تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

ملف عبد الرحمن الكواكبي في الذكرى المئوية الأولى لرحيله عبد الرحمن الكواكبي مصلح إسلامي أم داعية قومي عروبي علماني؟

محمد عبد الجبار

 كان عبد الرحمن الكواكبي (1848 ـ 1902) مصلحاً دينياً إسلامياً ، أم داعية للقومية العربية ذات الطبيعة العلمانية والتوجه الاشتراكي؟
يبدو هذا السؤال مثيراً للاستغراب وهو يطرح في الذكرى المئوية لرحيل هذا المفكر العظيم ، الذي مازالت أعماله الفكرية على قلتها شاغلة الدنيا . فهل مازالت هوية الكواكبي غامضة وغير محددة ، أو على الأقل هل مازالت موضع نقاش وأخذ ورد بين المؤرخين والمفكرين؟
الجواب نعم . فليس سراً أن البعض يعتبر الكواكبي داعية للقومية العربية العلمانية الاشتراكية ، في حين يصرّ آخرون على اعتباره مصلحاً دينياً إسلامياً من نفس طبقة جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده والشيخ النائيني ، الأمر الذي يبيح طرح السؤال بصيغته التي افتتحنا بها هذا الكلام .
تحاول هذه الورقة إلقاء بعض الضوء على طبيعة هذه المشكلة وأسباب نشوئها ، ومعالم الخروج منها بحكم أقرب إلى الواقع على الهوية الفكرية لهذه الشخصية التاريخية الكبيرة .


طبيعة المشكلة

يعمد بعض الكتاب والباحثين إلى اعتبار الكواكبي مفكراً علمانياً قومياً عروبياً اشتراكياً ، وهم بذلك يسعون إلى إخراجه من الدائرة الإسلامية ، وكأنه يصعب على هذه الدائرة أن تنجب مفكرين متنورين أمثال الكواكبي ، يملكون القدرة على تعميق أصالة الفكر الإسلامي من جهة ، وعلى ربطه بحركة التطور الفكري العالمي ، من جهة ثانية ، وعلى معالجة مشاكل المجتمع الإسلامي ، ومنها مشكلة الاستبداد ، من خلال منظور إسلامي معاصر ، من جهة ثالثة ، وكلمة <<معاصر>> التي نستخدمها الآن تعني <<الفكر الإسلامي المواكب لما تحرزه البشرية من تطورات وإنجازات على صعيد الفكر والسياسة والعلم والاجتماع والاقتصاد>> .
فعلى سبيل المثال نجد أن باحثاً قومياً عروبياً هو محمد جابر الأنصاري يتحدث عن الكواكبي ضمن فصل عنوانه: <<المركب التوفيقي لفكرة البعث العربي الاشتراكي>> ، لصاحبها ميشيل عفلق ، ويحمل الفصل عنواناً فرعياً ، هو: <<الوحدة الحرية الاشتراكية: جذورها في فكر الكواكبي>> . يقول الأنصاري أن <<الاتجاه القومي المعاصر وجد في فكر عبد الرحمن الكواكبي (1849 ـ 1902) التطوير السياسي ـ الاجتماعي لذلك المفهوم ، وهمزة الوصل الجامعة بين المدرستين>> (1) . وهو يقصد بذلك المدرسة الإسلامية والمدرسة القومية . ويضيف أن الكواكبي يمثل <<امتداداً للتيار الإحيائي الثقافي العربي ذي الطابع القومي ، وهو التيار الذي نجد بذوره الأولية لدى المعلم بطرس البستاني (1819 ـ 1893) . .>> .
وأعاد ترديد ما نسبه إلى الدكتور أنيس المقدسي في دراسته المعنونة <<الاتجاهات الأدبية في العالم العربي الحديث>> من اعتبار الكواكبي من أبرز ممثلي طبقة <<الإصلاحيين القوميين الساخطين على الترك ، الذين أحيوا العصبية العربية ودعوا العرب لاسترجاع مجدهم>> (2) ، بل قال إن الكواكبي ينتمي إلى <<طبقة المناضلين القوميين الثائرين على الحكم التركي ، وبدا من هذه الزاوية من طلائع الثورة العربية السياسية ضد السلطة العثمانية>> ، ثم يصل إلى ذروة تحليله حين يعتبر الكواكبي اشتراكياً ، ليقول: <<أما أخطر ميل فكري للكواكبي فهو صلته الحيوية والهامة ـ من موقعه التوفيقي الإصلاحي والقومي التحرري ـ بالاتجاه الاشتراكي ذي الطابع الثوري>> (3) ، بل إنه انتقد تلك الدراسات التي <<قصرت في إبراز دور الرافد التحرري الاشتراكي المعتدل والمتوافق مع التراث العربي الإسلامي الذي اختطه الكواكبي جامعاً بذلك بين أصولية المدرسة الإصلاحية وثورية المدرسة العلمانية وبين الدعوة القومية والمبدأ الاشتراكي>> (4) ، ويمتدح الكواكبي بزعمه أنه <<أوجد فرصة النمو في التربة العربية التقليدية لبذور ما عرف بالثورة القومية الاشتراكية وجعلها أكثر قدرة على النفاذ والتأثير>> (5) .
ثم يفصل الأنصاري محاولته المستميتة من أجل اكتشاف نسب فكري لأفكار حزب البعث العربي الاشتراكي التي طرحها في وقت لاحق المفكر السياسي المسيحي ميشيل عفلق ،

زاعماً أن فكر الكواكبي يتلخص فيمايلي:

1 ـ مسألة بعث الوجود القومي العربي وتمييزه عن الكيان العثماني ، وإرجاع الخلافة للعرب بالنظر إلى أحقيتهم التاريخية والتذكير بمكانة جزيرة العرب وأصالتها وأولويتها والدعوة إلى تحقيق الوحدة القومية . وهذا ما سيعبر عنه الفكر القومي المعاصر بشعار الوحدة .
2 ـ الاهتمام بقضية الحرية والتحرر من الاستبداد بمختلف أشكاله وصنوفه في نطاق المجتمع العربي وعلى ضوء قيمه التراثية التحررية .
ثم يمتدح انتباه الكواكبي في وقت مبكر إلى أهمية العدالة الاجتماعية، التي يزعم الأنصاري أنه طرحها من <<وجهة اشتراكية محددة المعالم>> . ثم يخلص إلى القول بأنه من هذا اللقاء بين الحرية والاشتراكية في فكر الكواكبي ستتنامى جذور الاتجاه الديمقراطي الاشتراكي في الفكر القومي المعاصر .
أما أطرف استدلال على علمانية فكر الكواكبي ، فهو ذلك الذي يستند إلى فقرة في كتاب طبائع الاستبداد خاطب فيها الناطقين بالضاد من غير المسلمين ، معتبراً أنه في هذه الفقرة تبرز <<فكرته العلمانية القومية بأجلى صورها>> .
وينتهي إلى استخلاصه الأخير قائلاً: <<إن فكر الكواكبي يمثل على الأرجح الحدس الأقرب إلى الشمول والإرهاص الأدق بالمكونات والجذور الأساسية للاتجاه القومي الاشتراكي الوسطي السائد>> (6) .
وينقل الدكتور محمد كامل ضاهر عن زكريا فايد قوله أن الكواكبي كان <<من أتباع التيار العلماني التنويري وليس مصلحاً دينياً>> (7) .
ويقول عبد العزيز البسام ، ان الكواكبي كان <<رائداً في تأكيد الديمقراطية والقومية العربية والاشتراكية>> (8) .
والسؤال الذي يطرح نفسه هو لماذا يصر هؤلاء الباحثون على وصف الكواكبي بالعلمانية تارة وبالاشتراكية تارة أخرى ويعتبرونه داعية قومياً عربياً ، نازعين عنه الصفة الإسلامية؟
لا يعدم الباحث أن يشخص الأسباب التالية لهذا المنحى ، وهي التي سوف نتعرض لها في الفقرة التالية من الورقة .


مناشئ انتزاعها وأسبابها .

السبب الأول ، القطيعة الفكرية مع الفقه السلطاني السابق على عصر الكواكبي .

ليس من الصعب أن يلاحظ الدارس لفكر الكواكبي أنه <<قطع>> الصلة بالفكر الفقهي الإسلامي الاستبدادي ، ذلك الفكر الذي عمل سواء بصورة إرادية أم غير إرادية ، على تأصيل الواقع السياسي الذي وصلت إليه السلطة السياسية في العالم الإسلامي بعد انتهاء عصر الراشدين الأربعة ، الذي يعتبره الكواكبي عصراً نموذجياً ، وهو واقع يتسم بالاستبداد ، والانفراد بالحكم ، وتسخير الدين من أجل مطامح ومطامع الخليفة ، الذي كان يحكم ، لسوء حظ الأمة والدين ، باسم الإسلام .
لقد أخذ الكواكبي على هذا الفقه السلطاني قيامه بإقصاء الأمة عن عملية اختيار الحاكم أولاً ، ومنعها من مراقبته ومحاسبته وتسديده ثانياً ، وتحريمه الثورة عليه وإقصاءه ثالثاً ، ليطرح في مقابل ذلك فكراً سياسياً رافضاً للاستبداد ، داعياً إلى الحرية ، معتبراً أن إرادة الأمة ، ومسؤولية الحاكم هما الدعامتان الأساسيتان لحياة سياسية سليمة ، ومعتبراً بالمقابل أن الاستبداد هو النتيجة الطبيعية لعدم قيام الحكم على أساس <<شريعة>> أي دستور ، تتم على أساسه وبموجبه ، عملية <<المراقبة الشديدة والمحاسبة التي لا تسامح فيها>> للحاكم .
ويمثل هذا الاجتهاد ، الذي هو في حقيقته امتداد للرؤية السياسية التي قررها الإسلام وطبقها الرسول لتكون نموذجاً وعبرة للأمة من بعده ، قطيعة فكرية وفقهية مع الفقه الاستبدادي الذي ساد في العصور التي سبقت عصر الكواكبي . فقد توصل ذلك الفكر الفقهي إلى بناء منظومة فكرية كان لها أبرز الأثر في تمكين الاستبداد في تاريخ الدول العربية والإسلامية قبل قيام الدولة العثمانية . وقد ساهم في بناء هذه المنظومة الفكرية مفكرون مسلمون كبار أمثال الماوردي وابن خلدون وابن جماعة .
وقد تمحورت هذه المنظومة الفكرية حول المسألة المركزية للفكر السياسي وهي شرعية الحاكم ، حيث رسخ الفكر الإسلامي السياسي التقليدي على ثلاثة من أهم ركائز الاستبداد ، وهي:
أولاً ، تقليص مساحة البيعة اللازمة لتحقق الشرعية .
ثانياً ، ولاية العهد بدون العودة إلى الأمة .
ثالثاً ، تسويغ إمارة التسلط والاستيلاء العسكري على الحكم .
وقد جمع كل هذه الركائز القلقشندي (756 ـ 820هـ) في كتابه الشهير <<مآثر الأنافة في معالم الخلافة>> في حديثه المطول عن الطرق التي تنعقد بها الخلافة ، وأولها البيعة ، كما هو معروف تقليدياً ، إلا أنه بيّن كيف تقلص مفهوم البيعة في استعراضه للآراء الفقهية التي تناولت مسألة بمن تنعقد البيعة ، وهي سبعة آراء ، ثامنها رأيه الشخصي ، وهي:
الأول ، أن البيعة لا تنعقد إلا بأهل الحل والعقد من كل بلد ليكون الرضى عاماً ، والتسليم لإمامته إجماعاً . وقد رد الماوردي هذا الرأي قائلاً أنه <<مدفوع ببيعة أبي بكر ، حيث عقدت بمن حضر ، من غير انتظار قدوم غائب عنها>> (9) .
الثاني ، أنها تنعقد بأربعين لا دونهم ، لأن عقد الإمامة أهم من عقد صلاة الجمعة ، التي لا تنعقد بأقل من أربعين .
الثالث ، أنها تنعقد بخمسة يجتمعون على عقدها ، أو يعقدها أحدهم برضى الأربعة ، والدليل أن بيعة أبي بكر انعقدت بخمسة ، هم عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح وأسيد بين حضير وبشير بن سعد وسالم مولى أبي حذيفة ، ثم تابعهم الناس على ذلك ، وقد جعلها عمر بن الخطاب شورى في ستة نفر ، تنعقد لأحدهم برضى الخمسة ، ونسب الماوردي هذا الرأي لأكثر الفقهاء والمتكلمين من أهل البصرة (10) .
الرابع ، أنها تنعقد بأربعة ، لأن الشهادة في الزنا تتم بأربعة ، فكذلك الإمامة .
الخامس ، تنعقد بثلاثة يتولاها أحدهم برضى الاثنين الآخرين ليكونا حكاماً وشاهدين ، كما يصح بولي وشاهدين .
السادس ، أنها تنعقد باثنين ، لأن رتبة الخلافة لا تنقص عن رتبة الحكومات ، والحاكم لا يلزم أحد الخصمين حق صاحبه إلا بشهادة عدلين ، فكذلك لا يلزم الناس الانقياد لقول الإمام إلا بعدلين .
السابع ، أنها تنعقد بواحد ، لما روي أن العباس عم النبي قال لعلي بن أبي طالب: امدد يدك أبايعك ، فيقول الناس عم رسول الله بايع ابن أخيه ، فلا يختلف فيه اثنان ، وقد قيل أن بيعة أبي بكر انعقدت ببيعة عمر وحده ، ولأنه حكم وحكم الواحد نافذ .
الثامن ، أنها تنعقد بمن تيسر حضوره وقت المبايعة في ذلك الموضع من العلماء والرؤساء وسائر وجوه الناس المتصفين بصفات الشهود <<وهي العدالة والعلم والرأي>> مطاع كفى (11) .
أما الطريق الثاني لتولي السلطة والذي ترسخ في الفقه السياسي الإسلامي التقليدي فهو ولاية العهد ، وهو أن يعهد الخليفة المستقر إلى غيره ممن استجمع شرائط الخلافة بالخلافة من بعده ، فإذا مات العاهد انتقلت الخلافة بعد موته إلى المعهود إليه، ولا يحتاج مع ذلك إلى تجديد بيعة من أهل الحل والعقد (12) . ولم يشترط القلقشندي ظهور رضى الأمة بذلك ، رغم وجود رأي يقول أن الإمامة حق يتعلق بالأمة ، بل صوب عدم اشتراط ذلك ، مستنداً إلى أن الإمام أحق بالإمامة ، فكان اختياره فيها أمضى وأنفذ ، ولذلك لم يتوقف عهد أبي بكر لعمر على رضى بقية الصحابة (13) .
وقال الماوردي <<وأما انعقاد الإمامة بعهد من قبله فهو مما انعقد الإجماع على جوازه ووقع الاتفاق على صحته>> (14) .
أما الطريق الثالث ، والأخير ، فهو القهر والاستيلاء ، حيث أجاز الفقه السياسي الإسلامي التقليدي تولي الإمامة ، فإذا مات الخليفة فتصدى للإمامة من جمع شرائطها من غير عهد إليه من الخليفة المتقدم ، ولا بيعة من أهل الحل والعقد ، انعقدت إمامته . أما إن لم يكن جامعاً لشروط الخلافة ، فهناك رأيان أصحهما برأيي انعقاد إمامته (15) .
لقد رفض الكواكبي هذه الأفكار ، واعتبر أن صفة الاستبداد <<تشمل الحاكم الفرد الذي تولى الحكم بالغلبة أو الوراثة>> (16) ، ودعا في الفصل الأخير من كتابه الخالد <<طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد>> إلى التخلص منه .
وتصور العلمانيون أن هذه القطيعة بين الكواكبي وبين فقهاء الفكر الاستبدادي تمثل قطيعة بينه وبين الإسلام ، أو تحولاً عن الإسلام ، ولم يشاءوا أن يفهموا أن هذه هي عودة إلى النبع الصافي للإسلام ، مضافاً إليها الاستفادة من ثقافة العصر ، الأمر الذي يمكن المفكر الإسلامي من فهم الإسلام فهماً حضارياً ، أي فهماً مدركاً لمقاصد النص الإسلامي ، من جهة ، ومستوعباً لحركة الفكر البشري المعينة على فهم النص الإسلامي ، من جهة ثانية .
فعلى سبيل المثال نجد الكواكبي يفهم قوله تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} ، بأنه مطابق لفكرة مجالس النواب التي وظيفتها الإشراف على الإدارات الحكومية ومراقبتها (17) . فلم يقل الكواكبي أن فكرة مجالس النواب فكرة غربية غريبة على الإسلام ، أو بدعة لا يجوز الأخذ بها ، وإنما استطاع بفكره الثاقب أن يوظفها في فهم النص .
كما أننا لا نستطيع أن نقول أن الكواكبي تأثر بالفكر الغربي ، بل أنه انطلق من مرجعية إسلامية ، ممثلة في القرآن ، في الحكم على مسألة معاصرة ، مستنداً إلى فهم موسع ومرن للنص ، مكّنه أن يجد فيه ما يمكنه من قبول هذه الظاهرة المستحدثة التي اسمها مجلس النواب ، وهي ظاهرة لم تكن موجودة بصيغتها الغربية المعاصرة في زمن الرسالة ، ولا في زمن الخلفاء الراشدين .
ودعا الكواكبي إلى تحديد مساحة ولاية الخليفة من جهة ، ومساحة ولاية الأمة من جهة ثانية ، وقال أن الأولى هي الشأن الديني ، والثانية هي الشأن السياسي الدنيوي ، فتصور أن الكواكبي يدعو إلى فصل الدين عن السياسة بالمعنى العلماني الشائع ، والحق ليس كذلك ، ذلك أن الكواكبي كان يتحدث عن <<دولة إسلامية>> ، دولة تحكمها الشريعة الإسلامية ، ولكن ضمن هذه الدولة تتوزع بين الخليفة ، المتولي للمنصب الديني ، وبين الأمة التي يناط بها تولي الشأن السياسي ، في توليفة واحدة ومنظومة عضوية متحدة ، أوضحها بقوله: <<وأبلغ ما بلغه الترقي في البشر هو احكامهم أصول الحكومات المنتظمة وبناؤهم سداً متيناً في وجه الاستبداد ، وذلك بجعلهم لا قوة فوق الشرع ، ولا نفوذ لغير الشرع ، والشرع هو حبل الله المتين ، وبجعلهم قوة التشريع في يد الأمة ، والأمة لا تجتمع على ضلال ، وبجعلهم المحاكم تحاكم السلطان والصعلوك على السواء ، وتكاد تحاكي في عدالتها المحكمة الكبرى الإلهية ، وبجعلهم مأموري الحكومة القائمين بالأعمال العمومية لا سبيل لهم على تعدي حدود وظائفهم ، وبجعلهم الأمة يقظة ساهرة على مراقبة سير حكومتها لا تغفل ولا تتسامح>> (18) .
ولم يكن الكواكبي يتحدث هنا عن فصل الدين عن السياسة كما فهم متسرعو العلمانية ، وإنما كان يتحدث عن الدولة الإسلامية أو الحكومة الإسلامية في صورتها التي رسمها رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم على مستوى النظرية وعلى مستوى التطبيق .
ولم يدع الكواكبي إلى قيام دولة دينية ، لا لأنه علماني ، وإنما لأنه لا توجد في الإسلام دولة دينية . فالدولة الإسلامية ، حالها حال أي دولة أخرى ، دولة بشرية ، إنها دولة المسلمين ، بالأساس ، يكون فيها الحاكم وكيلاً للأمة ، والشورى طريقة الحكم ، والشريعة الإسلامية هي قاعدته الدستورية . إنها دولة تحكمها المعادلة المحكمة التالية: السلطان للأمة والسيادة للشريعة الإسلامية .
وهي نفس الفكرة التي نظر لها الإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر ، حينما راح ينظر لفكرته عن الولاية الفقهية ، وكيف أنه قرر أن النظام الإسلامي يوزع السلطات والصلاحيات بين الفقيه ، صاحب الولاية الفقهية ، وبين الأمة صاحبة الولاية الاستخلافية . وقال أن الإسلام وزع مسؤوليات خط الخلافة المناط بالأمة ، أصلاً ، وخط الشهادة المناط بالفقيه ، <<بيع المرجع والأمة ، بين الاجتهاد الشرعي والشورى الزمنية>> (19) ، بل قرر عدم جواز الجمع بين الخطين في رجل واحد ، معتبراً <<أن هذا الاندماج لا يصح إسلامياً إلا في حالة وجود فرد معصوم قادر على أن يمارس الخطين معاً>> (20) . فهل كان محمد باقر الصدر علمانياً؟ وكان الكواكبي قال قريباً من هذا الكلام حين كتب: <<إن إدارة الدين والملك لم تتحددا في الإسلام تماماً إلا في عهد الخلفاء الراشدين>> (21) .
ولا ندري أية علمانية هذه التي يحسب العلمانيون العرب أن الكواكبي يتحدث عنها وينطلق منها!


السبب الثاني ، أفكار الكواكبي ذات الجذر الإسلامي المجهول لدى العلمانيين .

القوميون والاشتراكيون والعلمانيون العرب انتقائيون في تعاملهم مع فكر الكواكبي ، إنهم يعمدون إلى أعماله ، ويسقطون على عبارة يحسبونها تمثل فكراً قومياً أو علمانياً واشتراكياً ، وهم لا يعرفون جذرها الإسلامي ، أو يقطعونها من سياقها العام ، ويقدمونها للقارىء على أنها دليل على علمانية الكواكبي أو قوميته أو اشتراكيته .
فالكواكبي اشتراكي لأنه قال <<إذا عاش المسلمون مسلمين حقيقة أمنوا الفقر ، وعاشوا عيشة الاشتراك العمومي المنتظم>> (22) أو لأنه قال في وصف المسلمين الأوائل: <<استطاعوا في صدر الإسلام أن ينشئوا حكومة قضت بالتساوي بين الحكام وبين فقراء الأمة في نعيم الحياة وشظفها، وأحدثوا في المسلمين عواطف أخوة، وروابط هيئة اجتماعية، وحالات معيشية اشتراكية>> . (أم القرى) .
وفات الباحث الذي قال تعليقاً على هذه العبارات: <<إن الكواكبي طرح مفهوم الاشتراكية الجماعية المنظمة في البيئة العربية>> ، أن الكواكبي كان يتحدث عن مجتمع المسلمين الأول ، وهو مجتمع إسلامي ، وليس مجتمعاً اشتراكياً ، وانه كان يتحدث من منطلق المرجعية الإسلامية حين قال: <<التساوي والتقارب المقررين في الإسلام ديناً>> . ولابد أن الكاتب استهوته عبارة <<حالات معيشية اشتراكية>> ، فاعتبر أن الكواكبي كان ينطلق من فكر اشتراكي ، أو أنه يبشر بفكر اشتراكي ، سيكون سلفاً لفكر عفلق الاشتراكي ، متناسياً أن الكلمة عربية ، من جهة ، وأنها قيلت في سياق تاريخي ـ فكري ـ حضاري لا يحمل معه الحمولة الفكرية التي تحملها كلمة الاشتراكية الآن ، من جهة ثانية .
إن إضفاء الحمولة الفكرية لكلمة <<اشتراكية>> المعاصرة على عبارات الكواكبي التي تستخدم نفس الكلمة ، ينطوي على خطأ منهجي مقصود أو عفوي، خلاصته إسقاط المعنى المعاصر للكلمة بعيداً عن جو النص ومعناها اللغوي المجرد . فقد امتزجت كلمة الاشتراكية بكتلة من الأفكار والقيم والسلوك وأصبحت هذه الكتلة تشكل جزءاً مهماً من مدلولها الاجتماعي اليوم ، الذي لم تكن الكلمة تحمله من قبل (23) . وهو في هذا مثل أي باحث يستنتج أن جذور الفكر الاشتراكي موجودة في الإسلام استناداً إلى نص يقول: <<الناس شركاء في الماء والنار والكلأ>> .
وهذه أفكار إسلامية أصيلة ، شكلت مرجعية فكرية للكواكبي في الطرح وفي رسم طريق الخلاص من الاستبداد والتخلف اللذين كانت ومازالت المجتمعات العربية والإسلامية تعاني منهما .


السبب الثالث ، عدم وضوح بعض أفكار الكواكبي بالنسبة للعلمانيين .

لكني أعترف هنا أن بعض أفكار الكواكبي قد توحي بالعلمانية إذا سلخت من سياقها العام من جهة ، أو لعدم وضوح بعض عباراته من جهة ثانية ، الأمر الذي يسمح للباحث في بعض الأحيان أن يفسرها حسبما يشتهي ويروم ، خاصة إذا تعمد تجاهل البيئة الحضارية والفكرية والاجتماعية التي ولدت فيها هذه الأفكار . لقد طرح الكواكبي في ختام كتابه طبائع الاستبداد مجموعة أسئلة مفتوحة ، ولم يجب عليها ، فتصور البعض أن الرجل يدعو إلى أفكار علمانية ، مثل تساؤله عن دور الدين الذي قال فيه: <<مبحث حفظ الدين والآداب وهل يكون للحكومة ولو القضائية سلطة وسيطرة على العقائد والضمائر؟ أم تقتصر وظيفتها في حفظ الجامعة الكبرى ، كالدين والجنسية واللغة والعادات والآداب العمومية على استعمال الحكمة ، ما أغنت عن الزواجر ، ولا تتداخل الحكومة في أمر الدين ، ما لم تنتهك حرمته؟>> ، لكن من الواضح أن حتى هذه الأسئلة المفتوحة ومثلها مثل بعض الأفكار الغائمة يمكن أن تفسر ، لمن حسنت نيته ، في إطار الأفكار الأخرى الواضحة المعالم والثابتة الدلالة .
<f2>السبب الرابع ، البحث عن نسب للفكر العلماني العربي يعوض عن غربته عن البيئة الإسلامية العربية .
المشكلة أن أتباع الأفكار العلمانية في العالم العربي والإسلامي، يشعرون بغربة أفكارهم عن محيطهم الاجتماعي الذي تشكلت هويته الثقافية عبر الامتزاج النفسي والتاريخي بالإسلام ، فكانت هوية إسلامية من الناحية الثقافية والحضارية ، بغض النظر عن مستوى الالتزام الفردي بالممارسات الدينية .
شعروا بأنهم ينتمون إلى مدرسة فكرية غريبة عن نفسية الأمة ، ومقطوعة الجذور عن تاريخها، فكانت مثل اللقيط الذي يبحث عن أب في محيط اجتماعي يرفض دمجه فيه . وازداد شعور العلمانيين ومنهم القوميون العرب الاشتراكيون أيضاً ، بالغربة والعزلة ، حين أدركوا عجز مناهجهم الفكرية والسياسية والاقتصادية عن <<تحريك الأمة وتعبئة كل قواها وطاقاتها>> في المعارك التي تصدوا لقيادتها ، بسبب عدم إدخال مشاعر الأمة ونفسيتها وهويتها في الحساب وهم يخططون لمعاركهم (24) . فوجدوا أنفسهم أمام ثلاثة خيارات هي:
الخيار الأول ، التخلي عن أفكارهم العلمانية البعيدة عن الإسلام ، والعودة إليه بعد طول تجوال بعيداًعنه . وهذا ما فعله الكثيرون بعد هزيمة 5 حزيران عام 1967 وبعد صعود الصحوة الإسلامية المعاصرة في المجتمعات الإسلامية .
الخيار الثاني ، الدعوة إلى التخلي عن الدين جملة وتفصيلاً، حينما ادعوا أنه لا يمكن تحقيق النهضة العربية مادام العرب متمسكين بالدين . كتب أحدهم يقول بحماسة منقطعة النظير: <<إذا كنا جادين في سعينا نحو ثورة ثقافية عربية شاملة، وجب علينا أن نبدأ بمواجهة هذه الحقيقة: أن العقبة الأولى في هذا السبيل هي العقبة الدينية ، وأننا لن نصل إذن إلى الثورة المنشودة إلا إذا ذللنا هذه العقبة وأزحناها عن طريقها>> (25) . ولم ينس صاحب هذه الكلمات أن يعترف بأسف أن <<الناس في أقطارنا لايزال عندهم الاعتبار للدين يغلب على كل اعتبار عندهم>> (26) .
الخيار الثالث ، البحث عن نسب لأفكارهم لدى أفكار المصلحين الإسلاميين، أو حتى أئمة المسلمين وخلفائهم السابقين . وهذا ما فعله جمع كبير من المفكرين القوميين والعلمانيين مع الكواكبي الذي جعلوه مفكراً قومياً عربياً علمانياً اشتراكياً .
<f2>معيار التصنيف . . وإسلامية الكواكبي
إن حل مشكلة وصف الكواكبي بالعلمانية أو بغيرها، إنما يكمن في وضع معيار أو معايير يتم بموجبها تحديد بل اكتشاف هوية المفكر ، أي مفكر ، وهذه المعايير هي:
1 ـ المرجعية الفكرية والمحتوى المعرفي لفكره ، ولا جدال في أن المحتوى الداخلي لفكر الكاتب أو المفكر كاشف بدوره عن مرجعيته الفكرية .
2 ـ الهدف الذي يسعى إليه المفكر ، فمن يرفع شعار حكم الطبقة العاملة ودكتاتوريتها ، يكشف عن انطلاقة من مرجعية ماركسية ـ لينينية ، ومن يقول أنه يسعى إلى توحيد الأمة العربية يصدر عن مرجعية قومية عربية، وهكذا ، فالهدف المتبنى يكشف عن المرجعية الفكرية العليا التي يصدر منها وعنها .
والآن كيف يمكن الحكم على هوية الكواكبي الفكرية من خلال هذين المعيارين؟
<f2>أولاً: المرجعية الإسلامية في أعمال الكواكبي .
انطلق الكواكبي في كتاباته من مرجعية إسلامية لا غبار عليها ، وصاغ أفكاره في ظل هذه المرجعية ، ولم شذ عنها ، أو يخرج عليها ، حتى وهو يتحدث عن ضرورة تحديث الدين . وتتألف المرجعية الإسلامية عند الكواكبي من نصوص القرآن والحديث والعصر الإسلامي الأول . وليس بلا دلالة أنه رجع إلى القرآن في 39 آية ، وإلى الرسول (ص) في 11 حديث في <<طبائع الاستبداد>>، وأثبت 82 آية قرآنية في <<أم القرى>> لإثبات أفكاره والبرهنة عليها أو لشرحها .
وتبدو هذه المرجعية الفكرية الإسلامية واضحة منذ الصفحات الأولى في كتابه طبائع الاستبداد . فنراه يمتدح عصر صدر الإسلام ، ويعتبره مثله الأعلى في الحكم ، ونموذجه المفضل . وكذلك في كتابه أم القرى ، حيث دعا إلى اعتماد <<ما نعلم من صريح الكتاب وصحيح السنة وثابت الإجماع>> (27) .
ورفض ربط الاستبداد الديني بالإسلام ، وخطّأ أولئك الباحثين الغربيين الذين يرون أن الاستبداد السياسي من نتائج الاستبداد الديني ، وقال أن هذا الكلام ينطبق على أساطير الأولين والقسم التاريخي من التوراة والرسائل المضافة إلى الإنجيل . لكن هؤلاء مخطئون في نسبة الاستبداد السياسي إلى الدين الإسلامي ، وقولهم <<إن القرآن جاء باستبداد مؤيد للاستبداد السياسي أو مؤيد به>> (28) .
وقال أن الإسلام جاء بالحكمة والعزم هادماً للتشريك بالكلية، ومحكماً لقواعد الحرية السياسية، المتوسطة بين الديمقراطية والأرستقراطية ، فأسس التوحيد، وأظهر للوجود حكومة كحكومة الخلفاء الراشدين التي لم يسمح الزمان بمثال لها بين البشر (29) .
وتحدث عن دور الخلفاء الراشدين الصالحين، في إقامة حكومة قضت بالتساوي حتى بينهم أنفسهم وبين فقراء الأمة في نعيم الحياة وشظفها، وأحدثوا في المسلمين عواطف أخوة وروابط هيئة اجتماعية وحالات معيشة اشتراكية (30) ، وقال أن القرآن <<مشحون بتعاليم إماتة الاستبداد وإحياء العدل والتساوي، حتى في القصص منه>> (31) . مما يتضح معه أنه لا مجال لرمي الإسلام بالاستبداد (32) .
وراح يكتب بلغة الداعية إلى الإسلام، الذي يستهدف تحبيبه إلى نفوس القراء والناس ، قائلاً: <<إن الإسلامية مؤسسة على أصول الإدارة الديمقراطية أي العمومية والشورى الإشرافية ، أي شورى الإشراف ، وقد مضى عهد النبي عليه الصلاة والسلام وعهد الخلفاء الراشدين على هذه الأصول بأتم وأكمل صورها ، خصوصاً وأنه لا يوجد في الإسلام نفوذ ديني مطلقاً ، في غير مسائل إقامة الدين ، هذا الدين السهل السمح الذي رفع الإصر والأغلال، وأباد الميزة والاستبداد>> (33) . وراح يوجه اللوم على المسلمين ، وليس على الإسلام ، الذي <<ظلمه الجاهلون فهجروا حكمة القرآن ، ودفنوها في قبور الهوان ، الدين الذي فقد الأنصار والأبرار والحكماء الأخيار فسطا عليه المستبدون>> (34) . وقال أن ظهور الاستبداد في العالم الإسلامي مرده ليس إلى الإسلام ، وإنما بسبب إهمال المسلمين <<للمراقبة والسيطرة والمؤاخذة والسؤال>> مما فتح <<لأمراء الإسلام مجال الاستبداد وتجاوز الحدود>> (35) .
ثم أخذ يفصل في دور الحكام المستبدين في تاريخ الإسلام في محاربة العلم الصحيح ، وقال أن الناظر المدقق في تاريخ الإسلام يجد للمستبدين من الخلفاء والملوك الأولين والعلماء المنافقين أفعالاً مريعة في إطفاء نور العلم . <<لكن ذلك والحمد لله لم يؤد إلى إطفاء نور الله . فحفظ للمسلمين كتابه الكريم الذي هو شمس العلوم وكنز الحكم . . .>> (36) .
بل إنه خرج عن طور الكتاب وراح يتحدث عن قضية إعجاز القرآن ، التي اعتبرها <<أهم مسائل الدين>> وكيف أن علماء السوء لم يشرحوا ذلك للناس ، <<ولم يقدروا أن يوفوها حقها من البحث>> (37) .
ويحق للباحث أن يتساءل ما علاقة داعية قومي عروبي اشتراكي علماني بالبحث عن الإعجاز العلمي للقرآن ، الذي خصص له الكواكبي أربع صفحات كاملة من كتابه الصغير، المؤلف أصلاً لغرض آخر غير إعجاز القرآن ، لكن الحمية تأخذ الكواكبي ، الداعية الإسلامي ، إلى عرض الإسلام وتقديمه للناس ، كما يفعل كل داعية إلى الإسلام ، ممن لا يمكن وصفهم بحال من الأحوال بالعلمانية أو القومية أو الاشتراكية .
وتحدث عن أهمية عقيدة التوحيد ودورها الأكيد في تحرير الإنسان ، وقال: <<ما انتشر نور التوحيد في أمة قط إلا وتكسرت فيها قيود الأسر>> (38) .
وتشيع الذهنية الإسلامية في صفحات كتاب <<طبائع الاستبداد>> حتى لا يشك القارىء أن الكتاب من الكتب الإسلامية البحتة في بحث الاستبداد ، وليس من البحوث المقارنة أبداً ، على سبيل المثال . ومما يشي بهذا قوله: <<الأمة المأسورة ليس لها من يحك جلدها غير ظفرها ، ولا يقودها إلا العقلاء بالتنوير والإهداء ، حتى إذا اكفهرت سماء عقول بنيها، قيّض الله لها منها أبراراً يشترون لها السعادة بشقائهم والحياة بموتهم حيث جعل الله في ذلك لذتهم ولمثله خلقهم كما خلق آخرين فساقاً فجاراً، مهالكهم الشهوات والمثالب ، فسبحان الذي يختار من يشاء لما يشاء وهو الخلاق العظيم>> (39) .
هل يمكن أن يتحدث مفكر علماني بهذه الطريقة؟
وفي حديثه عن علاقة الاستبداد بالمال، ينطلق الكواكبي من مرجعية إسلامية صرفة في فهمه للمسألة المالية في حياة المجتمعات ، محملاً ، كما فعل القرآن ، الإنسان مسؤولية البغي في الأرض ، قال: <<بسط المولى جلت حكمته سلطان الإنسان على الأكوان فطغى وبغى ونسي ربه وعبد المال والجمال وجعلهما منيته ومبتغاه>> (40) . وأضاف: <<المال يستمد من الفيض الذي أودعه الله تعالى في الطبيعة ونواميسها ولا يملك أن يتخصص بإنسان إلا بعمل فيه أو في مقابله>> (41) . وهذه هي فكرة جوهرية في الاقتصاد الإسلامي قبل كل شيء . وقد شرح موارد الصرف المالي في النظام الإسلامي وعدد منها حاجة العاجزين والمضطرين وغير ذلك ، وأطلق على ذلك مصطلح <<الانتظام العام>> وبينه قائلاً: <<والمراد بالانتظام العام معيشة الاشتراك العمومي التي جاء بها الإسلام ، ولكن لم تدم أكثر من قرنين كان فيهما المسلمون لا يجدون من يدفعون لهم الصدقات والكفارات ، وذلك أن الإسلامية كما أسست حكومة ديمقراطية وقد سبق إيضاحها ، أسست أيضاً أصول هذه المعيشة التي يتمنى ما هو من نوعها أغلب العالم المتمدن الافرنجي>> (42) . وهدف هذا النظام هو <<التساوي والتقارب ، المقرران في الإسلامية ديناً ، بوسيلة أنواع الزكاة وتقسيمها على أنواع المصارف العامة ، وأنواع المحتاجين>> (43) .
وشرح بعض أحكام الملكية في النظام الاقتصادي الإسلامي ، مثل ملكية الأرض الزراعية ، قائلاً: <<تركت الإسلامية معظم الأراضي الزراعية ملكاً لعامة الأمة ، يستنبتها ويتمتع بخيراتها العاملون فيها فقط>> (44) . وهذا ربما ما دعا بعض العلمانيين الاشتراكيين إلى القول أن الكواكبي زرع بذور الفكر الاشتراكي في العالم العربي ، وليس الأمر كذلك حيث أن تشابه بعض الأحكام الإسلامية مع بعض مقررات هذا الاتجاه الفكري أو ذاك ، لا يعني إمكانية وصف الإسلام ، والقائلين بهذه الأحكام ، من المفكرين الإسلاميين بالاشتراكية أو غيرها ، كما قرر الإمام الصدر في كتابه العظيم <<اقتصادنا>> .
ثم راح يعدد شروط التمويل انطلاقاً من مرجعية فكرية إسلامية لا غبار عليها ، حيث شرحها بأنها:
أولاً ، أن يكون إحراز المال بوجه مشروع حلال .
ثانياً ، أن لا يكون في التمويل تضييق على حاجيات الغير ، كاحتكار الضروريات أو مزاحمة الصناع والعمال الضعفاء .
ثالثاً ، أن لا يتجاوز المال قدر الحاجة كثيراً ، لأن إفراط الثروة مهلكة للأخلاق الحميدة في الإنسان ، فإنه ليطغى إن رآه استغنى (45) .


ثانياً:الهدف الذي كان الكواكبي يسعى إلى تحقيقه .

لقد كان الكواكبي مصلحاً اجتماعياً ، عمل من أجل إصلاح أوضاع الأمة الإسلامية في الجوانب السياسية والاقتصادية والدينية . وحينما طرح مشروعه الإصلاحي فإنه طرحه في إطار ديني إسلامي . لقد دعا إلى إقامة دولة إسلامية جديدة بخلافة عربية ، تحقق شرط القرشية في الخليفة من جهة ، وتمكّن العرب من القيام بدورهم التاريخي والحضاري بوصفهم وعاء الإسلام وحملته والدعاة إليه من جهة ثانية ، لكنه أراد لهذه الدولة الإسلامية أن تكون دولة شوروية ديمقراطية تنهج نفس النهج الذي سار عليه الخلفاء الراشدون في المشورة، دون أن تتنكر لما وصلت إليه البشرية من أدوات للشورى لم تكن موجودة في عهد الرسالة مثل إقامة مجالس النواب . ودعا إلى الإصلاح الاقتصادي ، لمحاربة الفقر ، وتحقيق المساواة بين الناس واستثمار ثروات العالم الإسلامي وتحقيق النهضة الاقتصادية ـ الاجتماعية ، على أساس النظرية الإسلامية في المال والاقتصاد والعدالة الاجتماعية ، وأيضاً بالاستفادة من معطيات العصر .
ودعا إلى الإصلاح الديني وتجديد النظر في الدين ، لا بالتخلي عنه ، كما يطالب العلمانيون ، بل بإعادة الحياة إلى النواقص المعطلة ، وتهذيبه من الزوائد الباطلة ، <<مما يطرأ عادة على كل دين يتقادم عهده ، فيحتاج إلى مجددين يرجعون به إلى أصله المبين البريء، من حيث تخليص الإرادة والسعادة في الحياة من كل ما يشين ، المخفف شقاء الاستبداد والاستعباد ، المبصر بطرائق التعليم والتعلم الصحيحين ، المهيء قيام التربية الحسنة واستقرار الأخلاق المنتظمة ، مما به يصير الإنسان إنساناً ، وبه لا بالكفر يعيش الناس اخواناً>> (46) .
وربط كل دعوته الإصلاحية بمقاومة الاستبداد ، الذي رأى فيه أساس كل داء وأصل كل مشكلة ، وسبب التخلف في العالم الإسلامي . وطرح مشروعاً لمقاومة الاستبداد من ثلاث عناصر هي:
أولاً ، الوعي ، حيث أن الأمة التي لا يشعر كلها أو أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحق الحرية .
ثانياً ، التدرج السلمي ، من حيث أن الاستبداد لا يقاوم بالشدة ، وإنما يقاوم باللين والتدريج .
ثالثاً ، تهيئة البديل ، حيث يجب تهيئة ماذا يستبد به الاستبداد قبل مقاومته (47) .
والسعي لتحقيق هذه الأهداف يضع الكواكبي في قبة الفضاء الفكري والسياسي الإسلامي ، جنباً إلى جنب من سبقه من المصلحين الإسلاميين ومن جاء بعده منهم .


عروبة الكواكبي .

هذا لا يعني أن الكواكبي لم يكن عربياً في انتمائه ، وفي تطلعاته ، بل على العكس إن الكواكبي كان عربياً عروبياً معتزاً بعروبته . غاية ما في الأمر أن عروبة الكواكبي لم تكن مثل عروبة القوميين العرب الذين جاءوا من بعده ، وحاولوا أن يوصلوا نسبهم بنسبه ، ذلك أن <<العروبة عند الكواكبي ليست أيديولوجية أو عقيدة ، بل هي انتماء طبيعي لا ينفك عن الإسلام ، بل إن قيمة العروبة والانتماء للعرب تنبع من العلاقة بالإسلام>> (48) . وهو إنما أعطى المنزلة الخاصة لعرب الجزيرة العربية ، لأنهم حملة الإسلام ووعاؤه ، ولهذا كتب في الفقرة السادسة من جمعيته الإصلاحية المتخيلة: <<إن الجمعية بعد البحث الدقيق والنظر العميق في أحوال وخصال جميع الأقوام المسلمين الموجودين، وخصائص مواقعهم والظروف المحيطة بهم واستعدادهم، وجدوا أن لجزيرة العرب ولأهلها بالنظر إلى السياسة الدينية مجموعة خصائص وخصال لم تتوفر في غيرهم ، بناء عليه رأت الجمعية أن حفظ الحياة الدينية متعينة عليهم لا يقوم فيها مقامهم غيرهم مطلقاً ، وأن انتظار ذلك من غيرهم عبث محض>> . وهذا يعني أن قيمة العرب متقومة بالإسلام ، وأن وظيفتهم حماية الإسلام والدفاع عنه ، لا التخلي عنه كما تفعل القومية العربية العلمانية .
إن الكواكبي في طرحه هذا يؤكد على المرجعية الدينية للأمة التي يريد لها أن تكون ضمن إطار الخلافة ، تلك الخلافة التي لا يرى الكواكبي أن الدولة العثمانية مؤهلة للاضطلاع بمهمة القيام بها . الخليفة المقترح حسب نظرية الكواكبي يكون رمز للعالم الإسلامي أكثر منه حاكماً حقيقياً فهو الحكم بينهم وعنوان وحدتهم (49) .
وحينما اشترط الكواكبي أن يكون الخليفة عربياً قرشياً ، فذلك في الواقع لم يكن من منطلق قومي ، وإنما من منطلق شرعي إسلامي ، حيث تكاد تجمع الفرق الإسلامية ، ربما ما عدا الخوارج والقاضي أبو بكر الباقلاني ، على أن الخليفة يجب أن يكون من قريش .
ذكر القلقشندي النسب العربي القرشي في تعداده لشروط الإمامة والخلافة ، وقال أن الخلافة لا تنعقد بدونه ، <<والمراد أن يكون من قريش ، وهم بنو النضر بن كنانة>> . ونقل عن الصحيحين رواية ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: <<لايزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان>> . وقد احتج أبو بكر بقول الرسول: <<الأئمة من قريش>> (50) . وقد ادعى الماوردي الإجماع على هذا .
وقد أطنب ابن خلدون في شرحه الحكمة من اشتراط القرشية في الخليفة ، التي هي <<العصبية التي تكون بها الحماية والمطالبة ويرتفع الخلاف والفرقة بوجودها لصاحب المنصب، فتسكن إليه الملة وأهلها ، وينتظم حبل الألفة فيها>> . وقال أن هذا الشرط <<أبلغ في انتظام الملة واتفاق الكملة ، وإذا انتظمت كلمتهم انتظمت بانتظامها كلمة مضر اجمع ، فأذعن لها سائر العرب ، وانقادت الأمم سواهم إلى أحكام الملة ، ووطئت جنودهم قاصية البلاد>> (51) ، وليس من خلال العصبية القومية التي تتعالى على الانتماء العقيدي والسياسي للأمة الإسلامية وتستبدله بالانتماء إلى العروبة سياسياً وعقائدياً .


الهوامش

* باحث من العراق
(1) محمد جابر الأنصاري ، الفكر العربي وصراع الأضداد ، ص384 .
(2) المصدر السابق ، ص384 .
(3) المصدر السابق ، ص385 .
(4) نفس المصدر ، ص386 .
(5) نفس المصدر ، ص386 .
(6) نفس المصدر ، ص395 ، ويراجع الفصل بأكمله ص384 ـ 396 .
(7) محمد كامل ضاهر ، الصراع بين التيارين الديني والعلماني ، ص210 ، عن زكريا فايد ، العلمانية: النشأة والأثر ، ص114 ـ 115 .
(8) عبد العزيز البسام (وآخرون) ، مكانة العقل في الفكر العربي ، ص171 .
(9) الماوردي ، الأحكام السلطانية ، ص16
(10) الماوردي ، المصدر السابق ، ص17 .
(11) القلقشندي ، مآثر الأنافة في معالم الخلافة ، ج1 ، ص44 .
(12) القلقشندي ، مصدر سابق ، ص48 .
(13) القلقشندي ، مصدر سابق ، ص52 .
(14) الماوردي ، الأحكام السلطانية ، ص21 .
(15) القلقشندي ، مصدر سابق ، ص58 .
(16) الكواكبي ، طبائع الاستبداد ، ص32 .
(17) طبائع الاستبداد ، ص90 .
(18) طبائع الاستبداد ، ص131 ـ 132 .
(19) محمد باقر الصدر ، الإسلام يقود الحياة ، ص153 .
(20) محمد باقر الصدر ، الإسلام يقود الحياة ، ص151 ـ 152 .
(21) الكواكبي ، أم القرى ، ص204 .
(22) الكواكبي ، أم القرى ، ص
(23) محمد باقر الصدر ، اقتصادنا ، ص386 .
(24) الإمام محمد باقر الصدر ، اقتصادنا ، ص13 .
(25) الدكتور محمد النويهي ، نحو ثورة في الفكر الديني ، ص95 .
(26) المصدر السابق ، نفس الصفحة .
(27) الكواكبي ، أم القرى ، ص45 .
(28) الكواكبي ، طبائع الاستبداد ، ص36 .
(29) طبائع الاستبداد ، ص40 .
(30) طبائع الاستبداد ، ص41 .
(31) طبائع الاستبداد ، ص41 .
(32) طبائع الاستبداد ، ص42 .
(33) طبائع الاستبداد ، ص43 .
(34) طبائع الاستبداد ، ص43 .
(35) طبائع الاستبداد ، ص43 .
(36) طبائع الاستبداد ، ص46 .
(37) طبائع الاستبداد ، ص46 .
(38) طبائع الاستبداد ، ص55 .
(39) طبائع الاستبداد ، ص70 .
(40) طبائع الاستبداد ، ص74 .
(41) طبائع الاستبداد ، ص75 .
(42) الكواكبي ، طبائع الاستبداد ، ص76 .
(43) طبائع الاستبداد ، ص76 .
(44) طبائع الاستبداد ، ص76 .
(45) طبائع الاستبداد ، ص78 ، ويلاحظ القارىء الاستعارات القرآنية في كلام الكواكبي ، الأمر الذي يعزز القول بأنه كان ينطلق من مرجعية فكرية إسلامية واضحة جداً .
(46) طبائع الاستبداد ، ص98 .
(47) طبائع الاستبداد ، ص140 .
(48) السيد علاء الجوادي ، المنهج الإصلاحي عن الكواكبي ، مجلة المعرفة ، العدد 415 ، نيسان 1998 ، ص67 .
(49) السيد علاء الجوادي ، مصدر سابق ، ص68 .
(50) القلقشندي ، مصدر سابق ، ص37 ـ 38 .
(51) عبد الرحمن بن خلدون ، المقدمة ، ج1 ، ص343 ـ 347 .
(52) السيد علاء الجوادي ، مصدر سابق ، ص71 .

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة