شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
ـ العولمة، هي محاولة في تشكيل رؤية جديدة ومختلفة نحو العالم، والنظر له ككل واحد، وجعله إطاراً ممكناً للتفكير، مع وجود آليات وتقنيات لها قدرة التعامل مع حقائقه ومعطياته وعناصره.
كما ان العولمة جاءت لكي تفتح موجة من التغيرات تشمل العالم برمته، وتجعله مفتوحاً على بعضه، ومتداخلاً بين أطرافه، ومتقارباً بين أجزائه. هذه هي الصورة التي راد لها ان تتشكل ذهنياً ومجازياً حول العالم، والتي تتصف بالاختزال الشديد، والتركيب المكثف، والتفاعل المرن، هذه الصورة الافتراضية تختلف عن صورة العالم في واقعه الموضوعي المحكوم بعناصر الجغرافيا في مساحته وتضاريسه الواسعة والمعقدة، وبقوانين الفيزياء من جهة المكان والزمان.
لقد عبرت العولمة عن فهم في غاية الحساسية والتعقيد والتشابك، وهي فلسفة تركيبية واختزالية واندماجية، تحاول أن تجعل من العالم المتنوع والمتعدد والمتناقض في هوياته وثقافاته وقومياته ولغاته ودياناته وجغرافياته، إطاراً في قالب واحد. وهي التوظيف الايديولوجي والعقائدي الصامت، الذي يخفي معه ايديولوجيته لثورة المعلومات وتكنولوجيا الاتصالات وتقنيات الاعلام المتطورة التي ربطت الكون بشبكات جعلت منه أشبه بقرية صغيرة، أو حسب وصف عالم الاجتماع الكندي، أستاذ الاعلاميات في جامعة تورنتو «مارشال ماك لوهان» بالقرية الكونية، الذي أطلقه منذ وقت مبكر في كتابه الذي صدر في نهاية الستينيات «حرب وسلام في القرية الكونية».
وقد جاءت العولمة لكي تقدم مضموناً واتجاهاً فكرياً لمفهوم القرية الكونية. واستبدالاً له، وتطويراً لفلسفته والغايات المرجوة منه.
هذا الفهم للعولمة هو الذي حرض على هذا الاشتغال العالمي الواسع لهذه الظاهرة التي يتداخل فيها الثقافة بالاقتصاد وبالسياسة وبالاجتماع وهكذا بالتربية وقضايا الأمن والدفاع وشؤون البيئة. فالعالم يكاد تقريباً أن يشترك في الاهتمام والاحتجاج لهذه القضية، بأكثر من اتجاه في الفهم والنظر والنقد والتحليل. حتى أصبحت العولمة من أكثر المقولات تداولاً وسجالاً في هذا الوقت، الأمر الذي يؤكد جدية هذه الظاهرة وخطورتها وما أفرزته من تباين حاد في اتجاهات التفكير والنظر عكست ما هو مضاد للعولمة، وأكدت من زاوية أخرى ضرورة التداخل مع العالم والانفتاح عليه والتفاعل مع قضاياه وشؤونه. فلم يعد من الممكن على الدول والمجتمعات أن تعزل نفسها عن العالم وموجات تأثيره العاتية، وليس هناك من باستطاعته أن يعيش بمفرده في هذا العالم، كما ان الانغلاق ليس حلاً ولا خياراً، بل ومن غير الممكن في عالم شديد الترابط والتداخل. وهذا لايعني بالتأكيد أن تتبع الدول والمجتمعات سياسة الباب المفتوح، والاندماج القهري بالعولمة، والتعرض لرياح التغيير من جهاته المختلفة..
فليست هناك قراءة واحدة للعولمة، ولن تكون أيضاً تحت أي ظرف من الظروف، في عالم تضخ فيه الأفكار وتتصادم فيه النظريات، ولن يكون العالم في أي وقت من الأوقات بحاجة إلى قراءة واحدة، أو تحت هيمنة قراءة واحدة.
لقد استطاع الغرب خلال القرن الأخير أن يكيف التغيرات وفق منظومته الفكرية ونسقه القيمي والاقتصادي، وأن يدفع بتحولات شديدة التأثير كان من نتائجها الاستتباع الحضاري للغرب. فالغرب هو أكبر مؤثر على العالم في هذا الوقت، ويسيطر على أهم العوامل تأثيراً كالمؤسسات الاعلامية السمعية والبصرية، ووسائل الاتصال والمعلومات، والمنظمات الاقتصادية، والشركات المتعددة الجنسيات والعابرة للقارات إلى غير ذلك. هذه العوامل والمؤسسات هي التي أنتجت العولمة وهي من أخطر محصلاتها..
الغرب الذي ابتكر مفهوم العولمة، هو الذي حدد لها مضامينها وهويتها ومكوناتها الفكرية والاقتصادية، وهو الذي يقود حركتها في العالم ويروّج لهذا المفهوم. وهذا أحد أهم مصادر التوجس والخوف الذي تظهره الأمم والحضارات تجاه قضية العولمة. لأن الغرب لا يريد إلا أن يرى نفسه وحضارته في هذا العالم، ولازالت نزعة التمركز حول الذات هي التي تشكل عقليته، وان تاريخ علاقاته بالأمم والحضارات كان محبطاً ومروعاً للغاية، حين أظهر سلوكاً استعمارياً متوحشاً، وحول ثقافته إلى امبريالية، وتقدمه إلى توسع وسيطرة خارج محيطه الغربي. ومن المؤكد لو أن الذي كان يقود العالم حضارة أخرى غير حضارة الغرب، لكان وضع الحضارات أحسن حالاً وأفضل تقدماً، ولكانت خريطة العالم الحضارية مختلفة بصورة جذرية عما هي عليه اليوم. لأن الغرب ليس فقط حاول أن ينفرد بالحضارة، وإنما قاوم انبعاث الحضارات الأخرى، وقام بأكبر عملية تدمير للحضارات في العالم. وإلى هذا اليوم فإن الغرب لم يغير من أنماطه السلوكية تجاه الأمم والحضارات، فأكثر المقولات والأطروحات التي يبشر بها ويروج لها في العالم تكشف عن ذلك بوضوح كبير، ابتدأ من مقولة «نهاية التاريخ» التي ألغت وأقصت كل أمم العالم وحضاراته، ولم ير «فوكوياما» في هذا العالم سوى الغرب الذي اعتبره نهاية التاريخ. أو مقولة «صدام الحضارات» التي تدفع الغرب لأن يصادم الحضارات، وبالذات تلك الحضارات التي تشهد انبعاثاً ودينامية، كالحضارة الاسلامية والحضارة الكونفوشيوسية الصينية، حسب «هنتيغتون». وتخلق في العالم توتراً وانقساماً حاداً على مستوى الثقافات والحضارات، أو مقولة «البحث عن عدو جديد» التي افتضحت الغرب وكشفت عن عناصر الضعف في بنيته الحضارية، فهل الغرب بعد كل هذا التقدم المذهل بحاجةýإلى عدو، فإلى متى إذن يستغني عن هذا العدو!
لهذا فإن من المبرر ما تظهره الأمم والحضارات من خوف وحذر وقلق تجاه أحدث مقولات الغرب وهي العولمة.
ولسنا وحدنا في العالم العربي والاسلامي من يتظاهر بهذا الخوف، فهناك من داخل الغرب نفسه من يحذر بشدّة ويقاوم هذه العولمة، وفي مقدمة هؤلاء الفرنسيون. وأوروبا بصورة عامة أخذت تدافع عن هويتها ونموذجها المجتمعي والقيمي، في مواجهة ما تسميه بالغزو الثقافي والأمركة الثقافية، والذي سوف يعزز معه حدّة التباينات الثقافية بين أوروبا وأمريكا.
وقد نشط الفرنسيون في السنوات الأخيرة الفرنكوفونية التيار الذي يحاول أن يقدم أطروحته إلى العالم على أساس التنوع الثقافي في مواجهة تيار الأنجلوسكسونية الزاحف بقوة على العالم. وقد جاء المؤتمر الذي عقد في بيروت خلال شهر أيار ـ مايو ـ 1998م، تحت شعار «الفرنكفونية والعولمة» والذي عقد في إطار اجتماع الجمعية العامة الثانية عشرة لرابطة الجامعات الناطقة كلياً أو جزئياً باللغة الفرنسية ـ أوبلف ـ وجامعة شبكات التواصل الفرنسية ـ أدريف ـ لكي يعبر عن قلق هذا التيار من العولمة وتوجيه خطاب نقدي لها. وقبل هذا الوقت، في شهر نيسان ـ ابريل ـ 1996م أصدر الحزب الاشتراكي الفرنسي تقريراً بعنوان «العولمة وأوروبا وفرنسا» تضمن هجوماً نقدياً عنيفاً للعولمة في صبغتها الأمريكية، وكشف هذا التقرير إلى جانب معطيات أخرى عن امكانية تطور التباينات الثقافية بين أوروبا وأمريكا.
لقد كان ملفتاً ما تعرضت إليه العولمة في العالم من نقد صارم وعنيف، برهن على تخوفات حقيقية، وان الأمم والحضارات ليست على استعداد للانصياع والاستتباع الحضاري لتيار العولمة الجارف، وما أطلقته من أحلام وردية ووعود سحرية، تخفي وراءها أضراراً خطيرة، كالتي حاول أن يصورها كتاب «العولمة والجنوب» (1) الذي اعتبر العولمة ليست فقط تكرس الفروقات وانعدام العدالة الاجتماعية واللامساواة بين الشمال المتخم بالغنى والجنوب المدقع بالفقر، وإنما تضاعف هذه الفروقات، وتجعل من الصعب ان لم يكن من المستحيل ردم الفجوة التي اتسعت وسوف تتسع مع العولمة ليس في دول الجنوب فحسب، وانما سوف تعمق جيوب الفقر داخل الغرب نفسه.
أو كالتي صورها كتاب «العولمة: النظرية والممارسة» (2) حيث اعتبر هذه الظاهرة أنها دشنت عهداً فظاً من العدوان على البيئة كان من مظاهرها انتشار التلوث وتآكل طبقة الأوزون وانكماش التنوع الاحيائي والهدر في استخدام مصادر الطاقة التي لا يمكن تجديدها.
أو كالذي تحدثت عن الكاتبة الفرنسية «فيفيان فورستر» في كتابها الذي اعتبر قاسياً وأثار اختلافاً «الرعب الاقتصادي» حيث تطرح السؤال التالي: ما الذي يحصل عندما نعلم أنه ليس ثمة أزمات، بل مجرد تبدل وتحول يقودان مجتمعاً بأكمله، بل وحتى حضارة بأجمعها إلى المجهول؟ بدون أن ندرك أن الحضارة السابقة ولت إلى الأبد؟.
وقد انتقد هذه الأصوات الغاضبة الكاتب الفرنسي «ألان منك» في كتابه «العولمة السعيدة» الذي حاول أن يقدم العولمة على أنها ليست شراً أو خيراً في ذاتها، ولا داعي من الافراط في وصفها بالوحشية أو الفتك والرعب، وخلق الأجواء المفزعة حولها. وسوف يستمر الجدل الذي يختلط فيه المعقول واللامعقول، والحقائق والأوهام، والوقائع والافتراضات، وبين الموافق والمخالف في قضية العولمة.
يذهب استاذ العلاقات الدولية في جامعة كولومبيا «دافيدر وثكوبف» بقوله: «صحيح أن العولمة لها جذور اقتصادية، وعواقب سياسية، إلا أنها سلطّت الضوء أيضاً على قوة الثقافة في هذه البيئة الكونية. القوة التي تجمع وتفرق في وقت أصبحت فيه التوترات بين التكامل والانفصال تتأجج في كل قضية ترتبط بالعلاقات الدولية. والواقع أن أثر العولمة في الثقافة، وأثر الثقافة في العولمة يستحقان المناقشة» (3) . فتحت العولمة قضايا الهوية على نطاق عالمي واسع، وأخذ الحديث يقترن بصورة متلازمة تقريباً بين العولمة والهوية، والاصطدام والتعارض بينهما.
ولعله من المرات القليلة خلال القرن العشرين الذي يفتح فيه أوسع حديث واهتمام في العالم، حول قضايا الهوية، وما يتهددها من مخاطر الإلغاء والاقصاء، أو الذوبان والانصهار، والافتراض الثالث هو الانبعاث والاستنهاض.
فقبل توسع الاهتمام حول العولمة، كان الحديث عن قضايا الهوية يقابل بالشك، وعدم الاصغاء والاكتراث، ويصور بطريقة من الفهم ترتد على صاحبها بالنقد. بعكس ما يجري اليوم من اهتمام يتصف بجدية كبيرة يختلط بالقلق، على خلفية ان العولمة تختزل فرض الاتجاه الواحد، وتعميم النسق الواحد للثقافة، من خلال السيطرة على أدوات العولمة وآلياتها التي تنقل إلى العالم الصور والمعاني والرموز والقيم والأنماط، بواسطة الأقمار الصناعية والبث التلفزيوني وبرامج الكمبيوتر وشبكة المعلومات الدولية، «ويقوم موجهو عملية العولمة المتسارعة اليوم بتحسين وسائل وأنظمة النقل الدولي، ويبتكرون تكنولوجيات وخدمات ثورية جديدة في مجال المعلومات، ويهيمنون على السوق الدولي للأفكار والخدمات. وهو ما يؤثر في أسلوب الحياة، والمعتقدات، واللغة، وكل مكونات الثقافة الأخرى.
وقد كتب الكثير حول دور تكنولوجيات وخدمات المعلومات في هذه العملية. واليوم تعرض خمس عشرة شركة أمريكية كبيرة في مجال الاتصالات، بما في ذلك شركات عملاقة مثل موتورولا Motorola ولورال سبيس آند كوميونيكيشنز & Loral Space Communications وتيليديسيك Teledesic ، مشاريع تنافسية ستؤدي إلى تمكين أي فرد في أي مكان من الاتصال الفوري بأي شخص أينما كان دون الحاجة إلى انشاء أية بنية أساسية للاتصالات على الأرض بالقرب من المرسل أو المستقبل، (قدرت شركة لورال تكلفة تلك المكالمة بثلاثة دولارات للدقيقة الواحدة).
إن التكنولوجيا لا تحدث فقط تحولاً في العالم، بل إنها تخلق عالمها المجازي أيضاً» (4) .
وقد انتقد «صامويل هنتينغتون» من يدعون حسب كلامه إلى ثقافة عالمية واحدة مرجعيتها الغرب، بقوله: «كثيرون في الغرب يعتقدون أن العالم يسير نحو ثقافة عالمية موحد واحدة، هي ثقافة غربية أساساً. ومثل هذا الاعتقاد متغطرس، زائف، وخطر. فانتشار السلع الاستهلاكية الغربية لا يعني انتشار الثقافة الغربية» (5) .
هذا الوضوح في كلام «هنتينغتون» وان كان نقدياً،ýإلا أنه يؤكد صحة ما أظهرته الأمم والحضارات من مخاوف تجاه هوياتها وثقافاتها ونماذجها الحضارية. وسوف يكتشف الغرب لاحقاً انه كان سبباً في انبعاث الهويات والثقافات في العالم، حتى تلك الهويات والثقافات التي كاد يلفها النسيان، أو يطمسها التاريخ، أو التي كانت في طريقها للاندثار، نتيجة استفزاز الغرب وانحلالية ثقافته ودوافعه في الهيمنة والسيطرة. اصطدام الغرب بهذه الهويات هو الذي استنهضها وبعث فيها الدينامية والتحدي، حتى تلك الهويات والثقافات التي أطاح بها الغرب لفترة من الزمن كبعض الثقافات القديمة والأصلية التي كانت في أوروبا وأمريكا واستراليا، حيث تستعيد انبعاثاتها وقواها، فالتاريخ يعاد قراءته من جديد في أمريكا الشمالية وملفات رحلات «كريستوفر كولومبس» الذي صوره الأوروبيون كمكتشف أرض الأحلام السعيدة، يتعرض اليوم لمحاكمات تصفه بالقرصنة والتدمير، وانه لم يكن مكتشفاً بل كان غازياً، مارس القتل والنهب والسلب، وان التاريخ في هذا البلد لا يبدأ من رحلته سنة 1492م كما تحدث كتب التاريخ الحديث في أوروبا.
والحقيقة التي ينبغي أن يدركها الغرب، انه لم يعد في نظر الأمم والحضارات غير الغربية، وحتى لبعض الثقافات في عالم الغرب نفسه، ذلك الحلم وأسطورة التقدم والنموذج الأمثل الذي يقتدى به لهذا فإن على الغرب ان يحد من اندفاعه في العالم، ويكشف عن مغامراته، ويعيد النظر في أنماطه السلوكية التي ألبت عليه الأمم والحضارات.
لقد ظهر واضحاً ان الهويات لها طبيعة تجعلها من غير الممكن اقتلاعها بسهولة، أو بضربة قاضية، وبصورة نهائية. قد يتوقف عقرب الزمن عند بعض الثقافات لكنه قد يعود في أي وقت، وقد يخرج بعضها عن مجرى التاريخ لفترة وتعود إليه في فترات أخرى. فالتاريخ له دوراته وله تعاقبه، وهو أعرف بقوانين حركته من أي أحد من البشر. وقد جاء في القرآن الكريم، {وتلك الأيام نداولها بين الناس} (6) . فالأيام هي مداولة بين الناس، وفق السنن والقوانين التي تحكم الحياة والتاريخ والمجتمع. والسر الذي يجعل الهويات لها هذه الطبيعة، لأنها تكرس نفسها وتتجذر بطريقة شديدة العمق، حيث تمتزج بوجدان كل أمة وروحها العامة، وتتداخل وتؤثر بكل الأنماط السلوكية، ونظام القيم والحقوق والواجبات، وأشكال التقاليد والأعراف، بما في ذلك طريقة الأكل ونظم الزواج والعقود والمعاملات، واللغة، والعبادات والطقوس الدينية إلى غير ذلك. ويظل هذا الامتزاج والتداخل والتفاعل يمارس لزمن طويل، وفي ظروف مختلفة ومتبدلة بحيث يكون كفيلاً بأن يجذر ويكرس هذه الهويات التي تنتظم عليها فلسفة العيش المشترك والاندماج في حياة جماعية..
ومع أن من المنطقي ما عبرت عنه الأمم والحضارات من خوف وحذر على هوياتها، إلا أن من غير الممكن أن تقولب العولمة هويات الأمم وتسقطها، قد تحدث اختراقات شديدة، وتستفيد من ثغرات عميقة، إلا ان ذوبان الهويات وانصهارها كلياً ونهائياً فإن من الصعب الجزم به. وإلا فكيف نفسر بقاء أجناس من البشر الأصليين في أمريكا واستراليا يعيشون بثقافاتهم وهوياتهم ونظامهم القيمي الاجتماعي القديم، في وقت أنجز فيه الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية أرقى أشكال التقدم والتطور والحداثة..
يذكر «هنتينغتون» ان لدى تعرض سائر البلدان لعملية التحديث قد تتغرب بأشكال سطحية، دون أن تفعل ذلك على صعيد الأبعاد الأكثر أهمية للثقافة، أي على أصعدة اللغة والدين والقيم. وفي الحقيقة فإن البلدان حين تتحدث تلوذ بثقافاتها ودياناتها التقليدية الضيقة هرباً من العالم الحديث» (7) .
لقد مثلت العولمة تحدياً، وهو التحدي الذي من الممكن أن تستفيد منه الهويات والثقافات التي أخذت تشهد حضوراً متزايداً في حقل السياسات الدولية وعلى مستوى العلاقات بين الأمم والحضارات. ولعل الغرب كان سبباً في هذا الحضور النشط. هذه القضية التي حاول أن يسلط الضوء عليها باهتمام كتاب «عودة الثقافة والهوية إلى نظرية العلاقات الدولية» (8) حيث يطرح تساؤلاً حول الغياب الطويل للاهتمام بالثقافة والهوية عن العلاقات الدولية، ويقدم اطاراً يصلح لاعادة التفكير بالمدى النظري المعاصر لمفهومي الثقافة والهوية.
وفي الفترة الماضية عقدت بعض الندوات والأنشطة الفكرية التي أكدت اشكاليات العلاقة بين العولمة والهوية، من هذه الندوات: ندوة «العولمة والهوية» الرباط، أكاديمية المملكة المغربية، أيار ـ مايو ـ 1997م، «العرب والعولمة» بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، ديسمبر 1997م، «العولمة والحفاظ على الهويات الثقافية والابداع والسياسات الثقافية» باريس، اللجنة الوطنية الفرنسية للتربية والتعليم والثقافة، كانون الثاني ـ يناير ـ 1998م، «السياسات الثقافية من أجل التنمية» استوكهولم، اليونسكو، آذار ـ مارس ـ 1998م، «العولمة وقضايا الهوية الثقافية» القاهرة، المجلس الأعلى المصري للثقافة، نيسان ـ ابريل ـ 1998م، «الفرنكفونية والعولمة» بيروت، نيسان ـ ابريل ـ 1998م.
وفي كل هذه الندوات توجه النقد للعولمة باعتبارها تعمم الاتجاه الواحد للثقافة، وتسلب التنوع الثقافي الذي وصفه تقرير اللجنة العالمية للثقافة والتنمية بالخلاّق.
استحوذت العولمة على أوسع اهتمام في أدبيات العالم العربي، الاقتصادية والثقافية والسياسية والتربوية والاعلامية والتكنولوجية، وسيتضاعف هذا الاهتمام في القرن الحادي والعشرين، الذي ستصبح العولمة من أبرز مظاهره، والأكثر تأثيراً على بلورة ملامحه وقسماته وتضاريسه.
الغرب ينشغل بالعولمة وهو الذي أنجزها، والطرف الفاعل والمؤثر في حركتها، يعيشها ويمارسها كواقع نظم على أساسه امكاناته وقدراته وآلياته ونظمه، وبالتالي فهو يدرك ماهية العولمة وفلسفتها ومستقبلياتها وعلائقها ومفاعيلها، وتأثيرها على خياراته واتجاهاته واستراتيجياته. أما نحن في العالم العربي والاسلامي فننشغل بالعولمة ولسنا طرفاً فاعلاً أو مؤثراً في حركتها واتجاهاتها وصيرورتها، بل لازلنا لم نحسم بعد قراءتنا لماهية العولمة وفلسفتها، فنحن منفعلون بها ولسنا فاعلين، متأثرون بها وليس مؤثرين، محكومون بالخوف والحذر منها، لأننا لا نعرف موقعنا فيها، ولا مستقبلنا منها.
من يرجع إلى الأدبيات العربية لا يجد أنها تقدم فهماً وتعرّفاً واستشكافاً للعولمة بقدر ما تقدم تهويلاً، وكأنها تصف شبحاً قادماً من عالم غريب خارج كوكبنا الشمسي، على طريقة من تصفهم روايات الخيال العلمي. فلا تعرف كيف تصفه، وتحدد هويته، وتشخص قسماته وملامحه، فتقول عنه أي شيء بأوصاف التهويل والتضخيم، أو المجاز والافتراض.
يذهب «صادق جلال العظم» إلى أن العولمة هي «حقبة التحول الرأسمالي العميق للانسانية جمعاء، في ظل هيمنة دول المركز وبقيادتها وتحت سيطرتها وفي ظل سيادة نظام عالمي للتبادل غير المتكافئ» (9) .
ويذهب «محمد عابد الجابري» إلى أن «العولمة هي ما بعد الاستعمار، باعتبار ان الـ ـ ما بعد ـ في مثل هذه التعابير لا يعني القطيعة مع الـ ـ ما قبل ـ بل يعني الاستمرار فيه بصورة جديدة» (10) في مكان آخر يضيف: «ليست العولمة مجرد آلية من آليات التطور الرأسمالي بل هي أيضاً، وبالدرجة الأولى، ايديولوجيا تعكس ارادة الهيمنة على العالم» (11) .
أما «السيد ياسين» فينظر إلى أننا «مازلنا في مرحلة فهم ظاهرة العولمة واستكشاف القوانين الخفية التي تحكم مسيرتها، والتي تسهم في الوقت الراهن في تشكيلها، هي في الحقيقة ظاهرة غير مكتملة الملامح والقسمات، بل اننا نستطيع أن نقول أن العولمة عملية مستمرة تكشف كل يوم عن وجه جديد من وجوهها المتعددة» (12) .
وعند «علي حرب» ان من الخطورة، التبسيط والاختزال في قراءة ظاهرة العولمة، «نحن إزاء حدث هو من الغنى والكثافة والتعقيد، ما يجعله ينفتح على غير معنى واتجاه، ويفتح غير إمكان ومجال، بقدر ما يطلق قوى اجتماعية جديدة، أو يتيح انبثاق تشكيلات ثقافية مغايرة. والواقع ان من يتابع ما يكتب أو يقال حول العولمة سواء في الصحافة أو في الندوات الفكرية، يجد تعارضاً في المواقف هو تجسيد للاختلاف في القراءة والتشخيص» (13) .
وفي نظر «جورج طرابيشي» فإن مفهوم العولمة لم يعرف الاستقرار بعد لا في اللغة الانكليزية التي تم اختراعه بها، ولا في كثرة من لغات العالم، بما فيها العربية، التي تعاني أصلاً من صعوبة في ترجمة المصطلح. وبدون أن يكون هناك أيضاً اتفاق على مضمون العولمة، فإن اشتقاق الكلمة بالذات يضعها على طرفي نقيض من القومية. فالعولمة هي الظاهرة التاريخية لنهاية القرن العشرين أو لبداية القرن الحادي والعشرين، مثلما كانت القومية في الاقتصاد وفي السياسة وفي الثقافة هي الظاهرة التاريخية لنهاية القرن التاسع عشر أو لبداية القرن العشرين (14) .
وحسب «جابر عصفور» «لا تتباعد دلالة لفظة العولمة في معنى القسر عن دلالة لفظية القولبة التي يدل معناها على فرض القالب، إذ ترجع الصيغة المصدرية في اللفظتين إلى الوزن الصرفي ـ فَوْعَلَ ـ الذي لا يخلو من معنى الاجبار. وان دلالة القسر أو الاجبار التي تؤديها الصيغة المصدرية للفظة العولمة، حيث معنى عملية القولبة أو الوطنية في قالب واحد أو منظومة كبرى تشمل الكرة الأرضية بأسرها، هي دلالة لا تفارق وقائع وحقائق التبعية المحدثة» (15) .
لقد حاولت الأدبيات العربية أن تقدم وصفاً وتشخيصاً لظاهرة أنجزها طرف آخر، ولم تكتمل صورتها بعد في العالم العربي، الذي يعيش بعض تداعياتها. لهذا فإن من الصعوبة توصيف هذه الظاهرة التي من طبيعتها التعقيد والتشابك وهذا ما يفسر التباينات في وجهات النظر في هذه الأدبيات التي ما خرجت من اختلالاتها البنيوية والمفاهيمية بسبب التعلق المفرط والمبالغ به لظواهر وقضايا ومفاهيم هي من نتاج الدول المتقدمة، وتفصلنا عنها مسافات طويلة تتسع ولاتتضيّق. وهناك فاصل تاريخي وزمني وحضاري شديد العمق بين عالمنا وعالم تلك الدول المتقدمة. فالظواهر التي تصلنا من هناك ننشغل بها باهتمام كبير مع أنه لا واقع لها حقيقياً في عالمنا. والطريقة التي ننشغل بها تصور كما لو أننا من ابتكر هذه الظاهرة، والحال هو غير ذلك.
فالأدبيات العربية لا تدرك ما تريده من العولمة، أو تحدد مقاساتها وقسماتها بطريقة كمية وكيفية، أو ان تتفق على ماهيتها وفلسفتها وحركتها وزمنها. وسوف يتكرر الاختلال المنهجي والبنيوي الذي حصل مع الظواهر والمفاهيم السابقة، فقبل أن ننجز رؤيتنا حول العولمة، وندرك أبعادها وتداعياتها في واقعنا، ونعرف ماذا نريد منها، وكيف نستجيب لها، ستداهمنا رؤية نقدية مختلفة ومغايرة من الغرب، من قبيل ما بعد العولمة أو نهاية العولمة، على غرار المقولات السابقة مثل الحداثة وما بعد الحداثة أو نهاية الحداثة، المجتمع الصناعي وما بعد الصناعي، الفلسفة ونهاية الفلسفة، التاريخ ونهاية التاريخ وهكذا.. وسوف ننجرف في الحديث عن ما بعد العولمة أو نهاية العولمة إذا جاء من مصدر غربي باعتباره هو مصدر الشرعية لهذه المفاهيم والمقولات عند الأدبيات المسحورة والمفتتنة، إلى أن تصلنا مقولة أخرى من الغرب نفسه وهكذا يتكرر الحال..
وأحسب أن الأدبيات العربية في هذا الوقت إنما تقدم قراءتها الأولى للعولمة، القراءة التي تفتقد اكتمال النضج حول هذه القضية، والتي سوف يعاد النظر فيها لاحقاً، والارتداد وممارسة النقد عليها، فقد اعتاد الفكر العربي خلال القرن الأخير، في احتكامه بالظواهر والقضايا والمفاهيم التي ترد عليه من خارج منظومته الفلسفية والفكرية، أن يبدأ قراءته بالتوجس والتشكيك والرفض والصدام إلى زمن، وينتهي في زمن آخر إلى صورة أخرى ورؤية مختلفة. فالفكر العربي بحاجة إلى وقت حتى يتجاوز صدمة العولمة..
لازالت هناك مسافة تفصل الأدبيات الاسلامية عن تناول القضايا والظواهر المعاصرة والمستجدة حديثاً، والتأخر في الانشغال بها، بأشكال التوصيف والتحليل والنقد، وهذا من أكثر ما يبرز عدم تشبع هذه الأدبيات بالمعاصرة. فالعولمة شغلت الاهتمام واستقطبت أوسع المطارحات والمناظرات الاحتجاجية والنقدية بين مختلف مراكز العالم، مع ذلك لم تمض هذه القضية باهتمام في أدبيات الفكر الاسلامي فيما يكتب ويقدم باللغة العربية. وهذا هو حال هذه الأدبيات مع القضايا والظواهر السابقة التي استحوذت على اهتمامات عالمية. إلا في قضية الاستنساخ البشري، حيث سُجل للفكر الاسلامي فيها اهتمام متزامن، أظهر حضور هذا الفكر في هذه القضية، ولفت الانتباه لموقفه ورؤيته. وقد جاء هذا التعاطي المبكر مع هذه القضية بالذات لعلاقتها بالجانب الفقهي والديني، وبصورة في غاية الحساسية والخطورة.
غياب أو ضمور الفكر الاسلامي في تناول القضايا والظواهر المعاصرة ذات الاهتمام العالمي، يترك أثره الواضح على حضور وفاعلية هذا الفكر في هذا النطاق العالمي. في الوقت الذي يستقطب فيه الاسلام كدين وفكر وتاريخ وحضارة أوسع الاهتمامات العالمية، بشكل لا ينسجم أو يتوافق مع ذلك الغياب أو الضمور. فلا نستطيع من هذه الجهة أن نقدم توصيفاً نرجع إليه بالتحليل والنقد لظاهرة العولمة في أدبيات الفكر الاسلامي.
إذا كان الغرب قد قدم وعبر عن عولمته، الذي أخاف بها العالم، والتي تعرضت لأشد أنواع النقد والمعارضة، فهذا لا يعني أنها العولمة القاهرة التي يمكن أن تكون الوحيدة في هذا العالم، والمفروضة على الأمم بلا خيار أو ارادة. فإننا نجد في الاسلام امكانات حيوية، أخلاقية وتشريعية وحضارية، في غاية الأهمية في التعبير عن عولمة أخرى، مختلفة في جوهرها وماهيتها وفلسفتها ومقاصدها عن عولمة الغرب. فالاسلام جاء عالمياً وللناس كافة، بلا عنصرية أو طبقية أو تمييز أو تفاضل.
وبين العولمة التي جاءت في اصطلاح الغرب، والعالمية التي جاءت في اصطلاح الاسلام، حاول «الجابري» ان يفرّق بين اللفظين مفهومياً، بقوله: «العولمة شيء والعالمية شيء آخر. العالمية تفتح على العالم، على الثقافات الأخرى، واحتفاظ بالخلاف الايديولوجي. أما العولمة فهي نفي للآخر واحلال للاختراق الثقافية محل الصراع الايديولوجي» (16) .
ولعل من أكثر الآيات القرآنية التي عبرت عن رؤية الاسلام في هذا المجال قوله تعالى {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ان أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير} (17) .
هذه الآية تؤسس لعلاقات بين الأمم والحضارات على قاعدة التعارف «لتعارفوا» وليس على أساس النزاع أو الصدام أو الالغاء والاقصاء. ولقد كونت نظرية من خلال دراسة هذه الآية في عناصرها ومكوناتها التجزيئية والتركيبية، أطلقت عليها نظرية «تعارف الحضارات»، واعتبرته الطريق الثالث الذي بحاجة لاكتشاف في مقابل ما يطرح في الغرب من «صدام الحضارات»، وحوار الحضارات، فمن غير ان تبدأ الحضارات من التعارف لن تتخلص من رواسب الصدام، وتصل إلى حوار الحضارات.
والتعارف هو أحد أرقى المفاهيم، وأكثرها قيمة وفاعلية، ومن أشد وأهم ما تحتاج إليه الأمم والحضارات، وهو دعوة لأن تكتشف وتتعرف كل أمة وكل حضارة على الأمم والحضارات الأخرى، بلا سيطرة أو هيمنة، أو إقصاء أو تدمير. والتعارف هو الذي يحقق وجود الآخر ولا يلغيه، ويؤسس العلاقة والشراكة والتواصل معه لا أن يقطعها أو يمنعها أو يقاومها.
وإذا كان من مفهوم للاسلام أو الرؤية الاسلامية للعولمة، فهو مفهوم التعارف الذي يعني التواصل الكوني والانفتاح العالمي على مستوى الأمم والحضارات. وربط هذا المفهوم بوحدة الأصل الانساني {إنا خلقناكم من ذكر وأنثى} وبقاعدة التنوع الانساني {وجعلناكم شعوباً وقبائل} وأكرمية التقوى {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}.
في حين أن العولمة التي عبر عنها الغرب إنما ترتكز على الانتفاع المادي والجشع الاقتصادي، واحتكار الثروات ورفع القيود عن الأسواق والبضائع وامتصاص الأموال، وهذه الأمور هي من أكثر العوامل سبباً وتحريضاً للنزاع والصدام. فالشركات المتعددة الجنسيات والتي توصف حالياً بالعابرة للقارات هي التي تقود العولمة في العالم، وهي التي ابتدعتها وتبشر بها، والأقدر على إدارتها وتحريكها، ودوافعها في الأساس اقتصادية وهو حقل العولمة الأساسي. فخلال الخمس عشرة سنة الماضية حققت هذه الشركات نمواً واتساعاً وتضخماً كان من نتيجته هو العولمة. ففي 1975م كانت تلك الشركات تعد ـ 11000 ـ شركة مترو بولية تتحكم بـ ـ 82000 ـ شركة فرعية في شتى أنحاء العالم. وكانت قيمة مبيعاتها تصل إلى 25 في المئة من جملة التجارة العالمية. وفي 1990م غدا عدد الشركات المتعددة الجنسيات [37500] متروبولية، لها [207000] فرع أجنبي، وبلغت قيمة مبيعاتها نصف الناتج القومي العالمي، على حين ان قيمة مبيعات فروعها الأجنبية وحدها باتت تعادل في الحجم جملة التجارة العالمية (18) ، فعولمة الغرب اقتصادية في الأساس، تتوخى الربح والنفع المادي، والابعاد والحقول الأخرى التي ارتبطت بها كالثقافة والاجتماع والتربية والاعلام وغيرها، إنما وظفت لذات الغاية الاقتصادية النفعية.
هذه العولمة إنما تخدم مصالح وأفكار الطرف القوي في العالم، وتطمس الأطراف الأخرى وهي ليست العولمة التي يحتاجها العالم في هذه المرحلة، أو التي يتطلع إليها مع القرن الحادي والعشرين..
أولاً ـ لاشك أن البشرية بحاجة إلى تكوين وعي عالمي له خاصية الاتصال والتواصل بالعالم برمته، على الأصعدة والمستويات كافة، وينهض بالمسؤوليات المشتركة في مواجهة المخاطر والتحديات التي يتأثر منها العالم كله مثل قضايا الحريات العامة وحقوق الانسان والعدالة الاجتماعية، ومشكلات البيئة والتلوث والاحتباس الحراري، وهكذا قضايا: الصحة والسكان والفقر والمجاعة ونقص الغذاء والمياه... فنحن مع العولمة التي تعني الوعي بقضايا العالم ومشكلاته ومخاطره.
ثانياً ـ ان العولمة التي يحتاج إليها العالم، هي العولمة التي يشترك الجميع في صنعها وبلورتها وصياغتها، لا أن ينفرد بها طرف واحد ويسخرها لصالح امتيازاته ووفق منظومته الفكرية والاقتصادية والاجتماعية. وإذا كانت العولمة قد قوبلت في العالم باعتراضات شديدة وانتقادات قاسية، فلأنها تخدم طرفاً واحداً وتعبر عن رؤية هذا الطرف، وهو الغرب.
والعالم في تكوينه وتنوعه واتساعه لا يحتمل الرأي الواحد، ولا يحتاج إليه. وإذا استطاع الغرب أن يفرض سيطرته على العالم، فإن الأمم لن تبقى خاضعة تحت هذه السيطرة على طول الزمن. هذه هي حكمة التاريخ.
ثالثاً ـ ان المشكلة الحقيقية ليست في العولمة، وانما جذر المشكلة في تباين مستوى التطور الحضاري في العالم، الذي يجعل من الغرب الطرف المستفيد من هذه العولمة، باعتباره أنجز مشروعه في التقدم، ويستطيع أن يكيّف المتغيرات العالمية وفق منظومته، والتحدي الذي يواجه الأمم الأخرى، هو في أن تنجز هي أيضاً مشروعاتها في الانماء والتقدم والعمران، لأن العولمة هي من منجزات التقدم وبحاجة إلى تقدم يتكافىء معها. والمشكلة مع الغرب انه حول مشروعه في التقدم إلى تكريس التبعية وضبط آليات السيطرة على العالم.
فالمواجهة الحقيقية للعولمة هي عن طريق الإنماء والبناء وانجاز مشروعات التقدم والعمران.
رابعاً ـ إن أعظم تحول يمكن أن يحدث هو أن يغير الغرب من رؤيته نحو العالم، بعد أن أصبح أكبر مؤثر على قضاياه وشؤونه وتطوراته وتغيراته. وماذا يريد أن يأخذ الغرب من العالم أكثر من الذي أخذ، وماذا يريد من التقدم أكثر مما حققه، وماذا يريد من الحضارة بعد كل الذي أنجزه. لقد أصبح من الحلم التفكير بهذا الشكل، ويكون مثالياً من يظن أن الغرب يمكن أن يعيد النظر ويغير من رؤيته نحو العالم.
مع ذلك ان التاريخ يعلمنا، وهو أفضل معلم لمن يريد ان يتعلم، أن العالم لن يبقى على حالة واحدة، وان التاريخ لا يسير في اتجاه واحد، وان الغرب ليس هو نهاية التقدم، ولا نهاية الحداثة والحضارة، ولا حتى نهاية التاريخ، كما ظن «فوكوياما». وان من يملك التقدم اليوم ليس بالضرورة يملكه إلى الأبد، وان الأمم التي خرجت من الحضارة لن تعود إليها أبداً فالتاريخ يمكن أن يتغير في أية لحظة، وهو الأعرف بقوانينه وسننه.
خامساً ـ ان الخوف الحقيقي على هويات وثقافات العالم من اكتساح العولمة وفرض الاتجاه الواحد، هو نتيجة وجود الضعف والضمور في بنيتها وتكوينها، لذلك لابد من التجديد الداخلي لهذه الهويات والثقافات بما يكسبها المزيد من الحماية والمناعة والتحصن.
سادساً ـ إن العولمة تضع أمام الفكر الاسلامي سؤال المستقبل في ظل عالم شديد التغير والتحول، وماذا يمكن أن ينتظر العالم من هذا الفكر من عطاء حضاري، ومن الاسلام الذي يتردد صداه بين كل الناس، فكيف يستطيع الفكر الاسلامي أن يتمثل تجربته التاريخية والحضارية ويعكسها إلى العالم، وأن ينهض بمشروع حضاري اسلامي معاصر تجد فيه الأمم والحضارات، خياراً واتجاهاً، مختلفاً ومقنعاً وفعالاً، عن الخيار والاتجاه الذي يفرضه الغرب على العالم.
والمستقبل ليس مفتوحاً على الغرب فحسب، بل هو مفتوح على كل الثقافات والأمم والحضارات، وبحاجة إلى اكتشاف جديد في زمن زحف العولمة. وأخيراً فإن العولمة تستدعي من الأمم والحضارات ان تجدد نظرتها إلى العالم وتعيد تقويمه حضارياً، وهل سوف تكون العولمة آخر مطافات الغرب؟ أم أنها ستكون قاعدة انبعاث الحضارات الأخرى؟ وكيف نحول هذا الاندماج والترابط والتداخل الشديد بين أجزاء وأطراف العالم من صدام الحضارات إلى تعارف الحضارات؟
هذا يعني ان للعولمة أسئلتها، الصامتة والخافتة، وأنها سوف تفتح أكثر من احتمال على العالم والمستقبل.
هوامش
(1) صدر هذا الكتاب في لندن، الناشر: ماكملان برس، اعداد: كرولين طوماس وبيتر ولكين، 1997م.
(2) الكتاب من اعداد: الينور كوفمن وجيليان ينغز، صدر في لندن ونيويورك، عن دار بينتر، 1997م.
(3) في مديح الامبريالية الثقافية. دافيد روثكوبف، ترجمة: أحمد خضر، الثقافة العالمية، الكويت، العدد 85، نوفمبر ـ ديسمبر 1997م، ص26.
(4) المصدر نفسه، ص29.
(5) الغرب.. إنه فريد ولكنه ليس كلياً جامعاً، صامويل هنتينغتون، ترجمة: فاضل جتكر، أوروبا والعرب، سوريا، العددان 166ـ167، مايو ـ يونيو 1997م ص55، عن مجلة فورين أفيرز، العدد 75ـ 6 تشرين الثاني، كانون الأول 1996م.
(6) القرآن الكريم. سورة آل عمران، آية: 140.
(7) الغرب.. إنه فريد ولكنه ليس كلياً جامعاً. مصدر سابق، ص55.
(8) الكتاب من اعداد: يوسف لابيد وفريد ريك كراتوتشغيل، صدر في لندن عن بولدر، جامعة كيل، 1996م.
(9) ما هي العولمة؟ د. صادق جلال العظم، مجلة الطريق، بيروت، السنة السادسة والخمسون العدد الرابع، يوليو ـ أغسطس 1997م.
(10) قضايا في الفكر المعاصر. د. محمد عابد الجابري، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1997م، ص135.
(11) العولمة والهوية الثقافية، عشر أطروحات. د. محمد عابد الجابري، دار المستقبل العربي، بيروت، العدد 228، 2/1998م.
(12) في مفهوم العولمة، السيد ياسين، المصدر السابق.
(13) صدمة العولمة في خطاب النخبة. علي حرب، السفير، لبنان، 6 يونيو ـ حزيران 1998م.
(14) أصل العولمة وفصلها. جورج طرابيشي، الحياة، لندن، العدد 12449، الأحد 30 مارس 1997م، مراجعة على كتاب العولمة بعيداً عن الأساطير، سيرجي كوردلير، باريس: لديكوفير، 1997م.
(15) العولمة والهوية الثقافية. جابر عصفور الحياة، الحياة، لندن، 1998م.
(16) العولمة والهوية الثقافية. د. محمد عابد الجابري، مصدر سابق.
(17) سورة الحجرات، آية: 13.
(18) أصل العولمة وفصلها، جورج طرابيشي، مصدر سابق، ص21.
شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
يحاول الكاتب محمد محفوظ في 166 صفحة أن بضيئ الحديث عن السلم الأهلي والمجتمعي، في الدائرة العربية والإسلامية، بحيث تكون هذه المسألة حقيقة من حقائق الواقع السياسي والإجتماعي والثقافي، وثابتة من ثوابت تاريخنا الراهن.
ينتمي مالك بن نبي وعبدالله شريط إلى بلد عربي إسلامي عانى من ويلات الاستعمار ما لم يعانه بلد آخر، سواء في طول الأمد أو حدة الصراع أو عمق الأثر. إنهما مثقفان عميقا الثقافة، مرهفا الشعور، شديدا الحساسية للمعاناة التي عاشها ملايين الجزائريين من ضحايا مدنية القرن العشرين، بأهدافها المنحطة وغاياتها الدنيئة.
عقد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات خلال الفترة الواقعة بين 6 و 8 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2012، مؤتمرًا أكاديميًّا عنوانه «الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي: تجارب واتّجاهات»، في فندق شيراتون بالدوحة، وشهد الافتتاح حشدًا كبيرًا من الباحثين والأكاديميّين من دول عربية.
يأتي الاهتمام بالقضية الفنية في فكر الأستاذ عبدالسلام ياسين من منطلق أن الوجود الحضاري للأمة كما يتأسس على أسس القوة المادية التي يمليها منطق التدافع القرآني أي التدافع الجدلي بين الخير والشر الذي هو أصل التقدم والحركة، يتأسس كذلك على جناح تلبية الحاجات النفسية والذوقية والجمالية بمقتضى الإيمان الذي هو ...
ثمة مضامين ثقافية ومعرفية كبرى، تختزنها حياة وسيرة ومسيرة رجال الإصلاح والفكر في الأمة، ولا يمكن تظهير هذه المضامين والكنوز إلَّا بقراءة تجاربهم، ودراسة أفكارهم ونتاجهم الفكري والمعرفي، والاطِّلاع التفصيلي على جهودهم الإصلاحية في حقول الحياة المختلفة
لا شك في أن الظاهرة الإسلامية الحديثة (جماعات وتيارات، شخصيات ومؤسسات) أضحت من الحقائق الثابتة في المشهد السياسي والثقافي والاجتماعي في المنطقة العربية، بحيث من الصعوبة تجاوز هذه الحقيقة أو التغافل عن مقتضياتها ومتطلباتها.. بل إننا نستطيع القول: إن المنطقة العربية دخلت في الكثير من المآزق والتوترات بفعل عملية الإقصاء والنبذ الذي تعرَّضت إليه هذه التيارات، مما وسَّع الفجوة بين المؤسسة الرسمية والمجتمع وفعالياته السياسية والمدنية..
لم يكن حظ الفلسفة من التأليف شبيهاً بغيرها من المعارف والعلوم في تراثنا المدون بالعربية، الذي تنعقد الريادة فيه إلى علوم التفسير وعلوم القرآن والحديث والفقه وأصوله، واللغة العربية وآدابها، وعلم الكلام وغيرها. بينما لا نعثر بالكم نفسه على مدونات مستقلة تعنى بالفلسفة وقضاياها في فترات التدوين قديماً وبالأخص حديثاً؛ إذ تعد الكتابات والمؤلفات في مجال الفلسفة، ضئيلة ومحدودة جدًّا، يسهل عدها وحصرها والإحاطة بها.