تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

الذكاء الإنساني والاصطناعي في ضوء القرآن الكريم

محمود الذَّوادي

أولاً : صمت العلماء عن ظاهرة الذكاء في الكتب السماوية

إن الدارس لظاهرتي الذكاء الاصطناعي والذكاء الإنساني لايكاد يجد أيَّ إشارة عند الباحثين والعلماء الغربيين المحدثين إلى الكتب المقدسة والسماوية بهذا الخصوص. وليس من الصعب في نظرنا تفسير ذلك. فالعلاقة بين العلم والدين في الحضارة الغربية منذ عصر النهضة لايمكن وصفها بالعلاقة الودية والتي تغلب على طبيعتها سمة التعاون،‏فالعلاقة بين الاثنين عَرَفتْ وتُعْرِفُ التوتر والصراع والعداوة المعلنَة. ولكن لاينبغي على الباحث الموضوعي أن يتعجل فيعمم هذا الوضع السائد بين العلم والدين في الحضارة الغربية على علاقة العلم والدين في بقية الحضارات الإنسانية الأخرى عبر تاريخها الطويل، فأخلاقيات الأمانة العلمية لاتسمح بمثل ذلك التعميم. إن التحليل الأكثر دقة وموضوعية يقودنا إلى القول بأن طبيعة العلاقة بين الدين والعلم في الغرب المعاصر هي حصيلة مجموعة من العوامل التاريخية والثقافية والاجتماعية الذاتية التي عرفتها المجتمعات الغربية الأوروبية منذ أواخر القرون الوسطى. فتلك العلاقة المتوترة والمتشنجة بين رجال العلم ورجال الدين في الحضارة الغربية المعاصرة ينبغي إذن إرجاعها إلى جذورها التاريخية والاجتماعية والثقافية التي تعرضت لها الحضارة الأوروبية الغربية منذ عصر النهضة على الخصوص، فالحضارة العربية الإسلامية،‏مثلاً ، لم تعرف مجابهات ومشادات مشابهة بين علمائها من جهة،‏والدين الإسلامي من جهة أخرى،‏وليس من المبالغة في شيء القول بأن علاقة التعاون بين هذا الدين وعلمائه ومفكريه كانت هي النمط السَّائد وليس الاستثناء. فالبحث عن مفهوم الذكاء في آيات وسور القرآن لايجوز أن يُحدِث إذن صدمةً عند الباحث أو العالم الغربي في ميداني الذكاء الاصطناعي والإنساني،‏فبجمع العديد من المعطيات حول ظاهرة الذكاء من النص القرآني وإبراز مدلولاتها يحاول الباحث أو العالم المسلم أو غير المسلم توسيع آفاق معرفتنا حول ظاهرة الذكاء في أوسع معانيها. إذ أن أخلاقيات الحياد neutrality في البحث العلمي تقتضي في نظرنا الحياد الكامل والمطلق أو لاتكون. فهدف الباحث أو العالم المحايد يبقى في كل الأحوال متمثلاً في توسيع رُؤانا العقلية ومَدِّ أيدينا إلى أي ملاحظة وأي معلومة وأي مفهوم وأي نظرية ثُبتت مصداقيتها وقدرتها على تعزيز فهمنا على المستويين النظري والتطبيقي لصنفي الذكاء: البشري والاصطناعي.

ثانياً : الإشارات القرآنية لظاهرة الذكاء الإنساني

مما لاريب فيه أن مصطلح الذكاء intelligence هو مصطلحٌ حديث اقترنت بداية استعماله شديد الاقتران بعلم النفس المعاصر. فعالم النفس الفرنسي ألفراد بناي (1857ـ1911) Alfred Binet هو الذي كان أوّل من نجح في قياس ظاهرة الذكاء البشري.
ومن هذه الخلفية،‏فالقرآن استعمل مصطلحات وعبارات أخرى وأبرز سمات خاصة للحديث ووصف ظاهرة الذكاء. فبالنسبة للإشارات شبه المباشرة بخصوص ظاهرة الذكاء عند الإنسان نجد آية قرآنية واحدة تبرز تميّز الجنس البشري بظاهرة الذكاء الإنساني بطريقة لا لبس فيها. {ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا} (1) ، فعبارات {كرمنا بني آدم} و{فضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا} تُشير بكثير من الوضوح إلى الذكاء البشري باعتباره تلك القدرة المفكرة المتميزة التي ينفرد بها الإنسان عن غيره من الكائنات الحية وغير الحية الأخرى.
ومن الملفت للنظر هنا أن هناك تشابهاً ‏كبيراً بين التعاريف القديمة للذكاء الإنساني من ناحية، والتعاريف الحديثة من ناحية أخرى. فكل منها يُبرز أهمية عملية التفكير كأكثر سمة مميزة للبشر عن غيرهم من الكائنات الأخرى. فالفلاسفة الإغريق وصفوا الإنسان بأنه كائن مفكر. وإن أكثر تعاريف الذكاء حداثة ترى أن القدرة على التفكير هي الأرضية الأساسية للذكاء «فالذكاء أصبح يعني تدريجياً عمليات التفكير ذات المستوى العالي في التجريد وذلك مقابل العمليات الحسية أو الإدراكية الأكثر بساطة» (2) .
أما الآية الثانية فهي تُشير بطريقة أقل مباشرة إلى الذكاء البشري أو إلى مقدرة الإنسان المتميزة على التفكير {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} (3) فوِفقاً ‏للمصطلح الانثروبولوجي فإن عبارة {في أحسن تقويم} التي يتميز بها البشر عن غيرهم من الكائنات تتمثل في ملمحين: 1ـ القامة السويّة للكائن البشري و2ـ الحجم الأكبر لمخ الإنسان. ولكن تأثيرات دور هاتين الخاصيتين في الرفع من قيمة الإنسان ليست بتأثيرات متساوية، فكبر حجم مخ بني البشر هو العامل الحاسم والفاصل في التباين بين الجنس البشري وغيره من أجناس الكائنات الحية. «إن نمو حجم المخ هو أهم عامل يرجع إليه تطور الإنسان السريع والعجيب. فليس من المبالغة في شيء القول بأن تاريخ الإنسانية هو تاريخ المخ البشري» (4) وهكذا يكون استعمال القرآن لعبارة {في أحسن تقويم} يعني بدون أي لبس كبير،‏قدرة الإنسان على التفكير ذي المستوى الرفيع والذي حُرمت منه بقية الكائنات الحية الأخرى. وبعبارة أخرى، فإن صفة «أحسن تقويم» لاتكتسب شرعيتها في دُنيا البشر إلا بامتلاك القدرة على التفكير التي يجسدها الذكاء الإنساني في أعلى مستوياته. وعندما يُفهم هذا الجزء من الآية بهذا الشكل، فإن معنى «في أحسن تقويم» يُصبح ذا دلالة واضحة، لا ضمنية،‏تُشير بالبنان إلى ظاهرة الذكاء الإنساني/ عمليات التفكير/ العقل البشري.
وأما الآية الثالثة فهي لاتقتصر على الإشارة إلى ظاهرة الذكاء عند الإنسان،‏بل هي تُحدد مصدر جذورها وطبيعتها {إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً ‏من طين. فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين} (5) إن التأويل لمعنى «ونفخت فيه من روحي» قد تختلف كثيراً ‏أو قليلاً . ولكن يبدو أن هناك إجماعاً ‏بين المختصين بأن «ونفخت فيه من روحي» ينبغي أن تشمل قدرة الإنسان التفكيرية /ذكائه/ مجموعة الرموز الثقافية الإنسانية (من لغة وفكر ومعرفة،‏وعقائد دينية وقيم ومعايير ثقافية...) والتي تُميز الإنسان لا عن بقية الكائنات الحية الأخرى فحسب، بل حتى عن الملائكة أيضاً . ومن ثم جاءت دعوة الملائكة بأن يسجدوا لآدم.
ففي هذه الآيات الثلاث،‏يتضح أن ظاهرة الذكاء البشري هي العامل الحاسم الذي جعل الجنس الإنساني يتفوق على كل من عالم الدواب الأخرى وعالم الملائكة. وبالتعبير الحديث فإن تفوق بني الإنسان يرجع إلى امتلاكهم قدرة عالية من التفكير وعلى استعمال الرموز الثقافية بطريقة معقدة. فدعوة: القرآن الملحّة للإنسان على أهمية استعمال ما يمكن أن نسميه بالمهارات التفكيرية تُمثل قطباً رئيسياً ‏للذكاء الإنساني. وهي تتفق مع نتائج البحوث الحديثة المهتمة بدراسة ظاهرتي الذكاء الاصطناعي والإنساني. وعلى سبيل المثال، فإن أكبر تحد يواجه اليوم مختصي الذكاء الاصطناعي يتمثل في مدى قدرة عبقرية الإنسان ورصيد معارفه على تمكينه من صنع آلات وأدوات تستطيع أن تُفكر مثل البشر.

ثالثاً : الطبيعة الماورائية للذكاء الإنساني

إن الاتفاق بين القرآن ورواد الباحثين الغربيين على أن القدرة على التفكير هي الأرضية الأساسية لبروز وتجسد ظاهرة الذكاء بمستواها الرفيع لايعني غياب الاختلاف بين الطرفين، فهناك تباين كبير بين الاثنين بخصوص أصل ظاهرة الذكاء عند الإنسان. فمن ناحية تتحدث الآيات القرآنية بكل وضوح على أن جذور الذكاء الإنساني ترجع إلى نفخة الروح الإلهية في آدم. أي أن الله هو الذي نفخ عناصر الذكاء في تركيبة بني البشر. فمن هذه الهبة الإلهية اكتسب بنو آدم صفة خلقهم المميزة لهم عن غيرهم من الكائنات والمتمثلة في صفة «في أحسن تقويم». ومن أجل ذلك فضلهم الله على كل من الكائنات الحية والملائكة. وباختصار فالذكاء الإنساني ذو جذور ميتافيزيقية واضحة المعالم حسب الرؤية القرآنية. ومن ناحية أخرى، فإن البحوث العلمية الغربية حول ظاهرة الذكاء الإنساني ركزت على العوامل الحسية والموضوعية التي يُعتقد أنها المؤثرات الحاسمة في تشكيل الذكاء الإنساني. فنموذج تواصل الألياف neuron connexion والعمليات المعلوماتية information processes هما مثالان للرؤية العلمية الغربية بخصوص علاقة الذكاء بطبيعة بنية وحركية أنشطة المخ البشري. وليس في هذين النموذجين إشارة إلى الجانب الميتافيزيقي أو اللامحسوس واللامادي كعامل حاسم في بلورة ظاهرة الذكاء الإنساني.‏فالمنظور الغربي يرى أن ظاهرة الذكاء الإنساني هي، كما رأينا نتيجة لعمليات طويلة المدى من التطور عرفها الجنس البشري. ففهم طبيعة الذكاء الإنساني لايتطلب، إذن، أكثر من الاعتناء بدراسة العوامل الملموسة والقابلة للتحديد والاختبار الوضعي الامبريقي Empirico-positivist. فتلك العوامل هي التي تُؤثر بطريقة مباشرة أو غير مباشرة على ظاهرة الذكاء الإنساني إن هذا المنظور يبدو أنه يفترض أن الذكاء الإنساني ليس سوى حصيلة للبنى الآلية (الميكانيكية) والموضوعية للمخ البشري. فهذا الأخير،‏من وجهة النظر هذه، ليس له جوانب ذاتية Subjective وروحية وميتافيزيقية. ولاشك أن مثل هذا الموقف هو موقف يستند إلى الرؤية الوضعية الامبريقية Empirico-positivism.

رابعاً : ضعف كفاءة الامبريقية الوضعية في دراسة الذكاء الإنساني

إن الانتقاد الذي تعرضت إليه تلك الرؤية من طرف الكثير من مختصي العلوم الاجتماعية وفلاسفة العلوم انتقادٌ معروف ولايحتاج إلى توضيح هنا. وكان من الأفضل في هذا الصدد على علماء الذكاء الاصطناعي ونظيره الإنساني ذوي التوجه الامبريقي والوضعي أن يأخذوا بعين الاعتبار وجدية فحوى ذلك الانتقاد. فالدور الحساس الذي تلعبه العوامل (الذاتية واللامادية) في تشكيل السلوك الإنساني العام أمر قد وقع البرهان عليه مراراً ‏وتكراراً . ونظراً لأن الذكاء الإنساني هو أكثر ما يميز الإنسان عن غيره من الكائنات كما بينا، فإنه لايجوز علمياً ‏قبول موقف التجاهل المسبق a'priori لدور العناصر الذاتية واللامحسوسة في التأثير على تشكيل ظاهرة الذكاء عند بني البشر. ان نكران وتهميش، والسخرية من حضور تأثير تلك العوامل على طبيعة الذكاء الإنساني يعد موقفاً متحيزاً من طرف باحثين وعلماء يدعون تبني أخلاقيات الموضوعية والحياد العلميين. فأغلبية العلماء والباحثين في ميدان الذكاء وما يتعلق بالمخ البشري يُقرّون بأنَّ رصيدنا المعرفي والعلمي لايزال شديد الفقر في هذه المرحلة من تطور العلوم بخصوص ظاهرة الذكاء الإنساني وعمل المخ البشري. ومن ثم فإنه سلوك غير منطقي وغير عقلاني الاستمرار في الإدعاء بغياب أو عدم أهمية الجوانب الذاتية واللامادية في فهم وفي تشكيل ظاهرة الذكاء الإنساني. إن هذا الموقف يمثل مفاجأة غير سارة من طرف علماء ومفكرين يدعون أنهم ممثلو العقلانية والمنطق فحسب بل هم يطبقون ذلك في هندسة وتسيير الآلات ذات الذكاء الاصطناعي. فالموضوعية والحياد والانفتاح العقلي وإدراك تعقيد الظواهر كلها تؤكد بأن الفهم والتفسير ذوي المصداقية الكبرى لايمكن أن يتأتيا خاصة في دراسة الظواهر الاجتماعية والسلوكية إلا بنظرة علمية تبني منظوراً متعدد الرؤى. وليس من المبالغة القول بأن ظاهرة الذكاء الإنساني مرشحة أكثر من غيرها للحصول على الرقم القياسي في اختبار مقياس التعقيد الذي يمكن تصميمه لمثل هذا الغرض. وكأرقى المميزات للجنس البشري، فإن الذكاء الإنساني مؤهل أيّما تأهيل لكي يتأثر بتلك العوامل التي ينفرد بها الإنسان والمتمثلة في جوانب وأبعاد تكوينه الروحاني واللامنطقي والحدسي. إن الطبيعة الماورائية لجذور ظاهرة الذكاء، كما يُبرز ذلك القرآن، لايمكن أن تلقى الترحيب بكل تأكيد لدى العلماء ذوي التوجيه الوضعي الامبريقي. ان الاعتراض على ذلك يتفق تماماً مع ابستيمولجيتهم بخصوص كسب العلم والمعرفة. ومما يُقلل من درجة الانزعاج من موقفهم هذا عند المعارضين لهم هو أن العلم الوضعي الامبريقي قد ضعفت مصداقيته كثيراً ‏ولم يعد يُنظرýإليه بعين الرضا والثقة في ميدان فهم السلوك البشري والظواهر الاجتماعية. وبعبارة أخرى فإن عوامل عديدة وشتى تتدخل في تشكيل أنماط السلوكات والظواهر الاجتماعية مما يجعل رؤية الامبريقية الوضعية قاصرة على الإحاطة بذاك الكل. ففهم طبيعة الذكاء الإنساني،‏كعامل ضخم وفعال في جعل السلوكيات البشرية أكثر تعقيداً من غيرها،‏لايمكن تركه إلى المنظور الامبريقي الوضعي الضيّق الآفاق. إن العلماء الذين يتصفون بالحياد والأمانة العلمية مطالبون بحكم أخلاقيات العلم النزيه أن يمدّوا أيديهم إلى طرق ومناهج مساعدة أو إلى رؤى بديلة حتى يمكنهم القرب أكثر من الظفر بفهم وتفسير يتصفان بمصداقية أكبر.
بالنسبة لظاهرة الذكاء الإنساني. فتقييم السمات الإنسانية مثل الجوانب اللاعقلانية واللامنطقية والذاتية والروحانية والماورائية يحتاج إلى منهجية غير المنهجية الامبريقية الوضعية التقليدية وهذا ما سعينا إلى إبرازه في تحليلنا لما سميناه بالجوانب الميتافيزيقية لظاهرة اللغة.

خامساً : اللغة ولمساتها الميتافيزيقية

إن ملامح اللمسات الميتافيزيقية في الأنساق اللغوية لاتحتاج إلى عناء كبير لاثباتها. فاللغة هي الأم الرموز جميعاً (5) . ومن ثمّ فهي مهيأة أكثر من غيرها لحمل ومضات عالم اللامحسوس وفقاً لرؤيتنا لعالم الرموز الثقافية (اللغة، الفكر، العلم، الدين، القيم والمعايير الثقافية...) للإنسان.

ويمكن الاقتصار على ذكر وتحديد أربعة ملامح في تشخيص الملامح الميتافيزيقية للغة كرمز ثقافي يتميز به الجنس البشري:

1ـ لاتخفى بالتأكيد المنزلة التي تتبوأها اللغة في ثورة المعلومات التي تحدث عنها توفلر وغيره من المختصين في هذا الميدان (6) . فسرعة التواصل الآني وفي لمح البصر بين الأفراد والمجتمعات اليوم تتم أساساً ‏بواسطة الوحدة الرئيسية التي تكوّن النسق اللغوي والمتمثلة في الكلمة (الاسم، النعت والفعل والحرف..). إن سرعة تنقل الكلمة المكتوبة والمنطوقة في عالم اليوم لايرجع إلى تقنيات الاتصال العصرية فحسب، وإنما تتأثر هذه السرعة في العمق بطبيعة اللغة نفسها، كأهم رمز ثقافي يملكه بنو البشر. فالتواصل باللغة في شكليها حوَّل عالمنا هذا تحولاً جذرياً ‏وأضفي عليه مع تحسّن تقنيات الاتصال صفات العجائب والغرائب. فأصبح تخاطب الناس والتقاط الخبر في حينه، رغم المسافات الشاسعة يوحي بما يمكن أن نسميه بالبعد الميتافيزيقي لوجود الكائنات البشرية في هذا العالم. ومنه تتجسم بطرح جديد ثنائية كينونة الإنسان. فالصياغة التقليدية لطبيعة الإنسان تتمثل في كونه جسماً ‏وروحاً . أما التصور الجديد لكينونة الإنسان والذي بلورته ثورة المعلومات فهو يتمثل في كون أن الإنسان جسم قابع هنا على سطح الأرض أو سابح في الفضاء، لكنه متصل ومتواجد عن طريق اللغة هناك، على بعد خيالي على هذه الأرض وفي ذلك الفضاء الرحب. فهذه الثنائية الجديدة الملامح تطرح الجانب الميتافيزيقي القديم (الروح) لهوية الإنسان في ثوب جديد يظل رغم جدته ذا وشائج صلبة مع عالم الماورائيات واللامحسوسات التي لم يقدر الإنسان بصفة عامة عبر تاريخه الطويل أن يلغيها تماماً من إحساسه ومن حدسه ومن فكره العقلي والعلمي في القديم والحديث على حد سواء (7) .

2ـ أما على مستوى قدرة اللغة على تخليد الأفراد والجماعات رموزياً عبر الزمان والمكان فالمعطيات الميدانية تؤكد ذلك. فعلى المستوى الجماعي تُمكّن اللغة المكتوبة على الخصوص المجموعات البشرية من تسجيل ذاكرتها الجماعية والمحافظة عليها وتخليدها وذلك رغم اندثار وجودها العضوي والبيولوجي كمجموعات رغم إمكانية تغييرها للمكان وعيش أجيالها المتلاحقة في عصور غير عصورها. فمحافظة لغة الضاد محافظة كاملة على النص القرآني خير مثال على مقدرة اللغة التخليدية بخصوص حماية الذاكرة والتراث الجماعي من واقع الفناء المتأثر بالتأكيد بعوامل الزمن والبيئة والوجود الجسمي المادي لذات تلك المجموعات البشرية.

وكذلك الأمر بالنسبة للأفراد. فالكُتاب العباقرة في كل الحضارات الإنسانية وعبر العصور المتلاحقة ماكانوا ليستطيعوا تخليد أفكارهم ونظرياتهم بالكامل لولا توفر اللغة المكتوبة المتطورة على الخصوص في ثقافاتهم (8) . فأفلاطون وأرسطو وأخناتون والمعري وابن خلدون وابن رشد وروسو وماركس.. ما كان لأفكارهم أن تصمد أمام عواتي الزمن لقرون طويلة وربما إلى أجل غير مسمى لو أنها لم تحفظ في لغات مكتوبة. وباختصار، فالأنساق اللغوية تسمح لرصيد ذاكرات الشعوب وأفكار الشخصيات اللامعة بالتمتع بالقليل أو بالكثير من سمات الخلود والأزلية.

3ـ أمّ مقدرة الرموز على السماح للإنسان بالتمتع بنوع من الخلود فقد تحسّن مستواه،‏مع استمرار توالي الاكتشافات التقنية الحديثة في ميدان الالكترونيات المتقدمة. فتسجيل الصوت والصورة الملونة عبر عملية الترميز codification يعد مثالاً حياً على مقدرة الرموز في تخليد الكلمة والصوت والصورة الحية الطبيعية للكائنات الحية والظاهرات الجامدة. فصناعة الفيديو هي أكمل طريقة إلى حد الآن في تخليد الإنسان رموزياً . فبه يتم اليوم تسجيل الكلمة ونبرات الصوت وحركة جسم الفرد أو الجماعة في أكمل صورة عضوية طبيعية لها.

4ـ على المستوى الشفوي يقترن استعمال اللغة أيضاً بدلالات ماورائية. أفلا يلجأ البشر من كل العقائد والديانات إلى استعمال الكلمة المنطوقة في تأملاتهم الكونية وتضرعاتهم وابتهالاتهم إلى آلهاتهم أو أي شيء آخر يعتقدون في أزليته أو قدسيته؟ فبتميزه باللغة عن بقية الكائنات يستطيع الإنسان أن يحرر نفسه من العراقيل المادية لهذا العالم ويقيم علاقات وروابط مع العالم الميتافيزيقي فبالقدرة اللغوية ينجح بنو البشر في فك حصار المشاغل الدنيوية والآنية. وهكذا يصبح لقاؤهم بالبعد الميتافيزيقي في شتى مظاهره أمراً لامفر منه. فهم يرونه في أحلامهم ويحفل به خيالهم ويلتقون به عن قرب في تجاربهم الدينية.

سادساً : ضرورة المنهجية الداخلية في دراسة الذكاء الإنساني

إن المنهجية التي استعملناها في تحليل الجوانب الميتافيزيقية للغة يمكن أن نطلق عليها مصطلح المنهجية الداخلية. أي تلك المنهجية التي تركز على دراسة المستويات الداخلية والمتمثلة في الجوانب الذاتية اللامحسوسة والميتافيزيقية للظاهرة قيد الدراسة. وهو ما يتجاهله أو يرفضه العلم الامبريقي الوضعي. فهذا الأخير معروف باهتمامه في المقام الأول بدراسة العوامل/ المؤثرات الخارجية التي ينظر إليها على أنها هي الوحيدة التي تساهم في بروز وتشكيل الظواهر الإنسانية والاجتماعية. إن إعطاء المنهجية الداخلية مكانتها المناسبة في سبر ظاهرة الذكاء الإنساني تُساعد على توسيع آفاق الباحثين في فهم طبيعة الذكاء البشري. وبعبارة أخرى، فإن السِمات الموضوعية والعقلية والمنطقية، لم تعد هي العوامل الوحيد التي يدرس بواسطتها علماء الذكاء ويقيّمون الذكاء الإنساني. فهؤلاء العلماء مطالبون أيضاً بالأخذ بعين الاعتبار الجوانب الداخلية المرشحة وللمساهمة في تكوين الذكاء الإنساني. كما أشرنا، فالجوانب الحدسية واللاعقلانية واللامنطقية،‏تصبح إذن عناصر مساهمة في تكوين ظاهرة الذكاء الإنساني. إن المنهجية الداخلية التي نحتاج إليها في معالجة وتحليل تلك الجوانب اللامحسوسة يمكن وصفها بأنها منهجية ذو طبيعة كيفية. ولابد من الاعتراف بأن هناك صعوبات كبيرة ينبغي التغلب عليها قبل أن تصبح المنهجية الداخلية تتمتع بمصداقية علمية متينة. ومما يدعو إلى التفاؤل في هذا المجال هو أن العلوم السلوكية والاجتماعية أحرزت تقدماً ‏ملموساً في مناهج البحوث الكيفية منذ الستينات. والمعطيات تشير في هذا المجال إلى أنه بالاستماتة والحزم والخيال العلمي يمكن قهر معظم الصعوبات المنهجية الكيفية (9) .

سابعاً : علاقة الذكاء الإنساني بالتفكير

إن أسرار القدرة على التفكير عند الإنسان لاتزال تمثل لغزاً معتبراً للعلم الحديث. فمعرفة طبيعة التفكير تمثل تحدياً ‏علمياً ‏للمختصين في السنوات والعقود الآتية. إن شرعية أهمية البحث في ظاهرة التفكير عند الإنسان تأتي من الدور الأساسي الذي تلعبه عمليات التفكير في تحديد ظاهرة الذكاء الإنساني. ويتفق هنا كل من البحوث العلمية الحديثة والنص القرآني. ففي هذا الأخير يعتبر التفكير الإنساني قمة العوامل في الأهمية التي يقترن بها الذكاء الإنساني في أعلى مراتبه. فالاستعمال المستمر للتفكير من طرف الجنس البشري يعتبره القرآن مؤشراً من الصنف الأول على حضور ظاهرة الذكاء الإنساني. فالنص القرآني يحفل بالآيات التي تؤكد على الأهمية الاستعجالية للتفكير بالنسبة لمقام الإنسان الرفيع. وما الآيات التالية إلا عينة محدودة جداً من القرآن الكريم. فهي كلها تحث الإنسان على التأمل وعلى إعمال الرأي وعلى التفكير: {الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك} (10) . {وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون} (11) {أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى} (12) {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها وآذان يسمعون بها. فإنها لاتعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} (13) .

ثامناً : الذكاء الإنساني وعلاقته باللغة والتعلم

تؤكد البحوث العلمية الحديثة في ميداني الذكاء الاصطناعي والذكاء الإنساني على أهمية مقدرتي التعلم واستعمال اللغة كعاملين حاسمين يمكنان بني البشر والكائنات الحية الأخرى والآلات ذات الذكاء الاصطناعي من كسب رهان الذكاء. وهناك في القرآن العديد من الآيات التي تشير بطريقة مباشرة إلى استعمال اللغة وقابلية التعلم كخاصيتين متميزتين للكائن الإنساني. {خلق الإنسان علّمه البيان} (14) {ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف السنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين} (15) {علم آدم الأسماء كلها} (16) و{علّم بالقلم علّم الإنسان ما لم يعلم} (17) .

تاسعاً : ظاهرة الذكاء والقدرة على الخلق

يعتبر القرآن القدرة على الخلق والإنشاء علامة قوية على وجود الذكاء فتفوق السلطان الإلهي على كل من الذكاء الإنساني،‏وذكاء الكائنات الحية الأخرى متمثل في مقدرة الله على خلق ما يعجز عنه كل من الجنس البشري وأجناس بقية الكائنات الحية. فخلق الكائنات الحية من الأكثر بساطة إلى الأكثر تعقيداً ‏يمثل خصوصية فريدة لايشترك فيها مع الله أي كائن في نظر القرآن.
{إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذُباباً ‏ولو اجتمعوا له وأن يسلبهم الذباب شيئاً لايستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب} (18) . تسخر هذه الآيات وتستهزئ ببشر أذكياء لايتورعون عن عبادة أصنام جامدة. يمثل ذلك من وجهة نظر قرآنية وصمة عار في جبين الذكاء الإنساني. إنها فضيحة بالنسبة للذكاء الإنساني أن يهبط إلى ذلك المستوى المتدني من اللاذكاء. ان عبادة تلك الأصنام الغبية والتي لاتنفع ولاتضر ينظر إليها القرآن على أنها سلوك غير مقبول مطلقاً ‏إن أتى من طرف الكائنات البشرية الذكية. فالأولى أن يكون الله القادر على خلق كل شيء هو وجهة العبادة الوحيدة لتلك الكائنات الإنسانية الذكية. فعبادة معشر البشر لأصنام زائفة تمثل إذن إذلالاً وحطَّاً من قدر كل من الذكاء الإنساني والمقدرة الإلهية اللامتناهية.
إن النظر إلى القدرة على الخلق باعتبارها خاصية محضة لله، تسمح لنا بالقول بأن البشر هم الوحيدون الذين يشاركون الإله بصورة محدودة جداً كيفاً ‏وكماً في عملية الخلق. فظاهرتا الحضارة والثقافة هما ظاهرتان يختص بهما الجنس البشري. إنهما حصيلة لعملية الخلق عند الإنسان. أما الكائنات الحية غير البشرية والآلات ذات الذكاء الاصطناعي فهي لايمكن وصفها بأنها ذات قدرة على الخلق بالمعنى المشار إليه أعلاه. فما تقوم به من أعمال ضيقة الآفاق هو نتيجة لأوامر الغرائز أو البرامج الآلية. وبعبارة أخرى، فليس من الدقة في شيء القول بأنها تقوم بأنشطتها وأعمالها بإرادتها بمحض اختيارها. أي أن قدرة الإنسان على عملية الخلق هي في الأساس حصيلة عوامل غير غريزية وغير وراثية بالمعنى الحديث لكلمة وراثة Genetics. فعمليات الخلق والابتكار هي في نهاية المطاف نتيجة لفاعلية فعل الذكاء الإنساني. فخلافاً ‏للأهمية الكبرى التي أولاها القرآن إلى عملية الخلق عند الإنسان كمقياس لذكائه فإننا نجد صمتاً ‏شبه كامل لدى البحوث الحديثة حول الذكاءين الإنساني والاصطناعي بخصوص عملية الخلق هذه. إذ أن تلك البحوث اقتصرت، كما أشرنا،‏إلى قياس الذكاء ببعض المؤشرات كالمقدرة على التعامل مع المفاهيم المجردة والمقدرة على التعلم والتكيف مع الأوضاع الجديدة (19) .
فمن زاوية الرؤية القرآنية تعتبر إذن عملية الخلق عند الإنسان عنصراً رئيسياً وحاسماً في تكوين ظاهرة الذكاء ذات المستوى الرفيع. ان الفهم الناضج للفروق بين القدرة الإلهية الخالقة والذكاء الإنساني والحيواني والاصطناعي لايمكن تحقيقه بدون إعطاء عملية الخلق وزنها الكامل.

تاسعاً : لاخلافة للإنسان بدون نوعية ذكائه

مثلها مثل عملية الخلق المشار إليها أعلاه، فإن مسألة خلافة الإنسان لله على الأرض تعتبر هي الأخرى، في نظر القرآن، دليلاً قاطعاً على امتلاك الإنسان لنوع من الذكاء ذي مستوى رفيع.‏فلكي يكون الجنس البشري بحق سيّداً في هذا العالم أو خليفة لله فيه، يجب أن يكون بحوزته مستوى عال من الذكاء يسمح له بالقدرة على تسيير شؤونه تسييراً ‏مرضياً . ويتطلب ذلك من وجهة النظر القرآنية توفر شروط أساسية تتمثل في قدرة الإنسان على التفكير وعلى استعمال الرموز الثقافية (اللغة،العلم العقائد الدينية، القيم والمعايير الثقافية..) وعلى الخلق والابتكار. إن توفر هذه الشروط عند الإنسان وحده من بين كل المخلوقات هو الذي جعل الإنسان ينفرد بالترشيح لمهمة الخلافة كما ينص عليها النص القرآني بكل وضوح. {إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأَبينَ أن يحملنها واشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً } (20) ان مفهوم الذكاء الإنساني، كما أبرز هذا البحث ملامحه انطلاقاً من التصور القرآني، يسمح بوضوح حد لمسألتين شائكتين شغلتا كلاً من الفلسفة والدين منذ زمن سحيق: 1ـ هل الكائنات البشرية هي الكائنات الوحيدة المطالبة بالمسؤولية عن أعمالها. و2ـ هل الإنسان هو خليفة الله الوحيد على الأرض؟
فالبنسبة للقضية الأولى، هناك اتفاق بين الديانات والمذاهب اللائكية على حد سواء بأن بني آدم هم الوحيدون المؤهلون للمسؤولية على أفعالهم وسلوكاتهم. إذ أن المسؤولية عن الفعل/ السلوك تتطلب أن يكون لصاحبه حرية التصرف. وكما أكدنا، فالذكاء الإنساني يشمل من بين ما يشمل مقدرة بني البشر على التصرف بحرية كما هو الشأن في عملية الخلق. فقضية حضور المسؤولية أو غيابها بالنسبة لأفراد الجنس البشري لم تعد أمراً من قبيل الشطحات الفلسفية التقليدية. فالبشر مسؤولون عن أفعالهم طالما انهم لم يتعرضوا إلى الأمراض العقلية التي تهبط بمستوى ذكائهم إلى درجات سفلى.
أما بخصوص إعطاء شرعية الخلافة للإنسان وحده في هذا العالم/ الكون فإن الأمر محسوم هو الآخر. فبامتلاكهم لمستوى رفيع من الذكاء أثبت بنو آدم عبر تاريخهم الطويل أنهم هم الوحيدون القادرون على تعديل وتغيير وجه الأرض والفضاء خيراً ‏أو شراً ‏بطرق جذرية جداً ليست بالمرة في حوزة أي من الكائنات الحية الأخرى. فمن هذه الزاوية، فالإنسان هو خليفة الله على هذه الأرض. وليس هناك على وجه البسيطة من بقية أجناس الكائنات الحية من يستطيع تحدي سلطته وملكه. إنه السيد المطاع على هذه الأرض. إن هذه المكانة العظيمة التي يحتلها الإنسان على وجه الأرض ما كانت، في نظر القرآن، لترى نور الشمس لولا التدخل السماوي والمتمثل في {وإذا نفخت فيه من روحي} الذي منح آدم موهبة الذكاء وجعله سيد كل المخلوقات. فذلك الذكاء المحدود والمستعار من العلم الإلهي الأعظم هو بمثابة المفتاح السحري الذي ينفرد به بنو البشر. فيه يستطيعون التعامل مع شؤون الأرض هنا، وبه أيضاً يقيمون التواصل مع العالم السماوي. وفي رأينا، فإن الوصف المزودج التقليدي للإنسان على أنه حيوان ـ ملاك لم يعد وصفاً ‏دقيقاً . بل الأكثر دقة هو القول بأن هوية الإنسان يمتزج فيها امتزاجاً عضوياً الجانب الحيواني بالنفخة الروحية الإلهية الذي هو مصدر الذكاء الرفيع المستوى عند الإنسان.

عاشراً : موقف القرآن من الذكاء الإنساني والذكاء الاصطناعي

تحفل آيات القرآن بالإشارة إلى موضوع الذكاء الإنساني. أي أن هذا الأخير موضوع رئيسي في النص القرآني. فأول آية لأول سورة من القرآن تتحدث بطريقة مباشرة عن العناصر المكونة للذكاء الإنساني {اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم} (21) . فالقراءة والكتابة والتعلم هي مهارات خاصة بالجنس البشري، وبالتالي مرتبطة شديد الارتباط بظاهرة الذكاء الإنساني. فالآيات القرآنية عديدة التي تدعو الإنسان وتحثه على كسب رهان العلم والمعرفة. فهي تمثل ما يقرب من سدس (1/6) النص القرآني. فإنه كان يمكن أن يكون ضرباً من العبث واللاواقعية أن يوجه القرآن مثل تلك الدعوة إلى بني آدم لو أنهم كانوا لايمتلكون درجة رفيعة من موهبة الذكاء. وفي نفس المساق، ما كانت لتكون هناك حاجة ملحة لدعوة القرآن الإنسان للتفكر والتأمل لو أنه كان فاقداً للذكاء أو كان ذكاؤه من الصنف المتدني. فلم يوجه القرآن مثلاً أي نداء يدعو فيه الكائنات الحية الأخرى ذات الذكاء دون مستوى الذكاء الإنساني لكي تفكر وتتأمل في آيات الكون.
وإذا كانت اللغة هي أم الرموز الثقافية الإنسانية (اللغة، العلم،‏التفكير، العقائد الدينية، القيم والأعراف الثقافية..) جميعاً ‏والتي منها يستمد الذكاء الإنساني معين مستواه الرفيع، فإن النص اللغوي القرآني البديع الجمال ينتصب كأحسن مثال قادر على مغازلة ومراشقة الذكاء الإنساني وتفتيق طاقاته بفنياته البيانية واللغوية الأصيلة والشهيرة في لغة الضاد أسلوباً ‏وتعبيراً واستعارة وتشبيهاً ‏وفصاحة. ألم يكن النص القرآني أكبر تحدياً لغةً وأسلوباً ‏ وبياناً لأكثر شعراء جزيرة العرب فصاحة؟ {قل فأتوا بسورة من مثله وادعوا من استطعتم من دون الله..} (22) {إن كنتم في ريب مما أنزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله..} (23) {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لايأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً } (24) فالقرآن يتحدث بكل وضوح ان خلق آدم ما كان ليكون له معنى ذوبال لو أنه جُرّد من ذكائه ذي المستوى العالي. وما كان الأمر يدعو إلى الاحتفال بمقدمه بدون وجود ذلك الرصيد الرفيع المستوى من الذكاء في حوزته {فإذا نفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين}. فمن المنظور القرآني، فإن ظاهرة الذكاء الإنساني ليست وليدة مراحل تطورية عبر الزمان والمكان كما يدعي أصحاب النظرية النشوئية. وإنما هي ظاهرة كانت هناك مع خلق آدم. كان الذكاء الإنساني حصيلة لاختيار إلهي متعمّداً وقرار ربّاني تجسم في آدم أبي البشرية جمعاء. ومن ثم فكما يقال: ففي البدء كان النور يمكن القول أيضاً ففي بدء خلق الكائن الإنساني كان الذكاء الإنساني. ومنذ لحظة إيداع الذكاء الإنساني في كينونة آدم أصبحت طاقة الذكاء الإنساني هذه هي العامل الحاسم الذي يتوقف عليه كل شيء على وجه الأرض بما فيه وجود الجنس البشري نفسه. وهكذا فالتوجه القرآني الملح والمتكرر بالدعوة والمناشدة والنداء للذكاء الإنساني {يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم} (25) هو توجه ذو شرعية قصوى ما في ذلك.
إن الاهتمام والانشغال اللذين أولاهما النص القرآني لموضوع الذكاء الإنساني لابد أن يستقبل بالتهليل والتكبير من طرف العلماء والباحثين المحدثين الدارسين لظاهرتي الذكاء الإنساني والذكاء الاصطناعي. ولكن هذا لايعني بأي حال من الأحوال عدم وجود خلاف بين الرؤية القرآنية من ناحية،‏والرؤية الغربية العلمية من ناحية أخرى، بخصوص موضوع الذكاء. ويمكن القول بأن عدم الاتفاق بين الاثنين يرجع في معظمه إلى تباين ابستيمولوجي. فمن جهة، يؤكد القرآن وبكل قوة أن مصدر الذكاء الإنساني هو الله الذي أودع موهبة الذكاء في آدم.. {ونفخت فيه من روحي..}، ومن جهة ثانية،‏فإن موقف القرآن هذا يتناقض مع الاعتقاد الواسع الانتشار بين العلماء المعاصرين ذوي التوجه التطوري. فهؤلاء العلماء يُرجعون الذكاء الإنساني، كما أشرنا سابقاً ، إلى عمليات التطور التدريجي الطويل النفس الذي تعرضت له أجناس الكائنات المختلفة. ومن ثم يتضح ان الوفاق بين الرؤيتين مسألة شبه مستحيلة. إن انعكاسات هذا الاختلاف الابستيمولوجي يجعل موقف القرآن حليفاً لهؤلاء العلماء والمفكرين المحدثين الذين لايبدون تحمساً ‏كبيراً بالنسبة لامكانية صناعة آلات ذات ذكاء اصطناعي يساوي أو يفوق مستوى الذكاء الإنساني.‏ومع ذلك، فإن هذا التقارب لايرجع إلى نفس الأسباب. فعلى سبيل المثال، يرى الفيلسوف جون سيرل John Searle أنه من غير الممكن صناعة آلات ذات ذكاء اصطناعي يتمتع بنوعية رفيعة مساوية للذكاء الإنساني بدون وجود بنى بيولوجية وكيميائية في هندسة وتركيبات الحاسوبات والروبوتات... Computors and robots ذات الذكاء الاصطناعي. فمن وجهة النظر القرآنية،‏فلا البنى البيولوجية الكيميائية لجون سيرل ولا هندسة التركيبات ذات الأداء المنطقي والعقلاني logico-rational settings للعالمين إدورد فايجنباوم Edward Feigenbaum وهيوبرت سايمون Hubert Simon قادرة على الرفع من مستوى الذكاء الاصطناعي عند الآلات إلى مستوى نظيره عند الإنسان. وبعبارة أخرى، فإن ظاهرة الذكاء الرفيعة المستوى لايمكن أن تكون نتيجة مجرد بنى وتركيبات آلية (ميكانيكية). فبدون عامل النفخة الروحية الإلهية في الإنسان، لايمكن ولادة الذكاء الإنساني الحقيقي والأصيل على أرض الواقع. إنها تمثل بيت القصيد في الفرق بين الذكاءين الإنساني والاصطناعي. وعليه، فإن من قبيل الإدعاء المحض زعم البعض أن مستوى الذكاء الاصطناعي سوف يساوي أو يفوق في يوم من الأيام مستوى الذكاء البشري. فمعشر البشر، في نظر القرآن، هم الوحيدون الذين يتمتعون بملكة العلم والمعرفة. وكما رأينا فالقدرة على كسب المعرفة والعلم هي مؤشر قوي على حضور الذكاء الإنساني. ولكن من وجهة الرؤية القرآنية، فإن تجمع الرصيد الإنساني المتزايد من المعرفة والعلم يبقى دائماً ‏محدود الآفاق {يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي. وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً } (26) . وعلى عكس ضيق آفاق العلم والمعرفة البشريين، فإن العلم الإلهي هو ذات طبيعة غير محدودة ولانهائية. فمثل أسرار الروح نفسها، فإن اكتشاف أسرار الذكاء الإنساني كاملة يظل بعيد المنال عن القدرة البشرية المعرفية،‏أي أن معرفة كنه كل اسرار الذكاء الإنساني تبقى بحوزة الله وحده.
صحيح أن البشر قد حققوا تقدماً كبيراً في مجال تحسين وضعية صحة الناس والتمديد في حياتهم. ولكن يبقى الموت المصير المحتوم لكل الكائنات الحية، فسر نبضات الحياة تمسك به قبضة يد الله. وهكذا الشأن بالنسبة لأسرار الذكاء الإنساني كما يرى الأمر القرآن. فكلا الصنفين من الأسرار يقعان بعيداً ‏عن تعرف القدرة البشرية عليهما بالكامل. وهكذا تعتبر الرؤية القرآنية حماس المتفائلين بمستقبل الذكاء الاصطناعي حماساً تغلب عليه السذاجة. فالعلماء فايجنباوم وسايمون والموالون لهما يعتمدون على تصور ضيق وبسيط بالنسبة للعناصر المكونة لظاهرة الذكاء الإنساني، بينما يُعد هذا الأخير بكل المقاييس ظاهرة معقدة جداً . هناك عوامل عديدة تشارك في تكوين ظاهرة الذكاء الإنساني. فبعض هذه العناصر سهل فهمه والبعض الآخر صعب التعرف عليه والإحاطة به، والبعض الآخر تعجز المقدرة المعرفية البشرية على الاهتداء إلى إماطة اللثام عن كنه أسراره. ففي التصور القرآني، هناك حدود فاصلة بين الله ومخلوقاته بما فيها الجنس البشري. ومن ثم فلا يجوز خلط الأوراق وينبغي تحاشي بلبلة الأذهان والعقول. فهذا هو الطريق الآمن حتى لاتضل مسيرة جهود العلماء السبيل. فالرؤية القرآنية تؤكد على مسألة الفروق بين الله والبشر. فكما ينطبق هذا في مجال العلم والمعرفة فإنه ينطبق أيضاً في بقية المجالات. فبينما يملك الله المعرفة المطلقة واليقينية بكل شيء، تتصف المعرفة الإنسانية بالمحدودية وقصر النظر وضعف مستوى اليقينية. وفي نفس المساق، فالله يفعل ما يشاء. وعلى عكس ذلك، فبنو البشر معرّضون للعجز في الكثير من أعمالهم وتصرفاتهم. وبعبارة أخرى، فنحن أمام عالمين. فمن جهة، لايعرف عالم الإله حدوداً في مجال المعرفة ولا عجزاً في مجال العمل أي، أنه ليس هناك ما يسمى بالمستحيل بالنسبة للإرادة الإلهية. ومن جهة ثانية،‏فإن عالم الإنسان ليس أكثر من عالم الممكن والمحدود والقاصر والنسبي. فالرفع من مستوى الذكاء الاصطناعي يندرج إذن في نطاق الممكن الإنساني الضيق. أما طموح بعض العلماء الراغبين في رفع مستوى الذكاء الاصطناعي إلى مستوى نظيره الإنساني أو أكثر فهو ضرب من المحاولات اليائسة. إذ أن معرفة أسرار ظاهرة الذكاء الإنساني كاملة تبقى حكراً على الذات الإلهية في منظور الرؤية القرآنية.

* أستاذ علم الاجتماع، جامعة تونس الأولى.

المراجع والهوامش
1) سورة الإسراء: 70
2) Encyclopedea of Psychology. The Dushkin Publishing Group، Inc. Guilford، Conn. (U.S.A) 1973، P.129.
3) سورة التين: 4.
4)White، J. Anthropology، The English Universities Press ltd. London، 1967، p.23.
5) White، L.، The Evolution of Culture، New York، Mc Graw-Hill Inc. 1959.
6) Toffler، A.، The Third Wave، New York، Morrow، 1980.
7) Hunt، M. The Universe Within: An Exploration into The Human Mind، New York، Simon and Schuster 1982، PP. 315-353.
8) Parsons، T.، Societies: Evolutionary and Comparative Perspectives، Englewood Cliffs، Prentice-Hall، 1966.
9) L' Autre Sociologie/ cahiers de recherche sociologique Vol-5 no. 2. Automne 1987.
10) سورة آل عمران: 191.
11) سورة النحل: 11.
12) سورة الروم: 8.
13) سورة الحج: 46.
14) سورة الرحمن: 4.
15) سورة الروم: 22.
16) سورة البقرة: 31.
17) سورة العلق: 4ـ5
18) سورة المؤمنون: 73.
19) English، H.B.، and English A.C. Encyclopedia of Psychology op. P. 129.
20) سورة الأحزاب: 73ـ77.
21) سورة العلق: 1ـ5.
22) سورة يونس: 38.
23) سورة البقرة: 23.
24) سورة الإسراء: 88
25) سورة الإنفطار: 5.
26) سورة الإسراء: 85

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة