شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
الترجمة ومفهوم الهوية
واضح عبدالحميد*
* أستاذ بكلية العلوم الاجتماعية، شعبة الفلسفة، جامعة مستغانم، الجزائر.
مقدمة
إن الحديث عن مفهوم الهوية هو حديث عن مسألة ذات طابع فلسفي بامتياز، نظرًا لما تحمله هذه الكلمة من معان متصلة بالكائن الإنساني في كينونته، وتوجهاته المعرفية والفكرية، بل وتشمل كل ما له من صلة بقوميته وأصالته، فقد مثلت مسألة الهوية أهم المحاور الأساسية التي اشتغل بها الباحثون، نظرًا لتلك المعطيات التي تفرزها علاقة الأنا بالآخر المختلف، وبالمعرفة المتبادلة بين هذا وذاك، فالاختلاف هو معطى أساسي يدعو إلى التفكير في الذات وهويتها، وفي الآخر وهويته.
فالعامل الأول الذي نجده في ذلك وبصورة ظاهرية هو اللغة كاختلاف لساني يقف على رأس جميع المسائل المتباينة بين الهويات المختلفة في هذا الوجود، إضافة إلى الاختلاف في المعتقدات والثقافات المتعددة، ولما تعدّدت اللغات والألسن صار لزامًا على المهتمين بالعلم والأدب، والثقافة بصفة عامة أن يطرقوا باب الترجمة كمدخل أساسي في فهم الآخر في لغته وثقافته وهويته سواء بالتأثير أو التأثر، وبذلك غدت عملية الترجمة ضرورة ملحَّة للتقرّب من الحقائق عبر وسيط اللغة التي لم تعد عملية لغوية فحسب، بل أصبحت عاملًا مهمًّا في إثبات الذات نحو الآخر، والآخر نحو الذات، والهوية في مقابل الهوية الأخرى.
فبأي معنى تظهر الترجمة؟ وما أثرها في إبراز مفهوم الهوية؟
لقد حظيت الترجمة منذ القدم باهتمام واسع لأهميتها البالغة في مختلف المجالات، وهذا الاهتمام فرضته الحاجة إلى ذلك، «فالشعور بالحاجة إلى دراسة ما للآخر من نماء معرفي لا يتم إلَّا عبر أداة الترجمة التي تسهم في تفعيل ثقافتنا ضد الركود الذي تشهده، والذي لا نجد له مثيلًا في أية حضارة أو لغة، في وقت يعيش فيه العالم انفتاحًا منقطع النظير، على التنوع لدفع المسيرة الحضارية إلى التحديث»[1].
فالمتتبع لحركة الترجمة عبر تاريخها الطويل لا يُمكنه إغفال أهميتها داخل الحقل المعرفي بصفة عامة، فقد مثّلت الترجمة منذ البدايات الأولى للفلسفة محورًا من المحاور المهمة والأساسية في الفكر الفلسفي، وكانت تعدّ قضيتها المركزية، بحيث كانت تضمن لها ذلك الانتقال والانفتاح الفكري في شتى المجالات المعرفية، مما جعل من علاقتهما خاصة الفلسفة المعاصرة علاقة أكثر اتصالًا واستشكالًا أيضًا، نظرًا لتلك المعطيات التي تطرح اليوم في ساحة الفلسفة، وأصبح الموقف من الترجمة موقفًا فلسفيًّا كون الترجمة تتّصل بمسائل فلسفية كاللغة والمعنى، والنص حتى المؤلف والقارئ معًا وللعلاقة التي بينهما، مما يجعل منها موضوعًا فلسفيًّا بامتياز.
ﷺ في معنى الترجمة
تعدّدت معاني الترجمة بدءًا من معناها المعجمي اللغوي، إلى معناها عند علماء الترجمة، حيث يظهر في قاموس أكسفورد للغة الانجليزية أن الفعل «يترجم» «to translate» بالمعاني التالية: «يحول من لغة إلى أخرى؛ يغيّر إلى لغة أخرى مع الاحتفاظ بالمعنى؛ يصيّر؛ ينقل. أيضًا: يُعبّر بكلمات أخرى؛ يُعيد الصياغة؛ يمارس الترجمة؛ يحوّل نصًّا من لغة إلى أخرى؛ يغيّر في الشكل، أو المظهر، أو الجوهر. أيضًا: يحوّل؛ يعدّل، يبدًل»[2]. إنها معانٍ متعدّدة تحاول كل منها أن تقف على الوجه الأقرب من هذا الفعل، الذي يتشابه إلى حد ما في هذه المفردات.
وعن كلمة ترجمة «translation» فيعرّفها القاموس نفسه بالمعاني التالية: تحوُّل؛ تحريكُ أو نقلُ من شخص أو مكان أو حالة إلى آخر أو أخرى. أيضًا: عمل أو إجراء التحويل من لغة إلى أخرى؛ إنتاج هذا العمل أو الإجراء. أيضًا: النص في لغة أخرى[3].
لقد ذهب علماء الترجمة في إعطاء المصطلح تعريفات كثيرة ومتنوعة والتي من شأنها أن تجعل هذا المفهوم أكثر وضوحًا، ومن هذه التعريفات يذهب جي سي كاتفورد j. c. catford إلى أن الترجمة هي عملية تُمارَس على اللغات: إجراء تبديل نص في لغةٍ بنص في لغة أخرى، ويعرفها أيضًا بأنها استبدال مواد أو مضامين نصوصية في لغة بمواد أو مضامين نصوصية مساوية في لغة أخرى، في حين يعرفها دوستارت «Dostart» بأنها ذلك الفرع من علم اللغة التطبيقي الذي يعنى على وجه التحديد بإشكالية أو حقيقة تحويل معنى من مجموعة منتظمة من الرموز إلى مجموعة منتظمة أخرى من الرموز»[4].
ونجد الفيلسوف بول ريكور الذي اهتم بقضية الترجمة في بداية عمله الفلسفي، من خلال ترجمته لكتاب «أفكار أدموند هوسرل»، إضافة إلى اهتمامه بالترجمات المختلفة للإنجيل، وكذا اتّصاله بالفلسفات المعاصرة، مما عمق تجربته في مسألة الترجمة حيث يعتبرها نموذجًا للفهم والتأويل، فهي ذلك اللفظ الذي يؤخذ إما «بالمعنى الحصري لنقل رسالة شفوية من لغة معينة إلى لغة أخرى، وإما نأخذه بالمعنى الواسع كمرادف لتأويل كل مجموعة دالة داخل نفس الجماعة اللسانية»[5].
ويرى ريكور أن عمل الترجمة يقوم في الأساس على قول الشيء نفسه بطريقة أو بصيغة أخرى، لذلك فإن عملية الترجمة هي بمثابة اكتشاف للآخر ولهويته، وهي بسط لثنايا أفكاره وتفسيرها وتأويلها وإعادة صياغتها.
تجليات اللغة بين الترجمة والنص
ارتبطت الترجمة بعدة حقول معرفية متنوعة، فكان لها ذلك الدور البارز في تقريب وتوضيح المشكلات المعرفية التي طرحت عبر العصور، وكذا نقل الخبرات والمعارف المختلفة بين الشعوب في تعددها وتنوع ألسنها ولغاتها، كما أنها مسألة لغوية ترتبط بالنصوص ارتباطًا مباشرًا وعميقًا.
وكل نص بطبيعته يحمل دلالات ومعاني مختلفة، ومن ثم وجب معرفتها وفهمها، أي ترجمتها «لذلك نجد الترجمة ناشطة في كل الثقافات المندفعة في إحياء لغتها وتوسيع أفاق فكرها، ومدى وجودها، فالآخر المختلف هو الهناك المجهول والغامض والمخيف، والترجمة هي بداية تفكيك لسحره ووهجه بأن تجعله مقروءًا ومفهومًا ومفسرًا»[6].
فالنص عندما يترجم، كأنه يقوم بانتقال وتحوّل لغوي انطلاقًا من لغته إلى لغة أخرى، وهنا يكون هذا النص قد افتتح حياة أو عالمًا معرفيًّا جديدًا رغم احتفاظه في كثير من الأحيان بلغته الأصلية «بكل سلطتها ومرجعيتها، ومعاييرها ونظام إنتاجها وتحكمها. ليست المسألة مجرّد خلع النص الجديد لثوب لغوي سابق وارتداء ثوب لغوي آخر، بل هي عملية التحام وتشابك بل وصراع بين لغتين أو أكثر، تنتهي بتسوية لغوية بين ما عُبِّر عنه في اللغة الأولى، وما يمكن أن يُعَبَّر عنه في اللغة الثانية، بحيث يصبح الشكل الجديد للنص عبارة عن انصهار فضاءين، فضاء لغة النص الأولى، وفضاء لغة الترجمة الثانية بكل أحمال أو أثقال الفضاءين الثقافية والاجتماعية، والسلطوية بل والدينية»[7].
فالترجمة وفق هذا الطرح المعطى تقدم نوعًا من العلاقة المعرفية بين الألفاظ المختلفة، قصد توضيح المعنى وجعله أكثر تماسكًا حول ما يذهب إليه، أو ما يعبر عنه داخل ذلك الاختلاف اللغوي، الذي يصبح اختلافًا يسعى إلى تحقيق التلاؤم بين لغة النص الأصلية ولغته التي ترجم إليها، حيث يصبح هذا النص يحمل شكلًا متكاملًا، رغم تلك السياقات المختلفة. «فالعهد الجديد في الإنجيل، كتب بلغة يونانية رغم أن المسيح كان ناطقًا بالعبرية أو الآرامية، والمسيحيون يقرؤون الإنجيل بكل لغات العالم، ويعتقدون أن المسيح أو الله يخاطبهم بلغتهم هم»[8].
فبالرغم من هذا التعدد اللغوي إلَّا أن النص ضل واحدًا مع أن طريقة تناوله تعددت حسب تعدّد تلك اللغات المختلفة، «ورغم أن كليلة ودمنة وقصص ألف ليلة وليلة، هي ذات أصول هندية إلَّا أن واسطتها إلى العالم كانت باللغة العربية، وكذا الأمر بالنسبة إلى التراث اليوناني، كذلك فان كل الحكايات الأسطورية الكبرى، ابتداءً من قصص الأطفال الخيالية إلى الملحمية كالإلياذة، كانت حاضرة بشكل عضوي داخل كل ثقافة، بحيث يعتقد غير الملتفت لأصولها الأولى أنها حكاية رمزية لتجارب محلية خاصة به»[9].
فقد يحافظ النص على طابعه الخاص والأجنبي داخل ثقافات أخرى دون أن يحس القارئ أو المستمع بغربة ذلك النص بالرغم من ظهوره في لغة أخرى. «فاللغة كينونة مستقلة لها فضاؤها من العلامات والبيانات، وعالمها من الإحالات والمجازات تنساب في كل كائن، لأن كل حقيقة وجودية هي كينونة لغوية، ليس بالمعنى الحصري الذي يجعل منها مجرّد تركيبات نحوية، وتنسيقات منطقية، وإنما بالمعنى الوجودي كإرادة في التعبير لا تستنفذ مضمون ما تريد قوله ووصفه، فهي لا تحيل فقط إلى مرجعية خارجية أو ميتا لغوية وإنما تحيل أيضًا إلى مرجعيتها الداخلية وفضائها الجواني»[10].
فالمترجم يقوم بنقل رسالة من لغة إلى أخرى، وهو لا يخرج في ذلك عن عملية الفهم التي من خلالها يقترب من معاني النصوص المختلفة، «فعملية الفهم هي بمثابة اختراق للنص، وهو ما انتبه إليه هايدغر بذكاء، حينما اعتبر الفهم كاستيلاء وكامتلاك وبالتالي كعنف، لأن التمثل والتأويل بالنسبة إلى هايدغر، تشكل مجتمعة صيغة هجومية موحدة وضرورية... وبخصوص الترجمة من لغة إلى أخرى، فإن مثل هذه الاستراتيجية هي عبارة عن غزو واستهلاك إلى حد الإنهاك»[11].
فالترجمة ممارسة فلسفية وتفاعلية عن طريق النصوص المختلفة لتجعل منها عملًا فكريًّا حول هذه النصوص وبالتالي تنصهر داخلها، فيحدث ذلك الازدواج والتكامل بينهما فتعمل اللغة دور الوسيط في ربط علاقاتها المتصلة فيما بينها، إذ لا يمكن أن تستمر خارج هذه النصوص لا سيما الفلسفية منها بحكم بحثها في مختلف مسائل المعرفة، فالعلاقة بينهما ليست فضولية وإنما حاجة دافعة ولازمة في الوقت نفس.
يضاف إلى ذلك أن الترجمة ليست عمل سطحي يكتفي بنقل معنى لغوي من لغة إلى أخرى، بل إن وظيفتها أسمى من ذلك فهي تعمل على اكتساب ثقافة النص وتطويرها بشكل جديد وفق اللغة المناسبة لذلك، والتطلع إلى تحقيق ترجمة حقيقية، «فالترجمة الحقيقية تستلزم دومًا الفهم الذي نسعى إلى تفسيره وتوضيحه، وهو أمر لم يناقش بإسهاب، إن الترجمة تستحيل دون فهم دقيق وصحيح مثل الفهم الذي نستعين به في إدراك خطاب في لغتنا الأم وعليه، نظام الأشياء هو على النقيض من ذلك، عندما نفهم النص يمكننا عندئذٍ مباشرة الترجمة، لأنه لا يمكننا الشروع في الترجمة دون أن نفهم مسبقًا حول ماذا يدور موضوع النص»[12].
ونجد أيضًا الفيلسوف الألماني غادامير قد اهتم بمسألة الترجمة وأعلى من شأنها، وقد لا يخرج ذلك عن اهتمامه بمسألة التأويل، وبما أن هذا الأخير يعمد إلى الوقوف على مختلف النصوص وكشف أغوارها، والتعمق في معانيها المتعددة، فهو يُظهر في الكثير من الأحيان عن لغة أخرى، غير لغة ذلك النص الأول، انطلاقًا من المعنى الموجود في هذا النص، وهنا لا بد من حضور الترجمة كتأويل لهذا النص، بحيث يرى فيها «طريقة لامتلاك كل ما هو أجنبي»[13].
أي يصبح كل ما هو متعلّق به قابل للفهم، وهذا الأخير يقترن بالترجمة، إذ لا تتم الترجمة بدون فهم، كما أن الفهم هو بشكل من الأشكال ترجمة للموضوع ولأفكار الكاتب أو المؤلف، ومعرفة سيرة حياته وبيئته التي عايشها والثقافة التي اكتسبها، والهوية التي يتبناها، ومن ثم تفسيرها وتأويلها.
ويوضح غادامير هذه العلاقة الوطيدة بين الترجمة والتأويل، وقد قرب بينهما حتى جعل منهما مفهومين مترادفين، أو ينوب أحدهما عن الآخر، حيث يقول: «معنى التأويل والفهم، هو أنني أفهم وأعبر دلالة النص حسب أقوالي وتعبيراتي الخاصة، لهذا تعتبر الترجمة إحدى النماذج والقواعد المهمة في التأويل لأن الترجمة ترغمنا ليس فقط على إيجاد اللفظ المناسب، وإنما أيضًا إعادة بناء وتشكيل المعنى الحقيقي للنص داخل أفق لغوي جديد تمامًا»[14]، فهي تحمل ما تنقله النصوص من لغتها الأصلية، أي لغة المصدر إلى لغة تكون هدفها ومرادها، ولا شك أن في ذلك تطويرًا لثقافة النص الثاني ولدلالاته وأبعاده المختلفة، «فكلما كانت النتيجة المحصلة من النص المصدر كلما عمَّت الفائدة، وكلما كان هذا الحصول ناجزًا وتامًّا كلما أدت الترجمة أسمى ما عندها من خصائص وظيفية»[15].
وإذا اعتبر التأويل هو ماء الحياة للنصوص، فإن الترجمة «هي التي تنفخ الحياة في هذه النصوص وتنقلها من ثقافة إلى أخرى، والنص لا يحيا إلَّا لأنه قابل للترجمة، وغير قابل في الوقت ذاته، فإذا كان في الإمكان ترجمة نص ما ترجمة نهائية، فإنه يموت، يموت كنص وكتابة»[16].
ﷺ الترجمة ومفهوم الهوية عبر ممر اللغة
جعلتنا الترجمة نهتم بقضية الهوية انطلاقًا من علاقة الأنا بالآخر، ومن خلال عامل اللغة كنقطة أساسية في هذه العملية، إضافة إلى اعتبار أن اللغة هي مكون من مكونات الهوية نفسها، ومن ثم أصبح كل نص ينتجه الآخر مهما كان موضوعه لا بد أن يخضع لترجمة معينة حسب الحاجة إلى ذلك طبعًا.
فالآخر هو مفترض كما يقول بول ريكور: «إن الآخر مفترض مسبقا منذ البداية... اعترف أن الآخر ليس احد موضوعات أفكاري، ولكنه مثلي، فاعل حقيقي للفكر وأنه يدركني أنا نفسي كآخر غير هو، وإننا معًا نستهدف العالم كطبيعة مشتركة، وإننا معًا أيضًا نبني مجموعات أشخاص قادرة على أن تتصرف بدورها على مسرح التاريخ كشخصيات من درجة عليا... فالفرضية التي أكون فيها أنا وحدي. فإن هذه التجربة لا يمكن أن تصبح قادرة على الشمولية من دون معونة الآخر الذي يساعدني على جمعي لذاتي وتثبيتي ومحافظتي على إبقائي داخل هويتي»[17].
فالهوية تتحدّد انطلاقًا من معرفة الأنا لذاتها، وذلك بمعونة الآخر الذي نكتشف هويته من خلال مشاركته في هذا العالم، ولعل الترجمة كعملية معرفية تساعدنا على ذلك بعد استهدافنا لمختلف النصوص في تنوّع موضوعاتها.
تتألف عملية الترجمة عند بول ريكور من قطبين أساسيين: «الأجنبي أو الغريب والقارئ، أما المترجم فهو الواسطة بينهما، إذ هو الناقل لرسالة الأجنبي إلى لغة القارئ، وهو يقوم بذلك تعترضه مشاكل الترجمة سواء من جهة اللغة الغريبة أو من جهة اللغة التي سيترجم فيها رسالة اللغة الغريبة، هذا فضلًا عن مدى إخلاصه هو أو خيانته لمدى صدق الترجمة»[18].
وهو يتساءل هنا في ظل هذه المعطيات حول فكرة رئيسية هي: هل الترجمة ممكنة أم مستحيلة؟ وهل نترجم المعنى أم الكلمات؟
وكتجاوز لهذه التساؤلات العقيمة يذهب إلى القول: «بأن الأعمال العظيمة قد شكّلت على مرّ العصور موضوع ترجمات متعدّدة، ولهذا يرى أن الترجمة هي «تحدٍّ»، هذا الأخير الذي يقول عنه بيرمان: «إنه يتّخذ من المعنى وسلطة الترجمة رهانًا»[19].
أي إن موضوع الترجمة بأهميته، وتعدّده هو الذي يجعل منها ترجمة حاضرة دائمًا، وتحاول الوقوف كسلطة معرفية مع كل نص يتضمن موضوعًا يدعو إلى الالتفات، وبما أن الترجمة مرادفة للتأويل، وهذا الأخير يشير إلى الاختلاف في الفهم، لأن هناك آراء متعدّدة ومعانٍ مختلفة، فهي تدل على فهم وتأويل معين لرسالة تحملها لغة ما قصد نقلها إلى لغة أخرى، فقد دافع ريكور عن فكرة التدرج من الفهم إلى التفسير فالتأويل، «ومن هنا يغدو كل مترجم مؤولًا»[20].
بمعنى أن النص يصبح ملكًا للمترجم فهو الذي يحرّره ويدفعه للعيش دومًا، وبالتالي يصبح المترجم ندًّا للمؤلف، فهذا الأخير ينتج النص للمرة الأولى أما المترجم فيعيد إنتاجه عدة مرات، فتمنح له الحياة كلما تتم إعادة ترجمته من جديد، وفي ذلك تفعيل لهذه اللغة وتطويرها من خلال عملية القراءة، فيصبح المترجم أفضل قارئ للنص باعتباره مصححًا ومحققًا له، بل يصبح كاتبًا جديدًا لهذا النص، فالقراءة فعالية تأويلية تنتج النصوص، وهذه الأخيرة هي التي تسمح بتعدّد القراءات مثلما تتعدّد الكتابات.
وقد تكون الترجمة في اللغة الواحدة فتأخذ مفهوم التحويل (transformation) كما يذهب إلى ذلك جاك دريدا، «كما أن اشتغال الترجمة كتحويل يقود إلى نوع من التحوّل الدلالي في سمات النص وآثاره ووقعه، ويتم ترهين هذا التحول من خلال عمليات الصوغ السياقي للنص في وضعيات جديدة مختلفة زمنيًّا وثقافيًّا»[21].
إلَّا أن ريكور قد شدَّ الانتباه إلى قضية أخرى ألا وهي علاقة الذات بالموضوع، والأنا بالآخر، والهوية بالهوية الأخرى، «وهي إشكالية حقيقية تطرح على المترجم الذي يجد نفسه أمام خيارين لا ثالث لهما، إما أن يقرّب المؤلف من القارئ، هنا يقوم بعملية إلحاق ودمج للعمل فيلغي خصوصيته، أو يقرّب القارئ من المؤلف، فيعمد إلى تغريبه، وهي الفكرة التي أثارها شلايرماخر بحدة وفي أكثر من موضع من بحثه»[22].
فعملية الترجمة تستدعي من المترجم أثناء عمله أن يقف على أطراف هذه العملية المعرفية، بداية من المؤلف الذي حرّر النص، إلى القارئ المتقبل لهذا النص، لأن هوية الأول قد تختلف عن هوية الثاني كما أن ثقافة الأول يمكن أن تختلف أيضًا عن ثقافة الثاني، ومن ثم وجب عليه احترام تلك المسافة الثقافية بينهما.
إن تعدّد اللغات واختلافها بين البشر يعدّ شيئًا معروفًا، فكل البشر يتكلمون بلغتهم الخاصة التي اعتادوا عليها، لكن ذلك لا يعني أنهم غير قادرين على تعلم لغات أخرى إضافة إلى لغتهم الأم، إلَّا أن ذلك طرح شيئًا من الجدل الذي شكّل نوعًا من الانغلاق للترجمة داخل بديل يجب التخلص منه، وهو «تنوّع اللغات الذي يعبّر عن تنافر جذري، ومنه تكون الترجمة مستحيلة نظريًّا؛ لأن اللغات قابلة للترجمة فيما بينها قبليًّا، أو أن الترجمة إذا أخذت كحدث فإنها ستفسر بذخيرة مشتركة تجعل الترجمة ممكنة، لكن هنا يجب إما العثور على هذه الذخيرة المشتركة، وهو الطريق المؤدي إلى اللغة الأصلية (الأولى). أو إعادة بنائها منطقيًّا وهو الطريق المؤدي إلى اللغة الكونية.. وسواء أكانت أصلية أو كونية، فإن هذه اللغة المطلقة يجب إظهارها من خلال مرصوفاتها الصوتية، واللفظية والتركيبية والبلاغية»[23].
إلَّا أنه وبالنظر إلى الأمر الواقع فإننا نجد أن الترجمة موجودة، ووجودها دليل على أنها ممكنة فمع الاعتراف بتنوّع اللغات، «فإنه توجد هناك بنيات خفية إما لأنها تحمل أثر لغة أصلية مفقودة والتي يجب إيجادها، وإما وجود شفرات ما قبلية في شكل بنيات كلية، أو متعالية يمكن إعادة بنائها»[24].
فالترجمة عن طريق هذا التواصل اللغوي والثقافي بين مختلف الشعوب والأجناس، تكون قد حقّقت نوعًا من الإنجاز والتكامل المعرفي، وإبراز لتلك الهويات التي تقف وراء هذه النصوص، وتبادل ما كان سائدًا في اللغة الأولى والنص الأول في بيئة نصية أخرى جديدة بكل مستوياتها وسياقاتها، ففي ذلك تجديد لما هو قديم وفتح الجديد على ما هو قادم، مما يسمح للغة بأن تتكلّم عبر الذات الإنسانية، فهي تتعدّد لتكون موطن هذا الوجود ولكينونته بتعبير هيدغر.
خاتمة
إن الترجمة وفق هذا الاختلاف اللغوي والتعدّد الثقافي، ستظل متواصلة عبر الحضارات ومستمرة في مسؤوليتها الكونية المعاصرة، وبما أنها عملية معرفية بين الأنا والآخر المختلف في ثقافته، وهويته فإنها ملزمة بمعرفة وكشف هذا الآخر في كل توجهاته وخطواته في مقابل الذات وإثبات هويتها.
وبما أنها تشكّل قضية فلسفية من الأساس فعلى هذه الأخيرة أن تطرح المزيد من التساؤلات حول مثل هذه الموضوعات، لا سيما تلك التي لها من الترجمات الكثير حول مختلف النصوص سواء في القصة، أو الشعر أو الثقافة، أو الأدب وغيرها، من خلال التعبير والكشف عن الهوية المصاحبة لذلك، وهذا ما يجب أن يكون حول موروثنا ولغتنا، وثقافتنا العربية الإسلامية؛ لأن الدراسات حول الترجمة عندنا لا تزال متواضعة مقارنة بحركتها في العالم الغربي، حتى تتعزّز هويتنا وتبرز وجودها بكل قيمها ومبادئها.
[1] ياسمين فيدوح، إشكالية الترجمة في الأدب المقارن، دمشق: دار صفحات للدراسات والنشر، ط1، 2009، ص 87.
[2] أحمد صالح الطامي، من الترجمة إلى التأثير: دراسات في الأدب المقارن، الجزائر: منشورات الاختلاف، ط1، 2013، ص 18.
[3] أحمد صالح الطامي، من الترجمة إلى التأثير، مرجع سابق، ص 18.
[4] المرجع نفسه، ص 19.
[5] عز الدين الخطابي، في الترجمة والفلسفة السياسية والأخلاقية، المغرب، الدار البيضاء: منشورات عالم التربية، ط1، 2004، ص27.
[6] دايفيد جاسبر، مقدمة في الهرمينوطيقا، ت: وجيه قانصو، الجزائر: منشورات الاختلاف، ط1، 2007، ص 9.
[7] المرجع نفسه، ص 8.
[8] دايفيد جاسبر، مقدمة في الهرمينوطيقا، مرجع سابق، ص 7.
[9] المرجع نفسه، ص 8.
[10] محمد شوقي الزين، الإزاحة والاحتمال، الجزائر: منشورات الاختلاف، ط1، 2008، ص 227.
[11] عز الدين الخطابي، الترجمة والتأويل، مجلة العربية والترجمة، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، ع 4، 2010، ص105.
[12] غادامير هانس جورج، فلسفة التأويل، الأصول، المبادئ، الأهداف، ترجمة: محمد شوقي الزين، المركز الثقافي العربي، الدار العربية للعلوم، ط2، 2006. ص131.
[13] غادمير هانس جورج، الحقيقة والمنهج، ت: حسن ناظم، علي حاكم صالح، طرابلس: دار أويا للطباعة والنشر، ط1، 2007، ص 14.
[14] غادمير هانس جورج، فلسفة التأويل، مرجع سابق، ص131.
[15] ياسمين فيدوح، إشكالية الترجمة في الأدب المقارن، مرجع سابق، ص 158.
[16] احمد إبراهيم، سر الترجمة وهاجس التأويل، في التأويل والترجمة، الجزائر: منشورات الاختلاف، ط1، ص27.
[17] محمد بهاوي، في فلسفة الغير، نصوص فلسفية مختارة ومترجمة، المغرب: أفريقيا الشرق، ج6، 2012، ص37.
[18] لزهر عقيبي، جدلية الفهم والتفسير في فلسفة بول ريكور، الجزائر: منشورات الاختلاف، ط1، 2012، ص243.
[19] بول ريكور، عن الترجمة، ت: حسين خمري، الجزائر: منشورات الاختلاف، ط1، 2008، ص11.
[20] بول ريكور، عن الترجمة، مرجع سابق، ص12.
[21] محمد بوعزة، استراتيجية التأويل: من النصية إلى التفكيكية، الجزائر: منشورات الاختلاف، ط1، 2011، ص 52.
[22] بول ريكور، عن الترجمة، مرجع سابق، ص12.
[23] المرجع نفسه، ص 34.
[24] بول ريكور، عن الترجمة، مرجع سابق، ص 36.
شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
يحاول الكاتب محمد محفوظ في 166 صفحة أن بضيئ الحديث عن السلم الأهلي والمجتمعي، في الدائرة العربية والإسلامية، بحيث تكون هذه المسألة حقيقة من حقائق الواقع السياسي والإجتماعي والثقافي، وثابتة من ثوابت تاريخنا الراهن.
ينتمي مالك بن نبي وعبدالله شريط إلى بلد عربي إسلامي عانى من ويلات الاستعمار ما لم يعانه بلد آخر، سواء في طول الأمد أو حدة الصراع أو عمق الأثر. إنهما مثقفان عميقا الثقافة، مرهفا الشعور، شديدا الحساسية للمعاناة التي عاشها ملايين الجزائريين من ضحايا مدنية القرن العشرين، بأهدافها المنحطة وغاياتها الدنيئة.
عقد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات خلال الفترة الواقعة بين 6 و 8 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2012، مؤتمرًا أكاديميًّا عنوانه «الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي: تجارب واتّجاهات»، في فندق شيراتون بالدوحة، وشهد الافتتاح حشدًا كبيرًا من الباحثين والأكاديميّين من دول عربية.
يأتي الاهتمام بالقضية الفنية في فكر الأستاذ عبدالسلام ياسين من منطلق أن الوجود الحضاري للأمة كما يتأسس على أسس القوة المادية التي يمليها منطق التدافع القرآني أي التدافع الجدلي بين الخير والشر الذي هو أصل التقدم والحركة، يتأسس كذلك على جناح تلبية الحاجات النفسية والذوقية والجمالية بمقتضى الإيمان الذي هو ...
ثمة مضامين ثقافية ومعرفية كبرى، تختزنها حياة وسيرة ومسيرة رجال الإصلاح والفكر في الأمة، ولا يمكن تظهير هذه المضامين والكنوز إلَّا بقراءة تجاربهم، ودراسة أفكارهم ونتاجهم الفكري والمعرفي، والاطِّلاع التفصيلي على جهودهم الإصلاحية في حقول الحياة المختلفة
لا شك في أن الظاهرة الإسلامية الحديثة (جماعات وتيارات، شخصيات ومؤسسات) أضحت من الحقائق الثابتة في المشهد السياسي والثقافي والاجتماعي في المنطقة العربية، بحيث من الصعوبة تجاوز هذه الحقيقة أو التغافل عن مقتضياتها ومتطلباتها.. بل إننا نستطيع القول: إن المنطقة العربية دخلت في الكثير من المآزق والتوترات بفعل عملية الإقصاء والنبذ الذي تعرَّضت إليه هذه التيارات، مما وسَّع الفجوة بين المؤسسة الرسمية والمجتمع وفعالياته السياسية والمدنية..
لم يكن حظ الفلسفة من التأليف شبيهاً بغيرها من المعارف والعلوم في تراثنا المدون بالعربية، الذي تنعقد الريادة فيه إلى علوم التفسير وعلوم القرآن والحديث والفقه وأصوله، واللغة العربية وآدابها، وعلم الكلام وغيرها. بينما لا نعثر بالكم نفسه على مدونات مستقلة تعنى بالفلسفة وقضاياها في فترات التدوين قديماً وبالأخص حديثاً؛ إذ تعد الكتابات والمؤلفات في مجال الفلسفة، ضئيلة ومحدودة جدًّا، يسهل عدها وحصرها والإحاطة بها.