شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
نقد إقبال..
الاتجاهات النقدية مطالعات ومناقشات
زكي الميلاد
- 1 -
إقبال.. وعناصر التميز
ما زال الدكتور محمد إقبال (1294-1357هـ/ 1877-1938م)، في دائرة التذكر والاهتمام شعرًا ونثرًا، أدبًا وفكرًا، خطابًا وحركةً، وما زال الاهتمام به يتجدَّد وبأدبه وفكره، بصور وأنماط مختلفة، بحثًا ودراسةً، نقدًا ومقارنًة، وفي بيئات ومجتمعات متعدِّدة عربية وإسلامية، شرقية وغربية، وفي أوساط متنوعة شعراء وأدباء، مفكرين وفلاسفة، باحثين ومستشرقين.
الاهتمام الذي حوَّل إقبال إلى أن يمثل حقلًا دراسيًّا، وبات هناك ما يُعرف بالإقباليات والإقباليين وعلماء الإقباليات، وهذه التسمية الأخيرة وردت في كتاب جاويد إقبال الذي أرَّخ فيه لسيرة والده إقبال[1]، وتشير هذه التسمية إلى وجود شريحة من العلماء والباحثين المختصين بإقبال وتراثه الأدبي والفكري، أو ما يعرف بالتراث الإقبالي.
ومن هذه الجهة، يمكن أن يُقارن إقبال بالفارابي وابن سينا في الأزمنة الإسلامية القديمة، وبالغزالي وابن رشد وابن خلدون في الأزمنة الوسيطة، وبالأفغاني وعبده في الأزمنة الحديثة، الذين تحولوا إلى مادة للدرس والبحث، وتراكمت حولهم وتطوّرت الكتابات والدراسات على أنواعها وأقسامها، ولم تنقطع أو تتوقف.
هذا الأمر يلفت الانتباه بشدة إلى إقبال، ويستدعي البحث والكشف عن طبيعة الملامح والعناصر والمكونات التي أكسبته هذه المنزلة المتفوّقة، وأعطته هذه المكانة المميزة، ورفعته إلى هذا المستوى العالي من العناية والاهتمام المتصل والممتد، وجعلته حاضرًا في الذاكرة، وعصيًّا على النسيان.
والسؤال: ما هي هذه الملامح والعناصر والمكونات التي أكسبت إقبال هذه المنزلة المتفوقة؟
أمام هذا السؤال بحثًا وإجابةً، يمكن الإشارة إلى الملامح والعناصر الآتية:
أولًا: جمع إقبال بطريقة متفوّقة بين موهبة الشعر وموهبة الفكر، فمن جهة هو شاعر موهوب وصاحب تجربة شعرية عرف وتميز بها، ومن جهة أخرى هو مفكر موهوب أيضًا، وصاحب تجربة فكرية عرف وتميز بها، تجربة اعتبرها الدكتور ماجد فخري أنه لم يبلغ شأوها أي مفكر في القرن العشرين[2].
ومن جانب آخر، فإن إقبال كان شاعرًا مؤثرًا بشعره ومؤثرًا بشدة، وهذا الأمر لا يقبل الجدل، ولا يحتاج إلى برهان، كما كان مؤثرًا أيضًا بفكره.
ومن جانب ثالث، استطاع إقبال أن يعبر بشعره إلى العالم، كما استطاع أن يعبر بفكره إلى العالم. عبر إقبال بشعره إلى العالم متخطيًا حدود الهند وباكستان وشبه القارة الهندية، وممتدًا إلى البلاد العربية والإسلامية، ووصل حتى إلى أوروبا التي نُشرت فيها ترجمات لشعره.
ليس هذا فحسب، بل إن الترجمات الإنجليزية لشعر إقبال كانت أسبق من الترجمات الأخرى، فديوان (أسرار خودي) الذي نشره إقبال باللغة الفارسية سنة 1915م، صدرت ترجمته الإنجليزية سنة 1920م، قام بها المستشرق الإنجليزي الشهر رينولد آلين نيكلسون (1868-1945م)، بينما الترجمة العربية صدرت سنة 1956م، قام بها الدكتور عبدالوهاب عزام (1311-1379هـ/ 1894-1959م)، الذي يعُدُّ أول من عرَّف بإقبال أدبًا وفكرًا وسيرةً في العالم العربي.
وعبر إقبال بفكره إلى العالم كذلك، متخطيًا حدود الهند وباكستان وشبه القارة الهندية، وممتدًا إلى البلاد العربية والإسلامية، ووصل إلى أوروبا.
والمفارقة التي تتكرّر هنا أيضًا، أن الكتابات الفكرية لإقبال وصلت إلى أوروبا قبل أن تصل وتُعرف في البلاد العربية والإسلامية، فرسالة الدكتوراه (ازدهار فلسفة ما وراء الطبيعة في إيران)، التي ناقشها إقبال في جامعة ميونخ الألمانية سنة 1908م، صدرت في كتاب باللغة الإنجليزية نشر في لندن سنة 1908م، علمًا أن إقبال كتب هذه الرسالة باللغة الإنجليزية استثناءً، وبناءً على توصية خاصة من أساتذته الإنجليز.
في حين أن الترجمة الأوردية لهذه الرسالة ظهرت في كتاب سنة 1936م، قام بها الكاتب الهندي مير حسن الدين، ونُشرت بعلم من إقبال وإجازة منه، بينما الترجمة العربية الأولى ظهرت ونشرت في كتاب سنة 1986م، وهي التي قام الدكتور حسين مجيب المصري (1335-1425هـ/ 1916-2004م)، الذي حصل على ميدالية إقبال من الحكومة الباكستانية سنة 1977م.
ويتصل بهذا السياق أيضًا، التقدير الذي حصل عليه إقبال من الألمان الذين أسّسوا له جمعية حملت اسم جمعية إقبال، وأقاموا له نُصُبًا تذكاريًّا في ساحة جامعة ميونخ، وأنجزوا حوله كتابات قارنوا فيها تارة بينه وبين الشاعر الألماني غوته (1749-1832م)، وتارة بينه وبين الفيلسوف الألماني نيتشه (1844-1900م)، وترجموا بعض دواوينه وكتاباته إلى الألمانية واعتنوا بها، وهم الذين أطلقوا عليه لقب الفيلسوف.
ومتى ما التقت موهبة الشعر مع موهبة الفكر، فإنهما ترفعان كثيرًا من رصيد صاحبها، وترتقيان بمنزلته، فموهبة الشعر توسّع مدارك الخيال، وموهبة الفكر توسّع مدارك النظر، موهبة الشعر تكسب قوة البيان، وموهبة الفكر تكسب قوة المعنى، موهبة الشعر تُشعل جذوة الوجدان، وموهبة الفكر تُشعل جذوة العقل، موهبة الشعر أداة للتأثير في عموم الناس، وموهبة الفكر أداة للتأثير في خواص الناس.
وبهاتين الموهبتين المتفوقتين عزّز إقبال من مكانته المتفوقة، فموهبة الشعر عزّزت من مكانته ولفتت الانتباه إليه وإلى أدبه وفكره، وموهبة الفكر عزّزت كذلك من مكانته ولفتت الانتباه إليه وإلى فكره وأدبه، فلو كان إقبال شاعرًا فحسب لما وصل إلى المكانة المتفوقة التي وصل إليها، ولو كان مفكرًا فحسب لما وصل كذلك إلى هذه المكانة التي وصل إليها.
ثانيًا: جمع إقبال بلا نفي أو تعارض بين نزعتي الروحانية والعقلانية، فمن جهة هو صاحب نزعة روحانية واضحة ومتجلية في سيرته وسلوكه، وفي أدبه وفكره، ومن جهة أخرى، هو صاحب نزعة عقلانية واضحة ومتجلية في فكره الفلسفي، فلا يمكن تصنيف إقبال وأدبه وفكره على منحى النزعة الروحانية فحسب وإن كانت هي النزعة الغالبة عليه، كما لا يمكن تصنيفه وأدبه وفكره على منحى النزعة العقلانية.
ومن الواضح أن نزعة الروحانية عند إقبال ليست بحاجة إلى إثبات، فقد تربَّى ونشأ صغيرًا في أسرته على هذه النزعة، وبَقِيَتْ وترسّخت عنده بتأثير من أبيه نور محمد المعروف بنزعته الصوفية الراسخة، النزعة التي قادته لأن يتخذ من بيته مكانًا تُدرَّس فيه بعض مؤلفات محيي الدين بن عربي (560-638هـ/ 1165-1240م)، مثل (الفتوحات المكية) و(فصوص الحكم)، وهي الدروس التي حضرها إقبال صغيرًا، وبَقِيَتْ في ذاكرته، وأصبحت جزءًا من سيرته مع التصوف.
وحين يتذكر إقبال هذه السيرة يقول: «إنني لا أسيء الظن بالشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي رحمه الله، فقد كان والدي من الدارسين المتوغلين في الفتوحات والفصوص، وكنت قد بدأت أسمع اسم الشيخ في تعاليمه ولم تتجاوز سني أربع سنوات، ولم يزل يدرس هذان الكتابان في منزلنا للعديد من السنوات، ورغم أنني لم أكن أفهم هذه المباحث وأنا طفل صغير، فإنني كنت أواظب على الحضور في حلقة الدرس، ثم أخذت أفهم الكتابين حين تقدمت في اللغة العربية، وكلما ازداد علمي وتوفرت الخبرة، ازدادت المعرفة بالكتابين والاشتياق إليهما»[3].
وبَقِيَتْ هذه النزعة الروحانية عند إقبال، حتى بعد دراسته وتعمُّقه في الفلسفة الأوروبية، وأشار إلى ذلك بقوله: «إنني أميل التصوف بحكم طبيعتي، وبحكم ما ورثته من أجدادي، وكان هذا الميل قد تدعَّم وقوي بعد الاطلاع على الفلسفة الأوروبية»[4].
ولم تنكمش هذه النزعة أو تتلاشى حتى بعد تغيُّر موقف إقبال من التصوف، حين انتقد ورفض فكرة وحدة الوجود عند المتصوفة، واعتبر أنها تعارض فكرة التوحيد، وكذلك حين انتقد ورفض ما أسماه حالة السُّكر وحالة الفناء ونفي الذات في الأدب والسلوك الصوفيين، واعتبر أن هذه الحالات تنافي الفلسفة التي دعا إليها وهي فلسفة الذاتية، الفلسفة التي شرحها وبشَّر بها في ديوانه الشهير (أسرار خودي - أسرار الذاتية) المنشور سنة 1915م، وهو الكتاب الذي فتح في وقته أكبر معركة أدبية، وأثار على إقبال أعظم موجة من النقد، بسبب موقفه الناقد من الشاعر الإيراني حافظ الشيرازي (726-791هـ/ 1325-1388 أو 1389) وشعره الصوفي.
أما نزعة العقلانية عند إقبال، فتظهر متجلية في فكره الفلسفي وتحليلاته الفلسفية، وفي تعمُّقه وتمسُّكه بالفلسفة الأوروبية الحديثة، التي اتخذت من العقل نظامًا ومرجعًا لها، ومن العقلانية مسارًا ومسلكًا، وظلَّت تمجِّد العقل والعقلانية إلى حد المبالغة والإسراف، كما لو أنها جاءت لتعلن الانتصار النهائي والحاسم للعقل.
وقد ظهر هذا الجمع وهذا التوازن بين نزعتي الروحانية والعقلانية عند إقبال، في كتابه (تجديد التفكير الديني في الإسلام)، الكتاب الذي تبلورت فيه واكتملت فلسفته، وأراد منه البحث عن إعادة التوازن المفقود بين فلسفتي الغرب والشرق، فلسفة الغرب التي انحازت كليًّا إلى العقل وظلّت بحاجة إلى النزعة الروحانية لإعادة التوازن، وفلسفة الشرق التي لها طبيعة روحانية وكانت بحاجة إلى النزعة العقلانية لإعادة التوازن.
وتتأكد قيمة هذه الملاحظة في المجال الفكري الإسلامي، عند معرفة ما حصل من انقسام حاد ما بين الغزالي وابن رشد في تاريخ الفكر الإسلامي الوسيط، الغزالي الذي انتصر للنزعة الروحانية، وابن رشد الذي انتصر للنزعة العقلانية، وعلى أثر ذلك بقي الفكر الإسلامي منقسمًا على نفسه، بين من ينحاز إلى الغزالي ونزعته الروحانية، وبين من ينحاز إلى ابن رشد ونزعته العقلانية، وبقي المنحى الفلسفي الذي نصفه بالجديد غائبًا، ونعني به المنحى الذي يجمع ما بين هاتين النزعتين ولا يفارق بينهما أو يباعد.
ثالثًا: يعدُّ إقبال واحدًا من أبرز الفلاسفة المسلمين في العصر الحديث، وكان صاحب فلسفة عرفت بالفلسفة الذاتية، وهي الفلسفة التي عرّف إقبال نفسه بها، وقدّمها بوصفها فلسفة لها مقومات وركائز وشروط الفلسفة الجادة والناضجة والمتماسكة، وفيها ذوق وعقل وروح الفلسفة التي تضاهي وتتضايف مع باقي الفلسفات الأخرى القديمة والحديثة.
أي إن إقبالاً لم يكن مجرد باحث أو مشتغل بالفلسفة، أو يحاكي فلسفات الآخرين، ويقتبس منها ويتثاقف معها، بل كان فيلسوفًا صاحب فلسفة اجتهد في إبداعها وبنائها ورفدها بالمعارف والتجارب والتأملات.
وقد أوضح إقبال أن هذه الفلسفة هي حصيلة عشرين سنة من سبر أغوار المعرفة، ومن النظر والتأمل في فلسفات العالم، وكيف أنه بذل جهدًا ذهنيًّا وروحيًّا حتى توصل إليها، في إشارة منه للدفاع عن فلسفته أمام ما يمكن أن يعترضها من مواقف قد تنتقص منها، أو تشكك فيها، سواء من المسلمين أو الأوروبيين.
والطريقة التي توصّل عبرها إقبال إلى هذه الفلسفة، هي التي أضفت عليها ملامح وسمات الفلسفة الجادة والناضجة، وأكسبتها اعتراف واهتمام الآخرين، بمن فيهم الفلاسفة، والفلاسفة الأوروبيين بوجه خاص.
وقد عكست هذه الفلسفة ثلاثة أنماط من التجارب التي عايشها إقبال، واتصل بها لزمن طويل، وتأمّل فيها وفحصها واختبرها، وهذه الأنماط هي: التجربة الدينية، والتجربة الشعرية، والتجربة الفلسفية.
والفلسفة التي تمرّ بهذه الأنماط من التجارب، تكتسب غنى وثراء من جهة، ونضجًا وتماسكًا من جهة أخرى، وتصبح معها مهيَّأة للتميّز والتفوّق على غيرها من الفلسفات الأخرى، التي تفتقد لواحد من تلك الأنماط الثلاثة؛ لأن كل تجربة لها إرثها وذوقها وتميزها عن غيرها، ولها أيضًا إشراقاتها وفتوحاتها وإلهاماتها.
كما أن إقبالًا يمثل واحدًا من أولئك المفكرين القلائل في المجال الإسلامي الحديث، الذين يذكّرون بأولئك الفلاسفة المخضرمين قديمًا وحديثًا، مسلمين وأوروبيين، ومثل هذا الانطباع أشار إليه بعض الباحثين العرب والمسلمين، وفي هذا النطاق قارن الدكتور عثمان أمين (1905-1987م) بين إقبال والفيلسوف الألماني كانت، واعتبر أن ما حاول إقبال القيام به في تاريخ الفكر الإسلامي، شبيه من بعض الوجوه بما حاول القيام به كانت في الفكر الغربي[5].
ومن جهته قارن الدكتور ماجد فخري بين إقبال وأبي حامد الغزالي، فالتنسيق الذي عمل إقبال على بسطه، في كتابه (تجديد التفكير الديني في الإسلام)، يشبه بضخامته التنسيق الذي قام به الغزالي قبل ذلك التاريخ بنحو ألف سنة في كتابه (إحياء علوم الدين)[6].
رابعًا: مثَّل إقبال نموذجًا للمفكر الذي حافظ على هويته ولم يتغرّب، فهو المفكر الذي قاده شغفه المبكر للفلسفة إلى دراستها وتحصيلها في جامعات بريطانيا وألمانيا، واقترب كثيرًا من الفلسفات الأوروبية الحديثة، وتعمّق في دراستها وتكوين المعرفة بها، ووجد فيه الأساتذة الأوروبيون الطالب الذكي الذي يستحق العناية والاهتمام.
لم يتغرَّب إقبال رغم سيرته الطويلة مع المستشرق الإنجليزي توماس آرنولد (1864-1930م)، التي امتدت من الهند إلى بريطانيا، منذ أن كان إقبال طالبًا لمرحلة الماجستير بقسم الفلسفة بالكلية الحكومية في مدينة لاهور الهندية، التي حلَّ فيها آرنولد أستاذًا سنة 1898م، إلى سنوات إقبال في بريطانيا وألمانيا طالبًا للدكتوراه، والتي دامت ثلاث سنوات (1905-1908م)، وبقيت الصلة والعلاقة معه إلى ما بعد عودته من أوروبا، حتى وفاة آرنولد سنة 1930م.
وعن هذه العلاقة وتأثيرها، يذكر جاويد إقبال أن آرنولد هو الذي أثار الذوق الفلسفي عند إقبال، وهو الذي شجّعه على إكمال دراساته في أوروبا، وبجهوده تم قبوله بكلية التثليث في جامعة كمبردج، وساعده حتى في تحصيل مكان سكنه المناسب له هناك، وقام بنشر رسالته للدكتوراه في لندن سنة 1908م، التي تضمّنت إهداء كتبه إقبال له، إلى جانب مواقف أخرى كثيرة تؤكد عمق العلاقة بين الطرفين[7].
لهذا كان من السهل على إقبال أن يصبح مفكرًا متغرِّبًا، وتلميذًا نجيبًا للثقافة الأوروبية، كما حصل ويحصل مع الكثيرين في العالم العربي والإسلامي، الذين مرّوا بمثل تجربة إقبال، مع ذلك بقي إقبال محافظًا على جوهره الديني، ومتمسكًا بعقيدته وشريعته، ومدافعًا قويًّا ومن دون مواربة عن الإسلام والأفكار الإسلامية، ومحاججًا المفكرين الأوروبيين في أفكارهم وفلسفاتهم.
وكان إقبال واضحًا في هذا المسلك، ليس أمام المسلمين وفي العالم الإسلامي فحسب، وإنما أمام الأوروبيين أنفسهم، ولم يجد في هذا المسلك ما يخدش في مكانته الأكاديمية عند الأوروبيين، أو في منزلته العلمية في نظرهم، كما هو مسلك بعض المفكرين والأكاديميين المسلمين الموجودين في الجامعات والمعاهد الأوروبية والأمريكية، فقد بقي إقبال مفكرًا دينيًّا، وصاحب ثقافة واسعة بالفلسفات الأوروبية الحديثة.
خامسًا: يذكر لإقبال أنه من المفكرين القلائل ممن اتخذ من القرآن الكريم منبعًا لأفكاره وفلسفته، منبعًا يستنبط منه تارة، ويستدل به تارة أخرى، ويحاجج به تارة ثالثة.
وفي هذا الشأن، قدّم إقبال طائفة مهمة من التأملات المعنوية والفكرية والفلسفية التي استوحاها من القرآن الكريم، التأملات التي كانت مضيئة في كتابه (تجديد التفكير الديني في الإسلام).
ومعظم الذين نظروا لهذا الكتاب، التفتوا إلى هذه الملاحظة لشدّة وضوحها، وتمسك إقبال بها، وبات من الممكن دراسة هذا البعد بشكل مستقل في أفكار إقبال؛ لأنه حاول أن يقدم تأملات يستقل بها، وتعبر عن اجتهاداته الخاصة به، ولم يرجع في هذه التأملات إلى التفاسير القرآنية القديمة والحديثة، ولم يتطرق إليها لا من قريب ولا من بعيد، ولعله كان قاصدًا إلى ذلك من دون أن يفصح عن هذا القصد.
وحين نلفت النظر إلى هذا التميّز عند إقبال، لأننا لا نجد مثل هذا الاهتمام عند قطاع كبير من مثقفي ومفكري العالم العربي والإسلامي، الذين يصدق عليهم القول: إنهم اتخذوا القرآن كتابًا مهجورًا.
ويرى إقبال أن القرآن الكريم هو المنبع الرئيس لفلسفته الذاتية، وهو الأصل والأساس في استلهام وتكوين هذه الفلسفة، كما أنه المنبع الذي صحح له فكره ومسلكه الصوفي.
سادسًا: يعتبر إقبال من رجالات النهضة والإصلاح، فإلى جانب المنحى الأدبي الطاغي في شخصية إقبال، والمنحى الفكري البارز في شخصيته، إلى جانب ذلك يعتبر إقبال من رجالات النهضة والإصلاح ليس في شبه القارة الهندية فحسب، فقد امتدَّ أثره النهضوي والإصلاحي أدبا وفكرا وحركة إلى أرجاء واسعة في العالم الإسلامي.
وعن هذا المنحى النهضوي والإصلاحي بدايته وتطوره عند إقبال، يرى جاويد في تتبعه لسيرة والده، أن إقبالًا قد مر بمرحلة من التغير الثوري الفكري وهو في كمبردج، وذلك بعد فترة وجيزة من إرسال أطروحته للدكتوراه إلى جامعة ميونخ سنة 1907م، في ظل هذه المرحلة نشأ سؤال عند إقبال هو: ما هي أسباب تخلف المسلمين وانحطاطهم؟
استند جاويد في هذا الرأي، على ما ذكره الكاتب الهندي إكرام الحق سليم الذي نقل أن إقبالًا أراد وهو في كمبردج إعداد مقالة عن السياسة الإسلامية لمجلة إنجليزية، فنشأ سؤال في ذهنه عما هو المحول النفسي وراء تخلف المسلمين وانحطاطهم؟ ومن أجل الحصول على الإجابة عن هذا السؤال، راجع إقبال العديد من المراجع، إلَّا أنه لم يصل إلى نتيجة مقنعة ومرضية له، ومنذ تلك اللحظة بدأ يتعمّق في البحث عن الأسباب التي كانت وراء تخلّف المسلمين وانحطاط حضارتهم، ومن ثم أخذ إقبال يرتب لنفسه نظامًا فكريًّا فعّالًا ليسهم من خلاله في تحقيق النهضة الإسلامية الحقيقية[8].
ويذكر جاويد أن هذا التغير هو الذي وجَّه شعر إقبال نحو الإسلام بشكل حاسم ونهائي، مستشهدًا بكلام للكاتب الهندي خليفة عبدالحكيم يقول فيه: «وكان إقبال قد قرر في نفسه قرارًا حاسمًا، بأنه سوف ينفق ما بقي من أيام حياته في نظم الشعر الهادف نحو النهضة الإسلامية، وكان يقول بأن هذه كانت أمنية والده، الذي كان ينصحه دائمًا بأن يكرّس حياته ومواهبه الشعرية من أجل الإسلام وخدمته»[9].
هذه لعلها أبرز الملامح والعناصر والمكونات التي أكسبت إقبال المنزلة المتفوقة.
- 2 -
إقبال.. والتعامل النقدي الفعال
مضى على رحيل إقبال ما يزيد على سبعة عقود، وخلال هذه الفترة حصل تراكم كبير وممتد من الكتابات والدراسات والأطروحات العربية والإسلامية والأوروبية التي تناولت عوالم إقبال المختلفة، الشعرية والنثرية، الأدبية والفكرية، الإصلاحية والسياسية، وما زالت هذه الكتابات والدراسات والأطروحات في حالة تطور وتراكم، الأمر الذي بات يقتضي تغير طريقة التعامل مع إقبال وفكره وخطابه الفكري، وضرورة التحول من التعامل التبجيلي الساكن والجامد، إلى التعامل النقدي الفعال، فإقبال اليوم ليس بحاجة إلى تبجيل بعد كل هذا التبجيل وإنما بحاجة إلى إحياء، وليس بحاجة إلى مدح بعد كل هذا المدح وإنما بحاجة إلى نقد.
وفي هذا النطاق، يمكن إثارة بعض التساؤلات التي تمثل جوهر ما نسميه التعامل النقدي الفعال، علما أننا لا نطرح هذه التساؤلات بقصد البحث عنها، والإجابة عنها، أو الانخراط فيها، وإنما بقصد لفت الانتباه إليها لإعمال الذهن، وإضاءة البحث، ولجعلها في دائرة التأمل والنظر، ولتكون مدخلًا إلى البحث النقدي حول إقبال وفكره وخطابه.
من هذه التساؤلات:
- كيف نقرأ إقبال اليوم وفكره وفلسفته وخطابه؟
- كيف نتمم ما بدأه إقبال فكرًا وفلسفةً وخطابًا؟
- ماذا بقي من إقبال اليوم؟
- فكر إقبال أين يبدأ وأين ينتهي؟ وما هي حد وحدود هذه الفكر؟
- أين موقعية إقبال وكيف تتحدّد في ساحة الفكر العربي والإسلامي المعاصرين؟
- هل التجديد الديني الذي دعا إليه إقبال هو أمر ممكن؟
- هل يمكن الحديث عن إقبالية أو عن إقباليين أو عن تيار إقبالي في ساحة الفكر الفلسفي أو الديني العربي أو الإسلامي؟
- في الجانب الآخر، هل مثَّل إقبال بقصد أو من دون قصد امتدادًا للفلسفة الألمانية الحديثة في ساحة الفكر الإسلامي؟
- هل كان إقبال نيتشويًّا أو مثّل نيتشوية إسلامية في ساحة الفكر الإسلامي المعاصر؟
- أين يلتقي إقبال مع نيتشه وأين يفترق؟
- هل كان إقبال برغسونيًّا أو مثّل برغسونية إسلامية في ساحة الفكر الإسلامي المعاصر؟
- أين يلتقي إقبال مع برغسون وأين يفترق؟
هذه التساؤلات لا بد من الاقتراب منها، والانشغال بها، والنظر والتأمل فيها، ولا ينبغي الخشية منها، أو التكتم عليها، أو عدم الاكتراث بها، إذا أردنا إحياء إقبال من جديد، ليكون حاضرًا ومؤثرًا في حياتنا الفكرية والفلسفية والدينية التي أصابها التوقّف والجمود، وأصبحت بحاجة إلى تحوّل وانتقال من حالة السكون إلى حالة الحركة، ومن حالة الجمود إلى حالة اليقظة، ومن حالة الانقباض إلى حالة الانطلاق.
كما أن هذه التساؤلات تستدعي التعامل مع إقبال فكرًا وخطابًا، بطريقة اجتهادية تتوخّى شجاعة النظر، وعزيمة الكشف، وإرادة الابتكار، تجعلنا نتخلّص من أوهام الرهبة والهيبة، ومن الشعور بالضعف وفقدان الثقة، وحتى نتحرّر من ذهنية التبعية والتقليد والجمود، وبهذه الطريقة الاجتهادية يتحقق التعامل النقدي الفعّال، لأننا لا نريد أن نكرّر ما طرحه إقبال ونظل نجترُّه، ونحوم حوله من دون أن نتجاوزه ونتخطَّاه، ونضيف إليه، ونجدّد فيه، ونقدّم ما هو جديد عليه.
وأظن أن طرح هذه التساؤلات وإثارتها ومناقشتها، ستضعنا من جهة أمام عتبة فكرية جديدة في طريقة النظر وفي طريقة التعامل مع إقبال وخطابه الفكري، وستخرجنا من جهة أخرى، من الوضع الفكري الرتيب الذي يكرّس حالة الاجترار، ويغلب نزعة التبجيل، ويغلق هوامش النقد، ويسلب شجاعة النظر.
ومن المؤكد أن كل تساؤل من تلك التساؤلات المطروحة، له قيمته الفكرية، وبحاجة إلى توقّف ونظر، ومن المؤكد أيضًا أن ليست هناك إجابات مكتملة ونهائية عن تلك التساؤلات، ولن تكون مثل هذه الإجابات المكتملة والنهائية، ولسنا بحاجة إليها، ولا نحرص عليها، أو نرغب فيها.
كما ليست هناك إجابات أحادية عن تلك التساؤلات، ولن تكون أيضًا مثل هذه الإجابات الأحادية، ولن تحصل أبدًا، وليس مرغوبًا فيها، والمقدر أن يكون هناك هامشًا واسعًا من التعدّد والاختلاف في وجهات النظر، ولا ضير في ذلك ولا خشية على الإطلاق.
وفي هذا النطاق النقدي، يمكن الإشارة إلى أربعة مواقف نقدية، ظهرت وتشكّلت حول الخطاب الفكري لإقبال، وتنتمي هذه المواقف النقدية الأربعة إلى بيئات عربية وإسلامية وأوروبية، هي مصر وإيران وباكستان وبريطانيا، وهذه المواقف بحسب تعاقبها الزمني هي:
أولّا: الموقف النقدي الذي عبّر عنه الدكتور هاملتون جيب، وشرحه في كتابه (الاتجاهات الحديثة في الإسلام) الصادر سنة 1947م.
ثانيًا: الموقف النقدي الذي عبّر عنه الدكتور محمد البهي، وشرحه في كتابه (الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي) الصادر سنة 1957م.
ثالثًا: الموقف النقدي الذي عبّر عنه الشيخ مرتضى المطهري، وشرحه في عدد من مؤلفاته.
رابعًا: الموقف النقدي الذي عبّر عنه الدكتور فضل الرحمن، وشرحه في كتابه (الإسلام وضرورة التحديث) الصادر سنة 1982م.
- 3 -
إقبال.. ونقد هاملتون جيب
الدكتور هاملتون جيب (1313-1391هـ/ 1895-1971م) مستشرق إنجليزي شهير، ولد في مدينة الإسكندرية المصرية، وتوفي في مدينة أكسفورد الإنجليزية، كانت له صلة وثيقة بالعالم العربي، فقد كان عضوًا في المجمع العلمي العربي بدمشق، وعضوًا في مجمع اللغة العربية بالقاهرة، نشر العديد من المؤلفات والترجمات في ميادين الأدب العربي، والتاريخ الإسلامي، والإسلاميات الحديثة.
اعتبره الناقد الفلسطيني إدوارد سعيد (1935-2003م) أنه أعظم اسم في الدراسات الإسلامية في العالم الأنجلو–أمريكي[10]، واعتبره الكاتب العراقي عبدالمجيد القيسي أنه أشهر مستشرق بريطاني ظهر حتى اليوم[11]، والقيسي هو مترجم كتاب جيب (المجتمع الإسلامي والغرب) الذي أصدره بالاشتراك مع هارولد بوين سنة 1950م.
في حين يرى عبدالرحمن بدوي (1917-2002م) أن جيب كانت شهرته فوق قيمته العلمية، وأن إنتاجه في نظره أدنى كثيرًا من الشهرة التي حظي بها، لأسباب يراها بدوي كلها بعيدة عن العلم[12].
كان جيب معاصرًا لإقبال، وبينهما عنصر اشتراك تمثّل في توماس آرنولد الذي كان أستاذًا لهما، وعلى صلة وثيقة بهما، فقد خلفه جيب على كرسي اللغة العربية في جامعة لندن بعد وفاة آرنولد سنة 1930م، وخلفه أيضًا كمحرر بريطاني لدائرة المعارف الإسلامية[13].
ناقش جيب أفكار إقبال في كتابه الشهير (الاتجاهات الحديثة في الإسلام)، الذي كان في الأصل محاضرات ألقيت سنة 1945م في مؤسسة هاسكل لدراسة الأديان المقارنة، ضمن إطار برنامج المحاضرات الذي كان يقام كل سنتين في جامعة شيكاغو الأمريكية، وصدر في كتاب سنة 1947م.
وهذا يعني أن هذه المناقشة كمحاضرات جاءت بعد وفاة إقبال بسبع سنوات، وجاءت في كتاب بعد تسع سنوات على وفاته.
ومن وجه آخر فإن هذه المناقشة جاءت من طرف واحد، وهذا ما ينقصها فعلًا، ولو جاءت من طرفين لكانت أكثر غنى وثراء، ولكان لها شأن مختلف بين الدارسين والباحثين في حقل الإسلاميات، ودراسات التجديد الديني.
وقد جاءت هذه المناقشة، في سياق اهتمامات جيب بدراسة وتحليل الاتجاهات الحديثة في المجال الإسلامي، وأثر الأفكار الغربية على هذه الاتجاهات من جهة، وأثر هذه الاتجاهات على بنية التفكير الإسلامي، وبنية المجتمعات الإسلامية من جهة أخرى.
وفي هذا النطاق، ركّز جيب على شخصيتين بارزتين في مجال التجديد الديني وعلاقته بالروح العصرية، وهما الشيخ محمد عبده في مصر والعالم العربي، ومحمد إقبال في الهند.
أما الذين سبقوا جيب، فقد كان تركيزهم بشكل أساسي على شخصية الشيخ محمد عبده، كما في محاولة زميله شارل آدمز في كتابه (الإسلام والتجديد في مصر) المنشور سنة 1933م.
واللافت في الأمر، أن جيب أقام مناقشته على أساس إظهار وتصوير أفكار إقبال وتحليلاته ومقولاته بالتناقض والتشوّش والاضطراب، وبقي على طول الخط متتبعًا هذا المنحى، ومستنداً بشكل أساسي على كتاب (تجديد التفكير الديني في الإسلام)، ومن تجليات هذه الصورة في نظر جيب:
أولّا: يبدأ جيب حديثه عن إقبال ومناقشته لأفكاره بالتأكيد على تناقضاته وتشوشاته وكيف أنه أسهم في زيادة التوترات والنزاعات الداخلية الفكرية بالهند، وحسب قوله: فإن النزاعات السياسية والاجتماعية التي هزّت الهند منذ بداية القرن العشرين، قد أحدثت ردود فعل معاكسة في الأفكار الدينية الإسلامية، وأثارت تموّجات جديدة، وأفرزت معها قادة كان من أشهرهم على الصعيد الثقافي الشاعر الفيلسوف محمد إقبال.
ويتمم جيب كلامه مستدركاً بالقول: إلَّا أن إقبالًا نفسه نظراً لتناقضاته وتشوشاته قد أسهم في زيادة التوترات والنزاعات الداخلية الفكرية[14].
وحينما يريد جيب البحث عن الطريقة المثلى لتقدير إقبال -حسب قوله- فإنه لا يراها إلا باعتباره الرجل الذي قبل مختلف الاتجاهات والتيارات الفكرية التي شغلت العالم الإسلامي في الهند، بحيث أصبح مزاجه الشاعري مرآة لكل ما يعتري النفس من رومانسية ليبرالية، وميول اشتراكية لدى الشباب، وتوق إلى إنشاء الجامعة الإسلامية تحت لواء رئيس قوي يعيد للإسلام مجده السياسي، إلى درجة أن كل مسلم في الهند ناقم على الواقع الديني أو الاجتماعي أو السياسي، كما يضيف جيب، كان بوسعه أن يجد في شخص إقبال ناصحا يدعوه للتحرر عن طريق انعتاق نفسه[15].
ثانيا: يرى جيب أن إقبالا يشكل أهم صورة للطائفة الإسلامية الحديثة، لكنه بعد أن يستدرك يمثل عنده أيضا الصورة المخيبة للآمال الفكرية، فهو من جهة والكلام لجيب، يشدد في مذهبه على ضرورة يقظة المسلمين من سبات الماضي الذي يكبلهم، ويدعوهم إلى تطوير شخصيتهم، وإعداد العدة لظهور الإنسان الأعلى، لكنه في خطته هذه تارة ما كان يدعو لاشتراكية مبهمة، وطوراً لإطاعة المثل الاجتماعية في الإسلام.
ومن جهة أخرى، هاجم إقبال فكرة القومية على الرغم من أن شعره تحوّل إلى النشيد الوطني الهندي، ودافع عن إقامة دولة باكستان. كما أن قصائده كانت مليئة بالتناقضات الغريبة، على الرغم من محاولة تلامذته استخراج نوع من النظام فيها.
وفي آخر ذكر له، وقبل أن يختم جيب كتابه وصف إقبالًا بأنه صاحب أحكام غير ناضجة، وذلك في سياق نقده لتلامذته معتبرًا أن لا شيء يثير الغضب -على حدِّ وصفه- أكثر من تلامذة إقبال وهم يرددون على سعة علمهم أحكام أستاذهم غير الناضجة[16].
ثالثًا: إن منشأ عناية جيب بإقبال هو كتابه (تجديد التفكير الديني في الإسلام)، لكونه كتابًا وثيق الصلة بموضوع الاتجاهات الحديثة في الإسلام. وفي هذا الكتاب تطرّق إقبال حسب قول جيب، إلى موضوع صياغة الأفكار الرئيسية للإسلام في قالب موحد للاهوت الإسلامي، ويمثل هذا الكتاب في نظره، أول محاولة تامة لإعادة بناء اللاهوت الإسلامي على قاعدة استدنائية.
أما وجه التناقض أو التشوّش أو الاضطراب من هذه الجهة في نظر جيب، أن ما وصل إليه إقبال في هذه المحاضرات، هو تمامًا غير ما انطلق منه في سعيه إلى صياغة جديدة للاهوت الإسلامي الراهن، وأن الأفكار التي عبر عنها حول إعادة بناء التفكير الديني، إنما هي نتيجة التحليل الحدسي على الطريقة الصوفية، حيث يجتذبه كاهن الرومانسية اللاعقلانية ونبيها برغسون حسب وصف جيب[17].
رابعًا: التناقض والتشوّش في علاقة إقبال بالثقافة الغربية، وفي هذا الشأن أشار جيب إلى موردين، أو أن هناك موردين يمكن الإشارة إليهما في هذا الشأن، وهما:
المورد الأول: حين اعتبر جيب أن إقبالًا هو المدافع المتحمس عن الثقافة الغربية التي تأثر بها، إلّا أنه ظل يهاجم جميع المؤسسات والمنظمات الغربية باعتبارها أمورًا مشينة.
المورد الثاني: حين اعتبر جيب أن إقبالًا قد أدخل من حيث لا يدري تلك الاتجاهات الفكرية التي جعلت المسيحية في الغرب تتحوّل تدريجيًّا إلى ديانة إنسانية، وذلك نتيجة اعتماده على التفكير العلمي والأفكار السائدة حول قانون الطبيعة والتطور في دراسة الدين والعقيدة الإسلامية. ويجزم جيب أن لا مندوحة عنده في أن هذه النزعة الإنسانية في فلسفة إقبال، إنما تجد تعبيرها في فلسفة برغسون اللاعقلانية[18].
خامسًا: التناقض والتشوش من جهة علاقة إقبال بالتصوف، وفي هذا الشأن يرى جيب أن اللاهوت الذي حاول إقبال الانتصار له هو اللاهوت الصوفي، وفي الوقت الذي دعا فيه المجددون إلى إسلام تحرّري إنساني جديد يرتكز على الأسس السنية، سعى إقبال والكلام لجيب، لإعادة تركيب التفكير الصوفي على نمط الإنسانية الغربية، رغم أنه ينتقد في محاضراته وشعره الصوفية واتجاهاتها الحلولية.
وهذا التناقض الذي يصل إليه إقبال، حسب قول جيب، يجد تفسيره في أن إقبالًا انطلق من التفكير اللاهوتي الصوفي، وليس من الأخلاق الصوفية التي كرهها إقبال لأنها تمثّل بنظره رمزًا للسلبية، ومنبعًا للاستسلام.
وهنا يكمن -في نظر جيب- الضعف الرئيسي لإقبال كمفكر ديني؛ لأن الصوفية في تعاليمها الأخلاقية وتنسُّكها، تصبح حسب تعبير إقبال نفسه، والكلام لجيب، السعي إلى عدم لا اسم له، فهو لا يشير في محاضراته إلى التعاليم الأخلاقية في نظامها، وهو لم يكن على استعداد لقبول المذهب الأخلاقي الحسي في القرآن بدون تحفّظ، وأصر على تفسيره وفقًا لمذهبه القائل بالمفاهيم الدينامية في القرآن[19].
سادسًا: الاضطراب والتشوّش من جهة علاقة إقبال بالآيات القرآنية، وفي هذا الشأن يرى جيب أن من الضعف الذي يشترك فيه إقبال مع المجددين الآخرين، استناده في محاضراته بصورة دائمة إلى الآيات القرآنية لإثبات براهينه.
وقد واجه جيب هذا الاستناد عند إقبال بسؤالين، السؤال الأول: هل تمثّل هذه الاستشهادات مجمل مذهب القرآن حول النقطة موضوع البحث؟ والسؤال الثاني: هل هذه الاستشهادات هي حقًّا تمثل ما يريده إقبال من معنى؟.
وفي تقدير جيب أن هناك بونًا واضحًا بين المعنى البسيط والمقصد الديني للآية، وبين المذهب الذي طبّقه عليها إقبال[20].
وإذا كانت هذه الطريقة -كما يضيف جيب- لتعزيز مسألة الأصالة الفكرية، فإن إقبالًا لم يصلح بها شيئًا، بل ساهم بزيادة الخطأ الرئيسي الذي وقع فيه التفكير المجدّد بأكمله.
هذه لعلها أبرز الملاحظات التي أثارها جيب، في مناقشته لأفكار إقبال بالاستناد إلى كتابه (تجديد التفكير الديني في الإسلام).
وعند النظر في هذه المناقشة، يمكن القول: إن جيب حاول تجنُّب الثناء على إقبال، وإظهار التوافق معه في بعض المواقف والأفكار، ولم يُعطه حقه كما ينبغي، بل حاول أن يظهر تفوّقه عليه، والتقليل من أهميته وأهمية محاولته الفكرية كما تجلّت في كتابه السالف الذكر.
ولم يعترف جيب لإقبال بأي فضيلة، وما اعترف له بها سلبها منه في اللحظة ذاتها مستدركًا كعادته، فحينما قال: علينا أن نعترف لإقبال بالشجاعة والإخلاص، سرعان ما استدرك قائلًا: لكن الشجاعة والإخلاص لا يكفيان، وتمم كلامه: ولا يمكن أن نرضى للدفاع عنه، إلَّا بعد القول: إن لإقبال في لاهوته الجديد أسسًا بإمكان غيره تبيينها من بعده، لتوضيح آرائه وتتمتها بمذهب أخلاقي له دلالة خاصة[21].
والذي لا شك فيه أن مناقشة جيب هذه، هي مناقشة استشراقية محضة، نابعة من عقل استشراقي، ويصدق عليها كل ما يصدق على المعرفة الاستشراقية من أحكام وتقديرات وانطباعات، ومن ثم فهي قراءة متحيِّزة وتوظيفية ومتعالية، وعلى هذا الأساس ينبغي النظر إليها، والتعامل معها.
وهذا ما حاول تأكيده والبرهنة عليه إدوارد سعيد في كتابه (الاستشراق)، الذي نظر فيه إلى جيب بوصفه مستشرقًا تامًّا، وينتمي إلى الاستشراق الكلاسيكي، ويفخر بهذا الوصف، فقد كان يفضل أن يسمي نفسه مستشرقًا على أن يسمي نفسه مستعربًا[22]، ونعته سعيد بالتحيُّز الذي جعل منه عقبة كأداء -حسب قوله- في وجه كل من يحاول أن يفهم الإسلام الحديث، كما نعته بالعدائية حين تعجب سعيد وتساءل: لماذا ينبغي أن يواجه الإسلام الحديث بكل هذه العدائية الجارفة التي يحملها جيب[23].
أما الملاحظة التي أراها جديرة بالنظر في هذا الشأن، هي أن هناك تشابهًا كبيرًا من جهة موضوع البحث، وطبيعة القضايا الفكرية والسياق الفكري، بين كتاب جيب (الاتجاهات الحديثة في الإسلام)، وكتاب محمد إقبال (تجديد التفكير الديني في الإسلام).
ولعل كتاب إقبال في نطاق الدراسات الإسلامية، يعادل كتاب جيب في نطاق الدراسات الغربية.
ولم أجد بين الدارسين والباحثين في مثل هذه الموضوعات، من التفت إلى مثل هذا التشابه، وتطرق إليه، وسلط عليه الأضواء. ولا أدري لماذا رأى مالك بن نبي (1322-1393هـ/ 1905-1973م)، تشابه موقفه في كتابه (وجهة العالم الإسلامي) بموقف جيب في كتابه (الاتجاهات الحديثة في الإسلام)، ولم يرَ تشابه موقفه بموقف محمد إقبال.
واللافت أكثر أن مالك بن نبي أظهر قربًا وانحيازًا لجيب في كتابه السالف الذكر، بخلاف موقفه من إقبال الذي تعامل معه بطريقة نقدية، كما لو أنه كان متأثرًا بموقف ورؤية جيب تجاه إقبال، فنادرًا ما أظهر ابن نبي توافقًا مع إقبال، أو تأييدًا لأفكاره.
ولا يستبعد عدم إطلاع مالك بن نبي على كتاب إقبال (تجديد التفكير الديني في الإسلام)، حين تصنيفه لكتابه (وجهة العالم الإسلامي)، خصوصًا وأنه لم يأتِ على ذكر كتاب إقبال في كتابه، ومعظم الموارد التي أشار فيها ابن نبي إلى إقبال تتعلّق ببعض أفكاره التي وردت في كتاب جيب أيضاً. كما أن الاهتمام الذي أعطاه جيب لكتاب إقبال في سياق نقده وتحليله لمحاضرات الكتاب، يفوق بكثير مقدار ما أشار إليه ابن نبي في كتابه المذكور.
والذي أراه وبعيدًا عن التحيّز، أن كتاب إقبال يعدّ أكثر عمقًا ومتانة وثراءً من كتاب جيب. أقول هذا الكلام بحكم تعاملي مع كلا الكتابين وتحليل نصوصهما، وتكوين المعرفة النقدية بهما. وأن ما حاول إقبال طرحه والاستدلال عليه، يدحض في مرات عديدة ما طرحه جيب في كتابه، وهو يحاول التشكيك في أفكار إقبال وأطروحاته.
- 4 -
إقبال.. ونقد محمد البهي
الدكتور محمد البهي (1323-1402هـ/ 1905-1982م)، كاتب وباحث في قضايا الفكر الإسلامي، درس في الأزهر، وحصل على الدكتوراه في الفلسفة والدراسات الإسلامية من جامعة هامبورج الألمانية سنة 1936م، اشتغل بتدريس الفلسفة الإسلامية، وكان أول مدير لجامعة الأزهر بعد صدور قانون تطوير الأزهر سنة 1961م، وأصبح وزيرًا للأوقاف وشؤون الأزهر سنة 1962م، نشر العديد من الكتابات والمؤلفات التي تصنف على حقل الدراسات الإسلامية.
شرح الدكتور البهي وناقش أفكار إقبال في كتابه (الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي)، الذي يعدُّ من أشهر مؤلفاته، وهو الكتاب الذي عرف به في حياته وعصره، ولمس ذلك بنفسه، وأشار إلى مثل هذا الأمر، في مقدمة الطبعة الثالثة من الكتاب، الصادرة سنة 1961م بقوله: «فقد كنت أُعرَّف وأُعْرَف به في رحلاتي المختلفة في المشرق والمغرب...، فما ذكرت في مرة من المرات أثناء هذه الرحلات، وما عرفت عند إلقاء محاضرة أو حديث، إلَّا بأني مؤلف الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي»[24].
وبخلاف هاملتون جيب، حاول البهي في هذا الكتاب الدفاع عن إقبال، وإظهار التحيُّز له، والثناء عليه، وتصويبه فيما توصل إليه من أفكار، والاقتصاد ما أمكن في توجيه النقد إليه، مع التبرير له قدر المستطاع.
وقد اعتبر البهي إقبالًا، بأنه يمثل المصلح الفكري في الإسلام من بعد الشيخ محمد عبده (1266-1323هـ/ 1849-1905م)؛ لأنه في نظره حاول مواجهة أشد التيارات الفكرية السائدة في عصره والمضادة للإسلام، والمتمثلة بصورة أساسية في الفكر الوضعي المنتسب لأوجست كونت، والفكر المادي الإلحادي المتمثل في الماركسية، ولكونه قدَّم عملًا فكريًّا جامعيًّا في كتابه (تجديد التفكير الديني في الإسلام)، وموجهًا لشريحة خاصة، الشريحة التي تُعنى بقضايا الفكر والفلسفة.
ومن جهة النقد، يمكن تحديد النقد الذي وجّهه البهي لإقبال في اتجاهين، اتجاه يتصل بالمنهج العام، واتجاه يتصل بمناقشة بعض الأفكار التفصيلية.
بشأن الاتجاه الأول، والذي يتصل بالمنهج العام، تساءل البهي: هل أن إقبالًا كان يردّد أفكار الغربيين في كتابه (تجديد التفكير الديني)؟ وهل كان متأثرًا بأوجست كونت ومذهبه الوضعي، فعُني بالعالم الواقعي، وتصوير أن الإسلام يدعو إلى التجربة الحسية؟ أو أنه كان متأثرًا بهيغل في فكرة الأنا، وبنيتشه في مفهوم الرجل الخارق فنادى بالفردية؟ أو هل أن إقبالًا كان صوفيًّا في منهجه ينزع نحو وحدة الوجود، ويفضل الرياضة الصوفية كطريق لصفاء النفس، أو كوسيلة للوصول إلى الذات العليا؟
والذي لا شك فيه عند البهي، أن إقبالًا درس الفكر الغربي دراسة واسعة، وهضمه واستفاد من منهجه، ومن تعبيراته ومصطلحاته، كما أن إقبالًا أيضًا في نظره، كان صوفيًّا يقدّر الرياضة الصوفية، ليس فقط لصفاء النفس والروح، وإنما للوصول إلى المعرفة الكلية.
مع ذلك فإن ما طرحه إقبال في نظر البهي، لم يكن ترديدًا للفكر الغربي، أو أثرًا للصوفية، أو مزاوجة بين الفكر الغربي والصوفية في الإسلام، ومن ثم حاول البهي الدفاع عن إقبال، وتصويب أفكاره ومنهجه.
وما لم يشر إليه البهي، أن مثل هذا النقد كان مطروحًا في حياة إقبال، فقد حاول إقبال الدفاع عن نفسه أمام ما كان يقال عن تأثره بالفكر الغربي، وبنيتشه بشكل خاص، ففي خطاب وجهه إقبال للمستشرق الإنجليزي رينولد نيكلسون (1285-1364هـ/ 1868-1945م) جاء فيه: «كل من حاول إثبات إفادتي من نيتشه فهو لا يعرف الحقيقة، إن نظريتي في الإنسان الكامل قد أبديتُها وكتبتُ فيها، قبل أن أعرف نيتشه بسنين طويلة، وقد سبق أن نشرت مقالًا في هذا الصدد منذ فترة طويلة، ثم ألحقته في رسالتي للدكتوراه عن تطوّر ما وراء الطبيعة في إيران عام 1908م. وأهم ما يفرق بيني وبين نيتشه، أن نيتشه لا يرى من الضروري أن تتصادم الذات في طريق تنميتها وارتقائها إلى القمة مع العوامل الخارجية، وأما عندي فمن الضروري أن تحدث المعركة بين الذات وبين العوامل الخارجية، والسبب في ذلك أن نيتشه لا يرى من الضروري بقاء الإنسان، وأما أنا فأقرّ بقاء الإنسان»[25].
وقد ظل إقبال يدافع عن فلسفته وأفكاره، وهو يجادل ويحاجج مفكري أوروبا وفلاسفتها، ويرى أن فلسفته هذه، هي فلسفة إسلامية أصلها ومنبعها القرآن. وتقصَّد إقبال -كما يقول- أن يحاجج المفكرين الأوروبيين بالفلسفات التي يعرفونها، ولو شاء لحاججهم بما في كتب فلاسفة الإسلام، وكتب الصوفية لإثبات آرائه.
الاتجاه الثاني: في هذا الاتجاه ناقش البهي الأفكار التي اختلف فيها مع إقبال، وتحدّد النقد والنقاش عند البهي في الأفكار والمسائل الآتية:
أولًا: يرى البهي أن إقبالًا في محاولته شرح استمرار العالم، أو شرح خلوده وبقائه، يرتفع في هذا الشرح عن المستوى الديني الذي يصوّره الإسلام نفسه، وبذلك يبعد في تفسير النصوص التي استعان بها عن مدلولاتها الطبيعية التي تلائم هذا المستوى.
في هذا الرأي، استند البهي إلى أن إقبالًا جعل البعث فترة لجرد البضائع، وربط الدار الآخرة بالدار الدنيا في حياة الإنسان، معتبرًا أن الآخرة مرحلة استئناف لنشاط الإنسان في الدنيا، الأمر الذي يثير عند البهي تساؤلًا عن التكليف من قبل الشرع ومدته، وهل هو في الدنيا والآخرة معًا؟
وهكذا تفسير إقبال لمسألة الخلود في النار، إذ يرى أنها حقبة وفترة ما، يعطى بعدها الإنسان فترة أخرى للبقاء والعمل، بالشكل الذي يفهم أن الإنسان في نظر إقبال –حسب قول البهي- مكلف في الدارين معًا، وبهذا تكون الدنيا والآخرة سواء في طبيعتهما، وفي الهدف منهما.
في حين يرى البهي أن الإسلام ينظر إلى الدنيا على أنها دار ابتلاء وامتحان، وينظر إلى الآخرة على أنها دار قرار وسكون، وينقطع فيها الامتحان والاختيار، وهذا ما يلائم -في نظر البهي- طبيعة الدين كرسالة سماوية جاءت محددة وقت العمل للإنسان، ومحددة أيضًا اختيار اتجاه الإنسان في الحياة[26].
ثانيًا: يلاحظ البهي على إقبال أنه يقف في تفسير بعض آيات القرآن عند الحد العامي لمداول اللفظ، مستشهدًا على ذلك بموردين، المورد الأول يتعلق بتفسير كلمة (الروح) في قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}[27]، فإقبال يفسر الروح هنا بالنفس الإنسانية، ويرى أن وظيفتها التدبير، في حين يرى البهي أن المقصود بالروح في الآية كتاب الهداية وهو القرآن.
المورد الثاني ويتعلق بالاستدلال على أصل الاجتهاد الفقهي، فإقبال يستدل على هذا الأصل بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}[28]، بينما يرى البهي أن هذه الآية تشير إلى الجهاد في سبيل الله لا إلى الاجتهاد في الفقه[29].
ثالثًا: يذهب إقبال في نظر البهي إلى تفسير بعض الآيات القرآنية مذهبًا علميًّا أو فلسفيًّا يبعد المعنى عن أن يكون في مستوى توجيه الإنسان المتوسط، مستدلًا على ذلك بموردين، المورد الأول تفسير كلمة (أم الكتاب) في قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}[30].
هذه الكلمة (أم الكتاب) في تفسير إقبال تعني الزمان الإلهي، وحسب شرحه «وإذا ارتقينا درجة فدرجة في سلّم المفارقات فإنا نبلغ الزمان الإلهي، وهو زمان مجرد تجردًا تامًّا من صفة المرور والانصرام. ومن ثم، فهو لا يقبل التجزؤ والتوالي والتغيّر، وهو فوق القدم، لا أول له ولا آخر له. فعين الله ترى جميع المرئيات، وأذنه تسمع جميع المسموعات بفعل واحد من أفعال الإدراك غير منقسم، قبلية الذات الإلهية لا تستند إلى قبلية الزمان، بل إن الأمر بالعكس؛ إذ إن قبلية الزمان هي التي تستند إلى قبلية الذات الإلهية، وهكذا فالزمان الإلهي هو الذي يصفه القرآن بأنه (أم الكتاب)[31].
المورد الثاني تفسير الآية الكريمة في قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}[32]، فهذه الآية حسب تفسير إقبال تعني قرب كمال الذات الإلهية إلى كمال الوجود في ذات الإنسان، وحسب شرحه «إن هناك درجات في تجلي الروحية أو الذاتية، وتجلي هذه الروحية يرتقي في سلم الوجود درجة درجة إلى أن يبلغ كماله في الإنسان، وهذا السر في تصريح القرآن أن الله أو الذات القصوى أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد»[33].
وحين يتوقّف البهي أمام هذه الطريقة في تفسير الآيات القرآنية، يرى أن إقبالًا بهذا الشرح العلمي أو الفلسفي يحاول فقط توضيح حقائق قديمة في ضوء الأفكار الجديدة، متبينًا ذلك من قول إقبال: إن «القرآن المجيد ليس كتاب فلسفة أو إلهيات، ولكن فيه هدى إلى مقاصد الحياة ورقيها، وفيه أصول فلسفة يقينية، ولو أن مسلمًا متفلسفًا بين المسائل القرآنية في ضوء الأفكار والتجارب الحديثة، ما صح اتهامه بأنه يقدم شرابًا جديدًا في زجاجة قديمة –كما يقول مستر دكسن- أنا لا أعرض أفكارًا جديدة في ثياب قديمة، ولكن أبيّن حقائق قديمة في ضوء الأفكار الجديدة».
وهذا الرأي عند إقبال، هو الذي جعله يعتقد -في نظر البهي- بأن عن طريقه يستطيع أن يبقى المسلم في دائرة إسلامية، ويسهم في الحقائق الواقعية، لا بتوجيه مدرسة فكرية غربية بل توجيه الإسلام وحده[34].
رابعًا: في تقدير البهي أن الشيء الذي يبدو فيه ضعف إقبال هو ثقته ببعض الحركات الحديثة، واعتبارها أنها تمثل التجديد الفكري في الإسلام، والوثبة المطلوبة التي على العالم الإسلامي أن يقتدي بها، ويقصد بهذه الحركات الحركة البهائية والبابية والحركة الكمالية في تركيا.
فقد اعتبر إقبال الحركة البهائية أو البابية من الحركات الإسلامية التي تأثرت بالحركة الوهابية، وأنها ليست سوى صدى فارسي للإصلاح الديني العربي، ويراها حركة إسلامية، وإصلاحًا دينيًّا، مع أن البهائية في نظر البهي هي مزيج عجيب من الثقافات الدينية والفلسفية، فلا يصح القول عنده: إنها تأثرت بحركة محمد بن عبدالوهاب؛ لأنها نشأت بعدها في القرن التاسع عشر.
أما الحركة الكمالية فيذكر البهي أن إقبالًا وصف ما أسماه حركة التجديد التي قام بها بعض الأتراك المحدثين، بأنها حركة مثالية في إصلاح الفكر الديني في الإسلام، ويصح أن تسير في طريقها بقية الحركات الإسلامية الأخرى المعاصرة، ويذكر البهي وصف إقبال بقوله: «وإذا كانت نهضة الإسلام أمرًا واقعًا، وأنا اعتقد أنها أمر واقع، فلا بد لنا من أن نفعل يومًا ما فعله الترك، فنعيد النظر في تراثنا العقلي، فإذا لم نستطع أن نضيف جديدًا إلى التفكير الإسلامي العام، فقد نوفّق عن طريق النقد المحافظ السديد، في كبح جماح حركة التحلل من الدين التي تنتشر بسرعة في العالم الإسلامي»[35].
والاسم الذي استشهد به إقبال وامتدحه هو الشاعر التركي ضياء كوك ألب (1876-1924م)، والذي يرى فيه تجلّيًا لهذا المثال الجديد، وحسب قوله: «ويتجلى هذا المثال الجديد على أوضح ما يكون في قصائد ضياء، الشاعر الوطني العظيم، الذي كان لقصائده التي استلهمها من فلسفة أوجست كونت أثر عظيم في تشكيل الفكر التركي الحديث»[36].
أمام هذا الرأي، يتوقّف البهي ويطرح بعض التساؤلات النقدية التي يواجه بها إقبالًا، من هذه التساؤلات: أي فكر تركي حديث؟
وإذا كان الشاعر التركي في تجديد النهضة التركية الحديثة يعبر عن مذهب أوجست كونت، فكيف يصح لإقبال أن يسمّي الترديد والتبعية تجديدًا؟ وكيف يسمّي مذهب الفكر الإلحادي المادي لأوجست كونت تجديدًا في الفكر الإسلامي؟
وكيف ينعت إقبال تركيا لقيام الحركة التجديدية فيها على تقليد الفكر الغربي، بأنها الأمة الإسلامية الوحيدة التي نفضت عن نفسها سبات العقائد الجامدة؟
بعد هذه التساؤلات، يعقب البهي بالقول أي فارق الآن بين «محمد إقبال من الفكر الغربي المادي الذي ساد القرن التاسع عشر، وموقف السيد أحمد خان من هذا الفكر، يوم نادى في محاولته الإصلاحية، بقبول هذا الفكر، ونصح شباب المسلمين في الهند بفهم القرآن في ضوئه، وبإخضاع الحياة الدينية لقوانين الطبيعة، الأمر الذي دعا جمال الدين الأفغاني في كتابه الرد على الدهريين، إلى بيان ممالاة السيد أحمد خان وخضوعه في ذلك للسياسة الاستعمارية في الهند»[37].
وحين يوازن البهي رأيه، يرى من غير شك -حسب قوله- أن إقبالًا قد تأثر بالمذهب الوضعي لأوجست كونت، ولكنه لم يرضَ عما فيه من إلحاد هذا من جهة أوجست كونت، أما من جهة الحركة التجديدية في تركيا فإن إقبالًا -في نظر البهي- يبعد عليه أن يكون متناقضًا؛ إذ يعدّ الحركة التجديدية في تركيا التي قادها الشاعر كوك ألب نموذجًا للحركات الإسلامية الحديثة، ثم يطلب الحيطة والتحفّظ في التجديد وفي قبول الفكر الحر المادي، وذلك حين يأخذ على هذا الشاعر التركي أخطاءه في فهم الإسلام كنظام للمجتمع، وبالأخص ما يتعلّق بأمر الأسرة.
ويؤكد البهي هذا الرأي مرة أخرى بقوله: «يبعد على إقبال أذن أن يكون متناقضًا في الرأي، وهو رجل مؤمن إيمانًا عميقًا بالرياضة الصوفية السليمة، ومؤمن بإسلامه إيمانًا حقًّا، وبصلاحيته للتوجيه في الحياة المتجددة، ومؤمن في الوقت نفسه بعدم التخلي عن الحياة الواقعية»[38].
وآخر ما ينتهي إليه البهي، في الكشف عن طبيعة السبب الذي جعل إقبالًا يمجّد الحركة التجديدية في تركيا، فإنه يتحدّد -حسب نظره- في اتِّباع إقبال للمستشرقين، الذي جاء نتيجة تقليد لهم في الرأي، وليس نتيجة دراسة لهذه الحركة[39].
خامسًا: ما يصفه البهي بحسن ظن إقبال بالمستشرقين، جعل فيه نقطة ضعف أخرى، تحدث عنها البهي بقوله: هي «ثقته فيما يكتبون، وتقبُّله له دون امتحان لما يكتبونه، فهو مثلًا يستحسن ما كتبه هورتن الذي كان يومًا ما أستاذًا للغات السامية بجامعة بون عن الإسلام في مجال الفقه أو مجال الفلسفة والكلام، وهورتن ليس العالم الذي يكتب عن بحث ودراسة، أو فهم ودقة في الفهم، فضلًا عن أن يكون له طابع الباحث العلمي، وهذا هو تقديره في ميدان الاستشراق الألماني»[40].
كما أن حسن ظن إقبال بالمستشرقين، جعله في نظر البهي «يوافق على حل لمشكلة قام على أساس عقيدة مسيحية، تتنافى هذه العقيدة مع العقائد الأساسية في القرآن، لأنه ردد هذا الحل بعض علماء اللاهوت المسيحيين المشتغلين بالدراسات الإسلامية، فيذكر مثلا مشكلة الشر في العالم، ثم يطلب حلها في رأي بعض هؤلاء، ويوافق عليه»[41].
هذه هي الملاحظات النقدية للدكتور محمد البهي، على بعض أفكار إقبال الواردة في كتابه (تجديد التفكير الديني في الإسلام).
ومن ناحية التقويم، فإن هذه المناقشة جاءت هادئة، وعادية جدًّا، وليس فيها ما يثير الدهشة، ويغلب عليها بصورة عامة النزعة الدفاعية عن إقبال، والذي يصل إلى حد التبرير له.
مع ذلك يسجل للدكتور البهي أنه فتح هذا الهامش النقدي، وسجّل موقفًا نقديًّا، ولم يهمل هذا الجانب أو يتغافل عنه، خاصة مع موقفه الدفاعي والتبجيلي عن إقبال، ويعد هذا الموقف النقدي من المواقف المبكرة في الدراسات الفكرية الإسلامية في المجال العربي.
وأما جهة النقاش مع البهي بشأن الملاحظتين المذكورتين، وهما طريقة إقبال في تفسير بعض الآيات القرآنية، وموقفه من بعض الحركات المختلف عليها.
أما الآيات القرآنية فإن طريقة إقبال في التحليل والتفسير كانت موضع نقاش واختلاف، وتباينت حولها وتعدّدت وجهات النظر، ولم تكن موضع اتفاق بين الكتّاب والباحثين على اختلاف مشاربهم ومرجعياتهم المنهجية والفكرية.
فهناك من خطَّأ إقبالًا في هذه الطريقة، كالباحث اللبناني ماجد فخري الذي اعتبر أن إقبالًا كثيرًا «ما يستشف في قضايا إسلامية تقليدية مفاهيم هيغيلية أو برغسونية بحتة، والعلاقة بين هذه المفاهيم والآيات القرآنية التي يستشهد بها، كثيرًا ما تجيء واهية جدًّا، وعلى غرار غيره من المفسرين المجددين للقرآن، وخاصة الهند، يكمن خطأ أسلوبه التفسيري في إهماله للقرائن التي أحاطت بالتنزيل القرآني، أي ما يدعوه المفسرون عادة بأسباب النزول، أعني الظروف التاريخية التي جرى فيها التنزيل»[42].
وبذمٍّ أشد خطَّأ الباحث الإيراني داريوش شايغان طريقة إقبال، معتبرًا أن إقبالًا «المتشبع من برغسون ونيتشه، يقوم ببهلوانيات فكرية واسعة، لكي يوفّق بين التقدّم والقرآن»[43].
إلى جانب من امتدح إقبال في هذه الطريقة من التحليل والتفسير، وبصورة عامة يمكن القول: إن هناك جانب اتفاق مع إقبال في هذه الطريقة، وهناك جانب اختلاف، ومنشأ هذا التباين هو امتزاج الجانب الديني بالجانب الفلسفي بالجانب الصوفي في هذه الطريقة من التحليل والتفسير.
أما بشأن تفسير البهي لموقف إقبال من بعض الحركات مثل البهائية والكمالية، وإرجاع هذا الموقف الممتدح إلى ثقة إقبال بالمستشرقين واتِّباعه لهم عن تقليد، فهذا التفسير هو أحد التفاسير الممكنة، لكن البهي اكتفى به، وأعطاه درجة عالية من الموثوقية، وتعامل معه كما لو أنه التفسير الوحيد والقطعي، فقد تعامل معه بوصفه سببًا وليس بوصفه عاملًا، في حين كل كان يفترض منه أن يتعامل معه بوصفه عاملًا راجحًا، ويفتح المجال أمام عوامل أخرى ممكنة في عصره أو ما بعد عصره.
علمًا أن هذا التفسير ليس ثابتًا، وهو قابل للتشكيك، فإذا اعتبرنا أن أكثر المستشرقين قربًا وصحبة وتأثيرًا على إقبال هو المستشرق الإنجليزي توماس آرنولد، فهناك في سيرة إقبال ما يظهر جانب الشك عنده تجاه آرنولد، وتجاه المستشرقين الأوروبيين بصورة عامة.
وفي هذا الشأن يذكر جاويد في سيرة والده، نقلًا عن الكاتب الهندي نظير نيازي الذي تحدث أن إقبالًا عندما سمع نعي أستاذه آرنولد سنة 1930م، قال نيازي متأسفًا في حضرة إقبال: إنه قد حرم اليوم من أستاذه وصديقه، وأخذ يذكر مكانة آرنولد بين المستشرقين وحبّه للإسلام، فردّ عليه إقبال مندهشًا ومتعجبًا «وما صلة آرنولد بالإسلام، فلا يخدعك كتابه الدعوة الإسلامية وغيره من المؤلفات؛ لأن آرنولد كان وفيًّا لأرض إنجلترا، فكان قد طلب مني وأنا في إنجلترا أن أعلق على تاريخ الآداب الإيرانية للأستاذ براون فرفضت ذلك؛ لأنني كنت أعرف أن المؤلفات من هذا النوع إنما تهدف إلى مصالح إنجلترا وحدها، فإن هذا الكتاب لم يكن إلَّا محاولة تهدف إلى إثارة القومية الإيرانية، وكان الغرض منه الضربة القاضية على الأمة الإسلامية وتمزيق وحدتها، والواقع أن الفرد في الغرب إنما يعيش من أجل بلاده وحدها، وأن القومية أو الوطنية تقتضي بأن الشعب والبلد اسمان لشيء واحد، وهذه المصلحة تفضل على المصالح الشخصية في الغرب، فهذا آرنولد لم يكن يهمه الإسلام أو المسيحية، وإنما يجب أن نأخذ ذلك بعين الاعتبار السياسي؛ لأن آرنولد وأضرابه من المستشرقين يتخذون طريقًا في مجال العلم والفن يحقّق المصالح الاستعمارية والإمبريالية، فيجب علينا أن نعتبر هؤلاء المستشرقين أداة وأيدي مساعدة للإمبرياليين والاستعماريين في سياستهم»[44].
وسوف نرجع إلى هذه القضية لاحقًا، كاشفين عن تفسيرات أخرى لموقف إقبال الذي يمكن وصفه بالمثير للجدل.
- 5 -
إقبال.. ونقد مرتضى المطهري
الشيخ مرتضى المطهري (1920-1979م) كاتب ومحاضر في القضايا الإسلامية، درس العلوم الإسلامية حسب نظام الحوزات العلمية في مدينة قم الإيرانية، وقام بتدريس الفلسفة والمعارف الإسلامية بكلية الإلهيات والمعارف الإسلامية في جامعة طهران التي انتقل إليها سنة 1952م، نشر العديد من الكتابات والمؤلفات والمحاضرات التي تتمحور حول العلاقة بين الإسلام والعصر، ويعد من قادة الفكر الديني المعاصر في إيران.
حضر إقبال في كتابات ومؤلفات الشيخ المطهري بصور متعددة، اسمًا وفكرًا، نصًّا ومثالًا، مدحًا ونقدًا، وبشكل يمكن القول: إن إقبالًا يعدّ من الأسماء التي مثّلت حضورًا مؤثرًا في الخطاب الفكري للشيخ المطهري، وتصلح هذه القضية أن تكون مادة للنظر والبحث، والتحليل والمقارنة، وذلك لأهميتها وقيمتها من جهة، وحيويتها وديناميتها من جهة أخرى، وتعدد وتنوع أبعادها وجوانبها من جهة ثالثة.
والغالب على هذا الحضور بصفة عامة، هو جانب المدح والثناء، والتوافق والاتفاق، فالمطهري يعتبر إقبالًا بطل الإصلاح في العالم الإسلامي الذي انتشرت أفكاره الإصلاحية إلى خارج حدود بلاده، وتميز بخصائص إيجابية، عدّدها المطهري في أحد آخر مؤلفاته وهو كتاب (الحركات الإسلامية في القرن الأخير) على النحو الآتي:
أولًا: يعرف إقبال الثقافة الغربية معرفة جيدة، وكان يملك معرفة عميقة بالأفكار الفلسفية والاجتماعية الغربية إلى درجة أن الغربيين أنفسهم يطرحونه كمفكر وفيلسوف.
ثانيًا: إن إقبالًا مع معرفته الكاملة بالثقافة الغربية فإنه كان يعتقد بأن الغرب يفتقد إلى أيديولوجية إنسانية متكاملة، وبالعكس فإنه كان يعتقد بأن المسلمين هم وحدهم الذين يملكون هكذا أيديولوجية، لهذا فإن إقبالًا في الوقت الذي كان يدعو إلى تعلُّم الفنون والعلوم الغربية فإنه كان يحذر المسلمين من التغرُّب والإعجاب بالعقائد الغربية.
ثالثًا: كان إقبال يفكر بالقضايا نفسها التي كان يفكر فيها الشيخ محمد عبده، أي إنه كان يبحث عن حل يستطيع المسلمون من خلاله أن يحلّوا مشاكلهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية المعاصرة، من دون مخالفة أي حكم أو أصل من الأصول الإسلامية.
رابعًا: إن إقبالًا -وعلى خلاف سائر تلامذة الثقافة الغربية- شخصية معنوية، يملك بعدًا روحيًّا عميقًا.
خامسًا: يمتاز إقبال من أنه لم يكن رجل فكر فقط، بل رجل عمل ونضال، فقد حارب الاستعمار عمليًّا، وكان من مؤسسي البلد الإسلامي باكستان.
سادسًا: يملك إقبال قدرة شاعرية، وقد وضع هذه القدرة في خدمة أهدافه الإسلامية.
أما نقاط الضعف عند إقبال، فقد حدّدها المطهري في أمرين هما:
أولًا: إن إقبالًا لم يكن يعرف الثقافة الإسلامية معرفة عميقة، ومع أنه يعتبر فيلسوفًا إسلاميًّا بالمفهوم الغربي، ولكنه لا يعرف عن بالفلسفة الإسلامية جيدًا.
ثانيًا: إن إقبالًا على خلاف السيد جمال الدين لم يسافر إلى الدول الإسلامية، ولم يطلع عن قرب على أوضاع التيارات والحركات والنهضات الإسلامية، ولهذا فإن تقييمه لبعض الشخصيات في العالم الإسلامي، وبعض الحركات الاستعمارية كانت تقييمات خاطئة خطأً فاحشًا، وكذلك فإنه يمدح في أشعاره بعض المستبدّين في البلدان الإسلامية، إن هذه الأخطاء لا تغفر لمسلم مخلص كإقبال[45].
وأما القضية التي أثارت انتباه المطهري، وتوقّف عندها باهتمام، وأظهر نحوها موقفًا نقديًّا حادًّا وشديدًا، فهي نظرية ختم النبوة عند إقبال، وقد شرح المطهري هذه القضية وناقشها في كتابه (الوحي والنبوة)، معتبرًا أن إقبالًا مع جميع النقاط الدقيقة التي انتفع بها كثيرًا في الموضوعات الإسلامية التي عالجها وتطرق إليها في كتبه، إلَّا أنه قد أخطأ في تبرير فلسفة ختم النبوة وتفسيرها.
وبعد أن عدّد الشيخ المطهري أركان هذه النظرية وأصولها، كما شرحها إقبال في كتابه (تجديد التفكير الديني في الإسلام)، وجد أن من المؤسف -حسب قوله- أن تكون هذه الفلسفة مجروحة وغير صحيحة في كثير من أصولها، وتحدّدت ملاحظاته وانتقاداته في النقاط التالية:
أولًا: إذا كانت نظرية إقبال صحيحة، لم يكن عدم الحاجة إلى وحي جديد ونبي جديد فحسب، بل لا حاجة مطلقًا لتوجيه الوحي، لأن توجيه العقل التجريبي قد حل محل توجيه الوحي. وإذا كانت هذه الفلسفة صحيحة فهي فلسفة ختم الدين لا ختم النبوة، وأن عمل الوحي الإسلامي يكون فقط إعلان انتهاء دور الدين وبدء دور العقل والعلم. ولم يكن هذا الموضوع مخالفًا لضرورة الإسلام فحسب، بل هو مخالف لنظرية إقبال نفسه.
إن جميع مساعي إقبال تتركز في أن العلم والعقل واجبان للمجتمع البشري، ولكنهما غير كافيين، فالبشر يحتاج إلى الدين والإيمان الديني بقدر ما يحتاج إلى العلم.
هذه النظرية المشوبة بالخطأ -في نظر المطهري- حصلت بسبب الاستنتاج الخاطئ في اعتبار أن حاجة البشر إلى الوحي والأنبياء هي من نوع حاجة الطفل إلى معلم الصف، فالطفل يرقى كل سنة إلى صف أعلى، ويستبدل المعلم بمعلم آخر، فالبشر أيضا يتقدم إلى مرحلة عليا دورا فدورا وتتغير شريعته وقانونه، والطفل يصل إلى آخر صف ويأخذ شهادة التخرج، ومن ثم يبادر بنفسه إلى التحقيق مستقلًا عن المعلم والأستاذ، والبشر أيضًا يأخذ شهادة التخرّج وعدم الحاجة إلى كسب العلم الكلاسيكي في دور الخاتمية بإعلان ختم النبوة، ويبادر بنفسه مستقلًا إلى التحقيق بدراسة الطبيعة والتاريخ، وهذا معنى الاجتهاد، إذًا فختم النبوة يعني وصول البشر إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي.
ويرى المطهري أن مثل هذا التفسير لختم النبوة خطأ دونما شك، وإن نتائج هذا النوع من التفسير حول ختم النبوة هي أشياء لا إقبال يقبلها، ولا الأشخاص الذين استنتجوا مثل هذه النتائج من كلام إقبال.
ثانيًا: إذا كانت نظرية إقبال صحيحة، كان من الواجب أن ينتهي أيضًا ذلك الشيء الذي يسميه إقبال التجربة الباطنية، مكاشفات أولياء الله، لأن الفرض على أن هذه الأمور من نوع الغريزة، وبمجرد ظهور العقل التجريبي فإن الغريزة التي هي توجيه من الخارج تخمد. والحال أن إقبال بنفسه يصرح بأن التجربة الباطنية باقية إلى الأبد، وفي رأي الإسلام أن التجربة الباطنية هي إحدى مصادر المعرفة الثلاثة، ولإقبال نزعة عرفانية شديدة، ويعتقد كثيرًا بالإلهامات المعنوية، ويرى أن إلهامات أولياء الله وكراماتهم ومكاشفاتهم لم تنتهِ بانتهاء النبوة، ولكن حجيتها الماضية واعتبارها قد انتهيا.
كانت المعجزة والكرامة في الماضي عندما كان العقل التجريبي لما يولد بعد، سندًا طبيعيًّا تمامًا، وموضوع قبول لا يقبل التشكيك، ولكن هذه الأمور لا حجية لها، ولا سند بالنسبة إلى الإنسان الناضج الواصل إلى الكمال العقلي إنسان دور الخاتمية، ويجب أن توضع موضع التجربة العقلية كأي حادثة أو ظاهرة أخرى، كان عصر ما قبل الخاتمية عصر المعجزة والكرامة، أي إن المعجزة والكرامة كانتا قد سيطرتا على العقل، ولكن عصر الخاتمية هو عصر العقل، ولا يأخذ العقل النظر إلى الكرامة دليلًا على شيء، إلَّا أن يكشف صحة حقيقة مكشوفة عن طريق الإلهام واعتبارها وفقًا لموازينه.
ويرى المطهري أن هذا الجزء من كلام إقبال مجروح أيضًا، سواء من ناحية دور ما قبل الخاتمية، أم دور ما بعد الخاتمية.
ثالثًا: يرى المطهري أن اعتبار إقبال الوحي نوعًا من الغريزة كان خطأ، وترتّبت عليه أخطاء أخرى، فإقبال يرى أن الغريزة لها ميزة طبيعية لا اكتسابية ولا شعورية، وهي أقل مرتبة من الحس والعقل، وقد أودعها في الحيوانات قانون الخلقة في المراحل الأولى لحياة الحيوان الحشرات وما يقل عنها، وتضعف الغريزة وتخمد بنمو الهدايات العليا في المراتب الحس والعقل، لهذا فإن الإنسان الذي يعتبر أغنى الحيوانات من ناحية التفكير، أضعفها من ناحية الغريزة.
وهذا بخلاف الوحي الذي هو هداية خارجة عن نطاق الحس والعقل، بالإضافة إلى أنه اكتسابي إلى حد كبير، وأكثر من ذلك أنه في أعلى درجة من الوعي، وجانب وعي الوحي أسمى من الحس والعقل بمراتب لا توصف، والفضاء الذي يكتشف عن طريق الوحي أوسع وأعمق من الفضاء الذي يتمكن العقل التجريبي من اكتشافه.
وفي نظر المطهري أن إقبالًا لو كان يدقّق ويتعمّق بصورة أكثر في آثار أولئك الذين يَكُنُّ لهم الاحترام، لعلم أن الوحي ليس من نوع الغريزة، فهو روح وحياة أسمى من الروح والحياة العقلية.
رابعًا: يرى المطهري أن إقبالًا واجه الخطأ نفسه الذي واجهه عالم الغرب، ولكن الطريق الذي سلكه في فلسفة ختم النبوة يصل إلى هذه النتيجة. وقد عرف إقبال الوحي بأنه نوع من الغريزة، ويدّعي أن واجب الغريزة ينتهي بعمل جهاز العقل والفكر، وتخمد الغريزة نفسها، هذا الكلام صحيح، إذا كان الجهاز التفكير يسلك الطريق نفسها التي كانت الغريزة تسلكها. ولكن إذا فرضنا أن للغريزة واجبًا ولجهاز التفكير واجبًا آخر، لا يبقى دليل لعطل الغريزة بعد عمل جهاز التفكير. إذًا لنفرض أننا اعتبرنا الوحي نوعًا من الغريزة، ونعتبر عمل هذه الغريزة عرض نوع من النظرة للعالم والفكرة التي لم تكن صنعية العقل والتفكير، فلا دليل لانتهاء عمل الغريزة بنمو العقل البرهاني والاستقرائي على حد تعبير العلامة إقبال نفسه[46].
ولعل الشيخ المطهري هو أول من أثار هذه القضية، وأظن أنه آخر من قال بها أيضًا، لأن هذا الاستنتاج الذي توصّل إليه المطهري هو في نظري استنتاج بعيد، بعيد عن المبنى، وبعيد عن المعنى.
بعيد عن المبنى لأن الكلام اللفظي لإقبال لا يعطي المعنى الذي أشار إليه المطهري، وبعيد عن المعنى لأن إقبالًا لم يكن بصدد إحلال توجيه العقل التجريبي محل الوحي، ولم يكن يريد القول: إن عمل الوحي جاء لإعلان انتهاء دور الدين وبدء دور العقل، وهذا ما يعرفه الشيخ المطهري قبل غيره.
وأظن أن المطهري ما كان بحاجة إلى إثارة هذه الملاحظة التي تضع نظرية إقبال في دائرة الشك والالتباس، فهذه الملاحظة هي من أشد الملاحظات حساسية في التعاطي مع نظرية إقبال.
- 6 -
إقبال.. ونقد فضل الرحمن
الدكتور فضل الرحمن (1919-1988م) باحث وأكاديمي في مجال الإسلاميات، شغل مناصب تربوية في بلده باكستان، وكان أستاذًا للفكر الإسلامي في قسم لغات الشرق الأدنى بجامعة شيكاغو بالولايات المتحدة الأمريكية.
ناقش فضل الرحمن أفكار إقبال في كتابه (الإسلام وضرورة التحديث)، وهذا الكتاب الأخير هو الذي سوف نعتمد عليه في هذه المناقشة، وكان قد بدأ العمل به عام 1977م، وأنجزه عام 1978م، في إطار مشروع بحث قامت به جامعة شيكاغو حول (الإسلام والتغير الاجتماعي)، وصدر في كتاب بالإنجليزية عام 1982م، وترجم إلى العربية وصدر في بيروت عن دار الساقي عام 1993، بالتعاون مع مؤسسة تعزيز الديمقراطية والتغيير السياسي في الشرق الأوسط.
ومع أنه لم يقدم في هذا الكتاب تحليلًا وافيًا ومتماسكًا ومنهجيًّا لأطروحة إقبال الفكرية، إلَّا أنه أثار مجموعة ملاحظات متفرقة ومتناثرة، تصلح في مجموعها لأن تكوّن مناقشة جديرة بالتأمل والنظر.
وجاءت هذه الملاحظات في سياق حديث فضل الرحمن عن جهود التحديث التي بذلت طوال قرن للنظم التربوية الإسلامية في مجتمعات مثل مصر وتركيا وإيران والهند وباكستان وأندونيسيا، متخذاً من النزعة العقلية الإسلامية محورًا للبحث والنظر والتحليل.
وهذه المناقشة تكمن أهميتها في ثلاثة أمور:
أولًا: المنزلة الأكاديمية العالية التي يحض بها فضل الرحمن في الأوساط العلمية، فقد كان أحد ثلاثة أسماء برزت أكاديميًّا بالولايات المتحدة الأمريكية في مجال تدريس الإسلاميات بالجامعات الأمريكية، إلى جانب الدكتور إسماعيل الفاروقي من فلسطين، والدكتور السيد حسن نصر من إيران.
ثانيًا: لم أجد في المجال العربي من تحدّث عن هذه المناقشة، وأشار إليها في مجموعها وبشكل منظم في الكتابات والدراسات التي تحدّثت عن إقبال، وتطرقت إلى أفكاره وتجربته الدينية والفلسفية على كثرتها وديمومتها.
ثالثًا: تذكر هذه المناقشة وتتصل بمناقشة هاملتون جيب التي سبق الحديث عنها، وتحمل بعض روحها وسماتها من حيث المنحى العام. فقد ظهر فضل الرحمن في هذه المناقشة وكأنه شديد الشَّبه بهاملتون جيب من حيث الحذر والصرامة في موقفه تجاه إقبال، وظل مقتصدًا في توجيه الثناء عليه، ونادرًا ما أظهر التوافق والتناغم معه.
وقد أشار فضل الرحمن لأهمية إقبال وبنوع من الحذر، مرتين في كتابه (الإسلام وضرورة التحديث)، مرة حين اعتبر أن ليس من قبيل الصدفة -على حد قوله- ألَّا تعرف الحداثة الإسلامية أي طالب جاد للفلسفة في طول العالم الإسلامي وعرضه يمكن الافتخار به سوى محمد إقبال. ومرة حين اعتبر كما اعتبر من قبل هاملتون جيب، أن محمد إقبال قام بالمحاولة المنهجية الوحيدة في العصور الحديثة في ميدان المعرفة الإسلامية الميتافيزيقية في كتابه (تجديد التفكير الديني في الإسلام).
وأما أبرز الملاحظات التي أشار إليها فضل الرحمن في مناقشته لإقبال هي:
أولًا: اعتبر أن هدف إقبال في محاولته الفكرية، لم يكن هدفًا دراسيًّا علميًّا، بل كان هدفه يقظة المسلمين كأمة وجماعة. ولهذا لم يقم إقبال -حسب نظر فضل الرحمن- بصياغة فلسفة تربوية، ولم يضع أي برنامج لتربية المسلمين، كما لم يقدّم أي شيء من شأنه أن يمثل صياغة لسياسات تربوية إسلامية، ليس فقط في المجال التربوي، بل في غيره من حقول المسعى البشري، ولم يترك إقبال أي تراث وضعي أو إيجابي باستثناء رغبته التي أبداها في أن يكون لمسلمي الهند وطنهم الذي يمكنهم أن ينظّموا ويوجّهوا حياتهم تبعًا لما تحضهم عليه تعاليم الإسلام[47].
وفي هذه النقطة تحديدًا يظهر الافتراق المنهجي بين فضل الرحمن وإقبال، بين إقبال الذي كانت تحرّكه نزعة الإحياء واليقظة ونهضة المسلمين، وبين فضل الرحمن الذي كانت تحرّكه النزعة العلمية والأكاديمية، وبحكم هذه النزعة كان من السهل على فضل الرحمن أن يلتفت لمثل هذه الملاحظة، ويعيرها الأهمية.
ثانيًا: في نظر فضل الرحمن أن إقبالًا لم يأتِ بأي إضافة منهجية في مجال تعليم القرآن، وإنما اختار واستعار من بين آياته لكي يبرهن على أطروحات من المؤكد -كما يقول فضل الرحمن- أن بعضها كان حقًّا من نتاج تمعُّنه العام في القرآن، لكنها تبدَّت له على أي حال ملائمة بشكل جيد للاحتياجات الراهنة لمجتمع إسلامي جامد، وأنه يعبر عن تلك الأطروحات انطلاقًا من نظريات تطور معاصرة مثل نظرية برغسون ووايتهد.
وتفسير هذه الملاحظة يتصل بالملاحظة السابقة، في أن هدف إقبال لم يكن هدفًا دراسيًّا، ومن ثم فإنه لم يكن بصدد بلورة نظرية منهجية في فهم القرآن، ولم يكن هذا قصده على الإطلاق، لكنه جعل من القرآن الكريم منبعًا لفلسفته ليكون مستقلًا عن الفلسفة الأوروبية، والفلاسفة الأوروبيين، ولعله ليقول لهؤلاء: إنه لا يأخذ فلسفته منهم وإن رجع إليهم، وإنما يأخذها من القرآن الكريم، وعلى ضوء هذا الكتاب يحاكم فلسفاتهم ومقولاتهم الفلسفية، ليكشف لهم عظمة القرآن، وكيف أنه يمثّل منبعًا صافيًا وأصيلًا ومتجددًا في اكتشاف وتوليد واستنباط الأفكار الحية والمعاصرة.
ثالثًا: يرى فضل الرحمن أن محاولة إقبال صارت اليوم قديمة جدًّا، طالما أنه كان يأخذ مأخذ الجدية معاصريه من العلماء الذين كانوا يحاولون أن يبرهنوا على إرادة الإنسان الدينامية الحرة بالاستناد إلى قاعدة المعطيات العلمية الجديدة.
والنقاش الذي يوجّه لهذا الكلام، هو هل هناك محاولة لا ينبغي لها أن تُؤخذ مأخذ الجد آراء ومقولات وأفكار المعاصرين لها من العلماء!
وإذا كانت محاولة إقبال صارت اليوم قديمة، فهي قديمة من ناحية زمنية، لا من ناحية معرفية، فهي لم تُقرأ بصورة معمّقة إلى هذا اليوم، ولم نتجاوز هذه المحاولة معرفيًّا إلى هذا اليوم أيضًا، فهي محاولة لم تتمم من جهة، إلى جانب أن هناك انقطاعًا معرفيًّا عنها من جهة أخرى.
- 7 -
إقبال.. ملاحظات ونقد
إلى جانب تلك النقاشات النقدية، هناك بعض الملاحظات النقدية التي نسجّلها على إقبال في كتابه التجديد، وهذه الملاحظات هي:
أولًا: جاءت محاولة إقبال ثرية بالمناقشات الفلسفية والدينية، القديمة والحديثة، ومكثّفة بالأفكار والبراهين العقلية والنقلية، إذ كشفت عن ثقافة واسعة، ومعرفة عميقة. ومع أنه حاول تجديد الأسس الفكرية والفلسفية للفكر الديني في الإسلام، أو إعادة النظر في تلك الأسس الفكرية والفلسفية ومحاولة إصلاحها، إلَّا أنه لم يعتنِ كثيرًا بتركيز وتنظيم الأفكار الرئيسة التي حاول تأكيدها والدفاع عنها، وجمع البراهين للاستدلال عليها، وكأن الطابع الشفهي الذي يغلب عليه في العادة التوسع والإسهاب، تغلب كثيرًا على عناصر التركيز والبناء المنهجي للأفكار.
في حين أن محاولة تُعنى بقضية حساسة مثل قضية تجديد التفكير الديني، كان يفترض أن يتجلى فيها المستوى المنهجي بصورة واضحة وراسخة، خصوصًا وأن هذه المحاولة تعدُّ من أبكر المحاولات التي تطرّقت إلى قضية التجديد الديني وعالجتها. لهذا فإن إقبال تحدّث عن التجديد، ولم يتحدّث لنا بصورة منهجية عن منهج التجديد.
ثانيًا: اعتبر إقبال أن اللحظة التي حاول فيها إنجاز مهمة تجديد التفكير الديني، هي اللحظة المناسبة لهذا العمل. وحين نتحرّى عن هذه اللحظة التي قصدها إقبال وعاصرها، نكتشف أن هناك لحظتين متعارضتين تحدّث عنهما إقبال في كتابه.
لحظة قيام تركيا الحديثة التي ورثت مرحلة ما بعد اضمحلال دولة الخلافة العثمانية، وهي اللحظة التي امتدحها إقبال وبالغ في الثناء عليها وقال عنها: «إن تركيا في الحق، هي الأمة الإسلامية الوحيدة التي نفضت عن نفسها سبات العقائد الجامدة، واستيقظت من الرقاد الفكري. وهي وحدها التي نادت بحقها في الحرية العقلية، وهي وحدها التي انتقلت من العالم المثالي إلى العالم الواقعي، تلك النقلة التي تستتبع كفاحًا مريرًا في ميدان العقل والأخلاق»[48].
واللحظة الثانية، المعارضة إلى اللحظة السالفة، هي تلك اللحظة التي يصفها إقبال بقوله: «نحن نمر الآن بعهد شبيه بعهد ثورة الإصلاح البروتستنتي في أوروبا، فينبغي ألَّا يضيع سدى ما تعلمناه من قيام حركة لوثر ونتائجها. فدرس التاريخ في تعمُّق وعناية يظهر لنا أن حركة الإصلاح كانت سياسية في جوهرها، وأن نتيجتها الخالصة في أوروبا أسفر عن إحلال تدريجي لنظم أخلاقية قومية، محل الأخلاق المسيحية العالمية»[49].
لهذا كنت أتساءل هل أن اللحظة التي تحدث عنها إقبال حول تجديد التفكير الديني هي اللحظة المناسبة فعلًا؟ أم أنها لحظة متوترة ومضطربة، وغير مواتية على الإطلاق لمهمة دقيقة وحساسة مثل مهمة تجديد التفكير الديني!
فهل أن إقبالًا وجد في تلك اللحظة إمكانية حدوث انقلاب على الفكر الديني فأراد حماية هذا الفكر والدفاع عنه عن طريق إثبات تقبّله للتجديد! أم أن إقبالًا وجد فيما سمي بالإصلاحات في تركيا، بعدًا إيجابيًّا هو انبعاث فكرة الإصلاح والتجديد، وأراد الاستفادة من هذا المناخ في الدعوة إلى تجديد التفكير الديني في الإسلام.
ونلمس في كلام إقبال ما يوحي بمثل هذه الملاحظة التي يريد أن يوازن فيها بين الحرية والانحلال، وحسب قوله: «إننا نرحب من أعماق قلوبنا بتحرير الفكر في الإسلام الحديث، ولكن ينبغي لنا أن نقرّر أيضًا أن لحظة ظهور الأفكار الحرة في الإسلام هي أدق اللحظات في تاريخه. فحرية الفكر من شأنها أن تنزع إلى أن تكون من عوامل الانحلال، وفكرة القومية الجنسية التي يبدو أنها تعمل في الإسلام العصري أقوى مما عرف عنها من قبل، قد ينتهي أمرها إلى القضاء على النظرة الإنسانية العامة الشاملة التي تشربتها نفوس المسلمين من دين الإسلام»[50].
لذلك من الصعب الجزم في أن تلك اللحظة التي قصدها إقبال، هي اللحظة المناسبة كل المناسبة حسب وصفه!
ثالثًا: من أكثر الملاحظات التي سجّلها الباحثون الإسلاميون على كتاب إقبال هي وجهات نظره تجاه بعض الحركات والجماعات التي ظهرت في العالم الإسلامي، كالحركة البهائية التي ظهرت في إيران، وحركة أتاتورك في تركيا. فقد اعتبر إقبال البهائية والبابية من الحركات الكبرى الحديثة التي ظهرت في آسيا وأفريقيا، وأنها ليست سوى صدى فارسي -حسب تعبيره- للإصلاح الديني العربي، متأثرة في ذلك -كما يرى إقبال- بحركة الشيخ محمد عبدالوهاب التي ظهرت في نجد وسط الجزيرة العربية.
كما أظهر إقبال إعجابه وثناءه على حركة أتاتورك في تركيا، بطريقة أثارت الدهشة، وفتحت العديد من التساؤلات في الأوساط الفكرية الإسلامية حول كيف وقع إقبال في مثل هذه الأخطاء والالتباسات، وهو المفكر اللامع صاحب الذكاء الحاد، والذهن الوقّاد، والمتميز في القدرة على تحليل الأفكار بطريقة فلسفية دقيقة، والملم بالأفكار والمقولات الفلسفية، القديمة والحديثة، الأمر الذي لا يتناسب والالتباس الذي وقع فيه إقبال، خصوصًا وأنه كان معاصرًا لفترة التغيّرات التي مرّت بها تركيا في أعقاب نهاية دولة الخلافة العثمانية.
وقد اعتنى الباحثون الإسلاميون بالبحث عن تفسير لهذا الالتباس الذي وقع فيه إقبال، فهناك من يرى -مثل الدكتور محمد البهي- أن إقبالًا لم يدرس هذه الحركات من مصادرها، وإنما قرأ عنها من طريق المستشرقين الأوروبيين، وأخذ بكلامهم بتقليد واتِّباع.
وهناك من يرى -كالشيخ مرتضى المطهري- أن إقبالًا لم يسافر ويتجوّل في العالم الإسلامي لكي يتعرّف إلى تلك الحركات عن قرب، كما فعل السيد جمال الدين الأفغاني مثلًا.
والحقيقة أن إقبالًا ليس من النوع الذي يأخذ بكلام الأوروبيين بسهولة، فهو يتقصّد التظاهر بالاستقلال عنهم. وكونه لم يسافر ويتجوّل في العالم الإسلامي، فهذا ليس سببًا كافيًا؛ لأنه كان معاصرًا لما حدث في تركيا، الحدث الذي كان مدوّيًا في العالم الإسلامي برمته. ولم أجد تفسيرًا مقنعًا سوى أنها عثرة وقع فيها إقبال، كما يقع غيره من البشر في عثرات، والأكيد أنها حصلت بسبب نقص في الاطلاع، وفي تكوين المعرفة.
رابعًا: معظم الذين كتبوا عن إقبال ودرسوا أفكاره، تطرقوا دائمًا إلى الشيخ محمد عبده، وبعضهم أجرى مقاربات بينهما كالدكتور البهي، وبعضهم وجد تشابهات بينهما في المنحى الفكري كالشيخ المطهري، وبعضهم تطرّق إليهما بصور أخرى مختلفة كهاملتون جيب، وفضل الرحمن.
ولم يلتفت هؤلاء جميعًا إلى أن إقبالًا لم يتحدّث عن الشيخ محمد عبده، ولم يأتِ على ذكره قط في كتابه (تجديد التفكير الديني في الإسلام). وكان يُفترض أن يلتفت إليه حينما وجّه ملاحظته إلى الأفغاني متمنيًا لو أن نشاطه الموزع اقتصر بتمامه على الإسلام بوصفه نظامًا لعقيدة الإنسان وخلقه ومسلكه في الحياة.
بمعنى أن إقبالًا كان يفضّل دورًا فكريًّا للأفغاني على دوره السياسي الواسع، وهذا هو الدور الذي نهض به الشيخ عبده، وبه تميّز عن الأفغاني.
ولعل إقبالًا لم يطّلع على كتابات ومؤلفات الشيخ عبده؛ لأنه لو اطَّلع عليها لأشار إليها بالتأكيد بصورة من الصور. وليس الشيخ عبده هو فقط الذي لم يأتِ على ذكره في كتابه المذكور، وإنما حتى رجالات النهضة والإصلاح الديني الذين ظهروا وعرفوا في العالم الإسلامي، هم أيضًا لم يتم التطرّق إليهم، كالشيخ عبدالرحمن الكواكبي والشيخ محمد حسين النائيني والشيخ محمد رشيد رضا إلى جانب رجالات الإصلاح في مصر والعراق وبلاد الشام.
وأخيرًا فإن محاولة محمد إقبال تعدُّ واحدة من أهم المحاولات التي جاءت في سياق تجديد الفكر الإسلامي، لكنها المحاولة التي لم تُتمَّم في العالم العربي والإسلامي، ولم يُؤسّس عليها الفكر الإسلامي المعاصر تراكماته المعرفية في مجال اهتمامه بقضية تجديد الفكر الإسلامي.
وهي القضية التي ظل الفكر الإسلامي حائرًا في طريقة التعامل معها، قبضًا وبسطًا، إقدامًا وإحجامًا، ويعدُّ هذا الانقطاع عن محاولة إقبال على أهميتها الفائقة، من أشد مظاهر الأزمة المعرفية في الفكر الإسلامي المعاصر.
[1] جاويد إقبال، النهر الخالد.. كتاب عن حياة شاعر الشرق والإسلام العلامة محمد إقبال، ترجمة: ظهور أحمد أظهر، القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2005م، ج2، ص226.
[2] ماجد فخري، تاريخ الفلسفة الإسلامية منذ القرن الثامن حتى يومنا هذا، ترجمة: كمال اليازجي، بيروت: دار المشرق، 2000م، ص541.
[3] جاويد إقبال، النهر الخالد، مصدر سابق، ج1، ص115.
[4] جاويد إقبال، المصدر نفسه، ج2، ص186.
[5] محمد العربي بوعزيزي، محمد إقبال فكره الديني والفلسفي، دمشق: دار الفكر، 1999م، ص139.
[6] ماجد فخري، تاريخ الفلسفة الإسلامية، مصدر سابق، ص534.
[7] جاويد إقبال، النهر الخالد، ج1، ص153-207-210-222.
[8] جاويد إقبال، المصدر نفسه، ج2، ص152-153.
[9] جاويد إقبال، المصدر نفسه، ج2، ص91.
[10] إدوارد سعيد، الاستشراق، ترجمة: كمال أبو ديب، بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 2001م، ص83.
[11] هاملتون جيب وهارولد بوين، المجتمع الإسلامي والغرب، ترجمة عبدالمجيد القيسي، دمشق: دار المدى، 1997م، ج1، ص17.
[12] عبدالرحمن بدوي، موسوعة المستشرقين، بيروت: مؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2003م، ص174.
[13] محمد البهي، الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، القاهرة: مكتبة وهبة، 1991م، ص379.
[14] هاملتون جيب، الاتجاهات الحديثة في الإسلام، ترجمة: هاشم الحسيني، بيروت: دار مكتبة الحياة، 1966م، ص88.
[15] هاملتون جيب، المصدر نفسه، ص90.
[16] هاملتون جيب، المصدر نفسه 89-137.
[17] المصدر نفسه، ص115-151.
[18] المصدر نفسه، ص114.
[19] المصدر نفسه، ص115.
[20] المصدر نفسه، ص116.
[21] المصدر نفسه، ص116.
[22] إدوارد سعيد، الاستشراق، مصدر سابق، ص83.
[23] إدوارد سعيد، المصدر نفسه، ص129.
[24] محمد البهي، الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، مصدر سابق، ص9.
[25] عبدالماجد الغوري، محمد إقبال الشاعر المفكر الفيلسوف، دمشق: دار ابن كثير، 2000م، ص129.
[26] محمد البهي، الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، ص382.
[27] الإسراء: 85.
[28] العنكبوت: 69.
[29] محمد البهي، المصدر نفسه، ص383.
[30] الرعد: 39.
[31] محمد إقبال، تجديد التفكير الديني في الإسلام، ترجمة: عباس محمود، بيروت: مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، 2010م، ص149.
[32] ق: 16.
[33] محمد إقبال، المصدر نفسه، ص144.
[34] محمد البهي، الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، ص385.
[35] محمد إقبال، تجديد التفكير الديني في الإسلام، مصدر سابق، ص253.
[36] محمد إقبال، المصدر نفسه، ص260.
[37] محمد البهي، الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، ص390.
[38] محمد البهي، المصدر نفسه، ص392.
[39] محمد البهي، المصدر نفسه، ص393.
[40] محمد البهي، المصدر نفسه، ص393.
[41] محمد البهي، المصدر نفسه، ص394.
[42] ماجد فخري، تاريخ الفلسفة الإسلامية، ص540.
[43] داريوش شايغان، النفس المبتورة هاجس الغرب في مجتمعاتنا، بيروت: دار الساقي، 1991م، ص68.
[44] جاويد إقبال، النهر الخالد، ج1، ص155.
[45] مرتضى المطهري، سلسلة التراث والآثار، مجلد الثورة والدولة، كتاب: الحركات الإسلامية في القرن الأخير، بيروت: دار الارشاد، 2009م، ص 42-46.
[46] مرتضى المطهري، سلسلة التراث والآثار، مجلد محمد وعلي النبي والإمام، كتاب: الوحي والنبوة، المصدر السابق، ص176-181.
[47] فضل الرحمن، الإسلام وضرورة التحديث، ترجمة: إبراهيم العريس، بيروت: دار الساقي، 1993م، ص89.
[48] محمد إقبال، تجديد التفكير الديني في الإسلام، ص264.
[49] محمد إقبال، المصدر نفسه، ص266.
[50] محمد إقبال، المصدر نفسه، ص265.
شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
يحاول الكاتب محمد محفوظ في 166 صفحة أن بضيئ الحديث عن السلم الأهلي والمجتمعي، في الدائرة العربية والإسلامية، بحيث تكون هذه المسألة حقيقة من حقائق الواقع السياسي والإجتماعي والثقافي، وثابتة من ثوابت تاريخنا الراهن.
ينتمي مالك بن نبي وعبدالله شريط إلى بلد عربي إسلامي عانى من ويلات الاستعمار ما لم يعانه بلد آخر، سواء في طول الأمد أو حدة الصراع أو عمق الأثر. إنهما مثقفان عميقا الثقافة، مرهفا الشعور، شديدا الحساسية للمعاناة التي عاشها ملايين الجزائريين من ضحايا مدنية القرن العشرين، بأهدافها المنحطة وغاياتها الدنيئة.
عقد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات خلال الفترة الواقعة بين 6 و 8 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2012، مؤتمرًا أكاديميًّا عنوانه «الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي: تجارب واتّجاهات»، في فندق شيراتون بالدوحة، وشهد الافتتاح حشدًا كبيرًا من الباحثين والأكاديميّين من دول عربية.
يأتي الاهتمام بالقضية الفنية في فكر الأستاذ عبدالسلام ياسين من منطلق أن الوجود الحضاري للأمة كما يتأسس على أسس القوة المادية التي يمليها منطق التدافع القرآني أي التدافع الجدلي بين الخير والشر الذي هو أصل التقدم والحركة، يتأسس كذلك على جناح تلبية الحاجات النفسية والذوقية والجمالية بمقتضى الإيمان الذي هو ...
ثمة مضامين ثقافية ومعرفية كبرى، تختزنها حياة وسيرة ومسيرة رجال الإصلاح والفكر في الأمة، ولا يمكن تظهير هذه المضامين والكنوز إلَّا بقراءة تجاربهم، ودراسة أفكارهم ونتاجهم الفكري والمعرفي، والاطِّلاع التفصيلي على جهودهم الإصلاحية في حقول الحياة المختلفة
لا شك في أن الظاهرة الإسلامية الحديثة (جماعات وتيارات، شخصيات ومؤسسات) أضحت من الحقائق الثابتة في المشهد السياسي والثقافي والاجتماعي في المنطقة العربية، بحيث من الصعوبة تجاوز هذه الحقيقة أو التغافل عن مقتضياتها ومتطلباتها.. بل إننا نستطيع القول: إن المنطقة العربية دخلت في الكثير من المآزق والتوترات بفعل عملية الإقصاء والنبذ الذي تعرَّضت إليه هذه التيارات، مما وسَّع الفجوة بين المؤسسة الرسمية والمجتمع وفعالياته السياسية والمدنية..
لم يكن حظ الفلسفة من التأليف شبيهاً بغيرها من المعارف والعلوم في تراثنا المدون بالعربية، الذي تنعقد الريادة فيه إلى علوم التفسير وعلوم القرآن والحديث والفقه وأصوله، واللغة العربية وآدابها، وعلم الكلام وغيرها. بينما لا نعثر بالكم نفسه على مدونات مستقلة تعنى بالفلسفة وقضاياها في فترات التدوين قديماً وبالأخص حديثاً؛ إذ تعد الكتابات والمؤلفات في مجال الفلسفة، ضئيلة ومحدودة جدًّا، يسهل عدها وحصرها والإحاطة بها.