شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
أخذ الإسلام يتحول من جديد إلى إشكالية عالمية. إننا نعثر على أثره وصداه في مختلف أنحاء العالم، وعلى كافة المستويات (السياسية والثقافية، السلمية والحربية). وهو واقع يجعل من «الظاهرة الإسلامية» الجديدة جزءاً من كيان الإسلام التاريخي والثقافي، القديم منه والمعاصر، ويضعها في نفس الوقت ضمن فرضيات المستقبل الكبرى. وهي فرضية تستلزم إعادة النظر بالتاريخ والمعاصرة، وبتوزيع التوجه والاهتمام (الإسلامي) بالشكل الذي يساهم في ترسيخ تجانس الأقطاب الثقافية والسياسية العالمية وعلى تفعيل الكيان الإسلامي فيها.
بهذا المعنى، فإن توجيه الاهتمام «بالشرق»، وإعادة النظر بتقييم الموقف الذاتي (الإسلامي) منه، أمر له أبعاد ثقافية وجيوسياسية كبرى بالنسبة لمستقبل الشرق والعالم.
إن الهوة السحيقة بين عالم الإسلام و«الشرق» ناتجة عن دورانهما المتجزئ في فلك الكولونيالية الغربية ومركزيتها الرأسمالية (العالمية). غير أنها مركزية تعاني من ضعف بنيوي روحي، وذلك بسب افتراضها ويقينها الوهمي عن كونية نموذجها السياسي والثقافي. بينما لايوجد في الواقع نموذج كوني شامل في الثقافة، لأن الثقافات جميعاً هي تجارب محددة. وهو واقع يزداد اتضاحاً مع صعود «الظاهرة الإسلامية» الجديدة و«الظاهرة الشرقية». أي صعود الروح والتكنولوجيا، الثقافة والاقتصاد، والسياسة والعلم. غير أن هذه المكونات مازالت مجزأة، وأحياناً متنافرة ومتصارعة. وهي أمور عادة ما ترافق بداية نشوء ظواهر من هذا القبيل. أي أن الظاهرة الإسلامية الجديدة والظاهرة الشرقية هما بداية صيرورة بنيوية جديدة في الثقافة والسياسة.
يحتوي العالم المعاصر على ظاهرتين عالميتين فقط من حيث سعة انتشارهما وتأثيرهما الروحي، ألا وهما الظاهرة الأوروبية والظاهرة الإسلامية. ذلك أحد الأسباب الجوهرية للصراع الخفي والعلني، المباشر وغير المباشر بينهما. وهو صراع حدده بالأساس تكامل البنى العقائدية واختلاف رؤيتهما العملية للوجود الإنساني وغاياته.
وإذا كان زمام المبادرة التاريخية في مجرى القرون الخمسة الأخيرة يعود للظاهرة الأوروبية، فإن المركزية العالمية لهذه الظاهرة أخذت بالانحلال مع انحلال إمبراطورياتها في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. وازدادت ضعفاً وتراخياً مع هيمنة القطبية السوفيتية ـ الأمريكية. أما الانفراد الأمريكي وهيمنته الحالية، فهي صيغة فجة للإمبراطوريات القديمة. كل ذلك يشير إلى اضمحلال الهيمنة الغربية في مركزيتها الأوروبية وصيغتها الأمريكية المعاصرة. وهو واقع يشير أيضاً إلى أن القرن القادم هو قرن المواجهات الثقافية (الحضارية). فالتاريخ الحقيقي، والراسخ في الوجود والوعي الاجتماعيين للأمم هو تاريخ الثقافة. ومن ثم فإن الثقافة هي القوة الوحيدة القادرة على الاستمرار والفعل في ضمائر الأمم وعقولها. فالهيمنة الثقافية للغرب الأوروبي في مجرى القرنين التاسع عشر والعشرين آخذة في الزوال إلى غير رجعة، بعد أن أيقظت «الظاهرة الإسلامية» نفسها من سباتها الطويل.
على أن صعود الظاهرة الإسلامية نفسها لم يكن رد فعل على الهيمنة الأوروبية (المادية والمعنوية) بقدر ما كان رد فعل على الذات. فالثقافة الإسلامية غير قابلة للاندثار والتلاشي. إذ أن تاريخها الحقيقي والراسخ في كيانات الأمة الإسلامية وشعوبها وأقوامها يتمتع بقدرة دائمة على الاستبطان والتجدد. وهي قدرة حددتها المبادئ الجوهرية الكبرى والمرجعيات الروحية المتسامية للثقافة الإسلامية نفسها. غير أن المبادئ الكبرى للثقافة أياً كانت تظل عرضة للتغير والتجدد والتطور والانتكاس، أي لكل الاحتمالات التي هي لبّ الصراع داخل الثقافة نفسها. ومن هنا فإن الاجتهادات المتنوعة داخل الإسلام والعالم الإسلامي لتأسيس الهوية هي جزء من المباحث الذاتية للثقافة وجزء من تعميق المركزية الثقافية.
والمركزية الثقافية شأن كل مركزية هي نتاج تركيز دائم للقوى الروحية والمادية على إدراك قيمة ومعنى التوحيد الاجتماعي والروحي على أسس معقولة للحاضر ومقبولة في استجابتها لتجارب الماضي. وقد بدأت آليتها الفعالة المعاصرة في عالم الإسلام مع صعود الحركة الإصلاحية الإسلامية، التي تمثلت تقاليد الدفاع عن النفس وتأسيس الهوية الشرقية في مواجهة الغرب الأوروبي الكولونيالي.
فقد كان الشرق ذرات متناثرة يفتقر للمركزية الذاتية في مواجهته الأولى للغرب ذي النزوع العلمي الموحد والأيديولوجيا الكولونيالية. إلا أن المواجهة اللاحقة بدأت تراكم في عقول وضمائر الأمم الشرقية إدراك الغرب الأوروبي وإدراك النفس أيضاً بشكل لم يكن محكوماً بالتطور التلقائي الثقافي للشرق، بل بآلية المواجهة والتحدي والصراع مع الغرب.
اضطر الشرق منذ اللحظات الأولى للصراع إلى أن يواجه غزواً «متمدناً» وأن يتحسس روح الفضيحة القائمة فيه. إذ كشف التوسع الخارجي للمدنية الأوروبية عن زيف مبادئها الكبرى المعلنة، حين تجسدت مبادئ الإخاء والمساواة والحرية والديمقراطية والحق في الإذلال والظلم والجور والاستبداد والعبودية للآخرين. وكشف تاريخها اللاحق عن أن نموذجها المتمدن ما هو إلا أنانية قومية شوفينية. إن اشتراك شعوب القارة الأوروبية وأممها بهذه الصفات، أدى إلى تعميق وترسيخ «مركزيتها الغربية» (الأوروبية) وضاعف من تجذر مواجهتها للشرق، الذي أجبرته على اختلاف قواه القومية والثقافية والدينية على البحث عن «شرقيته» لمواجهة «غربية» الغرب، وفيما بعد تجزؤ هذه «الشرقية» إلى شرقيات حصلت في عالم الإسلام على صيغتها الأولى بظهور مفهوم «الشرق المسلم» وتعميقه اللاحق في تيارات متنوعة عمقت بمجموعها عناصر ما يمكن دعوته بالمركزية الإسلامية الجديدة.
إن المركزية الإسلامية لاتشبه في شيء المركزية الأوروبية، لا من حيث مكوناتها ولا من حيث مبادئها الكبرى ولا من حيث غاياتها العملية. فقد سعت المركزية الإسلامية، من الناحية التاريخية، إلى وضع أسس رؤية نقدية للتجربة الأوروبية وتطبيقاتها السياسية والاجتماعية والأخلاقية في العالم الإسلامي. وذلك في محاولة لردم الهوة التي أقامها الغزو الكولونيالي بين التاريخ والوعي، بين الرؤية الواقعية ومرجعيات الثقافة الخاصة، بين البدائل ومصادر الوعي التاريخي والثقافي للانتقال بعدئذ إلى إعادة ترتيب الأحجار الضرورية لإرساء تلقائية الوعي الثقافي في العلم والعمل. لقد كان من الصعب على هذه التلقائية أن تتوجه في بادئ الأمر توجهاً سياسياً ـ دينياً صرفاً، لأن آلية فعلها لم تتكيف بهيئة نظام ثقافي مستقل. لقد كانت تعاني من اغتراب حاد عن مصادر وعيها التاريخي، وضغطاً من جانب الثقافة الأوروبية. فكانت تتعرض على الدوام لعواصف تغيرات مفاجئة وطارئة، بعثرت تراكم التجارب المتنوعة للقوى السياسية والفكرية وعمقت روح القطيعة مع الماضي وكسر وحدته الداخلية. وكشفت هذه الانقطاعات عن وجود هوة عميقة بين التاريخ الإسلامي والواقع المعاصر، و عن غياب رؤية عقلانية وثقافية، وبالأخص عند الحركات السياسية، تجاه الإشكاليات الواقعية الكبرى. غير أن هذه الإنقطاعات المفاجئة أدت أيضاًإلى تعميق وترسيخ التوجه العام القائل بضرورة التأسيس الذاتي (الثقافي) للرؤية التاريخية تجاه الماضي والحاضر والمستقبل، باعتباره إحدى المرجعيات الفكرية الكبرى.
إن إدراك ضرورة التأسيس الذاتي للحاضر والمستقبل أدى إلى تحسس أهمية البديل الثقافي ـ السياسي. بمعنى تنامي براعم الرؤية التاريخية والسياسية عن ضرورة التحصن الثقافي، وما يترتب عليه من استقلالية حضارية في العالم المعاصر. وهو أمر جعل من التفعيل السياسي للإسلام جزءاً من البحث عن البديل الشامل في حوار الحضارات وصراعاتها في العالم المعاصر. لقد أخذ الإسلام يتحول أكثر فأكثر في تياراته المتنوعة واستقطابه المتنامي لمختلف القوى الفكرية والسياسية، إلى ميدان التحرير الثقافي للنفس. ومن ثم استعادة المركزية الثقافية الإسلامية على أسس جديدة قادرة في المدى القريب على إبداع نظم معقولة ومقبولة في العالم المعاصر. أي أننا نقف أمام إجماع خفي متراكم في الوعي الاجتماعي والسياسي المعاصر في العالم الإسلامي على ضرورة تأسيس نظم للحياة تستمد مرجعياتها الفكرية والروحية من التاريخ الثقافي للحضارة الإسلامية وأممها المتنوعة. ومن ثم تحول جهادها واجتهادها في مختلف الميادين إلى «قطب» روحي فعال في الصراع الحضاري، مع ما يترتب على ذلك بالضرورة من تفعيل سياسي لمكوناته الثقافية.
إن تفعيل المكونات الثقافية «للقطب الإسلامي» يفترض تفعيل منظومة من المرجعيات الثقافية الخاصة، تستند إلى كيان الإسلام الثقافي. وهو كيان يقع من حيث عقائده الكبرى وتاريخه الواقعي، خارج حدود «الشرق» و«الغرب» (بالمعنى الجغرافي أو الثقافي أو الاقتصادي أو السياسي) ويتمثلها في نفس الوقت. فالثقافة الإسلامية مقيدة في مواقفها من تجليات الحياة المادية والروحية (العادات والعبادات) بمبادئ الحق والحقيقة، مما جعل من كيان الجماعة ميداناً لتنظيم وجودها المادي والروحي على أساس العدل (أو الوسط).
وشكلت وحدة الجماعة والعدل أسلوب رؤية الثقافة لوجودها الطبيعي والماوراطبيعي (الديني والدنيوي، المادي والروحي). وعلى هذه الرؤية جرى بناء التصورات والأحكام الواقعية والواجبة عن «الأمة الوسط». فالأمة هي الجماعة، والوسط هو العدل. مما جعل من «الأمة الوسط» مرجعية علمية وعملية في الرؤية الكونية والعقائد العملية (الاجتماعية والسياسية والأخلاقية والجمالية) للإسلام الثقافي.
فقد كانت «الأمة الوسط» من الناحية التاريخية التركيبة المنظمة لوعي الذات الثقافي. إذ شكلت بحد ذاتها غاية نموذجية في الرؤية (العلمية) والعملية. أي أن الصراعات السياسية والعسكرية، ونشوء الدول والدويلات وانحلالها كان يجري ضمن إطار «خلافة» الأمة الإسلامية لذاتها التاريخية والعقائدية.
وتحولت هذه الغاية النموذجية في الموقف من الثقافات الأخرى إلى أسلوب «لتهذيب» علاقة «الأمة الوسط» «بالشرق» و«بالغرب». فقد كان «الغرب» و«الشرق» بالنسبة لها سيان، لأن رؤيتها لم تتحدد أساساً بمعايير المصلحة الظاهرية، بل بتلقائية الحاجة المتراكمة في مجرى تجاربها المادية والروحية من هنا تأثر فرقها بأديان «الشرق» (مثل النصرانية والزرادشتية والمانوية والبوذية) وفلسفات «الغرب» (الفلسفة اليونانية)، وتأثرها برياضيات الهند (الشرق) وطب اليونان (الغرب). وتأثر آدابها الفنية والسياسية بفارس (الشرق) والعلمية والعمرانية بالروم (الغرب). ووضعت تصوراتها الثقافية عن «الأمم»، بحيث ربطت الصين بخصائص العمل اليدوي والصناعات الماهرة، والهند بالعقل الرياضي والشعوذة الدينية، وفارس بآداب الملك والسياسة، واليونان والروم بالفلسفة والعلوم. وغيرت تقييماتها، إلا أن رؤيتها بقيت في نهاية المطاف ضمن إطار الرؤية الثقافية إلى الأمم. وترتب على ذلك إعطاء الأولوية في مواقفها للصفة الأكثر امتيازاً في تجارب الأمم والثقافات. وهي أولوية مبنية على أساس الإدراك الذاتي لوسطية الأمة الإسلامية.
وأبدع توليف هذه المواقف مرجعية كبرى هي ضرورة الاستفادة من تجارب الأمم والبقاء في حيز الأصالة الثقافية. وهي مرجعية ساهمت في جمع الكلية الإنسانية والفردانية الإسلامية في وحدة متجانسة أبدعت على مثالها الحضارة الإسلامية.
إن تجزئة العلاقة تجاه «الشرق» و«الغرب» بالنسبة للعالم الإسلامي هي أولاً وقبل كل شيء، تجزئة ذاته الثقافية والسياسية. فإذا كانت علاقة العالم الإسلامي «بالشرق» و«الغرب» فيما مضى مبنية على أساس تلقائية حاجاته المتراكمة في مجرى تجربته الثقافية،بوصفها نتاجاًطبيعياًلوجوده المنظم في «أمة وسط» ثقافية تعي حدودها الداخلية والخارجية، وتفعل (داخلياً وخارجياً في كافة الميادين وعلى كافة المستويات) بمعاييرها وقيمها الخاصة، فإن الأمر تغير بعد انحلال الكيان الإسلامي المستقل.
فقد أدت تجزئة العالم الإسلامي إلى جعله كيانات سياسية متباينة (من حيث قوتها وضعفها) ومعزولة لحد ما عن بعضها البعض ثقافياً (إذ لاتجمعها هموم فكرية وعقائدية في ميادين الدين والسياسية والفلسفة والأدب..) إننا نستطيع أن نتكلم على سبيل المثال عن إسلام في روسيا وآخر في الصين، إسلام في أوروبا وأمريكا، إسلام في جمهوريات آسيا الوسطى (تركستان) وطاجكستان، إسلام في تركيا، إسلام في أندونيسيا، إسلام في إيران والعالم العربي، وإسلام في أفريقيا. وهو إسلام له جذوره العقائدية (الإيمانية) العامة، إسلام متوحد في العبادات فقط، متغاير متباين ومختلف في الثقافة. من هنا ضعفه الشديد على تقديم رؤية بديلة وصياغة مرجعيات «مجمع عليها». بينما الإجماع على المرجعيات ممكن في ظل الوحدة الثقافية فقط. وهي مفقودة.
إن الأسباب الجوهرية القائمة وراء فقدان العالم الإسلامي المعاصر لمرجعيات مجمع عليها تعود إلى فقدانه تاريخاً سياسياً ودولتياً مستقلاً ومتناسقاً في مكوناته الثقافية (وبالأخص منذ صعود الدولة العثمانية، وذلك بسبب إفراغها الإسلام من مضمونه الثقافي). وكشفت هذه الأسباب عن وجهها الحقيقي في القرن التاسع عشر (الأوروبي). فقد تبين بوضوح غيبوبة التاريخ الإسلامي المستقل منذ ذلك الزمن. لهذا أصبح الدوران في فلك الزمن الأوروبي اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً وفكرياً أمراً محتوماً. أي أصبح العالم الإسلامي في كياناته المتناثرة أقماراً تابعة في فلك المعاصرة أو نيازكاً ساقطة عنه. شعاعها ليس لها، وسقوطها «أمراً طبيعياً». لقد أدى ذلك إلى اختفاء تجربة ثقافية هائلة، وانقطاعها عن «روح المعاصرة». في حين تفترض المعاصرة النفي الإيجابي لتجارب الأسلاف. بينما أخذت تتغلغل التجربة الأوروبية في رصيد الفكر السياسي والاجتماعي والحقوقي والسلطوي المعاصر لمؤسسات وسلطات وأحزاب ورجال العالم الإسلامي.
أدى هذا الواقع إلى انحصار تجربة العالم الإسلامي في نظره وتعامله مع الغير، بالغرب الأوروبي. أي أدى إلى أن تصبح مرجعيات الغرب الأوروبي معقولة (نظرياً) ومقبولة (عملياً). ولايعني ذلك في الواقع سوى اجترار نفسية الاستلاب الحضاري وإعادة انتاجه بصيغ تقليدية جوفاء. وأدى هذا الواقع أيضاً إلى أن يكون «الشرق» مجهولاً، بعد أن جرى دمج العالم الإسلامي فيه (الشرق). وهي مفارقة مزدوجة في الجهل الذاتي. بمعنى دمج العالم الإسلامي في «الشرق»، وجهل العالم الإسلامي بالشرق.
إن تحرير العالم الإسلامي من هذه المفارقة المزدوجة للجهل الذاتي يفترض أولاً وقبل كل شيء تحريره من «الشرق» و«الغرب»، بالرجوع إلى المرجعية التاريخية ـ الثقافية في «الأمة الوسط»، وإعادة تأسيسها عقلانياً وأخلاقياً في العالم المعاصر.
إن إشكالية العلاقة «بالشرق» بالنسبة للعالم الإسلامي المعاصر هي إشكالية تأسيس تلقائيته الثقافية. إذ عليها تتوقف موازنة العلاقة السليمة «بالشرق» و«بالغرب» وتجانسها. وذلك لأن هذه التلقائية الثقافية وحدها فقط تستطيع تفعيل «الحكمة الخالدة»، التي تراكمت في تجارب «الأمة الوسط» والقائلة بضرورة إعطاء الأولوية للصفة الأكثر امتيازاً في تجارب الأمم والثقافات والبقاء في حيز الأصالة الثقافية. ذلك يعني أن العلاقة السليمة «بالشرق» تفترض صياغة مشروع جديد عن الأمة الوسط، يستمد عناصره الثقافية من تاريخ الإسلام، مع إدراك عميق وشامل لإشكاليات العالم المعاصر واتجاه تطوره.
إننا نستطيع العثور في الوعي الثقافي «الشرقي» على عناصر جوهرية كبرى مشتركة مع الثقافة الإسلامية مثل العقائد الكونية، روح الجماعة، العدل والاعتدال، قيمة التقاليد والسلف الصالح، أولوية الروح. وهي عناصر يمكن أن تبني جسراً عضوياً بين الإسلام و«الشرق». إلا أن بناءه يستلزم أولاً وقبل كل شيء وجود نظام من المرجعيات السياسية والثقافية في العالم الإسلامي مجمع عليها، أي معقولة ومقبولة من جانب الدولة والقوى الفكرية والسياسية الفاعلة والمؤثرة في المجتمع.
إن بناء العلاقة المفترضة بالشرق هي محك جديد بالنسبة للعالم الإسلامي. أنها تقدم فرصة «مهملة» وخطيرة في نفس الوقت، أمام العالم الإسلامي لترتيب وجوده الذاتي، وللمساهمة الفعالة في بناء عولمة ثقافية ـ سياسية جديدة.
* ورقة مقدمة لندوة الإسلام والشرق،عقدت في إطار مهرجان الجنادرية للتراث والثقافة، الرياض، عقدت في...
** بروفيسور في العلوم الفلسفية والإسلاميات.
شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
يحاول الكاتب محمد محفوظ في 166 صفحة أن بضيئ الحديث عن السلم الأهلي والمجتمعي، في الدائرة العربية والإسلامية، بحيث تكون هذه المسألة حقيقة من حقائق الواقع السياسي والإجتماعي والثقافي، وثابتة من ثوابت تاريخنا الراهن.
ينتمي مالك بن نبي وعبدالله شريط إلى بلد عربي إسلامي عانى من ويلات الاستعمار ما لم يعانه بلد آخر، سواء في طول الأمد أو حدة الصراع أو عمق الأثر. إنهما مثقفان عميقا الثقافة، مرهفا الشعور، شديدا الحساسية للمعاناة التي عاشها ملايين الجزائريين من ضحايا مدنية القرن العشرين، بأهدافها المنحطة وغاياتها الدنيئة.
عقد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات خلال الفترة الواقعة بين 6 و 8 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2012، مؤتمرًا أكاديميًّا عنوانه «الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي: تجارب واتّجاهات»، في فندق شيراتون بالدوحة، وشهد الافتتاح حشدًا كبيرًا من الباحثين والأكاديميّين من دول عربية.
يأتي الاهتمام بالقضية الفنية في فكر الأستاذ عبدالسلام ياسين من منطلق أن الوجود الحضاري للأمة كما يتأسس على أسس القوة المادية التي يمليها منطق التدافع القرآني أي التدافع الجدلي بين الخير والشر الذي هو أصل التقدم والحركة، يتأسس كذلك على جناح تلبية الحاجات النفسية والذوقية والجمالية بمقتضى الإيمان الذي هو ...
ثمة مضامين ثقافية ومعرفية كبرى، تختزنها حياة وسيرة ومسيرة رجال الإصلاح والفكر في الأمة، ولا يمكن تظهير هذه المضامين والكنوز إلَّا بقراءة تجاربهم، ودراسة أفكارهم ونتاجهم الفكري والمعرفي، والاطِّلاع التفصيلي على جهودهم الإصلاحية في حقول الحياة المختلفة
لا شك في أن الظاهرة الإسلامية الحديثة (جماعات وتيارات، شخصيات ومؤسسات) أضحت من الحقائق الثابتة في المشهد السياسي والثقافي والاجتماعي في المنطقة العربية، بحيث من الصعوبة تجاوز هذه الحقيقة أو التغافل عن مقتضياتها ومتطلباتها.. بل إننا نستطيع القول: إن المنطقة العربية دخلت في الكثير من المآزق والتوترات بفعل عملية الإقصاء والنبذ الذي تعرَّضت إليه هذه التيارات، مما وسَّع الفجوة بين المؤسسة الرسمية والمجتمع وفعالياته السياسية والمدنية..
لم يكن حظ الفلسفة من التأليف شبيهاً بغيرها من المعارف والعلوم في تراثنا المدون بالعربية، الذي تنعقد الريادة فيه إلى علوم التفسير وعلوم القرآن والحديث والفقه وأصوله، واللغة العربية وآدابها، وعلم الكلام وغيرها. بينما لا نعثر بالكم نفسه على مدونات مستقلة تعنى بالفلسفة وقضاياها في فترات التدوين قديماً وبالأخص حديثاً؛ إذ تعد الكتابات والمؤلفات في مجال الفلسفة، ضئيلة ومحدودة جدًّا، يسهل عدها وحصرها والإحاطة بها.