شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
رمزية عنصر النار
بين الزرادشتية والإسلام
فاتن محمد خليل اللبون*
باحثة من لبنان.
- رسالة ماجستير في الفلسفة والإلهيات
- عنوان الرسالة: رمزية عنصر النار في الفكر الديني: دراسة تحليلية مقارنة بين رؤيتي الزرادشتية والإسلام
- إعداد الباحثة: فاتن محمد خليل اللبون
- إشراف: الدكتور حسن خليل رضا
- عدد صفحات الرسالة: 203
- تاريخ المناقشة: 10 سبتمبر 2018م
ﷺ المقدِّمة
يقف المرء حائرًا حين يرى كل هذا التراث من المقدّسات في الأديان، وتتزاحم الأسئلة في الذهن: ما هو أصل هذه المقدّسات؟ وهل ترجع كلها إلى مصدر واحد؟ وهل انتقلت عبر الإنسان من دينٍ إلى آخر، أم أنَّ الأديان كلها ترجع إلى دين واحد، وبالتالي فالمقدّسات واحدة؟
ولكل أصحاب ديانة مقدّسات خاصّة بهم، ولا يرضون أيَّ انتهاكٍ لها، ونرى أن كل ديانة تعمل على إحاطة مقدَّساتها بنوعٍ من التَّبجيل، وتعدُّها المحرَّم الغليظ الذي لا يجوز المساس به.
فالبعض يرى أنَّه لولا وجود المقدَّس في حياة الإنسان لتحوَّل الإنسان إلى كائنٍ أنانيّ ووحشيّ؛ إذ إنَّ هناك علاقة حقيقية بين الإنسان المؤمن بمقدَّس ما وهذا المقدّس، وكلَّما كانت العلاقة وطيدة أكثر كان الإنسان متعاليًا أكثر عن العالم المادي، ومرتبطًا بالعالم الماورائي، متساميًا بروحه إلى الأعلى، مبتعدًا عن الأنانية، مترفِّعًا عن العالم المحسوس، ويتحرَّر منه نحو مدارج الكمال والرقيّ المعنوي.
وربما تتَّسع دائرة المقدَّس عند بعض أصحاب ديانةٍ ما، وتضيق عند أخرى، إلَّا أنَّ الأمر المشترك بين كافة الديانات أنَّها دعت إلى تقديس أمورٍ محدَّدة، باعتبارها متعالية على الفهم والنقد، من جهة، ومن جهةٍ أخرى، باعتبارها رمزًا لأمور ماورائيَّة، فهي من دقائق الدين وجوهره وروحه، فوراء المقدَّسات حقيقة ميتافيزيقيَّة لا يتسنّى للمعرفة المادية الإحاطة بها وإدراك كنهها، وهذه النظرة الميتافيزيقيَّة تحوي الكثير من التصوّرات المتحرِّرة من الزمان والمكان، وترخي بظلالها على عقيدة المؤمن بها.
-1-
التعريف بموضوع البحث
لقد كان لعنصر النار دلالة وبعد قدسي بدءًا من الديانات القديمة، وصولًا إلى الديانات السماوية، أضف إلى ذلك أنَّ عنصر النار احتلَّ في الفلسفة حيّزًا مهمًّا، وتوسَّعت النظريات حولها، وحول رمزيتها في كافة الأديان والفلسفات، بما فيها الدين الإسلامي، وقد عدَّت الديانة الزرادشتية من أبرز الديانات التي قدَّست النار حتى اتُّهِم أصحابها بعبادتهم لها.
أما السبب في إعطاء النار أو غيرها بعدًا قدسيًّا، فهو نابع من تجلي «الإلهي» فيها، ولا ندري إذا ما كان لهذا التجلي علاقة بالأسطورة التي دخلت إلى الثقافة الدينية أم لا، وقد ترافق هذا الارتباط بين الرمز والإله، مع مرور التاريخ الديني، ونستطيع القول: إنه لم يكن هناك دين إلَّا ودخل الحلول أو الرمز الإلهي معه، ففي بلاد الرافدين كان الرمز الإلهي عبارة عن حزمة من القصب ذات رأس ملفوف تتدلى منه راية، وفي بلاد كنعان كانت عبارة عن عمود حجري ينصب في المحراب، وفي تاريخ آخر كانت التماثيل التي تصنع من الحجارة، ويتلى لها طقوس خاصة تمثِّل تجليًا للألوهة.
فلم تعبد الأصنام إلَّا بما تمثِّله من رمز يتجلى الله فيها، فهم يدَّعون أن الإله حلَّ في هذا التمثال حيث يؤدّي العابدون طقسًا معينًا بعد جلب التمثال إلى المعبد أو إلى محراب العبادة، فتجتاز هذه القطعة الحجرية من الرمز الدنيوي إلى الرمز الإلهي، فيصبح عندها مقدّسًا.
وعبادة النار ما هي إلَّا شكلٌ من أشكال هذا التجلّي الإلهي، وما عُبدت إلَّا جرّاء هذه الأسباب، حيث يُمارَس عليها طقوسٌ معينًة كي تعبر من الدنيوي إلى القدسي، فليست أيّة نار تُقدَّس وتُعبد، بل ينبغي أن تمارس طقوسٌ معينة تقود إلى تجلي الإله في المكان (أي النار)، فالنار هي بمثابة إشارة تتيح التحوّل إلى دلالة مقدّسة، تحوِّلها إلى عالم الألوهة، فالعابد لا يجثو أمام هذه النار بما هي نار، بل بما ترمز إليه وتشير، إلى ما لا يستطيع العقل التعامل معه إلَّا بتوسيط الرمز والإشارة، فالعقل البشري عاجز عن الإحاطة بكافة تفاصيل الألوهة الخارجة عن المحدود.
فقيمة هذا التجلي إنما يكمن في أنَّه خارج الملموس والمحسوس، والعقل البشري يتوق إلى الماورائيات، فمثل هذا الإلهي يصبح صورة في الذهن البشري، حيث يصبح قادرًا على استيعابه.
ولعلَّ منشأ أيّ تقديسٍ من قِبَل الإنسان لشيءٍ معيَّن، هو عبارة عن محاولات لتفسير الظواهر التي تحيط به، والتي لا يعرف لها سببًا، أو يريد تجنُّب أمورٍ مخيفة، فيلجأ إلى أمور أخرى، يعتقدها تتضمَّن قوى أكبر من تلك، فيمتزج الخيالي بالمادي، والوهم بالمحسوس.
ولا يوجد بين أيدينا نص موثوق يعطي صورة متكاملة عن بدء عبادة النار، ومنشئها، وفحوى هذه العبادة الميثولوجي، فمنهم من عزاها إلى العامل النفسي، ومنهم من عزاها إلى الأديان القديمة التي اعتبرتها تجليًا للإله، ومنهم من عزاها إلى الأساطير الإغريقية، والتي سُرِقت من جبل الأوليمب عبر الإله «بروميثيوس» لمنحها للبشر، بما تمثّله من أقوى قوة من مظاهر الطبيعة، فليس هناك ما هو أقوى منها.
فالإنسان منذ وجوده على سطح الكرة الأرضية حاول أن يلجأ إلى كائنات غير طبيعية تحميه من مظاهر الطبيعة، وجاءت الأديان لترفد ذلك، ولكنه وجد نفسه بعيدًا عن إله لا يراه ساعة يشاء، فأحبَّ أن يحسّه ويلمسه، فجاءت الرموز والدلالات على الإله، ومن بين هذه الرموز النار، ربما لأنها العنصر الأقوى في الطبيعة، فمن غير المعقول انتشار هذه الظاهرة -وهي ظاهرة تقديس النار- لدى كل الشعوب عن طريق المصادفة، ودون أن يكون لها جذور في الفكر الإنساني البدائي، أو الفكر الإنساني الديني، فالنار يُلجأ إليها في شتى المناسبات، بدءًا من ثقافات الشرق القديم، والفلسفة الإغريقية، ولدى كل الشعوب، عبر طقوس وممارسات عديدة، لا حصر لها، كشفاء المرضى، ولتأمين محصول زراعي جيد، ولطرد الأرواح الشريرة، ولتزويج العازبات، وللحصول على الأولاد، وربما اختلفت هذه الطقوس، من حاجة إلى أخرى، ومن قوم إلى قوم، ولكن الشيء المشترك بينها أنها طقوس تتعلّق بالنار، باعتبارها الوسيط، إلى غير ذلك من الطقوس التي تؤدَّى في المعابد، سواء معابد الديانات السماوية، أو غيرها، إذ تعدّ الوسيط بين الله وبين الإنسان، إما باعتبارها تجليًا للإله، وإما باعتبار أن لها قدسية معينة بشكل مستقل.
على ضوء ما تقدَّم، توجَّه الإنسان إلى تقديسها أولًا، ثم وصل به هذا التقديس إلى عبادتها، ولم يكتفِ بعبادتها، بل مارس لها طقوسًا معينة سواء قديمًا وحديثًا، ليتجنَّب شرها، ويحتمي بها من شر الآخرين، ومن شر الطبيعة، فدخل إلى عبادتها ممارسات أشبه ما تكون بممارسات سحرية، ولا نعلم منشأ اختلاط الطقوس السحرية بالطقوس الدينية، حيث إن الإنسان في هذه الطقوس السحرية اعتبرها توسيطًا للإله، إلى درجة أصبحت شخصية الإله شخصية غائمة، مبهمة، لا تكاد تُعرف إلَّا من خلال المتجلّى، أي النار، فيتم جذب الإله بواسطة هذا المتجلّى، واستنهاضه واستقدامه من خلال الطقوس التي تُمارس للنار، فهناك تمازج وتداخل يصعب التفكيك بينهما، لذلك كان لا بد من الاسترداد التاريخي لمعرفة منشأ هذه الظاهرة.
ولطالما قُدِّمت القرابين للنار، فكانت حيوانات القرابين تحرق على منصات خاصة ليصعد دخان المحرقة إلى مساكن الآلهة، ويزوِّدهم بالغذاء اللازم لهم.
ولطالما كان يحرق جثمان الموتى بالنار، باعتبار أنها عنصر مطهر للنجاسات الدنيوية المعنوية والمادية.
ولطالما قُدِّمت الصلوات للنار في معابد النيران التي انتشرت على وجه المعمورة، وهي من الطقوس الروتينية الأساسية، في معابد النيران، ويعود زمن انتشارها إلى ما قبل الديانة الزرادشتية المتهم الأساس بعبادة النار.
ويذكر التاريخ أنَّ تقديس النار قد بدأ مع بدايات الفلسفة الأولى في الفلسفة الشرقية القديمة التي سبقت الفلسفات الإغريقية، فاعتلت النار مركزًا مرموقًا في الفلسفة المصرية الدينية القديمة، ألا وهي النار الأثيرية التي هي أصل العالم عندهم، ثم في الفلسفة اليونانية، حيث ذهب هيراقليطس إلى أنَّ النار أصل العالم (540 - 475 ق.م)، وهي التي صدرت عنها الأشياء، وليست هذه النار المحسوسة الماديّة، بل هي نار إلهيّة لطيفة، أزليّة، أبديّة، ماورائيّة، وسيأتي يوم لن يبقى إلَّا النار، حتى إنَّ النفس هي قبس من النار الإلهية، وتدبِّر الجسم كما تدبِّر النار العالم، ثمَّ بعد العروج على أفلوطين في تاسوعاته، حين اعتبر أنَّ العقل والنفس بمنزلة النار والحرارة، فالعقل هو النار، والنفس هي الحرارة المنبثة من النار، مرورًا بالديانة الزرادشتية، التي جعلت للنار قدسية لم يجعلها أحدٌ غيرها، ثم الديانة المسيحية، وبعض الطقوس عندهم في بعض أعيادهم، كعيد جميع القديسين وعيد الفصح، وارتباط هذه الطقوس بالنار، وصولًا إلى الديانة الإسلامية، وما جرى على ألسنة فلاسفة المسلمين في شأن عنصر النار، لاسيما «السهروردي» زعيم الفلسفة الإشراقية الإسلامية، وما ذكره ابن عربي في فتوحاته من أن مبدأ وجود هذا الكون النار، وسيأتي يوم تعود كل الأشياء إلى أصلها الأساس، ألا وهو النار.
ومن هذا المنطلق، فإن الباحث يجد نفسه مضطرًا لإعادة ترتيب هذه العبادة أو التقديس تاريخيًّا، كي يصل إلى نتيجة أقرب ما تكون إلى الإجابة عن هذا الموضوع.
-2-
أسباب اختيار الموضوع
يمكن القول: إن أي باحث إذا ما عرج أثناء مطالعته على عبادة النار ورمزيتها أو قدسيتها، فإن فضوله العلمي يتأجَّج لمعرفة المزيد عن هذا الموضوع تاريخيًّا، وقد راودتني هذه الفكرة أثناء مطالعتي كتاب «حكمة الإشراق» لـ«السهروردي»، وأيضًا أثناء مطالعتي لبعض المصنَّفات التي تحدثت عن قدسية النار ورمزيتها منذ بدء البشرية، ككتاب «أساطير إغريقية»، مما تولّد في داخلي دوافع ذاتيّة من جهة، ودوافع موضوعيّة من جهة أخرى.
أ- الدوافع الذاتية: وهي عديدة
أوّلها: فضولي في البحث عن اكتشاف سبب تعظيم النار عند الإنسان البدائي، فهل كان خوفه منها هو الدافع باعتبار أنها من أقوى مظاهر الطبيعة، التي تخيف الإنسان، حتى قبل أن يكتشف كيفية إشعالها، كما يقوى ذلك عند ارتباط أقسى مظاهر الطبيعة بالنار، كالبراكين، وكحدوث البرق حيث يعقبه الرعد، كل هذا يشكِّل عاملًا يخيف الإنسان من هذه الظاهرة، أو عند رؤيته لغابات تحترق أمام ناظريه لأي سبب كان.
ثانيها: شعوري الداخلي أن الأديان السماوية كانت السبب المباشر لرمزية النار من خلال تحذيرها من عذاب الله الأخروي الذي يتجلّى في النار، وفقًا لما جاء به الأنبياء على مرّ التاريخ، حيث تولَّد شعورٌ بالخوف عند كافة بني البشر من النار، واندثر بمرور الزمن الخوف من الإله الذي يعذِّب بالنار، وبقي الخوف من النار وحده، فبات الجميع يعظِّمها خوفًا منها، وبالتالي يقدِّسها.
ثالثها: بعد اطِّلاعي على الفلسفة الإشراقية التي تقول بقدسية النار، بحسب رؤية زعيمها «السهروردي» الفارسي الأصل، لاحظت أنه قد حاول بذلك أن ينفي عن الزرادشتية صبغة عبادتها للنار، بغية إثبات أنها ديانة توحيدية سماوية، فما كان منه إلَّا القول بوجوب تقديس النار، سواء كانت عقلية روحانية، أم عرضية جسمانية، حيث إنها واجبة التعظيم من الله تعالى نور الأنوار؛ إذ هي مرتبة من النور الذي هو أصل الوجود، فهل انفردت الفلسفة الإشراقية بهذا الرأي؟ أم هناك ما يشير إلى قدسية ما للنار في النصوص الدينية الإسلامية.
ومنذ ذلك الحين وأنا أطوف بين كتب الفلاسفة على اختلاف مشاربهم، وبين المصنَّفات التي تناولت الديانة الزرادشتية، وأنا على يقين بأني لن أتمكَّن من الوصول إلى نتيجة يقينيّة إلَّا بعد أن أعبر بابًا تلو بابٍ في البحث والدراسة حول هذا الموضوع:
فما هي رمزية النار لدى كافة الأديان؟ وكيف نظر إليها الفلاسفة، القدماء منهم، والحديثون؟
ب- الدوافع الموضوعية
بعد هذا الإبحار بين الكتب الفلسفية والدينية التي تناولت النار، أحببت أن أجسِّد رحلتي في رسالتي هذه، والّتي قد تُغني الباحث في هذا المجال، وخاصَّةً بعد أن تبيَّن لديَّ أنَّ المجتمعات الدينية قد امتزجت فيها العناصر الأسطورية بالجانب المقدّس أشدَّ الامتزاج، أما أهم الدوافع الموضوعية لاختياري عنصر النار تحديدًا:
الدافع الأول: اختياري لعنصر النار تحديدًا، فهو لما يحمله هذا العنصر من رمزية لدى بعض الرؤى الفلسفية، ومن قدسيَّة لدى بعض الديانات، ومن امتداد لجذورها بطريقة غير مشروعة إلى الدين الإسلامي، فتوسَّع في مجال هذا الدين من قِبَل بعض الفلاسفة والأعلام، ومنحوه معنىً وقيمةً، فقط، ليتماهى مع ما ينسجم مع ميولهم الفردية الفكريّة.
الدافع الثاني: قد يكون الدافع الأكبر لاختياري عنصر النار ورمزيَّته، هو ندرة المصادر والمراجع في مكتبتنا العربية والإسلامية، التي كان هذا الموضوع محورًا لدراستها، ومحلًّا للبحث عنه، لا سيما ما يتوافق مع النظرة العقائدية الإسلامية، أما المكتبات الأجنبية فقد حفلت بتناول هذا الموضوع من مختلف جوانبه، ما شكَّل لديَّ حافزًا إضافيًّا لاختياره والعمل عليه، والاهتمام به، كي أخلص بنتيجة، لعلها تكون غنًى للمكتبة العربية والإسلامية، وذلك بعد أن أعكف على دراسة هذا الموضوع من كافة جوانبه.
وقد أحببت أن أشارك الباحث في هذا المجال المعرفي تجربتي، من خلال هذه الرسالة التي بين أيديكم، وموضوعها «رمزيّة عنصر النار في الفكر الديني»، فقمت بمعالجته بشكل فلسفي وتاريخي وديني، والعروج على كافة تفاصيله.
-3-
إشكالية البحث
انطلاقًا ممّا تقدَّم، هناك الكثير من أوجه الشبه في الرؤية الاعتقادية للنار بين مختلف الأديان، فالديانة المصرية القديمة تحدّثت عن النار الأثيرية، وبعض الفلاسفة اليونانيين اعتبروا أن النار أصل الوجود، ورؤية الديانة الزرادشتية في أن النار تمثّل تجليًا للإله، لذلك هم يتوجّهون لها أثناء عبادتهم، والديانة اليهودية التي اعتبرت أن الله تجلى في عمود من نار، وكذلك الديانة المسيحية في بعض طقوسها الخاصة بالنيران، والفلسفة الإشراقية في الديانة الإسلامية تدَّعي أنَّ النار المادية دلالة على نار أخرى عظيمة.
إذًا، فإننا نرى تأكيدًا لتفضيل عنصر النار على سائر العناصر الأخرى في معظم الديانات، وصولًا إلى النص الديني الوارد في القرآن الكريم الذي لم ينفِ هذه الأفضلية.
ثم إن الآيات القرآنية قد أوحت للقارئ في ألفاظها ومعانيها، بنوع من القدسية للنار، كما في قوله تعالى: {إِنِّي آنَسْتُ نَارًا.... إلى أن يقول: إِنَّكَ بِالوَادِ المُقَدَّسِ طُوًى}، وكما جاء في قوله تعالى: {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا...}.
وفي السياق عينه، برز بعض الفلاسفة الإسلاميين وعلى رأسهم زعيم الفلسفة الإشراقية السهروردي، فاستقى من تلك الآيات وغيرها ما دعاه إلى القول بقدسية النار، ليثبت فيما بعد أن الديانة الزرادشتية لها جذورها التوحيدية القريبة إلى الإسلام، وقد أنشأ منظومة وجودية تشبه في نسقها إلى حدٍّ كبير النسق الوجودي في الزرادشتية، في اعتبار مصدر الوجود قائم على مبدأ النور.
فهل يتقاطع الإسلام في نظرته إلى رمزية عنصر النار وقداستها مع ما حملته الزرادشتية من تصوّر حول ذلك، ما دام مصدر الديانتين سماويّ، أم أن هناك تباينًا في الرؤية بينهما نشأ عن خلل أو تحريف في النصوص أو فهمها، بحيث أخذت النار في الزرادشتية بعدًا رمزيًّا لا يرتضيه الموقف الإسلامي؟
-4-
التساؤلات المنبثقة عن الإشكالية
من خلال الإشكالية التي تقدَّمت، تنبثق تساؤلات عديدة، من المؤكَّد أننا لن نجد تفسيرًا لها إلَّا بالغوص علميًّا، وتاريخيًّا، للوصول إلى ما نلتمس إليه من حقائق، ومن أهمها:
- هل يتلاقى الدين والأسطورة والفلسفة والعلم في رؤيتهم لعنصر النار؟ وما هي تحديدًا نظرتهم للنار؟
- هل اتخذ عنصر النار دلالة وبعدًا مميزين لدى الديانة الزرادشتية، بحيث تحمل الرؤية الدينية الزرادشتية للنار منحى لاهوتيًّا ورمزًا إلهيًّا؟ وهل النار المادية هي المقدّسة بحدِّ ذاتها، أم هي دلالة على نار أخرى غير محسوسة؟
- هل تشكّل النار بعدًا قدسيًّا في الدين الإسلامي؟ وما هو وجه احتجاج إبليس بأفضلية وأشرفية عنصر النار على سائر العناصر، حين قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}؟ ثم ما هي حقيقة النار الأخروية وخصائصها؟
-ما هي جوانب الاتفاق بين مفهوم النار في الإسلام ومفهوم النار في الزرادشتية؟ وجوانب الاختلاف بين تلكما الرؤيتين؟
-5-
فرضيات البحث
سوف يتبدَّى لنا من خلال هذا البحث ما يمكن أن يكوِّن إجابات كافية عن تلك التساؤلات التي تقدّمنا بها، بدءًا من الأسباب والدوافع التي قادت إلى اعتبار النار مقدّسة سواء في الأساطير، أو الفلسفة، أو الدين، أو العلم.
فسيتبيَّن لدينا أولًا: رؤية الديانات الفلسفة القديمة للنار، وكيفية اعتبارها الأساس والمبدأ لهذا الوجود الكوني، وكيفية موافقة العلم الحديث لهذه الرؤية. وفي السياق عينه، سيبرز لدينا خصوصية النار على مرّ التاريخ من خلال ما تستخدمه سائر الشعوب لدى مختلف الحضارات التاريخية من طقوس معينة ترمز إلى أهمية النار وفاعليتها في النظام الكوني.
ثانيًا: تقديس النار في الديانة الزرادشتية بما تحمله من أسرار لاهوتية، ومزايا غيبية لا يستطيع العقل البشري العادي الإحاطة بكافة تفاصيله، بما تمثّله من رمز وتجلٍّ لإله النور.
ثالثًا: اقتباس زعيم الفلسفة الإشراقية الإسلامية مبدأ النور من الديانة الزرادشتية وتوليفها مع القرآن الكريم، وجعل مكانة خاصة ومقدّسة للنار حيث عدَّها من مراتب النور التي تقوم منظومته الفلسفية على أساسها، وقد دعمته بعض النصوص الدينية في توليفته تلك، وخالفته نصوص أخرى.
رابعًا: لا نستطيع أن ننفي أن هناك جوانب عديدة تتّفق فيها الديانة الزرادشتية مع الديانة الإسلامية، ومن بينها الجانب التقديسي للنار عند بعض فلاسفة الدين الإسلامي، كما أن هناك جوانب اختلاف كثيرة بين الديانتين لا نستطيع تجاهلها، لا سيما في موضوع قدسية النار.
-6-
أهداف الموضوع
أ- شخصي، ويتعلّق بما جال في خاطري من تساؤلات وإشكالات، فأردت الخوض في غمار البحث كي أصل إلى إجابات عن كلِّ تلك التساؤلات.
وقد حاولت جاهدةً الإعراض عن اتِّخاذ أيِّ موقفٍ من هذه الفلسفة أو تلك، أو هذا الدين أو ذاك، تجاه رؤيتهم الفلسفية أو الدينية في النار، حتى لا يضيع الهدف الأساس من الرسالة، وهو البحث المجرَّد عن أيّ ميول دينية، وحتى لا أفرض حكمًا مسبقًا على قراءتها، فآثرت الحياد في كافة الفصول، إلى أن وصلت إلى الخاتمة، فكان الجواب والحكم النهائي في مضمونها، كي لا أُتَّهم برؤيتي المسبقة على كتابة الرسالة.
ب- إغناء المكتبة الإسلاميّة، والعربيّة، بمثل هذه الأبحاث، التي تعمل على إيجاد بنية تحتية ثقافية قوية، لا تتأثّر بالعواطف، ولا تجعل للفكر قيدًا أو شرطًا، بل لا ترضى إلَّا بالدليل والمنطق والبرهان، لإثبات صحّة هذا الرأي أو ذاك، أو الحكم عليه نفيًا أو إثباتًا. وبعبارة أخرى: الاحتكام إلى لغة العقل والمنطق العلمي، فلا نخضع لغة العقل والفكر لأي قيد أو شرط في حوارها الفكري، سواء كان دينيًّا، أم غير ذلك، لتمييز الغثّ من السمين، والمقدَّس الأصيل من الموضوع في الموروثات العقائديّة والدينية.
ج- إلقاء الضوء على كثير من الأمور التي اعتُبِرت حقائق، وقد نسجتها خيوط تاريخ طويل من الجهل بالآخر، ينبغي التخلُّص من الخضوع والاستسلام لها، بل ينبغي التعامل معها وفق نمط موضوعي، وإثبات صحة الاتِّهام أو سقمه لهذا الدين أو ذاك؛ إذ إن أصحاب كل ديانة إنما يحكمون على أصحاب ديانة أخرى ومعتقداتهم لا من خلال علمهم اليقيني بها، بل من خلال الظن، والظن لا يغني من الحق شيئًا، بالإضافة إلى إيضاح العقيدة ووضعها في مضمارها المناسب.
د- عدم استهداف الآخرين الذين يلتزمون قناعات معينة، بحيث إن كل أصحاب ديانة تريد من الآخرين سلب قناعاتهم، أو الانتقال من موقع ديني إلى موقعٍ آخر. فمن أهداف هذا البحث أيضًا محاولة القول: أن نبتعد عن الانغلاق على الثقافات والحضارات الأخرى، ونتقبل الآخر كما هو في عقائده وأفكاره.
هـ- التسليم فقط لليقينيّات الناشئة من العلم المنبثق عن العقل، وليس معنى ذلك التخلّي عن الدين، بل إنّ الممارسات الدينية ينبغي أن تخضع للجانب العقلي الفطري؛ لأن ما سوى ذلك يشكِّل ثغرة في جسم الإنسان المؤمن، أو المجتمع المؤمن، ولا يبقى أمام الإنسان في عصرنا الحالي إلَّا طريقان: طريق الدين المصاحب للتخلُّف والجهل. والطريق الثاني: طريق العلم الذي يرفض الكلام عن أي حقيقة دينية. فلا هذا ولا ذاك.
فالعلم والدين ليسا متعارضين، بل ينبغي أن يُوضعا في خطِّ سيرٍ واحد، يرفد أحدهما الآخر في حركة متَّصلة منضبطة. أما عكس ذلك، فهو الإفراط في تناول المقدّسات، وبالتالي شرود المرء عن الأسس التي يستند إليها العقل الإنساني السليم، وعدم قدرة الإنسان المؤمن بمقدّسات معيَّنة، مواكبة التحوّلات والتطوّرات العلميّة المتسارعة في زماننا؛ لأن أمثال تلك المقدّسات التي لا تستند إلى أساسٍ متين، تفتقد إلى الحقيقة العلمية.
و- الالتفات والانتباه إلى تفسير منشأ تقديس أي مقدَّس بحيث يكون أساسه الأسطورة، أو الدين، فلكلٍّ منهما مجال غير مرتبط بالآخر؛ لذا، علينا التمييز بينهما، وإلَّا وقعنا في الخلط الذي يؤدّي إلى فوضى ثقافية، واضطراب معرفي، ما يؤدّي إلى الوهم والابتعاد عن العقلانية، والقطيعة مع الإلهيات الحقيقية، ممّا يتجلى في الرؤية الفكرية للإنسان، حيث تصبح مشوشّة، ولا يمكن السيطرة عليها علميًّا، وتتلاشى لدى الإنسان منظومة إيمانية ثابتة، تحكمه وتحاكيه بطقوسٍ حقيقية، ذي شعائر تتوافق مع الفطرة الإنسانية.
-7-
أهمية الموضوع
تقوم فلسفة عبادة النار وتقديسها في الفلسفات والديانات القديمة، وكذلك الحديثة، على رؤى متنوّعة، فربما كان الهدف من ذلك تجنُّب خطرها، وربما كان الدافع لتقديسها اعتبارها تجليًا للإله، كما في الديانة الزرادشتية، بل ربما كان الدافع لتقديسها أنها الأساس في بداية هذا الكون، كما في الفلسفة المصرية القديمة، أو ربما انبثق سبب تقديسها من كونها مرتبة من مراتب النور كما ذهب إلى ذلك السهروردي.
فكان لا بدَّ من البحث حول مدى الارتباط بين كل هذه الرؤى، لا سيما الارتباط بين الديانة الزرادشتية والديانة الإسلامية في رؤيتهم لعنصر النار، عسى أن يُثمر هذا الموضوع، فيكون مدخلًا نعبر منه إلى أبحاث أعمق حول تاريخ المقدّسات لدى كافة الأديان، وعباداتها، لا سيما العناصر الأربعة، كعنصر الماء، الذي احتلَّ أيضًا حيِّزًا مهمًّا في الرؤى الفلسفية والدينية، بشرط أن نستنفد الكثير من الطرق والسبل البحثيّة، على أن تكون الخطوة الأولى في هذا المسير العلمي، التحرُّر من التقليد الفكري الأعمى لكافة الموروثات العقدية، والاحتكام إلى لغة العقل والمنطق العلمي، لتمييز الغثّ من السمين في تلك الموروثات التقليديّة، والإنصاف في الحكم قبل إطلاقه على هذا المفهوم أو ذاك، سواء كان سلبًا أو إيجابًا، وتمييز المقدَّس من الأسطورة في الموروثات الدينية، ووضعها في مضمارها المناسب.
ونستطيع القول: إنَّ هذا العالم قد امتزجت فيه الحضارات والثقافات، وتلاقحت فيما بينها، حتى توارثها الأجيال بعضهم عن بعض، ووصل الأمر بهم أن غدا كل مقدَّسٍ لدى أصحاب ديانة معيَّنة مقتبسًا من أصحاب ديانةٍ أخرى، بفعل اتِّصالهم بعضهم ببعض زمانًا ومكانًا، لا سيّما مع التنازلات الكثيرة من قِبل ذوي الديانات، فقط، لتتوافق عقائدهم مع ما أعجبهم من هذا الدين أو ذاك، فكانت التربة خصبة لزراعة مقدَّسات لا تمتُّ إلى مقدِّسيها بأيّ صلة دينية، سوى إعجابهم الفكري بها، فكان أن أسقطوها على رؤاهم وعقائدهم، ونسبوها إلى دينهم.
وفي هذا السياق، تندرج رمزيّة عنصر النار وتقديسها تحت المقدّمة التي ذكرناها، حيث ساد هذا العنصر على سائر العناصر الأخرى؟ بدءًا من الفلسفة اليونانية، والديانة الزرادشتية، والديانة المسيحية وغيرها من الأديان، وصولًا إلى الديانة الإسلامية، فكان أفضلية عنصره على سائر العناصر الأخرى.
ومع مرور الزمن نرى أن العقل البشري، وبحكم تطوُّره، قد بدأ يوجد تفسيرات لهذه القدسية، فمنحها تفسيرات، ونسج لها مبرّرات نفسية ودينية، حيث اعتبر أنَّ مثل هذا التقديس ليس لقيمة الشيء المحسوس المادي، بل بما يمثِّله، حيث له حقيقة لا ندرك كنهها بما هو محسوس، بل إن حقيقته إما ماورائيّة غيبيّة، وإما نفسية خاصّة بسيكولوجية الإنسان.
إلى جانب هذا، فقد أوحى بعض المفسرين أن القرآن الكريم قد أشار إلى قدسية ما للنار، وذلك في سورة طه، عند حكاية قصة موسى، وبدء نزول الوحي عليه، وإلى أفضلية عنصر النار على سائر العناصر الأخرى، كما جاء في القرآن الكريم حاكيًا عن قول إبليس حين أمر بالسجود لآدم: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}، وقد دعمت هذه الآيات وتفاسيرها ما جاء على لسان الفلاسفة من أفضلية عنصر النار، وما جاء على لسان السهروردي زعيم الفلسفة الإشراقية في أن الوجود مقسوم إلى قسمين: النور والظلمة، فمن نور الأنوار تتنزل مراتب الوجود، والنار هي مرتبة من مراتب هذه الأنوار، وصولًا إلى الجواهر الغاسقة، وكذلك الحال بالنسبة للرؤية الوجودية للديانة الزرادشتية التي قالت بثنائية الوجود: النور والظلمة.
-8-
نقد الدراسات السابقة
لا يوجد في مكتباتنا دراسات أجريت حول رمزية النار لدى المسلمين بشكلٍ خاص، أما ما يتعلّق بقدسية النار لدى الديانة الزرادشتية، فإن الدراسات التي أجريت، كانت حول الديانة الزرادشتية بشكل عام، وتطرّقت فيها إلى موضوع تقديس النار لديهم، أما موضوع رمزية النار بشكلٍ عام، فهناك أيضًا ندرة في الدراسات حولها، ولعل من أبرزها:
- كتاب «الغصن الذهبي» الذي قدَّم دراسة لا بأس بها حول تاريخ قدسية النار لدى الشعوب كافة، ولكن لم يبحر في تفسير هذه الظاهرة، والغوص في عمقها دينيًّا، وقد تناوله من الجانب النفسي، وهو يقيم تحليله النفسي للنار دائمًا على أساس المنفعة، كنيران طلب الحاجة، ونيران لتزويج العازبات، ونيران لتقي الإنسان من الأمراض، وأخرى لضمان محصول جيد، وقد ركَّز كثيرًا على موضوع الاسترداد التاريخي لظاهرة تقديس النار عبر العصور، ولدى كافة الأديان. ومما لا شكَّ فيه أنه تميّز بالغنى الموضوعي لتاريخ تقديس النار عبر العصور ولدى مختلف الشعوب، مما يغني الباحث كثيرًا من خلال إلقائه الضوء على هذه الظاهرة وأسباب ذلك، ولكن لم يتعرّض لدلالة النار في الديانة الزرادشتية، إذ لها مجالاتها الخاصة بالبحث في الديانة الزرادشتية، وهذا ما وضعناه على بساط بحثنا، إضافة إلى دلالة النار وأفضلية عنصرها على سائر العناصر في الديانة الإسلامية.
- كتاب «النار في التحليل النفسي» لغاستون بشلار، وقد بحث موضوع النار من الناحية النفسية، منذ الإنسان البدائي، فدرس العقلية البدائية في تعاطيها مع النار، وفي الأساطير الإغريقية، وقد تولّى دراسة هاجس النار فلسفيًّا، وعزا سبب تعاطي الإنسان معها إلى الجانب الجنسي في معظم الأحيان، فمجال دراسة هذا الكتاب تتمحور حول موضوع النار من الناحية النفسية، وهذا مغاير لما قمنا ببحثه في دراستنا التي بين أيديكم؛ إذ قمنا بالبحث حول مفهوم النار في الديانة الزرادشتية ومقارنتها مع مفهوم النار في الديانة الإسلامية، وتبيان جوانب الاتفاق والاختلاف في كليهما.
- وكتاب «الرموز في الفن - الأديان - الحياة» لفيليب سيرنج، يتناول فيه كافة الرموز، في كافة الأديان ولدى جميع الثقافات، منذ إنسان ما قبل التاريخ، وصولًا إلى العالم الحديث، سواء المقدّسة وغير المقدّسة، قديمًا وحديثًا، فكانت النار رمزًا من تلك الرموز، التي تم إلقاء الضوء عليها في فصل مخصص لها.
أما محور دراستي فإضافة إلى تناول رمزية النار لدى جميع الثقافات والديانات عبر العصور التاريخية، فقد تعرّضت إلى قداسة النار ورمزيتها وأفضلية عنصرها على سائر العناصر من وجهة نظر دينية زرادشتية وإسلامية، وجوانب الاتّفاق والاختلاف بينهما.
- وقد احتوى كتاب «الزرادشتية الطقوس والتحوّلات» على خصائص الديانة الزرادشتية، حيث تطرَّق إلى موضوع تقديس النار، وقدم تفسيرًا لا بأس به حول معنى قدسية النار ورمزيتها في الديانة الزرادشتية، وقدَّم أيضًا مقاربة لا بأس بها، بين الديانة الإسلامية والديانة الزرادشتية في الكثير من معتقداتهم الدينية، إلَّا أنه لم يتطرّق إلى جوانب الاتّفاق والاختلاف في مفهوم النار بين الديانتين الإسلامية والزرادشتية، وهذا ما تعرّضت له في دراستي.
- هذا فضلًا عن الكتب التي تمحور بحثها وموضوعها حول الديانة الزرادشتية فقط، وما تحويه من معتقدات، ومناقشة الديانة الزرادشتية بكافة عقائدها وتعاليمها، ككتاب «زرادشت الحكيم حياته وفلسفته»، وكتاب «زرادشت والزرادشتية»، وما سوى ذلك من كتب فلسفية ودينية، لم يحتل موضوع النار حيّزًا مهمًّا فيها، ككتاب «حكمة الإشراق»، فهو عبارة عن فلسفة السهروردي الإشراقية ومنظومته الفلسفية كاملة، لا النار فقط، فكان الحديث عنها جزءًا من البحث والدراسة، لا موضوعها كلها.
ولكننا إذا ألقينا الضوء على المكتبات الغربية نرى أنها قد أبحرت في مجال الرؤية الفلسفية لرمزية النار لدى الديانات المختلفة، وإن كان الغالب عليها رمزية النار لدى الديانة المسيحية، ومن أبرز المصنفات الغربية في هذا المجال:
- Jack Hay Ford, Holly Fire.
وقد تناول فيه المؤلّف قدسية النار منذ فجر التاريخ، وكان أبرز ما عرض فيه وجهة النظر الدينية المسيحية، وقد التقينا معه في الاعتقاد بقدسية النار عبر التاريخ، ولكن لا يلتقي معنا في كافة جوانب بحثنا، إذ لم يصل إلى الديانة الإسلامية في دراسته تلك، وتوقّف بحثه عند الديانة المسيحية.
- Alice K- Turner, The History Of Hell.
ويتمحور حول تاريخ الاعتقاد بالنار الأخروية أو جهنم منذ العصور الإغريقية وصولًا إلى الديانة المسيحية، وقد التقينا معه في بعض جوانب العقيدة الزرادشتية لا سيما عقيدتها في رؤية النار الأخروية من ناحية العذاب.
لذا، أستطيع القول: إن دراستي التي أضعها بين أيديكم، قد تفرّدت في مضمونها لجهة تقديمها للموضوع المطروح محل البحث، فالدراسات السابقة لم تتطرّق إلى موضوع قداسة النار في الديانة الإسلامية، وجوانب الاتّفاق بين الزرادشتية والإسلامية، بالنسبة لمفهوم النار، أو جوانب الاختلاف، ولم تقم الدراسات السابقة بالمقاربة التي تمّ الاشتغال عليها في بحثنا بين الديانة الزرادشتية والديانة الإسلامية، وخاصة لدى الفلسفة الإشراقية فيما يختصّ بفلسفة الوجود القائم على مبدأي النور والظلمة، وفلسفة تقسيم الوجود المنبثقة عن تلك الرؤية إلى خير وشر، ومناقشتها من عدة وجوه، ثم مقاربة موضوع النار، آملةً أن أحقِّق الهدف المطلوب، عسى أًلَّا يحول قصوري أو تقصيري دون الإلمام بكافة جوانب الموضوع.
-9-
منهج البحث
حاولت في صفحات الرسالة أن أبحث عن رمزية وقدسية النار، وذلك عبر الرجوع في الزمن إلى عهد الأساطير الإغريقية، والأساطير المنتقاة من الديانات القديمة، وكان الغرض فهم فكر الإنسان القديم، وما تتركه النار من انطباع نفسي فيه، ثم دلالة النار في الديانة الزرادشتية، وكذلك الديانة الإسلامية، وما ترمز إليه، وجوانب الاتّفاق بخصوص عنصر النار بين الديانتين، وكذلك جوانب الاختلاف، ومناقشة ذلك، ومحاولة تبيان أسبابه، واعتمدت في الدراسة بشكل أساس على ثلاثة مناهج:
المنهج الأول: المنهج الاستردادي، عبر استقراء التاريخ واستخراج معنى لمفهوم النار منذ بداية الحياة البشرية على الأرض، مرورًا بالعصور التاريخية الدينية.
المنهج الثاني: المنهج التحليلي، من خلال تحليل ما جاءت به المعتقدات الدينية القديمة في شأن رمزية النار، وصولًا إلى الزرادشتية، حيث قارنت بين رؤيتها لعنصر النار، وبين رؤية المعتقدات الدينية الإسلامية، وتفسيره فلسفيًّا، حسب ما جاء به الفلاسفة المسلمون، الإشراقيون والمشاؤون، وما جاء به العلماء المفسرون للقرآن والنصوص الدينية الأخرى، وشرح الأفكار الرئيسة.
المنهج الثالث: المنهج المقارن، أي مقارنة موقف الأديان وخاصة الزرادشتية والإسلام، من عنصر النار، فقد احتاج البحث إلى عقد مقارنات كثيرة بين الديانتين، للوقوف على خلاصة فكرية، ونتيجة أقرب ما تكون إلى المؤكدة.
-10-
حدود البحث
إن الدراسة التي تمّ الاشتغال عليها، تنحصر في عدة نقاط تتلخص بالتالي:
- الاستقراء التاريخي لمكانة النار عند مختلف الثقافات والشعوب على مرّ التاريخ.
- الغوص في عقائد الديانة الزرادشتية وتعاليمها والبحث حول شخصية زرادشت.
- مفهوم النار في الديانة الزرادشتية وما تعنيه من دلالة ورمزية، وما استتبعاهما من قداسة.
- تقديم صورة شبه كاملة عن دلالة النار في الديانة الإسلامية وفقًا للنصوص الدينية القرآنية، وآراء كبار المفسرين في عنصر النار ودلالته.
- عرض لآراء أهم الفلاسفة الإسلاميين وعلماء الكلام في شأن عنصر النار.
- تبيان آراء الفلاسفة الإسلاميين بخصوص النار الأخروية وحقيقتها وماهيتها.
- عقد مقارنات بين الديانة الزرادشتية والديانة الإسلامية، الأمر الذي يقود إلى معرفة جوانب الاتفاق وجوانب الاختلاف بين الديانتين.
- تبيان أوجه الشبه بين عقيدة الزرادشتية في مبدأ الوجود القائم على أساس ثنائية الوجود بين النور والظلمة، ومقارنتها مع الفلسفة الإشراقية الإسلامية ومنظومتها في مبدأ الوجود القائم على أساس النور.
- تبيان الفكر الزرادشتي بخصوص مسألتي الخير والشر، ومناقشته مع الفكر الإسلامي حسب ما جاء على لسان علماء وفلاسفة المسلمين.
- عرض لجوانب الاتّفاق بين الديانتين في الرؤية اللاهوتية بخصوص عنصر النار ودلالته.
- عرض لجوانب الاختلاف بين الديانتين في الرؤية اللاهوتية بخصوص عنصر النار ودلالته.
-11-
محتوى الرسالة
تنقسم الدراسة إلى مقدمة تمهيدية للموضوع، وقد قسمتها إلى أربعة فصول، قُسِّمت على الشكل الآتي:
المقدمة: وفيها عرض لموضوع الدراسة وأهميته مع طرح الإشكالية، ودوافع اختيار الموضوع، بالإضافة إلى نقد الدراسات السابقة، والجديد في الدراسة، والمنهج المعتمد في البحث.
الفصل الأول: عنصر النار بين الأسطورة والدين والفلسفة والعلم: ويشتمل على:
- تمهيد يشمل التعريف بمباحث الفصل، وكيفية اكتشاف الإنسان للنار.
- المبحث الأول: وهو بعنوان: «النار في الأسطورة»، تناولت فيه نظرة الإنسان البدائي إلى النار، سواء عبر خوفه الفطري منها، والذي كان السبب في إنشاء الأساطير حولها، والأساطير المحاكة حول النار لدى كافة الشعوب.
- المبحث الثاني: وهو بعنوان: «النار في الأديان»، وتم البحث فيه حول دلالة النار من منظور الأديان القديمة، ثم من منظور ديني يهودي، مسيحي، وإسلامي.
- المبحث الثالث: وهو بعنوان: «النار في الفلسفة»، وتعرّضت فيه لرؤية الفلسفات القديمة للنار بدءًا من الفلسفات الشرقية، مرورًا بالفلسفة اليونانية، وصولًا إلى الفلسفة في العصور الوسيطة، سواء الإسلامية وغيرها.
- المبحث الرابع: وهو بعنوان: «النار في العلم»، وفيه استعراض لأبرز النظريات العلمية بشأن النار التي بدأت مع بداية التطور العلمي، وصولًا إلى أهم الاكتشافات حول النار في العلم الحديث.
- خاتمة: نعرض فيها لزبدة ما استخلصناه من نتائج تمخضّت عن المباحث التي تعرّضنا لها في هذا الفصل.
الفصل الثاني: عنصر النار في الديانة الزرادشتية: ويحتوي على:
- تمهيد للمباحث المتعلّقة بهذا الفصل، وفيه عرض لآراء بعض الباحثين في شخصية زرادشت.
- المبحث الأول: وهو بعنوان: «إطلالة على الديانة الزرادشتية»، وبدأنا بهذا المبحث بالبحث حول شخصية زرادشت، وكيفية بدء نبوته، وكتاب الزرادشتية المقدّس، وتعاليمها، وعقائدها.
- المبحث الثاني: وهو بعنوان: «ثنائية الوجود في الديانة الزرادشتية»، وتقسيم مبدأ الوجود عند الزرادشتية إلى إله للنور وإله للظلمة، وما انبثق عن هذه الرؤية الوجودية من عقيدة حول كيفية انقسام الخلق إلى خير وشر، وما يستتبعه من بداية الخلق ونهايته.
-المبحث الثالث: وهو بعنوان: «دلالة النار وأبعادها التقديسية»، وفيه تم الحديث عن رمزية النار ودلالتها وأبعادها التقديسية، وإجابة لتساؤلات مطروحة عن حقيقة عبادة الزرادشتيين للنار.
- خاتمة: استعرضنا فيها أهم ما جاء في هذا المبحث ممّا يتعلّق بحقيقة الديانة الزرادشتية.
الفصل الثالث: عنصر النار في الديانة الإسلامية: ويشمل:
- تمهيدًا للتعريف بمناهج التفسير للقرآن الكريم، وكيفية تعامل كل مفسر حسب ذوقه العلمي مع آيات القرآن الكريم.
- المبحث الأول: وهو بعنوان: «قدسية النار في القرآن الكريم»، وعرض لأهم الآيات التي تطرّقت إلى ذكر النار في قصة موسى (عليه السلام)، وكيفية تكليم الله تعالى له من النار، وآراء المفسرين على اختلاف أذواقهم العلمية في كون ذلك إشارة إلى قدسية ما للنار.
- المبحث الثاني: وهو بعنوان: «أفضلية عنصر النار على العناصر الأخرى في القرآن الكريم»، وقد تعرضنا في هذا المبحث للآيات التي تحكي عن أفضلية عنصر النار الذي خلق منه إبليس، وآراء المفسرين بذلك، وعرض أدلتهم، وتعرضنا لخصوصية النار في الفقه الإسلامي.
- المبحث الثالث: وهو بعنوان: «حقيقة النار الأخروية»، أي حقيقة عذاب الله للعاصين في جهنم، وكيفية ذلك، وكيف نظر الفلاسفة الإسلاميون لحقيقة جهنم وماهية عذابها.
- خاتمة: وفيها خلاصة لأهم الآراء التي تمّ التطرّق إليها في هذا الفصل.
الفصل الرابع: عنصر النار بين الزرادشتية والإسلام: ويتضمّن:
- تمهيدًا: وفيه مدخل لاستخلاص زبدة هذه الدراسة بعد تبيان آراء الفلاسفة الإسلاميين ومقارنتها مع الديانة الزرادشتية، وخاصة زعيم الفلسفة الإشراقية السهروردي.
- المبحث الأول: وهو بعنوان: «جوانب الاختلاف بين الإسلام والزرادشتية في مقاربة موقفهما من النار، ومبدأ وجود النور والظلمة والذي انبثق عنهما وجود الخير والشر»، وقد تمّ الاشتغال في هذا المبحث على مقارنة هذه الرؤية الوجودية مع الدين الإسلامي، ومناقشتها من وجوه، وتبيان جوانب الاختلاف في مقاربة الإسلام والزرادشتية للنار. وفيه إطلالة على رأي السهروردي بخصوص عنصر النار، وبماذا تميّز عن رأي الزرادشتية، ومقصوده من تقديس النار الذي يختلف إلى حدٍّ لا بأس به عن سبب تقديسها في الديانة الزرادشتية.
- المبحث الثاني: وهو بعنوان: «جوانب الاتفاق بين الإسلام والزرادشتية في مقاربة موقفهما من النار»، وقد تناولنا في هذا المبحث تشابه بعض المعتقدات والمفاهيم بين الديانتين في مقاربة الإسلام والزرادشتية للنار، وعقدنا مقارنات بين الرؤية الوجودية التي تقوم على مبدأ النور والظلمة في الديانة الزرادشتية والديانة الإسلامية، وعرض لأهم وجوه الاتّفاق بين الديانتين بخصوص عنصر النار، والأثر الذي تركته الزرادشتية في فكر السهروردي، ومدى تأثّره بها.
- المبحث الثالث: وهو بعنوان: «التسويغ المنطقي لمناحي الاتفاق بين الإسلام والزرادشتية في مقارنة موقفهما من النار، والسبب في ذلك»، وعرض لكافة الاحتمالات المنطقية التي أدَّت إلى الاتفاق بين الرؤيتين الإسلامية والزرادشتية في بعض الجوانب، وكيف أخذ السهروردي عن الديانة الزرادشتية وسبب ذلك.
- خاتمة: تطرّقنا فيها لأهم ما قمنا بمعالجته في مباحث الفصل الرابع، والتحريف الذي أصاب الديانة الزرادشتية بشأن عبادتها للنار.
الخاتمة: وفيها إيجاز لكل ما تمّ الحديث عنه في كافة الفصول، وعرض لأهم النتائج التي تمخّضت عن هذه الدراسة بمختلف جوانبها، وربط هذه النتائج بعضها ببعض، من خلال النظريات والرؤى والأفكار التي عملنا على تنسيقها وضبطها وإخراجها على النحو الذي تمّ إخراجها، وقد تناولت الخاتمة انفراد السهروردي برؤيته الفلسفية للنار من بين سائر الفلاسفة الإسلاميين، والتوليفة اللاهوتية التي ابتدعها من الفكر الزرادشتي وفكره الفلسفي الإشراقي.
شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
يحاول الكاتب محمد محفوظ في 166 صفحة أن بضيئ الحديث عن السلم الأهلي والمجتمعي، في الدائرة العربية والإسلامية، بحيث تكون هذه المسألة حقيقة من حقائق الواقع السياسي والإجتماعي والثقافي، وثابتة من ثوابت تاريخنا الراهن.
ينتمي مالك بن نبي وعبدالله شريط إلى بلد عربي إسلامي عانى من ويلات الاستعمار ما لم يعانه بلد آخر، سواء في طول الأمد أو حدة الصراع أو عمق الأثر. إنهما مثقفان عميقا الثقافة، مرهفا الشعور، شديدا الحساسية للمعاناة التي عاشها ملايين الجزائريين من ضحايا مدنية القرن العشرين، بأهدافها المنحطة وغاياتها الدنيئة.
عقد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات خلال الفترة الواقعة بين 6 و 8 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2012، مؤتمرًا أكاديميًّا عنوانه «الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي: تجارب واتّجاهات»، في فندق شيراتون بالدوحة، وشهد الافتتاح حشدًا كبيرًا من الباحثين والأكاديميّين من دول عربية.
يأتي الاهتمام بالقضية الفنية في فكر الأستاذ عبدالسلام ياسين من منطلق أن الوجود الحضاري للأمة كما يتأسس على أسس القوة المادية التي يمليها منطق التدافع القرآني أي التدافع الجدلي بين الخير والشر الذي هو أصل التقدم والحركة، يتأسس كذلك على جناح تلبية الحاجات النفسية والذوقية والجمالية بمقتضى الإيمان الذي هو ...
ثمة مضامين ثقافية ومعرفية كبرى، تختزنها حياة وسيرة ومسيرة رجال الإصلاح والفكر في الأمة، ولا يمكن تظهير هذه المضامين والكنوز إلَّا بقراءة تجاربهم، ودراسة أفكارهم ونتاجهم الفكري والمعرفي، والاطِّلاع التفصيلي على جهودهم الإصلاحية في حقول الحياة المختلفة
لا شك في أن الظاهرة الإسلامية الحديثة (جماعات وتيارات، شخصيات ومؤسسات) أضحت من الحقائق الثابتة في المشهد السياسي والثقافي والاجتماعي في المنطقة العربية، بحيث من الصعوبة تجاوز هذه الحقيقة أو التغافل عن مقتضياتها ومتطلباتها.. بل إننا نستطيع القول: إن المنطقة العربية دخلت في الكثير من المآزق والتوترات بفعل عملية الإقصاء والنبذ الذي تعرَّضت إليه هذه التيارات، مما وسَّع الفجوة بين المؤسسة الرسمية والمجتمع وفعالياته السياسية والمدنية..
لم يكن حظ الفلسفة من التأليف شبيهاً بغيرها من المعارف والعلوم في تراثنا المدون بالعربية، الذي تنعقد الريادة فيه إلى علوم التفسير وعلوم القرآن والحديث والفقه وأصوله، واللغة العربية وآدابها، وعلم الكلام وغيرها. بينما لا نعثر بالكم نفسه على مدونات مستقلة تعنى بالفلسفة وقضاياها في فترات التدوين قديماً وبالأخص حديثاً؛ إذ تعد الكتابات والمؤلفات في مجال الفلسفة، ضئيلة ومحدودة جدًّا، يسهل عدها وحصرها والإحاطة بها.