شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
الجسد كسلطة عند ميشال فوكو
يحياوي عبدالقادر والدكتور براهيم أحمد*
* شعبة الفلسفة، كلية العلوم الاجتماعية، جامعة عبد الحميد بن باديس، مستغانم - الجزائر. البريد الإلكتروني: b_sidimokhfi@yahoo.fr
تمهيد
يعتبر الكثير من المفكرين والفلاسفة الغربيين أن ميشال فوكو[1] يعدّ من أهم الفلاسفة المعاصرين بعد موريس ميرلوبونتي الذين اهتموا بإشكالية الجسد كمعطى هامشي في البحوث الفلسفية، ودرسها دراسة مغايرة لمن سبقوه، فإنه لم يطرح موضوع الجسد مجاورًا لموضوع النفس التي طرحها أفلاطون في شكلها المتسامي المفارق، أو كما طرحها سبينوزا بعلاقتها المتوازية أو المتحدة مع الجسد، ولا جسدًا آلة كما يُبرزه ديكارت، ولا يطرح الجسد الأنا كما هو عند ميرلوبونتي، بل تجاوزهم.
ولاحظ ميشال فوكو أنّ المؤرّخين تناولوا الجسد كمعطى فيزيولوجي ثابت في حقل العلم والفلسفة، ونظروا إليه كمجال للحاجات والرغبات، وكمكان للوظائف الحيويّة من تغذية، وهضم، وتنفس، وتدمير وبناء وتحويل للمواد.
على العكس من ذلك تمامًا فقد اهتمّ ميشال فوكو بسؤال الجسد، في نطاق رصده لتاريخ المؤسسات، واستقصائه للبنية العميقة التي تحكم مسار البورجوازية الأوروبية، وتوحّد بين مظاهرها الحضارية ومنجزاتها المتعدّدة، التي ساهمت بها على حدّ زعمها، في تشييد صرح المدينة أو استكماله إلى حدّ بعيد.
أما الجسد وعلاقته بالسلطة، فهو أيضًا لم يخرج أبدًا عن الحقل السياسيّ، فعلاقات السلطة تعمل فيه عملًا مباشرًا، فهي توظّفه وتقوّمه، وتعذّبه وتجبره على أعمال، وتضطره إلى احتفالات، وتطالبه بدلالات[2].
النظرة الجديدة للجسد عند فوكو
على العكس من ميرلوبونتي لم يعرض فوكو جسدًا واحدًا بل أجسادًا متنوّعة: مريضة وصحيّة، جسدًا برجوازيًّا، وجسد الطبقة العاملة، جسدًا مفردًا، وعدّة أجساد، إنها أجساد الساكنة، كلّ هذه الأجساد ستدخل في علاقات سلطوية، وستنغرس ضمن مجال سياسيّ.
فالسلطة على حدّ تعبير فوكو تنتج من خطاب، وهذه السلطة تظهر في عمل مؤسسات الدولة المختلفة عبر الفعل الجسدي، فالجسد يُحَفِّز السلطة على العمل فيه، ففي كل خطاب سلطة وفي كل سلطة جسد، «فالحديث عن الخطاب يُنتِج الحديث عن الجسد الذي يقيّده ويعتقله ويطارده بوصفه وطنًا، فالجسد مجال إنتاج النظام والانتظام، ووطن وممارسة السلطة سلطاتها عبر تكنولوجيا لغوية -الخطاب-، يمكننا القول: إن السلطة تكتب نصها بالخطاب على صحيفة الجسد»[3].
إن الخطاب يقيّد الجسد ويعتقله، والبحث في الخطاب هو بحث في الجسد؛ لأن الجسد موطن ظهور نظام الخطاب وفعل السلطة في الجسد، فالسلطة تؤدّي مهامها عبر ما ينطق به خطابها المؤسس لها، وتمتلك السلطة الجسد من خلال منطوق الخطاب، إن كان في الخطاب من لذة فإن الجسد يتفنن بها، وإن كان به إقصاء ونفي فإن الجسد يُعاقب ويُحاسب.
وذلك من خلال الدفع به نحو مؤسسات قسرية (المعزل والسجن والمستشفى والمدرسة)[4]؛ خُوِّلت لها مهمّة إقصاء الجسد المختلف، من أجل عزله عن باقي الأجساد السوية والسليمة والمندمجة في الحياة العامة، في ظل المسموح به والسائد[5].
ولعلّ هذا التواطؤ الموجود حسب فوكو، بين إرادتي: القوة (السلطة) والمعرفة (الخطاب)[6]، كان مرصودًا لخلق تكنولوجيا تحوّل الجسد إلى طاقة إنتاج، لا أقلّ ولا أكثر، وتعدم كل إمكاناته ومؤهلاته التي من شأنها التشويش على تلك الغاية المنشودة.
لاحظ فوكو أن البرجوازية التي حملت شعار التغيير، وتصدّت بأفكارها التنويرية للتقاليد الإقطاعية والسياسية، قد حرّرت الجسد بالفعل من وصاية الروح واللاهوت والمسيحيين، وأزاحت عنه غبن القرون الوسطى، لكنّها سخّرته بشكل لا يقلّ استبعادًا في خدمة ليبيرالية متوحشة عمياء، لم تدَّخر جهدًا في ابتكار أساليب متقدّمة لاستغلال الجسد واستثمار قواه داخل المعمل وخارجه، في سبيل استتباب نمط معين من الإنتاج والاستهلاك[7]، واعتماد أسلوب حياة يعمّق اغتراب الجسد واستلابه.
الجسد والتحولات الاجتماعية
لقد فطن فوكو منذ مؤلفاته الأولى[8] -وإن لم يشر إلى ذلك صراحة- بأن الجسد كان دائمًا وما يزال واجهة تسمها مختلف التحوّلات الاجتماعية، وصحيفة ينعكس عليها نمط علاقة الأفراد فيما بينهم، ورؤيتهم للعالم والأشياء.
فالانشغال بالسلوك الفردي، كان ذريعة لتعرية الوجوه الخفية لأخطبوط السلطة[9]، والكشف عن الاستراتيجية المتبعة للسيطرة على الجسد وفق نظام من الحقائق المجردة[10]، الضابطة لحالته أثناء المرض والصحة، العقل والجنون، اللذة والألم، الجريمة والعقاب.
وإن كانت «أنسنة منظومة العقاب» تُعَدّ فتحًا حضاريًّا جديدًا بسبب كونها نوعًا من أنواع السيطرة الناعمة التي ترتكز على مراعاة «علم النفس» في إجراءات العقاب لفهم الفعل وفاعله، وكذلك تهذيب الإجراءات العقابية نفسها، إلَّا أن هدف السلطة يظل هو السيطرة على الجسد وضبطه وإخضاعه للمقاييس والمعايير في إطار تطويع الجسد ومراقبته دون تعذيبه ماديًّا.
وهذه العمليات تتحقّق على نحو نموذجي في تنظيم مؤسسات السجن والجيش والمدرسة، وفيها تعمل مؤسسات وأجهزة الدولة كل في مجالها وتخصصها من خلال «ميكروفيزياء السلطة» على إخضاع الجسد والسيطرة عليه سياسيًّا.
الجسد كمعطى هامشي
لهذا ركّز فوكو على دور الجيش والسجن والمشفى كمؤسسات للدولة في صناعة الأجساد؛ لأن هذه المؤسسات تقدّم أجسادًا تؤدّي وظائف محدّدة لها مسبقًا، وتشكّل بذلك وعيًا يعيد إنتاج الثقافة والمجتمع وفقًا لآليات السلطة، وإن تفسير آليات عمل الأجهزة يتمّ من خلال تشريح الأداء الجسدي، ومن هنا يأتي دور العنف والعقاب (الرمزي، والمادي)[11]، ليؤكّد ضرورة الخضوع للسلطة، فالعقاب «يقوم بوظيفة قانونية سياسية، إنه احتفال من أجل إعادة إقرار السيادة بعد جرحها لحظة»[12].
ومن مظاهر العقاب الجماعي هذه ما جاء في المرسوم الملكي[13]، الذي ألقى بالمجانين وذوي العاهات والمشرّدين والفقراء واللصوص والعاطلين والعاهرات والشواذ جنسيًّا، في المستشفى العام بباريز: إجراءً وقائيًّا أكثر منه علاجيًّا، وردعًا للثورة التي كانت مؤشراتها تلوح في الأفق.
كما أن إقرار تسريح هذه الفئات، ثمّ توزيعها بعد ذلك على المؤسسات التربوية أو التأديبية أو التوجيهية أو الاستشفائية المختصة، كان «بمثابة بحث عن مصدر لقوة العمل الرخيص أو قوة العمل الذي يقوم على السخرة»[14]، والذي يدعم في نظر فوكو الشكل المدني للرقّ والاستعباد. بحيث كانت تقنيات الترويض والهيمنة، التي طالت الجسد، تستمدّ سلطانها من حقائق الاقتصاد السياسي والإنثروبولوجيا والبيولوجيا والنحو، وغيرها من العلوم التي ساهمت من جهتها في إحكام تلك الهيمنة «بأقل عناء وأكثر وحشية»[15]، ومدها بالمبررات العقلانية والشرعية المنطقية.
الجسد والعقاب
من بين الفئات التي تَمَّ معاقبتها وإقصائها المجانين، هذه الفئة التي يرى فوكو أنه تَمَّ تجاهلها من حقل الفكر المعرفي مثلها مثل الجسد، سيتجسّد هذا الإقصاء الفلسفيّ العقلاني لجسد المجنون كجسد بلا عقل واقعيًّا من خلال عمليّة مأسسته في العصر الكلاسيكيّ.
فبعدما كان يتمّ الإبحار بالمجانين في سفن تائهة بهم، سيُعلن عن إجراء الحجز الذي تعود مراحله الأولى إلى المرسوم الملكي الذي ذكرناه قبلًا، هذه المؤسسة سيعمم إنشاؤها في كلّ أرجاء العالم الغربيّ، فمنذ منتصف القرن 17 ارتبط الجنون بهذه الأرض الخاصة بالحجز.
هذا المكان المظلم الذي لقي فيه المجانين أعنف التصرّفات وحرمانهم من الأشياء الضرورية، ولمّا تغيّرت النظرة إلى البؤس من كونه إيجابيًّا إلى دلالته على المذلة ولعنة إلهية، فإن وجوب إغاثة الفقراء اقتضى ضمّهم إلى وطن المجانين والإنفاق عليهم كما رافقهم العطّالون للقضاء على التسيّب، فالعاطّل لا يُطرد بل له الحق في الأكل، ولكن عليه أن يقبل الإكراه البدنيّ والأخلاقيّ لنظام الحجز.
إلَّا أنّ المستشفى العام لم يكن في حقيقته مؤسسة علاجيّة، فلم يكن يحمل دلالات طبيّة لا من حيث الممارسة، ولا من حيث المفهوم، فهو يعود إلى النظام البرجوازيّ الذي كان يحاول الحفاظ على نفسه، واحتواء مراحل الأزمات الاقتصادية فتعيّن لديه فرض العمل الإجباريّ «فمنذ البداية سيحتلّ المجانين مواقعهم طوعًا أو قسرًا إلى جانب العطّالين والفقراء خيّرين أو شرّيرين، فمثلهم سيخضعون لقوانين العمل الجبريّ»[16].
إنّ المستشفى العام كانت له إذًا دلالة اقتصادية، فبرفض العمل ستسخر هذه الأجساد كقوى إنتاجية في خدمة الاقتصاد البرجوازي الذي يفضي إلى «أن نُشغلهم بالعمل أطول مدة ممكنة، وفي الأعمال الأكثر شقاء، وذلك بما تسمح به قوتهم، ويسمح به مكان عملهم»[17].
كما تتجاوز الدلالة الاقتصادية لهذا المستشفى العام مع الدلالة الأخلاقية التي مهمتها معاقبة وتقويم الاستخفاف بالأخلاق التي تدعو إلى الالتزام بالنظام، ترك التكاسل، الاتكال من حيث إنّ كلّ خطأ «يجب أن يعاقب بتقليل كميّة الأكل، الزيادة في ساعات العمل، وبالسجن وبأحكام أخرى ساريّة في المستشفيات، ووفق ما يرتئيه مديروها»[18].
فأصبحت رعاية النظام الأخلاقيّ مهمة مدنيّة تتولّاها الدولة بعدما كانت من مهام الكنيسة، بهاتين الدلالتين تظهر لنا السلطة بتقنياتها: الحجز، العمل القسريّ لتعكس ما يسميه فوكو الاستثمار الاقتصادي والسياسي للجسد، فاستثماره ضمن تشغيل القوى الجسديّة، وسياسيًّا ضمن جعل هذه القوى الجسديّة خاضعة.
الجسد والجنون
لقد ردّ فوكو سبب هذا الفصل والإقصاء القسري لعالم الجنون من المجال البحثي الفكري الى زيف العلوم الإنسانية، ودعا إلى الأهلية عن المعارف المترتبة عنها؛ لأنها عوض أن تقدّم حلولًا موضوعية تعي طبيعة الإنسان[19]، وتفتح له الآفاق المنغلقة، وتستجلي مواطن العتمة في تكوينه البيولوجي والغريزي، من أجل فهم حقيقي للذات ولقيمها المحايثة، نجدها تتخلّى عن طموحها هذا ووعودها تلك، لتصبح وسيلة إخضاع مستترة تستهدف الجسد، ونسق ضبط مولد للإرغامات في صفة مناهج لينة، تنظم وتصنف وتنتقي وتُقصي وتراقب وتستنطق، دون اللجوء إلى الوسائل السلطوية المكشوفة، وأساليب القهر المتبرجة، السائدة في العصرين الوسيط والكلاسيكي[20].
في هذا الإطار ركّز ميشال فوكو حفرياته على ثلاثة حقول رئيسية:
أولًا: تطوّر إجراءات التأديب بتساوق مع الفتوحات التكنولوجية والعلمية، من جهة، ومن جهة ثانية مع نمط الإنتاج السائد؛ بحيث استبدل جلادو الأمس بقضاة عادلين، يحاكمون الروح بدل الجسد وفق قانون[21] ينص على نظام للعقاب لا مكان فيه للقصاص، ولا للتعذيب الجسدي. إلّا أن فوكو يستدرك، مصححًا بأن تحويل الاهتمام صوب الروح، لا يعني إعفاء الجسد، وإنّما هي طريقة ملتوية تسعى في المقام الأوّل والأخير، إلى تضييق الخناق عليه[22].
ثانيًا: إزاحة تقنيات النفي والاحتجاز المصاحبة لقسمة الجنون، وفسح المجال أمام خطاب معرفي متمفصل إلى كلام ممنهج، يمارسه الطبيب النفسي في إعادة ترويض المجنون وتقليم نزوعه الاجتماعي أو الحيواني[23].
ويبدو أن إلزامية القميص القسري، والحقن والعقاقير المخدرة المدعمة لسلطة الطبيب الخطابية، كانت تُكره المريض على البوح والاعتراف بكلماته السرية والحميمية؛ من أجل الخضوع لمؤسسة الطب النفسي التي تملك وحدها حق إبعاده عن المجتمع، أو إدماجه من جديد[24].
ثالثًا: سُنّ مشروع لتنظيم اللذات والتقعيد لاستعمالاتها، تحت مراقبة علم النفس والطب والديموغرافيا. وهذا فضلًا عن الأخلاق الجنسية الكَنَسِيَّة التي لم تجد البورجوازية بدًّا من تبنيها، حتى تستفيد من خلخلتها لقواعد الزواج الأرستقراطية[25]، في إنشاء «جسد خالص، جسد طبقي ذي صحة ووقاية وسلالة وعرق»[26]. ثمّ في تقنين ممارسة المتع، حسب منظومة من الأوامر والنواهي والقيم القمعية الرافضة لحق الجسد اللانهائي في اللذة.
فالكبت لا الإشباع هو موضوع الجنسانية، وشرط وجودها. والإنجاب لا المتعة، هو همّها الأساسي والوحيد؛ لأن في ذلك انتصارًا للثقافة على الطبيعة، والفكر على الجنس، والروح أو السلطة[27] على الجسد.
أفق تحرّر الجسد
بعدما رأينا الحقول المعرفية التي ركّز عليها فوكو في دراسته، وجب أن نتساءل كيف لهذا البحث الأركيولوجي المعرفي أن يقترح أفقًا للتغيير والتحرّر، ويستنطق جروح الجسد دون أن يعمّقها؟
إن هذا الاستفهام الإنكاري قابل لأن يعمّم على مجموع التصوّرات التي شدّدت على الجسد باعتباره موضوعًا للاشتغال الفكري، وجعلته مركز اهتمام النسق الفلسفي والنظر العقلي الصرف؛ بحيث لم تستطع مختلف فلسفات الجسد -من نيتشه إلى الفينومينولوجيين المتأخرين- أن تحوك خطابًا أصيلًا ومحايثًا للفعالية الحسية، إلّا عندما نقلت مجال الاشتغال من «اللوغوس» إلى الوجدان (pathos)، وصوّبت منظارها نحو صُلب الممارسة الإبداعية والتجربة الجمالية، وعيًا منها بأن الجسد لا يبرح منطقة الصمت، إلّا إذا احتوته لغة المجاز والتخييل، وأفصح عن كينونته بواسطة منطق الاستعارة، وداخل مدارات الأدب.
لهذا ركّز فوكو في دراسته على مفاهيم مغايرة هامشية في البحث الفلسفي، مثل مفهومي الانضباط وما بعد الحداثة، الذي يرى فيهما نموذج المشروع الثقافي الغربي، وله آلياته وجاهزياته الخاصة التي سبقت جاهزيات العلم والصناعة، ثم تمشّت معها، هنا تكنولوجيا التفعيل السلطوي، تكنولوجيا إنسانية خالصة، تسبق التكنولوجيا المادية بمعناها الاصطلاحي وتتساوق معها[28].
إن آليات عمل العقل الغربي نقلت أوروبا من مرحلة التعذيب إلى مرحلة التهذيب، ومن نظام القمع والاعتقال إلى نظام المؤسسة الطبية والعسكرية والتربوية، هذا الفعل الذي تَمَّ مقترنًا بالتطوّر العلمي والتكنولوجي من دون إلغاء فكرة انضباطية الجسد أو صناعة الجسد بأساليب جديدة.
كما لم يتمّ هذا الانتقال دفعة واحدة، بل على مراحل، كتب فوكو يقول في الجسد المعذب في فترة القرن التاسع عشر: «إن التفكير الذي يتكالب على الجسد قد استبدل بقصاص يعمل بالعمق على القلب والفكر والإرادة والاستعدادات»[29].
لذا فهو يرى أن كل فترة زمنية تتميز ببنائها المعرفي والسلطوي، فاهتم بالبحث في حفريات المعرفة في العصور التي عاشتها أوروبا الوسطى والنهضة والحداثة والمعاصرة «للكشف عن المجال الإبستمولوجي الذي يكمن خلف كل تجاربه ومعارفه ومناهجه، وكأنما هو مجموع مقولاته الموضوعية، أو كأنما هو جماع مبادئه القبلية - الأولية»[30].
وفوكو بذلك يبين كيف كانت أوروبا على الهامش حتى وصلت إلى المتن والمركز الحضاري. ذلك أن المجتمع وفلسفته يصوغان جسدًا منضبطًا يعمل كوسيلة للإنتاج وزيادة المردود، حتى لو تطلّب الأمر استهلاك كل طاقات الجسد، وفوكو يرى أن الثقافة العقلانية قد «تُرجِمت كممارسة إلى انضباطية استيعابية كاملة، وكلما انصبّت على تأهيل الجسد بوصفه الوحدة المادية التي يتألف منها البنيان الاجتماعي الذي يجب تشغيله كآلة إنتاجية كبرى، ومن ثم فإن المدرسة يجب أن تنتج الجسد المنضبط سلوكيًّا والمعد عقليًّا لممارسة وظائف المستقبل...»[31].
وكذلك تمارس المؤسسات الأخرى (السياسية، القانونية، الاقتصادية...) مهمة الرقابة على الجسد ليوجد في نمط ثقافي جديد يختلف من مجتمع لآخر، فالخطاب ينتج إشاراته ورموزه ومدلولاته التي يعمل وفقًا لها نظام السلطة، ويظهر هذا الخطاب في أساليب الفن والأدب والسياسة والمجتمع والدين والقانون... إلخ.
مع الأخذ بعين العلم أن إنتاج الخطاب مراقب دومًا وفي كل المجتمعات، وهو محكوم بآليات الجنس والدين والسياسة، «وكأن الخطاب بدل أن يكون هذا العنصر الشفاف أو المحايد الذي يجرّد فيه الجنس من سلاحه وتكتسب فيه السياسة طابعًا سلميًّا، هو أحد المواقع التي تمارس فيها هذه المواقع بعض سلطتها الرهيبة على نحوٍ أفضل»[32].
فلقد أصبحت اللذة والمسألة الجنسانية من اهتمامات القرن الثامن عشر والتاسع عشر، بعد أن كان خطاب الجسد في العصور الوسطى خطاب الجسد الخاطئ، وفي الانفجار المتسارع لعلوم الطب والنفس والأخلاق والأنثروبولوجيا وبعد التوجّه الاستعماري للدول الغربية حل الخطاب الجديد للجسد، إنه خطاب الجنسانية الذي كان أداة لممارسة السلطة على الجسد[33].
وقد أشارت فاطمة المرنيسي إلى مسألة الجنسي المتخيل للغرب عن الشرق، أي كيف نظر خطاب الاستعمار الغربي للدول العربية والإسلامية من موقع الأرض المباحة والجسد المشتهى جنسيًّا.
فإن تنامي القوة الرأسمالية في ذلك الوقت، والتحرّر من سلطة الكنيسة، والانفتاح على الآخر بوصفه متلقٍ للغرب، قد جعل من الخطاب الاستعماري يتلوّن بألوان الخطاب الجنساني إذ باتت أوروبا تشرع له.
أخلاقيات الجسد
إن المسألة بوصفها أداة تطويع للجسد؛ تطرح تساؤلات أخلاقية تجعل من الجنس والرغبة والإنسان لعبة تلعبها قوة السلطة، فَتُحَوِّل الأخلاق إلى وسيلة انضباطية تُؤهِّل الجسد وفق سلطة المعرفة وخطاب الحقيقة الذي تُعلن عنه المؤسسات، «فالأخلاق اندمجت في الآلة الانضباطية الكبرى، ولم تستطع أن تحفظ لها أيَّ استقلالية. وصار عليها أن تنفذ أوامر الانضباط وإن غلفتها بهالات من القيم والمثل. لعل ذلك هو الذي مكَّن لعلاقات القوى بين الأفراد أن تقود مختلف العلاقات الأخرى، وأن تشكّل لها بطانة من العنف المشغف الذي يُبيح لذاته استخدام مختلف الوسائل «المتحضرة» للانقضاض على منافسيه، وفي هذا الفضاء الاجتماعي الذي يغدو ساحات قتال شرسة لجميع الأفراد الذي إما هم متنافسون جميعًا على امتلاك أقل وسائل الدفاع والهجوم في حرب رهيبة غير معلنة من قبل الجميع، وإما أن يتمّ تحييد بعضهم إلى درجة تهميشهم وإلغاء مواقعيتهم»[34].
لذا يصبح الخطاب وسيلة حفاظ السلطة على مكاسبها، و«إن جميع الخطابات تنجز وظيفتها بشكل مختلف جزئيًّا، ووظيفتها هي الحفاظ على الخطابات أو إنتاجها»[35].
عُني فوكو بمسألة السلطة وبالأنساق التي تنتجها لتسوّغ لها الاستحواذ والبقاء السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وفي سبيل ذلك بحث في الخطاب وعلاقته برموز اللغة والفكر والجنس. فالحقيقة تكمن في السلطة نفسها، وكل تفكيك لأنساق السلطة المولدة هو تغيير في نظام الحقيقة الثاوية وراءه.
إن المؤسسة التي تنتج العلم والمعرفة إنما تنتج الحقيقة في خطابها هذا، فيصبح بالإمكان التعامل مع الحقيقة بوصفها مفهومًا حرّضته السلطة وجرى تداوله تربويًّا وعسكريًّا وإعلاميًّا واقتصاديًّا، حيث يتمّ إنتاج الحقيقة ونقلها عبر الأجهزة والمؤسسات السلطوية كالمدرسة والجامعة والمشفى والسجن والإعلام.
ولكل خطاب -سواء أكان مضمرًا أم صريحًا- جسده، فإن حاول الخطاب إضمار جسده على المستوى النظري، فإنه سيظهر على مستوى الممارسة، وكذلك لكل جسد خطابه «فلا انفصال إذن للخطاب عن الجسد، فللجسد فكره، وللفكر مادته ونصه، النص جسدٌ والجسد نصٌ»[36]، فالجسد ينتج نصّه، ويعيد تشكيل نفسه بعد أن أنتج خطابه.
وقد عاد فوكو في كتابه «تاريخ العيادة» ليوضح خروج الأجساد عن نمط الخطاب السائد، ويبيّن أن فكرة العيادة (التحليل النفسي) والمشفى والمدرسة ما هي إلَّا النمط الحديث المتطوّر لتأهيل الأجساد وإعادتها إلى القوالب الاجتماعية المقبولة، بعد أن كان التعذيب وسيلة التأهيل في العصور الوسطى في أوروبا[37]، وهي القطيعة التي أحدثها القرن العشرين مع ما سبقه من قرون.
ولم يهتم فوكو -كما فعل الوجوديون- بمسألة الأولويات الفكر أو الجسد؛ لأن الجسد موجود وهو ذو قيمة عالية، إنما ركّز دراساته على مسألة الانضباطية، وهي إحدى منتجات فكر الحداثة وما بعدها، فالخطاب الذي حرّر الجسد من التعذيب قد أنتج وسائل تحكم بالجسد من خلال مؤسسات السلطة.
لقد أصبح جليًّا أن فوكو في تصوّره للجسد وعلاقته بالسلطة، أنه يعرض لنا الجسد ليس كمعطى طبيعيّ فيزيولوجي تتحكّم فيه القوانين الميكانيكية الطبيعيّة، وإنما الجسد ذو البعد الثقافي الذي حمل، ولا زال يحمل آثار السلطة فمن تعذيب جسد المحكوم عليهم، إلى العقاب، إلى تأديب كلّ الأجساد، هذا الإخضاع العقلانيّ الجديد تمارسه السلطة التأديبية.
لقد صوّرت المثالية الأفلاطونية، والفلسفة الديكارتية في بعض مناحيها أن الجسد خاضع للنفس، فقد عرضته دونيًّا، وهي مقتنعة في هذا الصدد أن هذا هو مصيره المناسب وعلى النفس الانعتاق والتحرّر منه، لم يخرج فوكو كثيرًا عن هذا الطرح، غير أنه غير الاعتقاد في عملية خضوع الجسد للنفس، وعوض ذلك استبدل العملية بالسلطة، لكن سرعان ما تأخذه الرأفة بهذا الجسد الأسير والذي لا يرضى بأسره، فالفرد الغربيّ الحداثي لم ينل الحرية التي يستحقها وتحديدًا حرية التصرّف في جسده الذي هو ملك السلطة البرجوازية.
إنّ فوكو يبتعد نسبيًّا أيضًا عن نظرة سبينوزا الإيجابية والمطلقة إلى الجسد، وحتى عن نيتشه وميرلوبونتي، حيث يرى أنه ليس المسؤول الوحيد عن ذلك الأداء المتميّز بطواعية، وإنما راجع الى سلطة خفية تطوّعه وتروّضه بشكل مهذب ورهيف حتى يتوهّم الأفراد أن أجسادهم متحرّرة، لكن في الحقيقة إنهم لم يعودوا يملكون أية حميمية مع جسدهم الخاص، لأنّ هذه الحميميّة تضيع وتتلاشى في ظل صخب استراتيجيات السلطة الانضباطية.
يقول فوكو: إن الجسد خاضع تاريخيًّا لقوانين السلطة التي أصبح هو يمارسها بعدما رُوِّضَ عليها بشكل عقلانيّ محكم، فهو حامل لممارسات ثقافية اجتماعية سلطوية، لأجل تحقيق أهداف اقتصادية سياسية برجوازية.
إنّ الانتقال بالجسد إلى إخضاعه للسلطة التأديبية التي بدأت مع العصر الكلاسيكيّ هو محاولة لعقلنة الجسد بالتطويع والترويض والتجذير في العمل والوقت، ومراقبته هو ثمن دفعته المجتمعات الغربية لأجل الحداثة البيولوجيّة.
هذه الحداثة البيولوجية تفسر أيضًا أن المجتمعات الغربيّة هي مجتمعات مراقبة، وتحديدًا مراقبة الأجساد، مراقبة أدنى حركاتها اليوميّة، جانبها الصحيّ والمرضي غيابها وحضورها، تطوّرها وتراجعها.
الخاتمة
في الأخير، إنّ هذا الإخضاع، وهذه المراقبة ضمن ميكانيزمات السلطة التأديبية القائمة أساسًا على الفردنة، التي اخترعتها العقلانية، أدّى إلى خلق ذات غريبة متميّزة بدءًا من العصر الكلاسيكي بالانضباط وبالتالي خلق المجتمع الانضباطي.
ما الجسد الغربيّ الحداثيّ إلَّا محصلة للممارسات السلطوية التأديبية، والتي بدورها لا تمارس إلَّا ضمن تواطئها مع المعرفة والعكس صحيح مما جعل الجسد موضوع تتقاسمه كل العلوم الإنسانية.
إن تقاسم العلوم الإنسانية لمناطق الجسد الثقافيّ أدّى أيضًا إلى إقرار فوكو بالنتيجة التالية وهي موت الإنسان، وفوكو في طرحه للجسد الحداثيّ أو للحداثة البيولوجيّة يبدو متشائمًا آملًا في جسد ما بعد الحداثة.
[1] ميشال فوكو (1984 - 1926) فيلسوف فرنسي، يعتبر من أهم فلاسفة النصف الأخير من القرن العشرين، تأثّر بالبنيويين ودرس وحلل تاريخ الجنون في كتابه «تاريخ الجنون»، وعالج مواضيع مثل الإجرام والعقوبات والممارسات الاجتماعية في السجون. ابتكر مصطلح «أركيولوجية المعرفة».
[2] ميشال فوكو، المراقبة والمعاقبة.. ولادة السجن، ترجمة: علي مقلد، مراجعة وتقديم: مطاع الصفدي، بيروت: مركز الإنماء القومي، 1990، ص64.
[3] محمد علي الكبسي، ميشال فوكو.. تكنولوجيا الخطاب، تكنولوجيا السلطة، تكنولوجيا السيطرة على الجسد، تونس: دار سيراس، 1993، ص60.
[4] عمر أوكان، مدخل لدراسة النص والسلطة، أفريقيا الشرق، 1994، ص 30.
[5] LAARISSA (Mohamed Mustapha), corps، alterité et pouvoir chez Michel Foucault, in Revue de la faculté des letres de Marrakech. n°5. 1989. P. 127.
[6] يقول فوكو: «إنّ الخطاب السائد في أي مجتمع هو خطاب السلطة، (...)، إنه خطاب تتحدّد فيه السلطة بالمعرفة» انظر: إرادة المعرفة، عرض: محمد حافظ دياب، مجلة فصول، العدد الثالث، 1984، ص 226.
[7] LAARISSA (M), «corps, altérité et puovoir chez Michel Foucault» op. cit. p. 130.
[8] نقصد كتب: «الكلمات والأشياء»، «تاريخ الجنون» و«المراقبة والعقاب»، التي طرحت مشكلة الجسد بصيغة جدُّ معقدة وغامضة، سوف تتجلي في مؤلفات فوكو اللاحقة: « تاريخ الجنسانية» بأجزائه الثلاثة.
[9] عمر أوكان، مدخل لدراسة النص والسلطة، مرجع سابق، ص ص 26 - 29.
[10] المعارف اليقينية التي يقدمها العلم والتي عند تمفصلها لسانيًّا وتماسّها تصبح خطابًا، انظر: المرجع نفسه، ص ص 30، 37 - 36.
[11] انظر جسد المحكوم عليهم من كتاب المراقبة والمعاقبة لميشال فوكو، مرجع سابق، ص 47 حتى 69، وكذلك الرسوم التوضيحية من ص7 حتى ص29.
[12] ميشال فوكو، المراقبة والمعاقبة، مرجع سابق، ص82.
[13] أصدر لويس الرابع عشر سنة 1657 هذا القرار، الذي عرف تحت اسم «الاعتقال الكبير» انظر:
FOUCAULT (Michel). Histoire de la folie à l’age classique, Ed. Gillmard. Coll. Tel. Paris, 1972. Pp. 60 – 61.
[14] كيروزيل إديت، عصر البنيوية من ليفي ستراوس إلى فوكو، ترجمة: جابر عصفور، الطبعة الثانية، الدار البيضاء: منشورات عيون المقالات، 1986، ص 214.
[15] محمد علي الكبسي، ميشال فوكو، ص 62.
[16] المصدر نفسه، ص 70.
[17] المصدر نفسه، ص 96.
[18] المصدر نفسه، ص 97.
[19] محمد علي الكبسي، ميشال فوكو، صص 39 - 37.
[20] إديت كيروزيل، عصرالبنيوية من ليفي ستراوي إلى فوكو، مرجع سابق، صص 232 - 214.
[21] المرجع نفسه، ص219.
[22] FOUCAULT. T ( Michel ), Surveiller et puni, ed. Tel gallimard، Paris, 1993, p. 34.
[23] ساد الاعتقاد في العصر الكلاسيكي أن الجنون يحوّل الإنسان إلى حيوان، ويحيي نزوعه العدواني وطبيعته الشريرة، انظر: Foucault (Michel) Histoire de la Folie, op cit. P. 400.
[24] عمر أوكان، مدخل لدراسة النص والسلطة، ص 35.
[25] موريس بلانشو، ميشال فوكو كما أتخيله، ترجمة: الحبيب السالمي، مجلة المقدمة (الباريسية) العدد الأوّل، ماي 1987، صص 15 - 14.
[26] FOUCAULT (Michel), la volonté de savoir. Gallimard, Paris, 1976, p. 164.
[27] حيث يتبادلان الأدوار بينهما، فالروح هي سلطة العهدين القديم والوسيط، والسلطة هي بمعنييها البيو- سياسي (فوكو) والتحريمي (فرويد)، تمثّل روح عصر الحداثة، عصر موت الإله والإنسان معًا.
[28] ميشال فوكو، المراقبة والمعاقبة.. ولادة السجن، مرجع سابق، ص 41.
[29] المرجع نفسه، ص 57.
[30] قسم الدراسات الفلسفية المعاصرة، تاريخ الفلسفة المعاصرة، دمشق: جامعة دمشق، ط5، 1997م، ص677.
[31] ميشال فوكو، المراقبة والمعاقبة.. ولادة السجن، مرجع سابق، ص36.
[32] ميشال فوكو، نظام الخطاب، ترجمة: محمد سبيلا، بيروت: دار التنوير، ط1، 1984، ص 9 - 10.
[33] للمزيد من الإيضاح حول هذه الفكرة انظر: إرفن جميلشك، الاستشراق جنسيًّا، ترجمة: عدنان حسن، بيروت: دار قدمس، ط1، 2003. وكذلك انظر: ثورنتون لين، النساء في لوحات المستشرقين، ترجمة: مروان سعد الدين، دمشق: دار المدى، ط1، 2007م.
[34] ميشال فوكو، المراقبة والمعاقبة.. ولادة السجن، مرجع سابق، ص37.
[35] ميشال فوكو، نظام الخطاب، مرجع سابق، ص 17.
[36] المرجع نفسه، ص 47.
[37] المرجع نفسه، ص 49.
شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
يحاول الكاتب محمد محفوظ في 166 صفحة أن بضيئ الحديث عن السلم الأهلي والمجتمعي، في الدائرة العربية والإسلامية، بحيث تكون هذه المسألة حقيقة من حقائق الواقع السياسي والإجتماعي والثقافي، وثابتة من ثوابت تاريخنا الراهن.
ينتمي مالك بن نبي وعبدالله شريط إلى بلد عربي إسلامي عانى من ويلات الاستعمار ما لم يعانه بلد آخر، سواء في طول الأمد أو حدة الصراع أو عمق الأثر. إنهما مثقفان عميقا الثقافة، مرهفا الشعور، شديدا الحساسية للمعاناة التي عاشها ملايين الجزائريين من ضحايا مدنية القرن العشرين، بأهدافها المنحطة وغاياتها الدنيئة.
عقد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات خلال الفترة الواقعة بين 6 و 8 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2012، مؤتمرًا أكاديميًّا عنوانه «الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي: تجارب واتّجاهات»، في فندق شيراتون بالدوحة، وشهد الافتتاح حشدًا كبيرًا من الباحثين والأكاديميّين من دول عربية.
يأتي الاهتمام بالقضية الفنية في فكر الأستاذ عبدالسلام ياسين من منطلق أن الوجود الحضاري للأمة كما يتأسس على أسس القوة المادية التي يمليها منطق التدافع القرآني أي التدافع الجدلي بين الخير والشر الذي هو أصل التقدم والحركة، يتأسس كذلك على جناح تلبية الحاجات النفسية والذوقية والجمالية بمقتضى الإيمان الذي هو ...
ثمة مضامين ثقافية ومعرفية كبرى، تختزنها حياة وسيرة ومسيرة رجال الإصلاح والفكر في الأمة، ولا يمكن تظهير هذه المضامين والكنوز إلَّا بقراءة تجاربهم، ودراسة أفكارهم ونتاجهم الفكري والمعرفي، والاطِّلاع التفصيلي على جهودهم الإصلاحية في حقول الحياة المختلفة
لا شك في أن الظاهرة الإسلامية الحديثة (جماعات وتيارات، شخصيات ومؤسسات) أضحت من الحقائق الثابتة في المشهد السياسي والثقافي والاجتماعي في المنطقة العربية، بحيث من الصعوبة تجاوز هذه الحقيقة أو التغافل عن مقتضياتها ومتطلباتها.. بل إننا نستطيع القول: إن المنطقة العربية دخلت في الكثير من المآزق والتوترات بفعل عملية الإقصاء والنبذ الذي تعرَّضت إليه هذه التيارات، مما وسَّع الفجوة بين المؤسسة الرسمية والمجتمع وفعالياته السياسية والمدنية..
لم يكن حظ الفلسفة من التأليف شبيهاً بغيرها من المعارف والعلوم في تراثنا المدون بالعربية، الذي تنعقد الريادة فيه إلى علوم التفسير وعلوم القرآن والحديث والفقه وأصوله، واللغة العربية وآدابها، وعلم الكلام وغيرها. بينما لا نعثر بالكم نفسه على مدونات مستقلة تعنى بالفلسفة وقضاياها في فترات التدوين قديماً وبالأخص حديثاً؛ إذ تعد الكتابات والمؤلفات في مجال الفلسفة، ضئيلة ومحدودة جدًّا، يسهل عدها وحصرها والإحاطة بها.