شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
صدام الحضارات
وموقف المفكرين العرب منه..
زكي الميلاد أنموذجًا
عيسى اسضاعي*
* باحث من الجزائر.
- رسالة ماجستير تخصص فلسفة إسلامية وحضارة معاصرة.
- جامعة وهران 2، كلية العلوم الاجتماعية، قسم الفلسفة.
- إشراف: الدكتورة رشيدة صاري.
- تاريخ المناقشة: الأحد 29 شعبان 1437هـ/ 5 يونيو 2016م
مقدمة
أنتجت أطروحة صدام الحضارات مفاهيم ميّزت العصر، وهي ذات مساس مباشر بالخطاب العام الذي يشتغل فيه كتّاب مثل صمويل هنتنغتون، كمفهوم الحضارات، ومسألة الحضارة الكونية، العلاقة بين القوة والثقافة، ميزان القوى المتغير بين الحضارات، التأصيل في المجتمعات غير الغربية، البنية السياسية للحضارات، الصراعات التي تولدها عالمية الغرب، العسكرية الإسلامية، التوازن والاستجابات المنحازة للقوة الصينية، أسباب حروب خطوط التقسيم الحضاري والعوامل المحركة لها، ومستقبل الغرب وحضارات العالم.
هذا البحث يدخل ضمن مجال فلسفة الحضارة الذي يدرس العلاقة بين الحضارات، فيما يخص التواصل والتنافر لبلوغ مستوى لائق من التعايش الثقافي والتواؤم الحضاري، وهي بهذا الطرح تُعَد مسألة شائكة تقوم بوصف حركية المجتمعات في سيرورتها التاريخية تقدمًا أو تخلفًا.
وربما الذي زاد المسألة تعقيدًا هو اختلاف الفلاسفة والمفكرين في الشؤون الحضارية بسبب اختلاف مرجعياتهم الفكرية، لا سيما ونحن اليوم نعيش في قرية كونية تتحكم فيها وسائل الإعلام والاتصال ذات التكنولوجيا المتطورة، ويتحكم فيها أصحاب النفوذ والمال والقوة؛ والتي اختزلت الحدود الطبيعية لبلدان العالم، وحاولت فيه طمس الهويات الثقافية والحضارية للشعوب.
هذه التحديات جعلت من الإطروحات المخالفة للصراع، تظهر وكأنها أكثر إنسانية وموضوعية من الأولى، ومنها أطروحة حوار الحضارات التي تستند إلى القواسم المشتركة بين الحضارات بغية المنفعة والخير العام للبشرية على وجه هذه البسيطة.
هذه المعطيات أوجبت على الطرف الإسلامي وبدافع الاضطرار، تشغيل عقله وطرح نظريته فيما يخص مواطن التداخل والتنافر الحضاري، خاصة من جهة تلميع الصورة الإسلامية التي شوهها الغرب، والتي كونها على أننا كمسلمين نتمتع في نظره بذهنيات تقليدية ذات صبغة عدائية، هذه الصورة عملت عليها عقلية صهيو-إمريكية، وترفدها صراعات دينية وعرقية وعسكرية مدعومة بترسانة تكنولوجية اقتصادية لوجيستية، إضافة إلى نعت العالم الاسلامي بأوصاف التخلف والجمود والعنف والانغلاق وأنه سجين الماورائيات.
في خضم هذه التقلبات الحضارية، حاول المفكر والباحث السعودي المعاصر زكي الميلاد دحض وإبطال هذه النظريات، وتبيين نقاط الضعف فيها، واكتشاف ثغراتها، حين قدم مساهمة فكرية راقية تمثلت في سلسلة دراسات وقراءات ومراجعات نقدية أراد من خلالها الخروج بالحضارات من حتمية الصدام والتناحر إلى خلق روابط أخوية مستقبلية ذات نزعة إنسانية، منطلقًا من علاقة الأنا بالآخر.
وهذا ما صاغه في نظرية «تعارف الحضارات» المستنبطة من القرآن الكريم، والذي جاء للناس كافة؛ حيث انفرد الميلاد بنحت هذه الأطروحة، التي تستحق الاهتمام والدراسة وعلى نطاق واسع في المحافل الفكرية العربية الإسلامية والعالمية.
أهمية الموضوع: تعود أهمية هذا الموضوع إلى كون العصبية الحضارية يختلط فيها الاقتصادي بالثقافي، والديني بالسياسي وحتى الأيديولوجي، في حين أن التعارف يمكن أن يسهم في بناء تصور مستقبلي حضاري لتجاوز الصراع والنزاع بين الغرب والإسلام، وبوصف أن التعارف هو أحد الحلول الربانية لتجاوز الصراعات الإنسانية. فضلًا عن الحاجة الماسة والواجبة لمثل هذه النظريات في ظل الحملات المسعورة والدعاية الإعلامية المغرضة المشوهة لصورة الإسلام، وحياكة الأغاليط والافتراءات حياله.
أسباب اختيار الموضوع: اختياري لهذا الموضوع يرجع لأسباب عدة، لعل أهمها: إبطال الرأي الغربي القديم والجديد القائل: أن ليس للمسلمين القدرة على إنتاج أفكار فلسفية راقية في الميادين الفكرية والعلمية، وأنهم -أي المسلمين- لا يعدون أن يكونوا ناقلين للفلسفات الغربية منذ القدم، ونظرية زكي الميلاد هي واحدة من مبطلات هذه النظرة غير العادلة.
ومن الأسباب كذلك، ضرورة الخروج من رتابة ثنائية الصدام والحوار وتفاقم السّجال الفكري حولهما، والانتقال إلى رؤية ثالثة مغايرة، تجنبنا سلبيات الصدام وتعزز إيجابيات الحوار من خلال التعارف الحضاري.
يضاف إلى ذلك ما يجري في المشهد السياسي على الأرض العربية والإسلامية الذي يشهد حروبًا وصراعات مذهبية وطائفية، نكاد نرصدها يوميًّا على النت وشاشات التلفاز والجرائد، وهي معطيات تؤيد نظرية هنتنغتون في صراع الحضارات، والمشهد الذي يفرض علينا شحذ الهمم الفكرية والعلمية للخروج من هذا المأزق الكارثي الذي يحطّ من المستوى الإنساني إلى مستوى دون الحيوانية. خاصة وأن العالمين العربي والإسلامي يزخران بجهابذة في الفكر والعلم لهم ما يؤهلهم لإبطال النزاعات والصراعات والنهوض بالإنسانية إلى بر السلام.
أما لماذا زكي الميلاد أنموذجًا وليس غيره؟
فلأنه:
1- من الأشخاص الذين اعتنوا بموضوع الحضارة الذي شغله كثيرًا، حيث تحدث في مؤلفاته عن الحضارات وعلاقة الأنا بالآخر.
2- وهو من الذين قدموا نقدًا لمفهوم صراع الحضارات عند هنتنغتون.
3- وكونه يعد من الأسماء الجديدة غير المستهلكة، كما أنَّ نظريته تظل تتجدد كلما تجدَّدَ الصراع الحضاري، فالأولى (الصدام) داء، والثانية (التعارف) دواء، كما أنَّ له إسهامات فكرية فعالة وغنية، فهو يرأس مجلة «الكلمة» التي مضى عليها ما يزيد على العقدين من الزمان وما زالت مستمرة في العطاء؛ وله ما يربو عن ثلاثين مؤلفًا منشورًا.
أما فيما يخص غايتنا من هذا البحث، فلي أن أسردها في: تقديم النموذج العربي والتعريف به وتبيين أفكاره في مجال المسألة الحضارية، وإلفات النظر لفكرة التعارف حتى تتسع دائرة الدراسة حولها، وتبنيها كفكرة صالحة لكل زمان ومكان كونها وليدة القرآن أبلغ الكلام وأصلحه من عند الله العليم.
وكذلك لإمعان النظر في كيفية محاولة الميلاد تهذيب التناقضات التي جاء بها هنتنغتون وفوكوياما وغيرهما من دعاة التشاؤمية والصراعات الحضارية، من خلال التواصل والتعارف مع الآخر الحضاري عن طريق الانفتاح على ثقافة الآخر، وتعريفه بالثقافة الإسلامية المبنية على قيم الفضيلة الإنسانية دون انغلاق على الذات، وبغية بلوغ النّماء الإنساني وفق الاحترام المتبادل بين الحضارات في ظل التنوع الثقافي المعبر عن إبداعات شعوب العالم، كون الحضارة هي محصلة نتاج بشري مشترك.
ومن خلال هذا الطرح يمكنني أن أصوغ الإشكالية الرئيسية التالية: إلى أي مدى يمكن أن تسهم فكرة تعارف الحضارات في تجاوز تشاؤمية الصدام الحضاري، ورفع التعارض بين الصدام ومنطق الحوار؟ أو كيف ضبط زكي الميلاد تصورًا لتعارف الحضارات يعلو به من وحشية التصادم إلى إنسانية التعارف، وتوطيد علاقات إيجابية بين الحضارات؟
هذه الإشكالية التي تُعنى بمراجعة ما يجري على الساحة العالمية أدَّت بالميلاد إلى تقديم بديل يراه مناسبًا، وأحسبه أنا كذلك، والذي يدفعني إلى طرح بعض الأسئلة التي قد تكون وجيهة:
- إذا كان الصدام هو منطق الحضارة الغربية وعكازها الفكري، فأنىّ لنا أن نُهذّب ونُعَقلن هذا المنطق ليتماشى ومنطق الضعفاء الذين استسلموا لمقولة تأثر المغلوب بالغالب؟
- وفي المقابل: إذا سلّمنا بأنّ الحوار مطلب إنساني وأخلاقي محمود، فكيف نفعله في غياب التكافؤ والندية الحضارية؟
- كيف يمكن لنظرية تعارف الحضارات أن تشيع ثقافة السلام والمحبة الحضارية في ظل ارتفاع وتيرة الصراع التي تشهدها الحضارات المعاصرة اليوم؟
منهج البحث: اعتمدت فيه على المنهج التحليلي نظرًا لطبيعة الموضوع، وذلك لتبيين الخلفيات التي دفعت لبروز تعارف الحضارات، كما لم يخلُ البحث من بعض التساؤلات التي هي سمة الفلسفة ومباحثها التي تنشد الموضوعية، وتفتح مجالًا لتوليد أفكار جديدة تُسهم في رفع قيمة العلم والمعرفة الإنسانية.
خطوات البحث: تتكون المذكرة من مقدمة منهجية وفصلين وخاتمة، أما فيما يخص الفصلين فهما متمايزان، وقد يراهم البعض متداخلين نظرًا لتمايز واشتراك الحضارات فيما بينهما، وقد عنونت الفصل الأول بعنوان: «صراع الحضارات المفاهيم والمنطلقات»، قسّمته إلى مبحثين، عالجت في المبحث الأول «مفهوم الحضارة والصراع والثقافة»، أما المبحث الثاني فتناولت فيه «منطلقات صدام الحضارات» من نهاية التاريخ لفوكوياما إلى صدام الحضارات لهنتنغتون، ومتابعة الذين سبقوه إلى المفهوم، مع الإشارة لأهم الانتقادات الموجهة لهذا المفهوم، وصولًا إلى مفهوم حوار الحضارات أسبابه وأهدافه وشروطه.
أما الفصل الثاني فعنونته «من صراع الحضارات إلى تعارف الحضارات»، قسّمته هو الآخر إلى مبحثين، تناولت في المبحث الأول موضوع: «من نقد الصراع إلى طرح التعارف»، وفيه عرْض لنقد زكي الميلاد لأطروحتي هنتنغتون في صدام الحضارات، وغارودي في حوار الحضارات، ثم عرض لأطروحة التعارف كموقف بديل للصدام ومرتكز للحوار، ليأتي المبحث الثاني الذي درست فيه «مميزات ومرتكزات وبواعث وأهداف نظرية تعارف الحضارات»، مع الإشارة إلى بعدها الإنساني.
أما خاتمة البحث ففيها حوصلة لأهم النتائج التي تطرقت إليها الدراسة. ثم ذيّلتُ بحثي بالسيرة الذاتية للميلاد، ثم بقائمة المصادر والمراجع وفهرست الموضوعات.
الدّراسات السابقة: وأعني بها الدراسات الجامعية المنجزة حول تعارف الحضارات، وجدت منها الدراسات الآتية:
1- علي عبود المحمداوي، تعارف الحضارات الأطروحة البديل في التعامل مع الآخر، رسالة ماجستير في الفلسفة، إشراف: الدكتور نبيل رشاد سعيد، جامعة بغداد، 2007م.
2- شبلي هجيرة، إشكالية مستقبل العلاقات بين الحضارات.. زكي الميلاد نموذجًا، رسالة ماجستير في فلسفة الحضارة، إشراف: الدكتور عمراني عبدالمجيد، جامعة الحاج لخضر، باتنة - الجزائر، 2013م.
3- سمية غريب وحنان بن صغير، البعد الإنساني لفكرة تعارف الحضارات عند المفكر زكي الميلاد، رسالة ماجستير في فلسفة الحضارة، إشراف: الدكتور قويدري الأخضر، جامعة عمار ثليجي، الأغواط - الجزائر، 2015م.
وأنا بدوري أقدم عملي المتواضع في هذا البحث، دعامة للدّراسات حول هذا الموضوع، وذلك بالدّعوة إلى خلق ديناميكية للدّفع بتعارف الحضارات، ومن أجل تثمين الفاعلية التواصلية خارج وحشية الصدام للوصول إلى التفاهم والتقارب والتعاون والتحالف والحوار وأنسنة الحضارات، وإرساء ثقافة السلام.
واسأل الله التوفيق والسداد في هذه الدراسة التي تهدي إلى الرويّة والحكمة ونبذ العنف والتطرُّف، وهي رسالة كل بشر يدرك معنى الانتماء الاجتماعي والضمير الإنساني والوازع الديني، والله ولي التوفيق.
شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
يحاول الكاتب محمد محفوظ في 166 صفحة أن بضيئ الحديث عن السلم الأهلي والمجتمعي، في الدائرة العربية والإسلامية، بحيث تكون هذه المسألة حقيقة من حقائق الواقع السياسي والإجتماعي والثقافي، وثابتة من ثوابت تاريخنا الراهن.
ينتمي مالك بن نبي وعبدالله شريط إلى بلد عربي إسلامي عانى من ويلات الاستعمار ما لم يعانه بلد آخر، سواء في طول الأمد أو حدة الصراع أو عمق الأثر. إنهما مثقفان عميقا الثقافة، مرهفا الشعور، شديدا الحساسية للمعاناة التي عاشها ملايين الجزائريين من ضحايا مدنية القرن العشرين، بأهدافها المنحطة وغاياتها الدنيئة.
عقد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات خلال الفترة الواقعة بين 6 و 8 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2012، مؤتمرًا أكاديميًّا عنوانه «الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي: تجارب واتّجاهات»، في فندق شيراتون بالدوحة، وشهد الافتتاح حشدًا كبيرًا من الباحثين والأكاديميّين من دول عربية.
يأتي الاهتمام بالقضية الفنية في فكر الأستاذ عبدالسلام ياسين من منطلق أن الوجود الحضاري للأمة كما يتأسس على أسس القوة المادية التي يمليها منطق التدافع القرآني أي التدافع الجدلي بين الخير والشر الذي هو أصل التقدم والحركة، يتأسس كذلك على جناح تلبية الحاجات النفسية والذوقية والجمالية بمقتضى الإيمان الذي هو ...
ثمة مضامين ثقافية ومعرفية كبرى، تختزنها حياة وسيرة ومسيرة رجال الإصلاح والفكر في الأمة، ولا يمكن تظهير هذه المضامين والكنوز إلَّا بقراءة تجاربهم، ودراسة أفكارهم ونتاجهم الفكري والمعرفي، والاطِّلاع التفصيلي على جهودهم الإصلاحية في حقول الحياة المختلفة
لا شك في أن الظاهرة الإسلامية الحديثة (جماعات وتيارات، شخصيات ومؤسسات) أضحت من الحقائق الثابتة في المشهد السياسي والثقافي والاجتماعي في المنطقة العربية، بحيث من الصعوبة تجاوز هذه الحقيقة أو التغافل عن مقتضياتها ومتطلباتها.. بل إننا نستطيع القول: إن المنطقة العربية دخلت في الكثير من المآزق والتوترات بفعل عملية الإقصاء والنبذ الذي تعرَّضت إليه هذه التيارات، مما وسَّع الفجوة بين المؤسسة الرسمية والمجتمع وفعالياته السياسية والمدنية..
لم يكن حظ الفلسفة من التأليف شبيهاً بغيرها من المعارف والعلوم في تراثنا المدون بالعربية، الذي تنعقد الريادة فيه إلى علوم التفسير وعلوم القرآن والحديث والفقه وأصوله، واللغة العربية وآدابها، وعلم الكلام وغيرها. بينما لا نعثر بالكم نفسه على مدونات مستقلة تعنى بالفلسفة وقضاياها في فترات التدوين قديماً وبالأخص حديثاً؛ إذ تعد الكتابات والمؤلفات في مجال الفلسفة، ضئيلة ومحدودة جدًّا، يسهل عدها وحصرها والإحاطة بها.