شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
مجلة الكلمة بعد ربع قرن..
شاهد معرفي على تجديد الفكر العربي والإسلامي
الدكتور عبد الحليم مهورباشة*
* دكتوراه في علم الاجتماع، أستاذ محاضر بقسم علم الاجتماع، جامعة سطيف2، الجزائر. البريد الإلكتروني: halim-bacha@hotmail.fr
طلب مني الأستاذ زكي الميلاد كتابة شهادة فكرية في حق مجلة «الكلمة»، فأحببت أن أستهل هذه الشهادة بالتعريج على الدلالات والمعاني التي تشير لها مفردة الشهادة، فإذا أتينا إلى الدلالة اللغوية لكلمة الشهادة، نجد أنها تشير إلى الإفصاح عن الرأي، مع إقرار العلم به، {وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآَثِمِينَ}[1]، هنا جمع بين الإخبار بالرأي والعلم به.
أما دلالة الشهادة في القانون، فيقصد بها إثبات واقعة معينة من خلال ما يقوله أحد الأشخاص، عمّا شاهده بحواسه من هذه الواقعة بطريقة مباشرة، وهنا تتعدّى الدلالة مستوى الإخبار عن الحدث إلى تحمّل المسؤولية عمّا نخبر به.
وأما دلالة الشهادة التاريخية بلغة المؤرخين، فهي إبداء فاعل إنساني لرأيه أو موقفه من حدث تاريخي ما، شرط أن يكون حاضرًا لحظة وقوع الحدث التاريخي، وهنا قرنية الشهادة بمعايشة الحدث.
أما الشهادة الفكرية فهي جماع الدلالات السابقة، فأن يكون الباحث شاهدًا على الفكر، معناه أن يخبر برأي فكري تؤسّس له شواهد فكرية، وأن يكون مطّلعًا على الأحداث الفكرية ودروبها، وكذلك ما يترتب على هذه الشهادة الفكرية من مسؤولية أخلاقية؛ لأن الشهادة الفكرية هي شهادة على المنتجات المعرفية للعقل الإنساني، وما تفتحه من إمكانات للتفكّر في أوضاع المجتمعات الإنسانية ومآلاتها.
إذا أتينا لكتابة شهادة فكرية حول مجلة عريقة مثل مجلة «الكلمة»، علينا أن نكون مسلّحين بتلك الدلالات التي وسمنا بها مفردة الشهادة، مستحضرين في الوقت نفسه السياقات التاريخية والثقافية التي زامنتها المجلة، منطلقين من مسلّمة معرفية مفادها أن الفكر الإنساني يقع في علاقة جدلية مع البيئة (بمختلف مكوّناتها) التي ينوجد فيها.
فقد ولدت المجلة في لحظة تاريخية فارقة (صدر أول عدد سنة 1993)، وواكبت عبر مسيرتها ثلاثة لحظات تاريخية متتالية، أولها لحظة انهيار المعسكر الشرقي بكل رمزيته وأيديولوجيته في مطلع التسعينات، وما تبعها من تدفّق لموجات عاتية من ظاهرة العولمة. واللحظة الثانية، في بداية الألفية الثالثة، ممثّلة في الغزو الأمريكي لأجزاء من العالم العربي. واللحظة الثالثة، في العقد الثاني من الألفية الثالثة، ممثّلة في موجات الحراك الاجتماعي والاحتجاجي في عدة دول عربية، وما تبعها من خراب ودمار.
لذلك نعتقد أن هذه السياقات التاريخية التي خبرتها المجتمعات العربية كان لها أثر غير مباشر على مضامين المقالات والدراسات المنشورة في المجلة، فتبيّن القراءة الفاحصة لعناوينها الرئيسية انعكاسية هذه السياقات التاريخية على موضوعاتها ومفاهيمها ومقارباتها، لعل كلماتها المفتاحية تشي بذلك، نذكر منها: العولمة، حوار الحضارات، الديمقراطية، الفكر العربي، النهضة، الثقافة، التراث، الثورة، الحداثة،... إلخ.
تعتبر مجلة «الكلمة» الإطار الفني الذي تفتّقت فيه عقول الباحثين العرب، حيث كتب كل واحد منهم، وهو معتقد أنه ممسك بزمنية اللحظة التاريخية وراهنيتها، ومعبر عمّا يخالج الذات من آلام وآمال، وما ينتاب العقل من حمّى معرفية. وهنا، لسنا في مقام الحكم على مضامين الأوراق البحثية والدراسات التي نشرتها المجلة، وإنما نكتب حول ما بدا لنا من أطروحات فكرية أصيلة ضمّتها بين دفتيها، وما شكّلته من رصيد معرفي لدى القارئ العربي، وما فتحته من ورشات فكرية في قضايا تجديد الفكر العربي والإسلامي.
فكما نعلم، يدير رئاسة تحرير هذه المجلة الأستاذ زكي الميلاد، وما ذكرناه لأننا نعتقد أن هناك صلة فكرية قبل أن تكون صلة تقنية بين المجلة ورئيس تحرريها، فيعبّر الخط الافتتاحي للمجلة عن رؤية معرفية يتبنّاها زكي الميلاد وزملاؤه، تتمثل في فتح باب الحوار بين مشرق ومغرب العالم العربي، وبين مختلف نخبه الفكرية والثقافية، غايتهم في ذلك بلورة رؤية معرفية حول الأزمة الحضارية التي تعيشها المجتمعات العربية.
لذلك أقامت المجلة جسرًا فكريًّا بين مختلف الرؤى المنهجية والنماذج المعرفية والمفاهيمية. وبناءً على هذا، نطرح السؤال المركزي: ماذا قدّمت هذه المجلة للساحة الفكرية والثقافية في العالم العربي والإسلامي؟
نعتقد من وجهة نظرنا، أن مجلة «الكلمة» فتحت نافذة للحوار بين الباحثين والمفكرين العرب، فتعرفنا من خلال الأبحاث والمقالات المنشورة في هذه المجلة إلى العديد من النماذج الفكرية العربية، وقرأنا عبر صفحاتها أطروحات ومشاريع لبعض روّاد الفكر العربي، كطه عبد الرحمن، ومحمد عابد الجابري، ومالك بن نبي، حسن حنفي، أبو يعرب المرزوقي، وغيرهم، مدركين تلك الاختلافات المنهجية والمفاهيمية بين أطروحات هؤلاء المفكرين والباحثين.
مع أننا وجدنا أعمالهم يحكمها خيط ناظم؛ يتمثل في كيفية إعادة العقل العربي إلى ساحة الإبداع الفكري، ليسهم في صياغة رؤى معرفية تمكّننا من تفتيت المشكلات الحضارية والاقتصادية والسياسية.
لذلك نعتقد أن المجلة أسست لنموذج حواري فكري، يؤسس من وجهة نظرنا لمبدأ نفتقده في الساحة الثقافية العربية، ممثّلًا في نسبية الحقيقة حول قضايا الثقافة والحضارة والحداثة والتراث، ويؤسس هذا الحوار لتقاليد المحاججة العلمية، وبناء الرأي العلمي على العقلانية المنفتحة، وليس على المنافحة الأيديولوجية.
فقد قرأنا في المجلة لمفكرين ينتمون إلى اليسار، كما قرأنا لمفكرين ينتمون إلى اليمن، واستنتجنا كما يستنتج كل قارئ لبيب أن الخلاف بين هذه التيارات الفكرية، ليس إلَّا خلاف ظاهري حول بعض الجزئيات والتفاصيل المنهجية، أما المشترك بينها فهو مساحة معرفية واسعة.
لهذا لعبت مجلة «الكلمة» دورًا تقريبيًّا بين وجهات النظر والتدبير والتفكير، ففي عدد واحد مثلًا نقرأ للجابري صاحب نقد العقل العربي، كما نقرأ لطه عبد الرحمن صاحب تجديد المنهج في تقويم التراث، فتسهم هذه المنشورات البحثية في نزع القداسة عن الأشخاص، وتدخل القارئ إلى حلبة الأفكار لمناقشتها ومحاورتها.
ساهمت مجلة «الكلمة» من خلال مقالاتها المتنوّعة والثرية في التعريف بمشاريع فكرية ظلّت مطمورة في الفضاءات العربية المحلية، فعلى الأقل أسهمت في تعريف نخب وشرائح اجتماعية ببعض المفكرين العرب. فعلى سبيل التمثيل لا الحصر، يعتبر مالك بن نبي من الشخصيات الفكرية الجزائرية، التي أسهمت المجلة في نقل أفكاره إلى فئات واسعة من القراء العرب والمسلمين، ونقلت أفكاره من الفضاء المحلي إلى الفضاء الإقليمي.
كما أن المجلة كانت بداية موفّقة لبعض الباحثين العرب، قبل أن يسطع نجمهم في العالم العربي، ويصبحوا أصحاب مشاريع فكرية وازنة في الساحة الثقافية العربية، ولا نريد هنا أن نذكر أسماء بعينها حتى لا نتّهم بالإقصاء والانتقائية.
تدلّل مضامين المقالات التي تصدرها المجلة على انفتاحها على كل التيارات الفكرية والثقافية في العالم العربي، فتحرّرت نسبيًّا من سلطة الرقيب المعرفي الذاتي، وهذه نقطة مضيئة في مسيرتها؛ لأننا نرى الحرية الفكرية مدخلًا مهمًّا للولوج إلى الحرية السياسية، ومبدأً مؤسسًا للنقاش العلمي بين النخب الفكرية.
كما أننا سجّلنا ملاحظة حول المقالات المنشورة، حيث تبيّن لنا أنها موزّعة على تخصّصات معرفية عديدة، تضم أربع دوائر معرفية كبرى: الفلسفة، العلوم الاجتماعية والإنسانية، والعلوم الإسلامية، وعلوم اللغة وبيانها، وداخل كل دائرة تحضر تخصصاتها ومختلف فروعها، فيسهم برأينا تعدّد تخصصات المقالات المنشورة في المجلة في التأسيس العملي للتكامل المعرفي بين العلوم، فعندما نقرأ في عدد واحد مقالات تتوزّع على تخصصات معرفية عديدة، فإن هذا الأمر يحفّزنا كقرّاء على الاطّلاع على بعض المقالات التي تقع خارج دائرة تخصصنا، فنتجاوز النزعة التخصصية للمعرفة الإنسانية، التي من سلبياتها أنها تجعل المشتغلين داخل الدائرة التخصصية الواحدة يعتقدون أنهم يحوزون المعرفة بأكملها، وأنهم أقدر من غيرهم على الإبداع والابتكار.
في الأخير، فقد ساهمت المجلة من خلال مقالاتها وأبحاثها المنشورة في التقريب الجغرافي بين الباحثين العرب، فتكشف قراءة خاطفة للانتماءات الجغرافية للباحثين عن التنوّع والتعدّد الجغرافي لكتابها، فيسهم هذا التآنس الفكري على مستوى المجلة في تعرف الباحثين إلى أفكار بعضهم بعضًا، كما يسهم في ترحال المفاهيم من فضاء جغرافي عربي إلى آخر، ما يتوالد عنه من تلاحق فكري ومنهجي.
لذلك فمجلة «الكلمة» لها سبق معرفي في تأسيس لهذا الانفتاح الفكري الجغرافي، الذي يكون مدخلًا مهمًّا في عملية الانفتاح السياسي والثقافي بين المجتمعات العربية، فيدرك جمهور القراء أن الجغرافيا لا تعتبر معيارًا للحكم على صوابية الفكرة، بل الصواب يشتق من مجموعة الدلائل والقرائن التي تثبت مدى صحّتها المعرفية، فاكتشف قراء المشرق ما في المغرب من طاقات وذخائر فكرية، فتاريخيًّا ظلّ المشرق له حضوره في المغرب بحكم السبق المعرفي وتأسيس الحواضر المدنية.
لكننا نشاهد اليوم، أن المغرب العربي بدأ يمسك بزمام المبادرة الفكرية، وكأن الميراث الرُّشدي بدأ يمتد إليه من جديد.
شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
يحاول الكاتب محمد محفوظ في 166 صفحة أن بضيئ الحديث عن السلم الأهلي والمجتمعي، في الدائرة العربية والإسلامية، بحيث تكون هذه المسألة حقيقة من حقائق الواقع السياسي والإجتماعي والثقافي، وثابتة من ثوابت تاريخنا الراهن.
ينتمي مالك بن نبي وعبدالله شريط إلى بلد عربي إسلامي عانى من ويلات الاستعمار ما لم يعانه بلد آخر، سواء في طول الأمد أو حدة الصراع أو عمق الأثر. إنهما مثقفان عميقا الثقافة، مرهفا الشعور، شديدا الحساسية للمعاناة التي عاشها ملايين الجزائريين من ضحايا مدنية القرن العشرين، بأهدافها المنحطة وغاياتها الدنيئة.
عقد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات خلال الفترة الواقعة بين 6 و 8 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2012، مؤتمرًا أكاديميًّا عنوانه «الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي: تجارب واتّجاهات»، في فندق شيراتون بالدوحة، وشهد الافتتاح حشدًا كبيرًا من الباحثين والأكاديميّين من دول عربية.
يأتي الاهتمام بالقضية الفنية في فكر الأستاذ عبدالسلام ياسين من منطلق أن الوجود الحضاري للأمة كما يتأسس على أسس القوة المادية التي يمليها منطق التدافع القرآني أي التدافع الجدلي بين الخير والشر الذي هو أصل التقدم والحركة، يتأسس كذلك على جناح تلبية الحاجات النفسية والذوقية والجمالية بمقتضى الإيمان الذي هو ...
ثمة مضامين ثقافية ومعرفية كبرى، تختزنها حياة وسيرة ومسيرة رجال الإصلاح والفكر في الأمة، ولا يمكن تظهير هذه المضامين والكنوز إلَّا بقراءة تجاربهم، ودراسة أفكارهم ونتاجهم الفكري والمعرفي، والاطِّلاع التفصيلي على جهودهم الإصلاحية في حقول الحياة المختلفة
لا شك في أن الظاهرة الإسلامية الحديثة (جماعات وتيارات، شخصيات ومؤسسات) أضحت من الحقائق الثابتة في المشهد السياسي والثقافي والاجتماعي في المنطقة العربية، بحيث من الصعوبة تجاوز هذه الحقيقة أو التغافل عن مقتضياتها ومتطلباتها.. بل إننا نستطيع القول: إن المنطقة العربية دخلت في الكثير من المآزق والتوترات بفعل عملية الإقصاء والنبذ الذي تعرَّضت إليه هذه التيارات، مما وسَّع الفجوة بين المؤسسة الرسمية والمجتمع وفعالياته السياسية والمدنية..
لم يكن حظ الفلسفة من التأليف شبيهاً بغيرها من المعارف والعلوم في تراثنا المدون بالعربية، الذي تنعقد الريادة فيه إلى علوم التفسير وعلوم القرآن والحديث والفقه وأصوله، واللغة العربية وآدابها، وعلم الكلام وغيرها. بينما لا نعثر بالكم نفسه على مدونات مستقلة تعنى بالفلسفة وقضاياها في فترات التدوين قديماً وبالأخص حديثاً؛ إذ تعد الكتابات والمؤلفات في مجال الفلسفة، ضئيلة ومحدودة جدًّا، يسهل عدها وحصرها والإحاطة بها.