعنى أنه يؤسس لتأويل التنزيل في ما وراء العبارة الظاهرة، وإن بدت مُغلقة لسانيا ونهائية المعنى.
من هنا يقول الباحث: فإن العمل والتحقيق وبذل الجهد في تأويل التنزيل وفتح مغالق النص من أجل الظفر بالدلالة القرآنية، ليس نهاية الممارسة العلمية، ولا خاتمة لمنظومة المعارف الدينية، وإن هو إلَّا نقطة جواز وعبور إلى مشاريع دينية ذات أبعاد ثقافية وحضارية لا تتناهى ولا تنضب، لأن القرآن الكريم وإن تمايز بالذاتية، أي الاستقلاليةعن شروط الإنتاج البشري، ولكن نصه اللغوي لا يجد دلالته المشخصة وقابلية الفهم البشري إلَّا في إطار العالم الطبيعي الذي ينزل فيه ويحيل إليه (الكلمات والأشياء والعلامات الكونية)، من أجل التمثل المادي المباشر للمعاني الغيبية.
الورقة الثالثة قدمها الدكتور حسن ناظم (مدير كرسي اليونسكو في جامعة الكوفة بالعراق)، وجاءت تحت عنوان: «التأويلية الفهم وجودًا»، وقد سلّط فيها الضوء على بعض مشكلات الممارسة التأويلية عبر (الفهم) وكيف أن الفهم تشكّله الأحكام المسبقة، التي توجّه تأويل النصوص، والصراع بين الإيمان، بمعنى واحد فقط للنص (واحدية المعنى)، والإيمان معانٍ متعددة للنص الواحد (تعدد معاني النص). ولقد كانت هذه فحوى المناقشة المحتدمة التي دارت بين هيليس ميلر وم. أبرامز كما يقول الباحث.
ومن باطن هذه الممارسة التأويلية -يضيف الباحث- التي تؤمن بالمعنى الواحد الحرفي، ثمة اعتقاد أبداه لوثر نفسه، حين رأى ان الكتاب المقدس (يفسر) نفسه، وهذا يشبه إلى حدّ ما، وفي حدود ضيقة، ما طرحه السيد محمد حسين الطباطبائي، في تفسيره الميزان، حيث كان يرى أن المعنى كامن في القرآن ونابع منه، وقائم به، ولذلك نحا منحى تفسير القرآن بالقرآن.
إن الفهم بوصفه وجودًا -كما يقول الباحث- هو فهم يحدث بكل ما ينطوي عليه الحدوث من بعد زماني حيني، وفي ضوء ذلك يصبح الشيء الذي ناله الفهم ليس هو المعنى، بل الكائن الإنساني نفسه، وتصبح الممارسة التأويلية محاولة في فهم الذات قبل النص، أو من خلال النص.
الجلسة الرابعة
عقدت هذه الجلسة لمناقشة محور الهرمنيوطيقا في سياق النص الديني، وقد تحدث فيها الشيخ الدكتور إبراهيم بدوي عن: «الهرمنيوطيقا وهاجس نزع القداسة عن النص الديني»، وفيها أشار الباحث إلى دعوى نزع القداسة عن القرآن الكريم، التي يراد من خلالها رفض نسبته إلى الله، وادِّعاء أنه من صُنع البشر، ليسهل التصرف بمعانيه وتقديمها على النحو الذي يرغب فيه البشر.
وقد تحدث الباحث عن المراحل التي مرت بها هذه المحاولة، حيث انطلقت من مرحلة طرح الإشكالات الساذجة التي تتمسك بالظاهر اللغوي لبعض الآيات لإثبات التنافي فيه من دون تدبر فيها، ثم جاءت مرحلة تعميق الإشكالات على يد المستشرقين من خلال تتبع بعض الحقائق التاريخية واللغوية والعلمية لإبراز القصور المزعوم فيه، أما المرحلة الثالثة فجاءت لتثبت تاريخية القرآن وإنسانيته من خلال استخدام المناهج اللغوية في محاكمته، بدعوى أنه ما دام نصًّا لغويًّا فهو يخضع، كغيره من النصوص لمناهج التفسير، وبما أن الهرمنيوطيقا من أهم مناهج تفسير النصوص، فقد استعملت كأحدث سلاح لإسقاط قداسة القرآن الكريم.
وقد تحدث الباحث عن سلبيات اعتماد المنهج الهرمنيوطيقي في التعاطي مع القرآن الكريم، ونبّه لمخاطر ذلك، مع التأكيد على إمكانية الاستفادة من هذا المنهج في فهم القرآن لكن بشرط الإيمان بقداسته وكونه وحيًا منزلًا.
الورقة الثانية في هذه الجلسة قدمها الدكتور بولس الفغالي (باحث ومتخصص في الكتاب المقدس من لبنان)، بعنوان: «سقوط وقيام: هرمنيوطيقا الكتاب المقدس»، وفيها تناول تطبيق منهج الهرمنيوطيقا على بعض نصوص الكتاب المقدسة (نصوص إرميانية)، حيث يرى أن الله يضع معرفته في القلوب، ثم يسمح أن تكتبها في زمن معين وفي مكان معين، وبما أن البشر كتبوها صارت كلمة بشرية، نُحاول قراءتها وشرحها، ونفهمها في الإطار التي كتبت فيه، لكن إذا تبدل الإطار، فإن المعنى لن يتطور فقط، بل سيغتني، حيث يجعل الكاتب هذا النص الإلهي يغذي المؤمنين في أيامه. وشارح الكتاب المقدس –في نظر الباحث– ليس عالم آثار، بل همّه أن تصبح كلمة الله حاضرة، حية وفاعلة في هذا الآن وفي هذا المكان...
البيان الختامي
بعد انتهاء فعاليات المؤتمر، تلا مدير المؤتمر السيد حسين إبراهيم البيان الختامي للمؤتمر، ومما جاء فيه:
إن الدرس الهرمنيوطيقي في الغرب بُنيان متشعب ومُعقد، ومن غير العلمي الحكم عليه بحكم واحد قيمي سلبي أو إيجابي، بل المناسب تحليله إلى رؤى وتيارات وأعلام، إلى مناهج وآليات تعمل داخل تلك الرؤى والفلسفات، ثم البحث بعد ذلك عن حدود المشتركات والتقاطعات، أو التباعدات والتباينات مع مناهج الفهم في العلوم الإسلامية، وطرق فهم النص الديني عند المسلمين.
إن الدرس الهرمنيوطيقي الغربي للكتاب المقدس كان مصاحبًا للاهوت عند آباء الكنيسة، ثم صار مغايرًا له أو منفصلًا عنه في عصر التنوير ليدرس الكتاب المقدس على أساس الدرس العقلي والنمط التجريبي في القراءة والتفسير، ثم على أساس الدرس التاريخي، فأصبحت قراءته في إنجلترا وألمانيا قراءة تعليمية وشكية.. هذه الأسس العقلية والتاريخية والفنية هي التي عن طريقها تم نزع القداسة عن الكتاب المقدس.
بعد هذا العرض يرى المجتمعون أن مناهج أصول الفقه والتفسير (المعتمد على حجية الظهور) وعلم الكلام الإسلامي، لا تُنافي –من وجه– التعامل مع القرآن على هذه الأسس العلقلية أو التاريخية أو الفنية، لكن لا يمكن نقد القرآن من خلال هذه الأسس لأنها لا تسري عليه، فالقرآن له وجود وحياني عيني وليس تفسيرًا أو تجربة أو خبرة يمكن أن يتجاوزها القارئ بالفهم.
أما السنة فقداستها ليست كقداسة القرآن، فالسنة الواردة مفترضة القداسة بنحو القضية الحقيقية، فما كان منها صادرًا عن النبي K كان مقدسًا وما قطع بكذبه فليس بمقدس.
وبناء على ما تقدم، ليس في رؤية العلوم الإسلامية السابقة خلاف بين المجيء إلى النص لتفسيره بالحب والإيمان وبين مُباشرته بالعقلانية، لأن الدين في هذه الرؤية –خصوصًا عند الشيعة والمعتزلة- لا ينافي العقل، وإذا كان النص عين الوجود والحق فلا غرو في مقاربته بالعقل والحب معًا، وهل الدين إلَّا الحب.
شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
يحاول الكاتب محمد محفوظ في 166 صفحة أن بضيئ الحديث عن السلم الأهلي والمجتمعي، في الدائرة العربية والإسلامية، بحيث تكون هذه المسألة حقيقة من حقائق الواقع السياسي والإجتماعي والثقافي، وثابتة من ثوابت تاريخنا الراهن.
ينتمي مالك بن نبي وعبدالله شريط إلى بلد عربي إسلامي عانى من ويلات الاستعمار ما لم يعانه بلد آخر، سواء في طول الأمد أو حدة الصراع أو عمق الأثر. إنهما مثقفان عميقا الثقافة، مرهفا الشعور، شديدا الحساسية للمعاناة التي عاشها ملايين الجزائريين من ضحايا مدنية القرن العشرين، بأهدافها المنحطة وغاياتها الدنيئة.
عقد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات خلال الفترة الواقعة بين 6 و 8 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2012، مؤتمرًا أكاديميًّا عنوانه «الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي: تجارب واتّجاهات»، في فندق شيراتون بالدوحة، وشهد الافتتاح حشدًا كبيرًا من الباحثين والأكاديميّين من دول عربية.
يأتي الاهتمام بالقضية الفنية في فكر الأستاذ عبدالسلام ياسين من منطلق أن الوجود الحضاري للأمة كما يتأسس على أسس القوة المادية التي يمليها منطق التدافع القرآني أي التدافع الجدلي بين الخير والشر الذي هو أصل التقدم والحركة، يتأسس كذلك على جناح تلبية الحاجات النفسية والذوقية والجمالية بمقتضى الإيمان الذي هو ...
ثمة مضامين ثقافية ومعرفية كبرى، تختزنها حياة وسيرة ومسيرة رجال الإصلاح والفكر في الأمة، ولا يمكن تظهير هذه المضامين والكنوز إلَّا بقراءة تجاربهم، ودراسة أفكارهم ونتاجهم الفكري والمعرفي، والاطِّلاع التفصيلي على جهودهم الإصلاحية في حقول الحياة المختلفة
لا شك في أن الظاهرة الإسلامية الحديثة (جماعات وتيارات، شخصيات ومؤسسات) أضحت من الحقائق الثابتة في المشهد السياسي والثقافي والاجتماعي في المنطقة العربية، بحيث من الصعوبة تجاوز هذه الحقيقة أو التغافل عن مقتضياتها ومتطلباتها.. بل إننا نستطيع القول: إن المنطقة العربية دخلت في الكثير من المآزق والتوترات بفعل عملية الإقصاء والنبذ الذي تعرَّضت إليه هذه التيارات، مما وسَّع الفجوة بين المؤسسة الرسمية والمجتمع وفعالياته السياسية والمدنية..
لم يكن حظ الفلسفة من التأليف شبيهاً بغيرها من المعارف والعلوم في تراثنا المدون بالعربية، الذي تنعقد الريادة فيه إلى علوم التفسير وعلوم القرآن والحديث والفقه وأصوله، واللغة العربية وآدابها، وعلم الكلام وغيرها. بينما لا نعثر بالكم نفسه على مدونات مستقلة تعنى بالفلسفة وقضاياها في فترات التدوين قديماً وبالأخص حديثاً؛ إذ تعد الكتابات والمؤلفات في مجال الفلسفة، ضئيلة ومحدودة جدًّا، يسهل عدها وحصرها والإحاطة بها.