تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

العلم بين التاريخ والفلسفة والدين

مصطفى محمد العدوي

تحاول الكتب المراجعة ا لإجابة عن أسئلة غاية في الأهمية، مثل:

ما هو العلم؟ كيف نشأ وتطور؟ ماهو هدف العلم؟ وماهي آلياته وقوانينه؟ ما علاقته مع كل من التاريخ والفلسفة والدين؟ ولماذا يظهر في مجتمع ويخبو في مجتمع آخر؟ هل تلعب العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية دوراً في ذلك؟ ولماذا كان العلم منذ خمسة قرون خبت في ذروة تطوره في البلدان الإسلامية والصين، ثم انحدر بشكل مريع،‏لتحمل أوروبا والغرب مشعلة،‏وتنطلق به قدماً ..؟

تساؤلات عديدة، وأفكار عميقة،‏تصدت لها الكتب التالية:

1ـ العلم في منظور الجديد. روبرت م. أغروس وجورج ن. ستاتسيون‏ـ ترجمة: د. كمال خلايلي،‏سلسلة عالم المعرفة ـ‏الكويت،‏رقم 134، شباط (فبراير) 1989م، 224ص.
2ـ العلم والمشتغلون بالبحث العلمي. د. جون ب. ديكنسون، ترجمة شعبة الترجمة باليونسكو، سلسلة عالم المعرفة ـ الكويت، رقم 112، نيسان (أبريل) 1987، 360ص.
3ـ التنبؤ العلمي ومستقبل الإنسان. د. عبد المحسن صالح، الطبعة الثانية، سلسلة عالم المعرفة ـ الكويت، رقم 48، كانون الأول (ديسمبر) 1984، 280ص.
4ـ عندما تغير العالم. جيمس بيرك، ترجمة. ليلى الجبالي، م. شوقي جلال، عالم المعرفة ـ الكويت رقم 185،أيار (مايو) 1994، 464ص.
5ـ بنية الثورات العلمية. توماس كون، ترجمة: شوقي جلال، عالم المعرفة ـ‏الكويت ـ رقم 168، كانون أول (ديسمبر) 1992م، 382ص.
6ـ ظاهرة العلم الحديث (دراسة تحليلية وتاريخية). د. عبد الله العمر،‏عالم المعرفة ـ الكويت ـ رقم 69، أيلول (سبتمبر) 1983م، 296ص.
7ـ فجر العلم الحديث (الإسلام ـ‏الصين ـ العرب). توبي أ. هاف، ترجمة: د. أحمد صبحي، عالم المعرفة، ج1 وج2 ـ الكويت رقم 219 ـ 220، (مارس) آذار، (أبريل) نيسان، 1997م، 524ص.
8ـ مقدمة لتاريخ الفكر العلمي في الإسلام. د. أحمد سليم سعيدان، عالم المعرفة‏ـ الكويت، رقم 131، تشرين الثاني (نوفمبر) 1988، 217ص.
9ـ نشأة الفلسفة العلمية. هانز ريشنباخ، ترجمة: د. فؤاد زكريا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر،‏بيروت ط2، 1979م، 284ص.
10ـ الاستقراء والحدس في التفكير العلمي. بيتر مدور ترجمة: د. بلال الجيوسي، وزارة الثقافة،‏دمشق، 1982، 75ص.
11ـ المعقولية في العلم الحديث. روبرت بلانشيه، ترجمة: د. عادل العوا، وزارة الثقافة، دمشق، 1981م، 136ص.

إذن لدينا أحد عشر كتاباً ، تتناول هذه الموضوعات، وتحاول الإجابة عنها ولأجل الإحاطة بكافة عناصر الموضوع،‏لابد من حصره في بضعة نقاط،‏وانطلاقاً ‏من ذلك، ولتبسيط أسس البحث نصنفه في سبعة أجزاء:

1ـ تعريف العلم.

ليس من السهل إعطاء جواب شاف عن هذا السؤال فقد اختلف تعريف الناس للعلم على مر العصور. كما اختلفت مفاهيمه وقيمه عندهم،‏علماء وعامة على حد سواء. وإن من موضوعات البحث الشيقة تتبع تعريف العلم عند فلاسفة الإغريق والعرب وفلاسفة عصر النهضة الأوروبية،‏ولكن تلك تعريفات كلاسيكية تراثية لا تحدد معنى ما نفهمه بالعلم (scince) أن هناك علوماً ‏محددة كالفيزياء والكيمياء، ونستطيع تعريفها وتمييزها حسب موضوعاتها وحقولها الخاصة والعامة. فهل العلم هو مجموعة المعارف التي تشملها هذه العلوم مجتمعة؟ إن قبولنا هذا التعريف للعلم يخرج من نطاقه دراسات قيمة،‏كالتاريخ وفقه اللغة،‏والنقد الأدبي،‏فلفظة (العلم) العربية لا تزال مشبعة بالمعنى القروسطي لها،‏ومن ثم فهي لا تقابل كلمة (science) الإنكليزية تمام المقابلة. ولكن المشكلة في اختلاف مناهج البحث فيها يطلق عليه (العلوم الأدبية)، كالأدب والإنسانيات و«العلوم العلمية» كالفيزياء والرياضيات والطبيعيات،‏فما هو العلم..؟
يطرح الدكتور سعيدان التعريف التالي: (العلم هو كل بحث عن الحقيقة يجري منزهاً عن الأهواء والأغراض، ويعرض الحقيقة ناصعة صادقة مصفاة من كل زيف أو قناع. فهو مجموعة المعارف التي تنجم عن هذا الضرب من البحث في جمع الحقائق). لكن ما يُؤخذ على هذا التعريف الخلط بين نتائج البحث التجريبي المضبوط للعلوم الفيزيائية والرياضية والتي تتسم بالدقة الشديدة لعدم تدخل العوامل الإنسانية في التجربة (الرغبات،‏الطموحات،‏الأيديولوجيات) أما العلوم النظرية المطبقة في مجال الإنسانيات فيشوبها الكثير من التحيز والتجني،‏وفقدان الموضوعية والدقة والحياد،‏بسبب تدخل العوامل الإنسانية في التجربة. ثم يورد الباحث تعريفاً ‏آخر يقول: (إن العلم هو مجموعة المعارف الإنسانية التي من شأنها أن تساعد على زيادة رفاهية الإنسان أو أن تساعده في صراعه في معركة تنازع البقاء وبقاء الأصلح).
هذا التعريف يتعارض مع كشوف واختراعات بشرية لم يكن الهدف منها رفاهية الإنسان وسعادته ومساعدته في البقاء، مثل اختراع أسلحة الدمار الشامل،‏والمخدرات والهندسة الوراثية،‏وسواها،‏فالعبرة ليست بالاختراع فقط إنما بالتطبيق. إن العلم في جوهره عمل وبحث واكتشاف، يرمي لإشباع الفضول والرغبة في المعرفة ويمكن الإنسان من التنبؤ، ورصد الظاهرات،‏ومحاولة تفسيرها، من خلال إدراك أسبابها وعللها وسيرورتها،‏والعوامل الداخلة في تركيبها، والعناصر التي تنطوي عليها،‏وفهم قوانينها،‏لهدف السيطرة عليها،‏وإدراجها في إطار ما يسعد الناس جميعاً دون تفريق والإرتقاء بكل قواهم نحو الأفضل والأرقى والأجمل والأعظم.
لاشك أن تعريف العلم قد تطور منذ الحضارات السامية القديمة،‏من البابليين والآشوريين،‏ومنه إلى الإغريق، فالمسلمين،‏حتى العصر الأوروبي ـ‏الغربي المعاصر. وقد شهد التعريف صقلاً ، وإعادة نظر،‏في كل حقبة تاريخية،‏مما يؤكد على مرونة وشفافية هذا المصطلح،‏والأرجح عند غالبية العلماء عدم التوقف عن إعطاء تعريفات جديدة.

2ـ تاريخ العلم.

إن العلم ظاهرة (تاريخية) بمعنى اعتمادها على عوامل وعناصر وأسس تاريخية معينة قادت لظهوره ونشأته الأولى،‏ورغم أن أكثر الكتب المراجعة لا تعود بدراستها إلى الشعوب الشرقية القديمة،‏وتبدأ دراساتها منذ الإغريق الأوائل، وكأن الشعوب الشرقية تلك (من عرب وهنود وفرس وسومريين وأكاديين) لا دخل لهم في نشأة ظاهرة العلم،‏وكأن منابع العلم لا تصدر إلا عن الغربيين (إغريق في القدم،‏وأوروبيين في العصر الحديث) مع أن الظاهرة إنسانية بعمومها وشمولها وانتشارها بين كافة شعوب العالم،‏في كل زمان ومكان. فالنظرة التي يأخذ بها الأوروبيون يغلب عليها العنصرية والتمييز،‏والأصح تشبيه العلم بشعلة متقدة ملتهبة، تسلم من يد إلى يد ومن شعب إلى شعب. وهذا ما يتناقض مع ما ذهب إليه د. عبد الله العمر الذي يقول: (يعتبر تقدم العلم وإطراد البحث فيه ركيزة أساسية في تطور الحضارة الغربية وتعدد مظاهر الإنجازات فيها. ويمكن القول بصورة عامة، إن العلم الحديث الذي أرسيت اسسه في الفترة ما بين 1450ـ1700م هو خلاصة جهود المفكرين في الغرب وثمرة أبحاثهم).
لتوضيح علاقة العلم بالتاريخ لابد من تناول نظرتين إلى فهم وتفسير العالم والطبيعة والكون والإنسان،‏في النظرة الأولى والتي يمكن أن نطلق عليها النظرة القديمة والثانية هي النظرة الحديثة وسوف نلاحظ أن هناك أيضاً ‏نظرة معاصرة للعلم.
النظرة القديمة كانت عبارة عن تحالف بين فلسفة أرسطو وعلومه،‏ونظام بطليموس العلمي،‏مع الكنيسة المسيحية الكاثوليكية، هذا الثالوث العظيم هو الذي شكل النظام المعرفي ـ‏العلمي سواءً بالنسبة للطبيعة والكون، أم فيما يخص الإنسان بمختلف جوانبه وخصائصه، وما يتصل بالعلوم الأخرى كالبيولوجيا والفيزياء والكيمياء... الخ.
دونك مثلاً ‏على ذلك يكمن في نظرية فلكية قديمة،‏فماذا كانت الفكرة السائدة حول نظام المجموعة الشمسية عندما جاء كوبرنيكوس، وطرح لأول مرة نظريته التي تقول بأن مركز المجموعة الشمسية ليس الأرض، كما كان سائداً ‏عند بطليموس وإنما الشمس هي المركز، وانظر إلى نظرية أرسطو في الطبيعة وأفكاره حولها، حيث كانت النظرة الأرسطية إلى الطبيعة تفسر سقوط الحجر من أعلى إلى أسفل على أن له ميلاً ‏طبيعياً ‏للاتجاه نحو الأرض، وأن الأجسام المادية جميعها تميل إلى السقوط باتجاه الأرض،‏لأن الأرض ثابتة،‏وهي مركز الكون كله. وهذا ما يتناقض مع نظرية نيوتن في الجاذبية الأرضي، والتي تندرج تحت النظرة الحديثة للعلم. إذا كان هذا النظام المتماسك والمتحد بين فلسفة أرسطو وعلم بطليموس والكنيسة الكاثوليكية كان بمثل هذه القوة فكيف تحطم على أيدي أصحاب النظرة الحديثة من نيوتن وكبلر وكوبرنيكوس وغيرهم. يذهب د. عبد الله العمر إلى أن ثمة عوامل فكرية واجتماعية ودينامية تطورية،‏في نشأة العلم الحديث،‏والقضاء على النظرة القديمة،‏وبكل مكنوناتها. أما العوامل الفكرية، فتتصل بأثر الرياضيات،‏ذلك أن نظام الفلك البطليمي يعتمد على أسس فيزيائية وكيميائية وفلسفية،‏وقبل كل شيء رياضية،‏وقد حاربها كوبرنيكوس بدراسة مواقع النجوم،‏والتعمق المعرفي في علم الفلك. ووضح المعادلات الرياضية للحركة،‏وانتهاج المسلك العلمي والتجريبي،‏كما دعا إليها دافنشي ورواد النهضة. أما أثر النزعة الإنسانية في ظهور العلم الحديث فتشمل أموراً كثيرة،‏من بينها تهافت فكرة الإمبراطورية المقدسة،‏وحلت محلها فكرة اللامركزية في مسيرة التاريخ البشري،‏وأعمال ميكيافيللي في كتابه (مقالة العقد الأول لليفي)، وكتاب جاليليو المعروف‏(حوار حول أنظمة العالم العظيم)، ودور بوركهات،‏وعصر النهضة في التطور النفسي والذهني الجديد، ودراسات كل من أفلاطون وأفلوطين وابيكتيتوس وديوجين وبلوتارك ولوسيان وأرخميدس وهيرو، وما استتبع ذلك من اثر القيم الفكرية الجديدة للنزعة الإنسانية إبان عصر النهضة،‏وعلى ما يشير إلى ذلك كأفكار الكلاسيكية الأولى، وخاصة الإغريقية ـ‏الرومانية القديمة، وبعد أن أسقطتها المسيحية كمنهل من مناهل الفكر والقيم والأخلاق، وحركة الترجمة من اللغات الإغريقية واللاتينية إلى اللغات الأوروبية الحديثة النشأة،‏سواء الإيطالية أو الفرنسية أو الإنكليزية، لقاء هذا العمل الجليل إلى إعادة النظر في كل مجالات الحياة،‏والأسس التي تقوم عليها.
هناك أيضاً ‏الاهتمام بعلم (التنجيم الصحيح) لقراءة الطالع والمستقبل والذي أتى عفواً، بالبحث العلمي الدقيق في حركة الأفلاك وعلم النجوم ومواضعها. كما لعبت مناهج التعليم دوراً فعالاً ‏في تطور العلم،‏فقد كانت المناهج تنحو صوب تدريس العلوم التقليدية التي كانت شائعة آنذاك،‏مثل علم الحساب والهندسة وعلم التنجيم واللغات الكلاسيكية،‏وكانت المناهج الدراسية يغلب عليها طابع الشروح والتفاسير،‏التي تهدف للحفظ والتكرار وليس للإبداع والابتكار، وهذا ما ساعد أصحاب النزعة الإنسانية بالمناداة بشق طرق جديدة،‏وأساليب مبتكرة، في تناول العلم وفهمه وتفسيره. استطاعت النزعة الإنسانية أن تعيد الاعتبار للإنسان وكرامته وحريته ومكانته في الكون،‏ونلاحظ ذلك عند بترارك والإنسانيين، الذين دفعوا بالفنون والآداب والفلسفة والشعر والقيم والأخلاق نحو مستويات جديدة في الاعتبار. أما عن أثر العوامل الاجتماعية في نشأة العلم، فتنصرف باتجاه التفسير الاقتصادي لتطور العلم،‏فقد انطوت النظرة القديمة للعلم في عالم إقطاعي، يسيطر فيه حفنة من الإقطاع على كل مناحي الحياة،‏أما النظرة الجديدة فارتبطت بنهضة الرأسمالية كنظام سياسي يبحث عن الثروات والأسواق والسيطرة وبرزت البرجوازية كطبقة مستنيرة، تروج لقيمها وأساليبها، ولتدفن النظام القديم وتحل محله،‏سواء في إشاعة التجارة العالمية،‏وأهمية المال والثراء في دفع عجلة العلم نحو الارتقاء والتقدم.
إن المال والثروة المتجمعة من المستعمرات فيما وراء البحار ساهم في صعود نجم الصناعة والتكنولوجيا والتقنية إلى أرقى مستوى، فها هم الأثرياء يلاحظون أثر قيمة العلم في إسعادهم،‏وتحقيق سيطرتهم،‏فبناء السفن،‏وإقامة المصانع والمعامل،‏وتشجيع الحرف والأعمال المختلفة يحتاج لفهم قوانين وقواعد وأسس العلم الذي تقوم عليه،‏وتضبط شؤونه كل هذه العوامل التاريخية التي ساهمت في تغيير النظرة القديمة إلى الحديثة،‏وفي نشأة العلم الحديث، يمكن اعتبارها جزءاً ‏يسيراً ‏مما أطلق عليه توماس كون بـ (النموذج الإرشادي) وانتقال العلم من نظرة إلى أخرى،‏أو نموذج لآخر،‏يطوي في مكنوناته مجمل العوامل التي يمكن أن تقلبه إلى ضده أو نقيضه.
وهناك نقطة مهمة وهي إشارة د. عبد الله العمر بضرورة إقامة أقسام في بعض الكليات الجامعية لتاريخ العلم،‏وفلسفة العلم،‏ومناهج العلوم وربما يرجع الضعف المعرفي العلمي لدى الكثير من الدارسين إلى عدم التبصر بهذه الآليات والعوامل المُنشئة للعلم.

3ـ فلسفة العلم.

يغلب على الفلسفة أن تكون تأملاً ‏نظرياً في كل شيء، فهناك الفلسفة العامة،‏وفلسفة الأخلاق، وفلسفة المجتمع،‏وفلسفة التربية،‏وفلسفة العلم. فالفلسفة هي الإطار النظري التأملي التي تضع رأيها حول أية قضية،‏ففلسفة التربية مثلاً هي: مجموعة التأملات النظرية العميقة حول قضية التربية،‏منذ الفلاسفة الإغريق في القدم،‏حتى وقتنا الحالي،‏ونظريات هؤلاء الفلاسفة حول طبيعة التربية،‏تعريفها،‏أسسها،‏العوامل المؤثرة بها، قواعدها، وكيف تكون مجدية وفعالة مثمرة،‏فهي بذلك تعتمد على الفكر والمنطق والعقل،‏وتضع بناءها الشامخ حول كافة المشكلات والمسائل التي تحتاج إلى تحليل وتفسير وفهم. ولكن هل يمكن اعتبار الفلسفة علم؟ وهل الفلسفة هي التي تُنظر للعلم أم العلم هو الذي يُنظر لها؟ هنا ينقسم الفلاسفة إلى ثلاث شعب، والقسم الأول يعتقد أن الفلسفة هي علم،‏والتجريب والملاحظة لابد أن يؤكدها، والقسم الثاني يميل للاعتقاد بأن الفلسفة مجرد نظر أو رأي أو فكر،‏تحتاج للتأكيد وللقبول أو النفي،‏والقسم الثالث يذهب للاعتراف بأن في الفلسفة جوانب تنطوي على العلم،‏وجوانب نظرية بحتة. إلا أن الفيلسوف هانز ريشنباخ يعتقد أن التأمل النظري الفلسفي مرحلة عابرة تحدث عندما تُثار المشكلات الفلسفية وتنطوي على نظرية علمية متفقة مع قوانين العلم. هذا الإتجاه يود أن يثبت أنه قد انبثقت من هذا الأصل (الفلسفي) فلسفة علمية،‏وجدت في علوم عصرنا أداة لحل تلك المشكلات التي لم تكن في العهود الماضية إلا موضوعاً للتخمين. فقد انتقلت الفلسفة من مرحلة التأمل النظري إلى مرحلة العلم،‏إن تطور العلم وبزوغه على أشده ليس ثمرة العوامل التاريخية فحسب،‏بل إن العوامل الفلسفية لتعب دوراً ‏لا يُستهان به، في عملية انقلاب النظريات، فلقد كان طلاب الفلسفة والدارسون على علم بأن الفلسفة التي انصهرت فيها آراء الفكر الديني المسيحي مع الفلسفة اليونانية في مطلع العصر الوسيط قد تمثلت في تيار فكري تغلب عليه الصبغة الأفلاطونية أو الأفلاطونية المحدثة، إذ كان كل المفكرين البارزين آنذاك يميلون إلى التعبير عن مذاهبهم المفضلة حول الفيض والتطور بوحي من فكرة العدد،‏وهي فكرة ترجع إلى أفلاطون حين ذهب في محاورته (بارمنيدس) إلى أن التعدد أو الكثرة قد خرجت بالضرورة عن الوحدة بفعل عملية رياضية. حتى بعد أن طغت أفكار أرسطو تيارات الفكر في القرن الثالث عشر،‏فإن ذلك لم يجتث معالم الفلسفة الأفلاطونية والأفلاطونية المحدثة،‏التي ظهرت في مطلع العصر الوسيط. صحيح أنýأثرها في الفكر قد انحسر إلى حد بعيد بعد أن طغت أفكار أرسطو وشاعت ولكنها ظلت على الرغم من ذلك تستهوي كل الرافضين لفلسفة أرسطو،‏وكل المنشقين على الفلسفة المشائية (أتباع أرسطو) لقد كان الاهتمام العلمي عند روجر بيكون وليوناردو دافنشي ونيقولا داكوسا وبرونو وغيرهم،‏حصيلة تيار فكري فلسفي رياضي فيثاغوري ظاهر للعيان ويصب ذلك في النظرة الحديثة للعلم،‏بالانتقال من أرسطو إلى أفلاطون،‏لماذا؟ لنوضح السبب: إن أنصار التيار الأرسطي التقليدي المتطرف قد قللوا من قيمة الرياضيات. فالكم أرسطياً يشكل واحداً من المتحولات (المقولات) العشر. والرياضيات تحتل مركزاً ‏متوسطاً بين الفيزياء والميتافيزيقا، أي بين علم الطبيعة وما بعد الطبيعة،‏والطبيعة بأسرها في المذهب الأرسطي تفصح عن جانب كيفي بالإضافة للجانب الكمي،‏لذا فإن الوسيلة إلى أرفع أشكال المعرفة تكمن في المنطق،‏لا في الرياضيات. بيد أن المذهب الأفلاطوني يفسر العالم على نحو رياضي،‏فالكون عنده هندسي الطابع، ويُكوّن اتساقاً وجمالاً الآن،‏إذا جمعنا الخيوط نقول: العامل الفلسفي الأول هو الانتقال من مذهب أرسطو ومضامينه إلى مذهب أفلاطون ومكوناته،‏والعامل الفلسفي الثاني هو الانتقال من دراسة الكيف والمنطق إلى الاهتمام بالكم والمنطق الرياضي،‏والعامل الفلسفي الثالث،‏النظر إلى فلسفة الكون والطبيعة والإنسان،‏من الفوضى والتخبط والاضطراب النسبي إلى الانتظام والاتساق والجمال الكلي وهذا يفسر انضمام مروجي العلم تحت لواء أفلاطون وفيثاغورث في كتاب هانز ريشنباخ (Hans Reichenbach) الموسوم بـ: نشأة الفلسفة العلمية (1951) (The Rise of Scintfic Philosophy) يقوم هذا الفيلسوف برصد لبعض الفلسفات ومقارنتها بنتائج العلم الحديث،‏وحيث أنه من أتباع الوضعية الجديدة (أو الوضعية التجريبية) فإنه يُسلط أضواء بعض جوانب بعض الفلسفية على بعض القوانين العلمية، ليصل إلى أن الفلسفة والعلم شيء‏واحد أو مشترك، فيقارن بعض مسائل الفلسفة مثل: طبيعة الهندسة،‏الزمان،‏قوانين الطبيعة،‏الذرات، التطور،‏وسواها مع فلسفته الأثيرة (الوضعية الجديدة) ومع كانت والفلاسفة التجريبيين،‏ليصدمنا في النهاية بهذا الاتفاق المذهل. وفي الحق تنطوي هذه الفلسفة على بعض العيوب الفاضحة منها:
أولاً ـ ان هيكل وبنية العلوم لا تتوقف عن التطور، حتى أقارنها مع فلسفة ثابتة محددة.
ثانياً ـ الكتاب وضع في الخمسينيات من هذا القرن،‏والعلم بعده تضاعف مرات عدة.
ثالثاً ـ حتى تتسق الفلسفة العلمية مع نفسها،‏لابد لها أن تتوافق مع أحدث النتائج العلمية،‏وأخطر الأخطاء التي يمكن أن تُرتكب، إمَّا ليَّ عُنق الفلسفة حتى تتفق مع العلم أو ليَّ رقبة النتائج العلمية حتى تتفق مع عناصر الفلسفة العلمية.
هنا يبرز لنا تساؤل في غاية الأهمية وهو: إذا اختلفت نتائج العلم مع فلسفة ما، فبماذا نأخذ، هل ننحاز إلى جانب الفلسفة،‏أم ننخرط مع أنصار نتائج العلم، وكذلك الأمر إذا تناقضت نتائج العلم الحديث الدقيقة مع سياسة ما، أخلاق ما،‏ايديولوجيا ما،‏تربية ما، دين ما،‏فبماذا نأخذ،‏وماذا ندع؟ أسئلة ملحَّة ندع الجواب عنها للأجيال القادمة،‏فهي تعرف ما يناسبها وما لا يناسبها! بيد أن الغرب أخذ موقفاً ‏لصالح العلم ضد الدين،‏عندما حدث الصراع بين الكنيسة الكاثوليكية وعلوم الفلك، حول مسألة مكاننا في الكون، أنحن المركز أم المحيط؟
والسؤال الثاني: ماذا يعني أن تتفق فلسفة ما مع نتائج العلم الحديث أو تختلف؟ ذلك أن الفلسفة عبارة عن بناء فكري متكامل الأجزاء، مُتسق الوظائف والأهداف، حتى تكون الفلسفة منسجمة مع العلم، لابد أن تتقاطع معه في كل المسائل والطروحات المعنية، فكيف يتم ذلك؟ على سبيل المثال الفلسفة الماركسية أو الوجودية أو الفرويدية فلسفات ونظريات فكرية كبيرة، كيف أدرس توافقها أو تناقضها مع نتائج العلم الحديث؟ إنك عندما تقارن، لابد أن توازن بين شيئين من نفس الجنس والنوع والمحتوى، هذا يقود إلى استحالة المقارنة بين الفلسفة والعلم، لاختلاف طبيعتهما وجوهريهما، ومن البديهي أن الفلسفة تنطوي على مقولات وقضايا تتصل بالأخلاق والسياسة والتربية.. الخ، أما العلم فإنه يتعامل مع المفاهيم والتعاريف الدقيقة، ويتحدث بلغة الكم والقانون والضبط، ولإجراء المقارنة،‏لابد لك من تحويل عناصر فلسفة ما، إلى مفاهيم دقيقة،‏ومكونات مضبوطة، قابلة للقياس والتجريب والملاحظة، وهذا أمر شبه مستحيل، لكون المذهب الفلسفي إطار فضفاض، واسع الأرجاء، مترامي الأطراف، غير محدد،‏يصعب تحويلهýإلى فرضيات قابلة للصياغة الكمية، أو للتجريب، أو للملاحظة، عند هذه النقطة نجد أنفسنا أمام مفارقة يصعب حلها أو تجاوزها. فإذا انهارت الفلسفة الماركسية في الواقع التطبيقي في بعض الدول، وذهب البعض للقول بأن سقوطها ناتج عن التطبيق السيء والممارسة الخاطئة،‏والبعض الآخر يستنتج أن هذا الانهيار حدث بسبب النظرية الفلسفية نفسها،‏والبعض الثالث يذهب باستدلاله، على أن الانهيار هو للنظرية والتطبيق معاً . والفلسفات المعاصرة،‏تحاول جهدها أن ترتبط وتتساوى مع مذاهب العلم الحديث، ومن هذه الفلسفات الحديثة، الفلسفة الوضعية الجديدة‏(أو التجريبية) وكذلك مؤلفان (برتراند رسل) في المنطق الرياضي وأغلبية الفلاسفة الإنكليز المعاصرين ومن تتلمذ على أيديهم مثل (زكي نجيب محمود) وأشياعه في الفكر الفلسفي العربي،‏ويذكر الفيلسوف ريشنباخ، في فصول له عن التطور ونظرية دارون، في إبان كتابة مؤلفه، أن بعض الأقسام العلمية في الولايات المتحدة لا تقبل نظرية دارون فيها.

4ـ العلم والمجتمع.

إن العلم مثل أي كائن حي، يحتاج حتى يلد وينمو وينضج، إلى المناخ الملائم، والأجواء المناسبة، فرغم أنه لكل بلد ومجتمع علمه الخاص، إلا أن العلم الحديث (بالتحديد)، يكاد يكون بضاعة غربية صرف، فلماذا ولد العلم وشاع في المجتمع الغربي على وجه الخصوص؟ هنالك عدة اعتبارات لهذا الأمر، فالعلم بوصفه ظاهرة اجتماعية، لابد أن تتضافر مجموعة من العوامل الاجتماعية،‏فعلى سبيل المثال المجتمع الإنكليزي أول مجتمع في العالم الحديث يحقق الديمقراطية، فيسارع إلى قطع رأس ملكه المستبد، وإنشاء حكومة ديمقراطية حرة، لكل الأفراد، لإنجاز الصالح العام. ومن بين العوامل الأخرى يذكر (جيمس بيرك) في كتابه (عندما تغير العالم) عن نشأة العلم في انكلترا، والمناخ السيء، وانتشار الأوبئة، وتحولات الطقس الدورية للأحوال الجوية،‏في القرن السابع عشر، لكن الأحوال المناخية في انكلترا أحدثت تغييراً شاملاً ‏ساعد على تغيير المجتمع الغربي من خلال الهيكل الاجتماعي الإنكليزي الفريد. فقد كان المجتمع الإنكليزي بصفة عامة مجتمعاً مستقراً . إذ بعد ستين عاماً ‏من انتهاء الثورة الأهلية الوحيدة التي شهدتها إنكلترا. وعلى الرغم من عودة الملكية، فانكلترا الحديثة لم تعد بلداً إقطاعياً كما قبل ذلك،‏وخضع العرش لسيادة البرلمان،‏وثورة الحكومة الجمهورية برئاسة (كرومويل).
صحيح أن الملك هو الذي كان يعين الوزراء، لكن البرلمان الإنكليزي لابد أن يوافق وكانت السلطة العليا للقانون العام. فالضرائب يقررها الشعب والحكومة المركزية والحرب الأهلية أتت على الإقطاع وأسوار المدن. ولم يكن العامل الإنكليزي معدماً بلا أرض، كنظيره الأوروبي، وتم سن القوانين والتشريعات، مثل القوانين التجارية التي حققت الإزدهار الاجتماعي والاقتصادي لعامة الناس، وتأثير مقالة ديكارت في المنهج، وتجارة العبيد والحروب التجارية،‏وتحسن المحاصيل الزراعية،‏وثورة (واط) التجارية،‏وتوسع المدن، وانتشار القراءة والكتابة،‏والمصانع والمعامل، ثم قيام الثورة الصناعية،‏والاعتماد على التقنية،‏وزيادة الثراء الفاحش.
إن ظاهرة العلم الحديث تقوم اجتماعياً على عدد من الركائز، من أهمها: الديمقراطية، وتراكم رأس المال والسلطة القوية عالمياً ، واهتمام المجتمع بمصالح أفراده كلهم. لكن لابد من البوح عن المسكوت عنه،‏فما كان لرأس المال الإنكليزي أن يتجمع ويتراكم لولا حروب الاستعمار والغزو والسيطرة،‏التي مارستها إنكلترا على الشعوب المستضعفة في الشرق،‏فالشاي والقهوة والبهارات من الهند،‏والقطن من مصر،‏استطاع الإنكليز أن يقوموا بحملة نهب منظم لكافة الشعوب الخاضعة لاستعماره، واستخدم الإنكليز في ذلك (سياسة فرق تسد) فيوقعون بين الطوائف والأديان في الهند، ويشنون حرب الأفيون على الصين،‏ويسرقون المواد الأولية من هذه الشعوب، ويعيدون تصديرها إليهم ثانية وهي مصنعة،‏ويربحون عشرات ومئات الأضعاف منهم،‏والمجزرة التاريخية الكبرى التي أمضاها الإنكليز هي المتاجرة بالعبيد الأفارقة، وبعشرات الملايين،‏وقد ساعد هذا الاستعباد المجاني المحجف بحق السود في دفع عجلة العمل وتسريعه، سواء في المزارع والحقول، أو في المصانع والمعامل،‏أو كخدم للرجل الأبيض وأصبحت الجزر البريطانية،‏هي الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، فبفضل قوتها العسكرية البحرية،‏وتطور أسلحتها، كانت الدولة هي السلطة الأقوى عالمياً ‏وسياسياً ‏واقتصادياً واجتماعياً ‏وعسكرياً ،‏وهذا ما سهل لها تراكم من فائض القيمة، سواء من التجارة التي تسيطر عليها عالمياً ، أو من الاتفاقيات المجحفة بحق الشعوب المستعبدة،‏ومن تواصل النهب والسرقة والاستعباد، استطاعت إنكلترا أن تتبوأ مكانة عالمية لا يستهان بها. ولم تخرج إنكلترا من أي بلد مستعمر دون أن تتركه يتهاوى حال خروجها، سواء في حرب أهلية،‏أو نشر للطائفية أو العرقية أو لحرب حدودية أو أي شكل من أشكال التنازع الاجتماعي وبنفس الوقت الذي تتعامل فيه انكلترا مع الشعوب المستعمرة بكل الاحتقار والاشمئزاز والاستعباد، عززت في الداخل قيم الحرية والديمقراطية وسيادة روح القانون وتنظيم برلمانها والحفاظ على حرية وكرامة وقدسية مواطنها ولعب فصل الدين عن الدولة في انكلترا دوراً رئيسياً ، في تسارع تطور العلم. من هذا العرض،‏يبدو أن العوامل الاجتماعية لدفع ظاهرة العلم للظهور أو النشوء في انكلترا كانت نشوء النظام الديمقراطي، وسيطرة البرلمان،‏والقضاء على الإقطاع والقلاع والحدود المصطنعة،‏من قبل البرجوازية الناشئة،‏التي قادت النظام الرأسمالي نحو حروب التوسع والاستعمار والسيطرة،‏وتراكم الثروة،‏وشيوع الفلسفة البرجماتية،‏وانتشار التعليم كماً ‏وكيفاً ، والثورات المتلاحقة، في المجال الاجتماعي والسياسي والصناعي والتجاري والعسكري والعلمي.. الخ،‏أدت إلى هذه النشأة والتكوين.

5ـ‏العلم والدين.

يقول فرويد: إن هناك ثلاث نظريات علمية وجهت ضد أنانية الإنسان، الأولى هي نظرية كوبرنيكوس في الفلك والتي تذهب إلى أن الأرض ليست مركز الكون، وإن هي في الحقيقة ليست إلا كوكباً صغيراً مثل مليارات الكواكب والأجرام التي تسبح في الفضاء. والضربة الثانية،‏جاءت من نظرية التطور لتشرلز دارون في البيولوجيا، حيث أكدت النظرية على أن أصل الإنسان ينحدر إلى أبسط الكائنات الحية، أما الضربة الثالثة، فانقضت من نظرية التحليل النفسي لفرويد والتي تميل إلى أن الإنسان لا يملك لنفسه كامل الضبط والتحكم، تحت تأثير الدوافع والرغبات الشعورية واللاشعورية، المتناقضة في أعماق الإنسان. هذه الإهانات الثلاث هزت من ثقة الإنسان بنفسه وأرضه ومصدره الطبيعي،‏ولن نعيد للأذهان القصة المألوفة للعالم البولندي كوبرنيكوس (1473ـ1543) ونظريته الشهيرة التي تقول بدوران الأرض والكواكب حول الشمس،‏لا العكس كما كان الرأي سائداً قبل ذلك، ولم يكن هذا العالم أول من قال ذلك، فكثير من الفلاسفة الإغريق كانوا يذهبون نفس المذهب في رؤية الكون،‏لكن كوبرنيكوس وضع الأساس العلمي، والدراسة الموضوعية لإثبات هذا الأمر ثم آمن جاليليو (Galileo) (1564ـ1642) بها عن طريق استعمال المنظار المقرب (التلسكوب) في بحثه ودراساته،‏فأثبت صدق النظرية واقعياً ، فثارت ثائرة الكنيسة،‏ورأت أن خطراً داهماً بات يهدد سلطانها، فبادرت إلى التصدي لأفكار جاليليو، وحرمت تداول كتاب كوبرنيكوس حتى يتم تعديل بعض العبارات التي وردت فيه على نحو كون النتائج التي خلص إليها كوبرنيكوس متفقة مع النظام الفلكي القديم عند بطليموس. ولعل أكبر شاهد على ثورة الكنيسة إزاء نظرية كوبرنيكوس، ومساندة جاليليو لها، أن منعت هذا الأخير من تدريس نظرية سلفه أو مناقشتها، كما منعت إلى جانب ذلك تداول الكتب التي كانت تشير إلى حركة الأرض ودورانها.
ولقد بلغ فعل الكنيسة أقصاه، عندما كانت قراءة كوبرنيكوس من شأنها أن تعرض صاحبها للعنة والمطاردة. وأشاعت الكنيسة جواً من الإرهاب الفكري، فظلت الأفكار العظيمة والإبداعات الكبيرة حبيسة الصدور، لا يجرؤ العلماء على البوح بها أو مناقشتها أو تدريسها فقد اعتبرت بدعاً وضلالاً ، وتخالف تعاليم الكتاب المقدس،‏وبالتالي فإن القائلين بها يتهمون بالكفر والإلحاد والتجديف بحق الله وتعاليم الدين فلا يحق لأحد يظن أنه عرف شيئاً ‏جديداً ‏أن يعلنه،‏خاصة إذا ما كان مخالفاً ‏للموروثات القديمة.
لقد بلغ تأييد النظرية حداً سارع فيه جيوردانو برونو إلى التصريح علانية بصحة النظرية وبأنها حقيقة واقعة. فما كان من رجال الكنيسة آنذاك إلا أن طاردوه في كل مكان، ثم قبض على برونو في مدينة البندقية وأودع السجون لمدة ستة أعوام، وأحرق بعدها وهو حي، ويقال أنه فيما بعد أقيم له نصب تذكاري في نفس مكان حرقه، وتلاحقت الشواهد المتتالية تؤكد صحة النظرية،‏فاستطاع كبلر أن يؤيد مذهب النظرية رياضياً ، ونيوتن فيزيائياً ، وجاليليو تلسكوبياً ، فازدادت الكنيسة ومحاكم التفتيش والباباوات ورجال الدين تعنتاً وقسوة بحق مروجيها،‏وتعرض جاليليو للمحاكمة أكثر من مرة، وأجبر على رفض النظرية أكثر من مرة ولم يرفع الحظر عن النظرية وعلمائها وكتبهم إلا في عام 1835م وفي روما.
تعتبر هذه القصص التي حدثت في الماضي،‏شواهد عميقة على ما سوف يحدث بعد ذلك، فقد قام رجال الدين قياساً على أعمار الأنبياء وبتقدير عمر الأرض،‏حسب الكتاب المقدس هو (4004) سنة قبل الميلاد،‏وعمر الأرض حالياً ، بمقتضى القوانين العلمية يقاس بمليارات السنين ولم يقتصر الأمر على نظرية كوبرنيكوس، بل عانت بعض النظريات من الهجوم الكاسح من المؤسسة الدينية المسيحية الغربية،‏والأمثلة على ذلك كثيرة،‏فنظرية دارون في أصل الأنواع وتطورها عن كائنات حية أخرى أقل منها رقياً ‏وتقدماً ،‏بقيت لأكثر من قرن ونصف تتلقى اللعنات والسباب والرفض،‏من قبل رجال الدين المسيحي، حتى المؤسسات العلمية التي تديرها الكنائس والأديرة في بعض المناطق من أوروبا أو أمريكا تحرم وتمنع دراستها في مناهجها وأقسامها العلمية. وكذلك مع نظرية فرويد في التحليل النفسي، اعتبرت أنها شاذة ومنحرفة،‏ولا تتفق مع الدين،‏ولا تستجيب لمتطلبات الأخلاق، وقيم المجتمع ومثله،‏مما أدى لموت فرويد بعيداً ‏عن وطنه،‏منفياً، مطاردا، وقد صبت عليه كل لعنات الكتاب المقدس. وما حدث لكوبرنيكوس وداروين وفرويد انسحب ليضم بعض الفلاسفة والعلماء،‏ممن قادتهم علومهم وفلسفاتهم للمواجهة مع المؤسسة المسيحية الغربية، مثل الفلسفة الوجودية، من كيركيجارد حتى سارتر، ومثلها الفلسفة الماركسية،‏من ماركس إلى المنظرين المعاصرين. وأحياناً ما يحدث العكس،‏فتجد الدين هو الضحية،‏والمنتصر هو الفلسفة،‏كما فعل جوزيف ستالين عندما هدم الكنائس والأديرة،‏وحولها إلى متاحف ومدارس ومؤسسات حكومية ترعى مصالح المواطنين. فيمَ الخطأ إذن؟ أمن الدين أم العلم؟ إذا نظر إلى الدين أنه في جوهره حرية وعدل وتسامح ومساواة وكرامة، ونظر إلى العلم على أن غايته الكمال والسعادة للجميع، عندها يمكن تجنب الكثير من الأخطاء.
لماذا الإسراع كلما ظهرت نظرية علمية جديدة لمقارنتها بالدين وإعطائها قيمة؟ لماذا إذا اختلف الدين مع العلم، سارع بعض المتدينين لرفض العلم جملة وتفصيلاً ؟ ثم لماذا يذهب بعض غلاة العلماء،‏في حال تناقض العلم والدين،‏للوقوف إلى جانب العلم؟ يُلاحظ في أغلب الأحيان أن العلم يقدم نظريات وفرضيات ورؤى متباينة، فعندما يخرج علينا عالم في الفيزياء أو الكيمياء أو البيولوجيا أو علم النفس بنظرية جديدة،‏يسارع بعض رجال الدين بعقد المقارنات والموازنات، وكأن النظرية أصبحت قانوناً ، والمعروف أن النظرية تضم في ثناياها مجموعة من النظرات والأفكار والآراء، التي تحتاج إلى التجريب المنظم والمضبوط،‏في هذه الحالة إذا أكد التجريب والملاحظة المنظمة الدقيقة فروض وافكار وآراء النظرية انتقلت لتصبح قانوناً ‏علمياً . فعلى سبيل المثال،‏نظرية نيوتن في الجاذبية قفزت من حيز النظرية إلى مجال القانون العلمي،‏لأن التجريب والضبط الرياضي والفيزيائي أكد مضامينها، واتفق مع ما تذهب إليه،‏فيمكن أن نضيف هذا القانون إلى التراث العلمي بكل اطمئنان وثقة من المستقبل، رغم أن كل قانون يتحقق وفق شروط محددة ومعينة، فلا يوجد إطلاق في العلم. في هذه الحالة،‏من الممكن عقد الموازنات والمقارنات مع الدين لتأكيد أو نفي بعض الجوانب. وهناك من النظريات ما يمر عليه العقد أو القرن أو الألف من السنين، حتى تتأكد أو تُنفى. خذ على سبيل المثال نظرية ديمقريطس في الذرة، لم تتأكد إلا بعد 2500 سنة. وبعض النظريات يصعب التأكد منها، لأنها ببساطة غير قابلة للتجريب الدقيق، خاصة في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية،‏فهذا يزيد في عمر بقائها،‏حتى يتسنى للعلماء إيجاد السبل والوسائل الكفيلة بضبط شروط التجريب. لذا ندعو رجال الدين إلى التريث وعدم الإسراع في إطلاق الأحكام القيمية على عواهنها،‏وبنفس الوقت ندعو العلماء إلى الهدوء والانتظار لتتأكد نظرياتهم، فلا يخرجون على الناس بإلحادهم وكفرهم ورفضهم لأديانهم،‏دون بينة كافية،‏أو شاهد ثابت،‏إن القضية في منتهى الدقة والأهمية، فكلما اتحد العلم والدين، أدى ذلك إلى تطور المجتمع ورفاهيته،‏وكلما تناقض الحوار والنقاش بينهما،‏قاد إلى الصراع الذي يمكن ألا تُحمد عواقبه. والعلماء على وجه العموم منقسمون إلى فئتين،‏فئة متدينة وفئة ملحدة،‏والفئة الأولى ترى أن قوة خفية علوية تدفع إليها، أما العلماء الملحدون فيذهبون إلى أن كل الظاهرات العلمية لا يحتاج تفسيرها وتحليلها إلى قوة خفية خلفها،‏فيشيرون في كتبهم، إلى أن تفسير الظاهرة العلمية،‏يكفي أن يكون من داخلها، ووفق مكوناتها وعناصرها،‏دونما اهتمام بأي شيء آخر،‏ضمن هذا الإطار يندرج كتاب (العلم في منظوره الجديد) لمؤلفيه في مجال ما عُقد العزم على إيضاحه وتفسيره،‏في مجالات تطور كافة العلوم،‏أحدهما مختص بمجال الفلسفة،‏والآخر في الفيزياء النظرية،‏يدور البحث في كتابهم في شكل موازنة بين مقولات النظرية العلمية القديمة والنظرية العلمية الجديدة.. وقد عرض المؤلفان للظروف التي نشأت في ظلها النظرية العلمية القديمة، التي اصطبغت بصبغة مادية، كرد فعل إزاء هيمنة الفلسفة المدرسية المسيحية على العقول، والتي وصلت إلى حالة من التحجر العقلي والتخبط الفكري. وقد انتهت النظرية القديمة إلى الإلحاد والاستهتار بكل القيم الأخلاقية والروحية،‏وفسرت السلوك تفسيراً ‏غريزياً فزيولوجياً . إزاء هذه النظرية ظهرت في مطلع القرن العشرين،‏نظرية علمية منافسة،‏كان من ألمع روادها اينشتاين،‏وهايز نبيرغ، وبور وغيرهم. وقد أجمعت آراء كبار علماء الفيزياء النووية والكوزمولوجيا في هذا القرن على أن المادة ليست أزلية، وأن الكون في تطور وتمدد مستمرين،‏فدعوا إلى الإيمان بعقل أزلي الوجود، يدير هذا الكون،‏ويرعى شؤونه ثم جاء جيل آخر من العلماء المتخصصين في مبحث الأعصاب من أمثال شرنغتون،‏واكلس، وسبري،‏فخلصوا بعد بحوث مضنية،‏إلى أن الإنسان مكون من عنصرين جوهريين: جسد فان وروح باقية لا ينالها الفناء،‏وأن الإدراك والتفكير ليسا من صنع المادة،‏بل يؤثران تأثيراً مباشراً ‏في العمليات الفزيولوجية ذاتها.
وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية ظهرت حركة جديدة في علم النفس،‏اعترف روادها بالعقل،‏ورفضوا تفسير السلوك البشري بلغة الدوافع والغرائز الحيوانية،‏وآمنوا،‏بدلاً من ذلك، بالقيم الأخلاقية والجمالية والجوانب الروحية والفكرية والنفسية. فهم يرون في المادة والعقل والجمال،‏صور نماذج لقوى أزلية مسيطرة تحرك العالم وتراقبه،‏وتقوده إلى هدفه بكل الحب والرعاية الكونية ولكن موطن الضعف في مذاهب هؤلاء العلماء يمكن إجمالها في ثلاث نقاط:
النقطة الأولى: يتحدث هؤلاء عن العلم في فترة زمنية محددة،‏وهي فترة تأليف الكتاب، والعلم يقفز في كل عام قفزات هائلة،‏خاصة مع ابتكار وسائل وأدوات جديدة،‏فربما انقلب عليهم ظهر الجن.
النقطة الثانية: ألا يمكن أن يكون النظام والجمال والإتساق والهدفية والغائية التي يرونها في مذاهبهم ناتجة عن سوء استقراء أو الاستدلال فربما كانت كل هذه الأشياء في عيونهم أو نفوسهم وليست في الواقع الموضوعي المحيط بهم.
النقطة الثالثة: تزعم أن المقارنة ينبغي لها أن تكون بين ثابتين،‏ولو قليلاً ، فالعلم ليس مطلقاً ، لأنه في تحول وسيرورة دائمة،‏أما الدين فهو نظام كلي شامل ومطلق ولا يعني ذلك أني أتفق أو أختلف معهم،‏ولكن نقدي ينصب على المنهج والأدوات.

6ـ العلم والأمم.

في دراسة جادة حول (فجر العلم الحديث) يحاول الباحث توب أ. هاف الإجابة عن السؤال التالي: لماذا نشأ العلم الحديث في الغرب دون حضارتي الإسلام والصين،‏بالرغم من أنهما كانتا في العصر الوسيط أكثر تقدماً من الناحية العلمية؟. لتفسير ذلك تناول المؤلف عبر جزئي الكتاب،‏اختلاف الأنظمة الدينية والفلسفية والتشريعية في الحضارات أو الأمم الثلاث،‏مركزاً ‏على التصور القانوني للائتلاف الذي انفرد به الغرب،‏مما أتاح مناخاً ‏محايداً وحرية في البحث،‏وهما تصوران يتكاملان مع العلم الحديث. ولئن كان يُؤرخ عادة للحظة ميلاد العلم الحديث باكتشاف كوبرنيكوس لمركزية الشمس،‏فإن الحضارة الإسلامية لم يكن ينقصها لتحقيق ذلك إلا الوثبة الأخيرة،‏فلماذا عجزت عنها،‏في حين تمكنت الحضارة الغربية من إنجاب العلم الحديث؟ ورغم أن الدراسة التي قدمها المؤلف لا تخلو من العمق والشمول والدقة، وقد نتفق أو نختلف مع مذهبه، إلا أن ذلك لا يعني أن لا نناقشه ونحاوره، فهو يرى إن العوامل التي تسببت في إخفاق العلم العربي أن ينجب العلم الحديث تبدأ من العوامل العرقية إلى سيطرة السنية الدينية إلى الطغيان السياسي، ووسائل متصلة بالبواعث النفسية والعوامل الاقتصادية،‏فضلاً ‏عن إخفاق فلاسفة الطبيعة العرب في أن يطوروا ويستخدموا المنهج التجريبي. وتوحي الصياغة العامة للأثر السلبي للقوى الدينية على التقدم العلمي، ما ظهر في القرنين الثاني عشر والثالث عشر كحركة اجتماعية، وقد أفرخ هنا تعصباً ‏دينياً ، وبخاصة تجاه العلوم الطبيعية وإحلال العلوم السرية بدلاً ‏من دراسة العلوم اليونانية والعقلية. فضلاً ‏عن أن العلم يحتاج إلى قدر من الاستقلالية والحرية،‏بينما خضع العلم خضوعاً مطلقاً للمؤسستين السياسية والدينية. لاشك إن مصدراً ‏جوهرياً ‏لتصور قدرات الإنسان العقلانية،‏وكذلك تصوراته عن الطبيعة، إنما تُلتمس من الاتجاهات الدينية والتشريعية للحضارة، إذ تشكل مثل هذه الأفكار بعمق تصور الإنسان لذاته،‏فإما أن تطلق كل من الكلام والتشريع القدرات العقلية للإنسان، إذ رفض كل من الكلام والتشريع على وجه الخصوص فكرة وجود عامل عقلاني بيّن لدى الناس جميعاً ، مؤثرين على ذلك أن على المسلم أن يتبع طريق السنة أو التقليد وألا يحاول الكشف عن أسرار الطبيعة الخارجية أو معرفة أسرار النص المُنزل، وقد تبنى كل من المتكلمين والفقهاء فكرة أن حكمة الله وإجماع العلماء أسمى من العقل،‏وعزفوا عن الموافقة على اعتبار العقل الإنساني مصدراً ‏للتشريع أو الأخلاق ولهذه النقطة صلة بفكرة منطق القصد التي لم تتطور في القانون الإسلامي. ومن ثم فإن درجات التعرض للمسؤولية التي تشكل العمود الفقري للمسؤولية أمكنه من تطوير منظور عقلاني في مؤلفات العقلانيين،‏إنما يوجد لدى المعتزلة،‏ولكن ليس لديهم الدواء الإنساني القادر على الابتكار سواء في الدين أو في الفكر الأخلاقي، بما يترتب على ذلك من إغلاق أبواب الاجتهاد، وقد ألقى أكبر مفكري الإسلام بعد الغزالي ظلال الشك على قوى العقل الإنساني،‏وحطوا من شأن المنطق الاستدلالي،‏واصروا على أولوية الإيمان وأعطوا السلطة المطلقة للشريعة والسنة،‏ولايزيد العقل لدى أهل السنة عن الحس المشترك دون الاعتراف بإمكانية أن يصل العقل إلى حقائق جديدة دون عون من الإلهام.
أما عن المدارس والمعاهد والكليات والمشافي في الحضارة العربية الإسلامية فكانت عبارة عن أوقاف، يوقفها بعض الخلفاء والولادة والأثرياء ويشترطون في إقامتها أن تُدرَّس العلوم الدينية من فِقه وحديث وسنة وشريعة وتفسير ونحو وقرآن..‏الخ،‏وقلما تُدرَّس العلوم الطبيعية أن العلمية،‏كالمنطق والرياضيات والفلسفة.. الخ، وكانت مناهج التعليم قائمة على الإلقاء والتكرار والحفظ والقراءة وإلى ما إليها، ولم تكن هناك شهادات تُعطى أو امتحانات تُقام،‏وإنما كان الشيخ يجيز تلاميذه ولا ننسى المعوقات المتعلقة بالمواقف والمؤسسات، والتي حالت دون ظهور العلم الحديث في الحضارة العربية الحديثة،‏ومن الواضح أن التفسير التقليدي للشريعة الإسلامية كان والنظر إلى بقية الدول والشعوب على أنها مجموعة من الأعراق البربرية المنمطة.
هناك إشارة هامة،‏فيما يخص عجز الحضارة العربية الإسلامية عن إبداع العلم الحديث،‏وهي السيطرة المريرة للعثمانيين عليها،‏وهم الذين يتصفون بالجمود، وفقدان الألمعية العلمية، إضافة لدخول الاستعمار الأوروبي الغربي لكافة بقاع الأمة العربية والإسلامية، ومنذ غزو أو فتح العثمانيين وسيطرتهم على الأمة الإسلامية والعلم في حالة تراجع وانحدار، وهذا ما لم يذكره المؤلف في إطار العوامل التي أعاقت نشأة العلم الحديث لدى الأمة العربية والإسلامية. نستنتج من ذلك أن ميلاد العلم الحديث كان نتاجاً للأنظمة الدينية والفلسفية والتشريعية،‏وإقامة التصور القانوني،‏والمناخ المحايد،‏وحرية البحث،‏وهذا ما حصل مع أوروبا،‏وحققت جميع هذه الشروط، نشأة العلم الحديث في الغرب.

7ـ آليات العلم الحديث.

يجيب (توماس كون) في كتابه (بنية الثورات العلمية) عن السؤال التالي: كيف تنتقل وتتغير النظرة العلمية من النظرة القديمة للعلم إلى النظرة الجديدة أو الحديثة؟ وكيف تتغير المرجعيات وأسس وقواعد علمية حديثة للنظريات العلمية الجديدة؟ كيف نتحول من كوبرنيكوس وكبلر وجاليليو ونيوتن، إلى اينشتاين وهايز نبيرغ وبور؟ ما هي الآلية التي بمقتضاها يتم التحول والتغيير؟ وهل النظريات العلمية المعاصرة هي آخر ما يمكن أن يقوله العلم في ذلك؟ كيف تتقارب عن هذه الأسئلة أو تتباعد،‏تتآلف أو تتناقض؟
للإجابة عن هذه الأسئلة يقدم (توماس كون) في تفسيره لآلية حدوث (الثورات العلمية) نظريته التي يسميها (النموذج الإرشادي) فما هو مضمون هذه النظرية،‏وهل هي كافية لتفسير ذلك..؟
إن دراسة تاريخ العلم وسيلة رئيسية لتطور أسس العلوم ونظرياتها وإثرائها وتوسيع نطاق مشكلاتها وإمكاناتها المعرفية. ضمن هذا التوجيه،‏يعتمد كتاب (كون) الذي يعتبر من أبرز الدراسات التي تأخذ بالمنهج المتعدد المباحث، لدراسة عملية إنتاج وتحول المعرفة العلمية في إطار ثقافي نفسي اجتماعي تاريخي،‏يقول المؤلف إن هدفه الأساسي هو العمل بإلحاح وجد من أجل إحداث تغيير في إدراك وتقييم المعطيات المألوفة،‏ويبدأ كتابه بدعوتنا إلى تغيير نظرتنا إلى التاريخ بعامة،‏وتاريخ العلم بخاصة،‏وإلى أن ننظر إليه نظرة جديدة لا على أنه وعاء لأحداث متتابعة زمنياً ، ومن ثم تراكمياً ، بل يؤكد أن تغير النظرة سيتبعه تحول حاسم في صورة العلم. والصورة الجديدة البديلة عند (كون) تمايز بين مرحلتين من تطور العلم داخل إطار حاكم هو (النموذج الإرشادي) وقوامه شبكة محكمة من الالتزامات المفاهيمية،‏والنظرية المنهجية. والمرحلة الثانية هي مرحلة الثورة العلمية،‏حيث يتم إبدال النموذج الإرشادي بآخر جديد، تتغير معه صورة الوقائع ومعايير القبول أو الرفض.
ويؤكد (كون) حقيقة بالغة الأهمية،‏وهي أن المفاهيم النظرية متضمنة في عملية المشاهدة العلمية ذاتها،‏وتحدد طبيعتها ونتائجها. وعلى ذلك، فإن كل نظرية علمية،‏أو مجموعة نظريات علمية تشكل فيما بينها نموذجاً ‏إرشادياً ، وهو بمثابة الهيكل النظري والمرجعي للقواعد والمعايير والمفاهيم، التي تنطوي عليها النظرية،‏أو مجموعة النظريات في زمان ومكان،‏وشروط نفسية، اجتماعية،‏تاريخية، موحدة، بحيث تتشكل وحدة النموذج الإرشادي. ولكن هذه النظريات،‏ضمن النموذج الإرشادي الواحد،‏وغالباً ما تحتوي في جوفها على بعض الثغرات والنواقص والعيوب،‏فيبدأ النموذج الإرشادي الجديد يتكون في قلب القديم،‏عن طريق سد بعض الثغرات العلمية الواضحة،‏أو إكمال بعض النواقص،‏ونفي بعض العيوب،‏لأن تصبح مزايا مكتملة. وهكذا تولد نظريات جديدة، في داخل النموذج الجديد، إما بشكل تدريجي، متسلسل أو بشكل انقلاب ثوري عنيف. على هذه الصورة تنشأ الثورات العلمية الجديدة محل القديمة،‏لفشل القديمة في تقديم الحلول والتفاسير والشروح لمستجدات القضايا العلمية. ربما أن نظرية (كون) تصب في مجال العلوم الطبيعية، كالفيزياء والكيمياء والرياضيات وسواها، لكنها في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية،‏لا تحقق نفس النجاح السابق، لأن النظريات العلمية حول المسائل الإنسانية والاجتماعية تتكامل وتتعاون، فهي لا تنسخ بعضها أو تثور على أضدادها بل تتقوى وتشتد من بعضها. بديهي أن البحث العلمي يقوم على مجموعة من الركائز منها: الاستنتاج،‏الفرضية،‏المنهج، وغيرها من العناصر مثل الاستقراء والحدس فما هي أهميتها في التفكير العلمي؟ يجيب‏(بيتر مدور) في كتابه (الاستقراء والحدس في التفكير العلمي) إن المذهب الاستقرائي هو صيغة من المعتقدات، يتميز بالانتقال من الخاص إلى العام، في حين أن الاستنباط هو الانتقال من العام إلى الخاص، فالاستقراء هو مخطط أو صيغة للمحاكمة، تمكننا على نحو ما،‏من الانتقال من أحكام تعبر عن وقائع خاصة إلى أحكام عامة تشملها وينبغي لها أن تضيف شيئاً ‏جديداً ، بعد ذلك ينتقل المؤلف ليعدد د. عيوب ومآخذ النمط الاستقرائي في المحاكمة، ثم يرجع لشرح المزايا ونقاط القوة في هذا النمط من التفكير، ولا يَنسى أن يقارب بين (مل) و(جاليليو) و(بيرس) وغيرهم من فلاسفة وعلماء ومفكرين، إلى أن يصل إلى أن لكل علم منهجه وطريقته الخاصة. والطريف في هذا الطبيب، وهو الحائز على جائزة نوبل في الطب عام 1960م لأبحاثه في النمو والشيخوخة والمناعة وتحولات الخلايا،‏أنه يُعلي من شأن الحدس في إطار البحث العلمي المضبوط، ذلك أن الحدس نمط من التخمين والتوقع بصدد حالة ما أو ظاهرة ما، بدون مقدمات أو معارف شاملة مسبقة. فإذا ما أدركنا أن الكتاب وضع في أواخر الستينات، وترجم في الثمانينات وكان المؤلف طبيباً ‏ناجحاً ‏ومبرزاً ‏في مجال عمله،‏ولكنه غير مختص بالعلم وبالبحث العلمي ومناهجه، وكان المترجم دارساً مختصاً في علم النفس لتوضحت صورة الاضطراب الشديد التي سادت في كل صفحات الكتاب وينصرف جهد (د. جون. ب ديكنسون) في مؤلفه عن (العلم والمشتغلون بالبحث العلمي في المجتمع الحديث) في وضع الآراء القانونية والتشريعية لمهنة البحث العلمي،‏وتعريف الجمهور بها،‏وحقوق الباحث والمؤسسات العلمية ويشير إلى أن التطور العلمي مستحيل بدون الباحثين العلميين، الذين يفترض في أممهم أن تعدهم لهذا العمل الجليل،‏ويذيل كتابه بالمواثيق والاتفاقات الدولية حول هذه المهنة، وحقوق حيوانات التجارب، وطرق وأسس إعداد الباحث، وأهمية فرق البحث العلمي،‏والتعاون بين مراكز البحوث، وكيفية الإبداع في هذه المهنة، مما لا يستغني عنه أي باحث. فالبحث العلمي مضنٍ صامت،‏ينطوي على التضحية والإبداع والاختراع والوصول إلى كل ما هو جديد ونافع للجنس البشري برمته.
ومن آليات البحث العلمي نقع على ما يسمى (بالتنبؤ) ونأخذ عليه كمثال كتاب (د. عبد المحسن صالح) الموسوم‏(التنبؤ العلمي ومستقبل الإنسان)، وفيه يُناقش الباحث أهم (الاحتمالات) والتنبؤات المتوقعة في القرون المقبلة للإنسان من الناحية البيولوجية، ورغم أنه ليس لدينا مآخذ على الكتاب الذي يعتبر ترجمة أمينة لأحداث البحوث العلمية في هذا الصدد في فترة الثمانينات، ويبدو العلم فيه وكأنه يصل إلى ضرب من الخيال والسحر والأعاجيب،‏فيما يخص بنية الإنسان، وأمراضه، وتكيفه، وسيطرته شبه الكاملة على محيطه،‏إلا أنه لنا كلمة حول ذلك، أذكر أنني قرأت كتاباً ‏في السبعينيات لأحد (الدكاترة) في الفلك، وفيه يتنبأ في عام (2000) سوف ننتقل بيسر وسهولة بين الكواكب،‏بل والمجرات وهكذا،‏وهذا في الحقيقة يُبعد العامة عن مطالعة الكتب العلمية الجادة، إذا ما انتشر مثل هؤلاء الباحثين، وشرعوا بالحديث عن (مثلث الموت، القادمون من السماء، أسرار الموت.. الخ) لذا ينبغي وضع الضوابط اللازمة حول التنبؤ، وأهمها: الدراسة العميقة المحيطة الشاملة لظاهرة البحث،‏واعتماد المناهج العلمية الدقيقة من التجريب والملاحظة المنظمة.. الخ حتى يتسير للباحث إمكانية التنبؤ القريب من الصحيح، فلا يشط أو يغلو، ولا يُحكّم العاطفة والانفعال،‏ولا ينقاد للأهواء والمطامع الشخصية، وإذاً أمامنا كتاب (المعقولية في العلم الحديث) لمؤلفه العالم الفرنسي‏(روبرت بلانشه) الذي يذهب إلى أن العقل واحد في كل مكان،‏والواقع الطبيعي كذلك إلا أن العلم ليس نسخة طبق الأصل عن الواقع، ولا عن نظام تكوينه وتحركه، كما يتصور الذهن العامي، بل هو مجموعة مقاربات كلما حاذت الواقع زادت دقة وتعقيداً . وهذه المقارنات التي ينشئها العقل ليحيط بعالم التجربة ويخضع لسلطان الإنسان،‏هو ما نسميه معقولية. ولقد بلغت معقولية العلم الحديث درجة من الإرهاف، على الخصوص بعد اكتشاف عالمي الصغائر والكبائر، صار معها من الممتنع على غير المتخصص أن يعرف أصولها وترابطها والأسس التي تقوم عليها.. فإذا كان المرء قد بدأ في الغموض عندما تناول مسألة العلم، عند ظهوره على سطح الأرض، فالآن ومع قمة وذروة التطورات العلمية الهائلة ترجع بها القهقرى نحو الغموض ثانية. فالواقع من التعقيد والتشابك والميوعة والتدافق،‏بحيث يكاد يستحيل فهمه وضبطه على أكمل صورة ممكنة إلى هذه النتيجة قصد الكتاب، رغم صعوبة بعض المصطلحات الرياضية والفلسفية والمنطقية على القارئ المتوسط، إلا أنه عصي على النقد،‏لأنه يحاول دائماً ‏جمع التناقضات.


الخاتمة.

وخلاصة للمراجعة والتقييم نقول: إننا وضعنا الكتب الأحد عشر في (سلة واحدة) لأن لها موضوعاً ‏واحداً وهو العلم، وقد تناولت كافة الكتب الظاهرة العلمية من مختلف الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية، التاريخية والدينية والآلية،‏ولاحظنا أنها متكاملة ومترابطة إلا أن ما عاب بعضها عدم الإطلاع على البعض الآخر، وذهب البعض الآخر مذهباً جمودياً ، أحادي النظرة،‏مما أضعف دراسته للظاهرة العلمية.
والمدخل المتعدد الجوانب،‏هو ضرب من العلم الحديث، يدرس الظاهرة من كل الجوانب والأرجاء، ويرصد العوامل المؤثرة والناتجة على عناصر ومكونات هذه الظاهرة، حتى يصل إلى فهم أكمل وأوضح وأشمل. فيما يخص كتب سلسلة (عالم المعرفة) امتازت بالجودة كتابة وترجمة،‏وتقديماً ، ومراجعة من حيث الكتابة أو الترجمة، الشكل أو المضمون،‏وكتبت بلغة علمية مبسطة، دون أن تخل بالمعنى، لكن يؤخذ على بعضها مثل (فجر العلم الحديث ج1 ج2) التناقض بين مذاهب المؤلف، وما يورده المترجم في الحواشي. رغم إشارة مستشار السلسلة د. فؤاد زكريا إلى ذلك في مقدمة الجزء الثاني. ويمكن اعتبار كتاب (نشأة الفلسفة العلمية) لهانزر ريشنباخ وترجمة د. فؤاد زكريا من أفضل ما ترجم إلى العربية حول (فلسفة العلم) خاصة وأن أنفاس الفيلسوف د. فؤاد زكريا‏تتلاحق مع أفكار المؤلف،‏بالنقد والإضافة والتعليق، بحيث أنها أجادت، إن لم نقل كادت تتفوق على المؤلف نفسه، أما الكتب الصادرة عن وزارة الثقافة السورية وهما الكتابان (الاستقراء والحدس في التفكير العلمي) لـ (بيتر مدور) و(المعقولية في العلم الحديث) لـ (برت بلانشيه) فهي أقرب للمقالة منها للكتب، فضلاً ‏عن غياب التنسيق والتنظيم في عرض الكتاب،‏وتزويده بالهوامش الضرورية،‏وكانت الترجمة للكتاب الثاني لـ (د. العوا) أفضل وأعمق ومحيطه أكثر بعناصر الموضوع من الكتاب الأول، رغم وقوع الكثير من المصطلحات الغامضة، والمعادلات الرياضية والمنطقية الضيقة الاختصاص، ولكن على وجه العموم، قدمت هذه الكتب مجتمعة شرحاً وتفسيراً ‏وتحليلاً ‏وافياً لـ (ظاهرة العلم الحديث) من كافة الجوانب،‏واصابت هدفها بمقدرة فائقة،‏وقدمت الحلول المناسبة لاستيلاد العلم الحديث وتوطينه،‏والعمل على نموه ونضجه وازدهاره، والكرة الآن في مرمى صانع القرار، فماذا هو فاعل؟

* باحث من سوريا، عضو هيئة التدريس بجامعة دمشق، كلية التربية.


 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة