تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

الدرجة الصفر للعولمة الماضي، الحاضر، المستقبل

هاني ادريس

القضية اليوم، إما أن تتسلق مدارات الربح العالية بنجاح، أو تسقط بكارثية، على الهامش.. المعادلة ـ إذن ـ كالتالي: إما أن تربح أكثر، أو تستقيل.؟!
عفواً سيدي لا وجود لمنطقة وسطى؟!

القرن الواحد والعشرون، قرن الثورة المعرفية بامتياز! لعل هذا هو العنوان الإجمالي لتلك الطفرة الحضارية التي ستنقل كوكبنا إلى قمة الانفجار المعلوماتي. غير أننا، وفي تجاويف ما يحدث الآن، نرمق كل أطياف المفارقة. فالألفية الغريغورية التي نستقبلها، تتسع لكل التناقضات، حيث تتعايش المفارقات الكبرى... إنه عصر التواصل والانقطاع.. التعددية والاندماج.. الرفاه والمجاعة.. السلم والحرب.. الايديولوجيا ونهايتها.. العالمية والتأشيرة الحدودية.. التضامن الاقليمي والتجزئة القطرية.. إنه بتعبير أكثر اختزالاً، عصر تعايش الأطروحة ونقيضها!.
يدخل الإنسان المعاصر القرن الواحد والعشرين وهو يخوض جدالاً أكثر حدة واتساعاً، شمالاً وجنوباً، حول إحدى النتائج الحتمية لجنون المضاربات المالية وتراكمات الراسميل، العولمة! وبينما يعمُّ الشعور شرائح واسعة، بأن الأمم سائرة على طريق العالمية الحتمي، ينطلق الجدل اليوم، حذاري من العولمة! الواقع، أن هناك مضموناً محبوكاً في كواليس منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية وعلى منوال الـ (MAI). يسعى حثيثاً لاحتواء العالمية لصالح الشركات الاحتكارية والأمركة الهوليودية، هادفاً بذلك إلى الحؤول دون أي تشكل ممكن لعالمية متحاورة بأطراف متعددة، أو ما يمكننا نعته بـ: «عولمة متثاقفة مقتبسة» عالمية حقيقية تكون الشعوب والدول والشركات الصغرى والمتوسطة أشخاصها الرئيسيين. وهكذا بدا وكأن شيوع الوهم، اقتادنا إلى أن نميز بين «العولمة» و«العالمية». إذْ أصبح للعولمة معنى آخر ـ ومضموناً مختلفاً ـ عما تقدمه القواميس اللغوية العامة، أو ذلك الذي تبشر به الأدبيات والأفكار الطيبة. وهذا ما يمثل اليوم محور النقاش، وهو: أي عالمية نريد.. وأي عالمية تراد لنا؟!

العولمة.. في البدء، للدهشة!

يحدونا أمل ـ كما يحدو كل الشعوب في كل أعصارها ـ أن نعيش ضمن مجال أرحب وفي أفق تواصلي أوسع. فالعالمية بُعد متجذر في طبيعة الإنسان، ذلك الحيوان الكوني!
يولد الإنسان حاملاً لجينة الكونية. فهو لذلك لم يفتأ يرسم في ذهنه صوراً عن الآخر من بني جنسه. ولم يتوان يوماً عن أن يبني بفضوله اللانهائي صروح امبراطوريته العالمية بمخياله الرحب. إذا كان هذا الحيوان المعلوم يسعى للتواصل مع كل الفضاءات الممكنة خارج مجاله، فأحرى أن تحدوه الرغبة للتواصل مع من يتقاسمون معه الوجود على هذا الكوكب. إن الاصطراع التاريخي بين الإنسان والآخر من بني جنسه خارج محيطه، تحكي عن انحراف في رؤية الآخر، وأزمة في العلاقة معه. لكن ما وراء مظاهر العنف ذاك تكمن الرغبة المتطلعة لاكتساح المجال، وبناء دولة الإنسان العالمية. وقد شهد التاريخ المعاصر نموذجاً لأعنف مستوى من التواصل المفروض من جملة واحدة، إبّان الحركة الكولونيالية التي قادها الشمال الناهض على إيقاع الصناعة والتدفق الديمغرافي ضد الشعوب، سعياً للسيطرة على المجال الحيوي فيما وراء البحار وطلباً للتوسع أو بحثاً عن مصادر الذهب. كانت الحركة الكولونيالية بمثابة انعطافة خطيرة في مسار التواصل الكوني الحتمي. ولعل أهم أسباب ذلك المنعطف، وضعية أوروبا ثقافياً، حيث غلبت عليها ايديولوجيا السيطرة والنزعة العرقية والأنوية الحضارية. وعليه، كانت تلك هي اللحظة التي مثلت عائقاً تاريخياً جديد لمسار العالمية، حيث ترسخ في وجدان العالم الذي خضع للاجتياح الغربي، إحساس قوي بالعزلة، والممانعة ضد الآخر الغازي، الآخر ـ الجحيم!

لقد كان الغرب ـ إذن ـ أكبر مجهض للعالمية بامتياز، حيث لازالت متجذرة في ذاكرة البلدان المستعمرة ـ بفتح الميم ـ صور عن ضحايا الغزو الأوروبي الوحشي، في كل من آسيا وأفريقيا وأمريكا القديمة. فلقد وقف الغرب دائماً ضد التشكل الطبيعي والمتكافئ للعالمية، أي ضد كل تواصل حضاري وحميمي بين الشعوب. وبعد أن تميزت علاقته بالآخر ـ عبر تاريخ طويل ـ بمظاهر العنف ها هو اليوم، يسعى من خل العولمة المفروضة اليوم من جانب واحد ليجهض العالمية. وذلك بعد أن بدا المناخ أكثر تهيئاً للشعوب كي تمحو ما علق بذاكرتها من صور وحشية للإستعمار الغربي. إن تاريخ الشعوب والأمم، هو تاريخ سعي دائم للتوسع وطلب الآفاق. فمظاهر العالمية ارتبطت بتجارب كافة الحضارات القديمة. ولا غرو أن وجود الزف الحضاري الإسمي على أعتاب فيينا غرباً ووصولاً إلى جاكرتا شرقاً، لم يكن سوى من مظاهر العالمية التي لاتزال تمثل الحتمية الحضارية الكبرى. من هنا لم نر أي جديد في هذا التبشير الغربي المتعاظم، الذي أظهر العولمة وكأنها لحظة يتيمة وحاسمة في علاقة الشعوب. نعم، هناك طفرة كمية على صعيد التواصل والتقارب. لكنها لم تأت بجديد يذكر على مستوى قناعات الشعوب بحتمية التعايش والتواصل الكونيين.
إن تاريخ الشعوب والحضارات خير شاهد على ذلك. فقلّما وُجد عرق نقي لم يخضع لحتمية الانصهار. على الأقل هذا ما يظهره البحث التاريخي والاتنولوجي لشعوب الشرق الأوسط، بلاد الحضارات القديمة. إن اختلاط الأعراق والحضارات أمر تظهره التماثلات التي نعثر عليها هنا أو هناك ما بين الحضارة البابلية أو السورية والمصرية والفارسية.. وذلك يفسر من ناحية تاريخية وأنثربولوجية، بلحظات الاحتكاك والانصهار والمثاقفة ـ أو على حد تعبير أرلوند توينبي، انسياح الشعوب ـ التي تعبر عن مستوى العالمية الممكنة عصرئذ. وقد عرفنا أن الشعب الوحيد الذي حافظ على نقاوته نسبياً في ذلك المجال، هم اليهود. فرأينا بعد ذلك الثمن الباهظ الذي أدوه لقاء هذه النقاوة في صورة شتات وتهميش وعنصرية وعزلة.. أي «اللاعالمية». ولاشك أن العالمية هي من دفع فلولاً من ساكنة آسيا لعبور ألسكا، وقطع «بيرينغ»، وتعمير القارتين الأمريكيتين. فالعالمية إذن هي قدر الإنسانن من حيث هو باحث عن الآفاق البعيدة ومفطور على التطلع والاكتشاف. ولم تكن الاكتشافات الجغرافية الكبرى بدعة أوروبية. بل هي ظاهرة قديمة قدم الحضارات. فقبل «ماركو بولو» و«كريستوف كولومب» كان هناكن المسعودي والشريف الإدريسي وابن بطوطة.. وقبل ذلك كان هومروس وهيرودوت. وإذا كان كريستوف كولومبوس تمكن فعلاً من اكتشاف أمريكا بمحض الصدفة، فإنه لم يكن الأولز فلقد وجد عندها قوماً بملامح أسيوية.. وكان آخرون اعتادوا التواصل معها من غرب أفريقيا...
إن قصة التواصل الكوني، قديمة جداً. ولعلها هي من كان وراء انتشار البشر وتوزعهم على هذا الكوكب. وإذا كانت الانصهارات والمثاقفات الكبرى يومها تتطلب قروناً من الزمن، فعذر تلك الشعوب، أنها لم تملك يوماً تكنولوجيا التواصل والاتصال السريعة كما شهدها عصرنا.

فحتى العصور الوسطى، كان الإسم قد امتد إلى كل العالم القديم يومها. وظل الحس إلى العالمية، ينطلق من تلك النصوص المستفيضة:

* وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا (13/49)
* وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (84/21)
/* وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا (19/10)
اطلبوا العلم ولو في الصين/ حديث
وعليه، أمكننا القول، أن العولمة بمعناها الإيجابي التثاقفي، حتمية إنسانية من حيث هي عالمية وهي بمعناها السلبي العنفي حتمية رأسمالية، من حيث هي سعي جاد لاحتكار العالمية.

العولمة.. أي مفهوم، أي معنى؟!

من الواضح، أن ثمة مفهوماً محدداً للعولمة، غير ذلك الذي يتبادر تلقائياً من خلال التداول الديماغوجي للكلمة. فهي اليوم محور جدل كوني يوحي بأنها مرحلة تسلط هائل لمنطق السوق على القيم والأشياء. على أن كونية السوق ظلت دوماً واقعاً مشهوداً لدى كافة الحضارات بما فيها الأكثر تجذراً في التاريخ البشري. لكن عولمة السوق هنا، معناه تكييف كافة البنى والهياكل مع ما تقرره ضرورات انسياب الرساميل على أوسع مدى ممكن. أي مرحلة القضاء المبرم على ميثولوجيا الدولة الاجتماعية. طغيان الرأسمال ومراكمة الأرباح والإجهاز النهائي على كافة مظاهر التكلفة. وهذا ليس جديداً على العالم غداة الثورة الصناعية. بل هو حقاً مسار تاريخي لليبرالية المندفعة على إيقاع التعاظم الربحي والمضاربة المالية، والإباحية المطلقة لشهوة الاستثمار. هذا الوضع الذي تهدف إليه العولمة، والذي أسميه اللحظة الابيقورية في مشوار نشاط الشركات الدولية العملاقة كان يخضع بين الفينة والأخرى إلى قيود وضوابط الدولة، مع مراعاة جزئية لجانب من الخدمات الاجتماعية. وذلك لأسباب موضوعية كتفادي عنف الثورات العمالية ودرءاً لخطر المد الأحمر في قلب البلاد الغربية. ومن المفارقة، أن يكون شعار الليبرالية بالأمس القريب: دعه يعمل، يتحول في غمرة الانسياح الكلبي Cynique للمضاربات المالية إلى شعار: دعه يربح! على أن الربح الذي تستهدفه العولمة يقتضي تكييف النمتظم الدولي والاقتصاد العالمي مع ما تقرره الشركات الكبرى. وهذا في حد ذاته عاملاً أساسياً في حرمان قسم كبير من جماهير البلاد الغربية من حق العمل والضمان الاجتماعي. فاللعبة إذاً، تنطلق من داخل فضاءات السوق وأروقة الشركات الكبرى، ولم تعد خطاباً إنسانوياً تصيغه الأفكار. وهذا ما يجعلنا في حاجة إلى دراسة تطور الظاهرة داخل مسارها، الاقتصادي والتجاري، الدولي.

العولمة والعالم.. علاقة الشمال والجنوب، وأزمة النظام الدولي..
العولمة كمشروع غربي، عبّر عن نفسه، سياسياً واقتصادياً وايديولوجياً، منذ اللحظة التي قررت فيها أوروبا اجتياح عوالم ما وراء البحار. قاصدة أوروبة العالمة ـEuropanisationـ. وهو ما كان يمثل تكييفاً عولمياً للعالم على خلفية التقسيم اللامتكافئ للعمل الدولي بين المستعمرات والميتروبول. وللذكر فقط، فإن أمريكا الشمالية تعرضت هي نفسها في مرحلة سابقة لهذا النوع من الهيمنة البريطانية في طول تكريسها لذلك النمط التقليدي من التبعية المباشرة.
حيث تعرضت إلى نضال تحرري مستميت من قبل الشعب الأمريكي. لتنتهي بذلك مغامرة القرصان الأسطوري تجاه العالم الجديد.
وقد فشل مشروع «أوربة» العالم بفعل التناقضات الأوروبية المتزايدة، خصوصاً بعد انبعاث المشروع النازي الهتلري ـ المنافس الصعب للحلفاء ـ ونشوب الحرب العالمية الثانية، بالإضافة إلى نهضة الشعوب واندماجها في موجة حركة التحرر الوطني. ومع أن كل هذه العوامل وضعت حداً لقصة الاستعمار المباشر، إلا أن خروج القوى الاستيطانية من هذه البلدان تم على أساس تكييفها وهيكلتها كملاحق وساتيلات «Salellites» تابعة لاقتصادات الميتربول. بعد أن تم تقسيمها وإعادة توزيعها جغرافياً حسب ما تقتضيه سياسة النفوذ والمصالح الأمنية والاقتصادية الأوروبية. وحتى هنا، كان العالم قد نهض على إيقاع آخر للعالمية تم فيه إسناد مهمة تدبير الشأن الدولي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية لهيئة الأمم المتحدة. أما من الناحية الاقتصادية والمالية، فإن شأنهما أسند لمشروع بروتن وودز «Bretton Woods». وهي عملية تكييف هدفت إلى تعزيز مبدأ التحكم الغربي بالنظام الدولي. إذاً، لقد بدا العالم وكأنه خرج من مرحلة إلى أخرى أعقد منها بكثير. من الهيمنة الاستعمارية المباشرة، إلى مأزق النيوكولونيا New-colonialisme. وهذا الوضع سوف يستمر في أفق بروز المنافس العالمي الأقوى، الاتحاد السوفياتي ضمن تكثيفين جديدين ـ منافسين ـ «وارسو» و«الكومكون»، تسندهما مؤسسة أيديولوجية وسياسية ذات تطلع عالمي، «الكومينترن»، فيما عرف حينئذ بالحرب الباردة وتوازن الرعب. والحق، أن الاتحاد السوفياتي بعد الحرب العالمية الثانية، أصبح الرادع الأكبر لطموحات الليبرالية، والمنافس الشرس للأنظمة الرأسمالية، إقليمياً ودولياً. ومن هنا ندرك كيف أن انتعاش خطاب العولمة بنكهتها اللبرالية المتأمركة، أتى على أنقاض الإنهيار الدراماتيكي للاتحاد السوفياتي.

وبعد مسلسل عاصفة الصحراء يعلن جورج بوش عن قيام النظام العالمي الجديد، معبراً بذلك عن انتصار النمط الليبرالي وحيازة الولايات المتحدة الأمريكية سلطة القرار الدولي بعد تحجيم وإضعاف الأمم المتحدة. ترافق ذلك مع وجود أكثر من معطى موضوعي، فضلاً عن تفكك المعسكر الشرقي وسقوط سور برلين وهرولة الاشتراكيات التقليدية إلى أحضان التلبرل وآليات السوق. أي إزالة الرادع الإستراتيجي لليبرالية المتوحشة، هناك تعاظم الشركات الضخمة العابرة للحدود، ذات التراكم المالي والربحي العملاق. هذا في سياق تطور ثوري في وسائل التواصل والاتصال والانفجار «البيغبوني» للتكنولوجيا المعلوماتية والبيولوجية. كان ذلك هو المشهد الإجمالي للتحولات السياسية والحضارية التي انطلق فيها مارد العولمة بأنماطه المختلفة، ولكنها ذات الطبيعة الليبرالية دائماً. حيث إن التأمل في طبيعة الهياكل التجارية والمالية التي تشكلت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وتطور أدائها حتى المرحلة الراهنة، كافي لأن يضعنا أمام الصورة الحقيقية للعولمة في طول صيرورتها الليبرالية.
لقد أصبحت فصول السيناريو واضحة أكثر بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، انتصار عسكري كاسح على المحورن حُسم بفاجعة إنسانية في هيروشيما وناكازاكي في سابقة ذرية مروعة. ألمانيا مقسمة، ويابان منزوعة السلاح وأوروبا مدمرة ومأزومة اقتصادياً. أما الولايات المتحدة الأمريكية التي خاضت حرباً بعيدة عن مجالها الإقليمي، فقد خرجت منتصرة عسكرياً ومستقوية اقتصادياً. وقد زاد من تعزيز الهيمنة الأمريكية إحساسها بالتفوق بعد الإنعاش المكثف الذي قدمته للاقتصاد الأوروبي المنهار تحت عنوان مشروع مارشال. لقد تضاعفت الحاجة إلى هياكل لفك المنازعات الدولية على المستوى التجاري والمالي. وكان لابد أن تخضع أوروبا الضعيفة لأطماع حليفها الأكبر في استلام قياد المنتظم الدولي. وبالفعل، لقد بادرت الولايات المتحدة الأمريكية إلى استضافت ملتقى العشرة لوضع اتفاقية بروتن وودز ـ1944ـ. الأمر الذي نتج عنه تشكيل فاعلين أساسيين، لعبا دوراً استراتيجياً في علاقة دول الشمال مع بعضها البعض من جهة، ودول الشمال مع عالم الجنوب من جهة أخرى. أعني صندوق النقد الدولي (FMI)، والبنك الدولي للإنشاء والتعمير (BIRD). أما الأهداف التي طرحت في اتفاقية بروتن وودز، فكانت ترمي إلى إبقاء قياد التحكم في يد الولايات المتحدة الأمريكية. وقد استمرت الهيمنة الأمريكية من خلال «عولمة» الدولار، إلى حين الانقلاب المفاجئ للدول الأوروبية على النظام النقدي الدولي، والنضال في سبيل تحجيم السيطرة الأمريكية والتقليص من نفوذها الآحادي الجانب، على الأقل فيما يتصل بعلاقتها مع أوربا. فالأهداف الرئيسية في اتفاقية بروتن وودز، النقدية تلخصت في الآتي:
السهر على رفع الكفاءات الانتاجية للدول الأعضاء ومساعدتها على تحدي الصعوبات المالية، وتوفير القروض بالعملات الأجنبية إلى البلدان الأعضاء عند الضرورة. وهذه مهمة ملقاة على صندوق النقد الدولي. أما المصرف الدولي، فإن مهمته تتم عمبر ثلاث مؤسسات رئيسية هي:
ـ المصرف الدولي للتعمير والتنمية (1946).
ـ المؤسسة المالية الدولية (1956).
ـ منظمة التنمية الدولية (1960).
تنحصر وظيفة المصرف الدولي للتعمير والتنمية في إعادة تعمير البلدان الأعضاء بواسطة الاستثمارات المباشرة وتطوير التجارة الدولية والنشاط الاستثماري العالمي.. كما تنحصر مهمة المؤسسة المالية الدولية في العمل على توفير رؤوس الأموال لدعم المنشآت الصناعية في البلاد النامية، وخصوصاً القطاع الخاص منها.. أما منظمة التنمية الدولية، فوظيفتها، تقديم القروض السهلة إلى البلاد النامية، وتقديم هذه القروض للحكومات فقط! (1)
لقد اقتضى الحال ـ إذاً ـ ونظراً للفراغ المؤسسي الدولي على صعيد تنظيم وتكييف الحركة التجارية والمالية، إلى أن تبادر أمريكا وحلفائها إلى إرساء نظام للتوازن النقدي يرتكز على معيارين متحدين الذهب والدولار. وقد تم ذلك على خلفية النجاح الكبير الذي حققه الاقتصاد الأمريكي وارتفاع سعر الدولار. غير أن الطفرة التي حققها الاقتصاد الأوروبي إلى جانب الاقتصاد الياباني، ساهمت في تحجيم القطبية الأمريكية وهيمنة الدولار، الذي تعرض لانخفاض واضح مع طروء العجز في الميزان التجاري الأمريكي. الأمر الذي مكّن من تشكل أقطاب أوروبية، مثل بريطانيا وألمانيا.. بالإضافة إلى اليابان، ولإن استطاع هؤلاء الأقطاب أن يغيروا من شروط العلاقة الاقتصادية مع الولايات المتحدة الأمريكية للتحول بها من حيز التبعية إلى مستوى ما من الشراكة، فإن علاقة هذه الأقطاب مع دول العالم الثالث، ظلت على حالها في جو من تكريس الاستنزاف المتواصل للثروات الثالثية واحتواء الراسميل الهارب من هناك تحت تأثير إغراءات الضمانات الاستثمارية والتسهيلات الادخارية. في حين لعب صندوق النقد الدولي الدور الاستراتيجي في حفظ العلاقة اللامتكافئة بين الشمال والجنوب عن طريق لعبة القروض المتزايدة في ظل سياسات التكييف الهيكلي المفروضة على دول الجنوب. الأمر الذي ساهم في تكريس وضعية التبعية والاستنزاف للاقتصادات الجنوبية. إن الدارس لمسلسل العلاقة بين تكريس وضعية التبعية والاستنزاف للاقتصادات الجنوبية. إن الدارس لمسلسل العقة بين الشمال والجنوب خلال هذه الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، يخرج بانطباع سلبي حول الدور الامبريالي الذي تزعمه الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، الذي زاد في ترسيخ الهوة ما بين العالمين. هذه الحقيقة التي تحدثنا عنها الأرقام والإحصاءات، ففي عام 1993 بلغ حجم الانتاج العالمي الإجمالي (23000) مليار دولار. منها (18000) مليار واردات الدول المصنعة في مقابل (5000) مليار دولار للدول النامية. مع أن هؤلاء يمثلون (80%) من ساكنة العالم. وفضلاً عن الهوة الفاصلة بين المدخول الفردي بين هذه الدول، علينا أن لا نندهش، إذا علمنا أن (358) من الأشخاص المليارديرية (بالدولار) في العالم الآن، تفوق ثروتهم الدخل السنوي لـ(40%) من السكان الأكثر فقراً في العالم! (2)
ولإن كانت الحرب بين الاقتصادات الكبرى واقتصادات الجنوب تكاد تكون صريحة ومعلنة، فإنها استمرت بين الأقطاب في صورة حرب باردة تتنكر تحت قناع المنافسة بين الكبار. فالولايات المتحدة الأمريكية وجدت نفسها قد فقدت كثيراً من امتيازاتها. خصوصاً بعد تعرض ميزانها التجاري إلى مسلسل من العجز في ظل تصاعد المنافس الأوروبي والياباني، وبعد نمو المعارضة ضد الدولار بوصفه الأداة الرئيسية للأداء عالمياً. حيث تزامن ذلك بصعود نجم العملات الأوروبية، كالجنيه الاسترليني والمارك الألماني بالإضافة إلى الين الياباني. قررت الإدارة الأمريكية في شخص الرئيس نيكسون ـ1971ـ إخضاع الدولار لقانون العرض والطلب بعد أن ظل مرتبطاً بالذهب. هذا مع إقرار مجموعة من الإجراءات الجمركية وإعادة النظر في سياسة المساعدات الخارجية باستثناء تلك التي تقدم إلى إسرائيل. وحتى ذلك الحين ظلت الرقابة الجمركية من قبل الدول على انتقال الراسميل وعملية ضبط آليات السوق الماليةتسمح بهامش لتدخل الدولة. وهو الأمر الذي لم يكن يرضي أصحاب الاستثمارات الكبرى. وقد أدّى هذا إلى مزيد من البحث، إن لم نقل التحايل على إضفاء مرونة أكبر على انتقال الراسميل وخفض تكلفة الانتاج. ومن هذا المنطلق، سوف يتحول الاقتصاد الأمريكي من حيث هو أكثر تحرراً على الصعيد المالي والتجاري، وأكثر ممانعة من التدخل الدولتي Intervention Etatique، أي الأكثر إهمالاً للجانب الاجتماعي، إلى النموذج الأمثل. خاصة مع بروز الريغانية التي عززت من سياسة إعادة الهيكلة للوصول بالاقتصاد الأمريكي إلى منتهى الطموح النقدي الفريدماني. فالولايات المتحدة الأمريكية بما تملك من نفوذ مالي وتجاري وأيضاً سياسي وعسكري، نجحت في اللعب بكل الأوراق لاستدراج النظام الائتماني والتجاري الدولي لكي يستجيب لضرورات إعادة الهيكلة وتحرير المبادلات التجارية وأسواق المال. بل وأكثر من ذلك، استطاعت الولايات المتحدة الأمريكية وحليفتها بريطانيا التتشرية، أن تبتزّ كافة أقطار العالم، من خلال سياسة الإملاءات ـ التخليفية ـ والتبشير الليبرالي مقابل القروض والمساعدات والقبول بإعادة الجدولة، وأحياناً بمجرد الرضا السياسي. حيث جندت صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لهذا النوع من الدعاؤة والوصاية عبر سياسات التكييف الهيكلي. أما على الصعيد التجاري، فقد لعبت الاتفاقية العامة للتعريفة الجمركية والتجارية (Gatt) منذ تأسيسها عام (1948)، دوراً رئيسياً في سبيل تسهيل المبادلات الدولية وتأطيرها ضمن قوانين وإجراءات. وقد شاهدت هذه الاتفاقية في جولتها الثانية ـ بعد جولة طوكيو 1973ـ1979 أي جولة الأورغواي التي استمرت من 1986 حتى 1994 نقاشاً، انتهى في خاتمة المطاف إلى توقيع اتفاقية مراكش 1994، القاضية بدعم التجارة الدولية وتحريرها من القيود الجمركية في إطار تعزيز مصداقية النظام التجاري العالمي. وقد أسفر اجتماع مراكش أيضاً بأن تكون المنظمة العالمية للتجارة (OMC) هي من سيتولى إدارة الشأن التجاري العالمي. ولابد من الإشارة إلى استمرار الوصاية والضغط والخروقات الإمبريالية داخل إطار الاتفاقية نفسها، خلال عقود من العلاقات التجارية الدولية. وهي خروقات، وإن بدت أحياناً تهم علاقات الدول المتنافس الكبرى، إلا أن العالم الثالث ظل معرضاً للاستنزاف، لاسيما إذا ما أخذنا بعين الاعتبار صادراته عن المواد الأولية. فالدول المصنعة لم تخضع لأي تأطير من قبل الاتفاقية بدليل الخروقات التي مارستها الولايات المتحدة الأمريكية.
ففي عام (1971)، أعلن نيكسون عن قرار الإدارة الأمريكية بفصل الدولار عن الذهب، وأعقب هذا الإجراء بالإعلان عن فرض رسوم جمركية على البضائع الأجنبية. وفي خضم هذه الحرب التي كانت معلنة دائماً، ظل الثمن المدفوع من دول العالم الثالث باهظاً للغاية. خصوصاً لما ندرك بأن تعاوناً وشراكة عادلة ومتكافئة مع اقتصادات الأطراف وصادراتهم كان كافياً للدفع بهذه الدول، لكي تحقق إقلاعها المنشود. فالمساعدات التي كانت ترتهن لها هذه الدول، سياسياً، لم تكن في حقيقة الأمر سوى نوعاً من المكر «الإمبريالي» لإحكام السيطرة على اقتصادات الجنوب، وإبقائها في جحيم تخلفها، نزولاً عند متطلبات التقسيم الإمبريالي للعمل الدولي. أي إبقاؤها كمصدر رئيسي للمواد الأولية بكميات أكبر وأسعار منخفضة. وهنا تتجلى مآزق عدد من النظريات الإنمائية، التي بدلاً من أن تعلق تقدم هذه البلدان على شماعة استقلال قرارها السياسي والاقتصادي، وفك رباط التبعية عنها، حاولت أن ترمي بالكرة في ملعب الاقتصاد الثالثي. وهناك نتذكر بعضاً من القراءات التقليدية لأزمة الإنماء في أقطار الجنوب، كما هي نظرية التطور. لقد سعى روستوف (W.W.Rostow) الذي ألف كتاباً تحت عنوان: «les etapes de la crossance economique» إلى تأسيس قاعدة للإنماء تقوم علىفكرة النموذج التنموي. في ضوء تطور مرحلي تدريجي. وقد وضع خمسة مراحل ـ ضرورية ـ لأي عملية نمو اقتصادي بالفعل، وهي:
ـ مرحلة المجتمع التقلييد (Societe traditionnelle).
ـ مرحلة التحول نحو الإقلاع (Transition vers le dewarrage).
ـ مرحلة الإقلاع الاقتصادي (le demarrage economique).
ـ مرحلة النضوج (lamaturite).
ـ مجتمع الإستهلاك الجماهيري (la societe de consommation de masse).
ومعنى هذا، أن هناكوحدة مسار إنمائي، تقضي بأن ترى الدول النامية مستقبلها في النموذج الاقتصادي الغربي. إن شاهدنا ـ تحديداً ـ في هذه الرؤية الواضحة الانتماء، هي اعتبار روستوف، بأن الاستعمار استطاع التحول باقتصادات البلاد المستعمرة نحو المرحلة الثانية. نفهم من روستوف، ما يمكن أن يُفهم من أي منظر ليبرالي ـ ذي ثقة زائدة بنتائج التطور الرأسمالية ـ هو أن الطريق الحتمي لهذه الدول هو في مزيد من التبعية للنموذج الليبرالي، ومزيد من التمسك بمنطق المرحلية. والواقع أن نظرة كهذه، تستبعد عوامل التخليف «Sous-developpementalisation» الحقيقية التي ظلت تمارس من قبل الولايات المتحدة الأمريكية والـ (G7)، في حق بلدان الجنوب الفقيرة. وذلك بتحويل اقتصاداتها إلى وضعية ساتيلية «Satellique» وسلبها استقلالية القرار وإمكانية الإنماء التعادلي، فـ «الذي يحدد الاستثمارات والمبادلات والانتاج الأساسي في الاقتصاد التابعي [Satelliste]، هو تلك الحاجيات والقرارات الآتية من مركز آخر، [أجنبي عن] هذا الاقتصاد..» (3) .
إن الإكراهات والاختراقات الخارجية للقرار الاقتصادي لهذه البلدان ظل هو السمة البارزة لفترة ما بعد الاستقلال، أي مرحلة الاقتصاد النيوكولونيالي.
إلا أن روستوف الذي ينقل حينئذ وجهة النظر الكولونيالية ذاتها، يغض الطرف عن سياسات التخريب المنهجي التي مورست في حق البنى الانتاجية المحلية. فلا شك أن الإنماء هو حصيلة تطور تاريخي، وثمرة لتخطيط متوازن لعوامل الإنماء. هذه السياسة التكاملية حوربت من قبل الميتروبول. شاهدنا ذلك في مثال بريطاني خلال القرن xix قضت نهائياً على الصناعة التقليدية في الهند، درءاً لمنافستها للصناعة البريطانية، حيث أجبرتها على إنتاج المواد الأولية لدعم الصناعة البريطانية (4) . وهو الأمر ذاته تكرر في مصر التي وجهت، في فترة الانتداب البريطاني إلى إنتاج مفرط لمادة القطن. وقد حدث الأمر نفسه في الجزائر التي تحولت في فترة الاستعمار الفرنسي إلى منتج رئيسي لزراعة الكروم، ورافد كبير لصناعة الخمور الفرنسية. إذاً يمكننا أن نتحدث ـ بتعبير فرانسوا بيرو ـ عن حالة من الإعاقة للنمو «blocage de crossance» (5) . وهذا حقاً ما جعل تصنيعاً حقيقياً لهذه الاقتصادات، يكاد يكون مستحيلاً في ظل اقتصاد معولم متمركز ورافض للشراكة.
إن الذين قذفوا بالكرة في مرمى الاقتصاد الثالثي، هم بلا شك طيبون جداً، أو جاهلون للُّعبة الإمبريالية وآليات تحكمها بالاقتصاد الدولي. ذلك لأن دول الجنوب ـ الهامش، ورثت بنى تحتية آحادية الاشتغال، لاتستجيب لمتطلبات الإنماء التكاملي. أي أنها ـ وكما ذكرنا ـ بنى كولونيالية، تستجيب بالدرجة الأولى لمتطلبات اقتصاد الميتروبول. وهي الوضعية التي تكرست في أفق ما يمكننا نعته بالتخليف المستديم للاقتصاد الطرفي ـ الكولونيالي. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار وقوع هذه الاقتصادات في فخ المساعدات وضغط الديون ومستحقاتها، لأدركنا امتناع أي إمكانية للإدخار في ظل هذه الوضعية اللامتكافئة بين الشمال المصنع والجنوب المتخلف. ومن المؤسف أن نرى كيف أفلح التبشير، الراهن بالعولمة وجنتها الموعودة، في حجب هذه الحقيقة وتغيير المفاهيم، إلى الدرجة التي أنتجت ظاهرة «الهرولة» الجماعية باتجاه المصالحة مع الشمال، على أرضية الركوع والانبطاح أمام شروط المستثمر الخارجي، على حساب السياسة الاجتماعية لهذه الدول. ويعود هذا ـ طبعاً ـ إلى النجاح الكبير الذي حققته وسائل الدعاية الليبرالية الماكرة في الربط بين سقوط الاتحاد السوفياتي الحتمي ونهاية ايديولوجيا الدولة الاجتماعية. وقد اعتاد الإعلام الليبرالي الذي يغطي كل أقطار العالم، أن يغيب كافة العوامل الرئيسية التي أدت إلى انتصار الغرب على منظومة الدول الاشتراكية. وهو ما يعتبر حقاً، انتصاراً أمريكياً على الاتحاد السوفياتي، حسم فيه عامل الإنهاك المتوالي لميزان الإنفاق على مشاريع السباق الاستراتيجية. خصوصاً بعد الإعلان الريغاني عن مشروع حرب النجوم. هذا السباق الذي وصفه كيسنجر في مذكراته قائلاً: «وكان يؤخذ على التسلح الجديد أنه يزيد عن الحاجة، وأنه أعرض لذهان عسكري، وأنه إسراف خطير» (6) .
إن وجود العالم النامي، الذي يمثل أغلبية سكان المعمورة، على حافة التهميش، حدثٌ أدى إليه إصرار الغرب على نمط من العالمية اللامتكافئة. فالرغبة الأولى لهذا التوسع الكوني ترجمت في مشروع «أوروبة» العالم، أي ابتلاع الأمم في صيغة غير متكافئة للتعايش. لكن هذا المشروع لقي فشلاً ذريعاً. فقد قدر للدول الرأسمالية وتحديداً في 1929، أن تواجه أزمة إفلاس دشنت ببورصة وولت ستريت وقد كان ذلك عاملاً كبيراً عرّض أوروبا للتفتيت والنزاعات الداخلية، متمثلاً بقيام القوى الشوفينية، النازية والفاشية من جهة، وبروز أطماع اليابان التوسعية من جهة أخرى. الأمر الذي أدى إلى نشوب الحرب العالمية الثانية، التي انتهت بدخول الولايات المتحدة الأمريكية إلى الميدان. كما تحول الإتحاد السوفياتي على أثرها، لاعباً دولياً أساسياً. وحتى وإن كانت الكرة لم تخرج أبداً من الملعب الغربي، إلا أن صعود النجم الأمريكي وتعدد الأقطاب الدولية الثانوية، أجهض مشروع الأوروبة، وفتح العالم على نمط آخر للهيمنة الغربية. ولقد ظهرت إرهاصات نظام عالمي جديد مع ظهور ميثاق الأمم المتحدة، وبعد أن نالت معظم الدول المستعمرة استقلالها، وصولاً إلى قبول عضويتها، كأشخاص مستقلة بصوت في هيئة الأمم المتحدة. كانت الحبكة أكثر تعقيداً من المرحلة السابقة، فهي نسخت على كل حال النمط المباشر للهيمنة لكنها نهجته بأسلوب مقنع في إطار هيئة الأمم المتحدة. هذه الأخيرة التي خضعت هي الأخرى لهيمنة، مادية ومعنوية، أمريكية من خلال احتكار حق النقض وأيضاً بممارسة الضغط المستمر على الهيئة الأممية عبر التهدي بعدم الايفاء بالتزامتها المالية. لقد تداخلت وسائل الصراع الدولي وآلياته، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وثقافياً.. لكن يبدو أن الكلمة الأخيرة كانت للقوة الاقتصادية، المنفذ الاستراتيجي الذي أحسنت الولايات المتحدة الأمريكية توظيفه في دعم هيمنتها السياسية وأيضاً في سبيل «تسليع» العلاقات الدولية وإخضاع المنتظم الدولي لقوة السوق وحجم الناتج القومي للدول الأعضاء. وقد نجحت، بالتالي، الولايات المتحدة الأمريكية، بعد إقصاء منافسها الأكبر، الإتحاد السوفياتي، إلى الاستفراد بالقرار، خصوصاً بعد حسمها لحرب الخليج الثانية وكوسوفو. وخلال هذا المسلسل كان مؤشر الأمم المتحدة يتجه نحو الإفلاس. إذْ لم تعد الحاجة إلى التقنع بها، بعد أن لم تعد صالحة أو مؤهلة لحسم نزاعات العالم من دون التبعية إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وبعد أن فقدت هيبتها لدى شعوب العالم، وساد الانطباع بأن لاقوة تنافس الولايات المتحدة الأمريكية. وقد ساهمت أمريكا نفسها في هذا الوضع المخجل الذي آلت إليه هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن، بخروقاتها البلطجية المتواصلة. إن أكبر دليل على موت الإرادة الدولية متمثلة في الشرعية الأممية، أن الدينامية الأساسية لفرض القرارات الأممية أو انتزاعها، لم تعد تتمثل في الحجم السياسي أو حتى في سياسة حق النقض الذي تشاركها فيه دول مثل الصين وروسيا.. فقد تبين أن هذه الدول لم تكن تستخدم مثل هذا الحق، إلا كرد فعل سلبي تجاه الغطرسة الأمريكية. ولكن متى ما وصلت الأمور إلى المصلحة الاستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية، فإنها لاتبالي بالإجماع الدولي. فتنطلق الدينامية الأخرى متمثلة في الحجم المالي الدولي. وقد لوحظ ذلك مراراً. فلمّا تقدم الكيان الصهيوني بمشروع قرارات المؤتمر العام لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة ـ يونسكو ـ، طلباً لإدراجه في قائمة البلاد المخولة الاشتراك في النشاطات الإقليمية الأوروبية. وقد رفض هذا المشروع من قبل المؤتمر سنة (21/11/1974)، بأكثرية الأصوات، 48 صوت مقابل 33 وامتناع 26 عن التصويت. وعلى إثر ذلك هدد المندوب الأمريكي بالإنسحاب، وهددت الولايات المتحدة الأمريكية وحليفاتها الأوروبية بإيقاف التعامل مع اليونسكو. وامتنعت أمريكا عن دفع 16 مليون دولار للمنظمة ـ تدفع أمريكا 25% من الموازنة العامة لليونسكو ـ مما جعل المنظمة تواجه صعوبات مالية. والأمر نفسه تكرر في الجمعية العامة وغيرها (7) .
غير أننا اليوم، وبعد الإعلان عما سماه جورج بوش، «النظام العالمي الجديد»، باتت أمريكا هي صاحبة القرار. وبدا أن الديناميتين الفعالتين في إدارة الشأن العالمي، وتحقيق الهيمنة على القرار الأممي، تتحددان بالدينامية العسكرية، والدينامية المالية. فمتى مااستمرت الولايات المتحدة الأمريكية في امتلاك القوة العسكرية الأولى والناتج القومي الأول في العالم، فإن حالة الاستفراد بالقرار الأمني سوف تستمر على هذه الآحادية. وعليه، فإن المرحلة الآتية، وإن لم تكتمل بعد، فصولها وتداعياتها، فهذا ما توحي به الدعاية الأمريكية ذاتها، حذاري.. إن هذا العصر، هو عصر أمريكي بامتياز!
لعله قد يطول بنا المقام لو حاولنا التفصيل في مسارات تحول العلاقات الدولية، سواء على المستوى السياسي أو التجاري أو العسكري. إلا أننا ننتهي إلى نتيجة حقيقية مفادها، أن العلاقات السياسية والتجارية و الثقافية بين الشمال والجنوب، ظلت غير متكافئة ومحكومة بمنطق هيمنة امبريالية سافرة. إن منظمة التجارة العالمية بما هي الهيئة المخولة بإدارة الشأن التجاري العالمي، لم تقدم من خلال مواثيقها أو من خلال واقع سياسات أعضائها المتنفذين، أي حلّ لقضية الإنماء في بلدان الجنوب. ذلك، لأن إطلاق العنان كاملاً لشيطان المنافسة الحرة، يعد ضربة قاصمة لهذه الاقتصادات المغلوب على أمرها، من حيث هي فاقدة لشرط المنافسة الدولية في ظل غياب التكافؤ في مستوى الانتاجية وآلية التسويق والاقتدار المالي والمعلوماتي.. كما وفي ظل سياسة التخليف المستديم، تحت وطأة الديون المتراكمة ومستحقاتها اللانهائية، ونمو البطالة بالتخلي عن البرامج الاجتماعية للدولة، في استجابة تعسفية لبرنامج التكييف الهيكلي. إن ما حدث مؤخراً بالولايات المتحدة الأمريكية، على إثر الاجتماع الذي عقده البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. إن هذه التظاهرة التي رافقت أشغال الاجتماع، من قبل الشارع الأمريكي، رسالة فوق ـ رسمية، لكشف لامسؤولية القرارات التي يصدرها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، تجاه دول الجنوب وكارثة الديون التي أصبحت تقض مضجع الاقتصاد الثالثي، في سادية منقطعة النظير لقد وفق المتظاهرون وهم يوزعون القمامة أمام مقر الاجتماع. إنهم ـ حقّاً ـ عبروا بما فيه الكفاية، على أن المؤسسة الرأسمالية الدولية أصبحت منتنة بفضائحها التعسفية.
لقد فرضت العولمة وتيرة جنونية على العالم. وذلك في ضوء علاقة بين نظم سياسية واقتصادية غير متكافئة. إنها في هذه الحالة، عودة إلى نظام الغاب، حيث القوي يسطو على الضعيف. فالمؤسسة المالية والتجارية اليوم، تسلب عوامل القوة من الاقتصاد الثالثي، ثم تمنحه حرية السباق.
أذكر يوم قطع الجلاد قدمي..
قيل لي يومها، أبشر..
قد هداك الجلاد حذاءاً..
العولمة رقي أعرج، لأنه رقي ذو مغزى تجاري ومالي على أنقاض ما تبقى من قيم عليا، كانت دائماً أساس لقيام علاقات دولية سلمية. وهذا ما سيفتح المجال لمزيد من الصراع والحروب بين الدول.
لقد ساهمت الحرب الباردة في تأخير وإعاقة عملية التحول ـ بعد الحرب العالمية الثانية ـ من نموذج العولمة ـ الأوروبية، إلى نموذج العولمة ـ المتأمركة. أي من الهيمنة الأوروبية إلى الهيمنة الأمريكية، بما يعني ذلك تغليب النموذج الليبرالي الأمريكي الأكثر تحرراً ومرونة على الصعيد التجاري والمالي.
وهكذا سوف تتغير المعادلة في العلاقات التجارية الدولية، وتحديداً ما يتعلق بدول الجنوب الفقيرة ستعمل الليبرالية على التبشير بأمل ممكن لإنماء هذه البلدان. وبينما كان روستوف بالأمس القريب ـ معبراً عن وجهة النظر الليبرالية ـ يعزز من حتمية المراحل، أصبح المبشر الأمريكي اليوم، تحت الإيقاع السوفسطائي للإعلام العولمة، يتحدث عن حتمية الطفرات المفتوحة على إمكانيات الاقتصادات النامية. وذلك بشرط الانفتاح اللامشروط على «الراسميل» العالمي والتفويت الجنوني لمنشآت الدولة الاجتماعية. وبما أن «الكاط» (GATT) غدت إطاراً فضفاضاً عاجزاً عن النهوض بالاقتصاد الدولي على خلفية التحرير الكامل للمبادلات التجارية، كان لابد أن يتم الدفع بمسلسل النقاش في إطار جولة الأورغواي إلى نهايته، حيث ولادة منظمة التجارة الدولية. بل إننا نجد الأمور قد شهدت منعطفاً خطيراً، بعد أن انتهى النقاش إلى أبعد من ذلك وفي سابقة خطيرة من نوعها، تم فيها خرق واضح لكل الأعراف الديمقراطية. لا أقول على المستوى الدولي حيث العلاقة بين الشمال والجنوب غير سوية، بل أعني على مستوى دول الشمال وشعوبها.

الـ (MAI); والحنين إلى ما قبل ـ الـ (غلاسنوست) (8)
لقد استطاعت الليبرالية الفتك نهائياً باطارد الأحمر. فأمريكا التي هي اليوم رائدة العالم الحر، تعتبر القوة الأولى عسكرياً ومالياً وتقنياً. وأوروبا اليوم موحدة مندمجة ولاخطر عليها من الرؤوس النووية الروسية بعد سقوط سور برلين. أما الحلف الأطلسي، فلم تعد له وظيفة أكثر من كونه وسيلة أمريكية لضبط ما تبقى من نشاز خارج إيقاع الخضوع للقطب الواحد.
لقد استطاع العالم الحر، أن يستدرج روسيا إلى الدرجة الصفر من المقاومة الداخلية، ضد الفقر والبحث عن الرغيف اليومي، بعد أن كانت الكيان الذي دوخ العالم لأكثر من سبعين سنة. كما حولت ألمانيا النازية واليابان الساموراي، إلى نغمتين في المقطع الليبرالي العالمي. إذن، السؤال الذي يحمل الجواب في ثناياه: ما جدوى الأمم المتحدة، وما الحاجة إليها؟!
لقد أخطأت الظن ـ أو لعله لم يكن هناك من مخرج آخر ـ أقطار الجنوب، حينما علقت كل آمالها على الأمم المتحدة، باعتبارها آخر مؤسسة عالمية ترعى السلام، وحق الشعوب في تقرير مصيرها والدول في حماية سيادتها. آخر مؤسسة كدحت بلا جدوى لكي تجعل العالم يحتكم إلى قيم عُليا. الشرط الوحيد لقيام تعايش سلمي عالمي. وقد كان من اللاّزم، أن الضربة التي تلقتها الدول الفقيرة وشعوب العالم والطبقة العاملة تحديداً، لابد وأن تنتهي بضربة أخرى للأمم المتحدة. وهذا الوكر الذي ما فتئ يتسلل إليها خطاب عالم الجنوب، وتتسلل من خلاله أصوات مسؤولة، حاولت عبثاً تحرير المؤسسة الأممية من سطوة الكبار. ولكن على الأقل، استطاعت هذه الأخيرة أن تفضح مباشرة وتلميحاً، تلك المؤامرات التي تحاك ضد المنتظم الدولي على شتى الصعد. ففي آخر تقرير للأمانة العامة لمؤتمر الأمم المتحدة للتنمية والتجارة (CNUced) 27 سبتمبر 1999، كشفت عن أن هناك سلطة أخرى هي من يتحكم في الاقتصاد العالمي، إنها الشركات المتعدية الجنسية. يقول التقرير: «إن الشركات المتعددة الجنسيات هي التي أصبحت تتحكم في الاقتصاد العالمي وتفرض قانونها وسياساتها عليه سواء فيما يتعلق بالاستثمار أو الانتاج أو الاستهلاك ـ وأنها لاتتردد من أجل تحقيق هذه الغاية في إعادة رسم خريطة العالم حسب ما تستهدفه بما يمكنها من أن تحتل المقام الأول في نظام الانتاج العالمي المندمج..» (9) .
اقتصادات الجنوب تجد نفسها اليوم داخل أزمة مزدوجة. فهي غارقة مكبلة في ديونها وفي برامج التكييف الهيكلي المفروض ومن جهة ثانية، هي اليوم مدعوة للاندماج في السوق العالمية، وطبعاً، اندماجها هذه المرة له معنى واحد، ليس أكثر، هو فتح سوقها ومجالها، لنهب الشركات المتعدية الجنسية، والتلوث البيئي اللامشروط. فالعولمة تضمن لها قفزة إنمائية هائلة على إيقاع التجويع والتفكيك المجتمعي أي كيف تصبح هذه البلدان قابلة لكي تبتلع من قبل عدد من الشركات، لايحكمها قانون، ولايحدّ من طبيعتها المتوحشة أي عرف قيمي. إنها «فيروس» يخترق جسم الدولة ويفتك بخلاياه، ثم ينتشر في أجسام أخرى وبتعبير «كيمون فلاسككيس Kimon Valaskakis»: «إنها النتيجة الغير متوقعة، لدينامية سوق «داروينية» وتصنيفية، تمنح امتياز البقاء للأقوى، تكافئ الرابحين بسخاء، ولاتقدم للخاسرين شرو نقير»! (10)
تمثل الـ (MAI)، أخطر حدث متوقع من الرأسمالية المتسيبة، وذات الشبقية اللانهائية.. فهو الوجه الحقيقي للرأسمالية المتوحشة، والمنزع الذي ظلت حتى الآن تخفيه. إنها الاتفاقية المتعددة الأطراف حول الاستثمار. لقد احتضنت منظمة التعاون والتنمية (OCDE) في باريس 1995 نقاشاً مغلقاً، بعيداً عن الرأي العام، حول حماية الاستثمارات الأجنبية. فهي إذن مفاوضة سرية. هذه السرية يعبر عنها (Jack Lang) رئيس لجنة الأعمال الخارجية في التجمع الوطني، بقوله 1997: «Nous ignorons qui negocie quoi au nom de qui» «إننا لا نعلم من ذا الذي يفاوض وعلى أي شيء يفاوض وباسم من!» (11) . وعلى الرغم من هذه السرية المبيتة، وإنكار المسؤولين في الولايات المتحدة الأمريكية، وجود نص المفاوضة، إلا أن بعضاً من النشطين تمكنوا من العثور عليه. وهناك حيث تبين بالملموس، أننا أمام مؤامرة احتكارية، حقيقية على الدولة والمواطنين. وذلك بإعفاء المستثمر الأجنبي من كل الواجبات، مع ضمان أي خسارة ممكنة، من قبل الدولة. ومعناه أن مناقشات الـ (MAI)، لاتريد دولة ضعيفة. بل تريدها «أسداً» ذا هيبة وبطش تجاه المواطن، «أرنباً» ضعيفاً أمام المستثمر. وعلى الدولة تحمل كل الأضرار التي تلحق بالمستثمرين، جراء اضطرابات جماهيرية أو إضراب عمالي.. وهي بالمقابل ـ الشركات ـ لن تتحمل أي ضريبة اجتماعية أو بيئية أو.. أو.. أي على الدولة أن تحمي الاستثمار بالمجان. إذن، الـ (MAI) منذ الوهلة الأولى، لم تشرك الرأي العام، ولا حتى أخبرته بوقوع مفاوضات من هذا القبيل، ثم هي تعزز نموذج الدولة الديمقراطية الأمنية، الضاربة على يد العمال والنقابات.. الـ (MAI) بهذا المعنى، هي تهديد سافر لمستقبل المستثمرون والدولة هي وسيلتهم ليس إلا، مادام أنها مؤسسة قابلة للخوصصة. فالنص الذي ضبط، يؤكد على أن المنخرطين في الـ (MAI)، ليس لهم الحق في إعلان الإنسحاب من الاتفاقية إلا بعد خمس سنوات.. وبعد التصريح بموقفهم يتعين عليهم الاستمرار في العضوية لمدة خمسة عشر سنة. أي أن العضو في الـ (MAI)، هو رهينة عشرين سنة من الاحتكار. والكل يعلم ماذا تعني (20) سنة في عمر الاحتكارات والاستثمارات الكبرى.
لقد جاءت مفاوضات الـ (MAI) لتعزز من ملف مطلبي أزلي للشركات المتعدية الجنسية، والتي هي عبارة عن «لاءات» لانهائية؟ لا للضريبة على البيئة، لا لضريبة «توبين»، لا للتشغيل، لا للتمييز بين المستثمر المحلي والمستثمر الأجنبي. وبالفعل، نستطيع أن نعتبر ذلك، وكما وصفه Peterwahl: «إنها تبدو كقائمة أماني الاحتكارات الكبرى، التي تقدم لسانتا كلاوس (رجل عيد الميلاد)» (12) . إن الدولة معرضة لمرافعات من العيار الثقيل من قبل هذه الشركات التي كلما وحيثما كبرت وتعملقت إلا وابتلعت الدولة والمجتمع. فالقانون، كل القانون، سيختزل في تلك الجدلية الأزلية للسوق، الربح والخسارة. فالربح هو مبرر التجاوزات، ومشرع ومشرعن الاتفاقيات.. أما الخسارة، فهي ناقوس الخطر، والرادع، ووسيلة الضغط المناسبة. لقد حصل ذلك بامتياز بالنسبة لشركة (Ethyl)، المتموقعة في الولايات المتحدة الأمريكية. وهو ما أغرى الـ (MAI) نفسها ودعم مطالبها. كان ذلك نزاعاً بين الشركة والدولة الكندية، انتهى بتغريم الدولة وانتصار الشركة (13) . بينما كان الضحية، هما الدولة والمواطن. وحينما نقول أن حكومة «أوتاوا» دفعت «14» مليون دولار للشركة، فحتماً هذه أموال الشعب الكندي، وكل ذلك جرى في إطار اتفاقية التبادل الحر للشمال الأمريكي!؟

العولمة، الانهيار الاجتماعي، واستقالة الدولة الاجتماعية..

يبدو أن الشركات الاحتكارية الكبرى، أدركت موطن ضعف الدولة الاجتماعية.. وذلك باتخاذها قرارات ردعية، تعدم الاستثمار في هذه الدول. وهو ما يعني مزيداً من الضغط الاجتماعي. وكان من المفترض أن تتجرر الدولة ـ وتحديداً الثالثية ـ من هذه «الفوبيا» السياسية بنهج مزيد من الديمقراطية، حتى يتسنى لها تشكيل جبهة موحدة وموقف تضامني بينها والمجتمع، للنهوض في وجه هذه الضغوط بل بإمكان الدولة أن تلعب دوراً إقليمياً ودولياً ضاغطاً على هذه الشركات. إن الإبقاء على هذه الشروط لن يحول بين الشركات وإرادة الاستثمار.. ولست أدري أسباب هذا الخوف من الاحتكاريين من قبل الدولة؟! لقد بدت الشركات الكبرى أكثر دلالاً من السابق. فهي تستطيع الضغط على كل الدول بسحب مواقع انتاجها أو تحويل استثماراتها أو ربما حتى إيقاف استثمارها.. ومثل هذه الضغوط والإملاءات اللانهائية تحدث في دول عظمى مثل ألمانيا وكندا و.. و.. كما قد تحدث في دول نامية في آسيا أو أفريقيا أو أمريكا اللاتينية.. ولكننا في المقابل، لانجد لا الدولة ولا النقابة ولا حتى فعاليات المجتمع المدني، تفهم هذه المعادلة، وهي أن الرأسمالي لايملك أكثر من التخويف والضغط.. لكن هل حقاً يستغني عن الاستثمار؟! ماذا لو تضامنت كل هذه القوى الاجتماعية في وجه هذه القوى الاحتكارية؟! إن القيود لن تحول بينهم وبين مزاولتهم للتجارة والاستثمار، فلا بد إذاً من تقييدهم. ذلك أن القضية بلغت حدّاً خطيراً لايطاق. فإما التقييد أو الطوفان!
الربح إذا، هو الدافع الأساسي. هذه مسألة ليست جديدة على الرأسمالية المتوحشة. لكنها في عصر السيولة النقدية، تتضخم معايير الربح، ويجن جنون الرأسمالية. ومتى كان الربح هدفاً نهائياً للعملة الإقتصادية، فإن ثمرة ذلك تغدو أشد وضوحاً، كوارث اجتماعية، وغياب الأمن بكل أشكاله وألوانه، تضخم، بطالة، جريمة منظمة، فقر وتسول.. كيان مجتمعي تحت الصفر.
لقد أصبحت الدولة الاجتماعية خطراً حقيقياً على المستثمر.. وهذا ما يفسر ظاهرة الرأسمال الهارب إلى حيث المواقع الأنسب. ونحن نتساءل بدورنا ما معنى الموقع المناسب، أو بتعبير أدق: ما معنى الظروف السيئة الغير مشجعة على الاستثمار؟ يجيب رجال الأعمال وأرباب الشركات العملاقة، بأنها الأجور المرتفعة.. إنها رقابة الدولة.. الضرائب من أجل المشاريع الاجتماعية والبيئية.. وعلى الشركات أن تبحث لها عن موقع مناسب، أي مناطق الأجور المتدنية، وتقليص دور الدولة وقلة أو غياب الضرائب. أي مناطق تنعدم فيها المشاريع الاجتماعية، وتنتشر فيها البطالة ولا توجه فيها سياسة للبيئة أي مناطق منكوبة! وقد برهنت مناقشات الـ (MAI) على أن المستثمرين الدوليين، أعداء الشعوب والديمقراطية بامتياز. إنهم يراهنون على الدولة القمعية ـ كما أشرنا ـ وعلى مزيد من فرص الاستبداد بالقرار وعزل الجماهير عن أن تبت في قضايا معاشها ومصير ثروتها.. بالنتيجة المفاوض أو المستثمر في الـ (MAI)، كان همه القضاء على كل أشكال الحقوق الاجتماعية، وهذا له معنى واحد لاغير: لا للتمثيل، لا للشراكة، لا لحق الشعوب في تقرير مصيرها الاقتصادي ومصير ثروتها.. هذه اللاءات التي كانت تستهدف بشراسة كل ما هو اجتماعي، هي مراسيم نهاية التاريخ في مشوار الرأسمالية المتوحشة. وقد يبدو ذلك أمراً حتمياً، فسقوط النمط الاقتصادي الاشتراكي الموجه، عزز من خيار الرأسمالية، وأعطى المبرر لوجهها المتوحش كي يبدو أكثر توحشاً. لكننا نجد الإعلام المضلل الذي يقتات على سيولة الشركات الاحتكارية نفسها، لايفتأ يوهم الرأي العام، بأن سقوط الاشتراكيات، إنما هو في الواقع سقوط خيار الاقتصاد الدولتي ونموذج الدولة الاجتماعية. وهذا حقاً بهتان عظيم. فالذي سقط في الاتحاد السوفياتي هو أوتوقراطية حزبية وتمامية أدلوجية وبيروقراطية متعفنة.. وإلا فإن أوروبا في عز رفاهيتها، كان لايزال فيها للدولة الاجتماعية مكانة محترمة. ولو ثبت أن الاشتراكية بهذا المعنى هي الدولة الاجتماعية، لقلنا بأن أغلب الدول الأوروبية كانت اشتراكية. والحال أن العولمة بتعبير أكثر ليبرالية، هي انقلاب على الليبرالية المحافظة كما شهدتها أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، وهي مامثلته الأطروحة الكينيزية ـ نسبة إلى Kynes ـ. هذا الانقلاب جاء لصالح النظرية النقدية لـ: فريدمان. وهي تؤسس لمرحلة من الليبرالية المطلقة، التي تمضي أكثر من إعادة الهيكلة، بل إطلاق الحرية كاملة للرأسمال، وقضاء مبرم على الدولة الاجتماعية.
والحق أن الاقتصاد المعولم يسعى إلى أكثر من عزل الدولة. إنه يحدد لها مجال تدخلها الوحيد والممكن، ولايعمل على إقصائها. إنه يحتفظ بها كجهاز بوليسي لتأمين مواقع إنتاجه، وإيقاف ثورات العمال المحتملة. وأكثر من ذلك، فإن الدولة تُؤمِّن للشركات الكبرى تلك المعادلة الخطيرة: المخاطر التي يتحملها المجتمع والدولة. والربح الذي تضفر به الشركات وحدها ـ قسمة ؟؟؟ ـ ولو أردنا الحديث بالملموس، لقلنا بأن من مخاتلات الشركات الكبرى، أن تتحدث عن انتفاضات عمالية وشعبية، محتملة؟! مما يشجع الدولة على المخاطرة ولكن الواقع هو أن ارتهان الدولة الاجتماعية للشركات الكبرى، سوف يحتم لا محالة هذا النوع من الاضطرابات.. إنها ليست صناعة الجوع فحسب، بل وصناعة الحروب أيضاً! كان من المفروض أن تنكشف خدعة العولمة الاقتصادية كما تسعى هذه الشركات إلى رسم ملامحها، لولا هذا الانفجار الإعلامي الساحر المغري. إن التهديد الذي تمثله العولمة هو استبداد هذه الشركات المتعدية الجنسيات والسياسيين الذين ينتمون إليها أو لهم مصالح معها ـ أي رجال أعمال في الوقت نفسه ـ لكي يوجهوا إعلامهم نحو الدعاية لأنفسهم. إن صناعة الرأي العام في ظل العولمة، تتحكم فيها الدعاية والرأي الذي غالباً ما يقدم من جهة واحدة، مدعوماً من قبل أباطرة المال والشركات والمافيات.. والحديث عن مجتمع ديمقراطي يتشكل فيه الرأي العام بالطرق المتساوية العادلة بين كافة الأطراف المتنافسة هو حديث لامكان له في ظل ديكتاتورية الإعلام والسياسة المعولمتين!
وهكذا، بات تيار العولمة الجارف، يطالب بتراجع الدولة عن الانفاق الاجتماعي، ورفع اليد عن عملية ضبط آليات السوق. أي نموذج الدولة الناعمة، الرخوة. حتى ليبدو أن العولمة تحاول تغيير الطبيعة الجنسية للدولة. من دولة ذكورية إلى دولة أنثوية ناعمة. والواقع، أن العولمة لا تصنع دولة رشيقة، بل هي بصدد صنع دولة فتاكة تساهم في صناعة الجوع والفقر بتخليها عن ضبط آليات السوق والانفاق الاجتماعي.. ودولة بوليسية موجهة لقمع الحريات وكبح جماح أي تهديد ضد الاحتكاريين، الدولة الفيودالية بامتياز!

وفي الوقت الذي تعلو الأصوات مندة بوحش العولمة الزاحف على إيقاع التدمير الكامل لمكتسبات الدولة الاجتماعية، هناك قراءة مناقضة لذلك، تبشر بالعولمة وعالم الرفاه في ظل اقتصاد معولم.. ومثل هذا الهدوء يملكه رجلان، أحدهما صاحب شركة كبرى أوله سهم فيها أو موظف سامي في إحدى الشركات. والآخر، جاهل بالأبعاد الاحتكارية لتيار العولمة، ذاهل عما يحدث في إطار المبادلات والاتفاقية الدولية، أي شخص لاعهد له بالاقتصاد الدولي وطبيعة العلاقات الدولية وتاريخ الرأسمالية ـ إننا بالتأكيد ندرك ذلك المقدار من التصور المستبد بمخيال أولئك الذين يناصرون العولمة من دون شعور بمخاطرها وبمكرها اللانهائي.. ربما سوف تصنع العولمة مفارقتها العجيبة في شكل صور كثيرة ومهولة من التفقير المقنع، فقير لايجد قوته اليومي يحمل نقّالاً ـ خليوي ـ واشتراكاً سنوياً في الانترنيت.. النقال والانترنيت أدوات متاحة، بل وسيلة لـ «بطالي» يبحث عن عمل مستحيل!
إن مجتمع الرفاه يقوم على سعة فضاء السوق، أي على المنافسة. والعولمة أتت بالاحتكار وقتل المنافسة وأعلنت عن مبدئها الاستراتيجي: لا للدولة وتدخلها. بمعنى، لا للرفاهية الجماعية. فليست العولمة خطراً على الكيانات الاجتماعية، حيث أغلبية القوى الفاعلة فيها هي الشغيلة ـ القوى المنتجة ـ بل هي خطر على المجتمع الديمقراطي، وعلى الديمقراطية نفسها. إنها تؤسس لديكتاتورية اقتصادية آحادية القرار. هذه المرة سوف يكون المتسلط فيها، الشركات الكبرى، وتغدو الدولة الاجتماعية هي الضحية. إن تقليص دور الدولة أو إقصائها، بالشكل الذي تهدف إليه العولمة مستحيل، بل لو حدث لأدى إلى شرخ في الكيان الاجتماعي لأكثر الدول ديمقراطية في العالم. وعلينا بعد ذلك أن نحدد مجالات التدخل الحتمي للدولة، حتى يتضح لنا كم أن العولمة لاتملك الرؤية الاستراتيجية البعيدة المدى. إن قراراً مثل هذا لو حدث لانعدمت الضرائب نهائياً، سواء تلك التي تتعلق بالمشاريع الاجتماعية أو البيئة.. إن هذا تحديداً ما يتمناه ويحلم به أنصار العولمة، ولن يتوقفوا نهائياً عن المطالبة به..
ولايسعى المستفيدون من العولمة ودعاتها إلى تلميع واجهتها فحسب، بل إنهم يعتبرون كل صوت آت من قاع المجتمع، ومن طوق التهميش بلبلة من مواطنين غير صالحين أو مؤهلين، مهدين للأمن المجتمعي والاستقرار السياسي.. إنهم يصنعون التهميش ويحاكون ضحاياه، حتى في أن يحتجوا!؟ فـ «زيوس» ملهم الاحتكارات الكبرى، عازم هذه المرة، ألا يدع أي فرصة لـ «بروميتوس» بأن يسرق نار (الرفاهية) المقدسة. وإذا فعل، فحتماً سيسلط عليه «نسر» الدولة البوليسية، في أن تنهش كبده. فهم لايريدون إبادة الشعوب ولا رفاهيتها.. فللشركات الكبرى، رأسمال غير سيولتها، أعني ذلك التدفق الديمغرافي الذي يجعل سوقاً مثل الهند أو الصين.. تلهب شبق الأجنبي، وتسيل لعابه.. فالمستثمر يتمنى أن تبقى الشعوب وتتكاثر. ولكن بمنسوب من الدخل، تحت خط الفقر. هكذا من أجل ضمانٍ أفضل لليد العاملة، لسوق أكبر، ومواقع أكثر.. إنها لاتستحمل يداً منتجة جديدة، ولكن تستحمل فماً مستهلكاً جديداً.
لقد نجح الإعلام الناطق بأهداف الشركات الاحتكارية والمروج لايديولوجيا الليبرالية الجديدة، بأن قيام الدولة بضبط إيقاع الاستثمار ومراقبة آلية السوق، خطراً جوهرياً على الاستثمار، وبالتالي على العملية التجارية والاقتصادية. ولابد أن يقال، كيف يكون خطراً على الاقتصاد، أن تفرض الدولة حقوقاً تعود فائدتها على المشاريع الاجتماعية. فحتماً لا وجود حينئذ لأي خسارة للمستثمر ولا لعملية الانتاج.. إنما القضية الخطيرة هنا، هو أن الشركات الاحتكارية ترفض ـ وهذا هو موقفها المبدئي ـ أن يتقاسم العالم الرفاه. بل إنها تصر على جزء ضئيل من مستوى الأرباح، ولو تعلق الأمر ـ في المقابل ـ بتفقير وتجويع بالجملة في حق المجتمع، بل في حق شعوب تمثل أغلبية ساكنة المعمورة. ففي غياب دور الدولة، وتقلص مجال تدخلها، فيصبح الميدان حرّاً أمام الصراع التنافسي بين الشركات الكبرى والعملات الصعبة (اليورو والدولار والين والمارك و..) وبالتأكيد لن يتسع ذهن الشركات الكبرى لأي اعتبار للأهداف الاجتماعية. فهذه الشركات تفكر ليل نهار في الأرباح المتزايدة، والغزو المستمر للأسواق.. ولن تفكر ولو مرة واحدة في المصالح الاجتماعية. فهذه الشركات، وبشكل ممتاز، استطاعت أن تتمثل موقفاً سارترياً، باعتبار أن الآخر هو الجحيم. وبالطبع، الآخر هنا، هو المجتمع!
إن طبيعة الأشياء تؤكد على أنه من غير المتوقع من الشركات الكبرى أن تفكر في الغايات الاجتماعية. أو أن يكون هواها اجتماعياً.. فالرأسمالية دائماً كان فزعها فردانياً واحتكارياً.. وكما أشرنا سابقاً، فإن منطق الاستثمار دائماً يفترض أن عدوه الرئيسي، الأهداف الاجتماعية. إذاً، فإن تدخل الدولة ضرورة اجتماعية. وإن رفع الدولة يدها من العملية الاقتصادية بهذه الصورة المطلقة، معناه، بداية الانهيار الاجتماعي.
لقد صورت الدعاية الليبرالية في لبوسها التحرري المطلق، أن الضريبة على التكلفة، تلك التي نصبت في النهاية في الأهداف الاجتماعية، عائق خطير لتنامي الاستثمارات. بل إنه تعسف على المستثمر. ولما لا، وهذا هو الذي تخفيه أو تعلنه بين السطور، نهبٌ لأموال الشركات من قبل الدولة والشعب.. أي أنها غير معنية بكل هذه النفقات. والواقع أن المستفيد الأكبر دائماً ـ حتى في ظل الضريبة على التكلفة ـ يبقى هو هذه الشركات ذات المرافق الأخطبوطية. لقد كانت هذه الأخيرة تستغل دعم الدولة لبعض القطاعات، مثل البنزين، في صالح استثماراتها. فهي بالتالي أكبر مستهلك ومنتفع من هذا الدعم.
إن المؤشرات كلها تؤكد على أن مجتمع العولمة، كما هي الولايات المتحدة الأمريكية اليوم، وأوروبا في الغد القريب، هو مجتمع لايتسع للفقراء وذوي الدخل المحدود. إنه مجتمع تتم فيه صناعة الفقر والتهميش بالجملة.. وهو في الوقت نفسه يسمح للمضاربين والاحتكاريين أن يرتفعوا أكثر وبسرعة ضوئية. فالمسافة الفلكية بين الأغنياء والفقراء تصل قمة تعسفها وبشاعتها.. إنه مجتمع المضاربين والمقامرين والسياسيين المتعبدين في محراب إعادة الهيكلة وتحرير السوق، والمافيات.. وحيث لاوجود لطبقات وسطى، فهناك «الفوق» و«فوق الفوق» و«التحت» و«تحت التحت». فلا موقع للفقراء.. إنهم ـ لو أردنا التعبير على الطريقة النتشوية ـ لايستحقون الحياة!
إننا نتساءل بعد كل هذا، عن أي سلم مجتمعي يمكن أن يتم في ظل دولة مستقيلة واقتصاد معولم ومتحرر إلى حد التخمة؟!
فاجتماعياً، يمكننا توقع سيناريوها، ربما بدأنا نعيش مقدماتها وتداعياتها قبل الأوان. وهي ظواهر راسخة في المجتمع الغربي، وتحديداً في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث تقدم نفسها كنموذج مستقبلي لأوروبا، ومن ثمة للعالم. إنها ظاهرة انحطاط المجتمع المعولم إلى درجة تحت الصفر وهو الانحطاط الذي يتلخص في ثلاث صور خطيرة: الجريمة، الدعارة، المخدرات.. فالجريمة هي ثمرة لتدهور القيم وسيادة الاحباط في مجتمع بلغ مداه في صناعة كل الصور والألوان الممكنة للشذوذ والانحراف. حيث تمثل السرقة إحدى مظاهر الصراعالطبقي في مجتمع الإستهلاك والرفاهية.. تغدو السرقة الطريق الممكن لاختراق الحواجز الاجتماعية والطبقية، للإنضمام إلى التيار الاستهلاكي عن جدارة واستحقاق. وكل هذا طبيعي في مجتمع لاوجود لأي قوة تحمي المواطن من استغلال أرباب العمل. وها هنا لاخيار أمام المهمش سوى الانتحار أو الجريمة. وهناـ أيضاً ـ تكون المخدرات القطاع الوحيد الذي يوفر فرصة عمل ذهبية في زمن غياب فرصة العمل الشريف، وغياب الضمان الاجتماعي. المجتمع المعولم، المتخم بثقافة الاستهلاك والشبقية والابيقورية اللانهائية، يخلق هذا النمط من المغامرين، للكبس السريع والكثير. وذلك على حساب شريحة أخرى من مستهلكي تلك البضاعة، المحبطين بفعل التهميش المستديم، أولئك الذين قادتهم آلة الانتاج الرأسمالية كحثالة الصدأ!

وتحتل الدعارة المرتبة نفسها. فهي الفرصة الوحيدة للعمل، إذْ يستثمر الانسان آخر ما يملك من أجل الربح والبقاء. بل إن العولمة نفسها تحول هذا النوع من الانتحار الاجتماعي والقيمي إلى مجال للاستثمار ـ استثمار في البؤس ـ أي تعود الفائدة إلى المستثمر. لما لا وقد نجح المستثمر الرأسمالي رسول العولمة، في أن يجعل قنواته «الأيروسية» تنافس أعتى المحطات الإخبارية الدولية.
وهنا لابد من القول: ما الفرق بين ما تقوم به الشركات الاحتكارية الكبرى من شطط تجاه العمال، وبين أولئك الذين قادهم واقع الرأسمالية، مجرمين ومفيوزيين. إن ضحايا المضاربات المالية والاستثمار المعولم من الجوعى والمعطلين.. هم أكثر من ضحايا مافيات المخدرات. وبعد هذا كله، فإن الجريمة في مجتمع العولمة الاقتصادية هي خيار أخير، بل وطريق ملكي، لأولئك المهمشين إلى حدّ التخمة. فالمهمشون سوف يبحثون عن دعم مفقود. والسجون في زمان العولمة، هي المؤسسة الاجتماعية الوحيدة التي لاتزال تحظى بدعم الدولة. السجن هو نهاية التهميش والملاذ أو المأوى الأخير في أفق التفويت الجنوني للمؤسسات، وغياب دور الدولة في العملية الاقتصادية، وغياب فرص العمل، والضمان الاجتماعي. هكذا يسعى المنبوذون والمهمشون إلى افتعال جرائم مختلفة لضمان بقاء أطول في السجون، أي في ظل حماية الدولة! ربما ـ وكما هو حاصل نسبياً في الولايات المتحدة الأمريكية ـ تكون السجون بنفقة الدولة وإدارة القطاع الخاص. أي تتحول هي نفسها إلى قطاع استثماري بين الإدارة الخاصة والدولة. وهكذا يبدو المستثمر في قطاع السجون ـ زمان العولمة ـ نموذجاً لحفار القبور. ذلك الذي يصبح على أمل أن يهلك الناس بالجملة، أو ربما يموت من في الأرض جميعاً!

البطالة..

من يقول العولمة، يقول «البطالة بالجملة»! هذه حقيقة واضحة! أليست العولمة، هي إقصاء للإنفاق الاجتماعي. أليست هي تلك اللاءات اللانهائية، حيث واحدة منها فقط: لا للتشغيل! ما هي إذاً، مضاعفات إدماج الشركات، وابتلاع الكبير منها للصغير. ففضلاً عن أنه أسلوب العولمة في تركيز الاحتكارات الكبرى، مما يهدد المنافسة الاقتصادية، فهو مشروع لتسريح مزيد من العمال، أي صناعة البطالة!
لقد أصبح الحديث عن التشغيل، مقرفاً للغاية، بالنسبة لأنصار الـ (MAI). بل إنه أشبه ما يكون بخرافة حديثة. مثل هذا اليأس نلمسه حتى في دول في طريق النمو، خضعت ولاتزال لضغوط صندوق النقد الدولي.
والحال أن القضاء على البطالة، وفتح أسواق التشغيل، هو أمر ليس ممكن ـ فقط ـ بل هو من الأهمية بمكان. من حيث هو دينمو رئيس في التنمية المستديمة. إن الوقوف ضد التوظيف والتشغيل، هو خطر ليس على المجتمع أو على الديمقراطية فحسب، بل خطر على السلامة الماكرواقتصادية. إذْ بقاء الاقتصاد خارج دائرة الرقابة، سوف يتحول إلى أداة تفقير جماعي. ولا حلّ لمشكلة البطالة إلا بإيقاف نزيف التسريح من العمل. وهذا معناه إيقاف زحف العولمة الاقتصادية بمزيد من الضبط والضرائب، والعمل على بديل أفضل!
إن دور الرنقابة اليوم، رئيسي وضروري للغاية. وعلينا بعد ذلك أن نعرف بأن قوة النقابة بتماسك أعضائها.. وبمنسوب وعيهم بقضيتهم. وبمدى قدرتهم على خلق مناخ تضامني حقيقي. على الشغيلة، ومناضلي النقابات أن يستوعبوا هذه الحقيقة بقوة: لا للعولمة أو لانكون! فليس الانخراط في صف الاحتجاجات هو مهمة ضحايا البطالة المفروضة.. بل هي مهمة كل العمال، وكل الذين لاينتمون إلى طوق الاحتكارات الكبرى. فهم معرضون كغيرهم الآن أو في أي وقت آخر، إلى التسريح والطرد، أو أي مخاطر أخرى، سوف تتفنن العولمة في صنعها. إن البطالة ليست خياراً لهؤلاء الذين يموتون ألف مرة كل يوم، وتنطفئ شعلة حيويتهم، بحثاً عن فرص عمل. إنها صناعة الاحتكار. فالبطالي ليس رجلاً معوقاً. إنه ضحية لرأسمالية متوحشة لاترحم. ولعل أكبر دليل على قسوتها ونهجها اللا إنساني، أنها رأت في الـ «ربوط» Robot بديلاً عن اليدالعاملة، دون أن تعير أي اهتمام لمصير آلاف العمال ضحايا التسريح التعسفي من المصانع. بينما كان من المفروض أن تساهم التقنية في تخفيف العبء عن العمال بدل أن تصبح مصدر شقائهم. إن التجديد «innovation»، أصبح العدو التاريخي للعمال. إن تقاسم العمل هو أنجح الحلول لهذه المشكلة. نتساءل ونقول: لماذا «الربوط»؟! إننا نلوم ـ حقاً ـ الإنسان الغربي صانع الحداثة الأخيرة، حيث أطلق القيم بهذا النحو من الإهمال الدراماتيكي. نتساءل دائماً عن تلك الافرازات التي تتم في الـ «Wekend»، أو العطل الصيفية، لرجل تحول تحت ضغط التسليع والمكننة، إلىوحش آلي يقضي الأعمال الشاقة في زنزانة كبيرة، هي المصنع! وبالتأكيد، إننا لم نبلغ حتى آفاق الحلم الهيغلي، حينما يصبح للعمل، قيمة اجتماعية ومتعة فردية. حيث يتحول «العمل» إلى ممارسة مريحة أو «عبادة»! لماذا لايتم تقاسم العمل على أرضية متكافئة، فيكون الربح، هو ربح الوقت. إذن يمكن للبطاليين أن يتحولوا إلى جيش احتياطي، ليس بالمعنى السلبي، أي الضغط على العمال. بل بمعناه الإيجابي، في صالح العمال وراحتهم، وحقوقهم الإنسانية في ألا يكونوا آلات صماء أو في أعمال شاقة أبدية. حقهم في رعاية أنفسهم والاهتمام الروحي، حتى لايصبح الإنسان ذو بعد واحد!

الخوصصة..

الخوصصة هي «حمار» الاقتصاد المعولم. وهي وسيلة لتدمير الكيان المجتمعي. وطبعاً، الخوصصة التي نتهمها ليست هي المعنية بخلق مناخ المبادرة الفردية. بل نقصد وجهها الآخر، استقالة الدولة من مسؤوليتها الاقتصادية، وأيضاًنعني جنون الخوصصة الذي يستهدف تلك المشاريع الحيوية. بالتأكيد الخوصصة، تصنع واجهة جميلة. وتحديداً في العالمالثالث. لكنها تكرس واقع التهميش. إن طغيان سياسة الخوصصة في ظل العولمة الاقتصادية يترك بالضرورة آثاراً سلبية على المجتمع. وخاصة، إذا تعلق الأمر بخوصصة قطاعات استراتيجية، كالسكك الحديدية، والبريد،.. فالدولة من خلال فرضها ضرائب على القيمة المضافة، من أجل تمويل مثل هذه القطاعات ذات المردود الاجتماعي، تسعى إلى دعم الخدمات الاجتماعية، وليس التوصل إلى مزيد من الربح. ولنقل، حسناً، إن القطاع الخاص، أكثر إنتاجية من العام. ولكن أي كارثة سوف تحصل حينما تصبح الخوصصة رديفاً لغياب الدولة، المطلق. من يحمي المواطن من سطوة الاستغلال؟!
ومع ذلك نقول إنه لمن الطبيعي أن تتحقق الجودة في القطاعات المخوصصة، ذلك لأن المستثمر يبحث من خلال ذلك على مزيد من الربح، وإن اقتضى الأمر رفع الأسعار. لكن وجود مثل هذه القطاعات تحت إدارة الدولة، غايته الخدمة الاجتماعية وليس توفير الربح. وأمام هذه المعادلة المختلفة، لايمكننا الحصول على الجودة الرفيعة والخدمة الاجتماعية إلا بوجود استثمارات مراقبة ومتجاوبة مع متطلبات الدولة الاجتماعية. إن انخفاض سعر خدمة أو سلعة ما، تحت ضغط المنافسة، لايعني أن الاستثمارات الوافدة تصنع رفاهية المجتمع. بل إن انخفاض سعر خدمة ما يقع على كف عفريت المنافسة. لأن ابتلاع شركة لأخرى أو إقصائها، يعيد الأمر إلى الأسوأ، أي ارتفاع جنوني في سعر الخدمة أو السلعة نفسها. من هنا نلاحظ مفارقات آلية السوق المعولم. وكما أشرنا آنفاً، رجل بطالي عاجز عن توفير قوته اليومي، يستطيع تأمين انخراط سنوي في شبكة الانترنيت. إذن، الحرب الكبرى التي تقوم بها الشركات الاستثمارية العالمية، هي حرب تستهدف المجتمع وتهدد السلم المجتمعي. وقد يغدو الأمر أشد خطورة، حينما نتحدث عن مصير الدولة الثالثية، والأكثر فقراً في العالم، في ظل زحف الراسميل ونزيف العولمة. لابد أن نقول: على الدولة ـ هنا تحديداً ـ أن تكون أكثر حذراً وصلابة لتتحول هي كاملة إلى شركة كبرى.
حينما يتعلق الأمر بمفاوضاتها مع الشركات الأجنبية الكبرى. إن مفاوضات الدولة مع هذه الشركات هو الطريق الأسلم، مادام لاوجود لشركات محلية قادرة على المنافسة أو الضغط. ومن ثمة، يتعين علينا إدراك حقيقة ذلك الجدل الذي طالما تكرر في الأوساط الاقتصادية المحلية والدولية، أعني جدل القطاعين، العام والخاص.. الدولة/الشركات.. لقد أرادوا أن يرسخوا في العقل التنموي أن الدولة عدوة النمو.. صانعة التخلف. لكننا نستطيع القول ـ أيضاً ـ بأن الاقتصادات الأسيوية ـ رغم كل الظروف والمصاعب ـ خير مثال على قدرة الدولة على الإصرار والصهر من أجل خلق مناخات التنمية والتعاظم. وليس أزمة الاقتصادات الآسيوية سوى نتيجة لفوضى المضاربات المالية. فالعولمة أو بتعبير آخر المضاربات المالية الكبيرة والسريعة، هي عدو التنمية المستديمة!

أعولمة حقاً.. أم صناعة الحرب؟!

الحرب الاجتماعية هي النتيجة الحتمية للعولمة الاقتصادية. وقد تكون مخاطر ذلك على الدول الغربية أكثر، طالما أن المجتمعات الغربية تعودت على نمط معين من الاستهلاك، وعلى منسوب معين من الضمان والدعم الاجتماعي. وليست تلك هي الحرب الوحيدة التي تصنعها العولمة. هناك ما هو أسوأ من ذلك بكثير، الحرب العالمية! فإذا كان الإنسان الفقير في المجتمع المعولم، ينقاذ تحت وطأة الفقر وغياب الضمان إلى المتاجرة في جسده، حيث تمثل ظاهرة بيع الأعضاء، والدعارة.. الفرص الأخيرة للحياة، فإننا سوف نشهد بروز الدولة ـ المومس، التي يدفعها التهميش وسطوة السوق، إلى المتاجرة في إرثها النووي، وإلى رفع الرقابة عن آخر ما تملك. فالعولمة، سوف تحول دولة مثل روسيا ـ الفقيرة مالياً، الغنية نووياً ـ إلى «مومس» تتاجر في الممنوع، وفي رمز شرفها، القدرة النووية! فالجسد حينما يجوع، يبدأ في التآكل الذاتي، وتلك هي ثالثة الأثافي في النظام الدولي الجديد!
وإذا كانت الحرب سابقاً، وإلى حدّ ما الآن، لاتزال رهينة الموقف السياسي للدول ـ وإن كان ذلك يقع غالباً وبشكل ما تحت ضغط المصالح الاستراتيجية ـ فإن غياب الدولة سوف يفسح المجال لنمط آخر من الحروب، تتحكم فيه سلطة السوق. وفي أفق سيادة النقد وسلطته، سوف يكون «النقد» هو الحكم المباشر على الحروب. فمن يملك سيولة أكبر، يتحكم أكثر في دواليب الحروب وإرادتها. وإذا ما حدث أن أصبحت الكتل الاقتصادية حاكمة علىالدول، فهي حتماً، ومن باب أولى، ستكون صاحبة القرار النهائي في الإدارة الخاصة، ولاشك أن العولمة، تتيح للتفويت الجنوني للقطاعات ذات المردود الاجتماعي إلى الإدارة الخاصة، أن يصل إلى أعلى مستواه. حيث تمتد يد التخصيص إلى الأمن، ولما لانتوقع أيضاً الأمن الخارجي.. أي خوصصة الجيش؟! وهكذا نكون أمام حالة من عولمة الحروب، مما يعني أننا بلغنا منتهى شطط الرأسمالية الكاسرة! هذه الأخيرة التي لاتملك وعياً بالتاريخ بالقدر ذاته الذي تملك فيه وعياً بإدارة شؤونها على المدى القصير جداً. فهي رأسمالية مندفعة، نزقة، «أشعبية». وعليه، فإنها تنتهي إلى جعل المعركة مباشرة بين الرأسمال والشعوب. فالرأسمالية تحاول أن تُغيب هذه الحقيقة، وهي أن حرباً بين الشعوب والامبريالية، هي حتمية لابد منها.
خاصة وأن الرأسمالية في زهوها الآني، تعتقد أنها حققت انتصارها النهائي بعد انهيار المعسكر الشرقي. والواقع أن العدالة الاجتماعية ليست رهينة بقيام معسكر أو انهياره. إنها بالأحرى، مطلب إنساني أزلي. فالذي سقط ليس هو العدالة الاجتماعية، بل الدولة البيروقراطية، والنهج «الاستاليني»، حيث حاولت معالجة العدالة الاجتماعية بمزيد من القمع والعنف. وأيضاً لاننسى أن هذا الانهيار، راجع إلى تلك الحرب القذرة التي خاضتها الرأسمالية، وهي حرب استنزافية ماكرة!
ثمة قضية خطيرة، فالغاية القصوى للعولمة الاقتصادية هي: ربحٌ ثم ربحٌ ثم ربحٌ!
وبلا شك فإن معادلة كهذه، قمينة بوضع الأمن البشري، بكل أبعاده، في كفّ عفريت! إنه من الممكن أن نصيغ هذه المعادلة بشكل آخر، كالتالي:
فلأنه ينتج سلعة أو خدمة ما، فهو ـ إذن ـ مضطر إلى العمل على صناعة مستهلكين، وتوسيع رقعتهم ما استطاعت الدعاية والإعلان. ومن هنا يمكننا القول: لنفترض أن هذه السلعة أو الخدمة، من نوع آخر، فماذا يا ترى؟
فلأنه ينتج أفلاماً «أيروسية» ويستثمر في الخلاعة، فهو إذن مطالب بصناعة مستهلكين من هذا النوع. وصناعة مثل هؤلاء، تمر على جثة القيم الاجتماعية وتفكك الأسر وهدم الأخلاق.. ولأنه ينتج سلاحاً ويستثمر في الذخيرة الحية، فهو يسعى بمنطق السوق و«الربح» إلى صناعة مستهلكين من طراز دول متنازعة، ومافيات و.. أي صناعة الحرب! تلك هي العولمة، وذاك هو مستقبل البشرية!


ما بعد العولمة الاقتصادية؟!

لقد كثر الحديث عن العولمة، ما بين مُطمئن ومصدق بمشاريعها ووعودها، وبين مشكك ومحذر من أكاذيبها. فهل من هؤلاء أو أولئك من استطاع أن يرسم أملاً لهذه الشعوب المعذبة، أقصد ما بعد العولمة؟! وحينما يقال ذلك، فهذا معناه، أن العولمة حتمية لا راد لها. لكن الحديث ينصب على خيار في العولمة وليس خيار العولمة! الحقيقة الرئيسية التي فجعلها فرضية لنا، هي أن الشعوب مهما بدت ضعيفة محبطة، فهي لاتهزم. وإذا استطاعت القوة الرأسمالية أن تنتصر عليها خلال جيل أو حتى أجيال، فلن تكون هزيمتها إلى الأبد. إذاً، الشعوب لاتهزم، هذا أقل ما يعلمنا إيّاه التاريخ. فكيف إذا أصبحت تمثل موقفاً موحداً وتعاني معاناة مشتركة، ضد حفنة موحدة من الاحتكاريين. فالرأسمالية في جبروتها العولمي، تعيش لحظة انتعاشها الأخير. إن في طليعة الشعوب التي ستناهض وحش العولمة الاقتصادية، هي الشعوب الأوروبية والشعب الأمريكي نفسه. وهذا ما بدأنا نلمح تداعياته في شكل احتجاجات ومظاهرات عنيفة ومستمرة. إن الأغلبية الساحقة في عالم الجنوب أو تلك الـ (80%) من المهمشين في أوروبا ضحايا التسريح الجنوني من العمل، هم القنبلة الموقوتة ـ الموعودة. لقد انهار الاتحاد السوفياتي سياسياً واقتصادياً. وذاك هو الخطر بعينه. مادام إرثاً هائلاً من أسلحة الدمار الشامل يقع اليوم في قبضة دولة معرضة هي كمثيلاتها إلى مزيد من الانهيار والتهميش، فالعولمة سوف تدفع بالعالم إلى مزيد من الفوضى والاضطراب. لقد كان من المفروض أن يكون للعولمة مضمون أكثر حضارية مما هو رائج الآن في وسائل الإعلام التي تمثل صوت الشركات ووجهة نظر المستثمرين. فبدل أن ننظر إلى العولمة كاجتياح كبير للشركات الباحثة عن الاستثمار من دون تكلفة اجتماعية، أن نتحدث عن عولمة تجعل الغنى والرفاه، يتوزع بعدالة أكثر على أقطار العالم.. أو بالأحرى، نجعل تلك البلدان التي تعيش في القرن العشرين مشكلة الرغيف والماء، على الأقل شعوباً تعيش في حدود خط الفقر المعقولة. فالعولمة اليوم، هي توزيع للفقر والمجاعة والتخلف، وليست توزيعاً للخيرات والرفاه. إن الأرباح والراسميل ينتقل بسرعة البرق بين الدول، لكن المساعدة للدولة المنكوبة والتي تعيش الفقر يخضع لمزيد من البطء والنقص. وحينما نطلع على جداول الانتاج في العالم، فإننا ندرك أن حجم الانتاج الغذائي في العالم يكفي لكل البشر وزيادة. فوجود المجاعة إذن، هو راجع إلى لعبة الاحتكارات، وإلى تصور غير حضاري للإنتاج، ففي السابق، كان معيار التقدم، يقاس بمدى رفاهية الشعب، واستهلاك المجتمع ومستوى دخله و.. و.. وحجم القضاء على البطالة وتوفير الشغل. الآن، العولمة، تتحدث عن أرقام وإحصاءات في مدخول الشركات. وهو بحق دخل جنوني. لكن في النهاية، هو مدخول للشركاتفقط!!
والتقدم والتعاظم هو لها، بينما الضحية دائماً المجتمع، على أن هذه الشركات كلما تقدم دخلها، كلما توسعت وتطورت، وسرحت مزيداً من العمال واستعاضت بالتقانة.. وهنا يكمن الخطر. إن من المتعين أن نقرأ الجداول والرسوم التي تتحدث عن تطور الأرباح والمداخيل بالمقلوب. أي كلما ازداد ألف دولار في ربح شركة كلما خسر المجتمع أضعافه بكثير.
المسألة اليوم، ليست في ذلك الإيقاع السريع والطفري في مجال التجديد والتطوير التقاني. بل المشكلة في غياب التنظيم والضبط الأكثر إنسانية في تحويل هذه الانجازات إلى ما يخفف من معاناة الإنسان. فالتوظيف التقاني المتجدد بطفرات خيالية، يؤدي حتماً إلى إنتاج مزيد من السلع في قليل من الوقت. وهذا هو حلم الإنسان منذ فجر تاريخه، أن يعمل براحة ويسر وينتج بجودة عالية وكمية أكبر. غير أن إصرار احتكاريي المال والعمل، يأبون إلا أن يجعلوا ذلك في صالح خدمة الأرباح. مما يجعل الغاية معكوسة فيكون التطور التقاني العملاق سبباً رئيسياً في محنة الإنسان المعاصر، أي في صناعة الجوع وتوسيع رقعة التهميش! وهكذا تغدو المعادلة ـ لا إنسانية ـ على الشكل التالي:
مزيد من التطوير التقاني مزيد من السلع +مزيد من الوقت+مزيد من البطالة!
في حين المطلوب، المعادلة التالية:
مزيد من التشغيل العقلاني مزيد من السلع+مزيد من الوقت+قليل من البطالة.
فأرباب العمل حينما يتحدثون عن التطوير، فإنهم يشيرون إلى عامل الوقت.. والواقع، إن هذا الوقت من مقتضياتسرعة المدخول الربحي للشركات والمقاولات. ولا علاقة له بالشغيلة. فأي قيمة لربح الوقت في ظل التسريح الجماعي من العمل، وانتشار البطالة. وكم كان مهماً أن تتحرك العالة الاجتماعية بقوة، لكي تجعل المجتمع، حتى مع وجود أزمات من نوع قسري يتقاسم الأزمة كما يتقاسم الرفاه، إن تكريس هذه الوضعية الخطيرة، أي موظفون وعمال دائمون في مقابل بطالة ثابتة، يناقض العدالة الاجتماعية في الصميم. على الكل أن يعمل وعلى الكل أن يتمتع بقيمة العمل.. وهذا ليس له طريق آخر سوى مزيد من التشغيل، وتقليص ساعات العمل. فتكون المعادلة كالتالي:
ـ زيادة التشغيل تقاسم الأزمة (فائدة اجتماعية)+ ربح الوقت.
بدلاً من:
ـ نقص التشغيل عدم اقتسام الأزمة (فائدة فئوية محدودة)+ عدم ربح الوقت
وحينما نقول بأن من مقتضى العدالة الاجتماعية أن يعمل الكل، أو أن يقتسم الجميع الربح والخسارة، فلأن وجود فئة معينة في الوظيفة أو العمل وأخرى في قارعة الطريق، ليس من اختيار هؤلاء، بل هو مسؤولية سياسة اقتصادية بكاملها.
وهكذا يمكننا القول، بأن تخليص العالم من شر هؤلاء المتوحشين من المضاربين، هو في جعل القرار السياسي حاكماً على المصلحة الاقتصادية. وهي دعوة لإعادة «تسييس» العالم بدلاً من «راسملته» أو «مركنته» [من «Marketing»]. فلقد ثبت من خلال كل المراحل التي قطعتها الرأسمالية الهادفة إلى التحرير الكامل لعملية الانتاج والتنافس، بأننا أمام مستقبل لايمكن أن تتعايش فيه القيم التجارية الجديدة، المعولمة، ـ قيم المضاربين ـ والقيم الإنسانية، التي باتت الضحية الأكبر أمام غزو التقانة الجنوني. أمام الإنسانية فرصة واحدة. فإما أن تضبط إيقاع التقانة من أجل ضمان حدّ أدنى لحياة إنسانية كريمة، أو الطوفان! ومن هنا، فإنالرهان كل الرهان علىالنقابة. هذه التي لن تكون مهمتها يسيرة في المستقبل القريب. بل لعلنا سنواجه شكلاً من الاختراق حتى في أداء هذه النقابات. حيث أنها قد تستدرج وتخضع لعملية تدجين قصوى. وذلك نلاحظه في رضوخ هذه الأخيرة إلى الحوار، فيما لم يكن قابلاً للحوار بالأمس القريب. أعني الحوار بخصوص قضية الأجور مثلاً. إن هناك نتيجة واحدة لرفع المصداقية عن النقابية، ألا وهو شيوع الفوضى والاضطراب في المجال المجتمعي.
إننا حينما نقف ضد هذا النزيف الذي يحدث باسم العولمة، فليس ذلك من أجل الأغلبية المسحوقة فحسب. هؤلاء يعتبر انتصارهم حتمية تاريخية. إنما ذلك يمكن أن يكون في صالح أرباب العمل والمستثمرين أنفسهم. إن مصلحتهم لايمكنها أن تتم إلا في ظل توزيع عادل للرفاه. غير أن ما يحدث اليوم، أن القوى الرأسمالية الكبرى، تمارس جنونها بالكامل. وقد أصبح العالم اليوم يقوده هؤلاء الحمقى حيث لم يعودوا يعرفون أين تكمن مصلحتهم، بفعل التخدير القوي لهاجس الأرباح الضخمة والسريعة. فإذا كان العالم يقوده هؤلاء نحو الخطر، فمن يمنع الراكبين في السفينة أنفسهم أن يفعلوا المستحيل للنجاة من الغرق! نعم، إن المضاربين لايعرفون مصلحتهم. إن ما يتوقعونه من سيناريوهات، وما يخطط له ملاك الرأسمال، لايتمتع برؤية استراتيجية حقيقية. إن تسريح العمال، وخفض الأجور، وخلق أحزمة الجوع والفقر، سوف يعرض المنتوج المعولم إلى خطر حقيقي من حيث معدل الاستهلاك المنخفض. فانهيار القدرة الشرائية، وانخفاض معدل الطلب، سوف يؤدي بالضرورة إلى تقليص الإنتاج. فلو أردنا أن نعبر بطريقة اقتصادية، نقول: إننا وفي أفق هذا النمط من عولمة الاقتصاد، تصبح المعادلة كالتالي:
ارتفاع الانتاجية خفض الأجور+ تقليص العمالة
خفض الطلب تقليص حجم الإنتاج
هذه المعادلة هي النتيجة الحتمية غير المتوقعة للاقتصاد المعولم على المدى البعيد. وإن حاول التستر خلف شعاراته وأوهامه. فالرأسمالية الجشعة لاتنظر بعيداً، ولاتضرب حساباً لفكر التاريخ. إنها اليوم تعيش لحظة الوهم، وغداً ستواجه مصيرها المتهافت. ولاشك أن المعادلة البديلة لما سبق وذكرنا، هي معادلة هنري فورد «Henry Ford»:
رفع الأجور ارتفاع الطلب
ستبقى مقولته الشهيرة مَعلَماً حقيقياً في تاريخ الاستثمارات. فقد أعلن في الثلاثينات بأن:
«السيارات لاتشتري سيارات»! هكذا يمكننا تفكيك هذه المعادلة بشكل أكبر:
رفع الأجور رفع القدرة الشرائية
زيادة الطلب زيادة الانتاج زيادة التشغيل
إذاً، وكما هو ملاحظ فإن رفع الأجور لايهدد حجم العمالة، ولايهدد الانتاج.. بل لايمثل تكلفة حقيقية للمستثمر. <f2>العولمة وما وراء البحار.. العالم الثالث يحتضر!
لقد كان الحديث بالأمس القريب يتجه إلى مخاوف هجمة الجنوب على الشمال. العالم الثالث أمسى قنبلة موقوتة. إذا ما استمر الوضع على حاله. وقد انضاف بشكل كبير، إلى هذه المخاوف، مخاوف الرأسمالية من هجمة المواطن الغربي. وهكذا بدأ يتملك الغرب تلك «الفوبيا» الشديدة، من قضايا مختلفة.
إن ما يحصل الآن، هو تلميع الواجهة، وتحشيد خطاب العولمة بكثير من المماحكة. فلا يمكننا في ظل العولمة الاقتصادية، أن نتحدث عن نجاحات تحققها الاستثمارات بواسة مؤشرات وأرقام بيانية. فهناك عوامل متضافرة ومختلفة، تجعل الأرباح تزداد هنا وتنخفض هناك. فالمسألة الرئيسية الآن، هو أن التططور التقاني اليوم قادر على إنتاج الوفرة والجودة. لكن ما حصل، هو أن أرباب العمل والضماربين وملاك العمل يحرصون على أن لايتقاسم الوفرة والرفاهية ذلك العدد الكبير من بني البشر.
إذا كانت العولمة تمثل تهديداً حقيقياً للمجتمعات الغربية، فإنها في البلاد العربية تتحول إلى عائق حقيقي للنمو. إننا في هذه البلدان نسعى إلى التخلص من التخلف الذي نستطيع أن نتحدث عن بعض مؤثراته، رفع الأجورن توفير الشغل، تنشيط عملية التصدير والإنتاج. لكننا مع العولمة، نجد تكريساً حقيقياً لهذا الواقع. فالشركات تأتي طمعاً في انخفاض الأجور والتكلفة. وهي مجهزة بتقنية لاتسمح بحل مشكلة البطالة. إنها هاربة من الضرائب، هروب «الغزال»! بمعنى آخر، أن لا الدولة ولا المجتمع يستطيع أن يحقق نمواً في ظل اقتصاد معولم. إن انخراط العالم الثالث في لعبة العولمة، للشركات الكبرى المتنافسة فيما بينها، المتهافتة على الأسواق الواسعة واليد العاملة الرخيصة والمجالات البيئية المستباحة.. لايمكنه أن يجني من العولمة إلا مزيداً من التخلف المقنع! لابد أن نقول: ما هي مشكلة العالم الثالث أولاً؟! إنها مشكلة تطوير الصناعة والتعليم، والتحرر من المديونية.. وكل هذه، واحدة واحدة لاتنحل في ظل العولمة. فهي تكرس الأشياء التالية:
ـ المديونية.
ـ الأجور المتدنية.
ـ البطالة.
ـ كل أشكال التخلف والفقر الأخرى.
هذا اقتصادياً. أما سياسياً، فهي تكريس الديكتاتوري والاستبداد. وتهدد نمو الديمقراطية في البلدان النامية، وتحارب بعنف إحدى أبرز مظاهر الديمقراطية، حق الاضراب وفعالية النقابات.
وبالنسبة للعالم الثالث، فإن صندوق النقد الدولي أصبح هو وسيلة الدول الصناعية الكبرى، للتحكم باقتصاد الدول الفقيرة، وحينما نقول الدول الصناعية، فإننا نعني الشركات المتنفذة الضاغطة، فليس هناك دولة غربية، هناك فقط شبح مخيف لهذه الدولة، فيما الماسكون بخيوطها، الشركات العملاقة. وهذا الصندوق، هو الوسيلة الوحيدة المتبقية للتبشير، بل لفرض العولمة، كشرط لمنح القروض!
فهل التخلف والفقر في العالم الثالث، ينحل بالمساعدات والتسول الدولي؟! إننا لانقضي على الفقر بسياسات إنما هي آلية للتفقير بامتياز! الفقر ترفعه الأمة عن نفسها بنفسها. لنفترض أن بيلداً ما قرر خوض المعركة ضد الفقر والتخلف، فليعتبر الفقر عدوه الاستراتيجي ـ أليس كذلك؟! ـ أو كما قال علي بن أبي طالب يوماً: «لو كان الفقر رجلاً لقتلته».! إذن، حالة من استنفار للمعركة ضد الفقر. إذا كان كل بلد قادر على أن يعبئ شعب بكامله في المعارك المصيرية، فإن ألوف المعطلين لن يكونوا هذه المرة مجرد جيوش مقاتلة، بل أيادي عاملة ومنتجة. بهذه الروح فقط تستطيع دول العالم الثالث التغلب على العدو الأكبر للشعوب، ألا وهو الفقر!
بالتأكيد، كانت في الماضي فرص كثيرة. وكانت الشعوب قادرة على أن تفعل الكثير. بعد الاستعمار وبعد بروتن وودز وقيام البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، واتفاقية الغات ومنظمة التجارة.. وبعد أن أصبح اقتصاد معولماً ومحكوماً بخطط احتكارية، ومرتهناً لمؤسسات دولية، وتابعاً للعبة التنافس الكبرى.. فإن الحديث عن تنمية طبيعية وسهلة، يبقى ضرباً من الخيال. ومعنى ذلك أن إنماء الجنوب، على الأقل، لن يكون سلمياً. لأن تنمية الجنوب معناه تحرير أسواقه من سلطة رأس المال الأجنبي. وهذا معناه دخول في مواجهة ضد الاقتصاد الغربي. وهنا المسألة تتعلق بتغيير جذري في فلسفة وأداء النظام الدولي، أن الشعوب لابد أن تدفع ضريبة الفرص الضائعة في الماضي. أي ثمة مواجهة مؤجلة، لابد منها ضد الامبريالية. ونحن نثق في أن نهضة الشعوب وثورتها ـ وإن طال الأمد ـ هي الحل الوحيد للتنمية. إن هذه الأخيرة ممكنة اليوم، ولكن على أنقاض النظام الاقتصادي الدولي المتعفن. وإذا ما أردنا الحديث بلغة أكثر جذرية من الناحية التنموية، لقلنا، بأن الحديث عن إمكانية التنمية بالشكل الذي يرد في المساطير والإملاءات الخارجية، حديث غير موضوعي إطلاقاً! إنهم يقولون مثلاً: هاكم نموذج اليابان، وهذه في الحقيقة دولة لم يأتها التفوق بالتَّسوُّل. إنها دولة إمبراطورية حديثة ومتفوقة. وبلد تكنولوجي قبل قيام المؤسسات الدولية، أما النمور الأسيوية فهي صنيعة هشة، قابلة للانهيار في أية لحظة، وهي خاضعة لتبعية المضاربين، ومعرضة لهزات عنيفة.. المكسيك والبرازيل (14) .. بلدان مستباحة من قبل الاستثمارات اللامشروطة، ولكنها لم تحقق نموها الشامل ومشكلاتها متعددة وتبعيتها المحكمة، مصدر هشاشتها، نعم، إننا ننظر باحترام إلى تجربة الصين. وهي تجربة أمة كادحة. تعيش الفقر والنمو في آن معاً! إن أمة حملت على عاتقها كتلة ديمغرافية تفوق المليار نسمة، بلا شك هي أمة عظيمة!
من الخطأن أن نقدم اليابان كنموذج حقيقي لدول العالم الثالث. فهذه دولة تختلف من حيث تاريخيتها عن كل هذه الدول. وتبقى الصين، هذا المجتمع الزراعي الذي قاوم بشدة تخلفه ولايزال يكدح من أجل اللحاق الصناعي والتنمية ـ الحلال ـ، أي بعيداً عن استنزاف الراسميل والمضاربين. وكل ما تعانيه هذه الأمة، إنما يرجع لشوشرة الاقتصاد الدولي ومؤسساته. إذن، مقاومة الشعوب واستقامتها على نهج المواجهة ضد زحف العولمة، هو الأمل الوحيد في الرهان على المعركة ضد التخلف، وهي معركة حتمية يفرضها ذلك المطلب الإنساني الأزلي، العدالة الاجتماعية!

العولمة: مصير المثاقفة.. نهاية الأفكار

إن أي خيار تنموي أو حضاري لابد وأن يحقق سلسلة محددة من الأهداف، تتلخص في إقرار منسوب معين من الأمن وهذا الأمن يمكن تحديده في هذه المصاديق التالية:
ـ الأمن الغذائي
ـ الأمن السياسي
ـ الأمن البيئي
ـ الأمن المجتعي
ـ الأمن الثقافي
وكل هذه الأهداف، لاتتحقق في ظل زحف العولمة ونزيف «التلبرل». لقد أوضحنا بالموجز، أن العولمة تهدد الأمن الغذائي. على الأقل، إذا ما نظرنا إليها كتاريخ تراكمي وليس كمعطى فجائي. فالرأسمالية إذن منذ بدأت تتوسع، خلقت جيوباً من الفقر في كثير من بقاع العالم. إن منسوب المجاعة في العالم يزداد بنفس الوتيرة التي يرتفع فيها حجم أرباح الشركات الكبرى. ولايزال الضمير الحضاري يكرر ذلك السؤال ـ بكثير من الغرابة ـ حول وفيات بالجملة جراء المجاعة الضاربة الأطناب في بلدان افريقية، في ظل اقتصاد يُلقي بالفائض من المواد الغذائية في أعالي البحار. والأمر نفسه بالنسبة للأمن البيئي ـ فإن إحدى أكبر الأهداف التي يسعى إليها الاقتصاد المعولم، هو التخلص من الضريبة على أضرار البيئة. وقد أشرنا إلى أن العولمة تكرس التخلف وتصنع الحروب والمجاعات والاستبداد..
لكن، هل بإمكاننا القول، أن العولمة هي تهديد أيضاً، للأمن الثقافي؟ وقبل ذلك، هل من المعقول الحديث عن أمن من هذاالقبيل ـ أي الأمن الثقافي ـ؟
بالتأكيد، لابد أن نتفق على أن أي شعب مطالب بأن يؤمن لنفسه نسقاً ثقافياً ما. الثقافة هي حصيلة تكيف اجتماعي وتاريخي. أي أنها خاضعة إلى سنة النشوء والارتقاء. الثقافة ليست بضاعة، ولكنها قابلة للتطور. إن لكل مجتمع أو أمة، الحق في أن تختار ما يناسبها حتى لو تعلق الأمر بإعلان التحول الشامل إلى نسق مغاير. ولكن المشكلة تبدأ حينما تحاول أمة أقوى إرغام أمة أضعف، على إلغاء ثقافتها وإكراهها على الانضمام. هنا يبدأ الحديث عن الأمن الثقافي.
الأمن الثقافي حقيقة لاغبار عليها. فكما أن دولاً مستعمرة بالأمس كانت تشكو من «الأوربة».. فإن أوروبا نفسها اليوم تشكو من خطر يتهدد أمنها الثقافي، أي «الأمركة»! طبعاً، نحن حينما نقول: «الأمركة»، فإننا نستخدم مفهوماً عاماً. لأن «الأمركة» ليست خياراً حتى للشعب الأمريكي. «فالأمركة»، هي خيار من «أمريكا» وليس خياراً «أمريكياً». وهذا موضوع، نؤجل البت فيه لاحقاً. لنقول، ما هي الشخصية المتوقعة أو المفضلة لدى هذا التيار. أو بعبارة أخرى، هل لنا أن نضع «بورتريه» للشخصية المعولمة النموذجية؟! إنه شخص يرتدي آخر ما جادت به عروض الأزياء التي يلتزم حضورها كطقس لتغذية الذوق الرفيع.. يتناول أغلب وجباته في الماكدونالد.. يستقي معلوماته من محطة CNN، أو يتابع قراءتها في الـ «فينينشل تايمز» و«نيويورك تايمز» أو الواشنطن بوست.. يفضل النزول ـ أثناء رحلات العمل أو فترة النقاهة ـ في فنادق من طراز «شيراتون» أو «هيلتون».. طبعاً ينطق باللغة الانجليزية بمهارة! إذا تأملنا هذه الصورة، فسوف نجدنا أمام شخصية متأمركة حتى النخاع. ذلك بحق، هو إنسان العولمة المفضل، الإنسان النموذجي! وإذا كان إنساناً ينتمي إلى المجال العربي والإسلامي، فلابد أن ينفض عن مظاهر الانغلاق والتمامية والتعصب. حينما نستفسر عن معنى هذه الصفات، فإننا نجدها صفات أولئك الذين جعلتهم السياسة والأيديولوجيا، يقفون من إسرائيل المتفوقة، موقفاً لا معقولاً. فالشخصية المعولمة لا التزام لها، ثقافياً أو ايديولوجياً أو قومانياً أو دينياً.. وهكذا فلا بد أن تكون شخصية «تطبيعية»، ترى في إسرائيل قبلة اقتصادية، لاغير. وهذا معناه، أن إنسان العولمة، إذا ما كان مسلماً أو عربياً، فهو إنسان متصهين نموذجي، هذا حقاً، ما نسميه تهديداً للأمن الثقافي!
هذا التهديد الهوليودي ـ ونحن هنا نميز بين ثقافتين أمريكيتين ـ يطال الشرائح السفلى من المجتمع ويمنيهم بمستقبل حالم. الثقافة الهوليودية تقوم على أساس الاستهلاك والتصوير والإثارة والتشويق والوهم.. الأمر الذي يصور المسافة ما بين رجل الشارع، والتألق النجومي هو صفقة تجارية، أياً كان موردها. إنها ثقافة الطفرة الفلكية الوهمية، التي تجعل المهمش يتحول إلى صاحب قرار، بالقوة التي يسرقها من «زيوس» هذه القوة هي الرأسمال. إن العولمة الثقافية بنكهتها الهوليودية الانحطاطية اللاعقلانية، هي رغبة الأمركة المتصهينة، الباحثة عن التوحد على أنقاض التجزئة التي تجتاح العالم.. كما تهدف إلى الانصهار في زمن التفكك. هدم القيم وتفتيت الأسرة وإطلاق شهوة المال والجسد إلى حد التخمة والشذوذ.. كلها بمثابة أفيون الشعوب، للفتك «بالأُمميين»، والتعزيز من متانة الصهيونية العالمية. هذه الثقافة هي الوجه اخر المختلف عن العولمة العقلانية، المبشرة بميتافيزيقيا التقانة، حيث للحقيقة طريق واحد وحصري، هو العقل، العقل التقني. على ما عليها هذه العولمة من ملاحظات!
لا تعتبر العولمة خطراً على تنوع الثقافات من حيث هي نزوع إلى الكونية، بل لأنها مشروع لسيطرة الأقوى على الاعلام وعلى السوق وعلى القرار. فالإعلام في ظل العولمة يقدم الرأي الواحد. وفي السوق يقدم الخيار الواحد وكذلك في السياسة يستبد بالقرار، الواحد! فالعولمة هي نزعة لاكراه العالم على ديكتاتورية الخيار الواحد.
لقد انتصرت القوى الليبرالية على المعسكر الشرقي، ولكنها لم تستطع أن تقنع العالم بجدوائيتها. فسرعان ما ألفت نفسها في مواجهة (80%) من ساكنة العالم. وبما أن الشعوب هي النقيض التاريخي للرأسمالية المتوحشة، لجأت هذه الأخيرة إلى الاحتيال والوهم والكذب، لترويض هذه الشعوب. فكانت العولمة بهذا المعنى، نهاية مرحلة وبداية أخرى، نهاية مرحلة توجت بهزيمة المعسكر الشرقي، وبداية مرحلة تدجين الشعوبن ذات التأطير الايديولوجي المختلف! لقد نجحت الليبرالية الجديدة إلى حد ما في أن ترسخ في الأذهان تلك العلاقة المفتعلة، ما بين العولمة الاقتصادية الملبرلة، وبين اليوتوبيا الشيوعية المنهارة أي أن نقد العولمة هو بالنتيجة عودة إلى خطاب الايديولوجيا الشيوعية. والواقع أن كل ما تقدمه العولمة، هو خطاب ايديولوجي أكثر منه خطاب واقع. كأن لسان حال دعاة العولمة، من لم يتعولم، تمركس!
لقد مهدت العولمة لنمط خطير من الحياة الاجتماعية. فهي تبشر بعالم تسوده التقنية والانجازات والفرجة والمتعة التي توفرها التقانة. فلا مكان بعد ذلك للأفكار، أي وبتعبير آخر، العولمة هي عصر نهاية الايديولوجيا وموت الأفكار، وتأبين مشروع الثورة المجتمعية. إلا أنها لا تدرك ـ تماماً ـ بأن وجود أكثر من (20%) من المجتمعات ـ و(80%) من المجتمع الغربي نفسه ـ على حافة التهميش، لايمكنهم التنكر للايديولوجيا، حيث هي الملاذ الأخير، والأمل، والحلم الجميل واليوتوبيا الحتمية، بل الأداة الوحيدة لنضالات مفتوحة على كل الاحتمالات. فالمجتمعات تفرز ايديولوجيتها كالهواء، تماماً كما يؤكد لوي ألتوسير إن العصر القادم ـ إذاً ـ هو عصر الايديولوجيا وازدهارها!
إن القول بموت الايديولوجيا، معناه، القول بموت الثورة الاجتماعية. والمستقبل الذي تصيغه العولمة حافل بسيناريوها كثيرة تؤكد على حتمية الثورة! بل وبما أن هذه الأخيرة محتملة، فسوف يتبناها الـ(80%) من المهمشين في العالم، فإن الايديولوجيا سوف تعيش ازدهارها النهائي، وتصنع نموذجها الخلاصي الحتمي!
تتنكر العولمة للايديولوجيا، وتبشر بالثقافة الرقمية. لكنها تصيغ ايديولوجيتها بالأرقام. أي أنها تمارس اختزالاً وعولمة لصيغة ايديولوجية جديدة. ما الايديولوجيا إذاً؟! إذا كانت العولمة ومن خلال أوهامها وأكاذيبها تزيف الواقع وتحرف التاريخ وتخطئ التوقع. بل وتقدم رؤية وتفسيراً ماكرين للواقع. فتلك إذن هي أسوأ، بل وأخطر أشكال الايديولوجيات!
نعم، قد يكون للعولمة نموذجها الثقافي الذي تسعى ايديولوجيتها إلى تلميعه. لكنها ثقافة تصاغ في المصانع والمقاولات، وتحددها مخيلة أرباب العمل والبارونات ونجوم المضاربات.. ولأن العولمة لم تكن وليدة خيار ثقافي طبيعي، فهي بعيدة عن أن تكون عرقية أو قومية أو مذهبية.. لأنها تبني أرذوكسيتها الخاصة. فهي خيار حفنة من ملاك الرأسمال. وهي لذلك لاتسعى إلى إحلال ثقافة ثابتة، بل إنها لاتحمل بديلاً حضارياً أو ثقافياً بالمعنى الدارج. إنها تريد التخلص من كل أشكال الثقافات، إبقاءً على الديكور. أي تفريغ الثقافة من محتواها القيمي وديناميتها الاجتماعية، للإبقاء على الشكل المشوه اللائق بإنسان العولمة؟ ذلك الإنسان البضاعي! إنها عودة أو بالأحرى ردّة إلى عصر التوحش. وتحول بالإنسان إلى وضع أكثر تشيئية، على محمل التسليع المستديم للقيم والأشياء!
هناك بالتالي محاولة للاستئثار بالعولمة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية. فالعالمية، كمعطى تاريخي بفضل ثورة الاتصال والطفرة الرقمية، تنظر إليها الولايات المتحدة الأمريكية كسوق أو مقاولة، تسعى للهيمنة عليها وامتلاكها. كما لو أن الأمر يتعلق بمنشأة اقتصادية قابل للخصخصة. والحق أنه من حق أمريكا أن يكون لها تصورها الخاص عن العولمة أو ترى نفسها مؤهلة لحمل رسالة حضارية ومشروعاً لصياغة عولمة بنكهة أمريكية. هذا هو حلم كل الكيانات الثقافية. لكن الخيار العقلاني يتطلب أن يتم ذلك بشراكة وديمقراطية أممية، أي إلى حوار الحضارات. لقد أصاب هينتنغتون إلى حدّ ما في تصوير الصراع الحضاري. وهو حقيقة واقعية في غياب أي حوار سلمي بين الثقافات. من هنا يمكننا الحديث عن شكل آخر من الأمن، إنه الأمن الحضاري! إن ما تروج له الولايات المتحدة الأمريكية هو نمط من العولمة، يرتكز على النزعة «الفريدمانية» في الاقتصاد والبراغماتية المتطرفة في السياسة الخارجية والنزعة الكلبية ـ الهوليودية ـ في الثقافة.
وهذا إنما يمثل إفرازاً سيئاً لليبرالية والديمقراطية الشكلية.. إنها وجهة نظر تيار واحد في الليبرالية الغربية نفسها.

العولمة في ظل العصبيات الأقلوية في أمريكا..

هل يستطيع أي مراقب لاتجاهات الرأي الأمريكية، أن يشكك في تلك الظاهرة البادية، ألا وهي أننا لسنا في أمريكا بصدد مجتمع منسجم وموحد؟! فهل ما يحدث في أمريكا هو حصيلة إجماع أمة؟ هل نستطيع الحديث عن إجماع أمة أمريكية كما لو كنا على عهد جورج واشنطن أو إبراهام لينكولن؟!
الواقع، هو أننا في الولايات المتحدة الأمريكية نواجه شبح دولة، وشبح مجتمع، أي شبح أمة! وهذا إنما يجعلنا نتحدث عن الإرادات الفاعلة والمتحركة خلف الكواليس. مثل هذه الحقيقة أصبحت مسلمة عند الجميع ويتحدث عنها الأمريكيون بكل طلاقة. «ألفين توفلر» محلل أمريكي ممتاز، ورجل توقعات من الطراز الناذر. يتحدث عن زوال المجتمع الجماهيري في ظل ديمقراطية الفسيفساء. يصف لنا هذه الحقيقة قائلاً:
«إن الديمقراطية الجماهيرية تقتضي وجود «جماهير». والأحزاب السياسية الجماهيرية، والإعلام الجماهيري. ولكن ماذا يحدث عندما يبدأ المجتمع الجماهيري بنزع هذه الصفة عن نفسه [..] فبأي معنى إذن نستطيع الكلام عن «الجماهير»؟ [...] وإن الديمقراطيات الجماهيرية لتنتظم لكي تستجيب بالدرجة الأولى، لتدخل عناصر أخرى ذات سمة جماهيرية [..] وهي لاتعرف كيف تسلك أو تتصرف تجاه الفسيفسائيات التي تواجهها، مما يجعلها بالضرورة قليلة المنعة بصورة مضاعفة تجاه الهجمات التي يمكن أن نسميها «بالأقليات السياسية»» (15) .
مايقوله «توفلر» ليس جديداً، ولا مدهشاً. هو أمر واقع وواضح. فإذا غابت الآلهة حلت الأشباح، يريد «توفلر» أن يقول بتعبير آخر، حينما تغيب الكتلة الجماهيرية المتجانسة، وحينما تغيب الدولة، تحل تلك الأشباح من الأقليات الأساسية. و«توفلر» كخبير أمريكي وصاحب مكانة محترمة في الدوائر الرسمية، يمكنه أن يتحدث عن كل ما يتراءى له حقاً. لكنه معذور ككل المسؤولين وأصحاب الرأي الأمريكي، ألا يتجاوز الخط الأحمر. إنهم لايقدمون أرقاماً حقيقية ولايضعون اليد على الجرح. سنحتفظ بهذه الحقيقة إلى حين، لنقول بأن الغرب ـ بشكل عام ـ لم يخض حرباً ثقافية أو ايديولوجية صرفة ـ بشقيها، العقلاني التنويري أو الديني الكنسي ـ، بل خاض معارك استعمار وسيطرة. هذا واضح. نعم كانت هناك ـ أقصد في العصر الحديث ـ حركة تبشير واسعة. ومحاولة لتنصير المستعمرات.. ولكن ذلك نفسه أتى كوسيلة لضبط ايقاع المستعمرات واحتوائها. لقد كانت ـ إذاً ـ حروباً توسعية وامبريالية بالدرجة الأساس. والعولمة اليوم تعبر عن منتهى الحبكة في النظام الرأسمالي، حرب مصالح! فما معنى الكونية الثقافية؟! إنها تعني شيئاً واحداً، ألا وهو كسر الحدود، وكل المعوقات المانعة من تعويم النمط الاستهلاكي، ذلك الذي يمثل شرط ازدهار الرأسمالية وحيوية السوق. فالرأسمالية تريد أن تواجه العالم بالوهم، ونشر فيروس مرض الاستهلاك الجنوني.. كما تريد أن توحي للمهمشين شعوباً ومجتمعات، بأن سبب بؤسهم وتخلفهم هو الدولة الاجتماعية وليست الرأسمالية. إذاً، إلى مزيد من القضاء على هذه الدولة وعلى الكوابح العقائدية، من أجل سوق حرة. إن كسر الحواجز، يفتح المجال للرأسمال أن يتحرك بلا حدود. إن عدو حرية الرأسمال والسوق، هو هذه التقييدات الجمركية و.. ولكن ما هو أكثر من ذلك، هو تلك التقييدات التي تنطلق من داخل الأذهان، أعني الحواجز الثقافية والقومية والدينية.. وكل ما يشكل رافداً للتميز والاستقلال و.. وهنا أعود إلى ما سكت عنه «توفلر»، أو لم يقف عنده بما يكفي. أعني استراتيجية الاحتواء التي تنطلق من داخل التكوين المجتمعي الأمريكي الفسيفسائي، من قبل الأقليات العصبوية الأكثر تماسكاً وتنظيماً وضغطاً في الولايات المتحدة الأمريكية. وهذا طبيعي، إذا اجتمعت تلك الأهداف الخطيرة واللحمة التاريخية التي زادها قوة ونشاطاً تعقيدات المجتمع الأمريكي وثورة الاتصال المختلفة الأبعاد إلى واقع السيطرة على أكبر البورصات والأسواق المالية والشركات المنتجة في أكبر دولة إدخارية، فإن واقعاً مثل هذا ـ إذا تعلق باللوبي الصهيوني ـ فإنه لا مناصة من صهينة العالم، لصالح خطة غير معلنة! وحينما أقول: الصهيونية، فمعناه، أننا بصدد حركة لاتحمل أي بديل حضاري للشعوب، بقدر ما هي استراتيجية عرقية فتاكة، للنفي والتدمير والعدمية، لصالح وعد ميثولوجي مافتئ يشحن حالة الاحتقان ضد الشعوبن منذ الأسر البابلي ومحنة الشتات حتى زماننا، الزمان الإسرائيلي!
وفي ضوء تنافس العصبيات الأقلوية داخل الولايات المتحدة الأمريكية ـ ومن الأفضل أن لانقول أقلية، لأن الأقلية تفترض وجود أغلبية، والحال لا وجود لأغلبية في المجتمع الأمريكي ـ نستطيع القول، بأن أكبر دولة في العالم اليوم ـ وهي الولايات المتحدة الأمريكية ـ لاتملك قراراً سياسياً. إننا نرى في القرار الأمريكي، قراراً للفئة الأكثر نفوذاً واقتداراً على الضغط والتأثير في صنع الرأي العام والقرار السياسي.
وطبيعي أن قوى الضغط هذه، لاتستطيع أن تغير الرأي لدى كل الأمريكيين ـ حيث هناك تعددية ثقافية وعرقية.. ولكنها بواسطة الضغط والدعاية والمافيا والخداع والتزوير و.. تراهن على الواحد فوق الـ (50%)، طالما أن اللعبة الديمقراطية اقتضت ذلك. ومن ناحية أخرىتستطيع أن تمارس ضغطاً نفسياً على زعماء البيت الأبيض بخصوص الانتخابات، حيث لا مجال للوصول إلى البيت الأبيض إلا بإرضاء هذه اللوبيات. إذاً، فالقرار الأمريكي يصنع داخل ورشات اللوبي الصهيوني، وهذه حقيقة لا غبار عليها. يقول توفلر موضحاً بعضاً من تلك الحقائق:
«وبهذا نعرف لِمَ كان تاريخ الديمقراطية موسوماً في لحظاتها المضطربة، بتفتح عصبيات عديدة، ومؤامرات ثورية، ومجموعات عسكرية وتواطؤات من مختلف الأنواع، ولم تستطيع مجموعة صغيرة لا قيمة لها، أن تصبح عنصراً حاسماً، بصورة مفاجئة. أما بالنسبة إلى الديمقراطيات الفسيفسائية، فإن الفرق هو أنه، حتى عهد قريب كان يوجد أحياناً أكثرية كافية لاحتواء أو سحق الحركات المتطرفة الخطيرة. ولكن إذا كان لايوجد اليوم، أو لم يعد يوجد من أكثرية منسجمة فما الذي سيحدث؟» (16) .
ولكن «توفلر» يحاول بشيء من الذكاء والتقية، أن يعبر عن هذه الحقيقة، بقوله:
«من بين الأقليات «الهامة الموقع» يمكن أن يوجد بالبداهة، أقليات طيبة، ولكن الكثير منها ضارة بالنسبة إلى الديمقراطية ففي إيطاليا، كان اللوج الماسوني الإيطالي.. يهدف إلى تسلم السلطة، على نحو ما تفعل اليوم رابطة الدفاع الإسرائيلي بمساعدة من المواطنين الأمريكيين. وهنالك جماعات من ذوي الميول النازية. [و.. و..]» (17) .
إن كلام «توفلر» وإن كان واضحاً لقارئ مطلع، فإنه يبدو كلاماً مراوغاً. نعم، لقد أفهمنا أن بعضاً من الأقليات ـ مثل رابطة الدفاع الإسرائيلي ـ ضارة بالنسبة إلى الديمقراطية، ولكن في الواقع فإن «توفلر» يتحدث عن استهداف هذه الأقليات لتسلم السلطة. وقد غاب عنه أنهم استلموها دائماً.
وإلا ما معنى استلام السلطة في الولايات المتحدة الأمريكية، إذا كانت المصالح الصهيونية كلها مضمونة ومرعية في الدوائر السياسية ومن قبل الساسة الأمريكان وكان مستشار الرئيس يهودياً، ووزيرة الخارجية يهودية، وأيضاً وزير الدفاع.. وأغلبية الكونغرس.. والسيطرة على البورصة والإعلام وهوليود.. ما معنى السلطة في أمريكا إذا؟! فما يحدث ليس بمساعدة من الموطنين الأمريكيين كما يحلو «لتوفلر» أن يعبر. لأنه ومن الأساس، لسنا أمام يهود أمريكيين آخرون وأمريكان؟ ليس هناك أمريكان! هناك أشكال أخرى من الأقليات، لاتقدم مساعدة للُّوبي الصهيوني ـ لسواد عينيه ـ بل تحت ضغط الاحتواء المنظم من قبل «لوبي» كاسح. وعلى أيّ، فليست خطورة هذا اللوبي، بمستوى خطورة أية أقلية أخرى كما يوهمنا «توفلر».
الأمريكي إذن، غير موجود بل من هو الأمريكي ابتداءاً؟! هل هو الإيطالي، أم الارلندي، أم الآسيوي، أم الهندي أم الأفريقي أم اليهودي؟ هذه هي أمريكا ـ كل هذه الأجناس ـ ولكن لا أحد فيها يستطيع أن ينافس اليهودي الأمريكي المتصهين. بل إن اللوبي الصهيوني والمال الصهيوني في أمريكا بلد الاقتصاد الحر والاستثمار والمضاربات والفردية المطلقة وغياب الضمان الاجتماعي وانسحاق الطبقات السفلى.. والمافيات والجريمة المنظمة والمخدرات و.. و.. لهو الأقوى. حيث يغدو الجيش الاحتياطي المعروض للبيع والشراء في السوق الأمريكية مؤلفاً من أولئك الإيطاليين والآسيويين والأفارقة و.. و.. أولئك الذين وصفهم «توفلر» بالمواطنين الأمريكيين!
نعم، أمريكا قوية، لأنها أكبر قوة اقتصادية ـ وإن كان الأقوى اقتصادياً في الداخل هم اليهود الأمريكان ـ وقوية عسكرياً فلا أحد يملك أن يواجه ترسانتها. لكن ما هي أمريكا. إنها هذه القبائل المتناحرة على القرار، ذلك الذي يكتسي طابعاً ديمقراطياً!
إذاً، حينما نقول الأمركة تهديد للعالمية، فإننا لا نعني بذلك سوى الثقافة الهوليودية، التي تمثل إفرازاً سيئاً لمجتمع بلا قيم وتعكس مظاهر الذهان والعصاب الثقافي. فهي ثقافة تقع تحت الصفر، يكرسها عقل صهيوني هوليودي.
إذا كانت العولمة ـ العالمية ـ حتمية لا راد لها فإننا لسنا في موقع من يختار الدخول فيها أو الامتناع عنها. لكننا نملك بفضل تضامن أممي للشعوب، أن نحرر هذه العولمة من شيطان المضاربين، وزحف الأمركة الهوليودية المتصهينة. لأن هذه ـ على أية حال ـ ليست الشكل الحتمي للعولمة!
وعليه، أستطيع أن أعبر ـ على طريقة خ.ل. بورخيس ـ «ولاتزال في صحاري الغرب خرائب هذه الخريطة ممزقة، وقد سكنتها الحيوانات، وآوى إليها المتسولون، ولم يعد بالبلاد كلها بقية أخرى من المذاهب الجغرافية» (18) .

الهوامش

1ـ (الكاتب)، النشاط الاقتصادي والسياسي في زمن الهيمنة العالمية ودولة الهامش، الأحداث 1/22/1992، لندن.
2ـ phud، Rapport mondial sur le developpement humain 1996، Paris، ed، Economica، 1996.
3ـ Abdelziz Belal، Imperatifs due developpement national، p:43-44 Bulletin Economique et social deu MAROC، RAAT، 1984.
4ـ J.F. Couet J.Bremond، pays sous-developpes ou pays en voie de developpement؟ Tome 1، P:24، collection، Profil Dossier (512) Hatier، Paris، 1978.
5ـ المصدر السابق ص24.
6ـ هنري كيسنجر، مذكرات كيسنجر في البيت الأبيض ج3 ص443، ترجمة فريجات، دار طلاس ـ دمشق.
7ـ محمد العالم الراجحي، حول نظرية حق الاعتراض في مجلس الأمن الدولي، ص322ـ323. ط.1989، الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان.
8ـ من المفارقة أن نجد الدعوة إلى الـ «غلاسنوست» ترافق مع برنامج البرستوريكا الذي أعلن عنه غورباتشوف بعد أن كان الغرب الرأسمالي يسلط الضوء بشدة ومبالغة على ذلك النهج استاليني السري في صناعة القرار، أو اجتماعات (الكريملين). وتأتي الـ (MAI) لتؤكد على أن الغرب مؤهل لممارسة ما هو أشد من ذلك النهج استاليني، كمؤشر ـ فقط ـ على أن الديمقراطية والشفافية وحقوق الإنسان هي في نهاية المطاف تراث في أذهان الغربيين الطيبين، ليس إلا.
9ـ برنامج الأمم المتحدة للتنمية، التقرير العالمي حول التنمية البشرية، 1999
Cf. Pnud، De Boek، Bruxelles، 1999.
10ـ Kimon Valaskakis، Mondialisation et gouvernance، Futurible، Avril 1998، Voir، prolewes economiques، n.= 2611-20612، 7/14/1999، p.8.
11ـ LORI M.Wallach، Voir، L'AMI: La declaration universelle des droits due capital، Problewes economiques، n.= 20611-20612 7/14/1999، P.75، FRANCE.
12ـ جيرالد بوكسبوغر، هارالد كليمنتا، الكذبات العشر للعولمة، ص70، ترجمة عدنان سليمان، مركز الرضا للكومبيوتر ـ دار الرضا للنشر ط1ـ أيلول 1999، دمشق.
13ـ Lori M.Wallach، Source ci-dessus، P.75.
14ـ طبعاً، إن حديثنا هنا يكتسي طابعاً نسبياً. الحديث عن الاقتصادات الآسيوية الحديثة الإقلاع أو عن مثال المكسيك والبرازيل.. لايقاس باقتصادات الدول النامية الأخرى. فالدول النامية هي الأخرى خاضعة للتصنيف على أساس مستوى نموها. لكن حديثنا الآن، عن التنمية من منظور علمي. فالبرازيل والمكسيك خضعتا بشكل سافر لكل الإملاءات الخارجية، وهو ما يشكل عائقاً لتحولهما إلى المرحلة الأخير في نموهما. وهذا ما لانجده في نموذج آخر من الدول الحديثة التصنيع كالصين مثلاً!
15ـ ألفين توفلر، تحول السلطة ج2، ص478ـ480، ترجمة حافظ الجمالي ـ أسعد صقر منشورات اتحاد الكتاب العرب، 1991، دمشق.
16ـ المصدر السابق، ص483، ج2.
17ـ المصدر السابق، ص483، ج2.
18ـ خ. ل. بورخيس، الدنو من المعتصم ص14، ترجمة إبراهيم الخطيب، منشورات نجمة ط1 ـ 1992 ـ المغرب.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة