تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

مسالة الانسجام الفكري بين المسلمين في عطاء الشيخ محمد الغزالي الفكري

إبراهيم نويري

يحاول هذا البحث الوقوف على رأي وتحليل الشيخ محمد الغزالي إزاء دور وإسهام الجوانب الثقافية من المنظومة الحضارية للمسلمين في تأسيس وصياغة مشروع الوحدة العامة والشاملة بين المسلمين, باعتبار الجهد الثقافي والفكري يمثل أساس عملية التغيير الاجتماعي, إذ إن إعداد أي مجتمع أو أمة لحمل رسالة حضارية معينة يقتضي أن يشمل في البدء إحداث التغيير والتجديد الضرورييّن في منظومة التصوّرات الثقافية والفكرية; وبهذا المعنى تتحوّل الثقافة إلى صياغة منهجية لأسس ومقومات بناء الأمة..

من هنا فإننا لن نكون مضطّرين لأن نعود لتقصّي الاشتقاقات والمفردات اللغوية لكلمة: ثقافة, أو لأن نعرّج على مراحل تطور هذه الكلمة أو الوقوف عند التعريفات المختلفة التي وردت بشأنها, ومعنى ذلك أننا نروم المعنى العام للثقافة ذاك المعنى الدال على إطار حياة واحدة يجمع بين راعي الغنم والعالِم جمعاً توحّد معه بينهما مقتضياتٌ مشتركةٌ (1) ; ولاشك أن الخصائص العامة التي تنتظم إطاراً واحداً يكون علامةً على نوعٍ معيّنٍ من التفكير وأسلوبٍ خاص في الحياة, ملحوظةٌ في معظم الثقافات العريقة والحضارات الكبرى كما هو شائع ومنظور.

وبداهة فإن الثقافة الإسلامية هي واحدة من تلك الثقافات العريقة التي تفاعلت مع الأطر والمرجعيات الحضارية لثقافات مختلفة, بما تضمّنته من قيم روحية وإنسانية مؤثّرة وحساسة, وبما اتّصفت به من خصائص وسماتٍ متميّزة أهّلتها لأداء دورها الفاعل في صياغة المنجزات الحضارية المشتركة للإنسانية, فكانت بهذه المواصفات والقسمات الجامعة ثقافةً خصبةً وحيويةً من جهة عمق قدراتها مؤهلاتها الذاتية في صناعة الإنسان النموذج المسكون بروح المبادرة والفعل الحضاري, وبناء الأمم والجماعات والشعوب المؤهلة لنفع الإنسانية وبعث الحضارة الراشدة.. ومن باب أول فإن العناصر والأبعاد المكوّنة لهذه الثقافة تُشكِّل لحمة وسدى الوحدة بين المسلمين والصياغة الصلبة للكيان الحضاري الإسلامي.

* أولاً: مرجعية وحدة التصور بين المسلمين عند الغزالي.

إن المقوّمات الثقافية لأية أمة ينبغي أن تستند في وجودها إلى مرجعية ضابطة ومهيمنة تتحكّم في الحراك الذهني الفردي والجمعي, وتحدّد الأطر العامة للتصوّرات الفكرية التي تنبع منها المفاهيم والسلوكيات والمواقف, وفي نظر الشيخ الغزالي فإن هذه المرجعية بالنسبة للأمة الإسلامية تتمثل فيما يأتي:

أ) القرآن الكريم: يؤمن الشيخ الغزالي ـ ككل المسلمين ـ بأن القرآن الكريم هو المنبع الأول للتلقي والإستمداد عند المسلمين, سواء تعلق الأمر بالعقيدة أو الشريعة أو الأخلاق أو المعاملات أو نحو ذلك, غير أنه يجعل من القرآن إطاراً عاماً‏يهيمن على كل شيء, ومعياراً ثابتاً يحاكم إلى قواعده ومقاييسه كلَّ الأفعال والظواهر والمعارف والمواريث; وتعليل الغزالي هنا ليس تعليلاً عقلياً‏محضاً بل هو مستنبط من الدلالة العامة لمعنى أو مفهوم الدين الذي بُعث لإنفاذه كلُّ الأنبياء والرسل, فإن الوحي الإلهي في المسيرة الزمنية التي قطعها «قد انتهى إلى هذا الكتاب وأنَّ ما بين دفتيه كلمة السماء إلى الأرض دون تحريف, وأن مراد الله من خلقه قد خُلِّد في هذه الصحائف فلا تعقيب لأحد بعده. وهذه الصفات لا يمكن البتة إضفاؤها على كتاب آخر.. إن العالم كله لا يحوي في جنباته الآن إلا خطاباً واحداً من الله لعباده, هذا الخطاب هو الكلم المسطور في القرآن الكريم.. والقرآن الكريم قد تضمّن جملةَ الحقائق التي تَنَادَى بها موسى وعيسى, وتنادى بها من قبلهم نوح وإبراهيم.. فلو أن أحدهم بُعث الآن حيّاً لرأى ملامح رسالته مصقولةً في مرآة هذا الوحي الخاتم, ولكان أول من يحتفي بها ويدعو لاعتناقها» (2) ; فالقرآن الكريم ـ في منظور الشيخ الغزالي ـ أساس حضارة إنسانية راشدة, ومبعث ثورة نفسية وعقلية شاملة نقلت تاريخ العالم كله من وضع إلى وضع ومن طور إلى طور; فالنهضة التي اقترنت بالقرآن الكريم وجدت أسباب الحياة والانبعاث والازدهار في المناخ الذي نسجته تعاليمُهُ ووصاياه وهداياتُهُ. ويمكن التأكيد بأن هذا الكتاب منح الوجود الإسلامي الأول أثناء فترة ميلاد الكيان الإسلامي من عناصر القوة والتحدي والتمسك الذاتي ما تعجز عن صنعه ألف وزارة للدعاية تجنّد آلاف الأقلام الواعية والألسنة الحادة لاستثارة العواطف وتنضيج الآراء وصقل العزائم; إن القرآن الكريم كان بالنسبة للحركة الإسلامية الأولى يمثّل صحافتها وإذاعتها وكتابتها وخطابتها, ومن هداياته العامة وحدها اهتزّت الأجيال الهامدة اهتزاز الحياة, واستطاعت في وقت قصير أن تتخلّص من أوهام الجاهلية الأولى, وما كان ذلك ليحدث بمثل تلك المواصفات العجيبة لولا قوة القرآن وشدة سلطانه على النفوس والعقول والأفئدة (3) ; من هنا رأينا الشيخ الغزالي يتّجه بهذه المسألة اتجاهاً تأصيلياً فيجعل من آيات القرآن إطاراً منهجياً ضابطاً‏لغيره من الأطر وحاكماً على موضوعاتها ومضامينها ومناهجها, ولعلَّ ذلك ما يفسر شدّة تعلّق واهتمام الشيخ الغزالي بالدراسات القرآنية (4)  رغم ما تلزمه به هموم الحياة الإسلامية المعاصرة باعتباره مفكراً‏وداعيةً من واجبات, وما تأخذه منه تلك الواجبات من وقت وجهد ومعاناة.

ب) السنة النبوية المطهّرة: يعتقد الشيخ الغزالي أن السنة النبوية الشريفة هي المرجعية التي تلي القرآن مباشرة من حيث الأهمية وضبط تصورات ومفاهيم العقل المسلم وتأسيس المنهجية الإسلامية, ومن ثمّة فإن ما صحَّ عن رسول الله (ص) لزم قبوله والاستدلال به على الأحكام كما هو الشأن بالنسبة للقرآن الكريم; ويرى الشيخ الغزالي أن الأحكام المتضمنة في الأحاديث الصحيحة إنما هي مأخوذة أو مستنبطة من القرآن نفسه.. أي أن النبي (ص) هو الذي استنبطها بتأييد إلهي, وهذا الفهم أو الاستنباط يُسمَّى في الاصطلاح القرآني (تبييناً) أو (إراءةً) دلَّ على ذلك قوله تعالى: {وأَنْزَلْنَا إِلَيكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمُ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (5)  وقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (6) ; فالسنة المطهرة في فهم الشيخ الغزالي مستنبطة من روح القرآن. غير أن هذا التشخيص لا ينطبق على عموم السنة, وإنما على الجانب الذي لا يُعدُّ وحياً‏مباشراً من الله. فقد كان القرآن الكريم هو الدعامة الأولى والمعيار المهيمن في حياة وواقع النبي (ص) «استقرت آياتُه في سويداء قلبه, وامتدت معانيها وغاياتها في مشاعره وأفكاره, واستنار بأشعة الوحي باطنُه كله, فهيهات أن يصدر عنه إلا ما يوافق القرآن ويسعى بين يدي هداياته المقرّرة; وحديث الرسول الكريم إلى الناس فيما يتصل بشؤون دينهم إذا لم يكن وحياً مباشراً من الله, فهو مولّد من حقائق القرآن التي أوحيت إليه, واختلطت بفؤاده وعقله, والتي ينبعث عنها ويوجّه غيره إليها, ومن السذاجة تصوّر النبوّة ترديداً مجرّداً لأخبار الملأ الأعلى, أو تصوّر الرسول شخصاً لا يتكلم ولا يحكم ولا يفتي ولا ينصح إلا إذا همس في آذانه الملك بما يقول وبما يفعل.. إن الرسالة أجلّ من ذلك وأخطر. والرسول بعد أن أُفعمت أقطار نفسه بهذا القرآن العظيم وتشرّبت روحه ما أودع فيه من هدي وخير أصبح ـ من ذاته ـ ينطق بالحكمة ويفسر القرآن, يفسره بألوف من الأقوال والأعمال والتقريرات والإجابات التي نشأت عنه ونمت في حرارته وسناه» (7) .

ونفهم نحن أن الشيخ الغزالي ـ وإن أبدع في التفريق بين السنة حين تكون وحياً مباشراً من الله وحين تكون نصحاً قرآنياً‏ـ مع إجماع الأمة في اعتبار السنة تمثّل المرجعيّة الثانية في معيار النظر الإسلامي والمنهجية الإسلامية, فقد كتب تحت عنوان (السنة حق) يقول: «والمسلمون متّفقون على اتّباع السنة بوصفها المصدر الثاني للإسلام بعد القرآن الكريم, لكن السنن الواردة تتفاوت ثبوتاً ودلالةً تفاوتاً لا محلّ هنا لذكره, وقد وضعت لضبط ذلك مقاييس عقلية جيدة, يرجع إليها في مظانها من شاء (...) وتكذيب السنة علىطول الخط احتجاجاً بأن القرآن حوى كلَّ شيء بدعة جسيمة الخطر, فإن الله عز وجل ترك لرسوله السنن العملية يبيّنها ويوضّحها, وقد ثبتت هذه بالتواتر الذي ثبت به القرآن فكيف تُجحد? بل كيف تُجحد وحدها ويُعترف بالقرآن? وكيف نصلي ونصوم ونحج ونزكي ونقيم الحدود, وهذه كلها ما أُدركت تفاصيلها إلا من السنة? إن إنكار المتواتر من السنن العملية خروج عن الإسلام» (8)  ومن ثمّة فقد رأينا الشيخ الغزالي مهتماً بالسنة (9)  لهذه المنزلة التي تقتعدها ضمن سياق المرجعية الإسلامية الموجِّهة للنظر المنهجي وصياغة المقاييس الحاكمة على الأشياء والأفكار والوقائع والظواهر.

جـ) الإجتهاد أو مبدأ الحركة في الفكر الإسلامي: يرى الشيخ الغزالي أن الإجتهاد أو مبدأ الحركة في الفكر الإسلامي ـ كما يسميه ـ هو ضميمة طبيعية لابد من وجودها, لأن هذا الإطار يمثّل حلقة التفاعل بين العقل والنقل وتنزيل الأحكام والمعايير النقلية على الواقع والأفعال والمستجدّات, فأثر الفهم والتقدير الفكري والعقلي ملحوظ في كل هذه المراحل من أقسام هذه المعادلة, ومن جهة أخرى فإن هذه الحركية المستديمة في الفكر الإسلامي القائمة على آلية البرهان والموازنة بين الأشباه والنظائر ورد ما لا نعلم إلى ما نعلم.. تضحي وفقاً‏لهذا التحديد ضمانة منهجية وواقعية لخلود الشريعة الإسلامية وشمولية وعالمية المذهبية الإسلامية (10) ; وفي نظر الشيخ الغزالي فإن الاجتهاد بما يتضمنّه من سمات اليسر والتسامح والحرية والتفاعل مع المبدأ والولاء للمنهج يمكن أن يشكّل مساحةً هامةً وفاعلةً من المرجعية الإسلامية, وتعليل ذلك عنده أن الإجتهاد «كما يعبّر عن حيوية المسلم بإزاء الإسلام والحياة معاً, أو كما يعبّر عن طاقة الملاءمة التي يحملها المسلم ليوفّق دوماً بين الحياة التي يعيشها الآن وبعد الآن, وبين الإسلام الذي يؤمن به.. يعبّر من جانب آخر عما يصاحبه من روح اليسر وروح الحرية في التفكير, وإن كانت حرية محدودة, فمبدأ الاجتهاد الذي يقوم عليه الفكر الإسلامي الأصيل, مبدا بناء ومبدأ حركة ومبدأ حرية وبالتالي مبدأ تيسير, وفي الوقت نفسه مبدأ صفاء وتسامح, لأن الخصومة النفسية التي تتبع الخصومة الفكرية الحادة لا مكان لها بين أرباب الاجتهاد الإسلامي, وإنما تقع عندما يُفرض على البعض الإلزام والإتباع أو يُحكم على بعض المذاهب بالتخلّف وعدم المساواة, وهكذا عندما ابتدأ الفكر الإسلامي الأصيل على أساس من الاجتهاد الخالص الحر, نجد طابع هذا الفكر الصدق والإنطلاق إلى الأمام, ولا نكاد نلمس فيه تنابزاً ولا خصومة خارجة عن روح النظر السليم بين المختلفين في موضوعاته وقضاياه, ونجد المسلمين يومئذ أصحاب رأي, وأصحاب حجّة وأصحاب علم فيما باشروه من ضروب التفكير المختلفة» (11) .

ويظهر أن الشيخ الغزالي وفق هذا التشخيص يعترف بكون حجّية الاجتهاد إنما هي متضمّنة في طبيعة العلاقة بين طرفي معادلة التكامل والتفاعل بين العقل والنقل, وأنه بهذا التأويل والتوجّه ينحو منحى الشيخ الفقيه محمود شلتوت الذي يؤكد على كون حجية الرأي في التشريع أو التقييم ثابتة بالأدلة النقلية ذاتها لأنها تعود إلى عدة أمور منها: تقرير القرآن لمبدأ الشورى, وأمر القرآن بردّ المتنازع فيه إلى أولي الأمر وهم الذين أُوتوا الفهم والحكمة والقدرة على الإستنباط, ثم ثبوت إقرار النبي (ص) لأصحابه الذين كانوا يبعثهم إلى الأقاليم والجهات النائية على الإجتهاد وإعمال العقل والأخذ بالرأي (12) ; وبهذا الفهم يضحي الإجتهاد مساحة إضافية مرنة تُسهم في ترسيخ القسمات المشتركة لوحدة الفكر والتصوّر عند المسلمين لأن هذه الأداة مشدودة في حركتها إلى فلك نصوص الوحي والأدلة المعصومة, إذ يرى الشيخ الغزالي أن «الرجل الذي يعيش في جو الوحي, خبيراً بحكمته وأحكامه, متأنقاً في تلاوته وتدبره, بصيراً‏بسياقاته ومغازيه, والذي يصحب رسول الله (ص) في سيرته ويستبطن سنته من أقوال وأفعال, ويتأسى به في تقواه وعبادته وخلقه, هذا الرجل ـ مادام يملك ذلكم القلب التقي والبصر القوي ـ يستطيع أن يصرف أحوال الحياة التي تلقاه تصريفاً يطبعها بطابع الدين, ويضفي عليها صبغة الحق, لأنه سيجتهد في إلحاقها بما علم من كتاب الله وسنة رسوله, وفي ردها إلى ما وعى من بواعث الإسلام وأهدافه.. والسير في الحياة بهذه النية.. والأمة مطالبة بالتزام هذا الصراط فيما تفد به العصور من أحداث» (13) .

هذا هو الإطار المرجعي الضابط لمنهجية الفكر والتصور عند المسلمين في منظور الشيخ الغزالي, ويمكن الاستدلال على مشروعية هذا الإطار المنهجي بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ أطِيعُوا اللَّهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ والرَّسُولِ إِنْ كُنْتُم تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوِمِ الآخِرِ} (14) , كما أن أهمية هذه المرجعية تكمن في كونها تعصم من أي خلل في تراتبيّة النظر وتقييم حركة الأولويات والكليّات والجزئيات وتنظيم أفق الحركة الذهنية ومعمار البناء الفكري, كما تكمن أيضاً‏في مدى إسهامها في جعل الفكر الإسلامي ونشاط العقل المسلم‏ـ في قضايا الاختلاف‏ـ بمنأى عن حالات الولاء والتبعية لمركزيات الجذب الأخرى, باعتبار أن حالة تذبذب الولاء أو التماهي (15)  مع مرجعيات أخرى مغايرة يمثل خطورة حقيقية على سلامة وعافية المذهبية الإسلامية ومرجعيتها المنهجية.

* ثانياً: أسس الوحدة الثقافية بين المسلمين عند الغزالي.

يعتقد الشيخ الغزالي أن وحدة الأمة الإسلامية في أبعادها الحضارية والمذهبية الشاملة لا يمكن أن تتحقّق فاعليتُها في الفعل والأداء والشعور المخلص تجاه واجبات الرسالة, إذا ضعف ولاء المسلمين للمرجعية المهيمنة والضابطة لحركة الفكر والتصوّر والتي سبق بيانها, وكذلك إذا وهنت بواعث الإهتمام والعناية بأسس ومقومات هذه الوحدة.. وحسب تتبع أفكار وكتابات الشيخ الغزالي يمكن استنتاج أن الشيخ يجعل من العناصر الآتية أسساً ومقوماتٍ لتلك الغاية الجليلة:

1) تحديد المكانة العلمية للثقافة الذاتية والعناية بمكوناتها.

يرى الشيخ الغزالي أن لكلِّ أمة من أمم الدنيا ثقافة تصوِّر ملامح شخصيتها التي تُعرف بها بين الناس في العالم, وتحدّد بدقة أبعاد هُوِيّتها الحضارية وسماتها النفسيّة والعقلية وتشرح بأمانة وإخلاص عقائدها التي تؤمن بها وتنطلق منها, وتبيّن الأهداف والغايات التي تصبو إليها وترنو لإنجازها, وتبشّر بأخلاقياتها وقيمها وتقاليدها وشرائعها على كافة المستويات بدءاً من إطار الأسرة إلى العلاقات الدولية والإنسانية العامة; وتتحدّد مكانة هذه الثقافة في ممارسة دور الإشراف والوصاية على توجيه المنجزات الحضارية للأمة وجعلها في خدمة منهجها وأهدافها الكبرى في الحياة; وبالنسبة لنا نحن المسلمين فإن الثقافة الذاتية تتمثّل لدينا بشكل أساس في العلوم الإسلامية بشتّى تخصّصاتها ومعارفها وفروعها ومناهجها, ولما كانت هذه الثقافة تمثّل روح الأمة وشخصيتها الفكرية والحضارية فإن القوى الإستعمارية والتنصيرية والتهويدية والإلحادية ونحوها عملت ومازالت وبدأب حثيث على هدم مؤسسات ومعالم وقسمات هذه الثقافة, وإضعاف وتحييد آثارها العملية على صعيد صياغة الشخصية الإسلامية, وصعيد التأسيس الاجتماعي والبناء الثقافي وتجديد أمل الانبعاث الحضاري لأمتنا ومشروعها الإنساني والإعماري الخيِّر.

ويدرك الشيخ الغزالي أهميَّةَ هذه القوى الدافعة في كيان الأمة والتي تنشئها هذه الثقافة فيقول: «إن هذه الثقافة الذاتية هي إكسير الحياة للأمة والمجدّد الدائب لطاقاتها الأدبية والمادية, ومن هنا اتّجه الإستعمار العالمي إلى ضرب هذه الثقافة وتوهين معاهدها, فإمّا أجهز عليها وإمّا شلَّ حراكها وأبقاها صورة هامدة أو إسماً بلا مضمون, وذلك ما حدث لجامعة القرويين والزيتونة والأزهر والجامعات الإسلامية في ليبيا والسودان وأقطار أخرى.. ونتج عن ذلك أمران خطيران: اضمحلال العقل الإسلامي وضعف الدراسات الدينية.. ثم اضمحلال اللغة العربية وآدابها وانكماشها أمام التقدم الحضاري وقلّة المجيدين لها وكثرة اللاحنين فيها دون أدنى حياء.. ولما كان ساسةُ العربِ وقادتهم من خريجي التعليم المدني ـ أكثر من 99% منهم بعيد الذهن عن ثقافتنا الذاتية‏ـ فإن النهضة الإسلامية تتعثّر حيناً وتتقهقر حيناً, وإذا تقدّمت خطوةً ففي وجه صعوبات دامية.. وقد شعرت بالخزي وأنا أسمع هؤلاء يخطبون! إنهم يتحدّثون عادة بلغة الدهماء, وإذا جرت على ألسنتهم كلماتٌ عربيةٌ فإن (بدء) تُنطق بكسر الباء! و(من ثم) تُنطق بضمّ الثاء! أما قواعد النحو فحدّث ولا حرج عمّا يعتريها من إهانة! والأغرب من ذلك أن محطاتِ الإذاعة تنشر دراسةً متصلةً عن (الخصائص البلاغية) لصاحب هذه الخطابة العامية, ولم يبق إلا أن ننشر بحوثاً أخرى عن مظاهر البديع والبيان والمعاني في بُغام الدواب ونقيق الضفادع!! أما الدّين نفسه فحديث مملول وتذكير بما مات أو بما ينبغي أن يموت, ولكن هذا الشعور يُغلَّف ببعض عبارات المجاملة أو التوفير المصنوع اتقاءً لغضب الجمهور.. فإذا أمن ذلك الغضب في مجتمع ذليل أو منحل, فالدين رجعية والصلاة مشغلة للوقت والصيام معطِّل للإنتاج..» (16) ; ويؤمن الشيخ الغزالي أن وصل ما انقطع من صفحات ماضينا التليد, وأن حل الكثير من جوانب مشكلاتنا الراهنة في واقعنا المعاصر إنما هو رهن وفائنا لهذه الثقافة وتهيئة المناخ من جديد لإعادة بعثها وإحياء معارفها وتجديد مناهجها, ولذلك فلا غرو إذا وجدنا الشيخ الغزالي يصف هذه الثقافة بأنها «جزءٌ مشرقٌ من تاريخنا وجانبٌ مثمرٌ جليلٌ من حضارتنا ورسالتنا الكبرى, بل هي الأساس لوحدة أمتنا على اتساع رقعتها المكانية والزمانية, فإن ما قدمته من زاد روحي وفكري ربط الخلف بالسلف وربط شرق الأمة بغربها وامّحت الفروق بين الأعصار والأمصار فإذا المسلمون جميعاً‏يلتفّون حول كتاب ربهم وسنة نبيهم, ويُحكمون الإرتباط بأخلاقهم وتقاليدهم وأهدافهم, ويُحسنون التفاهم والتعبير العالي بلغتهم وآدابهم, ويُثبتون الملامح الوسيمة لأمتهم, فهي واضحة الشخصية معروفة الغاية, مأنوسة الصورة للصديق والعدو على سواء (..) ولنقل في صراحة: إن الاستعمار العالمي لا يسوءه أن ينبغ في القاهرة طبيب يسبق زملاءه في مستشفيات لندن أو موسكو مادام هذا الطبيب ملحداً أو مقطوع الصلة بالإسلام, فالعبقريُّ الملحد يمكن أن يعمل تحت أي راية, وأن يستأجر في أي ميدان, إنه كالجندي المرتزق يُشترى بالثمن الغالي أو بالبخس.. ومن ثم فالجامعات المدنية البحتة لا تُخيف الإستعمار, بل قد يُعينها ويشجّعها! إن الاستعمار يخاصم بعنف كل عمل له صبغة إسلامية ويشتدّ غضبُهُ إذا رأى الثقافة الإسلامية تملك زمام التوجيه (..) وهذا الموقف الحقود يفرض علينا مزيداً من الحذر في حماية أنفسنا وتحصين قلاعنا واكتشاف ما يُبيَّتُ لحاضرنا ومستقبلنا, ويفرض علينا من قبل ذلك كله أن نصحح أخطاءنا ونسد الثغور التي اقتُحمنا منها وتسلّل العدو منها إلى حمانا» (17) .

وصفوة القول هنا ـ كما يظهر لنا ـ أن الشيخ الغزالي ممّن يعوّلون على دور الثقافة الذاتية في تماسك الخصائص المشتركة لهُوِيَّة المسلمين الفكرية والحضارية. ومن ثمّة فهو يدعو عبر الكثير من كتاباته وأحاديثه إلى ضرورة اعتناء كل المسلمين بهذه الثقافة وتأسيس معاهدها وتقريب الناشئة وطلاب العلم والمعرفة من منابعها ورجالاتها, ويرى ذلك واجباً دينياً يفرضه علينا ولاؤنا لرسالتنا, كما تحتّمه سنن التدافع بين الحضارات والأديان والمذاهب, فضلاً‏عن كونه ضرورة واقعية ملزمة لحماية وصون قسمات ومميزات هوية أمتنا وشخصيتها الحضارية, إن الثقافة الذاتية وفق هذا التشخيص تمثّل الدرع الواقي والسياج الحافظ لخصائص الأمة, كما تمثّل قوةَ دفعٍ حقيقية لعوامل الغزو, ومحاولات التبديل الثقافي والفكري والوجداني التي تُبذل على مختلف الأصعدة للإنحراف بالتوجّه الحضاري الفطري لأمتنا الإسلامية, وما ذلك إلا لكون هذه الثقافة ترمز بأبعادها ومضامينها الوظيفية إلى وحدة هذه الأمة في مزاجها الفكري والنفسي المشترك, وإلى عمق انجذاب أمتنا الفطري إلى روح أصالتها وقوة انسجامها الطبيعي مع تجلياتها المذهبية والحضارية (18) ; إن تقييم الشيخ الغزالي وتحديده لدور الثقافة الذاتية ومكانتها في معمار الأمة الفكري والحضاري, يلتقي إلى حد التطابق والتماهي مع تقييمات وتحديدات معظم المفكرين الإسلاميين المعاصرين, وكذا المعاصرين منهم جداً من أمثال محسن عبد الحميد الذي يجزم بأنَّ الثقافة الذاتية لأمتنا هي علّة بقاء وتماسك خصائص هذه الأمة الفكرية والحضارية وإنقاذ سمات هُويّتها ومذهبيتها من الذوبان والتلاشي, وذلك على الرغم من فقدان عنصر التكافؤ والتوازن في معادلة الصِّراع والتدافع.. لكن ومع ذلك كله ـ كما يؤكد ـ فإن تاريخ صراع الأفكار والمذاهب والولاءات الثقافية والحضارية قد أثبت لنا خلال القرن الأخير ـ قرن التدافع الحاد ـ حقيقة أن «الأمة الإسلامية رفضت محاولات إسقاطها النهائي أمام الأمم الأخرى وحضاراتها لأن نمطها يختلف عن النمط الحضاري الإسلامي في جذوره وخصائصه وتطوره. وهي لا تزال تحتفظ بجوانب من القوة في مقوماتها الإسلامية وخصائصها الذاتية المستقلة, على الرغم من غزو الحضارة الغربية لقيمها وحياتها وسلوك أفرادها, كنتيجة طبيعية لعوامل الإعاقة والتأخر في القرون الأخيرة من حياتها, تلك التي أسلمتها إلى الأعداء المستعمرين الذين خطّطوا للقضاء على وجودها وخصائصها وتحريفها عن طريقها الحضاري المستقل, زد على ذلك الاحتكاك الطبيعي بين الحضارات الذي هو سُنَّةٌ من السنن الاجتماعية في المجتمع الإنساني» (19) .

2) تحديد الوظيفة العالمية للأمة.

يذهب الشيخ الغزالي في رؤيته الفكرية إلى كون الدعوة الإسلامية تمثّل قاسماً مشتركاً وإطاراً جامعاً بين المسلمين كافة في المشارق والمغارب, وذلك لما توحي به العقيدة الإسلامية وما تلزم به كل مسلم من واجبات تجاه هذه الدعوة, بل إنَّ هذه الوظيفة مسلّمة معروفة في أدبيات الثقافة الإسلامية وتاريخ حضارتنا, وقد رسَّخَ القرآن الكريم وأكَّدَ على المكانة المركزية لهذه الوظيفة في منظومة أولويات وواجبات الأمة الإسلامية, كما جاء في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاس تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (20) ; ثمَّ إنَّ تحليل ودراسة مسار ومراحل هذه الدعوة وتتبّع خطّها البياني يكشف حقيقة كيف كانت هذه الوظيفة الجليلة بحقّ عامل وحدة وتوحيد داخل الكيان الإسلامي الكبير رغم اختلاف الألسنة والعادات والظروف الاجتماعية والبيئات الجغرافية ونحو ذلك من التغيّرات الفطرية والطبيعيّة, وبعض الدراسات المتخصّصة تشير إلى أنَّ أواصر القربى ووشائج المناصرة والالتحام والدعم تزداد قوة ومتانة وفعّالية بين المسلمين كلّما ازداد جهاز الدعوة نشاطاً وكلّما ازداد الدعاة خبرةً ومهارةً وكفاءةً بأساليب نشر نور هذه الرسالة وهداياتها في شتّى آفاق المعمورة; ومعنى ذلك أو ما يُستفاد من هذا الإستنتاج أَنّه يجب على المسلمين في كلّ مرحلة وفي أيّ منعطف من تاريخهم أن يجدّدوا أشكال ومواثيق التحامهم بوظيفتهم العالمية وأن يعملوا باطّراد وإخلاص على إقامة وإيجاد فضاءات الوفاء لمقتضيات هذه الرسالة وخدمة شؤونها وقضاياها, فهي من مقوّمات وحدتهم وانسجام خصائصهم الحضارية وشخصيتهم الفكرية; وفي منظور الشيخ الغزالي أن الوظيفة العالمية للمسلمين لن تتبلور صورةُ فعّاليتها على صعيد التوحيد العاطفي والثقافي بين المسلمين إلا إذا كانت العلاقة بين الأمة والرسالة في المستوى الذي أراده الله تعالى وبيَّن تبعاتِهِ في محكم التنزيل, وفي ذلك يقول الشيخ الغزالي: «الإسلام أمة ورسالة.. أما الرسالة فهي الهدى الإلهي الذي يخط لنا الصراط المستقيم ويدعونا إلى السير فيه, وأما الأمة فهي الجماعة التي تنقل التوجيه الإلهي من ميدان النظر إلى ميدان التطبيق أي تفهم الوحي وتنفّذه وتدعو الآخرين إلى اعتناقه. والمفروض أن تكون الأمة صورة حسنة لرسالتها, صورة لا تفاوت فيها ولا تشويه (...) وتعميم الخير وحراسة المعروف ومقاومة المنكر ليست وظائف محلية ينهض بها المسلمون داخل بلادهم فقط, ولكنها واجبات عالمية يتصايح بها المسلمون شرقاً‏وغرباً‏ليعرف الناس: مَنْ هم وماذا يريدون?.. على أَنَّ صلاحية الداخل رصيد لابد منه للدعاية الناجحة في الخارج, ولا يُقبل من امرئ رثّ الملابس أن يدعو إلى الأناقة, ثم إنَّ القضيَّة الأولى ـ قبل نجاح دعاية ما ـ هي أن تكون الأمة صورةً لرسالتها ووعاءً نقياً طهوراً لما تحمل من تعاليم وقيم, وواضح أن جهاز الدعوة والأمر والنهي هو الخاصّة الأولى للرسالة الخاتمة, ولعلّه سر خلودها إلى آخر الدهر, فهو يجدّد كيانها ويصون حقائقها ويغني عن رسالات أخرى تحلّ محلّها» (21) .

ويدلّل الشيخ الغزالي على كون هذه الوظيفة المشتركة بين أبناء وشعوب الأمة الإسلامية هي من دعامات الشعور الواحد في الأمة, ومن أسباب المناعة الذاتية داخل كيان ومؤسسات الأمة بمثلين من التاريخ الإسلامي, الأول عندما سقطت الخلافة العباسية وتهاوت صروح دولتها تحت مطارق غزو التتار, فسرعان ما استيقظت أسباب المناعة الكامنة في العمق الحضاري من كيان الأمة, وتحرّك جهاز الدعوة بسرعة وفعّالية حتى وقع حدث من أعجب الأحداث في تاريخ الدنيا, فقد أسلم غزاة التتار بعد تحقيقهم الانتصار العسكري, ونجح جهاز الدعوة في استيعابهم بينما فشلت الأجهزة الرسمية للكنيسة في اجتذابهم إلى دائرتها وعاد المندوب البابوي إلى روما منكسر الخاطر يجرّ أذيال الفشل ومرارة الهزيمة; والمثل الثاني عندما اشتبكت الأمة الإسلامية مع صليبيي العصور الوسطى فإنَّ الدعاة هم الذين اعترضوا بحقٍّ روح الهزيمة عند بعض الحكام, وظلّوا مستميتين بقوّة وصلابة وثقة في الدفاع عن الأمة واستطاعوا بما توارثوه من إذكاء نار المقاومة والندّية الإيمانية تزويد صلاح الدين الأيوبي بجيش من الفدائيين الشجعان ينشدون الشهادة في البر والبحر, وبهذه الروح المؤمنة الواثقة في الله ونصر جنده تحرّرت القدس بعد تسعين سنة من الإشتباك, وبعد قرن آخر كان كلُّ شبر من أرض الإسلام قد غُسل غسلاً من آثار الهمج المغيرين من الصليبيين أتباع بطرس الناسك; إنَّ هناك رجالاً لم نعرف أسماءهم وإنما رأينا آثارهم وشواهد أعمالهم هم الذين أقالوا العالم الإسلامي من عثرته وأنهضوه من كبوته, إنهم جنود مجهولون في هذه الدنيا ولكنهم غداً أعلام شامخة في ربى الخلد, إنَّ هؤلاء الرجال الأفذاذ الذين حافظوا على تماسك الخصائص العامة في الأمة ووحدتها الشعورية والعاطفية إنما هم ثمرة من ثمار الوظيفة العالمية لهذه الأمة (22) , ولعلّه من الواجب أيضاً في التدليل على دور مضمون ومنهج هذه الوظيفة في تحقيق الوحدة الفكرية والثقافية بين المسلمين, ذكر الجهود الطيّبة الكريمة التي أسداها المستعربون ـ أو المسلمون من غير الجنس العربي ـ للحضارة المشتركة, وسر ذلك ـ كما يرى الشيخ الغزالي ـ أن الإسلام لم يجعل من العروبة قوميةً خاصةً وإنما جعل منها «دائرة عالمية فسيحة الأرجاء وسعت شتى الدماء والألوان, وانضوى تحت لوائها سيلٌ موّارٌ من المؤمنين الذين تركوا بني جلدتهم, وآثروا هذه الجنسية الجديدة, وأسدوا إليها من الخدمات العلمية والأدبية والسياسية والعسكرية ما يعجز عنه قوم ترجع أرومتهم إلى عاد وثمود أو عدنان وقحطان; إن النزعة الإنسانية العريقة في مجتمعنا العربي تعود إلى عالمية الرسالة الإسلامية وتطلّعها الدائم إلى استيعاب عناصر بشرية مختلفة النسب واللون; ووفاء العرب الأولين بمطالب هذه الرسالة وإنفساح صدورهم لكل وافد على الإسلام داخل في العروبة.. ولذلك يرفض العربي المؤمن أي تعصب جنسي وأي استعلاء عنصري (...) ولا ريب أن المجتمع العربي (23)  قد ازدهر بهذه النزعة الإنسانية النبيلة, وأفاد منها أجلّ فائدة, وما من نشاط مادي أو أدبي أو علمي برز في هذا المجتمع وعلا به قدره إلا كان المستعربون من ورائه.. تلمح ذلك جلياً في علوم الشريعة وفنون الأدب وآفاق العمران ومناحي الفلسفة, وفي أرجاء حضارتنا التي نملأ أفواهنا بها فخراً.. لقد كنت في مكة أرى أغلب الملامح البشرية حول البيت العتيق, ونظرت يوماً إلى مئات المساجد في القاهرة‏ـ عاصمة العروبة والإسلام ت فرأيت جُلَّ بُناتها من الأعاجم بمعادنهم الأولى. وغلغلت البصر في مواريثنا النقلية والعقلية فرأيت سدنتها من أولئك الرجال الذين دخلوا العروبة من أبواب الإسلام, وجعلوا العروبة بهذا المدخل الكريم ملتقىً سامياً لأنضر ما عرفت الحياة من جهد وأشرف ما وعت من غاية» (24) ; ويذهب الشيخ الغزالي إلى أنَّ هذه الخاصيّة أو الدعامة الموحّدة للأمة الإسلامية في المشارق والمغارب هي من الأسباب الرئيسة التي أوغرت صدر القوى الإستعمارية الحاقدة على الإسلام, وجعلتها تعمل على تفتيت أرجائه وتمزيق وحدته, لأن تلك القوى لا تعرف مثل هذه الروابط والخصائص, فما يجمع بينها إنما هو المصلحة الجشعة والتطاول على الإسلام فحسب, أما العالم الإسلامي فقد كانت بقاعه المترامية الأطراف والجنبات الفسيحة «تعمرها أمة واحدة وتحكمها دولة واحدة وتخفق في أجوائها راية واحة وتسري في أوصالها عاطفة مشتركة, فكان المرء ـ حيثما طرحته النوى ـ يمشي بين ذوي رحمه وينتقل بين أقرانه وأحبابه (...) إن الوحدة الروحية والسياسية التي ربطت بين أسلافنا إلى سنوات معدودة حقيقية لاشك فيها, حتى جاء هذا الإستعمار الملعون فمزّقها شرَّ ممزَّق, وأهال عليها أكواماً من التراب ليخفي معالمها ويمحو صلاتها بالأذهان والأفئدة, ويخلق شعوباً متناكرةً متدابرةً لا يحفظ أحدهما للآخر نسباً ولا يرعى له ودَّاً.. إنها بضع وثلاثون دولة أو إقليماً, أو شعباً يكافح لنيل حريته, ففي أفريقية: مراكش وتونس والجزائر وتشاد وغانا وغينيا, ونيجيريا وأوغندا وصوماليا وايرتريا ـ والحبشة المسلمة ـ والسودان ومصر وليبيا.. وفي آسيا: اليمن والسعودية والكويت والعراق ولبنان وسوريا والأردن وفلسطين,‏وإيران وأفغانستان وباكستان ـ والهند المسلمة‏ـ واندونيسيا, والمحميات العشر وأوزبكستان وتركستان, ومسلمو القوقاز وسائر روسيا ومسلمو الصين وتركيا.. وفي أوروبا: ألبانيا ومسلمو يوغسلافيا وقبرص وسائر البلقان.. أي أَنَّ أكثر من ثلث المؤسسة المعروفة الآن بمؤسسة الأمم المتحدة يتكون من أجزاء الأمة الإسلامية التي قطع الإستعمار أوصالها وبعثرها على هذا النحو المؤسف وحظر عليها أن تتواصى بدين أو تتعارف على إيمان» (25) .

3) تحديد علاقة العرب بغيرهم من المسلمين.

يعتقد كلُّ علماء الإسلام المحقّقين بحقيقة كون الإسلام هو الذي رفع شأن العرب وعرف بهم أمم المعمورة, باصطفاء الله تعالى للنبيِّ الخاتم من بين ظهرانيهم,‏وتخليد لسانهم في كتابه المعجز الخالد, حتى غدا اللسان العربي جزءاً من الوحي وديناً مع الدين (26)  الذي لا يقبل الله سواه.. والشيخ الغزالي ممّن يرون هذا الرأي من علماء الأمة ومفكريها, ومّمن يؤمنون به أشدّ ما يكون الإيمان وأرسخه, وفي ذلك نراه يقول: «العرب ـ بالإسلام وحده ـ دخلوا التاريخ وعرفتهم القارات المعمورة, ولولا الإسلام ما جاوزوا جزيرتهم, ولَمَا كان لديهم شيء يقدّمونه للناس! ففضل الإسلام على العرب لا ينكره إلا أفّاك جريء. أما الرومان مثلاً فقد دخلوا النصرانية في القرن الرابع الميلادي, ماذا حدث لهم? لا جديد! كان حكمهم من قبلُ ومن بعدُ مكيناً وسلطانهم واسعاً, واعتنق اليونان النصرانية فما حدث لهم? كانوا أصحاب فلسفة مرموقة وفكر نابه مازادوا شيئاً بمعتقدهم الجديد! والعرب قبل محمد أو من غير محمد لا يزيدون عن قبائل أو شعوب تبحث عن رزقها فتجده بسهولة أو بصعوبة.. أما بعد بعثته فقد تبدلوا خلقاً‏آخر, لقد خرجوا من الظلمات إلى النور وأخرجوا الناس من الظلمات إلى النور (...) ومن الخير أن نعرف على عجل أن الإسلام هو طوق النجاة في هذا البحر اللجيّ وان الابتعاد عنه أخطر الطرق إلى الغرق.. كان الانتماء الإسلامي هو السياج الذي نجت به ثورة الجزائر من شتّى المؤامرات ونجحت به في الوصول إلى بر الأمان, ثم هو الآن وراء برامج التعريب التي تعمل حثيثة لتردَّ الأمة إلى لغتها وثقافتها وشخصيتها المتميّزة.. هذا الإنتماء قهر دواعي الفرقة واستبقى حرارة الإيمان وحدّد جبهة الأعداء وأرهب المنافقين والمتخاذلين فلم يفلح لهم كيد.. وإني لمشفق على ثورات أخرى أبعدت شارات الإسلام وطوت أعلامه, فلم تجن بعد السنين الطوال إلا فداحة المغارم وقلة الثمرات» (27) .

لكن حديث الشيخ الغزالي عن حقيقة فضل الإسلام على العرب وثقافتهم لا يعني بالمقابل غمط حق العرب, فهو من المفكرين الإسلاميين الذين صاغوا ما يصح أن يُطلق عليه نظرية في العلاقة الصحيحة بين العروبة والإسلام, إذ يرى الشيخ أنه لا يصلح لقيادة المسلمين إلا مَنْ أُشرب قلبه روح العربية وتفقّه في تراثها وخصائصها, وعلة ذلك عنده «أن الإسلام يقوم على دعامتين جليلتين هما: الكتاب الكريم والسنة المطهرة; والكتاب الكريم ـ كما رأينا ـ نزل بلغة العرب, والرسول عربي الحياة والتراث.. وما يفقه حقيقة الوحي ومنهج الرسالة إلا خبير بأدب العروبة راسخ القدم في بيانها, ذواقة لطبيعة البلاغة العربية, بصير بدلالات الكلام القريبة والبعيدة وبمعانيه الأصيلة والثانوية.. ولا نعني بالعروبة هنا الجنس, بل نعني اللسان, لا نعني النسب القريب أو البعيد ولا الدم النقي أو المختلط, بل نعني العرب جميعاً سواء فيهم الصريح الأصل أو المستعرب الذي كان ينتمي إلى أيّ جنس آخر في أي قارة من قارات الدنيا, فمادام قد انسلخ من جلدته الأولى, ودخل في هذه الأمة الجديدة مذيباً نفسه في كيانها, مندمجاً بأفكاره ومشاعره فيها فقد أصبح منها دون نكير ولا غرابة.. ونحن نرى أبا حنيفة فقيهاً عربياً وصلاح الدين قائداً عربياً وسيبويه والزمخشري والرازي علماءَ عرباً, والألوف المؤلفة من الرجال الذين خدموا الإسلام في شتى آفاق السياسة والثقافة والأدب والتشريع مهما كانت منابتهم الأولى هم عرب, لا يفترقون في قليل أو كثير عن العرب الأصلاء من بيت النبوة نفسه‏(...) ونحن العرب ما نعطي أنفسنا الحق في قيادة روحية أو سياسية لأحد من الناس إلا لأن الله اصطفى لغتنا للحق الذي أوحاه, وبعث منا النبي الذي ارتضاه, ويوم نفخر بأننا عرب وحسب, فإننا نسقط عن المكانة التي رُشِّحنا لها, ونعطي الآخرين الحق في الابتعاد عنا, ونخون بذلك الأمانة التي وكّلها الله إلينا.. إن مطالبتنا بحقّ العروبة في قيادة العالم الإسلامي كله وبحقّها في إرشاد الجنس البشري أجمع يعود إلى تلك المواريث المقدسة التي آلت إلينا, فخلدنا بها وسمت بسموها مكانتنا» (28) ; إن إدراك العرب لواجباتهم تجاه إخوان العقيدة والمصير والتقرب إلى ظروفهم وأوضاعهم هو ـ برأي الشيخ الغزالي ـ جزء من الإحساس المقدس إزاء مقتضيات رسالتهم وما ناطته بهم الأقدار العليا من تكاليف وأعباء; وكأن فهم الشيخ الغزالي هنا لهذه المعادلة يشترط لصياغة المعنى الصحيح للأخوة الإسلامية ـ والتي تُعتبر من المرتكزات الروحية والثقافية والسياسية بين المسلمين ـ أن توضع قضية العروبة في إطارها الحضاري السليم لتلافي أي حساسيات سلبية مؤثرة في وحدة الكيان الإسلامي, ولعل الشيخ الغزالي بهذا الفهم المتقدم قد استشف العبرة من بعض مراحل التاريخ الإسلامي, والتي منها ظهور الحركة الشعوبية في القديم, وبروز بعض الإتجاهات المنحرفة للقومية العربية في العصر الحديث, ومن هنا فإن الشيخ الغزالي ولتجنّب هذه المحاذير التي حدثت فعلاً في تاريخ الأمة وأساءت يقيناً‏لوحدتها الشعورية والفكرية يصرّح بأن القيام بهذا الواجب المقدس إنما هو عام ومعلّق بذمة الأمة كلها, حيث يقول في صيغة تساؤل احتجاجي: «أريد أن أسأل العرب ـ وهم أمتي الكبيرة وعشيرتي الأقربون ـ هل درسوا علاقتهم بالعالم الإسلامي خلال هذا القرن, أو خلال القرون الماضية? إن هذه الدراسة مطلوبة وإن الغفلة عن عبرها جريمة دينية وتاريخية ضخمة, إن هذه الدراسة ليست عمل الساسة والحكام, بل هي شغل الدعاة والفقهاء والأدباء, وتكاد تكون في هذا العصر فريضة كذلك على الاجتماعيين والاقتصاديين.. لقد أفزعني أن هناك نزعة مجنونة تشغل العرب بقضاياهم الخاصة وتصرفهم عن مشكلات العالم الإسلامي الواسع وتحبس التفكير والإهتمام فيما يمس المصلحة العربية وحدها, أما ما وراء ذلك فالاشتغال به من فضول البحث أو لغو الكلام, وظهرت هذه النزعة دميمة الوجه محقورة الفكر عندما أغارت الشيوعية على أفغانستان المسلمة, فإن دولاً وجماعاتٍ عربيةً رأت أن هذه الغارة لا تُقلق الضمير!! ولا ينبغي أن تشغلنا عن قضية فلسطين مثلاً.. الحق أن هذا الموقف يجعلني أميط اللثام عن خيانات فاجرة اقترفها عرب كثيرون ضد الإسلام وضد المنتمين إليه في شتى القارات فإن السكوت عن ذلك طعنة نافذة تصيب الإسلام في يومه وغده وتهدّد أمتنا الإسلامية الكبرى بأفدح التمزّق والخسران» (29) .

ويرى الشيخ الغزالي أن من واجبات العرب الحضارية إزاء إخوان العقيدة والمصير القيام بجهد خاص لخدمة لغة الوحي, لكن الشيخ الغزالي لا يعتقد بأن الإسلام جاء لتعريب الشعوب التي تعتنقه فهو رسالة هدايات عامة قبل كل شيء, غير أن القيام بواجب تيسير هذه الهدايات قد يتطلب شيئاً من المعرفة بالعربية, خاصة أنه ثبت بالتجربة أن اللغة العربية هي الوسيلة المثلى لاستيعاب الإسلام وفهمه فهماً صحيحاً, فالقرآن عربي والسنة عربية والفقه عربي.. يُضاف إلى ذلك أن اللغة العربية بما تحدثه من مؤثرات في الوجدان والفكر والتصور تُعتبر ـ من هذه الزاوية ـ من أهم عناصر التوحيد الثقافي بين المسلمين, فقد ثبت أن للحرف الذي تدوَّ به تأثيراً نفسياً وشعورياً عميقاً له صلة وثيقة بوحدة الناطقين بهذه اللغة من حيث ارتباطهم بتراث هذا الحرف ومخزونه الحضاري, فهو في كلِّ لغة يمثّل جزءاً من التراث الشعبي المشترك للمتكلمين باللغة, كما يمثّل جزءاً‏من شخصيتهم الحضارية وهُويَّتهم الثقافية وأمزجتهم النفسية; وعليه فإن ارتباط الإنسان بالحرف الذي تُكتب به لغته ارتباط قوي تمتد جذوره ومؤثراته إلى أعماقٍ نفسيةٍ بعيدة الغور; وبالنسبة للغة العربية فقد امتزجت بروح العقيدة الإسلامية والتراث الإسلامي إلى درجة يصعب معها الفصل الكامل بينهما, حتى أن أكثر من ثلاثين لغة في إفريقيا وحدها ـ وبتأثير من هذه العقيدة ـ قد كُتبت بالحرف العربي, منها لغة الهوسا والفلاني والسواحلية والصومالية والمورو والنوبية.. إلخ (30) , فمن المسلّمات القطعية التي هي من ثوابت الثقافة المشتركة بين المسلمين امتزاج الإسلام والوحي باللغة العربية, وعلة ذلك أن الطور الذي دخل فيه العرب باحتضانهم رسالة الإسلام قد أنشأهم خلقاً آخر, وأفضى بهم إلى ميلاد جديد, وأدخلهم التاريخ من أبواب شتى لا من باب واحد «ثم استحكمت الوشائج بين العرب والإسلام, فأصبح يُعرف بهم ويُعرفون به, لا يغض من ذلك أن بقية ضئيلة من العرب ظلوا على دياناتهم الأولى هوداً‏أو نصاراً, ثم اقترنت العروبة والإسلام من أمد بعيد في حضارة واحدة وتاريخ مشترك, وشعر العالم كله بهذا الرباط القوي الجامع, فهو إذا تصور الإسلام لايستطيع أن ينسى العرب الذين آمنوا به وطوّفوا أرجاء العالمين برسالته; وهو إذا تصور العروبة لا يستطيع أن ينسى الدين الذي أعلى شأنها وخلّد أدبها وجمع من شتاتها دولة قدمت للإنسانية أزكى المثل وأرجح القيم, إن الإسلام لا ينفكُّ عن العروبة أبداً, ذلك أنَّ القرآن الكريم قد اختارت الأقدار له لغةً معينةً ينزل بها وتكون وعاءً لهداياته وهي العربية» (31) ; وهكذا فإن تحديد علاقة العرب بغيرهم من أبناء الأمة الإسلامية الكبيرة وفق هذه الصياغة التي يقدمها الشيخ الغزالي ـ وهي صياغة مستنبطة من مفاهيم الوحي وتصورات النصوص المعصومة ـ تضحي أكثر من ضرورة لبناء وتأسيس المنظومة الحضارية المتكاملة للوحدة بين المسلمين على أسس ومرتكزات فاعلة قوية وبعيدة عن شتى الحساسيات السياسية والمذهبية التي أساءت تاريخياً لهذه الرابطة.

4) العمل بمبدأ التقريب المذهبي وتجميد الخلافات.

يصل الغضب بالشيخ الغزالي مبلغه وهو يحلّل ويناقش الموافق المتباينة للثقافة الإسلامية من مسألة الخلاف الفقهي والمذهبي عند المسلمين, لكنّ الشيخ مع ذلك يقدم رؤيةً في الموضوع بالغة الأهمية خاصة في صلتها بأركان الفقه الحضاري وفلسفة الوحدة والتوحيد والتضامن بين المسلمين; إن مذاهب الفقه الإسلامي ـ كما يرى الشيخ الغزالي ـ بالرغم من أنها وُضعت أساساً لغرض التيسير على المكلّفين وإدراك مراد الله تعالى بسهولة من أفعالهم, وفهم بعض المقاصد والحِكم من التكاليف, بيد أن الكثير من العقول الكليلة والنفوس المعتلّة استطاعت تحويل هذا الموضوع عن مجراه الطبيعي ونهجه العتيد محدثةً بذلك جانباً من الإنحراف بالطبيعة والخصائص التجميعية للثقافة الإسلامية, وذلك بتصوّرها المغلوط وفهمها للرأي الفقهي على أساس أنه وجهة نظر الدين الوحيدة والأخيرة, والتشبث بهذا المنظور كان له آثاره وعواقبه الوخيمة على وحدة المسلمين الفكرية والثقافية; فكلمة مذهب ـ برأي الشيخ الغزالي ـ لا تعني إلا وجهة نظر فقيه ما في فهم النص السماوي.. ووجهة النظر هذه ـ من ثمَّة ـ لا عصمة لها ولا قداسة لأنها محاولة تفكير بشري لفهم الوحي الإلهي أو النص المعصوم.. فالتعويل من جهة الأصل على الوحي والكرامة في الإنتماء إليه والتلقي عنه وحده (32) .

فالشيخ الغزالي ينظر إلى الخلاف الفقهي من زاوية أنه تباين طبيعي في وجهات النظر اقتضته طبيعة العلاقة بين العقل والنقل فضلاً‏عن بقية العوامل الموضوعية الأخرى كالدلالات الظنية للنص ووجود كلمات في العربية تفيد الشيء وضده والتقديرات المتباينة بين الفقهاء في شروط الإستدلال بأحاديث الآحاد.. إلخ وعليه فإن هذا الخلاف قد يكون مصدر ثراء فكري وتشريعي يدعم رصيد العقل الإسلامي العلمي والمعرفي, إذا كان ناشئاً عن تجرد وإخلاص وروح اجتهادية مبدعة بعيداً عن أمراض القلوب وعلل النفوس وأهواء الدنيا; ووفق هذا التشخيص الفكري لهذه القضية فإن الخلاف الفقهي يستحيل أن يكون معصية, وإنما يكون معصية إذا كانت بواعثه مضادة للطبيعة الموضوعية التي أوجدته في الواقع, وقد سارع الشيخ الغزالي إلى التصريح بذلك بعد تحقيقه العلمي في خلفيات هذه المسألة, وعلاقتها ـ خاصة في حالة مؤثراتها السلبية ـ بالإطار العام للوحدة الفكرية بين المسلمين, حيث نجده يقول بأسلوب العالم والمفكر الحريص على وحدة أمته الداخلية وانسجام الطبيعة الفكرية فيها مع الغايات البعيدة لرسالة الأمة: «لقد لاحظت ـ واستغفر ربي وأستعيذ به ـ أن عدداً من قادة الثقافة ورجال السياسة, مبتلون بهذا السرطان, وأن عبادة الذات والتقوقع في مطامعها يسيطران عليهم.. ويشاركهم في هذا البلاء أذناب يطنون حول مآربهم ومجالسهم طنين الذباب.. أمراض القلوب لا الخلاف الفقهي أخطر شيء على الدنيا والدين معاً, ما الخلاف الفقهي? إنه كالخلاف بين المحافظين والعمال في انجلترا, أو كالخلاف بين الجمهوريين والديمقراطيين في أميركا.. هؤلاء الناس متفقون على الأصول الرئيسية والأهداف العامة, وربما تفاوتت أنظارهم في الترتيبات الداخلية لنظام البيت.. أما في أمتنا فقد رأيت الرعاع يبنون العلالي على هذا الخلاف ويخرجون منه بنتائج مدمرة, لنفرض أن رجلاً يتبع أبا حنيفة ولا يتبع ابن حزم أو بالعكس, ما علاقة هذا بالقرب من الله أو البعد عنه? وما صلة هذا بالفسوق أو التقوى? هذا خلاف يُحكم فيه بالخطأ أو الصواب, إنه خلاف عقلي في نطاق محدد, ومن السفه ربطه بحقيقة الدين أو وحدة الأمة.. فلو تصورت أَنَّ مخالفاً‏لابن حزم ـ أيام سلطانه ـ وَشَى به إلى الصليبيين كي يبطشوا به, فأنا أعدّ الواشي مرتداً, أو هو من سلالة أبي لؤلؤة أو ابن ملجم.. ومثله في الزيغ مَنْ يفضّلون أن تَحكم أفغانستان الشيوعية ولا يحكمها أبو حنيفة أو مَنْ يسوون بين الشيوعيين والأحناف.. ويوجد متدينون في عصرنا ينحدرون إلى هذا الدرك من الغباء أو الحقد, وقد آذوا الله ورسوله بهذا الفكر الوضيع, وذاك سر حملتي عليهم وضيقي بهم.. إن الخلاف الفقهي في ديننا ـ إذا استوفى شرائطه العلمية والخلقية ـ لا يُسمَّى معصيةً أبداً, بل كلّ مجتهد مأجور بإجماع الأمة.. والذين يتذرعون بالخلاف في الفروع للغمز واللمز والتمزيق والتفريق جديرون بالتأديب.. ولا أصدق أن رجلاً مؤمناً استجمع الأخلاق الربانية يسف إلى هذا المستوى (...) وقد أدرت ظهري لمتدينين قصروا ثيابهم وتمنوا الموت الزؤام لمن يخالفهم في أن لحم الجزور ينقض الوضوء, وأن شهادة المرأة لا تُقبل في الحدود والقصاص.. إلخ; من الأخلاق الربانية والإنسانية بنيت الأمة الإسلامية, والبناء باق ما بقيت هذه الأخلاق, فإذا وهت تصدّع الصرح كلُّه وتعرض للضياع» (33) .

فمنظور الشيخ الغزالي الفكري إذن ـ الذي يرى بأن الحصيلة العلمية لمذاهب الفقه الإسلامي إنما هي زاد معرفي وثروة فكرية وتشريعية وتنظيمية تمنح العقل المسلم إذا ما أحسن التعامل مع معطياتها وزخمها الأخاذ والمتنوع في النظر المتدفق والإبداع المتوهج, صفة الحركية الدائمة والتفاعل المعطاء والقدرة على الاستيعاب والهضم والتجاوز والتجدد المتوالي ـ لا يسمح على الإطلاق أن يقود الخلاف الفقهي إلى مثلبة فصم عرى الوحدة الثقافية والعاطفية بين المسلمين, ومن هذا المنطلق فقد رأينا الشيخ الغزالي يحمل بشدة على ظاهرة التقليد بمعناها السلبي المسيء لوشائج القربى الروحية والشعورية بين المسلمين, لأنه يريد حصر الآراء والاجتهادات الفقهية في مجال دائرتها الطبيعية وفضاءاتها العلمية والمنهجية, إذ إنه ممن يرون أن «للرأي الفقهي مكانته العلمية, ولمن شاء أن يأخذ به وأن يدعو إليه غيره, ونحن قد نؤثر رأياً على رأي لأن اقتناعنا بهذا أكثر من اقتناعنا بذاك أو لأن هذا الرأي أدنى إلى تحقيق المصلحة العامة وأرفق بعباد الله, والشيء الذي نرفضه ويرفضه جمهور العقلاء أن يحسب أحد الناس أن رأيه دين وأن ما عداه ليس بدين, وأن يجمد على ما عنده جموداً قد يضر بالإسلام كله ويصدع وحدته (...) وقد قرأت ورأيت من أمراض التعصب المذهبي ما يثير الاشمئزاز ويدعو إلى الدهشة, وكأن الذين خاضوا هذه المعارك الجدلية يقصدون قصداً إلى تمزيق المسلمين وإهانة معارضيهم في الفكر بعلل مختلفة» (34) .

وسعياً لجعل قضية التقارب المذهبي وتجميد الخلافات التاريخية والفقهية من بنود مرتكزات الوحدة الفكرية والثقافية بين أبناء أمتنا الإسلامية الكبيرة, فقد اجتهد الشيخ الغزالي وقدم رؤية في الموضوع نحسب أنها موضع احترام وتقدير كل المذاهب والاتجاهات الإسلامية, وقد شملت هذه الرؤية العلاقة بين السنة والشيعة وشتى مدارس ومشارب الفقه الإسلامي, ومن الأغراض والمقاصد التي تهدف إليها هذه الرؤية تجفيف مواطن الخلف بين المسلمين خاصة بعد أن أوهن الزمن دواعيها وتجميد بعضها الآخر الذي لا يزال يبعث على الجدل, لفسح هذا الأفق أمام جهود تجميع هذه الأمة وتكتلها كي تستكمل شروط مجابهتها للتحديات الضخمة والخطيرة التي تتهدّد كل مقوماتها بما في ذلك وجودها ذاته, ولعلَّ ما يدعم هذه الرؤية أكثر أن قوى الإستكبار العالمي بات يستفزّها بعنف أمر استرجاع الشعوب الإسلامية لهُويّتها التاريخية والفكرية وتناغمها مع مقوّمات وخصائص شخصيتها الحضارية ذات المضمون الإسلامي; لهذه الأسباب جاء جهاد الشيخ الغزالي على هذا الصعيد مفعماً بالتوتر والإشفاق على حاضر ومستقبل هذه الأمة, وكان من أشد الأمور تأثيراً في نفسه وأنكرها إلى قلبه وضميره «افتعال الأسباب لتفريق الكلمة وتمزيق الأمة.. ربما اختلفت وجهات النظر في قضية ما وانشعب الناس حولها مذاهب.. لكن حيث لا تختلف الأفهام ولا تتعدد الأنظار كيف يستبيح بعض الناس لأنفسهم أن يخلقوا الفرقة خلقاً وأن يُقحموها على الواقع إقحاماً, لا لشيء إلا لرؤية الناس أحزاباً متناحرة وطوائف متدابرة. إنني آسف لأن بعض مَنْ يُرسلون الكلام على عواهنه, لا بل بعض من يسوقون التهم جزافاً‏غير مبالين بعواقبها دخلوا في ميدان الفكر الإسلامي بهذه الأخلاق المعلولة فأساءوا إلى الإسلام وأمته شر إساءة.. سمعت واحداً من هؤلاء يقول في مجلس علم: إن للشيعة قرآناً آخر يزيد وينقص عن قرآننا المعروف, فقلت له: أين هذا القرآن? إن العالم الإسلامي الذي امتدّت رقعته في ثلاث قارات ظل من بعثة محمد (ص) إلى يومنا هذا بعد أن سلخ من عمر الزمن أربعة عشر قرناً لا يعرف إلا مصحفاً واحداً مضبوط والنهاية معدود السور والآيات والألفاظ, فأين هذا القرآن الآخر?! ولماذا لم يطّلع الإنس والجن على نسخة منه خلال هذا الدهر الطويل? لماذا يُساق هذا الإفتراء?! ولحساب مَنْ تُفتعل هذه الإشاعات وتُلقى بين الأغرار ليسوء ظنُّهم بإخوانهم وقد يسوء ظنهم بكتابهم, إن المصحف واحد يُطبع في القاهرة فيقدّسه الشيعة في النجف أو في طهران ويتداولون نسخة بين أيديهم وفي بيوتهم دون أن يخطر ببالهم شيء بتّة إلا توقير الكتاب ومنزّله ـ جلّ شأنه ـ ومبلّغه‏(ص), فَلِمَ الكذب على الناس وعلى الوحي? ومن هؤلاء الأفاكين من روّج أنَّ الشيعة أتباع علي, وأن السنيين أتباع محمد, وأنَّ الشيعة يرون علياً أحق برسالة محمد (ص), ويرون شرف علي في انتمائه إلى هذا الرسول وفي استمساكه بسنته, وهم كسائر المسلمين لا يرون بشراً في الأولين والآخرين أعظم من الصادق الأمين ولا أحق منه بالإتباع, فكيف ينسب لهم هذا الهذر? الواقع أن الذين يرغبون في تقسيم الأمة طوائف متعادية لمّا لم يجدوا لهذا التقسيم سبباً‏معقولاً لجأوا إلى افتعال أسباب الفرقة, فاتّسع لهم ميدان الكذب حين ضاق ميدان الصدق.. لست أنفي أن هناك خلافات فقهية ونظرية بين الشيعة والسنة, بعضها قريب الغور وبعضها بعيد الغور, بيد أن هذه الخلافات لاتستلزم معشار الجفاء الذي وقع بين الفريقين, وقد نشب خلاف فقهي ونظري بين مذاهب السنة نفسها بل بين أتباع المذهب الواحد منها, ومع ذلك فقد حال العقلاء دون تحوّل هذا الخلاف إلى خصام بارد أو ساخن.. وكان خيراً للشيعة أن يفهموا أن أهل السنة يُضمرون أعمق الود لأهل البيت وينفرون أشد النفرة مما يسوءهم, وكان خيراً للسنيين أن يفهموا أن الشيعة يلزمون أنفسهم سنن صاحب هذه الرسالة ويعدّون الانحراف عنه زيغاً, أما ما وقع من اختلاف فقهي أو نظري فلا يعدو أن يكون وجهات نظر لها مصادرها العلمية ونية أصحابها إلى الله وهم ـ أصابوا أم أخطأوا ـ مثابون مأجورون (...) ليكن هناك خطأ حقيقي وقع فيه هذا أو ذاك فهو خطأ لا أقبل الإعتراف به, فلماذا لا يُترك البتّ في هذه الأمور للزمان المتطاول يحلّ المشكلات الفقهية والنظرية بدل أن تُحلّ في معارك الجدل الذي يفقد فيه المجادلون ضمائرهم وصفاءها, أو تُحلّ في معارك القتال الذي تنحل فيه عروة الإيمان ويزأر فيه صوت الشيطان.. إن الخلاف الفقهي أو النظري في كثير من الأمور ليس خبزاً نتناوله كلَّ يوم, والقضايا التي دار فيها هذا النزاع يمكن للمسلمين إطّراحها جانباً ونسيانها أمداً يشتغلون خلاله بالبناء لا بالهدم, بالعمل لله في المحاريب المخبتة أو في الميادين المنتجة, أما شغل الناس حتماً بخلافات لها أصل ـ وما أقلها ـ أو بخلافات مفتعلة ـ وما أكثرها ـ فليس من الدّين في قليل ولا كثير, والذين يحرصون على ذلك ليسوا من الله في شيء» (35) .

وعلى الرغم من أن الشيخ الغزالي وهو يعالج قضية التقريب المذهبي في المنظومة الإسلامية الفقهية والنظرية, يذكر بعض الأحداث والمعطيات الدولية, غير أنّ مَنْ يمعن النظر بعمق في فكره يجد أن طرحه لمسألة إعادة ترتيب المكوّنات الرئيسة لأنساق الفكر والثقافة عند المسلمين وجعلها خادمة في سيرورتها وتطوّراتها وتجدّداتها لوحدة المسلمين وتكتّلهم وعزّتهم, من ثوابت وخصائص مشروع الشيخ الغزالي الفكري, وعليه فإن المعطيات الدولية وإن لم يتغافل عنها الشيخ, لا تمثل منطلقاتٍ او بواعث مركزية لمواقفه واجتهاداته في مجال التقريب المذهبي وضرورة السعي وبذل الجهد لردم أسباب الفتنة بين المسلمين في مظانّها التاريخية ـ حسب منظور الشيخ ـ فنحن نراه يبلغ درجة متقدمة من التفاعل مع هذا الموضوع والتجاوب مع مدلولاته فيقول: «منذ ربع قرن عرفت قضية التقريب بين المذاهب الإسلامية ونصرتها بقلبي وعقلي جميعاً وقلت: إن اليهود والنصارى طووا مسافة الخلف بينهم وتجمّعوا علينا, واغتصبوا أرض فلسطين, وهم الآن يعدون لجعل المسجد الأقصى هيكل سليمان, ومحو شارات الإسلام في تلك الأرضين كلها.. هل الخلاف بين أهل السنة والشيعة أعظم من الخلاف بين اليهود والنصارى? هل يتعاون هؤلاء وأولئك في الهجوم علينا ونفشل نحن في الدفاع عن أنفسنا والتساند لرد المعتدين? من أجل ذلك أيدت قضية التقريب واقترحت لها أسساً‏فقهيةً وعلميةً, وما فهمت ولا فهم غيري من رجال الشيعة أن التقريب تذويب للفوارق المذهبية وإدماج لهذا في ذاك! إنه تجميد لأسباب الفتنة القديمة وحبس لآثارها في الماضي البعيد, وتعاون فيما اتفق عليه وتلطف فيما اختلف فيه, وجعل موازين الأمور تقع بين أهل الذكر من الخاصة ونزعها من أيدي العيّابين والشتّامين من الدهماء.. والتقريب اعتبار بأحداث التاريخ وتعرّف على ما أصاب الأمة كلّها من مدّ وجزر وتجنّب لأسباب الهزيمة والزيغ.. إن ساسة اليهود لمّا غاظهم تجمّع الأوس والخزرج في ظلّ الأخوّة الإسلامية أرسلوا إليهم من ينشدأشعاراً تضمنت أخبار المعارك القديمة والخصومات الغابرة فكادوا يُشعلون الحرب بين الفريقين لولا تدخّل رسول الله (ص), وقد عجبت لما رأيت الأستاذ الشرقاوي (36)  يقصُّ أخبار الفتنة الكبرى على نحو يحرّك الحزازات ويهيج جمهور أهل السنة! لقد جعل العشرة المبشّرين بالجنة مبّشرين بالنار ما عدا علي بن أبي طالب!» (37) ; وقد لاحظ الشيخ الغزالي بهذا الصدد حجم المآسي التي يخلّفها سرطان الاختلاف في واقع المسلمين ويعطي مثلاً‏على ذلك بالمسلمين الهنود, فهم بعد معاناة أليمة نجحوا في تكوين دولة باكستان إلا أن القضايا المذهبية والخلافات التافهة التي لا معنى لها بدّدت قواهم وأضعفت هذا الكيان من الداخل منذ البدايات الأولى لميلاده, وقد قرأ الشيخ الغزالي ما كتبه بعض الفقهاء في عصره عن مآسي الخلافات الفقهية والمذهبية, ومنهم الشيخ عبد الجليل عيسى خاصة كتابه (ما لا يجوز الخلاف فيه بين المسلمين) وتأثر بما قرأ فانتبه إلى كون الخلاف بين الأحزاب في الدول الغربية لا يفضي إلى مثل النتائج المرّة والظواهر المريبة التي يتركها الخلاف المذهبي بين المسلمين, فالخلاف بين تلك الأحزاب في الغرب قد يكون حول نظام الجمارك أو نظام المقابر أو نظام تأمين المرافق الكبرى أو بعض جزئيات نظام الحكم, أما الثوابت عندهم فهي ليست موضع مساومة أو نقاش فولاء الجميع لها واحد وغيرتهم عليها متكافئة, بينما كان يجب أن تكون هذه الصورة من ثمرات الطبيعة الفطرية للخلاف المذهبي في الفقه الإسلامي, لأن الآراء والفهوم في هذا الفقه هي فروع فحسب معتكزة على أصول (38) , ومن ثمّة فقد استخلص الشيخ الغزالي أن أكثر مساحات الخلاف بين المسلمين تسبّبت في بروزها الأهواء والعلل الدفينة, لأن الخلاف العلمي وتباين وجهات النظر العقلي بتجرّد ـ برأيه ـ لا يصح أن تثير «الحفائظ إلا لدى الرّعاع! ولعلّه يكون متنفساً لمآرب وأهواء عند مَن لا يتّقون الله. أما العلماء الكبار فلهم شآن أخر, ألا ترى مالكاً رضي الله عنه يرفض عرض الخليفة (39)  أن يجمع الناس على كتابه الموطأ لماذا? لأن لدى الناس علماً آخر قد يؤثرونه على موطئه فلا يجوز حملهم بالقسر.. لو كان رجل آخر دون مالك لفرح بتجميع الناس على رأيه أو على روايته, ولكنَّ مالكاً هو مالك.. أما في هذه الأيام العجاف فقد رأيت حرائق تندلع إثر خلافات مُستصغرة, ورأيت دين الله يتّسع لوجهات نظر لها وزنها المتقارب ولكنّ دنيا الناس تضيق بما وسعه دين الله, إن الفقه مظلوم عندما نحمله اشتجار الآراء واحتدام العصبيات وتجريح الرجال, لعلَّ المسؤول قلة الفقه, أو لعلَّ المسؤول ضعف التربية الخلقية والآداب النفسية فمتى نبرأ من هذه العلل?» (40) .

إن جهود وتأملات الشيخ الغزالي في هذا المجال لا تتوقف عند حد التشخيص المجرّد بل تذهب أيضاً في منحى محاولة تلمس الحلول الناجعة للإشكالات القائمة أو العالقة تاريخياً لهذه المسألة, من منطلقات إيمانه بضرورة دعم وخدمة المرتكزات الأساسية للوحدة الفكرية والثقافية بين المسلمين والتي تمثّل ‏ـ من وجهة نظره ـ الرصيد الحقيقي والطاقة الأكثر قوة وفعّالية وصلابة في وجه الرجّات والهزّات المرعبة التي تتهدّد الكيان الإسلامي وحاضر المسلمين بوسائل مختلفة ومتفاوتة بين التشكيك في الذات وإضعاف عوامل الولاء والإنتماء لتلك الأسس والمقومّات المشتركة, أو البطش والسطو بالعنف, ويذهب الشيخ الغزالي إلى أن الأخطاء التاريخية السابقة التي ارتكبها المسلمون وكان لها تأثير سلبي على وحدة جماعتهم وانسجام صفهم لا يجوز أن تستمر أو أن يبقى لها أثر في واقعهم الراهن, ولاحظ أن الصليبيين حين دخلوا الأندلس فإنهم لم ينشروا سوى الكثلكة, بينما حين دخل المسلمون الشرق الأوسط فإن طوائفهم ومذاهبهم ما تزال إلى اليوم تكوِّن (عصبة أمم)!! وإذا كان الشيخ يعزو ذلك إلى طبيعة الإسلام العجيبة في السماحة ونبذ التعصّب, فإنه لا يستسيغ بحال تحويل هذه الروح وهذه الطبيعة إلى فتوق وثغرات تأذن للخيانات والإنحرافات أن تنال من وحدة الجماعة المسلمة وتهدّد وجودها أو تبعثر العقابيل والعوائق في طريقها (41)  ومن ثمّة فإن الشيخ الغزالي يضع هذه المبادئ في صورة مقترحات قد تدفع إلى طريق التصالح والإخاء والتناصر بين الفريقين (42) :

أـ يتفق الفريقان في مؤتمر جامع على أن القرآن الكريم هو كتاب الإسلام المصون الخالد, والمصدر الأول للتشريع وأن الله حفظه من الزيادة والنقص وكلّ أنواع التحريف, وأن ما يُتلى الآن هو ما كان يتلوه النبي (ص) على أصحابه, وأنه ليس هناك في تاريخ الإسلام كله غير هذا المصحف الشريف.

ب‏ـ السنة هي المصدر الثاني بعد القرآن الكريم, والرسول أسوة لأتباعه إلى قيام الساعة, والإختلاف في ثبوت سنة ما أو عدم ثبوتها مسألة فرعية.

جـ‏ـ ما وقع من خلاف بين القرن الأول يُدرس في إطار البحث العلمي والعبرة التاريخية, ولا يُسمح بامتداده إلى حاضر المسلمين ومستقبلهم, بل يُجمّد من الناحية العلمية تجميداً تامّاً ويُترك حسابه إلى الله وفق الآية الكريمة: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانْوا يَعْمَلُونَ} (43) .

دـ يواجه المسلمون جميعاً‏مستقبلهم على أساس من دعم الأصول المشتركة, وهي كثيرة جداً وعلى مرونة وتسامح في شتى الفروع الفقهية ووجهات النظر المذهبية الأخرى.

ثم نرى الشيخ الغزالي يصرّح بأن له إخوة وأصدقاء من الشيعة يعزّهم ويحبّهم, ويعترف بأن الذي أضرى أو قوّى الخلافات بين الفريقين مطالب الحكم وبعض المنازع السياسية, وزاد الطين بلّة الافتراء والبهتان والإشاعة; ومن أجل جمع الأمة على الصراط المستقيم فإن الشيخ يلفت الأنظار بأسلوب احتجاجي واضح إلى الأهواء والأوهام التي لا تزال حتى الآن «تملآ الجو بين الشيعة وجماعة المسلمين لا يسيغ العقلاء بقاءها.. ولو وُضع كلُّ شيء في حجمه الطبيعي وأُغلقت الأفواه التي تستمرئ الوقيعة والإفك لتلاشت أنواع من الفرقة لا مساغ لوجودها. وإني إذ أُرسل هذه الكلمات إلى إخواني في كلّ قطر, أستشعر الخطر الذي يكتنف المسلمين هنا أو هناك, وكثافة القوى التي تتجمّع في هذه الأيام للإجهاز عليهم واستئصال شأفتهم; لقد اتّفقت أحزاب أهل الكتاب وأحزاب الوثنية وأحزاب الماديين جميعاً على استئصال شأفتنا فإلى متى نتفرّق? لماذا يتباعد أتباع المذاهب الفرعية? لماذا تُجترُّ خلافات بين السلف وتُمنح القدرة على الحياة والأذى?» (44)  وفي موضع آخر من كتاباته في هذا الموضوع يستمر الشيخ في طرح تساؤلاته التي تتضمّن مقترحات عملية «لماذا لا يُدرَّسُ في الأزهر فقه الزيدية مثلاً مع فقه المذاهب الأربعة? لماذا لا تُوضع أمام الطلاب في الصفوف العليا أو الدنيا صورة صادقة لتفكير الإمامية في الأصول والفروع والسنن المختلفة? (...) فنحن كبعض الأسر التي يرث الأحفاد فيها تراث الأجداد فتُكَلَّفُ الأجيالُ الجديدة أن تُخاصِمَ ـ دون وعي أو عدالة ـ من لم يسئ إليها قط; لتكن الخطوة الأولى من جانب الأزهر, وأنا موقن أنه إذا مدَّ يده للشيعة فإن أكثر عوامل الوقيعة سوف تذوب من تلقاء نفسها كما تذوب كتل الجليد تحت أشعة الشمس» (45) ; وممّا لاحظه الشيخ الغزالي أيضاً‏في هذا السياق وكان له أثره في نفسه أن المسلم الآن في لبنان يكتب على وثائقه أنه (سني) أو (شيعي)!!! وعلى هذا الأساس الغريب عُدَّ النصارى في هذا البلد أكبر الطوائف, وكان لابد أن يكون رئيس الدولة منهم‏ـ وكذلك الوظائف الحساسة ـ مع أن المسلمين أكبر عدداً وأربى نسبةً, بيد أنهم وفق هذا الاعتبار العجيب طائفتان متناكرتان تفصل بينهما المسافة ذاتها التي تفصل عادة بين أتباع دينيْن مختلفيْن (46) , وفي سبيل وضع حد لهذه المشكلة فإن الشيخ الغزالي يعتقد بأن الإتفاق على إطار للوحدة يتيح فرصة وإمكانية مناقشة كلّ وجهات النظر المطروحة هو السبيل الأرشد, لأن مأتى الخطر ليس في اختلاف الأفهام والتأويلات ولكنه في رد هذا الإطار الجامع أو نبذ وتجاهل المقوّمات الموحّدة فيقول: «وعندي لو أن أهل السنة والشيعة والخوارج ضمّهم مجلس نواب واحد, على أنهم أبناء دين واحد ثم تضاربوا ـ في حمى الخلاف ـ بالكراسي كما يفعل الذين يستحمقون أحياناً. لكانوا أدنى إلى الإسلام من تلاقيهم في الميدان بالسيوف, وتوريثهم الأجيال ـ بعدُ‏ـ خصومات وثارات لا عقل لها ولا إيمان» (47) ; وفي معرض دفاع واستمساك الشيخ الغزالي بهذا الإطار الجامع نراه يقتطف هذه الكلمات من الشيخ محمد تقي القمي ـ وهو أحد رموز التقارب المذهبي,‏وقد زار القاهرة في منتصف هذا القرن الميلادي وتعاون مع بعض العلماء والفقهاء على مبدأ التقريب, منهم حسن البنا ومحمود شلتوت والشيخ الغزالي ـ «لو أن التعارف بين المسلمين تمّ على أساس توحيد الثقافة بما في ذلك تيسير التبادل الثقافي وتأليف كتب عن كلّ طائفة لإعطاء صورة صحيحة عنها وتعليم اللغات الإسلامية في الجامعات وترجمة الآثار والرجال لعرف المسلمون أنفسهم وعلموا قوتهم ومقدرتهم وأنهم مسلمون قبل كل شيء, مسلمون في كتابتهم وتآليفهم, مسلمون في قصصهم وأشعارهم.. لابد أن يلتقي المسلمون بعضهم بالبعض الآخر, وهل يُنكر أحد أن خير اللقاء هو اللقاء عند الثقافة البعيدة عن كل تعصّب أعمى? (...) وإذا كان هذا شأن الآداب لدى المسلمين, فأسهل منه شأن الفقه وعلوم الدين وتراث العلماء كلّهم من أي مذهب من المذاهب الإسلامية, فقد استمدوا علومهم من الكتاب والسنة ومن اللغة العربية التي هي لغة الدين, وبما أن المصدر واحد واللغة واحدة, فإن أقل تبادل ثقافي يكفي لأن تحترم كلّ طائفة ما عند الأخرى» (48) ; ويمكن لنا هنا تسجيل أنه من العسير جداً فصل تفكير الشيخ الغزالي في قضايا التقريب المذهبي ومحاولة بلورة رؤية منهجية لتوحيد المسلمين, عن تأثّره الواضح في ذلك بفكر الإمام حسن البنا, فهو يذكر في مقدمة كتابه (دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين) أن صاحب موضوع هذا الكتاب وملهمة هو مجدّد القرن الرابع عشر الهجري الإمام حسن البنا (49)  ومن ثمّة فإننا نراه يقتبس من الأصول العشرين لهذا الإمام ما يخدم هذه الغاية العظمى, ومن ذلك قوله في الأصل السادس:‏(كل أحد يُؤخذ من كلامه ويُترك إلا المعصوم (ص), وكل ما جاء عن السلف رضوان الله عليهم موافقاً للكتاب والسنة قبلناه وإلا فكتاب الله وسنة رسوله أولى بالإتباع, ولكننا لا نعرض للأشخاص فيما اختلفوا فيه بطعن أو تجريح, ونكلهم إلى نيّاتهم وقد أفضوا إلى ما قدموا) وقوله في الأصل الثامن: (الخلاف الفقهي في الفروع لا يكون سبباً في التفرّق في الدين, ولا يؤدي إلى خصومة أو بغضاء, ولكلّ مجتهد أجره, ولا مانع من التحقيق العلمي النزيه في مسائل الخلاف في ظل الحب في الله والتعاون على الوصول إلى الحقيقة من غير أن يجر ذلك إلى المراء المذموم أو التعصب) (50) ; ويصل الشيخ الغزالي في تحليله إلى ثمرة جوهرية وهي أن التنوّع في الرأي والخلاف المذهبي إنما شرفه الأوحد في انتمائه إلى الله ورسوله, فإذا حدث أن وهت هذه الصلة الكريمة, وأصبح الاستمداد والإهتداء بغير الكتاب والسنة, فإن حصيلة ذلك لا تعدو كونها سواداً في بياض, بل ستكون وقتئذ كورق النقد الذي لا رصيد له (51)  أي أنه لاقيمة لرأي أو نظر ـ برأي الشيخ الغزالي ـ إذا كان لايستمدّ في منطلقاته العامة من مرجعية وحدة التصور والتلقي عند المسلمين وهو النبع الخالد المعصوم.

5) مراجعة تراث الأمة الفكري.

يلح الشيخ الغزالي في الكثير من مواطن كتاباته الثرّة على ضرورة صياغته فكر إسلامي نقدي تُوكل إليه مهمّة مراجعة تراث العقل المسلم الفكري والمعرفي, على أساس تنقيته نهائياً من الإسرائيليات والنصرانيات والخرافات والشوائب التي تمّ وضعها في أحشائه خلال بعض المراحل والأعصار بهدف تشتيت هذه الأمة من الداخل وتمزيق وحدتها وإغراقها في بحر مظلم متلاطم الموج من الوهن والخيبة والتخلّف, حيث يقول: «لا أزال ألحُّ على مراجعة تفكيرنا الديني وأساليب حكمنا على الأشياء والأشخاص. لقد سقطت الخلافة العثمانية.. وانفرط عقد الأمة الكبيرة على الصعيد العالمي وكانت خسائر (الرجل المريض) قد تلاحقت قبل وفاته ثم تقاسم الأقوياء تركته, وأمست الأمة الإسلامية بلا أُبوّة روحية ولا ثقافية ولا سياسية, فهل وقفت الأمة اليتيمة وقفة تأمل واعتبار فيما أصابها? وهل تساءل العقلاء عن أسرار نكبتها? كم كتاباً أُلف في تشريح العوج السياسي والقصور العلمي والإنهيار اللغوي الذي عرا هذه الأمة? كم كتاباً أُلف في طبيعة التركيب الجنسي والخلافات العرقية التي كانت تكوِّن الدولة الغاربة? كم كتاباً أُلف في تطوّر العلاقات الدولية مع جمود الفقه عندنا, أو في تطوّر النهضات الإنسانية مع عكوفنا على الصور والأشكال الجوفاء? بِمَ شُغِلْنَا? وبماذا نشتغل الآن? إن مراجعة تفكيرنا الديني ضرورة ماسة, ولا أعني بتاتاً رجوعاً عن أصل قائم أو فرع ثابت فهذا والعياذ بالله ارتداد مقبوح.. هناك فرق بين الرجوع والمراجعة, إنني أعني بالمراجعة الحساب العقلي الشديد على مواقفنا من أنفسنا وديننا وماذا فعلنا وماذا تركنا وماذا قدّمنا وماذا أخّرنا?.. وكل محاولة للنهوض ـ دون هذه المراجعة الواجبة ـ قد تكون تكراراً للمأساة, وهذه المراجعة سهلة مادمنا ننطلق من قواعد معصومة أساسها الكتاب والسنة, على أنه لابد من إبعاد العقول الملتاثة عن علم الكتاب والسنة, ولابد من تنقية منابعنا الثقافية حتى تَروُجَ أقوالُ الأئمةِ والعباقرةِ وأهلِ الفكر, وتستخفى أقوال المعلولين وأذناب السلطات وأشباه العوام» (52) ; إن عملية المراجعة المطلوبة كما يُفهم من تفكير الشيخ الغزالي لا تعني مجرّد القيام بجهد علمي يستهدف غربلة تراث هذه الأمة من الأوضار والشوائب التي تسربت للكثير من مظانه أثناء بعض مراحل الغفلة والإنحطاط, أو خلال منعطفات استقالة العقل المسلم عن الإسهام المبدع والحركة الخلاقة, وإنما تعني إلى جانب ذلك كيفية وأسلوب إيجاد منهج يحسن استغلال توظيف الخصائص الحية الفاعلة في هذا التراث باتجاه توحيد الأمة والتمكّن الصحيح من وضع مجمل قواها وطاقاتها ـ بعيداً عن أي استنزاف داخلي قد تنبعث دواعيه وتتقوّى أسبابه جرّاء الاشتغال بالخلافات الموروثة وسفاسف الأمور ـ في بؤرة خدمة إقلاعها الحضاري واستنهاضها الحقيقي النابع من خصوصياتها الذاتية, والمواكب في الوقت نفسه لشروط المرحلة ومتطلّبات العصر ومقتضيات التغيّر الإنساني والزماني والمكاني; ويظهر لي في غمرة هذا التحليل «أن الأمر كله اليوم متوقّف على مدى فعالية ما يُبذل من جهد في هذا الاتجاه, وكذلك على مدى الإحساس الثقافي والنفسي بخطورة التفتيت والتجزئة.. أما العالم الإسلامي كمجموع فلابد أن يدرك أنه إن لم ينتهج طريق الوحدة والتكتّل فإنه سيستمر في التآكل والتفتت» (53) ; فإذا تمّ الربط على هذا النحو بين مشروع مراجعة المنتوج الفكري والثقافي وبين مطمح وهدف رصِّ صفوف الأمة وتجميع أجنحتها حول كيانها العتيد, فإن تقديرنا لاريب واحتفاءنا بهذه المراجعة سيتضاعف, ولعل إدراك الشيخ الغزالي لأبعاد هذه المعادلة وأثرها في رهانات نهضة أمتنا وإمكانات تخطّيها عقابيلَ ومشكلاتِ واقعها المعاصر, جعله يستصرخ الهمم وأولي الغيرة والمقدرة والبصيرة من أجل تأسيس (جهاز) فكري للمسلمين يحسب أرباح الأمة وخسائرها مع سير القرون وإطّراد الزمان, ويشخّص العلل, ويقوم برصد التجارب ومواطن النجاح والتألق في كل مكان, سعياً لعلالج الخلل الداخلي وسدّ الثغرات الطارئة (54)  بل جعله يعتقد في جزم بأن العالم الإسلامي الآن «أشبه ما يكون بشخص أُصيب بفقدان الذاكرة, فهو لا يدري شيئاً‏عن ماضيه الرائع.. (...) إن هناك مئات الكتب في التفسير والحديث والفقه والأدب والتاريخ مخلوطة بسموم ناقعة وخرافات سمجة, تتداولها ألوف الأيدي ويقرؤها من يعي ومن لا يعي.. أَمَا كان هناك (جهاز) غيور حصيف يتتبّع هذه الأباطيل بالمحو, فإن لم يستطع إزالتها من مواضعها وضع الف علامة حمراء للتحذير منها والتنبيه إلى دخلها وفسادها? لقد كثرت هذه الكتب السفيهة الزائغة حتى غلبت الثقافة الدينية الصحيحة, فلا عجب إذا وجدنا الأجيال المتأخرة من المسلمين خلال القرون الأخيرة ـ أعني مئات السنين ـ يسيرون متعثّرين لا تشدّهم وجهة ولا تدفعهم قوة, لأن الثقافة التي صنعتهم لا تنتج إلا نفوساً‏خاملةً وعقولاً شائهةً» (55) ; إن تتبّع أثر الوضع في الثقافة الإسلامية بالإزالة والتعليق والرد وتنقية تراث هذه الثقافة من شتّى ضروب الإختلافات, هو في رأي الشيخ الغزالي من المرتكزات المهمّة لخدمة التماسك الوجداني والعاطفي بين المسلمين, لأن تلك العناصر الغريبة والزوائد الدخيلة إنما تمّ وضعها لغرض تفريق الأمة الإسلامية بتكسير الدعامات الحقيقية لوحدتها وتدويخ العقل الإسلامي, فأقرب حل إذن لهذه المشكلة يتمثل في وضع منهجية مضادة لهذه الحركة, مهمتها الأولى رصد كل مواطن ومنافذ اخترافات مظان وحصائل الثقافة الإسلامية ومعالجة كلّ قضية بالطريقة والأسلوب المناسب لها, إمّا بالإزالة وإمّا بالردّ المباشر وإمّا بالتعليق وإمّا بالتّحذير منها.. إلخ, غير أن الشيخ الغزالي وإن كان يشدد على هذا الأمر فهو يعتقد بضرورة المراجعة الشاملة, وهو ما يقتضي القراءة النقدية الواعية لماضي هذه الأمة, إذ لابد ـ برأيه ـ «من نقدٍ عليمٍ بريءٍ للطريقة التي سار بها العالم الإسلامي من قرون خلت في المعترك العالمي ومحاكمة لهذه الطريقة من الناحيتين العلمية والعملية دون تهيّب للساسة أو للعوام. فإن الحق أكبر من هؤلاء وأولئك ووجه الله أبقى على كل حال.. لقد مرّت بالإسلام أربعة عشر قرناً حافلةً بالشدّة والرّخاء والإنتصارات والهزائم, وهو الآن بعد هذا التاريخ الطويل يواجه أياماً حاسمةً, فإما أجتازها ومضى مسدّد الخطو نبيل المقصد, يهب للدنيا رشدها وخيرها, وإما انتكس به أهله وخانوا أمانته, فكانت الأخرى لا قدّر الله, وفي مثل هذه الأيام العصيبة نهيب مرة ثالثة بأولي الألباب أن يهتموا بدور الثقافة في إبراء الأكمه والأبرص» (56) ; ومن جهة أخرى فإن عملية إخضاع تراث هذه الأمة الفكري للقراءة النقدية الفاحصة وتنقية مظانّها ومصادرها الكبرى من الزوائد والأوضار الدخيلة ينبغي أن يتصدّى لها متخصّصون مخلصون في الإنتماء الحضاري لهذه الأمة وهُوِيّة فكرها وثقافتها; ويُعتبر الشيخ الغزالي من أوائل المفكرين الإسلاميين في هذا القرن الذين تنادوا بهذه الدعوة في نطاق الحركة الشاملة للإحياء الثقافي, وجعل الوحدة بين المسلمين من الأهداف الرئيسة الثابتة لمسار الثقافة الإسلامية في أيّ مرحلة من مراحل حركتنا الزمنية, ويظهر أن هذه الدعوة باتت مطلباً ملحاً في نتاج العقل الإسلامي المعاصر الثقافي والمعرفي واهتماماته ذات الأولوية البالغة, وإذا كان التراث هو أحد أهم جوانب هذه الحركة, فإن البعض يؤكّد بأن عملية تيسيره وتقريبه للأجيال المعاصرة ليست سهلة ـ خاصة في هذه المرحلة ـ «فإنّ احتمال التحريف المتعمّد للقيم التراثية يُعتبر من أبرز الأخطار التي اقترنت بما تمّ في هذا المجال, بسبب الغزو الثقافي الذي تعرضت له أرض الحضارة الإسلامية, والذي أدى إلى إحلال قيم ثقافية جديدة تتصّل بالحضارة الغربية ولا ترتكز إطلاقاً‏على جذورنا الثقافية. إن التيسير المطلوب والتوطئة المقصودة تحتاج إلى أقلام تؤمن بعقيدة الأمة الإسلامية, وتقرّ بجدوى تجديد روح الأمة وقيمها بالإرتكاز على جذورها الحضارية والثقافية, ومن دون ذلك لن يكون التيسير إلا تشويهاً منظّماً وتخريباً‏مقصوداً, ولن يثمر في تعميق الوحدة الثقافية للأمة بل سيزيد الفصام ويقوّي التشتّت والإحساس بالضياع وفقدان الهوية» (57) .

6) صياغة منهج معرفي جديد لفهم التاريخ الإسلامي.

من الثّابت أن المؤرخين المسلمين قد ركّزوا على تدوين التاريخ السياسي على حساب تاريخ العلم والفكر والإجتماع الإسلامي, فكان لابدّ أن تكون الثقافة التاريخية السائدة بين الأجيال الإسلامية المختلفة عامل افتراق وتشتّت وإيغار للصدّور والنفوس, عوض أن تكون ركيزة وحدة ومناصرة وتأييد, وذلك بسبب ما ساد هذا الجانب من تاريخنا من هنات وانحرافات وأخطاء غريبة تماماً عن طبيعة الإسلام; من هنا رأينا الشيخ الغزالي في الكثير من مواطن كتاباته يدعو لإيجاد منهج معرفي إسلامي جديد يجعل من خلفية الثقافة التاريخية لمنحنيات وقائع التاريخ الإسلامي وفصول أحداثه ومنعطفاته المختلفة, سنداً ثقافياً‏ومعرفياً يُسهم مع غيره من المرتكزات والدّعامات في خدمة وتقوية النسيج العاطفي والثقافي المشترك بين جميع أبناء الولاء والإنتماء الإسلامي; لذلك فهو يؤمن بأنَّ «كُلَّ معنيّ بتجديد الإسلام.. لابد أن يديم النظر في ماضيه الطويل وهو يمتدّ مع الزمان والمكان. لقد بدأت هذه الرسالة مسيرها من أربعة عشر قرناً, وجعل مدها العريض يشتمل أقطاراً‏فيحاء وأجناساً مختلفة.. وتنقل بها الليل والنهار, فالأسلاف يولون والأخلاف يعقبونهم في الإيمان بها والدفاع عنها (...) هذا التاريخ الطويل كيف يُنسى? وعِبره الغائرة الدفينة كيف لا تُستخرج وتُدرس ويُنتفع بها? إن الرجل الذي لا يعي تجاربه الخاصة, ويتعلم منها كيف يجتنب المزالق ويتّقي الخصوم رجل قصير النظر ضعيف الإيمان.. والأمة الإسلامية التي سلخت من عمرها المديد هذه القرون وخرجت بثروة هائلة من الأحداث الجسام والوقعات العظام, يجب أن تضع أمام عينيها الدروس التي تلقتها خلال هذه الآماد, حتى لا تقع في ذات الحفر التي وقعت فيها من قبل أو تلدغ من الجحر القديم نفسه» (58) .

إن طبيعة السيرورة التاريخية لحركة المبادرة والفعل في التاريخ الإسلامي وانعكاساتها العميقة من جهة تأثيرها على محدّدات الولاء للإسلام والإخلاص لمرجعيته الحضارية, هي التي أملت هذه الرؤية على الشيخ الغزالي, وهو مفّكر شغوف بقراءة التاريخ الإسلامي, لكنها قراءةٌ متمليةٌ ناقدةٌ, قراءةُ مراجعةٍ راصدةٍ واعتبار هادف بانٍ, لذلك فنحن نجده في خضمّ دعوته لإعادة كتابة التاريخ الإسلامي, قد لاحظ أن الطريقة السردية غير المنضبطة برؤية منهجية واضحة إزاء عملية البناء الاجتماعي الإسلامي ومسؤولية الوفاء بواجبات الاستخلاف والشهود الحضاري, وهي الطريقة التي دُوِّن بها هذا التاريخ, لا تخدم الأهداف التربوية والسياسية للشخصية الإسلامية, لأن السرد في هذه الطريقة غير معني سوى بتدوين اللحظة الآنية من الفعل التاريخي دون أيّ اعتبار بالعوامل والدوافع المستخفية التي أنتجت ذلك الفعل, وبالتالي دون اهتمام أو تقدير للتأثيرات السلبية كتوقّعات مستقبلية, فإن العديد من الوقائع التاريخية قد لا يكون لها تأثيرات سلبية في اللّحظة الراهنة, أو يكون لها تأثيرات محدودة الضّرر في منعطف ما.. قد تكون لها تأثيرات حاسمة أو قاتلة في مرحلة أخرى; كما لفت انتباه الشيخ الغزالي نقص التاريخ الإسلامي من حيث الكمّ, فإن التاريخ المدون والذي يدرس جلّه أو معظمه عن منطقة الشرق الأوسط, والمسلمون يشكّلون خمس العالم تقريباً, فالمعروف أن شعوباً‏وأجناساً‏كثيرةً قد أسلمت إلى جانب العرب كالفرس والترك والأكراد والهنود والزنوج وأجيال من الصين والمغول وأندونيسيا وماليزيا وجماعات غفيرة وأقليات أخرى في القارات الخمس, فأين التاريخ الإسلامي لهذه الشعوب والأقليات ومن أين يمكن للدارس الوقوف على معرفة أسباب وظروف اعتناق هؤلاء للإسلام إلى جانب إحصاء الخدمات المختلفة التي قدّمتها هذه الأجناس للحضارة الإسلامية? من هذه المنطلقات ونحوها يقتنع الشيخ الغزالي بمشروعية البواعث التي تُحتّم إعادة تدوين التاريخ الإسلامي من البدايات وإلى غاية القرن الخامس عشر الهجري; بيد أن هذا الخلل العلمي والمنهجي في منظور الشيخ الغزالي وإن كان متولّداً عن أسباب داخلية أساساً, فالعامل الخارجي أيضاً له حضوره, فإن الغارة على العالم الإسلامي وموجات الغزو الفكري والثقافي المتلاحقة ساهمت في عدم تحقيق هذا الجهد والاتجاه بمنحاه صوب الغايات المنشودة والتطلّعات المأمولة (59) , والذي نلاحظه هنا أنَّ تحليل الشيخ الغزالي الذي يقترب من حيث الإهتمام بدراسة بواعث الفعل التاريخي من منهج فلسفة التاريخ, له مايدعمه من واقع السيرورة التاريخية والحضارية للأمة الإسلامية, ودونما حاجة للإلتجاء لأي اسقاطات أو معايير خارج نمط هذه السيرورة فإن «الأمة الإسلامية لم يتكوّن تاريخها بعد أن صارت أُمَّةً تحمل صفة الإسلامية إلا بمجيء الإسلام وانتظامه لشعوبها ضمن إطاره العقيدي والحضاري, لهذا فإن أي تفسير لتاريخها يستبعد الدين بوصفه منهجاً للتفسير أو إطاراً حاوياً لها محكوم عليه بالقصور الفاحش والفشل الذريع» (60) ; لكن الحاجة القصوى لهذا المنهج عند الشيخ الغزالي لا تبرّرها أو تدفع إليها مقتضيات الدراسة النظرية فحسب, وإنما الأولى والأهم من ذلك عنده هو كيفية تحقيق الاستفادة العملية من وراء هذا المنهج بتطويع الثقافة التاريخية لخدمة ودعم وتنمية الأواصر والوشائج العاطفية والفكرية المشتركة بين المسلمين, وهكذا يضحي تركيز الشيخ على الدعوة لهذا المنهج وكذلك اهتمامه بمشروع إعادة كتابة التاريخ الإسلامي وحملته النقدية اللاذعة لمختلف الانحرافات الفكرية والنفسية والسلوكية وأفعال حركة تاريخ المسلمين لها معناها العملي وتفسيرها المليء بدلالات رعاية المصلحة الإسلامية, فالمنهج الذي يدعو إليه الشيخ الغزالي في هذا الصعيد ينبغي أن يصل حاضر هذه الأمة بماضيها وأن يستديم رسالتها ويرعى خصائصها وفي مقدمة تلك الخصائص تحقيق مبدأ الوحدة الثقافية والعاطفية وما يتفرّع عنه من قيم المناصرة والأخوة والولاء (61) .

* ثالثاً: ملاحظات واستنتاجات.

إن ما يمكن ملاحظته أو استنتاجه من التّحليل والتّشخيص والمتابعة لعناصر مرتكزات الوحدة الثقافية بين المسلمين في فكر الشيخ الغزالي ما يأتي:

1) أن الشيخ الغزالي يجعل من المرتكزات الثقافية للأمة الإسلامية قاعدةً خلفيةً تضمن استمرار تماسك البنى الجوهرية للكيان الإسلامي, ودليل ذلك عنده أن المجتمع الإسلامي ظلّ صامداً مؤديّاً رسالته إبّان المنعطفات الحرجة والعصيبة التي تهاوت فيها الوحدة السياسية المتمثّلة في الخلافة أو بعض الأنظمة السياسية; أي أنَّ الجهود العلمية والفكرية والتربوية هي التي حفظت الإسلام ومجتمعاته من المخاطر والمهالك المرصودة (62) .

2) يسعى تفكير الشيخ الغزالي إلى تجاوز عقبة «الشعارية» إزاء المقوّمات الثقافية للأمة, فإن النّظر إلى هذه المقوّمات من زاوية كونها شعاراً‏لا مكونات لحقيقة موضوعية قائمة, قد أضر كثيراً بهذه المسألة الحساسة بما لذلك من انعكاسات سلبية فادحة على مستقبل العلاقات بين المسلمين, ويمكن تصوّر مدى وحجم المخاطر المتوقّعة من دحرجة الاهتمام بهذه المقوّمات من بؤرة الشعور الإسلامي إلى حاشية هذا الشعور أو إلى خارجه.

3) على العرب واجب الاقتراب من تفهّم ظروف إخوانهم في العقيدة والهُويّة الفكرية والحضارية المشتركة, وهذا يقتضي منهم الاجتهاد في فهم وتعلّم لغاتهم الأصلية ومحاولة وضع برامج علمية لتعليمهم اللغة العربية.. فتلك هي السبيل لمتابعة همومهم والاستماع إليهم وتفعيل مواقعهم وأدوارهم داخل الكيان الإسلامي.

4) إن حديث الشيخ الغزالي عن المرتكزات الثقافية للوحدة بين المسلمين جاء في سياق سنني, أي أن تخلّف المسلمين ماهو إلا جانب من صورة تفريط المسلمين في هذه المرتكزات والمقومات وعدم إحلالها في الواقع العملي مكانها اللائق بها, لأن هذه المرتكزات هي بمثابة الأعصاب المنسابة داخل الكيان الإسلامي, فهي تُظهر ملامح شخصيته المعنوية بقدر ما تجعل أجزاءه متماسكة وجنباته متراصة.

5) ينبغي على المسلمين كافة والعلماء والدعاة خاصة الاهتمام الفاعل بخدمة الدعوة الإسلامية وتطوير وسائلها وأدواتها بما في ذلك رعاية الأقليات المسلمة في كل مكان, وعدم التفريط ولو في مسلم واحد,‏فقد تأكّد أن هذه الدعوة أحد أقوى عوامل الوحدة العاطفية والشّعورية بين المسلمين.

6) ضرورة العناية المستمرّة بالثقافة الذاتية في أيّ مجتمع إسلامي وتفعيل مكانتها ودورها في عملية الاستنهاض الفكري والاجتماعي, والعمل على التمكّن من صياغة منهج إسلامي لإعادة كتابة التاريخ الإسلامي وجعل الثقافة التاريخية في خدمة المصالح العليا للأمة, وصون مبدأ التناصر والتعاون في المتّفق عليه, والتسامح أو العذر والتجاوز بالنسبة لما هو مواطن اختلاف.

7) إن ما يُفهم من الجهود العلميّة والفكريّة التي قدّمها الشيخ الغزالي في هذا المجال, أنه يدعو إلى الإلتزام بتقنين المرتكزات الثقافية للأمة, ودعمها بضمانات مشتركة ثابتة من خلال ميثاق شرف يتعهّد الجميع بإنفاذه بحماس وإخلاص.

8) يؤمن الشيخ الغزالي بأن الفقه الإسلامي ثروة عقلية وتشريعية ليس لها نظير في الإبداعات العقلية والتنظيرية للحضارات الأخرى, وأنَّ من واجب كلّ المسلمين توقير واحترام هؤلاء الفقهاء المبدعين, غير أن التقليد والجمود على مذهب واحد لا يخدم الوحدة الثقافية للمسلمين, والأصوب هو الاستفادة من هذه الثروة الاجتهادية البديعة وتطويع ثمراتها لمواجهة التحديات وحلّ مشكلات العصر (63) .

9) ضرورة تقيّد الفكر الإسلامي المعاصر بمرجعية التصوّر والتلقي المجمع عليها بين المسلمين, مع إيجاد منهج للإنتفاع بالوقائع والتجارب الإنسانية عن طريق التبنّي والإستنباط والإستلهام على ضوء هذه المرجعية وإبداع منهجية عملية تضع هذه الحصائل والنتائج في خدمة المقوّمات الثقافية للأمة المحدِّدة لقسمات شخصيتها الفكرية وهُوِيّتها الحضارية.

10) إن فكر الشيخ الغزالي فكر تجميعي وحدوي فاعل, ولاشكَّ أن ذلك من نضح (64)  القرآن في روحه وعقله وحسه, فالتوحيد الخالص الرائق هو عمق شخصيته, ممّا جعل تفكيره ترجمةً متماهيةً مع هذا العمق, بالإضافة لفقهه المتميّز لمقاصد الإسلام واستفادته من رموز الاجتهاد والإصلاح المحدثين والمعاصرين كالشيخ محمد عبده ومحمد رشيد رضا وحسن البنا وعبد الله دراز ومحمد المدني ومحمد تقي القمي ومحمد أبو زهرة.. وغيرهم من الأعلام والمجدّدين الذين خدموا الإسلام وأمته وحضارته, وتركوا بصماتهم على صفحات تراثه العلمي والفكري والثقافي والمعرفي والإنساني.

 

* أستاذ مساعد, جامعة الشيخ العربي التبسي ـ تبسة/ الجزائر

الهوامش:

(1) مالك بن نبي, مشكلة الثقافة (دمشق: دار الفكر, 1984م), ص77.

(2) محمد الغزالي, هذا ديننا (ط2; القاهرة: دار الكتب الحديثة, 1385هـ/1965م), ص195.

(3) محمد الغزالي, نظرات في القرآن (باتنة/ الجزائر: دار الشهاب, 1986م), ص14ـ16.

(4) للشيخ عدة مؤلفات وجهود تتعلق بالقرآن وعلومه ودراساته وهي: (نظرات في القرآن) و(المحاور الخمسة في القرآن) و(كيف نتعامل مع القرآن) و(نحو تفسير موضوعي) فضلاً‏عن المحاضرات العديدة والدروس المختلفة التي قدمها في هذا الموضوع, والمقالات والخواطر المتعلقة بهذا الشأن والتي أودعها بعض مؤلفاته الأخرى.

(5) سورة النحل آية: 44.

(6) سورة النساء آية: 105.

(7) محمد الغزالي, هذا ديننا (مصدر سابق), ص198.

(8) محمد الغزالي, ليس من الإسلام (ط6, القاهرة: مكتبة وهبة, 1411هـ/1991م), ص38ـ39.

(9) لا يُعتبر الشيخ الغزالي من علماء الحديث بالمعنى الفني أو الإصطلاحي, لكن لكونه مفكراً‏وداعيةً وعالماً إسلامياً, فهو من أكثر المهتمين بهذا المجال, وله الكثير من الآراء والكتابات حول السنة ومناهجها, ومنها كتبه: السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث, وفن الذكر والدعاء عند خاتم الأنبياء, وخلق المسلم, ومن كنوز السنة, بالإضافة إلى العديد من المقالات المتناثرة في بعض كتبه, منها خاصة: تراثنا الفكري في ميزان الشرع والعقل,‏وهموم داعية, وليس من الإسلام, ومستقبل الإسلام خارج أرضه, ودستور الوحدة الثقافية بين المسلمين وفقه السيرة, وكيف نفهم الإسلام.

(10) المقصود بالمذهبية الإسلامية هنا «فكريّة» الإسلام أي رؤيته الكلّية للإنسان والكون والحياة والخالق العظيم (سبب الوجود).. وهي أيضاً‏منطق الإسلام ومنهجه العام المستمد من أصوله وقواعده ومظانه المعصومة [للوقوف على شرح مسهب لهذا المصطلح يمكن مراجعة كتاب الدكتور محسن عبدالحميد المذهبية الإسلامية والتغيير الحضاري, هو الكتاب السادس من سلسلة كتاب مجلة الأمة القطرية].

(11) المصدر السابق نفسه, ص146ـ147.

(12) محمود شلتوت, الإسلام عقيدة وشريعة (ط10, القاهرة وبيروت: دار الشروق, 1400هـ/1980م), ص543.

(13) محمد الغزالي, هذا ديننا (مصدر سابق), ص204ـ205.

(14) سورة النساء آية: 59.

(15) التماهي هنا بمعنى التقارب أو الإنسجام.. وأصلها من اليسر والليونة والرفق, أقول: مَهِهْتُ: أي لِنْتُ; وَمَّهَ الإِبِلَ: رَفِقَ بِها, وسَيْرٌ مَهَةٌ: رَفِيقٌ; والمَهْيُ: إرخاء الحبل ونحوه.. أقول: أمهيتُ الفرسَ: أي أرخيْت له من عِنَانِهِ... [للكلمة اشتقاقات كثيرة, يمكن مراجعة مادة «مَهَةٌ» في لسان العرب لابن منظور رحمه الله].

(16) محمد الغزالي, مشكلات في طريق الحياة الإسلامية, (سلسلة كتاب الأمة رقم 1), (قسنطينة: دار البعث, 1402هـ), ص44ـ45.

(17) محمد الغزالي, علل وأدوية (ط2; باتنة (الجزائر): دار الشهاب للطباعة والنشر, 1986م), ص168ـ169.

(18) أقصد بالتجليات المذهبية والحضارية في هذا السياق عطاءات الفكر الإسلامي وثمار الحضارة المسلمة العامرة بالإيمان والعدل, ولاشك ان الثقافة الذاتية لها دورها الحاسم في استبقاع انتفاع الأمة بزخم هذه العطاءات والثمار.. بل إنه لإبقاء لهُويّة أُمتنا الحضارية دون هذه الثقافة!

(19) محسن عبدالحميد, المذهبية الإسلامية والتغيير الحضاري (سلسلة كتاب الأمة رقم 6), (ط2; بيروت: مؤسسة الرسالة, 1405هـ/1985م), ص41.

(20) سورة آل عمران آية: 110.

(21) محمد الغزالي, علل وأدوية (مصدر سابق) ص203ـ204.

(22) المصدر نفسه, ص204.

(23) يستخدم الشيخ الغزالي أحياناً‏مصطلح المجتمع العربي بدل المجتمع الإسلامي, ولعل علة ذلك عنده غلبة اللسان العربي على حركة الحضارة الإسلامية إبان عصور وأطوار ازدهارها.

(24) محمد الغزالي, حقيقة القومية العربية (القاهرة: مكتبة دار العروبة, د.ت), ص111ـ112ـ113.

(25) محمد الغزالي, مع الله (القاهرة: المكتبة الإسلامية, ط5, 1401هـ/1981م), ص282ـ283.

(26) توجد كثير من الآثار والمرويات تشير إلى تلازم الإسلام واللغة العربية وفضل الوحي الخاتم على العربية, فقد كتب علي بن ابي طالب إلى أبي موسى الأشعري يقول: «أما بعد فتفقهوا في السنة وتفقهوا في العربية وأعربوا القرآن فإنه عربي, وتعلموا العربية فإنها من دينكم».. وقال ابن تيمية: «إن اللسان العربي شعار الإسلام وأهله, واعلم أن اعتياد اللغة يؤثر في العقل والخلق والدين تأثيراً قويّاً بينا, وإن اللغة العربية من الدين ومعرفتها فرض واجب, فإن فهم الكتاب والسنة فرض ولا يُفهم إلا بالعربية, وما لا يتمّ الواجب إلا به فهو واجب..».. إلخ.. إلخ.

(27) محمد الغزالي, مستقبل الإسلام خارج أرضه (الطبعة الجزائرية الأولى: الجزائر: دار الكتب, 1987م), ص94ـ95ـ98.

(28) محمد الغزالي, حقيقة القومية العربية (مصدر سابق), ص14ـ15ـ16.

(29) محمد الغزالي, علل وأدوية (مصدر سابق), ص224.

(30) يوسف الخليفة أبو بكر «الحرف العربي واللغات الإفريقية» مجلة رسالة الجهاد الليبية, مالطا (ديسمبر 1990م) العدد: 954, ص50ـ51.

(31) محمد الغزالي, حقيقة القومية العربية (مصدر سابق), ص9ـ10.

(32) محمد الغزالي, دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين (الطبعة الجزائرية الأولى: الجزائر: دار الكتب, 1408هـ/1988م), ص63.

(33) محمد الغزالي, تراثنا الفكري في ميزان الشرع والعقل (هيرندن: أمريكا: المعهد العالمي للفكر الإسلامي, ط2, 1412هـ/1991م), ص97ـ98ـ100.

(34) محمد الغزالي, دستور الوحدة الثقافية (مصدر سابق), ص107.

(35) محمد الغزالي, دفاع عن العقيدة والشريعة ضد مطاعن المستشرقين (القاهرة: دار نهضة مصر, ط5, 1996م), ص207ـ209.

(36) هو الكاتب الراحل عبد الرحمن الشرقاوي صاحب كتاب (محمد رسول الحرية), وكتاب (علي إمام المتقين) الذي نشرته جريدة الأهرام في حلقات مسلسلة, وقد رد الشيخ الغزالي على هذه الحلقات في محاضرة بجامعة قطر بعنوان: (الأمانة في نقل التراث) ثم ضمّنها كتابه (علل وأدوية).

(37) محمد الغزالي, علل وأدوية (مصدر سابق), ص263ـ274.

(38) محمد الغزالي, دستور الوحدة الثقافية (مصدر سابق), ص107ـ114.

(39) هو الخليفة العباسي: (أبو جعفر المنصور).. وقيل هو: هارون الرشيد.

(40) محمد الغزالي, الحق المر (باتنة/ الجزائر: دار الشهاب, 1987م) الجزء الأول, ص91.

(41) محمد الغزالي, دستور الوحدة الثقافية (مصدر سابق), ص158.

(42) المصدر نفسه, ص159ـ160= والفريقان هنا ـ كما هو واضح من سياق الحديث‏ـ أهل السنّة والشيّعة.

(43) سورة البقرة آية: 134.

(44) المصدر السابق نفسه, ص159ـ160.

(45) محمد الغزالي, ظلام من الغرب (باتنة/ الجزائر: دار الشهاب, 1986م) ص252= للوقوف على آراء الشيخ الغزالي في هذا الموضوع ينظر مؤلفاته الآتية: كيف نفهم الإسلام فصل (وحدة الجماعة الإسلامية), ودستور الوحدة الثقافية فصل (المذاهب الفقهية وسلطات الدولة), وفصل (الخلافات الفقهية الموروثة قيمتها وأثرها), وظلام من الغرب فصل (نحو وحدة إسلامية كريمة), ودفاع عن العقيدة والشريعة فصل (الفرق), وفصل (حول الوحدة الإسلامية), ومستقبل الإسلام خارج أرضه فصل (خطوات نحو توثيق الإخاء وتصحيح الانتماء).. إلخ.

(46) المصدر السابق نفسه, ص259.

(47) محمد الغزالي, دفاع عن العقيدة والشريعة (مصدر سابق), ص169.

(48) محمد الغزالي, ظلام من الغرب (مصدر سابق), ص273.

(49) محمد الغزالي, دستور الوحدة الثقافية (مصدر سابق), ص7.

(50) المصدر نفسه ص160ـ161= ولزيادة التوسع في ذلك تراجع رسالة التعاليم, مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا (باتنة/ الجزائر: دار الشهاب, د.ت) ص353ـ370.

(51) المصدر نفسه, ص145.

(52) محمد الغزالي, علل وأدوية (مصدر سابق), ص217ـ218.

(53) إبراهيم نويري «خواطر في الوحدة الإسلامية» مجلة الحرس الوطني, السعودية, العدد (132) (صفر 1414هـ/ أغسطس 1993م), ص30.

(54) محمد الغزالي, ركائز الإيمان بين العقل والقلب (ط, الجزائرية الأولى, الجزائر: مكتبة رحاب, 1408هـ/1988م), ص8.

(55) المصدر نفسه والصفحة نفسها.

(56) المصدر نفسه, ص9ـ10.

(57) أكرم ضياء العمري, التراث والمعاصرة (سلسلة كتاب الأمة رقم 10) (الدوحة: رئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية, بدولة قطر, ط1, 1405هـ/1985م), ص36ـ37.

(58) محمد الغزالي, معركة المصحف في العالم الإسلامي (الطبعة الجزائرية الأولى, الجزائر: مكتبة رحاب, د.ت) ص146ـ147.

(59) محمد الغزالي, تراثنا الفكري في ميزان الشرع والعقل (مصدر سابق), ص105ـ106.

(60) محمد مراح «الدين وفلسفة التاريخ» مجلة الحرس الوطني السعودية, العدد (161) (شعبان 1416هـ/يناير 1996م), ص66ـ67.

(61) محمد الغزالي, هموم داعية (باتنة/ الجزائر: دار الشهاب, د.ت), ص16.

(62) محمد الغزالي, دستور الوحدة الثقافية (مصدر سابق); ص262.

(63) يرى الشيخ الغزالي أن المتاجرة بالخلاف خيانة عظمى لما في ذلك من مخاطر على وحدة المسلمين (مشكلات في طريق الحياة الإسلامية)‏ـ (مصدر سابق)‏ـ ص118ـ141.

(64) النضح: هو الأثر, وأصله لغةً من الرَشِّ, قال الأصمعي: نضحتُ عليه الماء نضحاً.. وأصابه نضحٌ من كذا.. ورُوي عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنّه عَدَّ عَشْرَ خِلالٍ من السُنّة وذكر فيها الانتضاح بالماء (للإستزادة يمكن مراجعة مادة (نضح) في لسان العرب لابن منظور رحمه الله).  

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة