تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

مناقشات الأمة والدولة تقويض الأوهام معرفياً

رسول محمد رسول

[1]

تثير دراسة الباحث السعودي (محمد محفوظ) (1) أسئلة عدّة في إطار تناوله للعلاقة بين مفهومين جوهريين في الوجود الإسلامي، هما: الأمة والدولة..، هذه العلاقة التي كانت وماتزال عرضة للتوتر إن لم يكن الانفصام، على ضوء التجربة التاريخية في هذا المجال. وتعد التطورات الجارية في المعمورة البشرية باعثاً ‏على أهمية ما يدرسه (محفوظ) في هذا المجال..، فهو يعتقد أن «الوعي بالتطورات هو في جوهره تنمية للذات وتأهيلها نفسياً ‏وعقلياً وفنياً للاستفادة منها وتوظيفها بما يخدم راهن المة ومستقبلها، ص26»، وهذه رؤية نقدية تفترض أولياً ‏حتمية أن يكون الإنسان العربي الإسلامي مشاركاً في خلق فعل التاريخ عبر وعيه بالتحول الجاري على العكس من الرؤى العدميّة، التي غالباً ‏ما تنفي أن يكون لهذا الإنسان دوره في الوجود البشري المعاصر.
ومما لاشك فيه أن الانفصام بين «الأمة» و«الدولة» كان قد بدأ مبكراً ‏في إطار هجرية التاريخ العربي، فما أنْ توفي الرسول محمد (ص) حتى تواتر الوعي السياسي العربي الإسلامي في مسألة الخلافة، ومنذ ذلك الحين كانت الفجوة تتسع بما يتناقض مع المأمول المعياري الذي سنُّه النص القرآني ورسم ملامحه عملياً السياق النبوي الشريف على ضوء تجربة النبي محمد (ص) في الحكم حتى وفاته صلى الله عليه وآله وسلم، وما وجدناه من رؤى تفسيرية واجتهادية لمصدري الإسلام (القرآن والسنة)، إنْ هو إلا مقاربات لردم الفجوة بين الأمة والدولة، وإنْ إتسعت دوائر الفقه والاجتهاد الإسلاميين،‏وإذا كان ذلك قد جرى إيجابياً حول المصدرين فإنه يطوي بين دفّاته صراعات عدة مردّها الجدل الفقهي والكلامي، الفكري والعملي بين الأمة والدولة، وهو بالتالي يعكس وعياً ‏بالتحولات والتطورات الحيوية التي كانت تجري في تلك المرحلة الساخنة من تاريخنا وهذا هو أساس تاريخية الوعي العربي الإسلامي حينها، كونه يرتكن إلى (بنية وعي) أولاً ، ثم (بنية معرفة) ثانياً .
وهنا قد تبدو الفجوة إيجابية بين الأمة والدولة في التجربة العربية الإسلامية، كونها فككت الهوية،‏هويتنا، وأعادت بناءها معرفياً ‏وعملياً ‏لكن (محفوظ) بالمعطيات السلبية التي أورثتها تلك التجربة،‏يقول: «أن متطلبات الدولة متناقضة مع طموحات الأمة، وإن تطلعات الأمة لاتنسجم مع ضرورات الدولة، ص27»، وعلى ضوء هذه العلاقة السلبية يفترض الكاتب وعياً ‏يتفاقم في مفاعيله سلباً ‏حين يقول: «أن كل طرف لايمكن أن يمارس دوره ووظيفته إلا على حساب الطرف الآخر، ص27»، ويرى في ذلك تصوراً ‏خاطئاً ، وبالفعل إنه تصور خاطئ من حيث المقابلة المعيارية بين الرؤية الفلسفية للإسلام والتطبيق العملي لهذه الرؤية،‏أي بين الهوية وبين الفعل أو الفكر والعمل، وفي الواقع ليست هناك تجربة في التاريخ تتجاوز مطلقاً الافتراق المحتمل بين الهوية والفعل، فالتجربة الإسلامية هي تجربة رسالية حين تتوسل التاريخ مجالاً لها، والفعل التاريخي فعل حيوي وثقافي ونسبي متغير فيه من الإحتمال أكثر مما فيه من اليقين،‏ولنا في مصطلح (أسباب النزول) عنواناً ‏كافياً ‏يعكس حركية التاريخ، فالنص القرآني لم يولد دفعة واحدة والعلاقة الزمانية (التاريخية) بين (الله) و(النبي ص) عن طريق (الوحي) خير دليل على ضرورة التاريخ وتحولاته الفاعلة، فالوضع الذي نزل فيه القرآن يفسح أهمية كبيرة لأن يقول التاريخ كلمته، وكل ذلك دليل على واقعية الرسالة القرآنية رغم الإثبات المطلق بربانية مصدرها.
كل ذلك يعني أن العلاقة بين الهوية الفكرية وبين الممارسة العملية، وهي علاقة معيارية، هي غالباً ‏علاقة نسبية،‏والإفتراق والتوتر بينهما هو حال طبيعي ضمن صيرورة التاريخ،‏لكن معيارية الهوية الدينية تبقى أبداً ‏تطرح كيانها بأنها بنية وظيفية، فالبعد الرسالي في القرآن، والذي يُعد المصدر الجوهري لديمومة الإسلام يفترض مسؤولية تاريخية باتجاه المطابقة بين الهوية والعمل،‏بين المبدأ والممارسة، بين الدين والدولة.


[2]

هذا في المستوى الفكري والفلسفي،‏أما في المستوى الآخر، مستوى العلاقة بين «الأمة» و«الدولة» فإن مرد التواتر المفترض هو أسباب تاريخية واضحة،‏واليوم إذ يتفاقم هذا الوضع فإن التحولات الجارية تحتم إعادة النظر فيه، أن أُنموذج الدولة العربية المعاصر هو بلا شك يتعامل سلبياً ‏مع (الأمة)، فهو في الوقت الذي يعلن على ضوء خطابه الإعلامي والسياسي بل ربما خطابه الدستوري أيضاً ‏أنه جاء من أجل رفع مستوى الأمة عبر التنمية والتغيير الإيجابي، فإنه على المستوى الايديولوجي يسعى إلى تقويض هذا المفهوم إلى حدوده الضيقة بل تغييبه عبر منهجين، الأول: الإعلاء من شأن «الأمة» بما يرفعه كمفهوم إلى مستوى التقديس فيسقطهُ في فضاء ميتافيزيائي (مفارق)، كما نجد لدى أكثر القوميين العرب ولدى الإسلاميين المتزمتين في سلفيتهم، أما الثاني: فباسم الواقعية يفتت مفهوم الأمة ويحيلهُ إلى مفهوم عصي التحقق بقدر من معياريته الإسلامية في الواقع،‏ويبرر ذلك بسطوة إشكاليات الواقع العربي الإسلامي، كالتخلف الإنمائي وتفشي الأمراض وضعف الأداء الإبداعي لدى الإنسان العربي المسلم ناهيك عن سطوة دول النفوذ والاستحواذ الكبرى على الدول العربية والإسلامية، التي تزاحم التنمية من خلال فرض مقولاتها السياسية. وهذا الواقع هو الذي حدا بأحد مفكرينا البارزين (2) إلى القول بأن الدولة ضد الأمة أبداً على ضوء تجربة العلاقة بينهما في العصر الحديث في أقل تقدير.


[3]

والآن ما هو المخرج من هذه العلاقة المتوترة أبداً بين الأمة والدولة؟
إن الأمر شائك ومعقد، ولكن على المستوى الفكري لابُدَّ من إفراغ مفهوم (الأمة) من حمولاته الميتافيزيائية المفارقة (غير قابلة للتحقق) أولاً ، وبالطبع ليس القصد هو تقويض أو تدمير Destroy الدلالة الدينية فيه،‏على العكس ان قيمية هذا المفهوم هي مصدر ديمومته بل قوته، إنما إفراغ المفهوم من الدلالات التي تراكمت عليه خاصة في العصر العربي الحديث، تلك الدلالات التي تقدس فعاليته الواهمة، فمفهوم (الأمة) هو مفهوم واقعي وإن كان متضمناً لمعاني قيمية، وهو مفهوم إجرائي وعملي وتطبيقي لكنه يتعالى على هذه المعاني حين يوضع في سياق أيديولوجي يخرجه عن دائرة محتواه العمليýإلى دائرة اللاتحقق، وهو ما فعله القوميون والليبراليون العرب في قراءتهم له، وفي مقابل ذلك لابد من بناء مفهوم للدولة يتخلص من الدلالات غير الواقعية،‏فالعبء على الدولة ليس بسيطاً سيما وأن الدولة العربية في وجودها قاطبة عُرضة للدول الغربية المتنفذة من حيث وجودها أو عدمها،‏قد نطالب الدولة العربية القطرية بأمور لاتملكها بل هي فاقد لها، وفاقد الشيء لايعطيه كما يقال..، كما أن سطوة التخلف والأمراض هي الأخرى تُعد عبئاً على الدولة.
إن ما ينبغي عمله الآن هو تقويض جملة الأوهام التي تحيط بالمفهومين، الأمة والدولة، يلي ذلك إحلال مفاهيم إجرائية أخرى كالشورى والديمقراطية والحريات العامة والعقد الإجتماعي والمشاركة السياسية والانسانية والحوار الثقافي بينهما، ذلك أن المطالبة بالتواصل والانسجام بينهما يتطلبýأبداً ‏تنقية الأطراف من تراكمات التجربة المتبادلة بينهما خاصة إذا كانت هذه التجربة، كالتي نعيشها، مريرة وقاسية في تواترها وفي نتائجها العملية، لأنها كانت عرضة للاختراق الأجنبي على مرِّ العصور، اختراق مزدوج، فكري وعملي، طال الأمة والدولة كتصورين فلسفيين، وطال المجال الذي تحركا ومازالا يتحركان فيه عملياً ، إن المخرج من هذه الأزمة يبدأ فكرياً بنقد الأوهام العالقة حول وفي المفهومين، وبالتالي قد نكسب إمكانية إعادة بنائهما من جديد على ضوء تحولات الواقع وإرادة المشاركة الفاعلة فيه في خلق الفعل التاريخي الأصيل الذي يتواصل معيارياً ، بشكل أو بآخر، مع الرؤية الإسلامية في هذا الشأن.

** باحث وأكاديمي عراقي.

الهوامش:
1) مناقشة لموضوع «الأمة والدولة في المجال الإسلامي.. التحول والمطلوب»، مجلة (الكلمة)، السنة السادسة، العدد (25)، خريف 1999، ص26ـ36.
2) د. برهان غليون: الدولة ضد الأمة/ مركز دراسات الوحدة العربية ـ‏بيروت ـ‏لبنان.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة