شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
ماذا بعد ربع قرن من الكلمة؟
إدريس هاني
بعد ربع قرن من الصدور المنتظم، تواصل مجلة «الكلمة» رفع التّحدّي الذي يفرضه مسار تشكّل الوعي الجديد، ربع قرن هو ظرف زمني شهد تحوّلات في السياسات والمجتمع، في الدّول والأقاليم والأوطان، وكذلك أرخى ذلك بظله على الفكر والوعي والمعرفة، فما الذي تستطيع أن تقدّمه «الكلمة» في مسار موسوم بالتّحوّلات الكبرى؟
ما نتحدّث عنه هنا ليس من باب المجاملة التي يفرضها كون الكاتب جزءًا من طاقم تحرير الكلمة، هذا ما ليس من قيم الكاتب؛ لأنّ الانتماء إلى منبر كالكلمة هو قصة قديمة ومبنية على القناعة، وهي ثمرة لجهد حقيقي، ولأنّها مشروع قامت به مجموعة تؤمن برسالة التجديد، هي عمل إشعاعي تطوّعي نضالي بالكلمة الطيبة والخطاب الإصلاحي.
وكان ربع قرن من الصدور دليل قاطع على أنّنا بالفعل كنّا متقدّمين منذ سنوات عديدة في بثّ هذا الوعي الذي سيشكل فيما بعد مدارًا لكل من يريد أن يصحّح رؤيته، أو يراجع نظراته ومواقفه، أو يتفاعل مع فكرة التجديد والتّقدّم.
كانت «الكلمة» منبرًا يكاد يكون يتيمًا في الدفاع عن خيار السلم المجتمعي والتسامح واحترام الآخر والتقريب ونبذ النعرات، كان هدفها البناء وتقديم تصورات قابلة للتطبيق، وسارت على طريق تشبيك علاقات دولية وإقليمية لتعزيز خيار الرؤية الحضارية التي نشأت في أولى أدبياتنا، ولا نخفي أنّنا كنا ندرك أننا نعمل في بيئات مريضة بالتخلّف المزمن، وتفتقد لحركة الوعي الضروري، وكان مدخل الإصلاح هو الكلمة.
نتحدّث اليوم عن الكلمة، ذلك المولود الذي خرج إلى الوجود قبل أكثر من ربع قرن في سياق استثنائي، فالغالب يومئذٍ على التيارات الأيديولوجية في المنطقة العربية هو التّعصّب والإقصاء والنعرات التكفيرية والطائفية، ولم تكن موضة المراجعات قد استتبّت بعدُ، وكان السياق العام في حاجة ماسّة لمنبر يعكس طموح تيار التجديد والإصلاح، وخطاب النهضة والتنوير، في مشهد عانى ندرة في إنتاج ما من شأنه إرواء جيل الظّمأ، وربما بدأ الاهتمام بهذه العناوين بصورة خجولة لا تسندها شجاعة من أجل المعرفة، وكان لا بدّ من منبر يعكس هذا الطموح.
فأمّا المشهد يومها فقد مال ميلًا فاحشًا نحو التّطرّف، التطرّف الذي كان يعبّر عن نفسه بالكلمة أيضًا: عنف الكلمة. وكانت الكلمة تستشرف هذا المستقبل، حيث سيحوز العنف على وسائل التدمير، وستتراجع البيئة وتحنّ إلى زمن العصبية وثقافة الموت وتمجيده، وانحطاط فقه الحياة والسلم والتسامح الذي اضطلعت به الكلمة ولا زالت في غربتها تواصل مهمّتها.
هي اليوم تتذكّر بعد أن بات لها تاريخ حافل بالاشتباك مع مختلف القضايا ومعضلات الفكر والواقع، في انتظام لم يجاريها فيه نظير، وفي لون تسامح ينهض به كتّابها والتزموه على طول الطريق.
بدأت الكلمة مشروعًا جماعيًّا، والجماعية قيمة، فهي تنطلق من رؤية ومشروع وطموح لمؤسسين وعوا في زمن مبكّر قيمة الكلمة الطيبة في بحر من التطرّف المتداول.
كانت شروط النّشر هي المنهاج، وهي في الوقت نفسه دفتر تحمّلات فرضه ضميرنا الإصلاحي منذ سنوات لا حِوَل عنها، كأنها شلّال موصول من العطاء الباني والتربوي، وهذا هو أملنا، فلقد كنّا نعي ذلك، نعي أنّ الرسالة تربوية، والتربية غاية نبيلة، ورسالة خطرة أيضًا، تقتضي تضحية وحسًّا جماعيًّا وحرصًا ومسؤولية تجاه المتلقّي.
لقد كانت الأمّة حاضرة في هذا الخطاب، والهمّ التربوي من خلال الخطاب اقتضى أن نتواسط قدر الإمكان لكي يكون الخطاب واصلًا وتواصليًّا، لم يكن الهدف معرفيًّا مجرّدًا، بل كان الهدف تربويًّا يستهدف إنماء الوعي بضرورات النّهضة والإصلاح، فالعنصر التحفيزي ظلّ حاضرًا في كل أطوارها، والهم النهضوي ظلّ يسكننا جميعًا.
خطاب تربوي
لا يوجد خطاب لا يحمل عناصر وقيم تربوية، كلّ خطاب يفترض متلقّيًا ويحمل رسالة، فهو خطاب تواصلي، وكل خطاب تواصلي هو تربويّ بالضرورة. لم تكن المجلة –هكذا آمنت بذلك شخصيًّا– ذات غرض آخر غير تقديم مادة تنفع النّاس، وترفع من الوعي قدر المستطاع، وتناضل من أجل إصلاح الفكر. وحين لا يحضر البعد التربوي في عملية صياغة الخطاب لن يكون هناك أي جدوى، فالحفاظ على الغاية الأسمى للخطاب هي جزء من استراتيجيا الكلمة منذ التأسيس.
لقد قدمت مجلة الكلمة مقالات وأبحاث ودراسات متنوّعة، لكن الجامع بينها هو الغاية التربوية التي تستهدف الوعي والتحفيز النهضوي، فهي مجلة شقّت طريقها مبكّرًا نحو الانفتاح ومارسته أيضًا، فهي ملتقى لكل الألوان والأعراق والفئات.
ولأنّ غاية الكلمة هي التربية على ثقافة الإصلاح والنهضة، فإنّها كانت تستهدف شريحة أوسع من القرّاء، لم يكن ذلك تجاهلًا منّا للقيمة النخبوية للفكر والثقافة، بل كنّا مشدودين إلى الرسالة التربوية التي تفرض الانفتاح على مستويات متنوّعة، لنقُل الطبقة الوسطى للوعي دون أن نتجاهل المستوى الذي يجب أن تحافظ عليه المجلة. لسنا بصدد تأسيس صالون للتفكير المجرّد، بل هي حلقة مفتوحة لفكر موصول بالإصلاح.
ندخل حرم الكلمة وننسى كل خلافاتنا، وما يميّزنا عن الآخر، وما يميز الآخر عنّا، ندخل وقد تطهَّرنا من كل رواسب التعصّب، وباتت الغاية هي خدمة الكلمة المسؤولة.
ويحدث مرارًا أنّ بعضًا ممَّا نكتبه يكون مناقضًا لسياسة الكلمة، بل تفرض المسألة التربوية على الجميع التقيّد بشروطها التي هي ليست شروطًا تقليدية للنشر جرت بها العادة، بل هي شروط تربوية ومبادئ على أرضيتها قام مشروع الكلمة.
الرقابة الذّاتية أو الالتزام السهل
لم تكن المجلة في حاجة إلى رقابة لأنّ الخطاب الإصلاحي والإيجابي كان قضية نشأ في سياقه المؤسسون، لم يسقطوا سهوًا في هذا الطريق بل كانت الكلمة فرصة لمواصلة رسالة الوعي والتحفيز للرسالة الحضارية والوحدة والتسامح، شيء مارسناه خلال السنوات الماضية ولازلنا نؤمن بهذه الرسالة بل ونكتشف كل يوم بأنّنا كنّا على حقّ في السبق إلى إشاعة فكر وثقافة التسامح واحترام الآخر ونبذ الفكر الطائفي والتطرّف. وقد حرصت المجلة منذ البداية على إقرار هذا الخطاب الرّاقي وهو خطاب غير متكلّف لأنه مُعاش لدى أصحابه.
في ذاكرة المجلة الكثير من حالات الرفض لمشاركات أخطأت الطريق أو تنازلت عن شرط من شروط النشر، وبعض ممَّا كتبته أيضًا لم يجد دائمًا طريقه للنّشر، وهذه الصرامة والديمقراطية ضرورية وفيها تصالح مع الذّات.
ونتفهّم مرارًا ما هو واجب فعله في حقّ خطاب للجميع ومن أجل الجميع ويشارك فيه الجميع. إنه من الصعب أن تمارس الرقابة الذّاتية، ورقابتنا ليس الغرض منها الإفلات من العقاب أو تجنُّب استحقاقات السُّلط، بل هي رقابة من أجل أن تكون رسالة الإصلاح نقية وخالصة ورفيعة.
المهمة الحضارية للكلمة
ومع أنّ الكلمة كانت واضحة في أسلوبها وانفتاحها إلَّا أنّ وباء العنف الرمزي الذي تعرّضت له المنطقة لم يكن ليمرّ دون أن يترك جرحًا ويخلط اليابس والأخضر، مع أنّ رعيلًا كاملًا تغذّى على خطابها، وكانت الكلمة شاهدًا على أطوار الحراك الفكري باعتبارها ليس فقط أنها تصدر منذ أكثر من ربع قرن، بل -كما قلت- إنها في نظرنا هي تتويج لمسار طويل حافل بهذا الاهتمام الإصلاحي يمتدّ إلى تسعينات القرن الماضي.
حافظت المجلة على توقيتها، وكانت تصدر بانتظام، بخلاف الكثير من المنشورات التي كانت تتوقّف أحيانًا بالشهور وربما بالسنة والسنوات قبل أن تستأنف الصدور، هذا لم يحدث في تاريخ الكلمة، فحين نحتفل بذكرى صدورها منذ حوالي ربع قرن فهي كانت كذلك تصدر بانتظام ومتواصلة الصدور.
لقد جاءت الكلمة يومئذٍ لتكون حضنًا لحركة فكرية، وتعبيرًا عن طموح لقيام فكر آمنّا به حقًّا، ولم يكن عبثًا فكرويًّا أو وظيفة لأنّنا زاولناه بحسّ رسالي وتطوّعيّ، فالكلمة من هذا المنطلق باتت وثيقة تؤرّخ لهذا المسار الفكري.
وقد تسلك منابر كثيرة هذا المسار، ولكنها لن تكون منسجمة ومقتنعة دائمًا بخيار السلم والتسامح واحترام الآخر، وقد تجد لها هنات لم تسقط فيها الكلمة، ولذا ستجدها عاجزة على الصبر على طول المسار، وستجد أنّ غاية كل منبر إن لم تكن تربوية تعتمد على الحسّ الجماعي والتشاوري ستفقد البعد التواصلي.
كل النخب وكل القضايا
حاولت مجلة «الكلمة» وبخطاب إصلاحي معتدل، وفكر ينتمي للسّهل، سوى في بعض الحالات والمساحات المتروكة لغواية التفكير الخاص، أن تتناول كل القضايا والأفكار والإشكاليات التي داهمت مسار صدورها، كما استوعبت كل المستويات والمُخاطبين، تناولت بالتفصيل -وأحيانًا عبر ملفات خاصة- قضايا التسامح والآخر والتنمية والعولمة وحوار الحضارات، وقدَّمت ترجمات حيّة من سائر اللغات: الفرنسية والإنجليزية والإسبانية والإيطالية والفارسية، ونصوصًا كبرى لخبراء وباحثين من مشارب واختصاصات شتّى، وظلت الكلمة خلال ربع قرن مضت فضاء لنقل مقاربات وتصورات وملفات أغنت المشهد بما هو ضروري لتجديد الخطاب، كما أجرت لقاءات مع مفكرين وخبراء من مشارب شتى وحقول معرفية مختلفة.
تدبير الاختلاف
وقد نصادف هناك اختلافًا نادرًا أحيانًا في تدبير خطاب المجلّة، فهناك من يبلغ عنده الحرص على سماحة الخطاب أقصاه، لدينا مهووسون بخطاب الوحدة والتقريب واحترام الآخر حدّ اعتباره معيارًا أولويًّا، وهناك من له ميل إلى أولوية المحتوى النقدي والفكري حتى لو كان على حساب الأولوية الأخرى، وهو خلاف ينتهي بموقف توافقي نبيل من الجهتين.
لكن القيم ظلّت فارضة نفسها، وذلك لسبب آخر يتعلّق بأننا ندرك نوايا الجميع والكل محيط بنشأة وتطوّر الآخر، ومدى التضحية التي قدّمها هذا الطرف أو ذاك على امتداد سنوات من العطاء، لم نلتقِ صدفة بل هو قدرنا المعرفي، وهو قلما يوجد في من تخضع علاقاتهم برسم المهنية إلى شروط عابرة.
إنّ الكلمة ليست مجلة لتنظيم أبحاث فقط، وتقديم ونشر مقالات فحسب، بل هي رحيق مختوم لتجربة ثقافية ما فتئت تنمو وتتطوّر لتنتج منبرًا همّه الأساسي مخاطبة كل الأجيال والفئات والطبقات بالحدّ الأدنى من الوعي الضروري للنهضة والإصلاح.
ربما كنت –ولطبيعتي وطبعي- أخرم كل هذا الناموس، وأتراخى أحيانًا تحت طائلة الخطاب النقدي في احترام وتحسس الآخر، فالآخر عندي هو الوعي، لكن الذي شكّل عاملًا لشدّ عصب المجموعة هو أنهم ينظرون إلى الكلمة كجزء من تاريخ، هي لسانهم التربوي وإحدى مخرجات تجربة الكفاح والقلم.
حين انطلقت «الكلمة» لم تكن في حاجة إلى لقاءات روتينية وبروتوكولية، جاءت البُشرى ذات يوم بأنّ منبرًا سيكون جديرًا بنقل تعبيراتنا من دون صعوبات تذكر، منبر يؤمن برسالتنا، وكان الجميع يدرك ما له وما عليه، فهي منبر للتعبير عن قناعتنا بأنّ الأمة في حاجة إلى فكر.
وكنا جهة مدنية ولازلنا بحيث لم تكن الكلمة مشروعًا لمنظمة أو دولة، بل كانت منبرًا يعبّر عن حالة ثقافية مفتوحة، وبين نخبة من أصدقاء نما كل منهم نموًّا طبيعيًّا أمام الآخر، منذ ما يربوا على ثلاثة عقود، سبق كُتاب الكلمة الكلمة نفسها في التواجد والحضور، وحين جاءت الكلمة فهي لم تفعل سوى أن صهرت هذه التجربة في أتون التفاعل الحيوي مع قضايا متجدّدة، فقد كانت منبرًا للنقاش والمتابعة والرصد لمعظم الفعاليات التي أقيمت خلال العشريات الثلاثة الماضية.
انفتحت المجلة مبكّرًا على كل النّخب، ولم يكن لها شرط سوى الاتفاق على دفتر تحمّلات يضع قضية الإصلاح والتجديد والوحدة والتسامح في أولوياته، أخرجنا أمراض الشّخصنة والاصطفافات من اهتمامنا وكُنَّا ديمقراطيين نقبل بالمختلف ما لم يختلف فيما هو مطلب نهضوي ووحدوي لهذه الأمّة.
باتت الأمة مريضة بالعنف وثقافة الإقصاء، مرض مزمن غالبناه بخطابنا، لكننا كُنَّا نتأسّف للرّداءة التي طبعت الخطاب الرائج في مجتمعاتنا، كنا نأسف حقًّا كيف يمكن بناء مجتمعات متقدّمة وراقية بخطاب يؤسّس للجهل، ويعزز بنيات التخلّف في الوعي والثقافة والتّواصل.
وظلت «الكلمة» مصرّة على خطاب التعايش في زمن العنف الرمزي والمادي، وعلى خطاب الوحدة والتقريب في زمن العصبية والتكفير والنزعات الطائفية، وعلى التسامح في زمن الاستئصال الممنهج. في «الكلمة» كانت القيم هي التي تنظّم العمل، كنّا نمتح ونتحاكم لقيم عشنا لها، وحين ولدت الكلمة في سياق هذا المخاض كنّا نفكّر: ما الذي نستطيع أن نقدمه للكلمة، ولم نكن نفكر ما الذي ستفعله الكلمة لنا، كانت قيم العطاء أساسية وهمّ الإصلاح شاغلًا هامًّا لنا.
مشاركتي في الكلمة
كان الهمّ هو ماذا نقدّم للكلمة، وحاولنا ما كان يتيحه الجهد والإمكان، واستطاعت «الكلمة» أن تشق طريقها في عواصم عربية كثيرة، وتفاعل معها نخب وباحثون من مشارب شتّى مغربًا ومشرقًا. وكان الهدف هو ما يمكن أن نقدّمه للكلمة ودائمًا نعتبره شيئًا قاصرًا عن بلوغ الغاية القصوى.
حرصت أن تكون معظم مشاركاتي في مجلة «الكلمة» لأنّها كانت تضمن الكثير من حريتي في الغالب، ولأننا -كما ذكرت- كُنَّا مقتنعين بالغاية التربوية لخطابنا؛ لأنني اعتبرت أنّ الحرية عنصر أساسي للتفكير، كُنَّا على دراية بنوايا وآفاق بعضنا، واستثمرنا في الاندفاع الذاتي والعمل التطوعي الذي هو أيضًا ضريبة للفعل التحرري. لم تأخذنا المقاربات النظرية للإخلال بقيمنا ولا التخفيض من مسؤوليتنا، كنا ولازلنا مجلة للفكر المسؤول.
توزعت مشاركاتي على أبواب شتى داخل «الكلمة»، شملت المقالة والدراسة، والقراءة في كتاب، وتغطية وتحليل ندوات ومؤتمرات، والحوارات والترجمات، غير أنّني حاولت أن تكون القراءة في الكتاب خلافًا للقراءات الجامدة، بل هي قراءات تفاعلية ونقدية عادة ما تعتمد استراتيجيا الاشتباك الفكري في إنضاج النقاش وتنمية الفكر، فهذا الأخير ينمو بالنقاش والمساءلة والنقد.
كما حرصت على أَلَّا تكون قراءتي لأوراق المؤتمرات قراءة وصفية جامدة، بل سعيت لتحريكها والوقوف عند محتوى المداخلات، والدخول معها في اشتباك نقدي أيضًا ممَّا يجعلها فرصة للنّقاش والتفكير.
لقد آمنت بأنّ المجلة هي مجلة تنهيض وتنوير وتفكير، ولا يمكن أن نقوم بما يشبه أيَّ نشاط ينتمي للإعلام الثقافي، بل هي منبر لمقارعات فكرية، وسيكون ذلك أيضًا هو الأسلوب المتَّبع حتى في إطار الحوارات واللقاءات، فالأسئلة هي الأخرى اشتباكية.
إنّ البعد النقدي مهمّ وكذلك خطير في زمن الحساسيات، فالمشهد الثقافي هو نفسه غير معافى، وهو برفضه لإطلاق العملية النقدية يفرض نمطًا غير معتدل من النقد؛ لأنّنا نواجه غيابًا فاحشًا لقيم التسامح والاعتراف والتواصل الطبيعي، وحين نفتقد لكل هذا يصبح النقد مهمّة صعبة، وأسلوبها يفرضه واقع تواصليّ هشّ.
كما باشرت التصحيح للمجلة في أوقات متقطّعة حينما يتعذّر وجود مصحح، لكن أسلوبي في التصحيح يأخذ بعين الاعتبار التركيز على المفاهيم والمحتوى والتراكيب، فضلًا عن الأخطاء الأخرى اللغوية والمطبعية، وكان هذا أصعب حين كانت المقالات تصل مكتوبة باليد، ويتطلَّب الأمر جهدًا لتفادي الأخطاء المطبعية وما أكثرها، وقد تصادف في هذا المجال أخطاء وخطايا، لكن ما يثير الانتباه في عملية التصحيح هو تلك المعضلة التي وجب تفاديها، ونصادف لها نظائر في منابر شتّى، فالتصحيح لا يمكن أن يكون لغويًّا ومختزلًا في ذوق لغوي، وقد نواجه مشاكل تتعلّق بطريقة سحق المصطلح أثناء عمليات التصحيح ممَّا يجعلني أفضّل أن نترك الخطأ اللغوي ولا نخرم المفهوم؛ لأنّ الخطأ اللغوي والمطبعي مقدور عليه لدى المتلقّي لكن حين يطرأ الخطأ على المفهوم والمصطلح نكون أمام عملية تحريف متعسّفة.
ومن هنا فالمصحّح ليس المطلوب منه أن يتعامل مع النّص بمنطق اللغة وتأطير «الأخطاء الشّائعة»، بل يتعيّن أن يكون ملمًّا باللغة المتداولة وإمكانية تطوّرها أيضًا، كما عليه أن يميّز بين الاستعمالات اللغوية الطبيعية والاستعمالات الاصطلاحية الصناعية وإلَّا ستكون كارثة.
وسأعطي أمثلة عملية واجهتني وهي هنا من باب التوجيه: ليس من الضروري أن نضع المصطلح بين مزدوجتين، وأحيانًا وبسبب الشطط من التصحيح بتُّ أضعها وأرمز لها تفاديًّا لاخترامها، وسبق أن غيّر المصحح في إحدى دور النّشر والمنابر مفاهيم لأنّ مبلغه من العلم هو أن هناك أخطاء شائعة، ولو أدركوا أنّ اللغة تتطوّر من خلال موازين وتفعيلات فضلًا عن أنّ الخطاب الذي يستعمل اللغة التقنية الخاصة يتطلَّب قدرًا من المفاهيم تميّزه عن التداول العادي لها في اللغة الطبيعية، مثلًا سيغيّر المصحح كلمة «عمومات» ويضع بديلًا عنها «عموميات» علمًا أنّ عمومات مصطلح أصولي دقيق، كما غيّر كلمة «في نفس الأمر» ووضع بديلًا عنها «في الأمر نفسه» وذلك تحت ضغط الأخطاء الشائعة بينما كلمة «نفس الأمر» مصطلح فلسفي-حكمي مستعمل منذ القرون الوسطى في النصوص الفلسفية العربية والإسلامية.
ويمكن أن أعطي مثالًا آخر كيف غير المصحح كلمة «تمثّلات» ووضع بديلًا عنها «تمثيليات» وهناك عدد من الأخطاء يقوم بها المصحح حينما يخلط بين المفهوم واللغة الطبيعية.
وفي الأوقات الذي كنت أباشر التصحيح كنت أراعي هذا الجانب كما أراعي دفتر التحملات أحيانًا، فالنصوص التي تخالف معلومًا من العلم بالضرورة يتم التوقّف عندها، بعض النصوص قد تكون دربة صاحبها في استيعاب بعض الأفكار والنصوص تخرج بها عن المطلوب، بينما على المصحح ألَّا يتدخّل في وجهة نظر الكاتب ولا يحاول تغيير عباراته أو التّصرّف إلَّا بالاتفاق عند الضرورة.
ماذا بعد؟
بات للكلمة تاريخ، كما أن التاريخ لا ينهض إلَّا بالكلمة، وحين تكتسب الكلمة تاريخًا تتحوّل إلى قيمة عملية، ثمّة أجيال تربت في كنف الكلمة وامتحت وعيها الأوّل منها على امتداد الساحات.
إن للتأسيس ذاكرة، وهي كذلك ذاكرة تعكس تراكمًا في الخطاب والوعي، ذاكرة تلتفت إلى الخطاب والمُخاطب –بكسر الطاء - حلقة فكرية تربوية تثقيفية تحمل وراءها تجربة لم تضرب موعدًا مع التّاريخ لتخليد نفسها في مسار من الاختيارات الصّعبة، حلقة فكرية وليس مقاولة إعلامية بدفتر تحمّلات تحدّه شروط وحسابات غير الكلمة الطيبة، ولئن كان هناك من مقترح أضعه بين يدي هذه الكلمة هو الآتي:
1- عقد مؤتمر حول وتحت إشراف «الكلمة» بمناسبة مرور أكثر من ربع قرن على صدور عددها الأوّل.
2- إعادة نشر النصوص الفكرية والعلمية وفق تنسيق موضوعي في شكل كتب جماعية.
3- إحداث جائزة «الكلمة» للفكر والتسامح.
ويبدو أن الكلمة مطالبة بوقفات نقدية لتعزيز رسالتها وتغيير شكلها، وإضفاء تعديلات على نمطها وأسلوبها، وعليها أن تفكّر في احتواء ما يستجد من جديد على صعيد المعرفة والفكر، وأن تمنح المجلة روحًا نقدية والتحرّر من هاجس الخلط بين الضرورات النقدية والاحتياط في التسامح واحترام الآخر، كما أنّها مطالبة بإحاطة صدورها بمزيد من الإعلان، فهي تكاد تغطّي جميع الساحات بالنشر والتوزيع، وقد راكمت سنوات من الخبرة كما كانت جزءًا من الوسائط التي ساهمت في تطوّر الذّهنيات.
فالكلمة ليست مجلة، بل هي حلقة ثقافية وتفكير، ليست منشورًا كالمنشورات تعبّر عن رغبة في النشر، بل مشروع خطاب نهضوي تربوي يؤمن بقوة الكلمة وأثرها في النّظر والعمل.
شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
يحاول الكاتب محمد محفوظ في 166 صفحة أن بضيئ الحديث عن السلم الأهلي والمجتمعي، في الدائرة العربية والإسلامية، بحيث تكون هذه المسألة حقيقة من حقائق الواقع السياسي والإجتماعي والثقافي، وثابتة من ثوابت تاريخنا الراهن.
ينتمي مالك بن نبي وعبدالله شريط إلى بلد عربي إسلامي عانى من ويلات الاستعمار ما لم يعانه بلد آخر، سواء في طول الأمد أو حدة الصراع أو عمق الأثر. إنهما مثقفان عميقا الثقافة، مرهفا الشعور، شديدا الحساسية للمعاناة التي عاشها ملايين الجزائريين من ضحايا مدنية القرن العشرين، بأهدافها المنحطة وغاياتها الدنيئة.
عقد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات خلال الفترة الواقعة بين 6 و 8 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2012، مؤتمرًا أكاديميًّا عنوانه «الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي: تجارب واتّجاهات»، في فندق شيراتون بالدوحة، وشهد الافتتاح حشدًا كبيرًا من الباحثين والأكاديميّين من دول عربية.
يأتي الاهتمام بالقضية الفنية في فكر الأستاذ عبدالسلام ياسين من منطلق أن الوجود الحضاري للأمة كما يتأسس على أسس القوة المادية التي يمليها منطق التدافع القرآني أي التدافع الجدلي بين الخير والشر الذي هو أصل التقدم والحركة، يتأسس كذلك على جناح تلبية الحاجات النفسية والذوقية والجمالية بمقتضى الإيمان الذي هو ...
ثمة مضامين ثقافية ومعرفية كبرى، تختزنها حياة وسيرة ومسيرة رجال الإصلاح والفكر في الأمة، ولا يمكن تظهير هذه المضامين والكنوز إلَّا بقراءة تجاربهم، ودراسة أفكارهم ونتاجهم الفكري والمعرفي، والاطِّلاع التفصيلي على جهودهم الإصلاحية في حقول الحياة المختلفة
لا شك في أن الظاهرة الإسلامية الحديثة (جماعات وتيارات، شخصيات ومؤسسات) أضحت من الحقائق الثابتة في المشهد السياسي والثقافي والاجتماعي في المنطقة العربية، بحيث من الصعوبة تجاوز هذه الحقيقة أو التغافل عن مقتضياتها ومتطلباتها.. بل إننا نستطيع القول: إن المنطقة العربية دخلت في الكثير من المآزق والتوترات بفعل عملية الإقصاء والنبذ الذي تعرَّضت إليه هذه التيارات، مما وسَّع الفجوة بين المؤسسة الرسمية والمجتمع وفعالياته السياسية والمدنية..
لم يكن حظ الفلسفة من التأليف شبيهاً بغيرها من المعارف والعلوم في تراثنا المدون بالعربية، الذي تنعقد الريادة فيه إلى علوم التفسير وعلوم القرآن والحديث والفقه وأصوله، واللغة العربية وآدابها، وعلم الكلام وغيرها. بينما لا نعثر بالكم نفسه على مدونات مستقلة تعنى بالفلسفة وقضاياها في فترات التدوين قديماً وبالأخص حديثاً؛ إذ تعد الكتابات والمؤلفات في مجال الفلسفة، ضئيلة ومحدودة جدًّا، يسهل عدها وحصرها والإحاطة بها.