تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

ملف: عبد الرحمن الكواكبي في الذكرى المئوية الأولى لرحيله الإصلاحات الدينية والسياسية والوطنية في فكر الكواكبي

محمد جمال طحّان

بعد مجيء رواد النهضة الأوائل (الطهطاوي والتونسي والأفغاني . . .) ، ظهر الكواكبي ليدفع قدماً مشاريع من سبقه ، في محاولة التأثير على السلطات السياسية ، وتطوير المجتمع ـ ثقافياً ـ ليعي دوره في النهضة والتقدم ، فكان الكواكبي محصلة اطلاع المفكرين العرب على الفكر الغربي ومزجه بالتراث العربي ـ الإسلامي .
لقد ظهر الكواكبي في عصر تفاعلت فيه عدة حركات معاً: حركة اليقظة العربية الناشئة وانتشار الوعي ، ومقارنة الماضي المشرق بالحاضر المرّ ، وظهور إرهاصات الفكر القومي ، والمناداة بالحكم الذاتي للعرب بالاستقلال عن الدولة العثمانية . وحركة الرأسمالية الأوروبية الصاعدة التي نقلت تجربتها التحررية إلى العرب . ومحاولة أوروبا الاستعمارية تجاه المنطقة العربية . واستماتة الدولة العثمانية في محاولة الحفاظ على بقايا هيمنتها ونفخ الروح في الرجل المتحضر . وكانت هناك أحداث لبنان ، وتجرؤ (محمد علي) على العثمانيين . إن الكواكبي يمثّل جيلاً متأخراً من المصلحين المجددين في القرن التاسع عشر الميلادي ، مما أتاح له أن يشهد تلك الأحداث والصراعات السياسية والفكرية كلها ، فأثر ذلك في وجدانه ، كما أثر في معاصريه .


تجارب الكواكبي والتكوين .

وفضلاً عما سبق ، نجد عوامل شخصية تكوَّن بعضها من خلال معاناة الكواكبي في أثناء صدامه مع الحكام المستبدين ، وأعوانهم من المنافقين ، ذلك الصراع الذي بدأ بتعطيل صحيفته <<الشهباء>> ، ثم <<اعتدال>> حيث قابل الاستبداد مواجهةً في وقت مبكر من حياته العملية على الصعيد الفكري** . ولم تكن حادثة تعطيل <<الشهباء>> ثلاث مرات ، ثم منعها نهائياً ، بأمر من الوالي (كامل باشا) هي الحادثة الوحيدة في صراعه والسلطة ، فقد عطّل (جميل باشا) ، والي حلب ، صحيفة <<اعتدال>> أيضاً ، واغتنم فرصة إطلاق النار عليه لاتهام الكواكبي بالتحريض على قتله وإيداعه في السجن . ويُلقى حجر على القنصل الإيطالي فيُتهم الكواكبي . وكان (أبو الهدى الصيادي) موالي الدولة العثمانية ، يتربّص بالكواكبي ويحاول بمساعدة الحكام ، إفشال أي عمل إصلاحي يقوم به ، والضغط عليه في أي تجارة يقوم بها ، أو مهنة يمتهنها ، ووصل به الأمر إلى دفع شخص لقتل الكواكبي (1) .
ولم يكن الكواكبي أوفر حظاً مع الوالي (عارف باشا) صديق (الصيادي) ، فقد أرسل الوالي رجال حرسه لمهاجمة منزل الكواكبي ، مستنداً إلى تقرير ملفَّق يُتهم فيه بتواطئه مع الإنكليز لتسليم حلب إليهم ، وحكمت عليه المحكمة الابتدائية المزيفة بالإعدام ، وحين تحولت المحاكمة إلى محكمة حيادية في (بيروت) بُرئت ساحته ، بعد أن قضى ثمانية أشهر في السجن (2) .


فساد الواقع .

لقد كان لتلك الحوادث أثر كبير في توجهات الكواكبي الفكرية ، ولاسيما أنه لم يكن ينقصه ذلك الشعور المفعم والدراية الواعية لما يحيط به . وقد انعكس ذلك على نشاطه منذ كتاباته الأولى في <<الشهباء>> ، حيث سيطرت على فكره الشؤون السياسية وما يعتريها من فساد إداري وتنظيمي كبيرين ، غالباً ما يردّان إلى أصول دينية . هذا في حين يرى الكواكبي أن الأديان تدعو إلى السلام والمحبة والإخاء . وتحثّ على التعاون ، وعلى إتيان الخير لصالح الإنسان . وما الاستبداد الذي يُمارس باسمها سوى استبداد فكري ـ نفسي يستغل ما في قلوب الناس من إجلال تعاليم الديانات ، ليتمكن من الاستحواذ على عقولهم وقلوبهم معاً . ويتدخل السياسي ، القادم من (الثري / الأصيل / المتعمم) مستعيناً بالأيديولوجية التي فرضها رجال الدين المزيفون . يستخدم هؤلاء المتعالين ليستبدّ بالسلطة السياسية . ولأن السياسي يعرف مدى احترام الناس لما يُطرح باسم الدين ، فإنه يستخدم بعض المفردات الدينية لتحقيق أغراضه الدنيوية الخاصة . ويتكىء الاستبداد السياسي على الاستبداد الديني ، ويتعاونان معاً على قهر العامة . إن الاستبدادين ينشآن متساوقين ، يعين كل منهما الآخر ، ويسود السياسي الذي يملك قوة الجيش القاهرة .
إن تداخلاً عميقاً يُلاحظ بين كل من الاستبدادين: الديني والسياسي ، لكن السياسة لا تستبد ، كما أن الدين لا يمارس استبداداً .
إن المفاهيم أو القوانين أو القيم لا يمكنها مطلقاً أن تمارس أي استبداد . إن الاستبداد يأتي دائماً من شخص يقوم به ويفرضه بالقوة على الآخرين ، مستغلاً غفلتهم وتكاسلهم واستكانتهم . إنه يستبد مستنداً إلى نقاط الضعف في النفس البشرية ، ويعزّز مرتكزاته بأساليب القوة غير الشرعية ، ويصطنع أهدافاً مشتركة بينه وبين الجند ، والمتعممين ، والمتعالمين ، والمتجمدين ، والأصلاء ، والأثرياء . كما أنه ، بمساعدة من هؤلاء ، يكوّن التفافاً على الجماهير ليقنع العامة ، بالتسويغ أو بالسيف ، بأنه رمز الوطن ، وأن الحفاظ عليه يجب أن يكون هدف الجميع .
ذلك كله يساعد على تشويش العقول وزعزعة الإيمان بالمبادىء مما يؤدي إلى تردي الأخلاق واستبدالها بالسنن التي يضعها المستبد للاحتذاء بها . فيصبح المبدأ الوحيد الذي ينبغي تحقيقه هو مبدأ الاستبداد ، فينقلب الناس إلى مستبدين صغار في كنف المستبد الكبير ، وتنتشر العلاقات الاستبدادية بينهم مما يساعد على نشوء الاستبداد ودعم بقائه ، مادام المقهورون أنفسهم قد دخلوا في دائرة التبشير به من حيث لا يعلمون .
ومن مجمل ما قاله الكواكبي ، هنا ، يُلاحظ أن للاستبداد أثراً سيئاً على كل ما له علاقة به . فهو يبذر الشر في كل مكان ، وفي كل ميدان تصل إليه يداه . فيحول الدين إلى أيديولوجية Ideology تبشّر برؤيته الخاصة للأمور . وهنا يظهر أن الدين لم يعد عقيدة سماوية تدعو إلى خير الإنسان ، بقدر ما يُتخذ رئة اصطناعية يتنفس من خلالها فكر المستبدين ، وينفذ إلى عقول الناس وقلوبهم ، عن طريق النفوس التي أصابها الاهتراء من كل جانب .
حاول الكواكبي أن يبحث في <<أم القرى>> أسباب الفتور الذي أصاب الأمة الإسلامية ، فرأى أسباباً كثيرة ، أدت إليه ، منها: عقيدة الجبر والزهد ، والكسل; التي تتنافى وجوهر الإسلام الذي يدعو إلى تحرير الإنسان ، والصوفية التي تم اللجوء إليها بعد أن حدث التشدد في الدين ، وانعدام التنظيمات ، وفقدان الاجتماعات والمفاوضات ، في حين أن الإسلام أتاح للمسلمين فرصة الالتقاء والتشاور .


أدلجة الدين .

لخص الكواكبي في الاجتماع السابع من مؤتمره الأسباب الدينية للفتور ، والتي مهدت لهذا الانحطاط الذي أحاط بالمسلمين من كل جانب ، وجعلت العقيدة الدينية وقفاً على بعض المنظّرين يفسرونها كما يهوون .
إن ذلك جاء من انتشار الجهل والكسل ، إذ تراخى العلماء والعامة مما سمح لعقيدة الجبر بالتأثير على الناس ، وأصبح الناس يتعلقون بالمزهدات التي روّج لها المدلّسون . والفتن التي أدخلت المسلمين في متاهات الجدل في العقائد الدينية مما ولّد التفرّق في الدين إلى شيع ومذاهب ، وأفشى الذهول عن سماحته وسهولة التدين به (3) . كما سمح بدخول ممارسات وعادات لا علاقة للإسلام بها . رافق ذلك تشدد ومغالاة في الدين ، في حين راح بعض المتعممين يخلطون في تفسير الآيات بسبب جمود كثير من العلماء وتشددهم بالاكتفاء بتفسيرات السلف (4) .
والكواكبي ، بدوره ، ينقد الشيوخ المهملين الواهنين ، ويعتب على رؤساء العلم والدين . وهوبذلك يشترك مع (محمد عبده) الذي وجّه نقداً إلى (أهل الجمود) في كتابه <<الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية>> ، رافضاً أن يتقيّد المتأخّر بما قاله المتقدّم بخصوص الاجتهاد (5) . ورأى الكواكبي أن حل هذه المشكلة يكون في حملة دعائية صحفية تقضي على تراجعهم وجمودهم ، لأنهم هم الجسر الذي يعبر عليه الجهّال لإنشاء الاستبداد الديني .
إن الكواكبي يدرس ، هنا ، المنحى النفسي للتدين ، أسبابه ، تطوره ، ومواقف الناس تجاهه . ويشرح لنا كيف أن بعض المراوغين يستغلون هذه الحاجة النفسية في الإنسان ليسيّروا مصالحهم عبر إحداثم فجوة في النفس البشرية عند البسطاء . إن الإله يملك المعرفة كما يمتلك القوة . . قوة أن يحيل الكائن إلى عدم ، بل هو المعرفة والقوة . وتمثلاً بالإله يحاول المستبد تجهيل الناس ليبدو هو العارف الوحيد ، مستعيناً على ذلك بزبانيته المؤدلجين ، ويسلب القوة ليبقى وحده مسلحاً بجيش من المرتزقة ، ليمكنه بعد ذلك أن يدّعي الألوهية . فالاستبداد السياسي تسبقه ، وترافقه ، أيديولوجياً متلبّسة بالدين ، تمهّد له . . فيحلّ الحاكم محل الإله . . ويصبح هو المنوط بوضع الشرائع . من هنا يأتي تغليب السلطة على الشريعة ، ويدخل المستبد في طور مشاركة <<الله>> في الجبروت .
إن المشكلة جاءت إذاً من تشويش الدين والدنيا على العامة من قبل العلماء المدلسين الذي أفسدوا الدين ، في حين وقف العلماء الحقيقيون موقف المتفرج ، ولما رأى المتعممون أنه لم يعد بوسعهم الحفاظ على مراكزهم مقابل السياسي الذي يمتلك القوة ، انضموا إليه مبشرين بعظمته . إن هؤلاء المدلسين حافظوا على مراكزهم بالتواطؤ مع الساسة الذين بدورهم ، استغلوا سلطة المتعممين لإخضاع العامة ، وعملوا على إرضائهم والرفع من شأنهم . فأنشأوا لهم تكايا البطالين الذين ، مقابل عطاياهم ، يشهدون لهم بالقدرات الخارقة التي يسترهبون بها الناس ، ويجعلونهم ينصاعون لأوامرهم ، ويعتقدون بما يقولونه عن عظمة أصحاب الجلالة العظام . إن المتعممين والسلاطين تبادلوا الألقاب المفخمة (والمفخخة) ، وتعاونوا على إرساء القواعد الاستبدادية في مناطقهم ، ولم يأبه أحد بالويل الذي وقع على رأس العامة من جراء هذا الاتفاق (6) .
إن السياسة تتكاتف مع مدّعي التفقّه في الدين ، إذ يعطي كل منهما الآخر ما ينقصه ليبني استبداده . فالديني يملك الفكر الذي يمكنه بواسطته أن يسيطر على الأمة ، إلا أنه يفتقد القوة التي بها يحافظ على استبداده ، فيلجأ إلى الاستعانة بالسياسي الذي يمده بتلك القوة التي تسد ثغرة المعرفة بالعنف (7) .
إن السياسيين يحاولون ، عن طريق الترغيب أو الترهيب أو التضليل ، الاستعانة بالمتنفذين الدينيين لإعادة صياغة الدين ، لا لتجديده وإنما لأدلجته ، محاولة منهم لتبرير أفعالهم في الحاضر . وهكذا الديني يتمفصل مع السياسي لإشاعة الاستبداد .
إن الكواكبي يرد على من يرمي الإسلام بالاستبدادية ، ويرى أنه لا ولاية لأحد في الإسلام ، وإنما الخضوع <<لله وحده>> (8) . ويبدو أن هذا الرد موجه ، بشكل خاص ، إلى مفكرين اثنين ، (الفياري) حيث يرى أن الأديان كلها تؤيد الاستبداد ، و(مونتسكيو) الذي يرى أن الحكومة المعتدلة تلائم النصرانية ، والمستبدة تلائم الإسلام . يقول مونتسكيو في مؤلفه السياسي: إن <<الدين النصراني بعيد من الاستبداد المحض ، وذلك أن الإنجيل يبلغ من الإيصاء بالحكم ما يعارض معه الغضب الاستبدادي الذي ينتقم الأمير به لنفسه ويزاول جوره>> (9) . ومونتسكيو مع مثالية تصوراته الأخلاقية انصرف عن الحل الذي فسّر بموجبه سماحة الحاكم الذي يعتنق النصرانية ، نجده يهاجم الإسلام ، الذي يبدو أنه يجهل حتى أبسط مبادئه ، قائلاً: <<فالإسلام الذي لا يتكلم بغير السيف يؤثّر في الناس بروح الهدم التي أقامته>> (10) . ويمضي الكواكبي ، في رده على مثل تلك الأقوال ، مضيفاً أنه <<لا مجال لرمي الإسلامية بتأييد الاستبداد>> ، لأن الدين الإسلامي أباد الميزة والاستبداد ، وهدم الشرك ، ومنع التقرب إلى <<الله>> بواسطة أحد ، كائناً من كان ، ودعا إلى الحرية في القول وفي العمل (11) .
وليس الإسلام وحده الذي يفعل هذا ، بل إن الأديان المعززة بالكتب السماوية ، كلها بحسب رأي الكواكبي ، تدعو إلى الحرية وترفض الاستبداد . لقد <<بني الإسلام بل وكافة الأديان على لا إله إلا الله ، ومعنى ذلك أنه لا يعبد حقاً سوى الصانع الأعظم>> (12) ، فمن أي باب دخل الاستبداد إلى الدين؟ المشكلة ليست في بنية الدين نفسه ، بل فيما دخل إليه من تصورات زيفته حتى غدا مختلفاً كل الاختلاف عن هذا الذي نراه في ممارسات الناس .


الاستبداد الديني ما هو إلا استلاب فكري ـ نفسي .

إن المسألة تقوم ، في تصور الكواكبي ، بين استبداد المتعممين واستبداد الحكام ، وحين لا يجد الأوّلون القوة لبسط سيطرتهم ، ينضوون تحت جناح السياسيين ، ويتحالفون معهم لقهر العامة ، أو يتحولون هم أنفسهم إلى حكام مدججين بقوة السلاح .
فالاستبداد الديني لم ينشأ إلا لغرض سياسي . وهذه ملاحظة دقيقة أدركها الكواكبي ، لأننا إذا استرجعنا التاريخ الإسلامي نؤكد مع (فلهوزن Wellhausen) أن الاختلاف في الآراء بين المسلمين لم يحدث إلا بعد معركة (صفّين) (13) . إن الدين تحول عن حقيقته بضغط من مشيئة أناس أرادوا الاستئثار بالسلطة السياسية لأنفسهم .
ولا مندوحة عن ملاحظة أن ذلك لم يكن استبداداً دينياً بقدر ما كان سياسياً متلبساً بثياب الدين . إن السياسي استغل الدين ليتمكّن من تنفيذ مآربه ، وذلك لعلمه بمدى احترام الناس للمعطيات الدينية . إنه استلاب فكري ـ نفسي ، ولا يعدو أن يكون الشكل الأولي من أشكال الاستبداد . إنه ليس استبداداً دينياً ، بأي حال ، مادام الكواكبي يدافع عن الدين الحق . إنه ، فقط ، يتهم ويهاجم الدين الوضعي / المؤدلج ، وهذا ما يوصف بالاستبدادية ، وهو ليس بدين أصلاً ، بحسب معطيات آراء الكواكبي . وما هو إلا أفكار تطرح وتورث وتعلم بالقوة ليتم اتباعها . إنه استبداد فكري / ثقافي لا علاقة له بالدين إلا من خلال استخدام المفاهيم الدينية لحصون الاستبداد الممهد والمرافق والناتج عن الاستبداد السياسي .
وهذا الذي حرّف الدين لم يهتم بممارسة العبادة كحركات وأفعال خاصة ، إنما اهتم بالدين ـ الأخلاق لما للأخلاق من تأثير في المجتمع ، فحاول إفساده . وهذا ما يريده المستبد ، أن يفرض عادات معينة تؤثر في السلوك العام للأشخاص ، لا تلك التي تبقى بين الإنسان وربه إلا ما قد يفسد منها صفو المستبد ويبعد عن تأليهه . هذه النقطة التي يركز عليها المستبد في استغلاله نفوذ الدين علىالناس . يقول (لوبرا): <<الممارسة الدينية لا تفرض على الشعوب مناهج ومواقف فحسب ، بل كذلك ، وإلى حد ما ، مأكلها وملبسها ومسكنها ، إنها تضبط الجماهير وتعودها على نظام معين ، بما لها من تأثير دائم محسوس . وقد أدركت الحكومات في جميع الأزمنة والعصور قيمة هذا الشرطي>> (14) .
لقد أدرك الكواكبي استغلال الحكام لهذه النقطة عند الناس . إن الناس لا يذعنون عملياً لأحد ، ما لم يتهيأ لهم الإحساس بأنهم لا يطيعون إرادة بشرية أخرى ، بل يطيعون إرادة أسمى من إرادتهم . . تتمثل في الإله . وكان هذا نتيجة الفهم الخاطىء الذي كرّسه خَدَمة المستبدين من رجال الدين ، إذ جعلوا الحاكم يمثل السلطة الدينية المعصومة . وهكذا يحولون الإيمان من الإله إلى الشخص بصورة العرّاف والكاهن ، ثم الحاكم بعد ذلك . وتكون غاية هذا الاستبداد الفكري ـ النفسي / الديني تهيئة الوضع لإنشاء مجتمع محكوم . إن الاستبداد يبدأ فكرة تعتمد على الفكر ومظاهر الدين وقوة الاقتصاد والسلاح لتصبح نظاماً سياسياً . وما الدين الذي يستبد سوى الذي يُفرغ من محتواه ، ليبقى مجرد إطار لفكرة في يد المستبدين ، يتيح لهم إنشاء ما يريدونه من أفكار ، بعيداً عن حقيقة النص ـ الأصل . ويعززون التفسيرات الجديدة المبعدة عن روح الدين ، حتى يترك الناس النص ويتعلقون بالتفسيرات فقط . وعلى مر الزمن لا يجد الناس أمامهم إلا مجموعة من أحكام وتسويغات لا تمت إلى النص الأصلي بصلة .
يقول الكواكبي: <<اللهم إن المستبدين وشركاءهم قد جعلوا دينك غير الدين الذي أنزلت>> (15) . من هنا يأتي رفضه كل اتجاه يحاول تسلق الدين لإقامة الاستبداد . لقد استطاع تحليل العلاقة التي تقوم بين الاستبداد والدين بحيث يتسنى للأول تحقيق مبتغاه . إن المستبد ينفذ عبر ثغرات النفس البشرية . فهو يلاحظ أن لدى الناس خوفاً طبيعياً من شيء أعظم قدرة منهم ، وليست لديهم القدرة إلا على الانصياع له ، فيستغل هذه النقطة . يحرّف الدين ليجعله يتوافق وما يرسمه لاستبداده ، ويجعله متعلقاً بأشخاص السلطة السياسية ، بعد أن عرف الدور المهم الذي يلعبه الكاهن والعرّاف في تاريخ الشعوب . إنه يستعين بالمنظّرين أولاً ، لأن النظر يقود إلى العمل ، فقد يسوّغ ما يحدث ، ويمهّد لما يُراد له الحدوث .
في هذه النقطة بالذات ، نقطة العلاقة بين الدين والاستبداد ، لم ينظر الكواكبي إلى الدين على أنه مضامين نظرية فقط ، ولكنه رآها مضامين موظفة . لذلك فقد نظر إليها من حيث أنها نظرة إلى الإنسان والمجتمع . ومن هنا ، فضلاً عن فهمه حاجة البشر إلى الدين ، جاء ، كما يرى (إفرام بعلبكي) ـ بحق ـ المقياس الذي يقيس به الكواكبي الأديان مقياساً واقعياً (16) .
إذاً فإن تحريف الدين ما هو إلا عملية فكرية تحاول السيطرة على تفكير الآخرين وعلى نفوسهم ، مما يسمح بالتمهيد لولادة الاستبداد السياسي . وهكذا فليس هناك استبداد ديني ، في رأي الكواكبي ، إلا من حيث التسمية المجازية . بحيث أن ما يطلق ، عنده ، على الاستبداد الديني ، إنما يقصد به الاستبداد الفكري ـ النفسي ، أو الاستلاب الذي يعين المستبد على التحكم في مصائر الآخرين . إنه استلاب يستعير قوة نفوذ الدين على العوام لاسترهابهم من خلال ما يدخله من تشابه بين صفات المستبد وصفات الإله ، ليمهّد إلى سلب حق مراقبة الناس حكّامهم ، الذين يتمتعون بالعظمة في مقابل دناءة العوام .


الحرية مطلب أساسي .

وتأتي الحرية عند الكواكبي في مقابل الاستبداد ، ويصف الكواكبي الحرية بأنها قدرة الإنسان على الاختيار <<بأن يكون الإنسان مختاراً في قوله وفعله لا يعترضه مانع ظالم>> (17) . وترتبط فكرة الحرية لديه بفكرتي العدالة والمساواة لأنه يرى أن <<من فروع الحرية تساوي الحقوق ـ ومنها العدالة بأسرها حتى لا يخشى إنسان من ظالم أو غاصب أو غدّار مغتال>> (18) . وتتعدد جوانب الحرية لديه من حرية التعبير إلى حرية الاعتقاد والعلاقات وحقوق التملك ، وهي كلها تعني لديه <<الأمن على الدين والأرواح ، والأمن على الشرف والأعراض ، والأمن على العلم واستثماره>> وهو ، مع مطالبته بحق التعبير عن الرأي وحق المطالبة بالحقوق ، فإنه يدعو إلى ضرورة وجود الحرية السياسية ، إذ نراه يعدد من فروع الحرية <<محاسبة الحكام باعتبار أنهم وكلاء ، وعدم الرهبة في المطالبة وبذل النصيحة . ومنها حرية التعليم ، وحرية الخطابة والمطبوعات ، وحرية المباحثة العلمية>> (19) .
وإذا كان يطالب بوجوب التعليم لكل أفراد المجتمع ، فإنه يشدد على ضرورة تأمين حرية التربية والتعليم إذ <<إن التعليم مع الحرية بين المعلم والمتعلم ، أفضل من التعليم مع الوقار>> (20) . فالكواكبي لا يرفض القسر في التعليم وحسب ، بل هو أيضاً ينهى المعلم عن إقامة حاجز بينه وبين من يتعلم على يديه ، بحجة الوقار . إن حرية التعليم مباحة للجميع من غير مانع أو تمييز . وكانت حرية التعبير عن الرأي مطلقة ثم أخذ الغرب عن العرب هذه الخصلة الحميدة فانتقل العلم إلى أوروبا <<ولما كان ضبط أخلاق الطبقات العليا من أهم الأمور ، أطلقت الأمم الحرة حرية الخطابة والتأليف والمطبوعات>> (21) ، ورأت أن مضرة الفوضى خير من التحديد ، الذي لا يلبث أن يجعله الحكام سلاسل من حديد كي يفرضوا وجهات نظرهم على أفراد الأمة . وإذا أردنا لبلادنا التقدم فعلينا أن نطلق الحريات مسترشدين بديننا <<وقد حمى القرآن قاعدة الإطلاق بقوله الكريم: {ولا يُضارَّ كاتبٌ ولا شهيدٌ} . . .>> (22) .
ويتابع الكواكبي تأكيده على رعاية الدين للحرية <<فالحرية هي روح الدين ، ويُنسب إلى حسان بن ثابت الشاعر الصحابي رضي الله عنه قوله:
وما الدين إلا أن تُقامَ شرائعٌ
وتُؤمَنَ سبلٌ بيننا وهضابُ
فلننظر كيف حصر هذا الصحابي الدين في إقامة الشرع والأمن>> (23) . فالدين مبني في جوهره على الحرية . إلا أن الحرية التي يعنيها الكواكبي في جلّ إشاراته هي حرية التفكير الديني . لكن هذا لا يعني أن الحرية هي حرية مطلقة من كل قيد ، بل إنها حرية ملتزمة بالشريعة الإسلامية إطاراً لها . ومن هنا فإن حرية التفكير الديني تعني حق الاجتهاد الذي يدعو الكواكبي إلى إباحته لكل من يرى في نفسه قدرة عليه ، يقول: <<لابد للمتحرّي في دينه من أن يهتدي بنفسه لنفسه ، أو يأخذ عمن يثق بعلمه ودينه وصواب رأيه ولو من معاصرين>> (24) . إلا أن الاجتهاد محدود أيضاً فيما هو مباح من الشؤون التي لم يتناولها الشرع صراحة بأمر أو نهي ، وذلك لا يعني نفي الاختيار <<ولكنْ ، عَلِمَ اللهُ ، الخير ، في القدر الذي هداكم إليه ، وترك لكم الخيار على وجه الإباحة في باقي شؤونكم لتوفقوها على مقتضيات الزمان>> (25) . إن لحرية التفكير والاعتقاد الديني أمثلة كثيرة في تاريخنا ، ويستشهد الكواكبي ببعض منها مدللاً على حق الاجتهاد لكل مؤمن ، فيذكر مواقف (الإمام مالك) الذي قال: <<ما من أحد إلا وهو مأخوذ من كلامه ومردود عليه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم>> (26) . ويستشهد الكواكبي بما قاله (أبو حنيفة): <<لا ينبغي لمن لا يعرف دليلي أن يأخذ بكلامي>> ، ثم يضيف عن أبي حنيفة أنه <<كان إذا أفتى يقول: هذا رأي النعمان بن ثابت ، يعني نفسه ، وهو أحسن ما قدرنا عليه ، فمن جاء بأحسن منه فهو أولى بالصواب>> (27) . ولم يكن (الشافعي) أقل من سابقيه مرونة في الأمور الاجتهادية <<وروى الحكم البيهقي أن (الشافعي) رضي الله عنه كان يقول: إذا رأيتم كلامي يخالف الحديث فاعملوا بالحديث واضربوا بكلامي الحائط . وأنه قال يوماً للمزني: يا إبراهيم لا تقلدني فيما أقول وانظر في ذلك لنفسك فإنه دين>> (28) .
والكواكبي ينادي بحرية تصرف المؤمن في الحياة العملية ، فضلاً عن حرية إعمال الفكر بعيداً عن التعصب أو الاستكانة ، حتى يتمكن الإنسان من تحقيق إرادته . <<وما هي الإرادة؟ هي أمّ الأخلاق . . . لو جازت عبادة غير الله لاختار العقلاء عبادة الإرادة>> (29) ، إن الاختيار فعل يقوم به الإنسان العاقل تبعاً لما تتطلبه الحكمة <<أليس من الحكمة أن يحفظ الإنسان حريته واختياره ، فيستهدي بنفسه لنفسه حسب وسعه>> (30) . وهو لا يفعل ذلك باعتباره وصياً على الآخرين ، وإنما يعمل فكره بحثاً عن قناعة خاصة له <<فإنه دين>> . غير أن هذا لا يمنع المرء من أن يأخذ عمن يثق به .
إن الكواكبي ينحاز دائماً إلى حرية الإنسان ، وما رفضه عقيدة الجبر إلا إحدى الدلائل على ذلك ، ولا يرى في القضاء والقدر أي جبرية ، وإنما هما <<السعي والعمل>> . ويقدّس الكواكبي الحرية فيجعلها عزيزة على الإنسان ، بعد حياته مباشرة ، فبوجودها يحصل السعي ويُطلب المجد ، وتُحترم القوانين ويتم للإنسان الاستقلال في حياته ، فيعود كما ولد حراً غير مرتبط بأحد برباط قسري ، وغير ملزم باتباع أحد (31) .
ويربط الكواكبي الحرية الشخصية بالإنتاج والعمل وبمدى استقلال الإنسان فيه . فالحرية لا تكتمل ما لم يكن للإنسان صنعة ، وما لم يتولَّ الإنسان قيادة نفسه في عمله ، وقد <<قرر الأخلاقيون أن الإنسان لا يكون حراً تماماً ، ما لم تكن له صنعة مستقل فيها ، أي غير مرؤوس لأحد ، لأن حريته الشخصية تكون تابعة لارتباطه بالرؤساء>> ، ولا يخفى أن الحرية ، التي يعنيها هنا ، هي انعدام القسر النفسي ـ الفكري الذي يمكن أن يمارسه صاحب العمل على العامل عن طريق تهديد قوت يومه .
وليست الحرية هي في الاستقلال بالعمل فقط ، وإنما هي أيضاً في قدرة الإنسان على ترجيح عقله على نفسه التي قد تقوده كي يصبح عبداً من عبيد المال ، <<وقالوا أن أقل كسب يرضى به العاقل ما يكفي معاشه باقتصاد ، وقالوا خير المال ما يكفي صاحبه ذلّ القلة وطغيان الكثرة>> (32) . فليس الحر من امتلك المال الكثير ، وليس الغني من فاضت أمواله عن حاجته ، وإنما <<الغني من قلت حاجته ، والغني من استغنى عن الناس>> (33) ، فعاش حراً لا تنيخه رغباته ، ولا تذله حاجته إلى الآخرين ، <<ولا عار علىالإنسان أن يختار الموت على الذل>> (34) ، إن المجد مفضل على الحياة عند الأحرار ، لذلك <<يكون أئمة آل البيت عليهم السلام معذورين في إلقائهم بأنفسهم في تلك المهالك ، لأنهم كانوا نجباء أحراراً ، فحميتهم جعلتهم يفضلون الموت كراماً ، على حياة ذلٍّ مثل حياة ابن خلدون>> . فطلب المجد هو طلب للحرية إذ ينحصر تحصيل المجد في زمن الاستبداد بأن يحاول كل إنسان إزالته قدر استطاعته ، وذلك طلباً لحريته ، التي لا طعم لحياته بدونها .
هذه هي الحرية التي يتغنّى بها الكواكبي ، مدركاً أنها لا تأتي من غير استعداد للتضحية في سبيلها . فنراه يحث قومه الذين اكتووا بنار الذل ورسفوا في الأغلال ، يحثهم على طلب الحرية ، وعلى بذل كل ثمين ليتمكنوا من نوالها ، يقول: <<إن الحرية هي شجرة الخلد ، وسقياها قطرات من الدم الأحمر المسفوح ، والإسارة هي شجرة الزقوم ، وسقياها أنهر من الدم الأبيض ، أي الدموع ، ولو كبرت نفوسكم لتفاخرتم بتزيين صدوركم بورد الجروح لا بوسامات الظالمين>> (35) .
ويرى الكواكبي أن التوحيد أساس الحرية ، فالأنبياء يهدون الناس إلى رأس الحكمة ، أي عبادة الله وحده ، وبذلك يملك الناس <<حريتهم>> التي تحميهم من أن يكونوا أرقّاء أذلاّء لألف شيء من أرواح وأجسام وأوهام ، <<فثمرة الإيمان بأن (لا إله إلا الله) عتق العقول من الإسارة>> (36) . وهذا يعني أنه ليس في الأرض قوة قدسية ترجى ، ولا يتخصص إنسان بهيبة مخيفة مادام يؤمن الإنسان بأن الله وحده هو الذي يمتلك قوة التحكم في حياة الناس . ولهذا جعل الكواكبي <<شعار الجمعية: لا نعبد إلا الله>> (37) . وبذلك يمتلك الإنسان استقلاله الشخصي ، ويأمن على حريته الدينية والفكرية والعملية ، ولا يعود هناك ما يمنعه من تحقيق تطلعاته <<فلا يعارضه معارض فيما يخص شخصه من دين وفكر وعمل وأمل>> (38) . والحرية الفكرية هي أولى الحريات التي يتلوها العمل ، وبها نستدل إلى الطريق الموصلة لترقّي الأمم (39) . لذلك على الشباب أن يتمسكوا بها ، وأن يستميتوا في الدفاع عنها ولسان حالهم يقول: <<أنا حر وسأموت حراً>> (40) .
وليست هذه نهاية الطريق ، بل على الإنسان أن يبقى ساعياً إلى مواصلة الترقي بالحرية ، إن الترقي الكامل لا يحصل إلا حين يهتم الإنسان بحياة أمته أولاً ، لأن في حياتها حرة تكمن حريته هو ، ويأمن بأمنها على حياته وعائلته وماله . هكذا يضيف الكواكبي شرطاً آخر من شروط الحصول على الحرية ، وهو شرط جوهري ، إذ لا حرية لفرد إلا بحرية بلاده ، فمن أين لإنسان أن ينعم بالحرية وبلاده ترسف في القيود . فالحرية ليست مجرد اختيار فردي أو خلاص خاص ، وإنما هي التزام بالمجموع إلى درجة أن <<يصير كل فرد من الأمة مالكاً لنفسه تماماً ، ومملوكاً لقومه تماماً>> . وهذا لا يكون إلا بإدراك الفساد ومعرفة الطريق التي توصل إلى الإصلاح .


أهمية الوعي .

يشير الكواكبي إلى أهمية وعي الإصلاح معلناً <<إن احتياجنا العام إلى الإصلاح بالغ فينا حتى إلى لزوم الإصلاح في تفهّم معنى لفظة الاصلاح ، ولذلك نبتدىء بتعريف الإصلاح أنه في اصطلاح السياسيين إزالة المفاسد وإكمال النواقص وموضوعه تنظيم الإدارة السياسية ، وغايته حصول السعادة العمومية وهي بغية الكل في الكل>> (41) .
وهذا التعريف يتألف من شقين ، أولاً: إزالة المفاسد ، وهو ثانياً: ترقي الأمة ، وموضوع الإصلاح هو تنظيم الإدارة السياسية أولاً ليتم للناس التنعم بالسعادة في ظل الأمن والحرية .
والإصلاح ليس بالأمر المستحيل ، ومن الخطأ تصديق <<قول من قال: إننا أمة ميتة فلا ترجى حياتنا ، كما لا إصابة في قول من قال: إذا نزل الضعف في دولة أو أمة لا يرتفع>> (42) ، بل على العكس من ذلك ، فإن الأمة التي تسعى لاسترجاع أسباب حياتها ، هي أمة ستحقق مبتغاها ولا ريب ، ولنا في الأمم السالفة براهين على ذلك ، فتلك أمة الرومان التي نهضت بعد عثرة ، واليونان الذين جددوا نشاطهم ونهلوا من غيرهم ، حتى بلغوا من القوة ذروتها ، ومن العلم أوجه . وكذلك فعل الأمريكان في العصر الحديث .
والمهم أن من يرصد الإصلاح عليه معرفة معناه ، ليجدّ في طلبه ولا ينتظر ذلك من حكومته ، أو من أمة أخرى غير أمته . فإذا أردنا إزالة المفاسد ، وتنظيم أحوالنا السياسية ، فإنه يجب علينا أن نطالب الحكومة بحقوقنا ، ونلحّ في طلبها ، ليس على سبيل الصدقة ، وإنما بأسلوب يجعلها تدرك جدية مطالبنا . وبغير ذلك لن نتمكن من نيل حقوقنا (43) . فلا يمكن أن تمنح الحكومة شعبها حقوقه ما لم يطالبها بها باستمرار . فإذا شعر الإنسان أنه أسيرٌ في وطنه ، ولا يمكنه الحصول على حريته ، وجب عليه أن يضرب في الأرض سعياً وراءها ، مقاطعاً كل مستبد يواجهه ، مهما عانى في سبيل حريته <<فإن الكلب الطليق خير حياة من الأسد المربوط>> (44) .
ولابد للمرء ، حين يوضع في مجال الاختيار بين الذل والموت ، أن يختار الموت حتى لا يعيش حياة لا شيء فيها سوى الحرص على المستبد ، لقاء طعام لا يسدّ رمقاً ، وشراب لا يروي عطشاً . إن الخوف هو الذي يرسّخ الاستبداد ، أما الشجاعة فهي وحدها التي تمنح الإنسان الحياة الكريمة أو الموت الشريف ، وبذلك يحصل الإنسان على المجد الذي لا يأتي بالتذلل أمام المتكبرين ، ولكنه يُطلب ببذلك النفس في سبيل تحصيله .
ولا يكتمل الإصلاح السياسي إلا بمراقبة الحكم ، الذي يجب أن يكون وفقاً لمبادىء الشريعة الإسلامية ، أما الحاكم الظالم فإن طاعته غير واجبة على المسلمين ، وإنما الواجب هو محاربة الحكام الظالمين لإزالة مفاسدهم ، وتنفيذ حكم الشريعة فيهم ، تحقيقاً لمعنى الآية: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} (45) ، الذين لا تجوز طاعتهم (46) .
يطرح الكواكبي ، في نهاية كتابه عن الاستبداد ، خمسة وعشرين مبحثاً يرى أنها تحتاج إلى تدقيق وتفصيل ، بما ينطبق على أحوال كل بلد وخصوصياتها ، ويقول إنه يعدّد <<هذه المباحث تذكرة للكتّاب ذوي الألباب وتنشيطاً للنجباء على الخوض فيها>> (47) ، ويطالب بالبحث فيها بالترتيب ، لكنه يبدأ بالعكس ، ويتناول شرح البحث الأخير منها فقط ، والذي يتعلق بالسعي في رفع الاستبداد ، لأنه ، في نظره ، أهم الموضوعات المطلوب حلها ، والتي يجب الابتداء بها . ويضع ثلاثة شروط مبدئية لرفع الاستبداد واستبداله وهي: شعور الأمة بآلام الاستبداد ، والتدريج ، وتهيئة البديل . فالشرط الأول: على الأمة أن تشعر بآلام الاستبداد وما يحدثه من تفاوت وفوضى بين الناس ، وما يزرعه من ذلٍّ وضِعَةٍ في قلوبهم ، وذلك حتى تستحق الحرية ، لأن نوالها عفواً لا يفيد الأمة في شيء ، لأن من لا يتعب في تحصيل شيء ، لا يهتم بحفظه <<فلا تلبث الحرية أن تنقلب إلى فوضى ، وهي إلى استبداد مشوش أشد وطأة كالمريض إذا انتكس>> ، والحرية النافعة إنما هي التي تحصّلها الأمة ، بعد الاستعداد لقبولها ، وبذلك تتمكن من الحفاظ عليها .
فيجب على الأمة أن تتمسك بالطباع الجيدة ، وتطلب الحرية والعدالة ، وتقدّر قيمة الاستقلال ، وتعرف مزية النظام على الفوضى <<وخلاصة البحث أنه يلزم أولاً تنبيه حس الأمة بآلام الاستبداد ، ثم يلزم حملها على البحث في القواعد الأساسية السياسية المناسبة لها بحيث يشغل ذلك أفكار كل طبقاتها>> . فمن أراد تخليص أمته من أسر الاستبداد ، عليه أولاً ، أن يبث فيها العلم بسوء حالتها ، وأن يبين لها إمكانية التغيير . وسرعان ما ينتشر الشعور الحاد بآلام الاستبداد بين الناس ، حتى يكاد يشمل أكثر أفراد الأمة مما يؤدي بالناس إلى التحمّس فينادون مع المعري:
إذا لم تقم بالعدل فينا حكومةً
فنحن على تغييرها قُدراء
ومن يبعث في أمته الحياة ، ويوقظها على الشعور بآلام الاستبداد ، هو الإنسان الذي يجهد في ترقية معارفه ، بالتلقي والمطالعة ، وبإحراز علم يكسبه في قومه موقعاً محترماً ، ويحافظ على آداب قومه وعاداتهم ، محتفظاً بوقاره ، متجنباً مصاحبة الحكام ، وملتزماً بحسن الأخلاق ، يحب وطنه ، ويساعد الضعفاء ، ويغار على الدين .


الإصلاح الديني .

إن كل إنسان مطالب بأن يتّبع في أخلاقه وأعماله قانوناً يتوافق ومجتمعه في أساسياته ، كذلك على كل قوم أن يتخذوا قانوناً لا يتضارب مع قوانين الأقوام الذين تربطهم معهم علاقات من أي نوع كانت ، وبذلك يتم التآلف والتعايش بين الأقوام .
ويرى الكواكبي أن الناموس = القانون = الطبيعي في البشر هو ناموس وحشي لا خير فيه ، لأنه مبني على تنازع البقاء ، وحفظ النوع ، والتزاحم على الأسهل ، والاعتماد علىالقوة ، وهذه كلها قواعد شر <<لا يلطفها غير ناموس شريف واحد ، مودوع في فطرة الإنسان ، وهو: إذعانه الفكري للقوة الغالبة ، أي معرفة الله بالإلهام الفطري>> وهذه الفطرة الدينية في الإنسان ، هي التي تجعل حياته مقبولة ، وتجعل تصرفاته متوازنة ، تبعده عن إضرار غيره طمعاً في منفعة ذاتية <<وذلك بما يؤمله من المجازاة والمكافأة ، والانتقام منه وله>> في الحياة الأخرى . والإنسان مفطور على الشعور بوجود قوة غالبة عاقلة ، يعبّر عنها الغافلون بلفظة (الطبيعة) ، والراشدون المهتدون يعبّرون عنها بلفظة (الله) (48) .
والدين بمعناه العام هو إدراك النفس وجود تلك القوة الغالبة ، ومن هنا فإنه لا يوجد إنسان بلا دين ، <<بل كل إنسان يدين بدين إما صحيح ، أو فاسد عن أصل صحيح ، وإما باطل أو فاسد عن أصل باطل>> (49) ، والدين الصحيح يكفل السعادة في الدنيا ، والفلاح في الآخرة .
إن الله يبعث الرسل ، لينقذوا الناس من ضلالة الشرك ، ويهدوهم إلى عبادة الله وحده ، وبذلك يملكون حريتهم ، التي تحميهم من ذلك الاستعباد خوفاً من مستبد أو ظالم متجبر . والأديان السماوية كلها كانت في دلايتها صحيحة ، تبث النظام والنشاط وتهدي إلى سعادة الدارين ، إلى أن طرأ عليها التحريف والتشويش والتشديد فداخلها الشرك بالله .
لقد جاءت التوراة ، ومن ثم الإنجيل ، بالتوحيد ، وتلا ذلك الإسلام مطالباً بالتوحيد وهادماً الشرك بالكلية . فقد <<بني الإسلام وكافة الأديان على (لا إله إلا الله) ، ومعنى ذلك أنه لا يعبد حقاً سوى الصانع الأعظم>> (50) . لذلك على الإنسان ألا يخضع إلا لله ، فلا سيادة ولا عبودية في الإسلام إلا له . لكن تغييراً حدث في الدين ، فتُرِكَ أصلُه ، واتُّبعت مزيداتٌ ليست منه في شيء ، فغدت حالة أكثر المسلمين تشبه حالة المشركين ، إلا أهل جزيرة العرب ، الذين استطاعوا المحافظة على أصول الإسلام . ولأن ذلك حدث بات من الضروري أن نحيي الدين الأصيل ، ونصلح ما فسد منه ، برد العامة عن ميلها إلى الشرك الأول . وهذا أمر غير هين ، ولا يمكن تنفيذه إلا بالعلم ، وبالاجتماع على أهمية العودة إلى الإسلام ، في أصوله الأولى ، بعيداً عن النقول المتخالفة . فلابد <<أن نترك جانباً اختلاف المذاهب التي نحن متبعوها تقليداً>> (51) ، وأن نعتمد ما نعلم من صريح الكتاب ، وصحيح السنة ، وثابت الإجماع ، كما فعل أجدادنا الأولون ، إذ أن مذهب السلف هو الأصل الذي لا يرد ، وهو الذي يجعلنا لا نتفرق في الآراء ، ويمكننا من نبذ التقليد ، الذي يخالف نص الكتاب أو صريح السنة وثابت الإجماع . فعلى العلماء أن يقاموا فكرة التعصب لمذهب دون آخر ، ليتمكنوا من جمع كلمة الأمة على رأي واحد ، بعيداً عن التشدد في الدين ، الذي لم يجعل الله على الناس فيه من حرج ، بل إنه أراد أن يرفع الأغلال ، التي كان يرسف فيها الناس ، وأراد أن يخفف عنهم التكاليف الثقيلة ، لذلك لم يكلف الإنسان إلا بما له قدرة عليه ، كما أمره بأن لا يغلو في دينه وبأن يقتصد فيه .
وحتى لا يغالي الناس في التعصب للدين ، وحتى يتم جمع كلمة المسلمين ، يقترح الكواكبي أن يعقد فقهاء الأمة كتاباً في العبادات ، يعتمده المسلمون جميعاً ، ويذكر فيه الحد الأدنى للفرائض والواجبات ، وكتاباً تُذكر فيه السنن المستحبة ، وكتاباً للسنن الإضافية ، ثم كتاباً للمنهيات ، فيه المكفرات والكبائر ، ثم الصغائر والمكروهات ، ومثل ذلك توضع كتب للمعاملات بحسب أحكامها الإجماعية أو الاجتهادية أو الاستحسانية ، <<فبمثل هذا الترتيب يسهل على كل من العامة أن يعرف ما هو مكلف به في دينه ، فيعمل به على حسب مراتبه وإمكانه ، وبهذه الصورة تظهر سماحة الدين الحنيف>> (52) . ومن الضروري أن نلتمس للضرورات أحكاماً اجتهادية ، تعمل بها الأمة ، مادام المقتضى باقياً ، ويأمر بها الإمام أو السلطان ، منعاً للخلاف .
وما أحوج الشرقيين ، من الأديان كلها ، أن يهجروا العلماء الأغبياء ، ويجددوا النظر في الدين ، لإعادة النواقص المعطلة فيه ، وتهذيبه من الزوائد الباطلة ، فيعيدوا الدين إلى أصله . ولا يصلح الدين إلا بالعلم والعلماء الذين يهدون الناس إلى خير الدنيا والآخرة .
إن العلوم أخذت تنمو في الغرب ، وقد ظهرت ثمراتها العظيمة في شؤون الحياة ، وعلى المسلمين ـ الاهتمام بها ، لإصلاح دينهم ، ولمجاراة جيرانهم ، فقد <<أضحى المسلمون محتاجين للحكمة العقلية ، التي كادت تجعل الغربيين أدرى منا حتى في مباني ديننا>> (53) . وإذا أردنا أن نستعيد نشأتنا ، وأن نجلب إلى ديننا العالم المتمدن ، علينا أن نهتدي بأنفسنا ، وأن نبدي مزيداً من الاهتمام بالعلم ، ونصغي إلى نصح العلماء العاملين ، ونمنع الشعوذة ، ونجاهد للحط من قدر العلماء المنافقين ، الذين يحاولون ممالأة المستبد السياسي ، ونتعلم كيف نفرق بين الأوامر الدينية والأوامر السياسية .
وهذا الإصلاح الدينين ضروري ، لأن السياسيين <<يعتبرون أن إصلاح الدين هو أسهل وأقوى وأقرب طريق للإصلاح السياسي>> (54) ، وأنه متى زال أحدهما زال الآخر ، فإذا صلح الدين صلحت السياسة . والسياسة في نظر الإسلام الصحيح تقوم على الشورى ، لذلك فإن مجرد العودة إلى الينابيع الإسلامية الأولى ، تعني عودة إلى الشورى السياسية .
كما أن للدين فوائد كثيرة ، فهو يفيد الترقي الاجتماعي إذا صادف أخلاقاً فطرية لم تفسد ، فينهض بها كما نهضت الإسلامية بالعرب ، وهو أكبر معين على تحمل مشاق الحياة . والدين المبني على العقل أفضل صارف عن الخرافة ، وأنفع وازع للنفس ، وأقوى منشط على العمل ، ومثبت على المبادىء الشريفة . كما أن الدين هو أفضل مقياس يستدل به على رقي أو انحطاط نفوس الأمم والأفراد .
وأحكام الإسلام أحكام يتلقاها العقل بالقبول والإجلال ، إذ جاءت الإسلامية بالحرية والعدالة والمساواة والشورى ، ولكي يتم لنا تحقيق الإسلامية ، والتمسك بها ، لابد من إنشاء جمعية تهتم بإصلاح الدين وتحافظ على مبادئه السامية (55) .
لكن إصلاح الدين ، والانتقال لردم الهوة بين الإسلام والمسلمين لا يتم إلا بالتدريج ، وبجهود علماء يشكلون جمعية توحد الله ، ويتعاون أعضاؤها لتحقيق اتفاق المسلمين على محاربة الاستبداد ، والعودة بالإسلام إلى أصله النقي . وتكون هذه الجمعية بزعامة العرب ، لأنهم أصلح الشعوب لقيادة الجهاد في سبيل الحفاظ على مبادىء <<الإسلامية>> .


الإسلامية عند الكواكبي .

يرى الكواكبي في الإسلامية بديلاً عاماً عن الاستبدادية ، ويميز بين الإسلام والإسلامية . فالإسلامية عنده ليست هي ما يدين به المسلمون الآن ، ولكنها المنهج المشتق من الإسلام الصحيح الذي ينبثق من <<القرآن الكريم>> وصحيح السنّة من غير أن تنقص أو تزيد عما جاء فيهما من ناحية العبادات . والإسلام الصحيح هو ما تميّز به أسلافنا العالمين ، بعيداً عن تفقه المتفقهين ، ملتزمين بما يعلمونه من صريح الكتاب وصحيح السنّة وثابت الإجماع . والإسلامية بهذا المعنى <<هي أحكام القرآن وما ثبت من السنّة وما اجتمعت عليه الأمة في الصدر الأول ، لا يوجد فيها ما يأباه عقل أو يناقضه تحقيق علمي>> (56) . ومن أهم قواعد ديننا الالتزام بهذه الأحكام ليتم لنا السير على منهج الإسلام القديم ، الذي يترك للإنسان حرية التصرف في حياته مادام يتصرف فيها ضمن قواعد الدين العامة . <<ومن قواعد ديننا كذلك: أن نكون مختارين في باقي شؤوننا الحيوية ، نتصرف فيها كما نشاء ، مع رعاية القواعد العمومية التي شرعها أو ندب إليها الرسول ، وتقتضيها الحكمة أو الفضيلة ، كعدم الإضرار بالنفس أو الغير ، والرأفة على الضعيف والسعي وراء العلم النافع ، والكسب بتبادل الأعمال ، والاعتدال في الأمور ، والإنصاف في المعاملات ، والعدل في الحكم ، والوفاء بالعهد>> (57) .
هكذا تتحد أفكار المساواة والحرية والعدالة والشورى عند الكواكبي في تعبير واحد هو الإسلامية ، التي يراها تطالب بالمنفعة العامة للناس أجمعين ، وهذه المنفعة لا تتم للإنسان إلا بالاشتراك العمومي بين الناس ، حيث يقوم كل فرد بعمل مفيد للمجتمع . وذلك لأن طبيعة الكون تقتضي الاشتراك لتتم للناس المنفعة . وهذا الاشتراك موجود في الإسلام فقد <<أحدث الإسلام سنّة الاشتراك على أتم نظام>> (58) . ولم يكتف الإسلام بذلك ، وإنما رسم الطريق العامة لخير الإنسان ، إذ <<جاءت الإسلامية بقواعد شرعية كلية تصلح للإحاطة بأحكام كافة الشؤون حتى الجزئية الشخصية>> (59) .


الشورى الدستورية .

إن الإصلاح الديني والحصول على الحرية والعدالة ، لا تتأتى إلا بسيادة الشعب على نفسه . وسيادة الشعب لا تكون إلا بتحقيق الشورى ، عن طريق مشاركته في ممارسة الحكم ليكون الحكم عادلاً ، لأن للحكم تأثيراً كبيراً على شؤون الحياة كلها ، وهو الذي يمكنه الحفاظ على المساواة والحرية والعدالة بوساطة احترامه قانون الدولة ، وتمسكه بأصول الشورى في الحكم .
يقول الكواكبي ، بعد بحث امتد ثلاثين عاماً <<تمحّص عندي أن أصل هذا الداء هو الاستبداد السياسي ، ودواءه دفعه بالشورى الدستورية>> (60) . فإذا كان الاستبداد السياسي هو أصل الداء ، فإن دواءه إنما يكون بإيجاد <<الشورى الدستورية>> التي بها تصلح السلطة السياسية والقانونية ويعمّ الرخاء . وتنتمي الشورى ، في فكر الكواكبي ، إلى ميدان السياسة انتماء حميماً ، فهي تعني مشاركة الرعايا في سياسة الدولة وشؤون الحكم ، بحثاً عن القرار الأكثر صواباً ، على أن يتم ذلك في حدود القانون . لقد رأى الكواكبي أن الاستقلال في الرأي مضرّ ، لذلك راح ينقب في تراث العرب بحثاً عن الشورى ، مستلهماً الأفكار الإسلامية الداعية إليها ، فرأى أن العرب هم أعرق الأمم في أصول الشورى ، ولاحظ أن الشورى مبدأ موجود في الإسلام ، فقد <<جاء الإسلام محكماً لقواعد الحرية السياسية المتوسطة بين الديمقراطية والأرستقراطية>> (61) ، وانطلاقاً من {وشاورهم في الأمر} (62) ، وتوسطاً بين حكم الشعب ، الذي لم يعد يصلح بالنظر إلى تزايد أعداد الناس في الأمة الواحدة ، وبين حكم القلّة ذات النفوذ الاستبدادي الذي تمارسه على الآخرين . وقصة (بلقيس) (63) في القرآن الكريم تعلّم كيف ينبغي أن يستشير الملوك الملأ ، أي أشراف الرعية ، وأن لا يقطعوا أمراً إلا برأيهم ، وتشير إلى لزوم حفظ القوة والبأس في يد الرعية (62) ، وما الملوك إلا منفذون ، وينسب إليهم الأمر توقيراً فقط . وقد مورس مبدأ الشورى لفترة في زمن الخلافة الراشدة وما قبلها ، فقد كان النبي <<أطوع المخلوقات للشورى امتثالاً لأمر ربه>> ، <<حتى أنه ترك الخلافة لمجرد رأي الأمة>> ، وهكذا فعل الخلفاء: الأول والثاني ، اللذان فهما مغزى <<القرآن الكريم>> وعملا بموجبه .
والحكومة لا تكون صالحة إلا إذا كانت الشورى إحدى مميزاتها ، لأنها ، حينئذ فقط ، يمكنها أن تقود الأمة . ويدلل الكواكبي على كلامه باستقرائه تاريخ الحكومات الإسلامية ، قائلاً: <<وإذا دققنا النظر في أدوار الحكومات الإسلامية من عهد الرسالة إلى الآن ، نجد ترقيها وانحطاطها تابعين لقوة أو ضعف احتساب أهل الحل والعقد واشتراكهم في تدبير شؤون الأمة>> (65) . فعلاقة الشورى بالترقي علاقة طردية ، كلما زادت إحداهما نجد ارتفاعاً في رصيد الأخرى .
وأهمية الشورى لا تنحصر في شؤون الحكم فقط ، بل تنسحب على حياة الناس في كل شأن وفي كل زمان ومكان . وإذا كان زمن الخلافة الراشدة الذهبي قد ولّى فعلينا ألا نستكين ، بل يجب علينا أن نحاول استعواضه <<بطراز سياسي شوري>> يستفيد من فكر الغرب الذين استفادوا من الإسلام ، وأقاموا نظام الشورى الذي نطالب به ، <<ذلك الطراز الذي اهتدت إليه بعض أمم الغرب ، تلك الأمم التي لربما يصح أن نقول ، قد استفادت من الإسلام أكثر مما استفاده المسلمون>> (66) . لقد رأى الكواكبي أن سر تفوق أوروبا هو في حصولها على الحرية وتمكنها من إقامة الديمقراطية ، لذلك دعا إلى الاسترشاد بتجربتها في إرساء قواعد الديمقراطية والشورى .
ولكن من يقوم بالشورى؟ يطالب الكواكبي بالشورى الأرستقراطية ، أي شورى الأشراف ، وهم أهل الذكر ، وأهل الحل والعقد من هُداة الأمة وقادتها . والأشراف هم أفراد جديرون بحمل المسؤولية ، وهم أشراف لقيامهم بأعباء هذه الوظيفة الشريفة ، <<وهم خواص الطبقة العليا في الأمة ، الذين أمر الله ، عزّ شأنه ، نبيه بمشاورتهم في الأمر ، الذين لهم شرعاً حق الاحتساب والسيطرة على الإمام والعمال ، لأنهم رؤساء الأمة ووكلاء العامة ، والقائمون في الحكومة الإسلامية مقام مجالس النواب والأشراف في الحكومات المقيدة>> (67) . وهم ليسوا أهل الألقاب أو الميراث من الأصلاء والمتمجدين . إنهم أناس استعدّوا بالعلم ، والكفاءة ، لخدمة الناس ، وليكونوا وكلاء عنهم في مراقبة الحكومة ومحاسبتها .
ولكن ما هو أساس الشورى لدى الكواكبي؟ . .
إن أساس الشورى عنده هو إرادة الأمة ، وإرادة الأمة تتحقق أو تتلخص في الأخذ بآراء أهل الحل والعقد ، إلا أن ذلك لا يعني الاستسلام إلى الكسل والإذعان لما يطالب به الآخرون ، لأن الناس جميعهم ملزمون بالأمر بالمعروف وبالنهي عن المنكر . إن الإلزام بإتيان الخير ودفع الشر في آية: {ولتكن منكم أمةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} (68) هو فرض عين لا فرض كفاية . وليس المراد منه سيطرة أفراد المسلمين بعضهم على بعض ، بل المراد هو <<إقامة فئة تسيطر علىحكامهم كما اهتدت إلى ذلك الأمم الموفقة للخير ، فخصصت منها جماعات باسم مجالس نواب ، وظيفتها السيطرة والاحتساب على الإدارة العمومية: السياسية والمالية والتشريعية>> (69) . إن السيطرة والاحتساب ، التي تقوم بها المجالس هي التي تحقق فرض الكفاية ، أما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو فرض عين ، وعلى المسلمين جميعهم العمل على تحقيقه .


روابط الإنسان في المجتمع المنشود .

ونظراً إلى أهمية التعاون والاشتراك في الشؤون العامة ، فإن كمال المجتمع لا يتم إلا بروابط يقيمها الناس فيما بينهم ، تساعدهم على التعاون من أجل مزيد من التقدم . فالمجتمع المثالي يتميز بالتعاون والعمل على تحقيق الاتحاد والتواصل إذ يجتمع أفراده في اتحادات قومية ودينية وإنسانية ، من غير أن تكون هذه الروابط قسرية وإنما تكون نتيجة طبيعية ضرورية لتتويج اجتماعاتهم .


أ ـ الرابطة القومية .

إن أولى روابط الإنسان الاجتماعية هي الوحدة الوطنية بين أبناء الشعب الواحد ، الذين تجمعهم أرض واحدة ولغة مشتركة . والوطنية ترادف القومية ، عند الكواكبي . وما تغنيه بالوطن إلا تغنياً بالقومية العربية ، التي يرى قلبها النابض في الجزيرة العربية . داعياً إلى وحدة العرب وهو يذكرهم بالماضي المجيد ، رغبة منه في عودة زمام الأمور إليهم . وهو حين يطالب بضرورة استقلال الوطن ووحدته ضد عبث الطغاة اللئام ، فإنه إنما يسعى إلى تحقيق مطلبه باستقلال العرب ، واتحادهم ضد العثمانيين والأوروبيين على السواء ، داعياً العرب إلى تولي شؤونهم بأنفسهم بأن يحكموا عليهم واحداً منهم ، ويراقبوا بقاءه مجرد رمز لجمع شملهم في رابطة اشتراك لا قسر فيها ، مثل <<معيشة أكثر الإنكليز والأميركان ، الذين يفتكر الفرد منهم أن تعلقه بقومه وحكومته ليس بأكثر من رابطة شريك في شركة اختيارية ، خلافاً للأمم التي تتبع حكومتها حتى فيما تدين>> (70) . والعرب يشتركون في اللغة والوطن ، لذلك فإن اجتماعهم ، في اتحاد يضمهم ، ضرورة لابد منها ، يساعد عليه وجود حكم عادل ، لما له من تأثير كبير على الوطن والمجتمع ، ولقدرته على تشجيع إنشاء اتحاد وطني بين الإخوان . ففي ظله تنتشر التربية التراثية الهادفة إلى الحفاظ على المزيات الخاصة لكل شعب .
إن البلاد التي تحررت من النزاعات الطائفية ، ومن سطوة الاتجار بالدين ، استطاعت تكوين اتحاد جنسي بين مواطنيها ، يحفظ لهم قوميتهم ، بصرف النظر عن الانتماءات الدينية المختلفة .
فإذا قام الحكم العادل في البلاد العربية فلا شيء يمنع من إقامة الوحدة العربية بسبب وجود عوامل كثيرة مشتركة بين العرب . لذلك يدعو الكواكبي العرب من غير المسلمين لإقامة اتحاد وطني بينهم وبين أبناء جنسهم من المسلمين ، بصرف النظر عن الانتماء الديني ، يقول: <<يا قوم ، وأعني بكم الناطقين بالضاد من غير المسلمين أدعوكم إلى تناسي الإساءات والأحقاد ، وأجلكم من أن لا تهتدوا لوسائل الاتحاد وأنتم المتنورون السابقون ، فهذه أمم أوستريا وأمريكا قد هداها العلم لطرائق شتى ، وأصول راسخة للاتحاد الوطني دون الديني ، والوفاق الجنسي دون المذهبي ، والارتباط السياسي دون الإداري>> (71) ، فما بالنا لا نتبع ما يشبه تلك الطرق ، ونقول للأجانب الذين يحاولون إثارة البغضاء بيننا باسم الدين: <<دعونا يا هؤلاء نحن ندبر شأننا ، نتفاهم بالفصحاء . دعونا نجتمع على كلمات سواء ، ألا وهي: فلتحيى الأمة ، فليحيى الوطن ، فلنحيى طلقاء أعزاء>> (72) ، لأن الترابط القومي يضمن حرية الاستقلال الوطني ، ويمنع من الوقوع في نظام غريب لا يلائم طبائع حياة الناس ، وهو خير دافع لسطوة الاستعمار وشروره ، وأفضل أشكال الروابط النافعة للاشتراك في الحياة ، مع بقاء الإنسان مستقلاً في حرية إرادته .


ب ـ الجامعة الإسلامية .

وإذا كانت الرابطة القومية هي الدائرة المهمة الأولى في حياة الإنسان ، فإن ذلك لا ينفي وجود روابط أخرى ، تقوي التعاون وتعززه بين الناس وتقرب بينهم ، مثل الرابطة الدينية .
فإذا كانت (الأمة هي مجموعة أفراد يجمعها نسب أو وطن أو لغة أو دين) (73) ، فإن للأمة روابط متعددة الأشكال ، من ضمنها الرابطة الدينية ، فلا شيء يمنع من أن تشترك أكثر من رابطة في انتماء الإنسان أو تجتمع كلها في أمة واحدة . وقد تتقاطع تلك الروابط في أشياء كثيرة في بعض الأمم ، من روابط وطنية أو لغوية أو دينية ، فقد يجتمع النسب والوطن واللغة والدين ، أو قد يجتمع بعضها من دون بعض .
ولم يكن مستغرباً أن يدعو الكواكبي المسلم لجمع شمل الأمة الإسلامية في رابطة دينية فضلاً عن الرابطة القومية بين العرب: مسلمين ومسيحيين .
وهذا يعني أن لدى الكواكبي انتماءين قويين: الأول هو الأمة الدينية ، ويعني بها الرابطة التي تجمع المسلمين ، ويحضّ المسلمين للدعوة إليها ، وبخاصة المسلمين العرب ، بالنظر إلى أهدافهم المشتركة في إصلاح الدين ، وإسقاط ادعاء العثمانيين بالخلافة . وينادي الكواكبي هنا ،‎بفضل الخلافة عن الملك ، وعودتها إلى العرب ، وقيامها على أساس الشورى والانتخاب ، ويحدد وظيفتها بأنها وظيفة روحية ، لا علاقة لها بالسياسة الداخلية للبلاد الإسلامية .
أما الانتماء الثاني ، فهو الانتماء القومي ، ويعني به ، وحدة العرب من كل الأديان ، وهي عنده رابطة الأرض واللغة ، وبالتالي الثقافة ، والأهداف المشتركة بين العرب جميعهم ، في تخليص أوطانهم من سطوة الاستبدادين: الداخلي والخارجي . ثم هناك الحكم المحلي اللامركزي في الدولة القومية الواحدة .
ويشكل الانتماءان: الديني والقومي ، دائرتين متطابقتين في فكر الكواكبي ، العربي ، المسلم . إلا أن تقاطعهما لا يسبب مشكلة ، سواء لدى العربي غير المسلم ، أو لدى المسلم غير العربي ، وذلك لأنهما دائرتان غير متعارضتين لما بين العرب والإسلام من صلة حميمية . فينتمي العربي إلى إحدى الدائرتين ، بينما ينتمي المسلم إلى الأخرى ، في حين أن العربي المسلم ينتمي إليهما معاً .
من ذلك يتضح أن الكواكبي أراد تنمية الشعور بالانتماء القومي والديني معاً ، كما أنه دعا إلى روابط أخرى تضم أقواماً وأدياناً مختلفة ، ويكون بيننا وبينهم قواسم مشتركة من ناحية ما . فليس الترابط القومي والديني هما الرابطان الوحيدان في المجتمع الصالح ، بل إن المجتمع كلما ازداد مثالية كلما كثرت روابطه ، وكلما كثرت روابطه ، مع غيره من المجتمعات ، كلما ازداد مثالية وتقدماً . فإذا استقلّ كل قوم في رابطة وطنية ، وإذا اجتمع أهل الدين الواحد في رابطة دينية ، فإن ذلك يعزز ويدعو إلى روابط أخرى متعددة بين الأقوام والأديان في شتى أنحاء الأرض .
ويتضح من ذلك أن الحضارة ، عند الكواكبي ، هي كل متكامل لا يتجزأ ، ولا يسع أحد الانغلاق على نفسه في قومية أو دين . كما أنه يرفض التعصب القومي أو الديني ، منوّهاً بأهمية التسامح بين الأديان والأقوام من أجل التعايش السلمي والتعاون بينها .


الإسلامية منطلق يعززه العقل .

إن الإسلام هو منطلق الكواكبي الأساسي ، كما أن إثبات مقولاته هي غايته الأولى ، وهو وصولاً إلى ذلك يحاول البرهنة على أنه المنهج السليم الذي يجب اتباعه .
والملاحظة المبدئية التي يطرحها هي أنه ليس هناك من لا يدين بدين ، وأن الدين الصحيح هو الذي يقوم على التوحيد رافضاً الخضوع لغير الله . والإسلام ، فضلاً عن أنه دين توحيد ، فإنه أيضاً يترك المجال لإعمال العقل ، بل إنه يدعو إلى العلم ويحض عليه ، حيث أن <<أول كلمة أنزلت من القرآن هي الأمر بالقراءة أمراً مكرراً>> (74) ، والكواكبي يشير بذلك إلى الآية {اقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق ، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم ، علم الإنسان ما لم يعلم} (75) . والإسلام إذ يدعو إلى التفكير ، حتى في مسائل الدين ، إنما يريدنا أن نفعل ذلك من غير أن تكون هناك واسطة بين الله والإنسان ، بل إنه يؤكد تحرر الإنسان من التبعية الدينية لأحد . ويخلص الكواكبي من هذه المقدمات إلى نتيجة مفادها أن الإسلام هو أفضل دين تنزل على الإنسان ، وإذا تفكر الإنسان في الكون ، فإن عقله لابد أن يهديه إليه ، لأنه يدعو إلى الحرية وإلى التمسك بالوحدانية تحت شعار <<لا إله إلا الله>> .
ومن هنا يمتد فكر الكواكبي ليرفض الجبرية ، ويهاجم مفهوم الزهد الشائع في زمنه . ويدعو إلى التفكّر في القرآن الكريم الذي نكتشف من خلاله أن الشورى مبدأ إسلامي ، وإن الحل السياسي لمشكلات المجتمع عند الكواكبي إنما يكمن في الشورى الدستورية ، وهو يستخرج أصول الشورى من القرآن مدللاً على ذلك بما جاء فيه حول قصة بلقيس ، وقصة موسى ، وآيات تطالب بالشورى وتحثّ عليها . ويدعو الكواكبي إلى الاستفادة من التراث العربي الإسلامي لإقامة طراز سياسي شوري ، مستلهماً المقولات الإسلامية والتجربة الغربية في تحقيق الديمقراطية ، التي رعاها الغرب أكثر مما رعاها المسلمون ، حتى في صيغتها الإسلامية .
وقد وصف <<القرآن الكريم>> مادحاً من يأخذون بالشورى: {والذين استجابوا لربهم ، وأقاموا الصلاة ، وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون} (66) ، كما أنه يأمر الرسول باستشارة أصحابه {فبما رحمة من الله لنت لهم ، ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك ، فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر ، فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين} (77) ، وهذا يعني أن الشريعة تأمر الحاكم بأن يرجع إلى الأمة في الأمور المهمة ، وهذا يجعله مراقباً من قبلها . وقد عد الإسلام الشورى من دعائم الإيمان ، فقد سوى في النص السابق بينها وبين الصلاة . فالشورى فرض واجب على الحاكمين والمحكومين ، وبناءً على ذلك قرر الفقهاء أن من ترك الشورى من الحكّام فعزله واجب على المحكومين . ورأوا أن إلزام الحكام برأي الأمة هو أكبر ضمان لتقييد السلطة السياسية . وهذا ما حاول الكواكبي المحافظة عليه في وجه الاستبداد ، الذي يحب الاستغلال والاستلاب ، ليتسنى له ، بعد ذلك ، إقامة حكومة عادلة أساسها الشورى .
علاقة الدين بالسياسة عند الكواكبي .
مما يبدو في فكر الكواكبي أن الإسلام لم يأت بنص تفصيلي يوضح فيه طريقة العمل السياسي ، إلا أنه في الوقت نفسه لم يترك الأمر مطلقاً بل حدده في وظيفة الحاكم وحكومته ، وفي غايات العمل الدنيوي بشكل عام في أنه يجب أن يصبّ في المصلحة العامة فوضع <<مائة قاعدة وحكم>> من غير أن يقسر الفعل السياسي على اتباع أساليب إجرائية معينة .
على ذلك يترتب أن الكواكبي لم يقل بفصل الدين فصلاً كلياً عن السلطة السياسية ، بالرغم من أنه يميز بين الدين والدولة . إلا أن هذا لا يدعو إلى الاعتقاد بأنه قال بدمجهما معاً تحت لواء سلطة الخلافة ، وذلك لأن الكواكبي قد طالب بإعادة الخلافة إلى العرب ، ونقلها إلى الحجاز ، وهذا في حقيقة الأمر يشكل تشكيكاً بشرعية الخلافة كما يفمهمها كثير من معاصريه ، كما أنه يعد سعياً إرهاصياً نحو إقامة رابطة عربية قومية .
وهذه النتيجة تنسجم مع ملاحظة (سليمان موسى) إذ يقول عن الكواكبي: <<لأول مرة يتقدم مفكر عربي مسلم بمشروع إنشاء دولة وطنية تفصل فيها السلطة التنفيذية عن الدين ، بينما كان المفكرون المسلمون قبل ذلك ، يدعون إلى إبقاء السلطة التنفيذية والزعامة الدينية ملتصقين في شخص الخليفة ـ السلطان>> (78) .
والكواكبي لم يقل باستعادة السلطة القديمة ، وإنما قال بأهمية استلهام منهج فترة الخلافة الراشدة ومثلها وغاياتها ، مع تأكيده <<بأنها لن تعود>> لأنها فترة استثنائية تطلبها الواقع القائم آنذاك ، ونحن علينا تحقيق ما حققته ، ولكن عن طريق دولة معصرنة .
لذلك لا نرى أن الكواكبي قد سعى إلى إقامة سلطة دينية ، وكل ما أكده هو ضرورة تكامل الدين والسياسة مع فصل السياسة عن الدين . وهو حين طالب بفصل السلطة السياسية عن الدين لم يكن يفصل بين سلطتين ، كما حدث في أوروبا (فصل السلطتين: الدينية والسياسية) ، وذلك لأنه لا يقرّ أصلاً بوجود سلطة دينية لأحد في الإسلام ، وجل ما كان يرمي إليه هو تحرير العرب من أسر السلطة العثمانية الاستبدادية ، وبناء أمة عربية موحدة سياسياً .
وفي حين نادى السلفي بالجامعة الدينية ، ونادى الليبرالي بالجامعة القومية ، أراد الكواكبي الاثنتين معاً .
من هنا يحمل الكواكبي بذور فكر سلفي وليبرالي معاً ، من غير أن ينتمي إلى أي منهما أكثر مما ينتمي إلى الآخر إلا بمقدار ضئيل . وظل حتى النهاية يطالب بالإسلامية حلاً للمسائل جميعها .
والإسلامية ـ بهذا التصور ـ يمكن تجسيدها بصيغ متعددة اجتماعياً وفكرياً وسياسياً ، مما يجعلها تشكل نسقاً فكرياً وعملياً للدين والدنيا على حد سواء ، مما يسمح بتقديمها على أنها عقيدة وشريعة معاً ، من كونها بديلاً يتخذ من النص الإسلامي إطاراً عاماً نقونن في ضوئه قوانيننا ، وذلك لأن القرآن لم يترك خطاً عاماً شاملاً لم يأت على ذكره ضمناً أو صراحة ، فهو يحيي العدل والتساوي والشورى ويرسم حدود اختيار الإنسان في حياته ، ويقرر كيفية حصول التوازن الاقتصادي عبر الصدقات والزكاة ، ويمنع التواكل ويشيع ملكية الأرض للناس أجمعين . ويجعل للبائس المحروم حقاً في أموال الأغنياء (79) . ففي الإسلام تتوافر مطالب الإنسان في الحرية والعدالة والمساواة .
إن مثل هذا الفهم لشمولية <<القرآن الكريم>> عند الكواكبي يقطع الطريق على كل من يحاول التدليل على أنه يفصل الدين عن السياسة بوصفها صيغة أخيرة لتنظيم الدول ، ويجعل ، بالتالي ، من المتعذّر علينا موافقة (جان داية) (80) في ما ذهب إليه من محاولة تأكيد فصل الكواكبي بين الدين والدولة ، بل إن كل ما فعله الكواكبي هو أنه فصل بين القائمين على الحكم وبين علماء الدين . إنه أدخل تحديداً مبدئياً هو إخراج مؤسسة الحكومة عن دائرة التحكم بالدين لضمان حرية العقيدة ، بعيداً عن السلطة السياسية . كما أنه جعل الرابطة الإسلامية بمنأى عن التدخل في شؤون الحكم ، وأبقى على الخليفة بوصفه مرشداً أو رمزاً روحياً للجماعة ، وميزه من السلطان أو الحاكم المدني الدنيوي . وهذا بالتحديد ما عمد الكواكبي إلى إثباته عبر كتاباته ، وذلك لأن الإسلامية عنده أشمل من أن تكون حكومة أو أن تتمثل في أشخاص .
وتمثل الحل السياسي عنده في الدعوة إلى حكومة دنيوية ، قانونها الأساسي الشريعة الإسلامية إطاراً عاماً فقط ، رافضاً الصيغ الغربية ، لأنه رآها غير صالحة للعرب المسلمين ، الذين عليهم الانطلاق من واقعهم ، والاسترشاد بشريعتهم ، لأن فيها ما يكفل حرية الأفراد ، وما يكفل قيام نظام حكم <<ديمقراطي تماماً>> . وضمن هذا الإطار ناقش الكواكبي مسألة الخلافة .


بين العروبة والإسلام .

إن الحرية بكل ضروبها وفروعها هي الثمرة المطلوبة من أجل الإنسان ، عند الكواكبي ، وقد روى عنه (محمد رشيد رضا) قوله: <<إن الإنسان يتجرأ أن يقول ويكتب في بلاد الحرية ما لا يتجرأ عليه في بلاد الاستبداد ، بل إن بلاد الحرية تولد في الذهن من الأفكار والآراء ما لا يتولد في غيرها>> (81) ، حيث يعيش الإنسان مستقلاً عن سواه من غير أن يشعر بتبعيته لأحد . لذلك يحب الكواكبي حياة البدو ، فهو يعتقد أن البدوي ينشأ نشأة استقلالية بحيث يمكن لكل فرد من البدو الاعتماد على نفسه في معيشته <<خلافاً لقاعدة الإنسان المدني بالطبع ، تلك القاعدة التي أصبحت سخرية عند علماء الاجتماع المتأخرين>> (82) ، فقد صار بوسع الإنسان <<متى انتهت حضانته أن يعيش مستقلاً بذاته ، غير متعلق بأقاربه وقومه كل الارتباط ، ولا مرتبط ببيته وبلده كل التعلق>> (83) ، وما ذلك التعلق الملاحظ لدى الناس في الدولة الديمقراطية سوى رابطة يختارها الإنسان من دون قسر . أما الأسراء فهم وحدهم الذين يعيشون متلاصقين متحامين من سطوة الاستبداد ، بخلاف الأمم الحرة التي يعيش أفرادها متفرقين ، أما الحكومة البدوية فهي ـ بحسب تكوين البدو ـ بعيدة عن الاستبداد ، ومثال الكواكبي على ذلك ، معيشة أهل جزيرة العرب .
ونتصور أن الكواكبي لم يشد بالبداوة إلا للتدليل على محاسن أهل الجزيرة العربية ، كما أن استقراءه الواقع كان ناقصاً ، أو أن آراءه لم تكن متماسكة ، بدليل أنه رأى إيجابية التفرق ، هنا ، في حين كان قد عده أحد أسباب الانحطاط وتفشي الاستبداد . لكن إيجابيته تكمن في أنه كان يطالب باستقلال الإنسان استقلالاً نسبياً بحيث يبقى لكل إنسان دور في وطنه وبين أفراد أمته . وهنا استطاع الكواكبي النفاذ إلى فهم تعدد أدوار الإنسان في مجتمعه . وجل ما أراده هو أن يعيش الإنسان مستقلاً في شؤونه الشخصية ويظل في الوقت نفسه جزءاً لا يتجزأ من مجموع أفراد أمته . لذلك حاول إيجاد روابط متنوعة بين الناس ، فوضع برنامجاً للحل التدريجي يكون به الإنسان حراً مستقلاً في شخصه ، وكذا تكون العائلة ثم القرية ثم المدينة ثم القبائل في الشعب ، يكونون أحراراً ويرتبط بعضهم ببعض بروابط جنس أو دين . وهذه دعوة صريحة لاستقلال الفرد مع إبقائه على روابط وعلاقاتم مع غيره ، شرط ألا يجرح الارتباط الاستقلال .
وقد كان الكواكبي عربياً ، حتى أن الجامعة الإسلامية التي رغب بها كانت تحت قيادة العرب . فهو كما قال عنه (محمد كرد علي): <<مع تمسكه بالإسلام لم يكن متعصباً ، يأنس بمجلسه المسلم والمسيحي واليهودي على السواء ، لأنه كان يرى رابطة الوطن فوق كل رابطة>> (84) . هذا فضلاً عن تحديده مهمات الخليفة ، إلا أن الكواكبي ، مع ذلك ، لم يهمل الرابطة الإسلامية ، بل دعا إليها بصورة لا تتعارض والوحدة القومية . وهذا منطق سليم ، ففي الفكر الإسلامي لا يمكن التفكير في جامعة إسلامية بدون التفكير في العرب وإبراز فضلهم في حفظ الإسلام . ومن المنطلق العروبي لا يمكن إقامة دولة عربية من غير الأخذ بعين الاعتبار الثقافة والحضارة الإسلامية ، ودور <<القرآن الكريم>> في حفظ لغة العرب . لكن أهمية الفكرة القومية التي قال بها الكواكبي تكمن في أنها إلغاء للتمايز الديني بين أفراد الشعب الواحد ، والاستعاضة عنه بالتمايز الوطني ، فيقوم اتحاد بين الإمارات العربية . وقد تحدث عن الأمة العربية على أنها تمتد من شمال أفريقيا إلى العراق .
ويقول (محمد عمارة) عن عروبة الكواكبي: <<إن فكرة العروبة بمعناها القومي الحديث ، قد بلغت عند الكواكبي حداً من النضج ودرجة من الوضوح تستحق إلى جانب الإبراز ، الفخر والاعتزاز>> (85) .
وقد أراد الكواكبي تكوين وحدة عربية ، ضمن اتحاد إسلامي ، مستندة إلى التراث والتاريخ العربي ـ الإسلامي ، متجاوزاً بذلك إطار القومية الضيقة التي ليست ، لديه ، سوى شكلاً من أشكال التجمع . فمن اتحاد عائلي ، إلى تجمع مديني ، إلى قومي ، إلى روابط دينية وجغرافية وسياسية وإنسانية . وهذا يجعل كلام (منيمنة) صحيحاً إذ يقول عن الكواكبي أنه <<كانت له رؤيا قومية وإسلامية وإنسانية شاملة>> (86) ، وكان <<ميله للعرب>> (87) واضحاً فقد نادى <<باسم العودة إلى إسلام خالص ، بتمجيد القومية العربية التي تمر نهضتها من خلال تجدد الخلافة العربية>> (88) . فالوحدة القومية ليست مشروعاً يحط من قيمة المعتقد الديني ويحيي الأصول العرقية ، كما أن الدين لا يطالب بانصهار الوحدة القومية في كيان الاتحاد الديني ، بالرغم من أنه أكثر اتساعاً من الوحدة القومية .
إن الدولة القومية الواحدة لا تهمش الدين ، بل إنها تجعل منه رافداً لها ورابطاً مع الدول الأخرى . فقد عد الكواكبي القومية العربية والاتحاد الإسلامي صنوين ، بحيث لا تكون العروبة بديلاً عن الإسلام ولا يكون الإسلام بديلاً عن العروبة ، بل إن كلاً منهما يعزز الآخر بحيث لا ينتشر الإسلام على حساب العروبة ، بل لحسابها .
وبذلك فإن <<الكواكبي يجد حلاً لتكوين اتحاد إسلامي بين الدول>> (89) ، ويبقى الرابط القومي ، عنده ، بعيداً عن المعتقد الديني ، بحيث يمكن أن يكون من يرتبط معنا قومياً يدين بدين غير الإسلام ، كما يمكن أن ينتمي المسلم إلى قوميته الخاصة فيكون إنكليزياً أو فرنسياً أو تركياً . . .
وهكذا نجد ترابطاً بين الأديان والأقوام كلها ، مما يدل على تكامل الإنسانية والإخاء الطبيعي بين الناس أجمعين .
وهذا يعني أن الكواكبي كان مع الجامعة الإسلامية ومع القومية العربية في الوقت عينه ، خلافاً (لمحمد عبده) الذي انحاز للجامعة الدينية ضد الوطنية (90) . أما عند الكواكبي فإن الاتحاد الإسلامي يشكل جداراً تحصينياً أمام الغرب الطامع ، ولا يتعارض حبه للجامعة مع حبه لانتمائه العربي .


المصادر والمراجع:

1 ـ القرآن الكريم .
2 ـ البعلبكي ، إفرام . منهجية في النقد ـ مدخل إلى تاريخ الفكر العربي . بيروت ، مكتبة صادر ، ط2 ، 1988 .
3 ـ جدعان ، فهمي ـ أسس التقدم عند مفكري الإسلام ، العالم العربي الحديث . بيروت ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، ط1 ، 1979 .
4 ـ الحصري ، ساطع ، البلاد العربية والدولةالعثمانية . بيروت ، 1960 .
5 ـ داية ، جان . صحافة الكواكبي ، بيروت ، مؤسسة فكر ، ط1 ، 1984 .
6 ـ الإمام الكواكبي ـ فصل الدين عن الدولة ، المملكة المتحدة ، دار سوراقيا ، ط1 ، 1988 .
7 ـ الدهان ، سامي . عبد الرحمن الكواكبي . القاهرة ، دار المعارف ، ط1 ، 1964 .
8 ـ دوهاميل ، أوليفر . تاريخ الأفكار السياسية . ترجمة: خليل أحمد خليل ، بيروت ، معهد الإنماء العربي ، ط1 ، 1984 .
9 ـ رضا ، محمد رشيد ، مختارات في مجلة المنار . دراسة وتقديم: وجيه كوثراني . بيروت ، دار الطليعة ، ط1 ، 1980 .
10 ـ عمارة ، محمد . الكواكبي شهيد الحرية ومجدد الإسلام ، بيروت ، دار الوحدة ، ط1 ، 1984 .
12 ـ فلهاوزن ، يوليوس . أحزاب المعارضة السياسية الدينية في صدر الإسلام ـ الخوارج والشيعة . ترجمة: عبد الرحمن بدوي ، الكويت ، ط3 ، 1978 .
13 ـ الكواكبي ، عبد الرحمن ، أم القرى . بيروت ، دار الرائد العربي ، ط2 ، 1982 .
14 ـ طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد . بيروت ، دار القرآن الكريم ، ط2 ، 1973 .
15 ـ الأعمال الكاملة لعبد الرحمن الكواكبي ، دراسة وتحقيق: محمد جمال طحان ، بيروت ، مركز دراسات الوحدة العربية ، ط1 ، 1995 .
16 ـ منيمنة ، جميل (عبد الرحمن الكواكبي ـ الكواكبي يبحث في سيكولوجيا استبداد) المقاصد . بيروت ، عدد 51 ، 1966 .
17 ـ HUSARI ، Khaldoun ، sat: Al . three Refore mers ، a study in Mode un Arab political theought . Peirut 1966 .
الهوامش
* باحث من سوريا صاحب الأعمال الكاملة لعبد الرحمن الكواكبي .
** حيث هجر صحيفة (فرات) الرسمية التي وجدها مسيّرة سلطوياً ، وأنشأ صحيفة خاصة باسم (الشهباء) .
(1) ينظر: جريدة القاهرة ، العدد الخامس ، 1903 ص40 وما بعدها .
(2) للاطلاع على الحادثة كاملة ودفاع الكواكبي عن نفسه ، ينظر: جريدة القاهرة ، العدد نفسه ، ص37 ـ 39 .
(3) ينظر: الكواكبي ، أم القرى ، ص158 ـ 160 .
(4) ينظر: الكواكبي ، طبائع الاستبداد ، ص40 ـ 41 .
(5) ينظر: فهمي جدعان ، أسس التقدم عند مفكري الإسلام ، ص204 ـ 205 .
(6) ينظر: أم القرى ، ص39 ـ 49 .
(7) ينظر: طبائع الاستبداد ، ص31 .
(8) ينظر: م .ن ، ص51 .
(9) مونتسكيو ، روح الشرائع ، ترجمة: عادل زعيتر ، مج2 ، ج5 ، باب 24 ، فصل3 ، ص178 ـ 179 .
(10) م .ن ، المعطيات نفسها ، فصل4 ، ص180 ـ 181 .
(11) ينظر: طبائع الاستبداد ، ص34 ـ 35 و39 .
(12) ينظر: م .ن ، ص51 .
(13) ينظر: يوليوس ، فلهاوزن ، الخوارج والشيعة ، ترجمة: عبد الرحمن بدوي ، وخاصة ص20 ـ 35 .
(14) غبرييل لوبرا ، دراسات في علم الاجتماع الديني ، باريس ، 1955م ، أوردها: جورج قرم ، تعدد الأديان وأنظمة الحكم ، ص20 .
(15) طبائع الاستبداد ، ص37 .
(16) ينظر: أفرام بعلبكي ، منهجية في النقد . . . ، الملف الثالث ، ص132 .
(17) أم القرى ، ص32 .
(18) أم القرى ، ص32 .
(19) م .ن ، ص .ن .
(20) طبائع الاستبداد ، ص112 .
(21) طبائع الاستبداد ، ص91 .
(*) سورة البقرة 2/282 .
(22) طبائع الاستبداد ، ص91 .
(23) تنظر مثل هذه الأمثلة الكثيرة: الأعمال الكاملة للكواكبي في أقسامها: صحافته ، أم القرى ، طبائع الاستبداد . وفي صفحات كثيرة متفرقة .
(24) أم القرى ، ص138 .
(25) (26) (27) (28) م .ن ، ص121 .
(29) طبائع الاستبداد ، ص89 .
(30) أم القرى ، ص139 .
(31) م .ن ، ص32 ـ 33 .
(32) طبائع الاستبداد ، ص82 .
(33) م .ن ، ص .ن .
(34) م .ن ، ص117 .
(35) م .ن ، ص127 .
(36) أم القرى ، ص80 .
(37) م .ن ، ص8 .
(38) طبائع الاستبداد ، ص137 .
(39) ينظر: م .ن ، ص118 .
(40) ينظر: طبائع الاستبداد ، ص134 ـ 139 .
(41) جان داية ، صحافة الكواكبي ، الوثائق ، ص163 .
(42) أم القرى ، ص16 .
(43) جان داية ، م .س ، ص149 .
(44) طبائع الاستبداد ، ص28 .
(45) المائدة 5/44 .
(46) ينظر: طبائع الاستبداد ، ص26 و127 ـ 128 .
(47) ينظر: م .ن ، ص51 ـ 58 .
(48) ينظر: أم القرى ، ص70 ـ 77 .
(49) م .ن ، ص25 .
(50) طبائع الاستبداد ، ص51 . ينظر: م .ن ، ص33 ـ 34 .
(51) أم القرى ، ص13 .
(52) أم القرى ، ص115 ، ينظر: م .ن ، ص155 .
(53) م .ن ، ص55 .
(54) طبائع الاستبداد ، ص32 .
(55) منيمنة ، جميل (عبد الرحمن الكواكبي ـ الكواكبي يبحث في سيكولوجيا الاستبداد) المقاصد . بيروت ، عدد 51 ، 1986 .
(56) م .ن ، ص143 . ينظر للمقارنة: م .ن ، ص13 و69 و77 . ينظر أيضاً: طبائع الاستبداد ، ص119 .
(57) أم القرى ، ص78 .
(58) طبائع الاستبداد ، ص75 .
(59) م .ن ، ص75 .
(60) م .ن ، ص88 .
(61) م .ن ، ص34 .
(62) آل عمران 3/159 .
بلقيس: ملكة سبأ ، ورد ذكرها في القرآن الكريم إذ خاطبت أشراف قومها (يا أيها الملأ أفتوني في أمري ، ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون) النحل 27/38 ووألقت الغار على سليمان الحكيم وسمعت حكمه .
(64) طبائع الاستبداد ، ص35 .
(65) أم القرى ، ص66 .
(66) طبائع الاستبداد ، ص34 ـ 35 .
(67) أم القرى ، ص66 .
(68) آل عمران 3/104 .
(69) أم القرى ، ص37 .
(70) طبائع الاستبداد ، ص25 .
(71) م .ن ، ص129 .
(72) م .ن ، ص .ن .
(73) م .ن ، ص115 .
(74) م .ن ، ص50 .
(75) 196/ 1 ـ 5 سورة العلق ، التي روى البخاري أنها أول ما نزل من القرآن بغار حراء .
(76) الشورى 42/38 .
(77) آل عمران 3/159 .
(78) سليمان موسى ، الحركة العربية ، ص23 .
(79) ينظر: طبائع الاستبداد ، ص35 و75 و78 ، أيضاً: أم القرى ، ص59 ـ 60 .
(80) ينظر: جان داية ، فصل الدين عن الدولة ، خاصة ص41 ـ 90 .
(81) محمد رشيد رضا ، في (المنار) 1902 ، نقلاً عن سامي الدهان ، الكواكبي . . . ، ص55 .
(82) طبائع الاستبداد ، ص24 .
(83) م .ن ، ص25 .
(84) حديث في الهلال ، عن سامي الدهان ، الكواكبي ، ص34 .
(85) محمد عمارة ، الأعمال الكاملة للكواكبي ، ص70 ،
(86) جميل منيمنة <<الكواكبي . . .>> المقاصد ، عدد 51 ، ص125 .
(87) Khaldoun Al-Husari ، three Reformemerd ، p85 .
(88) أليفر دوهاميل ، تاريخ الأفكار السياسية ، ص495 .
(89) K . Al-Husari ، op ، cit ، p92 .
(90) ينظر: محمد عمارة ، الإمام محمد عبده مجدد الإسلام ، ص52 و62 .

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة