شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
نشأ مع نزول القرآن الكريم مدّ فكري جديد، من سماته الأساسية صياغة الكليات، وعدم الوقوف عند الفروع والجزيئات، والتأكيد على الموضوعية والعلمية في النظرة إلى الأحداث والأشياء. ولقد أحدث هذا ثورة في الفكر البشري كله، غيرت المسار الحضاري.للإنسان المسلم إن صياغة الكليات لضبط حركة العقل واجتهاده في فهم الوحي و تطبيقه على الواقع، هو نفسه وضع المنهج لحركة الفكر والحضارة، وبالفعل فإنه لأول مرة تصاغ مناهج للعلوم في الوقت الذي تتفجر فيه وتنمو هذه العلوم.
فنشأت أصول التفسير أو علوم القرآن، لضبط عملية التعامل مع النص القرآني، وفهم المراد منه فهماً موضوعياً. ونشأت أصول الحديث أو علوم الحديث، لضبط التعامل مع الحديث من حيث الثبوت والشرح. ووضع علم أصول الفقه، لضمان استنباط سليم للأحكام الشرعية. وكانت (علوم الأصول) هذه مناهج للعلوم، أصّلت الفكر العلمي، ووضعت حداً فاصلاًبينه وبين الفكر الخرافي.
واليوم، ومن منطلق علمي،نعرف جيداً أنه لا معنى للعلم بدون منهج، وأن كل محاولة لصياغة النتائج خارج الدراسة الواعية والإلتزام المضبوط بمنهج الصياغة، لابد أن تنتهي إلى أحكام غريبة وغير موضوعية أصلاً، كمن يحاول ـ مثلاًـ صياغة القوانين الفيزيائية دون التقيد والمرور عبر مراحل المنهج التجريبي.
لأن علم أصول الفقه هو: «القواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية الفرعية من أدلتها التفصيلية» (1) ، أي إلى صياغة الأحكام الفقهية، فإنه من أول العلوم الإسلامية ظهوراً، فقد نشأ مع علم الفقه نفسه، لأنه حيث يكون فقه يكون حتما ًمنهج للإستنباط، يهدف إلى منع خضوع إستنباط الحكم الشرعي للهوى، أو للمزاج الشخصي، وإلى الحيلولة دون إدخال عناصر غريبة في الشرع، إما نتيجة فهم غير سليم للنص، أو عدم مراعاة حقيقية لملابساته، أو الإجتهاد دون التزام ضوابطه الشرعية في حالة عدم النص.
وسنحاول هُنا وضع اليد على الأسس التي ينبني عليها المنهج الأصولي، والتي وجّهت طريقة صياغة قواعده، وطريقة تعامله مع النص الشرعي ومع الواقع.
قصد المنهج الأصولي إعطاء حركة العقل مجالاً واسعاً فسيحاً، وهذا واضح في القاعدة الأصولية المشهورة: «المجتهد المصيب له أجران، والجتهد المخطىء له أجر واحد» (2) ، فليس هناك تشجيع على حرية الفكر، وحثّ على إطلاق قدرات العقل وإبداعاته أكبر من هذا، حتى أن الإجتهاد المؤدي إلى الخطأ يؤجر عليه، وعُرف لدى علماء المسلمين أن: «صريح المعقول لا يمكن أن ينافي صحيح المنقول » (3) ، والشرع ما أتى بديلاً عن الفكر والعلم، ولا لإلغاء نتائج الجهد البشري، وإنما أتى لتوجيه ذلك كله نحو خالق الكون، ونحو الخير والعدل.
وقد أشار أبو إسحاق الشاطبي في موافقاته أن المقدمات المستعملة في علم الأصول إما عقلية وإما سمعية (4) ، وأكد في مكان آخر أن الأدلة الشرعية لا تنافي قضايا العقول، والدلائل على ذلك كثيرة، منها أن: «الأدلة إنما نصبت في الشريعة لتتلقاها عقول المكلفين ..ولو نافتها لم تتقبلها فضلاً أن تعمل بمقتضاها» (5) ،وأن «مورد التكليف هو العقل، وذلك ثابت قطعاً بالإستقراء التام، حتى إذا فقد ارتفع التكليف راساً» (6) ، وأن «الإستقراء دل على جريانها على مقتضى العقول، بحيث تصدقها العقول الراجحة..».
إلا أن العقل، في المنهج الأصولي، له مجاله الذي يملك الأدوات لينتج فيه، أما المجال الغيبي ومجال الكليات الكبرى، فهو هنا في حاجة إلى الوحي يوجهه ويقومه، وبعبارة أخرى أن العقلانية هُنا عقلانية واقعية عملية، بعيدة عن التهويم الخيالي في عالم الغيب، وبعيدة عن الفرضيات الصورية، ولأن كل هذا ينتهي دائما ًبالعقل إلى الحيرة والضياع (7) .
في علم الأصول يكون موضوع الفكر هو الواقع البشري، بخصوصياته وتفاعلاته وحاجياته، ويكون هدفه هو العمل، لذلك يقول الشاطبي: «كل مسألة مرسومة في أصول الفقه لا ينبني عليها فروع فقهية، أو آداب شرعية، أو لا تكون عوناًعلى ذلك، فوضعها في أصول الفقه عارية» (8) ، ويقول:«كل مسألةلاينبني عليها عمل فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي، وأعني بالعمل عمل القلب والجوارح من حيث هو مطلوب شرعاً» (9) .
ومن ثم، فموضوع علم الأصول ليس هو موضوع العقيدة أو السلوك... إنما هو يضع منهجاً لإستنباط الأحكام العملية، أو هو بتعبير آخر،تنظير للواقع ولسلوك الفرد والجماعة في هذا الواقع. وما الإهتمام بأسباب النزول، والناسخ، والمنسوخ، إلا جزء من مراعاة هذا الواقع، وأخذ تغيراته بعين الإعتبار.
وطبيعي أن هذه الخاصيّة نابعة من تأثير القرآن الكريم في العقل المسلم، بالتوجيه المستمر إلى العمل، وإيثاره على اللجاج والجدل، وعرض أمور العقيدة ببساطة بعيداً عن التعقيدات الفلسفية، لذلك فإن «المسلمين بدأوا البحث في المسائل العملية قبل البحث في المسائل الإعتقادية، ونتج عن هذا أننا نستطيع أن نجد منهج البحث الإسلامي لدى علماء أصول الفقه، قبل أن نجده لدى علماء أصول الدين» (10) .
ثم كان من نتائج هذه الخاصية أن نشأ من صُلب علم الأصول: الفكر الإسلامي السياسي، والإقتصادي، والإجتماعي، والتربوي..وصيغت قواعد رعاية المصلحة، ورفع الحرج، ومراعاة مقاصد الشرع وأهدافه. ومن الضروري اليوم، في كل محاولة تجديد لأصول الفقه، أن تؤخذ بعين الإعتبار هموم المجتمعات المسلمة الحاضرة وحاجياتها، فلا تكون المباحث الأصولية في وادٍ، والواقع الذي تنظر له في وادٍ آخر.
مَع أصول الفقه، ظهر المنطق الإستقرائي بصورة أكثر علمية، وأخذ وسيلة لصياغة القواعد والضوابط الأصولية، على عكس الفروع الفقهية التي تصاغ بمجرد الإستنباط من دليل واحد ولو كان ظنياً.
والإستقراء هو صياغة قاعدة عامة من تتبع حالات جزئية كثيرة، أو تجميع أدلة جزئية متعددة لا يقوى أي منها وحده على إفادة القطع. وهو يستخدم كثيراً لصياغة القوانين في العلوم التجريبية. ومثاله: أن نلاحظ أن قطعة أولى من الحديد تتمدد بالحرارة، ونلاحظ أخرى فنراها كذلك، وهكذا ثالثة ورابعة.. فنستنتج أن كل الحديد يتمدد بالحرارة.
ولأن آحاد الأدلة غالبها ظنيّ الثبوت أو الدلالة أو هما معاً، فإنها لا تعتمد وحدها في إثبات الأصول، «وإنما الأدلة المعتبرة هُنا المستقرأة من جملة أدلة ظنية تضافرت على معنى حتى أفادت القطع، فإن للإجتماع من القوة ما ليس للإفتراق» (11) .
ومثال ذلك أن الأدلة التي يُستدل بها على كون الإجماع أصلاً من أصول الأحكام كلها ظنية، لكنها بمجموعتها تفيد أمراً قطعياً، وتمكن من ثم من صياغة القاعدة الأصولية.
وقد أشار الغزالي إلى هذا الأمر أثناء إثباته حجيّة الإجماع، فبعد إشارته إلى مجموع النصوص الواردة في الموضوع، بيّن أن من أوجه الحجة «أن ندعي العلم الضروري بأن رسول الله (ص) قد عظّم شأن هذه الأمة، وأخبر عن عصمتها عن الخطأ بمجموع هذه الأخبار المتفرقة وإن لم تتواتر آحادها.. وذلك يشبه ما يعلم من مجموع قرأئن آحادها لا ينفك عن الإحتمال، ولكن ينتفي الإحتمال عن مجموعها حتى يحصل العلم الضروري» (12) .
إن هذه الخصائص التي انبنى عليها المنهج الاصولي، جعلت منه المفجّر الاساسي للنهضة العلمية في العالم الإسلامي، فمن توجيه للعقل، إلى ميدان إنتاجه الحقيقي، بعيداً عن التهويم الخيالي في مجال الغيب، إلى التركيز على العمل، وحاجيات الواقع البشري، ومراعاة خصوصياته، إلى الإعتماد على الإستقراء لصياغة القواعد والقوانين، مما يعتبر بحق انطلاقة المنهج التجريبي في العالم الإسلامي.
وقد أجاد الدكتور (علي سامي النشار) في كتابه: (مناهج البحث عند مفكري الإسلام)، عندما حاول أن يتتبع أوجه تأثير المنهج الأصولي، وأشار إلى أن «السبب الرئيسي في تطوره ودفعه دفعة قوية إلى الأمام، ولولا هذه (الدفعة) لما عاش، ولما اعترف به مؤرخو العلم الأوروبيون أدنى اعتراف..لقد كان بيدهم المنهج الإستقرائي الذي اكتشفوه كما رأينا كاملاً، وقد رأينا حركة اكتشافه لدى مفكري الإسلام. وقد انتقل هذا المنهج إلى دوائر العلماء» (13) .
إن لمجموع هذه الحقائق نتيجتين أساسيتين:
1ـ ضرورة دراسة هذا المنهج الأصولي بعمق أكبر، لأن كل عملية تجديد في علم الأصول، لابد أن تراعي أسسه و منطلقاته، والهدف أن يستوعب علم الأصول حاجيات أمة تريد الإنفلات من حالة التخلف والإستضعاف، إلى حياة العلم والعزة.
2ـ ضرورة دراسة تأثير المنهج الاصولي في الدوائر العلمية في العالم الإسلامي، ومن ثم في مسيرة الحضارة الإنسانية ككل. إنه قبس من الوحي ولايمكن أن يتدخل الوحي في حياة البشر، إلا ليحدث تغييرات جذرية في مسار تاريخهم كله، وعلى كل مستوى، وهذا من بينها..
(1) الشوكاني، إرشاد الفحول ص3. (2) أصلها حديث الرسول (ص): «إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر واحد» أخرجه البخاري ومسلم، انظر صحيح الجامع الصغير لناصر الدين الألباني 1/194.
(3)ـ من عنوان كتاب لشيخ الإسلام ابن تيمية.
(4)ـ الموافقات 1/34.
(5)ـ المصدر نفسه 3/37.
(6)ـ المصدر نفسه 3/38.
(7)ـ مجلة الفرقان، العدد السابع ص 17 ـ 27.
(8)ـ الموافقات 1/42.
(9)ـ المصدر نفسه 1/46.
(10)ـ د. علي سامي النشار، مناهج البحث عند مفكري الإسلام ص 65.
(11)ـ الموافقات 1/36.
(12)ـ الغزالي، المستصفى 1/112.
(13) مناهج البحث عند مفكري الإسلام ص 258 ـ 259.
شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
يحاول الكاتب محمد محفوظ في 166 صفحة أن بضيئ الحديث عن السلم الأهلي والمجتمعي، في الدائرة العربية والإسلامية، بحيث تكون هذه المسألة حقيقة من حقائق الواقع السياسي والإجتماعي والثقافي، وثابتة من ثوابت تاريخنا الراهن.
ينتمي مالك بن نبي وعبدالله شريط إلى بلد عربي إسلامي عانى من ويلات الاستعمار ما لم يعانه بلد آخر، سواء في طول الأمد أو حدة الصراع أو عمق الأثر. إنهما مثقفان عميقا الثقافة، مرهفا الشعور، شديدا الحساسية للمعاناة التي عاشها ملايين الجزائريين من ضحايا مدنية القرن العشرين، بأهدافها المنحطة وغاياتها الدنيئة.
عقد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات خلال الفترة الواقعة بين 6 و 8 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2012، مؤتمرًا أكاديميًّا عنوانه «الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي: تجارب واتّجاهات»، في فندق شيراتون بالدوحة، وشهد الافتتاح حشدًا كبيرًا من الباحثين والأكاديميّين من دول عربية.
يأتي الاهتمام بالقضية الفنية في فكر الأستاذ عبدالسلام ياسين من منطلق أن الوجود الحضاري للأمة كما يتأسس على أسس القوة المادية التي يمليها منطق التدافع القرآني أي التدافع الجدلي بين الخير والشر الذي هو أصل التقدم والحركة، يتأسس كذلك على جناح تلبية الحاجات النفسية والذوقية والجمالية بمقتضى الإيمان الذي هو ...
ثمة مضامين ثقافية ومعرفية كبرى، تختزنها حياة وسيرة ومسيرة رجال الإصلاح والفكر في الأمة، ولا يمكن تظهير هذه المضامين والكنوز إلَّا بقراءة تجاربهم، ودراسة أفكارهم ونتاجهم الفكري والمعرفي، والاطِّلاع التفصيلي على جهودهم الإصلاحية في حقول الحياة المختلفة
لا شك في أن الظاهرة الإسلامية الحديثة (جماعات وتيارات، شخصيات ومؤسسات) أضحت من الحقائق الثابتة في المشهد السياسي والثقافي والاجتماعي في المنطقة العربية، بحيث من الصعوبة تجاوز هذه الحقيقة أو التغافل عن مقتضياتها ومتطلباتها.. بل إننا نستطيع القول: إن المنطقة العربية دخلت في الكثير من المآزق والتوترات بفعل عملية الإقصاء والنبذ الذي تعرَّضت إليه هذه التيارات، مما وسَّع الفجوة بين المؤسسة الرسمية والمجتمع وفعالياته السياسية والمدنية..
لم يكن حظ الفلسفة من التأليف شبيهاً بغيرها من المعارف والعلوم في تراثنا المدون بالعربية، الذي تنعقد الريادة فيه إلى علوم التفسير وعلوم القرآن والحديث والفقه وأصوله، واللغة العربية وآدابها، وعلم الكلام وغيرها. بينما لا نعثر بالكم نفسه على مدونات مستقلة تعنى بالفلسفة وقضاياها في فترات التدوين قديماً وبالأخص حديثاً؛ إذ تعد الكتابات والمؤلفات في مجال الفلسفة، ضئيلة ومحدودة جدًّا، يسهل عدها وحصرها والإحاطة بها.