شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
ظهر الشيخ محمد عبده (1849 ـ 1905) في مرحلة جد خطيرة، شهدت أحداث الانهيار العظيم في الشرق الاسلامي، مذ بدأت سلسلة الهزائم تمتد في كل أجزاء الامبراطورية العثمانية التي كانت تسيطر على معظم المناطق العربية.
فبينما كانت الامبراطورية العثمانية، القوة الكبرى الوحيدة في الشرق الاسلامي تتهاوى أمام حملات الجيوش الغربية، وتتكبد الهزائم تلو الهزائم، وتقصر يدها بمرور الايام عن الاحتفاظ بالمناطق الخاضعة تحت سيطرتها أو تلك التي كانت تطالها بنفوذها، بدأت مشاعر الاحتجاج والرفض تتنامى في المناطق العربية، وما لبثت الانتفاضات الاهلية تتفاقم في مناطق عربية عديدة، وتحديداً في مصر والسودان وليبيا والجزائر، والتي كانت تضعف فيها حلقات السيطرة العثمانية، حيث قدّمت هذه الانتفاضات دليلاً على تصدع السلطة المركزية وتراخي الضبط السياسي العثماني واخيراً فشل السلطنة في مواجهة التطورات الخطيرة المصوّبة الى الامن القومي العثماني في نهاية المطاف.
ومن وجهة نظر أخرى، قدّمت هذه الانتفاضات الادلة الدامغة على فشل الحكومة في استيعاب التحديات الجديدة وتالياً اجراء الاصلاحات الضرورية، وفي القلب منها تحديث الاجهزة الادارية الحكومية والمؤسسات الدولتية.
نعم، يلزم القول، بأن محمد علي باشا حاكم مصر (1769 ـ 1849) مؤسس السلالة الخديوية الحاكمة في مصر، كان في طليعة المهتمين بمعالجة أزمة الدولة، انطلاقاً من مصلحة شخصية، فقد جعل من هذه الازمة مبرراً قوياً لجهة تعزيز سطته، وفي نفس الوقت افتتاحاً لمشروع اصلاحي في الدولة.
إن الاصلاحات التي أدخلها محمد علي باشا في أجهزة الدولة، أدت الى تغيّر كبير في ميزان القوى، كما نتجت عن اندلاع الصراع بين حاكم مصر والباب العالي، هذه الاصلاحات تمهّدت ـ من الناحية العملية ـ مشروع انفصال العرب عن الدولة العثمانية، وبدايات نشوء الدولة العربية التي قدر للرجل الالباني قيادتها.
ونتيجة للظروف الدولية، واضطراب الاحوال السياسية، وهيمنة منطق القوة العسكرية، كخيار ناجز لحسم الامور، كان اصلاح المؤسستين العسكرية والادارية يحتل الصدارة في العقيدة الاصلاحية لدى محمد علي باشا، وتنسحب أيضاً على غيره من قادة الشرق الاسلامي، وفي واقع الامر أن الاصلاح العسكري والاداري كان ضرورة خارجية بالدرجة الاولى، تمليها التحديات الامنية والعسكرية الخطيرة على الساحة الشرقية، فالكلام عن الابعاد الاصلاحية الاخرى، جرى إغفاله بالكامل، فيما انصب التعامل مع مشروع محمد علي باشا الاصلاحي باعتباره اصلاحاً حكومياً يراد منه تأسيس دولة مستقلة عن الدولة العثمانية، ولم يتعرض المشروع الى مسائل الاصلاح الفكري والاجتماعي والديني، وهي مسائل لا يحتملها مشروع محمد علي باشا فضلاً عن كونه غير مؤهل للاضطلاع بدور من هذا القبيل.
بيد أن التأييد العفوي الذي حظي به محمد علي باشا من الاهالي لاصلاحه العسكري والاداري ما لبث يتلاشى، فشروعه في سياسة التوسع وتنامي نزعة الضم وبسط النفوذ تسببت في اجهاض النهوض الدولتي المرتقب، فعوضاً عن تبني برامج اصلاحية جوهرية عبرالشروع في تأسيس قاعدة تنموية صلبة، وتأسيس البنى التحتية للدولة، تسكنته العقلية الاستحواذية العثمانية، فراح يجرد الحملات شرقاً وجنوباً، مستنزفاً طاقات وامكانيات البلد في ملء الوهم الزعامي المفرط بداخله، فكانت صدمة للضمير العام في مصر، الذي كان ينشد دولة مستقرة أمنياً واقتصادياً، وكان هذا الفشل الخديوي، المتزامن مع تواصل النهوض الاوروبي بداية انتعاش المسائل الفكرية المحملة بالمطالب الشعبية الكامنة والآمال المتطلعة نحو الخلاص من التخلف والاستبداد.
لقد فتح الاخفاق الخديوي الباب على المسائل الفكرية الكبرى، التي باتت تطرح في كل الشرق الاسلامي تقريباً، والتي تضع الدين في مقابل التطورات الحديثة في العالم، فكان السؤال يدور حول العلاقة بين الدين من جهة، وبين العلم، والسياسة، والمجتمع، والاقتصاد، والمرأة..الخ، وهكذا زحزح الفكر العربي المسألة الاصلاحية من المجال العسكري والاداري، ونقلها الى مجال الدين، حيث بدأ يكثّف اضواءه على الدين نفسه الذي ساند ـ بحسب المنطق الشعبي ـ السلطة الخديوية، سعياً للعثور على اجابات للمسائل المرتبطة بالتخلف الاجتماعي والتاريخي للعرب، وادراجها ضمن النطاق الموضوعي لحركة النهضة والتقدم. ومن خلال رحلة الاستكشاف هذه، نشأ الفكر العربي الحديث، وأخذ من خلال طيف الاسئلة النهضوية يترعرع ويموضع نفسه داخل حركة الافكار في العالم، وفي سياق هذه الرحلة ظهر الشيخ محمد عبده مع رهط المصلحين الدينيين في المشرق العربي والاسلامي لكي يجيب عن الاسئلة النهضوية ويسعى الى تحقيق الربط بين الدين والمسائل الحديثة.
لقد تميّز مشروع عبده الاصلاحي عن غيره، أنه مشروع مختلف لا ينتمي الى الاسلام التقليدي ولا الى العلمانية المتحررة والمناهضة للدين، إذن هو في الاطار الفكري الكبير صاحب المشروع الثالث، التوفيقي كما يوصف ولكن انطلاقاً من قاعدة إيمانية تسليمية، أي أنه يحاول احتواء ما لدى الآخر في ثقافته الدينية (الاسلامية هنا)، بكلام آخر، دمج المعاصرة في الاصالة بالجمع بين معطيات الحضارة وثمرات العصر من جهة، والالتصاق التام بالهوية الاسلامية.
كما تميّز مشروع الشيخ عبده، بأنه حاول تقديم مشروع اصلاحي شامل يجيب من وجهة نظر دينية عن كافة المسائل الفكرية المثارة في عصره وبخاصة المتصلة منها بالنهضة، لتثمر فيما بعد في رؤية توفيقية، تشق طريقاً مستقلاً بين تيارات فكرية متنافرة، نشأت وترعرعت واختصمت في المجال الفكري العربي المعاصر.
«محمد عبده حسن خير الله» هو الاسم الكامل للشيخ عبده، ولد سنة 1849 في قرية محلة نصر، بمركز شبراخيت، بمديرية البحيرة، تحدر من عائلة متوسطة الدخل، واجهت ـ بسبب النزاعات المحلية ـ إرباكاً أمنياً ضاغطاً لسنوات عديدة، حتى عادت واستقرت في محلة نصر، بعد أن فقدت كل ممتلكاتها، يسجّل الشيخ عبده في سيرته مجريات هذه الفترة:
«سعى واش بأهلي (عند الحكام) بحجة أنهم ممن يحمل السلاح، ويقف في وجوه الحكام وأعوانهم عند تنفيذ المظالم، فأخذوا جميعاً، وزجوا في السجون واحداً بعد واحد، ومن دخل منهم السجن، لا يخرج الا ميتاً، وكان جدي «حسن» شيخاً بالبلدة، وهو الذي بقي في البيت مع ابن أخته ابراهيم» (1) .
وفي هذه القرية، تعلم الشيخ عبده القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب، ثم بدأ يحضر دروس التجويد في الجامع الاحمدي في طنطا منذ عام 1862. وبعد عامين، بدأ دروسه الازهرية في نفس الجامع، بعد الفراغ من دروس التجويد، ولكن بسبب تخلف طرق التدريس، انصرف عن الدراسة الدينية، يقول الشيخ عبده:
«قضيت سنة ونصفاً ولا أفهم شيئاً لرداءة طريقة التعليم..فأدركني اليأس من النجاح، وهربت من الدرس، واختفيت عند أخوالي مدة ثلاثة شهور، ثم عثر عليّ أخي فأخذني الى المسجد الأحمدي وأراد اكراهي على طلب العلم فأبيت» (2) .
وأقفل الشيخ عبده عائداً الى قريته، وقرر الاشتغال في الحقل جنباً الى جنب اخوانه، وقطع أي صلة له مع الدراسات الدينية، ولكن والده ألّح عليه استئناف الدراسة الدينية والعودة الى جامع الأحمدي في نفس العام.
وخلال هذه الفترة، حصلت أول نقطة تحول في حياة الشيخ عبده، والتي ستلعب دوراً هاماً في صياغة سلوكه وتصوراته في المرحلة اللاحقة، منذ لقائه بالشيخ درويش (عم والده)، والذي ساهم في تربية الشيخ عبده وإطلاعه على الميراث الصوفي، عن طريق تدريسه رسائل الشيخ محمد مدني (أحد علماء الطريقة الشاذلية البارزين).
شرع الشيخ درويش في تلقين عبده الحكمة الصوفية، وتدريسه بعض التعاليم الصوفية، والرياضات الدينية التقليدية في الحركة الصوفية، وقد ساهمت هذه المرحلة التحصيلية في احماء رغبة التعليم الديني عنده. وحسب تعبير الشيخ عبده: «فلم يأت عليّ اليوم الخامس الا وقد صار أبغض شيء إليّ ما كنت أحبه من لعب ولهو..وعاد أحب شيء إلي ما كنت أبغضه من مطالعة وفهم»، وشرح عبده تأثيرات دروس الشيخ درويش بقوله: «هذه الكلمات كانت كأنها أحرقت جميع ما كان عندي من المتاع القديم، متاع تلك الدعاوى الباطلة والمزاعم الفاسدة، متاع الغرور بأننا مسلمون ناجون وإن كنا في غمرة ساهون ولم أجد إماماً يرشدني الى ما وجهت اليه نفسي الا ذلك الشيخ الذي أخرجني في بضعة أيام من سجن الجهل الى فضاء المعرفة ومن قيود التقليد الى اطلاق التوحيد» (3) .
فبالرغم من انخراط عبده في الدروس الازهرية الا أنه ظل وفياً ومبجلاً للشيخ درويش، ولتعاليم الصوفية التي أخذها عنه، والتي ستبقى حاضرة طيلة حياة الشيخ عبده، بل وبقيت تمارس دوراً توجيهياً لحركته الاصلاحية.
بدأ عبده دروسه الازهرية عام 1866، وفتح عينه على موضوعات مختلفة، فدرس الفلسفة، والرياضيات، والمنطق، وبدأت نار الاحتجاج تضطرم بداخله، منذ اطلاعه عن قرب بالاوضاع العامة بما في ذلك أوضاع المؤسسة التعليمية بشقيها الديني والمدني، ومنذ بدأ الانخراط في القضايا الفكرية المعقدة، وبخاصة المرتبطة منها بما يعاني منه التعليم الديني، والتي عبّرت عن نفسها في نزاعات بين مؤيدي الاصلاح بزعامة الشيخ حسن الطويل، والتيار التقليدي الذي يلّح في الابقاء على القديم.
ولكن نقطة التحول الكبرى في حياة الشيخ عبده، كانت في عام 1871، حين التقى بالسيد جمال الدين الافغاني للمرة الاولى، وبقي تحت التأثير المباشر للافغاني في زيارته الثانية لمصر في الفترة الواقعة ما بين 1882 ـ 1880، وكان الافغاني قد فتح نافذه جديدة في وعي الشيخ عبده، من خلال تدريسه العلوم الفلسفية والمنطقة والعقدية، ولكن الأهم من ذلك أن الافغاني (وهو الذي قد انفصل في وقت مبكر عن رتابة الحوزة العلمية الشيعية في النجف الاشرف منذ كان في حلقة الشيخ الانصاري) نفخ في الشيخ عبده روح النقد الاجتماعي، وأشعل فيه جذوة التفكير الفلسفي وحمّسه لتبني خيار النهوض بالمجتمعات الاسلامية وتعميم الوعي السياسي وصولاً الى الثورة على الاستعمار الاجنبي والاستبداد المحلي. ولذلك، بدّل الشيخ عبده ـ مؤقتاً ـ وجهته من العزلة والموقف الصوفي الى المقاومة الاجتماعية، وقرر خوض الصراع السياسي، وبدأ يعبر عن نظراته في الاوضاع العامة بالكتابة في الصحافة (4) ، ثم قرر الافصاح عن تمرده على التعليم الديني، كما جاء في نظمه أرجوزة قال فيها:
لو كان هذا وصفهم ما شنّعوا
بل وقتهم في «جاء زيد» ضيّعوا
ظنوا بأن العلم علم القول..لا
والله، بل علم القلوب فضلا (5)
ومذاك، بدأ الشيخ عبده مشواره السياسي مع السيد جمال الدين الافغاني الذي يصف تأثيره عليه بقوله إن «والدي أعطاني حياة يشاركني فيها «علي» و«محروس» والسيد جمال الدين أعطاني حياة أشارك بها محمداً وابراهيم وموسى وعيسى، والأولياء القديسين..» (6) .
في عام 1877 حصل الشيخ عبده على درجة العالِمية من الازهر، وأصبح عضواً في هيئة التدريس، وبدأ يلقي دروساً في المنطق والفلسفة والعقيدة لمدة سنتين، في الوقت الذي شرع مطالعاته المكثفة ومباحثاته في الكتب القديمة والحديثة في المنطق مثل (ايساغوجي) والعقيدة مثل (شرح العقائد النسفية) للسعد التفتازاني وحواشي الخيالي والعصام والسيالكوتي، و(مقولات السجاعي) بحاشية العطار، كما نظم لبعض الطلبة دروساً في بيته شرح فيها بعض المؤلفات القديمة والحديثة مثل (تهذيب الاخلاق) لمسكويه و(التحفة الادبية في تاريخ تمدن الممالك الاوروبية) للوزير الفرنسي فرانسوا جيزو.
في عام 1878، عيّن الشيخ عبده استاذاً في دار الحكمة، ولكنه بدلاً من تدريس ملخصات الطبرى وابن الاثير في التاريخ، والتي كانت درساً ثابتاً في برنامج المدرسة، القى دروساً في مقدمة ابن خلدون، مما اعتبر خرقاً للسياسة التعليمية المتبّعة في دار الحكمة، بل وضع كتاباً في الاجتماع المدني، ولكن ضاع اثره. وقد فُصّل من التدريس بسبب نشاطه السياسي، وهي نفس السنة التي طرد فيها السيد جمال الدين الافغاني من مصر، واضُطر الشيخ عبده للعودة الى قريته وايقاف كل نشاطاته السياسية.
وبعد عامين، وفي ظل متغيرات سياسية جديدة، استدعي الشيخ عبده للقاهرة لتولي منصب محرر ثالث في (الوقائع المصرية) الجريدة الرسمية، حيث استعملها كمنبر للتعبير عن آرائه السياسية والفكرية، وقد وجد فيها فرصة مناسبة لاستعمالها كأداة رقابية على الانشطة الحكومية والمصالح العامة، وأيضاً كآلية ضرورية للنقد الاجتماعي والدعوة الاصلاحية.
ولكن انتفاضة عرابي التي تفجّرت عام 1882 كانت بمثابة حدث مفاجىء لم يكن الشيخ عبده مستعداً له، ولم يكن على دراية كافية بالموقف الشعبي من حركة عرابي، التي استوعبت الشارع المصري برمته، ولم يكن يتوقع الشيخ عبده بأن الرأي العام المصري كان ناضجاً لدرجة رفع مطالب مثل الدستور، والحرية، وانتشار الافكار الاصلاحية، ولذلك رفض الشيخ عبده المشاركة في الحركة بناء على : «أن الامة لو كانت مستعدة لمشاركة الحكومة في ادارة شؤونها لما كان لطلب ذلك بالقوة العسكرية معنى» ولذلك عارض التحرك الشعبي وكان يرى بأن «يجر هذا الشغب على البلاد احتلالاً أجنبياً يسجل على مسببه اللعنة الى يوم القيامة» (7) .
ولكنه، وقد رأى الاجماع الشعبي حول الانتفاضة، وجد نفسه مدفوعاً الى القلب من الانتفاضة ومناصراً لها ومدافعاً عنها بلسانه وقلمه، معارضاً ما صوّب اليها من نقد. وبعد اجهاض الانتفاضة، منذ احتلال القاهرة في 14 سبتمبر 1882 من قبل جيوش الانكليز، وضع الشيخ عبده في السجن ثم تقرر نفيه لمدة ثلاث سنوات وثلاثة أشهر.
وقد لعبت هذه الاحداث دوراً هاماً في حياة الشيخ عبده، جعلته يراجع هذه التجربة بكل تفاصيلها ووقائعها ويعيد النظر في الماضي، وأخيراً قرر تبديل نظراته للاشياء، والتي جعلته معادياً للسياسة وللانشطة السياسية بصورة عامة.
وفي واقع الامر، إن اعتزال عبده للسياسة كان واضحاً منذ الايام الاولى من منفاه الى بيروت، والتي بدأ فيها مشروعه الاصلاحي الديني والاجتماعي، ولكن عدة مراسلات بينه وبين استاذه السيد جمال الدين الافغاني، قرر تعليق مشروعه مؤقتا، والاستجابة لطلب الافغاني، فالتحق به في باريس، حيث تولى تحرير الجريدة الاصلاحية الثورية (العروة الوثقى) والتي ستكون آخر تجربة سياسية في حياة الشيخ عبده، وبعد ثماني عشرة عدداً توقفت هذه الجريدة بعد أن ألهبت الوعي الاسلامي بمقالاتها الثورية المباشرة والاستفزازية، وعاد الشيخ عبده الى بيروت (عام 1885) ليضع حداً لتلك الاستثنائية (ممارسة العمل السياسي)، والتي لم يكن على قناعة تامة بجدوى الاستمرار فيها سوى تلبية لحاجة عاطفية تجاه استاذه الافغاني، ولكنه بعد توقف الجريدة صار في حلٍ من هذه الاستثنائية المقلقة.
وفور وصوله الى بيروت، بدأ يصوغ مشروعه الاصلاحي، فكتب هناك (رسالة التوحيد) (سنة 1303هـ) التي وصفت بأنها من أهم الاعمال الفكرية التي قدمها عبده، وهناك ايضاً وضع الاسس التربوية لمشروعه الاصلاحي، وكتب لوائح الاصلاح التعليمي في الدولة العثمانية وبلاد الشام ومصر، ووضع الشروحات على عدد من الكتب التراثية، وأنهى ترجمة (رسالة الرد على الدهريين) لاستاذه الافغاني، وبدأ في تفسير القرآن الكريم ولم يكمله، كما كتب شرح نهج البلاغة للامام علي وقد تأثر بأسلوبه البلاغي..
ولكن شوقه للعودة الى وطنه، دفعه للاتصال بتلميذه المخلص سعد زغلول لاستعمال كل جهوده لاقناع المستر كرومر للتوسط لدى السلطات الخديوية، والذي أصبح على قناعة تامة بأن الشيخ عبده انصرف عن القضايا السياسية، وسيكرس جهوده للموضوعات الفكرية والثقافية، ولذلك استعمل كرومر نفوذه لاستصدار عفو من الخديوي توفيق.
وبالفعل، صدر قرار العفو، وعاد الشيخ عبده الى مصر عام ،1889 وقد قطع صلاته المباشرة بالسياسة، وانغمس في مشروعه الاصلاحي التربوي المتناغم مع شخصيته ومواهبه، وفي واقع الامر أن الشيخ عبده أراد الدخول الى السياسة من باب الاصلاح التربوي والاجتماعي، وهكذا يوحي موقفه من العمل السياسي، فقد كتب ما نصه: «أما أمر الحكومة والمحكوم، فتركته للقدر يقدره، وليد الله بعد تدبره، لأنني قد عرفت أنه ثمرة تجنيها الأمم من أغراس تغرسه وتقوم على تنميته السنين الطوال، فهذا الغراس هو الذي ينبغي أن يعنى به الآن» (8) .
ومع أن «هاجس السياسة لم يشكل الا «مغامرة» مؤقتة في حياته دفعه اليها حبه لاستاذه جمال الدين وتأثره الشديد بمناخ الثورة العرابية..» (9) ، ولكن من الصعب الاسترسال مع الرأي القائل بأن الشيخ عبده قد طلّق السياسة بعد عودته من منفاه، والصحيح أنه أحدث تبديلاً في أدوات التغيير السياسي «فأفكاره، وكتاباته، وأعماله، كانت دائماً ذات مغازي سياسية» (10) . فما حصل، أن الشيخ عبده وبعد الاجهاضات المتكررة للتجارب السياسية، اضطرته للانحباس في مجال الاصلاح الفكري والاجتماعي، وربما لنفس السبب يمكن تبرير موقفه الانفعالي من السياسة حين احتسب انحطاط الاسلام «نتيجة للانخراط الخاطىء للدين في السياسة» (11) .
وأياً كان الامر، فإن الشيخ عبده، وبعد عودته الى مصر، عيّن قاضياً في المحكمة الوطنية، ومن ثم مستشاراً في محكمة الاستئناف، وفي عام 1895 أصبح عضواً في ادارة الازهر المتشكّلة حديثاً، فصار حسب نداف سافران «روحها المتحركة» (12) ، وأخيراً تم اختياره في منصب المفتي الأكبر (سنة 1899)، فصار بهذا المنصب أعلى سلطة دينية في دولة مصر، ومذاك أصبح الشيخ عبده في الموقع المناسب الذي يمنحه القدرة المطلقة في تسيير مشروعه الاصلاحي، فقد بلغ المنتهى من الآمال الذي يطمح له أي مصلح اجتماعي ـ ديني، فهذا المنصب يمدّه بكل السلطة الضرورية والفرصة «للتأمل في الاسس الاسلامية للتشريعات القانونية والتعاليم واعتبارات العصر»، وحسب جمال م. أحمد: «يظهر من الفتاوى الصادرة، أن الشيخ عبده كان يضع في حسبانه الحاجات السياسية للمسلمين في العالم المعاصر، جنباً الى جنباً التراث (المنقول) المتفق عليه من التشريع الاسلامي» (13) .
بقي عبده في هذا المنصب طيلة حياته، بالرغم من محاولة خصومه لدفعه عن هذا المنصب، كما أصبح عضواً في مجلس الشورى الذي عزز من موقعه كقوة تشريعية الزامية، حيث اعتبر القوانين الصادرة عن مجلس الشورى ملزمة وليست معلّمة، وأنها (= الشورى) ملزمة للحاكم والمحكوم (14) .
لقد وهبته هذه المناصب الهامة فرصة ذهبية في تشكيل رؤية شاملة ودقيقة عن الاوضاع الاجتماعية والمعضلات التي تعاني منها المؤسسات الاهلية والحكومية سواء بسواء، واستطاع من خلال اطلاعه الواسع تشخيص المشكلات الاساسية التي تحول دون النهوض الاجتماعي في مصر، فراح يقترح الحلول ويضع البرامج الاصلاحية في حقول التعليم، والقضاء، والعقيدة، والاجتماع، والفكر..
وبسبب الالتهابات التي أحدثتها قراءة عبده النقدية للمؤسسات الاهلية في مصر، حيث تنامت الاصوات التقليدية المناوئة للتصحيح والاصلاح، وانطلقت الاحتجاجات من زوايا متعددة ضد حركة الشيخ عبده الاصلاحية، فأحاطته الاحتجاجات بطوق من العزلة والنبذ الاجتماعي والسياسي، فتعرض لحملة كراهية من علماء الازهر، وسرت هذه الحملة حتى وصلت الى الخديوي نفسه حتى اضطره للاستقالة من ادارة الازهر في مارس ،1905 في وقت تدهورت حالته الصحية وفي شهر يوليو من نفس العام توفي الشيخ محمد عبده، بعد أن قطع شوطاً بعيداً في حركته الاصلاحية.
أثار المطلب الاصلاحي عدة قضايا فكرية، ودينية، واجتماعية، وسياسية لم تكن مناقشة أو محلولة داخل اطار الفكر الاسلامي، مثل آلية التقدم الاجتماعي، وشروط النهضة، والبعث الثقافي، والتقدم الاقتصادي، وصولاً الى شروط الانبعاث الحضاري للأمم.
فثمة انشعاب عظيم وقع على خلفية المناهج الفكرية التي استعملت للاجابة عن الاشكاليات الحديثة، إذ افترقت الاجتهادات، وتناقضت التحليلات والآراء حول تشخيص «حال الأمة» وتالياً سبل تسوية أزمات التخلف والجمود والتأخر الاجتماعي، وراح الفرقاء يتأملون في معاني النهضة والآلية الضرورية لتحقيق هذه المعاني في الواقع الاجتماعي.
ثمة تنوع فكري نشأ منذ أصبح «انحطاط» (15) الامة الاسلامية ممثلة في الدولة العثمانية حقيقة ظاهرة (16) ، في نهاية القرن الماضي، قبل الاعلان عن تحللها وسقوطها الكلي عام ،1924 إيذاناً ببدء الازمة التاريخية للمسلمين، بما انشقت عنها من متغيرات جيوبوليتكية، وتصدعات سياسية واجتماعية، وتشظيات فكرية، في وقت بدأت المحاولات الكبرى لاستعادة التوازن الاجتماعي والسياسي العربي والاسلامي، سعياً لانقاذ ما يمكن انقاذه، ورغبة في التئام الكينونة الممزقة لهذه الامة.
وفي اطار البحث عن مخرج طوارىء للازمة التاريخية في الشرق الاسلامي، وبخلفية الخوف من التماهي في هوية الاوروبي الغالب، وحرصاً على الاحتفاظ بالامة داخل هويتها التاريخية والدينية، جرى التفكير في عوامل وأسباب الانحطاط الحضاري للامة، ومن باطن عمليات التأمل في واقع الامة ظهرت الافتراقات في نظرات المصلحين، عطفاً على اختلاف اتجاهاتهم الفكرية ومذاهبهم الاصلاحية..
والشيخ محمد عبده، كأحد رواد الاصلاح في العصر الحديث، ينتمي الى فئة المصلحين الدينين والاجتماعيين في المشرق الاسلامي، وهو بلا شك صاحب مشروع اصلاحي متميز حاول به إنهاض أمته، وهذا المشروع يستمد من الاسلام ـ كما يفهمه الشيخ عبده ـ عناصر تكوينه ومشروعيته، فبينما كان علماء الدين المحافظين يشددون على ارجاع أسباب الانحطاط والتأخر التاريخي للمسلمين الى التجديد المكافىء الديني للبدعة، وضياع الهوية الاسلامية، ويرون الحل في الانبعاث التراثي الاسلامي، كان اصحاب النظرية الحداثية ـ كما يطلق عليهم برهان غليون ـ مشتغلين بالقراءات المتوترة لحال الامة، استناداً الى نظرية دارون في النشوء والارتقاء كقانون طبيعي وتاريخي عالمي، وبمقتضى هذه النظرية وضع أنصار هذه النظرية العلاجات الراديكالية لتخلف العرب، الذي لن يزول الا «في مواكبتهم ـ أي العرب ـ للحضارة الحديثة وأخذهم عنها دون تردد ودون مراجعة، بسيئاتها وحسناتها ـ كما كان يقول طه حسين» وتفرض هذه المواكبة أيضاً «تشرّب المجتمع العربي للقيم العصرية وانطباعه بها» (17) . لقد وعى هذا الاتجاه شرط الخيار النهضوي في انجذاب المجتمعات الشرقية الى فكر النهضة الاورو بية وتبني المسار التاريخي الذي سلكته اوروبا لتحقيق الرفاه الاقتصادي والتطور الصناعي، والتقدم الاجتماعي، ورأى هذا الاتجاه ثمن ذلك هو التخلص من اللاهوت الديني، وتبني ـ عوضاً عن ذلك ـ العلوم الطبيعية والحديثة.
وبين هذين الاتجاهين الرئيسيين، وما ينطوي تحت كل واحد منهما من اتجاهات فرعية وتباينات صغرى وكبرى، نشأ الاتجاه الاصلاحي الذي يعد الشيخ محمد عبده أبرز رواده، فما هو منهجه الاصلاحي، وهل هو صاحب مدرسة فكرية؟
نتفق مع ما قاله برهان غليون: «لم يكن محمد عبده فيلسوفاً ولا مؤرخاً أو عالم اجتماع حتى يترك لنا نظرية متكاملة في التطور الانساني والتاريخي. ولكنه كان مصلحاً اجتماعياً اراد تغيير الاوضاع التي كانت سائدة في عصره نحو الافضل، وكانت فلسفته النظرية وسيلة في خدمة الاصلاح وتأكيد شرعيته وشروطه» (18) .
وفي واقع الأمر، أن الشيخ عبده، وهو يؤسس لبنى مشروعه الاصلاحي، كان يرفض الانحباس في اطار فكري محدد، أو الاحتكام الى أي من الاتجاهات الايديولوجية التي انفرزت كردود أفعال على الواقع السياسي الشرقي، ولذلك كان يرفض الخضوع الى نوع من المحاكمة الحدية: إما..وإما. أي إما أن يكون مع الخيار السلفي أو الخيار الحداثي والموضوعات المندرجة تحت هذين الخيارين الفكريين..
في نظر الشيخ عبده، أن الخيار السلفي يرتد بالامة الى الوراء، ويزيد في تقعّرها التاريخي، لأنه دعوة مبطّنه للاحتجاب عن الواقع، والاندراج في خيار ماضوي يستحوذ على وعينا اليومي، وفي أحسن الحالات العيش في المستقبل المنتظر الذي «يتوسّم» فيه انصار هذا الخيار بمقتضى فحاوى «المغيبات» المرصودة في كتب التراث، كما يرى الشيخ عبده في الخيار الحداثي بأنه اجتثاث الامة من جذورها، واستزراعها في بيئة أجنبية، وتالياً تجاوز النشوء الطبيعي لحركة التغيير الاجتماعي، عبر الاندياث في الآخر بشروطه وخياراته.
كان الشيخ عبده، يجترح طريقة جديدة، تقوم على أساس تنشيط العناصر المشّعة المكونة للدين الاسلامي من داخله، سعياً الى احداث التجديد الديني المنشود الذي سيلعب دوراً رئيسياً في التحفيز الاجتماعي نحو النهضة، بلحاظ أن الجمود الذي عانى منه المسلمون تاريخياً يحول دون تقدمهم، فشق اتجاهاً جديداً، يزاوج فيه بين الاصالة والمعاصرة، أي بين ثقافة النهضة العلمية وضرورات التجديد الديني، وبكلمات أخرى، الاندماج بين العلم والدين، وبين الدين والعقل، هذه العلاقة يعتبرها الشيخ عبده الشرط الأول للانبعاث النهضوي، وهذا في الواقع الهدف الذي تنشده حركة الاصلاحية الاسلامية عموماً.
وتقوم النزعة الاصلاحية على فهم متجدد للاسلام، حيث بدأ الشيخ عبده التأمل في الموضوعات الكبرى داخل الفكر الاسلامي إبان منفاه في بيروت، من خلال تسيلط الضوء على الافكار الارثوذكسية «والتي شعر بأنها تحول دون بقاء نشاطية الاسلام، بوصفه ديناً صالحاً ـ لكل زمان ومكان ـ ومؤسسة فاعلة في المجتمع الحديث» (19) .
ومن الناحية العملية، أسس الشيخ عبده حركته الاصلاحية، على اساس تفكيك الخيارين السلفي المحافظ والليبرالي العلماني، وكلاهما متفق على أن العلم على طرف نقيض مع الدين، ولذلك أصبح يحارب على جبهتين، لقد وزّع نشاطه الاصلاحي في سبيل دحض متبنيات الفريقين (السلفي والليبرالي)، باقناع الفريق السلفي بخيار التجديد الديني، ورفض التفسير التقليدي للاسلام، ومن جهة ثانية، اقناع الفريق الليبرالي بكفاءة وأهلية الاسلام، في شكله الجديد المعدّل. إنها صحيحة تماماً ملاحظه البرت حوراني، بأن فكر ـ الشيخ ـ عبده يتضمن توتراً بين حقيقتين «في الجانب الاول منه، هناك اسلام بمطالبه ـ التي تعبّر عن ارادة الله ـ سبحانه وتعالى ـ والتي تملي على الناس طريقة العيش في مجتمع، وفي الجانب الآخر، هناك حركة الحضارة الحديثة التي لا يمكن اجهاضها» (20) ، ولذلك، كان الشيخ عبده يجتهد في تأسيس لـ «أرضية بحثية مشتركة بين العقائد الاسلامية وـ حقائق العصر ـ العصر العلمي» (21) . لقد توصل ليونارد بندر بنجاح الى أن رسالة الشيخ محمد عبده (رسالة التوحيد) والتي تعتبر من أهم الاعمال التيولوجية للشيخ عبده (22) كانت «محاولة لتحقيق الترابط الوث يق بين الاسلام والعلم الحديث» (23) .
وفي حقيقة الامر، يعتبر الشيخ عبده، أول مصلح ديني يؤسس لخلفية الشعار المطروح بكثافة في السنوات الاخيرة (الاسلام هو الحل)، والذي بات يرفع بصورة واسعة من قبل جماعات الاسلام السياسي خلال العقدين الاخيرين، حيث كان الهدف الجوهري من هذا الشعار هو تعميم التعاليم الاسلامية ودعوة المجتمعات الشرقية للعودة الى السياق الاسلامي، واستعمال الاسلام كأداة رئيسية في عمليتي التغيير السياسي والاجتماعي، واستطراداً ابقاء المسلمين في حالة استذكار دائم بأن الاسلام ما زال يستودع كل الحلول لمشكلاتهم المعاصرة، وأمراضهم الاجتماعية، وأن للاسلام القدرة الكافية لمد مظلته الى الوقت الحاضر، ومن ثم الى المستقبل.
بيد أن تفسير الشيخ عبده للاسلام لم يكن مرضياً لكلا الاتجاهين: السلفي التقليدي والعلماني اللليبرالي، فقد وجد نفسه في موقع يتطلب منه مضاعفة جهده لتقديم اجابات صلبة لجهة تغيير الموقفين السلفي والعلماني.
ففي رده على الفريق المحافظ، أضاء الطبيعة الدينامية للاسلام من خلال التأكيد على بقاء القوانين الكونية الثابتة، والتي تزاول مهتمها في ضبط كل جزء في الطبيعة، وهذه القوانين ـ بحسب تحليل شارلز آدمز ـ تعامل باعتبارها خصائص الحقيقة العلمية، والتي تمتد ـ هذه القوانين ـ الى الحياة الاجتماعية (24) ، وقد ذكر الشيخ عبده بأن هناك أصولاً خمسة في الاسلام، وفي مناقشته الاصل الرابع تحت عنوان (الاعتبار بسنن الله في الخلق) قال ما نصه: «إن لله في الامم والاكوان سنناً لا تتبدل، والسنن الطرائق الثابتة التي تجري عليها الشؤون وعلى حسبها تكون الآثار، وهي التي تسمى شرائع أو نواميس، ويعبر عنها قوم بالقوانين..إن نظام الجمعية البشرية وما يحدث فيها هو نظام واحد لا يتغير ولا يتبدل، وعلى من يطلب السعادة في هذا الاجتماع أن ينظر في أصول هذا النظام حتى يرد اليها أعماله ويبني عليها سيرته وما يأخذ به نفسه، فإن غفل عن ذلك غافل فلا يتنظر الا الشقاء، وإن ارتفع الى الصالحين نسبه، أو اتصل بالمقربين سببه، فمهما بحث الناظر وفكر، وكشف وقرر، أتى لنا بأحكام تلك السنن، فهو يجري مع طبيعة الدين، وطبيعة الدين لا تتجافى عنه، ولا تنفر منه، فلم لا يعظم تسامحها معه؟» (25) . كما كتب الشيخ عبده مقالاً في (العروة الوثقى) في العدد السابع عشرة بتاريخ 25 سبتمبر 1884 بعنوان (سنن الله في الامم) في ضوء الايات الكريمات «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم..» و«لن تجد لسنة الله تبديلا» و«لن تجد لسنة الله تحويلا».. قال فيه: «أرشدنا سبحانه في محكم آياته الى أن الامم ما سقطت من عرش عزها، ولا بادت ومحي أسمها من لوح الوجود، الا بعد نكوبها عن تلك السنن التي سنها الله على أساس الحكمة البالغة. إن الله لا يغير ما بقوم من عزة وسلطان ورفاهة وخفض عيش وأمن وراحة حتى يغير أولئك القوم ما بأنفسهم من نور العقل وصحة الفكر، واشراق البصيرة، والاعتبار بأفعال الله في الامم السابقة والتدبر في أحوال الذين جاروا عن صراط الله فهلكوا وحل بهم الدمار..» (26) .
وهذه السنن ـ حسب الشيخ عبده ـ شاملة تسري على كل الامم، بصرف النظر عن أديانها ومعتقداتها، وأن مجال اداركها هو العقل فحسب، وهي مجال اشتغال العلم وليس الدين، ولذلك فإن السبيل الى معرفتها والكشف عنها يتطلب ـ كتكليف شرعي الهي ـ تبني الطريقة العلمية التي ترشدنا الى هذه السنن، بما في ذلك سنن تقدم وتخلف الامم، وهنا يصبح اتقان العلوم الحديثة من التكليفات الشرعية الالهية بما في ذلك علوم الانسان والاجتماع التي تضطلع بمسألة التغيير الاجتماعي وشروطه بمقتضى المطلب القرآني (إن الله لا يغير ما بقوم..الآية).
وبحسب نظرة عبده، فإن الامة بالمعنى المليء لا تكون الا في حال التصاقها «بدينها، ولغتها، وأخلاقها، وعاداتها، فإذا لم يحفظ خلفها عن سلفها هذه المقومات بحفظ تاريخها تكون عرضة للتغير بتأثير حوادث الزمان وتقلبات شؤون الاجتماع مع جهل المتأخر بما كان عليه المتقدم، وبكيفية التغيير الضال للجهل بالتاريخ»، بوصفه «المرشد الأكبر للأمم العزيزة اليوم الى ما هي فيه من سعة العمران وعزة السلطان» (27) .
يعتقد الشيخ عبده، بأن القرآن الكريم هو المرشد الرئيسي للمسلمين للعناية بالتاريخ، استناداً على المساحة الكبيرة التي يحتلها التاريخ في السور القرآنية «فثلاثة أرباع القرآن تقريباً قصص وتوجيه للانظار الى الاعتبار بأحوال الأمم في كفرهم وايمانهم وشقاوتهم وسعادتهم» (28) .
حمل الشيخ عبده على أجهزة التعليم الديني لاغفالها علم التاريخ وكتب «ينجلي للعاقل شأن علم التاريخ بما فيه من الفوائد والثمرات وتأخذه الدهشة والحيرة اذا سمع أن كثيراً من رجال الدين من أمة هذا كتابها يعادون التاريخ باسم الدين ويرغبون عنه ويقولون أنه لا حاجة اليه ولا فائدة له، وكيف لا يدهش ويحار والقرآن ينادي بأن معرفة أحوال الأمم من أهم ما يدعو اليه هذا الدين» (29) . وأرجع الشيخ عبده سبب اغفال علم التاريخ الى اغفال المصادر التي يستقى منها الوعي الديني «فلما صار الدين يؤخذ من غير الكتاب والسنة أهمل التاريخ، بل صار ممقوتاً عند أكثر المشتغلين بعلم الدين» (30) ، ولعل هذا يضيء لنا خلفية تفسير القرآن الذي اشتغل به الشيخ عبده طيلة حياته ولم يتمه.
أما على الجانب الآخر، فقد توجّه الشيخ عبده الى الحداثيين لاثبات الانسجام بين الدين والعلم الحديث، وكان يعتقد بأن الهوة الواسعة الحاصلة بين الدين والعلم نتيجة تدني منسوب الوعي الديني لدى العلماء من جهة، وسوء السياسات المدنية التي اصطنعها القادة في المجتمعات الاسلامية، ولكن يظل، للاسلام مهمة مشتركة مع العلم يجب عدم اغفالها.
تسترعي عملية البحث عن ملامح المنهج العقلي لدى الشيخ محمد عبده، العودة الى تاريخ العقل في الاسلام، وتحديداً الى جذور وموضوعات الاختلاف في الفكر الاسلامي، حيث أّرخ لأول خلاف بـ «مسألة الاختيار واستقلال الانسان بإرادته وأفعاله الاختيارية، ومسألة من ارتكب الكبيرة ولم يتب» (31) ، وهي مسألة فتحت نافذة على المحاور الفكرية في مشروع عبده الاصلاحي، حول العقل والاجتهاد، والتقليد..الخ
طرحت الحركة العقلية ممثلة في تيار الاعتزال، كأول تيار عقلاني في التاريخ الاسلامي، في القرنين الثاني والثالث الهجريين موضوعات على درجة كبيرة من الحساسية أُخضعت لمرجعية ثقافية مزدوجة مستندة على النقل (= الاسلام النصّي) والتراث الفكري الاغريقي.
لقد انبثقت من مجالس المعتزلة حركة الجدل بنشاطية غير عادية، ورغم قصر مدة ازدهار هذه الحركة، منذ رفع الخلفاء والامراء الغطاء الرسمي عنها والحماية الامنية، وانحسر ظلها الاجتماعي لصالح التيار الجديد الاشعري المسنود من مؤسسة الخلافة، الا أن موضوعات الجدل المعتزلي ظلت محبوسة في مكان ما من العقل الاسلامي، بانتظار الفرصة المناسبة لانفلاتها واستعلانها، فيما كان الكلام المعتزلي يحتفظ بأثره الفاعل في تحفيز البحث الكلامي والفلسفي في الاسلام.
إن السؤال الذي طرحه الشيخ عبده، حول ماهية العلاقة بين العقل والاسلام، كان ذلك السؤال المدخلي، الذي أثاره المعتزلة للعثور على مفتاح المعرفة في بداية مشوارهم الكلامي، كبداية لتحقيق الربط بين العقل والاسلام، وعلاقة كل منهما بالآخر، ومدى صلاحية كل منهما.
تاريخياً، يعتبر القول بالقدر، المسألة الكلامية الخلافية الاولى التي أسست لانشقاق الفرق الكلامية، وكان القول بالقدر مندغم في القول بالاعتزال، وهذان القولان يعدان في تاريخ الاسلام المبكر مذهباً واحداً، انشق لاحقاً عن مذهبين (القدرية) و(المعتزلة)، مع أن القول بالقدر بقي أساساً محكماً لدى المعتزلة وخصوصاً المتأخرين منهم (32) .
وانبعثت الموجة الكلامية بوتيرة عالية لتناقش المسائل الكبرى في الاسلام، وبدأت تطرح أفعال الله ـ سبحانه وتعالى ـ وأفعال العبد، وحدودهما، فقال المعتزلة بأن «أفعال العباد مخلوقة لهم وليست مخلوقة لله تعالى، لأنها لو كانت مخلوقة لله لما جاز أن يعاقب عباده على فعلها لأن يكون عاقبهم على ما لم يفعلون» (33) ، وطرحت فكرة أن الله لا يفعل الشر، ويرجعون ذلك الى سؤال وجِّه الى الرسول (ص) عن تفسير: سبحان الله، فقال: هو تنزيهه عن كل شر، وكان يقول في بعض توجهاته في الصلاة: والشر ليس اليك (34) ، وتطور النقاش في هذه المسألة، كما تكشف الرواية التالية ملخصة، فقد قال ثمامة بن الأشرس، ويكنى أبا معن النميزي، من جلّة متكلمي المعتزلة قال يوماً للمأمون: لا تخلو أفعال العباد من ثلاثة أوجه إما كلها من الله ولا فعل لهم لم يستحقوا ثواباً، ولا عقاباً ولا مدحاً ولا ذماً، أو تكون منهم ومن الله وجب المدح والذم لهم جميعاً، أو منهم فقط كان لهم الثواب والعقاب والمدح والذم» (35) .
وظهر في غضون هذه الفترة ابو الحسن الاشعري (ت 324 ـ 936)، وكان مداوماً على الاعتزال مدة أربعين سنة، ثم كتب النقوض عليه، وأسس مذهباً معتدلاً ليس معتزلاً عقلياً ولا حنبلياً نقلياً، وإنما طريقة تقترب من أهل الحديث مع افراد مساحة للعقل، ولذلك قيل عن العقيدة الاشعرية بأنها «عقيدة حنبلية معدّلة، وقد تصرفت في جميع ما كان غير مقبول في العقيدة الأم، وهي الحنبلية» وإن كان الموقف لم يحل دون ظهور مخالفين للاشعري، ومنابذين لطريقته فإبن حزم عدّه من الجبرية، لرأيه في أفعال الانسان، ويعدّه من المرجئة في مرتكب الكبيرة (36) .
وكان ابو الحسن الاشعري يقول «لا خالق الا الله، وأن أعمال العباد مخلوقة لله مقدورة، كما قال (والله خلقكم وما تعلمون) الصافات ـ ،96 وأن العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئاً وهم يخلقون كما قال (هل من خالق غير الله) فاطر ـ ،3 وكما قال (لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون)» النحل ـ 20 (37) .
وواجه الاشعري، في رأيه هذا، انتقاداً حاداً على أساس أن القول بأن أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه مستلزماً للجبر، وحاول الاشعري أن يعالج هذه الاشكالية باضافة «الكسب» الى الخلق، قائلاً بأن الله هو الخالق والعبد هو الكاسب، اذ يصبح معيار الطاعة والعصيان والثواب والعقاب هو «الكسب» دون الخلق، فكل فعل صادر عن كل انسان مريد، يتردد بين بعدين «الخلق» و«الكسب» فالخلق والايجاد من الله، والكسب من الانسان.
ولربما تسبق نظرية الكسب التي اشتهر بها الاشعري تاريخه، فقد ذكر القاضي عبد الجبار أن ضرار بن عمر (من رجال منتصف القرن الثالث الهجري)، كان يختلف الى واصل بن عطاء، ثم صار مجبراً وعنه نشأ هذا المذهب: أنها متعلقة (أي أفعال العباد) بنا ومحتاجة الينا، ولكن جهة الحاجة إنما هي الكسب، فقد شارك جهماً في المذهب، وزاد عليه في الاحالة (38) .
الاولى: مرحلة الدعوة والبيان: حيث حصلت على اسناد وتعضيد القاضي الاشعري ابي بكر الباقلاني (ت 403هـ ـ 1013م)، ابان المجابهة الفكرية مع المعتزلة الذين تكاثرت مجالس مذكراتهم في شيراز، اضافة الى مجالسهم في العراق، فاستدعى عضد الدولة الباقلاني وكان عالماً بالبصرة، فحضر الى شيراز ودخل في مناظرات مع رؤوس المعتزلة، وناصر المذهب الاشعري وهناك بشّر بنظرية الكسب.
الثانية: مرحلة التكامل والانتشار: وقد تحمل ابو حامد الغزالي (ت505هـ ـ 1111م) (أنظر: الاقتصاد في الاعتقاد) وسعد الدين التفتازاني (1312 ـ 1390م) (أنظر: شرح العقائد النسفية)، ثم جاء الفقيه الحنفي ابن الهمام (ت 861هـ/1457م) الذي بلغت النظرية في عهده مدى اجتماعياً وفكرياً واسعاً وبخاصة في مصر.
الثالثة: مرحلة الانكار والانكسار: وتمتد هذه المرحلة الى الهجوم الكاسح الذي شنّه امام الحرمين الامام أبو المعاد الجويني (ت 478هـ)، أستاذ الامام الغزالي، وواصل الشيخ عبد الوهاب الشعراني (ت 973هـ/1565م) (أنظر: اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر)، وأخيراً نقدها الشيخ محمد عبده في (رسالة التوحيد) وقال بأن : «الاعتقاد بكسب العبد لأفعاله يؤدي الى الاشراك بالله وهو الظلم العظيم..» وقال ايضاً إن الشريعة الاسلامية جاءت لـ «تقرير أمرين عظيمين.الأول: أن العبد يكسب بإرادته وقدرته ما هو وسيلة لسعادته والثاني: أن قدرة الله هي مرجع لجميع الكائنات وأن من آثارها ما يحول بين العبد وبين انفاذ ما يريده، وأن لا شيء سوى الله يمكن أن يمد العبد بالمعونة، فيما لم يبلغه كسبه..» (39) .
وحقيقة، يتموضع رأي الشيخ عبده في منزلة بين منزلتين (بين المعتزلة والاشاعرة)، فهو لم يذهب الى القول بخلق الانسان لأفعاله، أو حاصل قول الاشاعرة (الجبر+ الكسب)، وسنأتي على ذلك لاحقاً.
وعلى أية حال، فقد انشقت عن مسألة أفعال العباد، مسائل أخرى، منها القول بالجبر، وبدأ الجدل يدور حول ما اذا كان الانسان مسيّراً أم مخيّراً، وكان هناك رأيان:
كون الله خالقاً لكل شيء حتى أفعال عباده، والا بطل التوحيد في الخالقية، وقد قال الحسن البصري (21 ـ 110هـ) في الاختيار : «فقد بيّن ـ أي الله سبحانه ـ وأمر ونهى، وجعل للعبد السبيل على عبادته، وأعانه بكل وجه ولو كان عمل العبد يقع قسراً لم يصح ذلك» (40) .
وفتحت هذه المسألة النقاش في الارادة، فهي عند المعتزلة اعتقاد النفع أو ظنه، وقيل ميل يتبع ذلك وهو مغاير للعلم. هي ميل نفسي نحو جلب نفع أو دفع ضرر ومن ثم فهي في حاجة الى مرجح، وهي عند الاشاعرة غير مشروطة باعتقاد النفع أو الميل اليه، وبالتالي يجوز ايجاب الارادة الحادثة للمراد اذا كانت قصداً الى الفعل فالقصد يتقدم على الفعل قبل العزم والجزم وبالتالي يسترد المعتزلة للانسان ما سلبه الاشاعرة منه وأعطوه لغيره وهو «الله» (41) .
وقد سأل ابو العباس الحلبي أبا الحسين الخياط (ت 311هـ) المتحدر من الطبقة الثامنة من طبقات المعتزلة، وقال: «أخبرني عن ابليس هل أراد أن يكفّر فرعون؟ قال: نعم، قال الحلبي فقدغلب ابليس ارادة الله، قال ابو الحسين (الخياط): هذا لا يجب فإن الله تعالى قال: }الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً{ البقرة: ،267 وهذا لا يوجب أن يكون أمر ابليس غلب أمر الله فكذلك الارادة، وذلك لأن الله تعالى لو أراد أن يؤمن فرعون كرهاً لآمن» (42) .
وقد ربط علم الكلام الاسلامي بين الارادة والقدرة، فقال علماء الكلام بأن القدرة هي القوة والارادة هي التنفيذ والتحقيق، فالقدرة هي الارادة في حال تحققها، والقدرة هي قوة الارادة (43) ، ومما يروى أن الحبّال الرازي سأل أبا القاسم العامري: لم قلت أن القدرة لا تتعلق الا بأن تخرج الشيء من العدم الى الوجود؟ قال: لأنها لو تعلقت بغير ذلك لتعلقت بالقديم كالعلم فانقطع (44) .
وهكذا، نجد أن المسألة الكلامية الاولى حول التحسين والتقبيح العقليين، قد احتلت مكانة مرموقة في الابحاث الكلامية، إذ بها أمكن معالجة الكثير من المسائل في الكلام: أفعال العباد، القضاء والقدر، الاختيار، الارادة، القدرة..
ولعل أهم ما يفرّق المعتزلة عن الاشاعرة هو التعويل على العقل في وعي حقائق الاسلام، وقد رأى المعتزلة بتحكيم العقل على ظاهر الشرع، واخضاع الدين الى اعمالات العقل، حتى صاروا يتأولون ما لا ينطبق من الشرع مع الاصول العقلية، في اطار مبدأ التحسين والتقبيح العقليين، وهذا ما صار دافعاً للشيخ الاشعري الى التفريط بدور العقل والانكفاء المفرط على الحديث، كرد فعل احتجاجي على الاتجاه العقلي المعتزلي، الذي صعّد من فعالية العقل، وذهب الى تأويل بعض النصوص القرآنية، كما في آيات الشفاعة، الدالة على غفران الذنوب بشفاعة الشافعين، وقال بأن المراد من الشفاعة هو رفع درجات الصالحين بشفاعة الشفعاء لا غفران ذنوب الفاسقين، ولذلك انفرد المعتزلة في القول بعدم شفاعة المؤمنين بعضهم في بعض، كما ذهب المعتزلة الى نفي عصمة الانبياء في غير مجال التشريع، وأنه قد يصدر منهم فعل الصغائر (45) ، وإن دافع عنهم الشريف المرتضى (355 ـ 436هـ) الذي نفى قولهم بغير العصمة المطلقة للانبياء في توجيه عقلي متقن (46) .
في الواقع، إن موضوعات الجدل في حقل الفكر الاسلامي كما طرحها المعتزلة، تميط اللثام عن الموقف العقلي المتحرر لدى المعتزلة من موضوعات دينية عديدة، حيث التزم المعتزلة موقفاَ تشكيكياَ في صحة الروايات الخاصة بالكرامات والمعجزات، فقد أنكروا «أن الخضر موجود في هذا الزمان، حي، كامل العقل» (47) ، كما أنكروا حديث محاربة الامام علي (ع) الجن بأمر من الرسول (ص)، وهذا الحديث روته مصادر الحديث عند المسلمين عامة، وقد شنّع الشيخ المفيد (ت 413هـ) من أعلام الشيعة الامامية على المعتزلة لرفضهم هذا الحديث، بما نصه: «فإنها ـ أي المعتزلة ـ لميلها الى مذهب البراهمة فتدفعه ـ أي الحديث ـ ولبعدها عن معرفة الاخبار تنكره، وهي سالكة في ذلك طريق الزنادقة فيما طعنت به في القرآن وما تضمنه من أخبار الجن وايمانهم بالله ورسوله» (48) . وكان لهم ايضاً مواقف مفترقة حول: عدالة الصحابة (49) وأجل المقتول (50) وخلق الجنة والنار (51) .
إن هذه النزعة العقلانية لدى المعتزلة والتي تهب العقل صلاحية استثنائية موازية للشرع، وكأن العقل يعمل مستقلاً عن السمع (أي النقل = النص) تصلح مدخلاً لفهم موضوع العلم الذي ظل محبوساً ومزدهراً في نفس الوقت في اطار الابحاث الكلامية الاسلامية، حيث قسّموا العلم ـ كلامياً ـ الى الهي وانساني، والانساني الى ضروري يثبت بالمعرفة الحسية والبداهة العقلية والاستدلالي يثبت بالنظر الذي يعتبر أوّل واجبات المكلف عند المعتزلة (52) ، ومنه انبثقت نظرية التوليد، للرد على كيفية افادة النظر للعلم، وكان هناك أربعة اتجاهات:
الاول: يقول بأن النظر يفيد العلم عن طريقة الرياضة النفسية، أي بالتأهيل النفسي لمستوى تقبل الفيض والالهام، ويجعل مصدر الالهام من خارج الشعور وليس من داخله «وهذا يجمع بين تصوري المعتزلة والاشاعرة لأنه يقوم على الوجوب، مثل المعتزلة، أي وجوب إفادة النظر للعلم ضرورة ولكنه وجوب من «العقل الفعّال» الذي منه يفيض العلم الى داخل الشعور» (53) .
الثاني: قد يفيد النظر العلم عن طريق الوجوب لا عن طريق التولد: أي لزوم النتائج والمقدمات ضرورة، ويعني عدم التولد أن تكون هذه الضرورة خارجية وليست داخلية، لأن الممكنات كلها مستندة الى «الله» والله لا يجب عليه شيء.
الثالث: يفيد النظر العلم، عن طريق العادة، بمعنى الاعداد أو الافادة أو التضمين أو الاقتضاء طالما مارس الانسان النظر أو العلم. وهذا هو رأي الاشاعرة، أي أن النظر يتحقق عن طريق ما يودعه الله في الانسان من علوم.
الرابع: النظر يفيد العلم عن طريق التوليد (وهي نظرية المعتزلة)، أي أن فعلاً يوجب فعلاً آخر، فالنظر فعل للانسان يتولد منه فعل آخر هو العلم..وهكذا.
والتوليد حادث في الشعور، فالشعور تيار مستمر تتوالى أفعاله فيتولد العلم، وهو الاستنباط الصوري أو استنباط النتائج من المقدمات ولكن على مستوى أفعال الشعور (54) ، والتوليد في نهاية الأمر هو فعل الانسان المباشر المتولد عن فعله المباشر، أي الخضوع الى مبدأ السببية المكوّن من السبب والمؤثر.
وهكذا، فإن موضعة المعتزلة، بوصفها الاتجاه العقلاني في الاسلام ـ ظهرت في مرحلة مبكرة، وربما ذهب البعض في تشريح هذه العقلنة الى القول بأن المعتزلة تقعّدت على الركنين الاساسيين اللذين قامت عليهما النهضة الحديثة في أوروبا وهما الشك والتجربة. هكذا وصف أحمد أمين، ابراهيم بن سيّار المعروف بالنظام (ت 221هـ) حيث ظهرت نزعة الشك عند النظام في قوله: «والشّاك أقرب الى اليك من الجاحد، ولم يكن يقين قط حتى صار فيه شك، ولم ينتقل أحد من اعتقاد الى اعتقاد غيره حتى يكون بينهما حال شك..
أما التجربة ـ والكلام لأحمد أمين ـ فقد استخدمها ـ النظام ـ كما يستخدمها الطبيعي أو الكيمياوي اليوم في معمله» (55) .
وما يمكن الخروج به من العرض السابق، أن في هذه النظرية (التوليد) تقبع الخلفية الكلامية للثنائية الجدلية بكل مترادفاتها: التقليد والاجتهاد، والنص والاجتهاد، والنقل والعقل في الاسلام.
إن الغرض من الانفتاح على تراث الجدل الكلامي في التاريخ الاسلامي، كان للاحاطة بالأسس الفكرية التي توسل بها الشيخ محمد عبده في تدشين مشروع الاصلاحية الاسلامية، فالشيخ عبده الذي يستوعب التراث الكلامي تماماً يتسلح منه في التأسيس لبنى فكره الاصلاحي، بعموديه المتساندين: العقل والدين، وسنرجىء الحديث عن هذه النقطة في مكان آخر من البحث..
يحظى «العقل» بأهمية مركزية في مشروع الشيخ عبده الاصلاحي، فقد عدّ النظر العقلي، الاصل الأول للاسلام «فأول أساس وضع عليه الاسلام هو النظر العقلي..» (56) ، وذهب في الاصل الثاني «تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض» الى أنه «اذا تعارض العقل والنقل أخذ بما دل عليه العقل وبقي في النقل طريقان طريق التسليم بصحة المنقول، مع الاعتراف بالعجز عن فهمه، وتفويض الأمر الى الله في علمه، والطريق الثانية: تأويل النقل، مع المحافظة على قوانين اللغة حتى يتفق معناه مع أثبته العقل»( (57) .
وما هذا الرأي الا تكييفاً واستعارة لرأي الفلاسفة داخل المجالين الكلامي والشرعي (الفقهي)، وهذا الرأي لا يخرج عن أنفاس ابن سينا (58) وابن رشد، وكلاهما ممن منح العقل سلطة اشرافية على الشريعة، وجعلا من الاخيرة تابعاً للعقل، تدور في مداره. يقول ابن رشد (520 ـ 595هـ): «وعلى العلماء أن يجمعوا بين الحكمة والشريعة وأن يعملوا من الشريعة ما يوافق الحكمة وأن يتأوّلوا من الشريعة ما لا يوافق الحكمة حتى يكون عملهم في كل شيء موافقاً للحكمة» (59) .
ما يهمنا هنا، وبدرجة أساس، تحديد ماهية العقل في وعي الشيخ عبده، وما هي حدوده، وما هي طبيعة الموضوعات التي تمتد اليها آفاق العقل؟
تثير قراءة فكر الشيخ عبده أسئلة جوهرية دقيقة حول «العقل»، وهذه الاسئلة تسري على الفكر الاسلامي عموماً، إذ تظهر القراءة تلك غموضاً في تعريف العقل، حيث يتجه التعريف الى مصاديقه الخارجية، أي التعويض عن تعريف العقل بالمعقول، والانتقال من السبب الى الأثر، وهذا ينسحب أيضاً الى تعريفات متصلة بمفاهيم كبرى، مثل العلم وتعويضه بالمعلوم والوجود بالموجود والعلة بالمعلول..وهكذا.
فهناك ثمة اندغام وتطابق تام بين مفهومي «العقل» و«العلم» في فكر عبده، وكلاهما يؤول الى نفس الدور والنتيجة، فمهمة كل منهما هو «الكشف» و«البيان»، فالعلم هو الكشف عن الأمر الحقيقي، ويأخذ معنى التبصر (60) ، كما يعرّف العقل بمقصده الأعلى وهو «استكشاف أسرار الوجود، وابراز ما استتر من عالم الشهود..» (61) ، وهذا يرتد بنا الى تراث أبرز الملهمين للشيخ عبده، فمن خلال مطالعة تعريف الامام أبي حامد الغزالي للعقل، يظهر اندماجه وتداخله مع مفهوم العلم وتارة المعلوم (62) .
لقد نجح هشام شرابي في توضيح هذا الابهام، حيث توصل الى أن ما يعرف في فكر الاصلاح بـ العقل العلمي ليس الا المكافىء الاصطلاحي والمفهومي لـ (العلم)، وإن محاولة الدمج بين هذا المصطلح ومصطلح العقلانية العلمية دونها خرط القتاد.
أثار ليونارد بندر وهشام شرابي، سؤالاً استفهامياً لا يخلو من استنكار أحاط بفكر الشيخ عبده، بل وبمشروعه الاصلاحي العقلاني، وقد وفَّق بندر في الوقوف على مفصل هام في فكر الشيخ عبده، وبخاصة ما اشتمل على مفاهيم اكتسبت طابعاً تحديثياً.
فقد كتب ليونارد بندر «يستعمل عبده عدة مصطلحات مثل العلم، والعقل، والفلسفة، دونما تمييز واضح بينهم» (63) . تثير طريقة معالجة الشيخ عبده لهذه المفاهيم جدلاً حقيقياً، فثمة سوء فهم يحصل في التوسل بـ «العقل»، مع الفات الانتباه الى تباين المرجعيات الثقافية التي ينطلق منها المستنكرون لطريقة الشيخ عبده في التعاطي مع العقل، وكأنهم يتجهون الى موضعة العقل في السياق العلماني، والذي يفضي الى وضع الدين أمام اختبار العقل، أي استخدام العقل النقدي عوضاً عن العقل النقلي، وتالياً اجراء عملية تفكيك للاسلام، وهذا الامر، مهما بلغت اتجاهات التحليل لفكر عبده، ليس غرضاً من أغراض الاصلاحية الاسلامية، لسبب بسيط أن مفهوم الشيخ عبده للعقل يخضع لقراءة خاطئة، فهو يُقرأ في ضوء مرجعية ثقافية عصرية وأيضاً علمانية، ولذلك يلزم تكثيف الاضاءة على الاسئلة التي طرحها هشام شرابي: كيف تُعرِّف الاصلاحية الاسلامية «العقل»؟ ومما يتكون العقلاني؟ (64) .
في الواقع، تحيلنا هذه الاسئلة الى الغموض الذي صاحب مفهوم العقل في تراث الفكر الاسلامي، فقد بقي السؤال حول العقل بكامل حمولته معلقاً ومثيراً للجدل وسط المدارس الفكرية داخل الاسلام، وكان هناك جدل واسع حول العقل: هل العقل دليلاً مستقلاً بذاته؟ أم أن العقل تابع للشرع؟ وقد انداح هذا الجدل في سياق الجدل الكبير التاريخي حول التحسين والتقبيح العقليين، وهل أن العقل قادر على الكشف عن الحسن والقبح دون تدخل من الشرع، أو أن العقل يحسّن ويقبّح ما حسّنه وقبّحه الشرع، ثم ما هي العلاقة بين العقل والشرع في مرحلة لاحقة؟
تظهر «رسالة التوحيد» وكتابات أخرى، أن الشيخ عبده يرجّح الموقف المعتزلي في اعطاء العقل قدرة مستقلة في التمييز بين الحسن والقبيح دون تدخل من الشرع (65) ، يقول الشيخ عبده «وقلما يختلف تمييز الانسان للحسن والقبيح من الافعال..» (66) . ولذلك ذهب ايضاً الى إفراد هامش من المناورة للعقل يتموضع فيها مستقلاً عن الشرع، يقول : «فللأعمال الاختيارية حسن وقبح في نفسها، أو باعتبار أثرها في الخاصة أو في العامة، والحس أو العقل قادر على تمييز ما حسن منها وما قبح (..) بدون توقف على مسع» (67) .
ولكن الشيخ عبده، يستبق أية انطباعات متوقعة من هذا الزخم التحفيزي في تعريف العقل، فما يلبث الشيخ عبده يعود على الفور الى النطاق التقليدي، لعقد تلك الموازنة المفترضة، وهي موازنة توفيقية معتزلية ـ اشعرية، يصوغها على هذا النحو «إن العقل وحده لا يستقل بالوصول الى ما فيه سعادة الامم بدون مرشد الهي كما لا يستقل الحيوان في ادراك جميع المحسوسات بحاسة البصر وحدها بل لا بد معها من السمع لادراك المسموعات مثلاً كذلك الدين هو حاسة عامة لكشف ما يتشبه على العقل من وسائل السعادات..» (68) .
ولكن لا بد من القول، يظل العقل في فكر الاصلاحية الاسلامية هو «صاحب السلطان في معرفة تلك الحاسة وتصريفها فيما منحت لأجله، والاذعان لما تكشف من معتقدات وحدود أعمال كيف ينكر على العقل ذلك وهو الذي ينظر في أدلتها ليصل منها الى معرفتها، وإنها آتية من قبل الله».
لقد درأ الشيخ عبده عن العقل ما يحول دون اطلاق صلاحيته حتى داخل الدائرة الدينية، فهو هنا يملك صلاحية
بلورة المعتقدات والطقوس، وايضاً التحقيق في الادلة وفق معايير عقلية وصولاً الى المعرفة الصلبة، ولذلك فإن عملية التأليف التي ينجزها الشيخ عبده بين ذروتي الدين والعلم ما هي الا جوهر العقلانية الاصلاحية المؤسسة على تمييز واضح بين وظيفة كل منهما، والمجال الحيوي الذي يتحرك فيه كل منهما في الفضاء الاجتماعي، وإن أي تعارض بينهما عائد الى عملية طمس معالم أحدهما في الآخر. كتب الشيخ عبده يقول: «ليس من وظائف الرسل ما هو من عمل المدرسين ومعلمي الصناعات، فليس مما جاءوا له تعليم التاريخ ولا تفصيل ما يحويه عالم الكواكب ولا بيان ما اختلف من حركاتها ولا ما استكن من طبقات الأرض ولا مقادير الطول فيها والعرض ولا ما تحتاج اليه النبابات في نموها ولا ما تفتقر اليه الحيوانات في بقاء أشخاصها وأنواعها وغير ذلك مما وضعت له العلوم وتسابقت في الوصول الى دقائقه الفهوم، فإن ذلك من وسائل الكسب وتحصيل طرق الراحة هدى الله اليه البشر بما أودع فيهم من الادراك..» (69) .
ولذلك أنكر الشيخ عبده، اقامة حاجز «بين الارواح وبين ما ميزها الله به من الاستعداد للعلم بحقائق الكائنات الممكنة بقدر الامكان، بل يجب أن يكون الدين باعثاً لها على طلب العرفان، مطالباً لها باحترام البرهان» (70) .
وهكذا يفتح الشيخ عبده حقل تفكير جديد في الفكر الاسلامي يحاول اجهاض سجالية الديني والدنيوي، وتقرير التآلف بينهما على أساس التباين الوظيفي، بل أفاد من هذا ما يعضد ذاك وبالعكس، فكان يرى بأن الدين حاثّ على العلم، والعلم حاثّ على الدين، فالدين يضيء للامم مساراتها الكبرى ويرشدها الى خالقها، ويستحثها على استباق الخيرات، ويحفّزها على الكشف عن الاسرار العظمى المودعة في الكون، واتباع السنن الالهية في تقدم الامم والمجتمعات. ولا ننسى الاشارة الى أن هذه الرؤية يصيغها الشيخ عبده بوحي من الرؤية الخلدونية في العصبية والاجتماع العمراني، والتي تكاد تسكن المساحة العظمى من الاصلاحية الاسلامية كما يبشّر بها الشيخ عبده.
ففي تصوره حول قوانين تطور الامم وتصاعدها، يتبطن الشيخ عبده مبدأ الصراع الدائم في/ وبين الامم «إذا سبرنا أخبار الامم، نعلم يقيناً أن الهيئة الاجتماعية البشرية ما وصلت الى درجة من درجات التمدن والحضارة في وقت من الأوقات دفعة، بل لا بد ـ كما يشهد العيان ـ أن تسبق أمة من الأمم الى غاية في المدنية، فإذا نظرت الى جارتها وقد بقيت في مركزها متأخرة عنها..فتقف تلك وقفة الحائر المتفكر، الى أن يرشدها التأمل الى أن هذه ما وصلت الى ما وصلت الا بالعلم والعمل، المتوقفين على الكد والاجتهاد، فتندفع وراء الجد بحكم الاضطرار، حتى تصل الى ما وصلت اليه أو تكاد..فلا تراهم يقفون لدى نقطة، بل متى وصلوا الى حد ما من حدود التقدم، فلا يمضي زمن طويل حتى يقال أن أمة كذا انتهزت فرصة عظيمة، وفتحت باباً من أبواب التقدم، عاد عليها بالنماء في الأموال والأنفس والثمرات، وبأن مجاوريها يخشون بأسها، ويرقبون حركاتها، فتضطرب الهيئة الاجتماعية البشرية من هذا النازل الذي لم يكن في الحسبان، ولا تسكن خواطر بقية لأمم والممالك حتى ينساقوا الى هذه الخطوة التي خطاها غيرهم على غفلة منهم وهم كارهون..» (71) .
بالتأكيد، تمثل هذه الرؤية نقطة اشكالية، وبخاصة لأولئك المنتمين للمذهب العلماني، فقد احتج نداف سافران، أحد الاتباع المخلصين لهذا المذهب، في تحليله لنظرة الشيخ عبده لقانون التقدم، بأنه رغم ايمانه بالتغيير كسنة الهية في التاريخ، ولكن في نفس الوقت «يتبنى النظرة التقليدية لرسالة النبي وعصره باعتباره ذروة الكمال» (72) ، ولرفع هذا اللبس، يجب القول بأن رؤية الشيخ عبده حول النبوة، تسترعي التأكيد على أنه لا يؤسس رؤيته في النبوة على التأمل الفلسفي أو العلماني المؤنسن المتشكّل حديثاً، وإنما يلتصق بالطريقة الميتولوجية التقليدية، بما تحمل من رؤية فاصلة، هي مورد اجماع المسلمين قاطبة، لا إحداث قطيعة جذرية مع الوحي والماضي لحساب العقل والحداثة.
ولكن الطريقة التي يجب أن نقرأ بها فكر الشيخ عبده، وخصوصاً ما يوحي منها بالاستبطانات العلمانية والاشارات الليبرالية، يجب أن تحصرنا ضمن سياق الاصلاحية الاسلامية، وآليات عملها، لا الشرود بعيداً الى حيث تحميل بعض عبارات الشيخ عبده وتصوراته ما لا تحتمل، بحيث ينتهي الى طمس البعد الاصلاحي، هذا البعد الذي يمثّل المحور وحجر الزاوية في حركة الشيخ عبده.
إن افراد المساحات المستقلة لكل من الدين والعلم، ليس مسعى لاقامة المجابهة والخصام بينهما ولا الفصل التام بينهما، كمجالين متنافرين، أو خطين يستحيل التقائهما، وإنما عملية الافراد تلك استهدفت إعادة تشكيل العلاقة بينهما على أسس جديدة من جهة، ومن جهة ثانية اشاعة جو من الانسجام والتناغم بينهما، فقد دشّن عبده حركته الاصلاحية على أساس التوفيق بين العلم والدين، وأن نجاح هذه العملية يعتبر المدخل الرئيسي لكل الاصلاحات العملية الاخرى، ولذلك فإن الاصلاح مؤسس على الحرب ضد كل محاولات الفصل وقطع الآصرة بين العلم والدين، التي تستهدف طمس المعيار الواقعي لحركته الاصلاحية وتقويض مشروعيتها (73) .
ومما سبق، تتضح بالدقة مهمة العقل، كما شرحها هشام شرابي بما نصه: «إن العقل في أبرز تموضع عملي له ـ كمصدر للرأي والحكم ـ لوحظ في مزاولة الاحتكام العقلاني، في التفريق بين الصحيح والخطأ، والحق والباطل، وبالنظر الى الشؤون الدينية، فإن الشكل الأعلى للعقلانية، ما يصطلح عليه بالإجتهاد» (74) .
إن مزيداً من التمعن في أعمال الشيخ عبده، تسترد بنا الى حقيقة الانفتاح الكثيف على تراث المدارس الفكرية في الاسلام، والاستيعاب التام والدقيق لموضوعات الخلاف الملتهبة، ونقاط التفجر في الجدل الكلامي في تراثات هذه المدارس، ولربما أمكن الوقوف على الهاجس الكبير، الذي راود الشيخ عبده في هضمه لكل التراث الكلامي المتنوع، بكل سجالاته، والتهاباته، فقد حاول أن يدرأ عن نفسه تهمة الانتماء الى إحدى الفرق الكلامية في التاريخ الاسلامي، فحاول أن يمحو انتماءه، بالتلبس بهم جميعاً، عن طريق الرجوع الى منجزات هذه الفرق واستيعابها داخل منهجه الفكري الاصلاحي. ففي سؤال شيخ الأزهر، الشيخ عليش للشيخ محمد عبده ـ وكان طالباً بالأزهر حينذاك ـ : «بلغني أنك رجحت مذهب المعتزل على مذهب الأشعرية؟ فرد الشيخ محمد عبده: إذا كنت أترك تقليد الأشعري فلماذا أقلد المعتزلي؟ إذاً أترك تقليد الجميع وآخذ الدليل» (75) .
وكونه تنبّه للاشكالية الحساسة التي يثيرها الانتماء لمدرسة الاعتزال بوصفها المدرسة الكلامية العقلية، المثيرة للجدل، فإنه «تفادى بحذر أن يحسب نفسه على المعتزلة، وكفّ عن ترك الايحاءات الملازمة لأي استنتاجات منطقية مستندة للمنهج المعتزلي..» (76) ، بل وحتى يتفادى المواجهة مع السؤال العويص، على حد نداف سافران حول العلم الالهي المطلق والبشري، لم يلجأ الى مبدأ القانون الطبيعي، كما فعل المعتزلة «وعوضاً عن ذلك رجّح المصطلحات العربية مثل الجميل والقبيح بدلاً عن الحسن والقبيح، التي تعبّر في اللغة عن القيمة، وأيضاً عن احكام جمالية (كما تعرفها علم الجمال في الفلسفة) في سبيل تنشئة نظرية المنفعة للتعاليم المؤسسة على الجماليات المشتركة» (77) ، وهناك رأي مماثل لـ زكي بدوي يقول فيه : «حاول ـ الشيخ عبده ـ معالجة مشكلة القانون الاخلاقي في أعقاب المدارس الاسلامية المبكرة..عالجها كجزء من السؤال العام ـ الكبير حول القيمة، ولذلك استعمل مصطلح الجميل ليعني به الخير واستعمل القبيح ليعني به الشر» (78) .
وتبرز ذات الملاحظة ـ الاشكالية، في محاولة الشيخ عبده تحاشي المصطلحات المستعملة في تراث الجدل الكلامي بين المعتزلة والاشاعرة حول أفعال العباد والارداة والاختيار، فعوضاً عن استخدام عبارة أن أفعال العباد مخلوقة من قبل العباد، يحاذر من استخدام كلمة (خالق) ويستعمل بدلاً منها كلمة (مختار) حيث يظهر عبده في هذه الرأي كما يرى مالكوم كير «مخلصاً لبعض الصياغات الاشعرية الأصلية: وفي هذه الحالة، تنزيه الله وحده لا شريك، بوصفه خالق كل شيء» (79) ، مع الالتفات الى أن الشيخ عبده لا يتبنى هنا الرأي الاشعري بالكامل، بل يمزج بين الموقفين الاشعري والمعتزلي سعياً الى اجهاض أي انطباع من هذا القبيل كالذي تركه عند كير هنا.
وفي واقع الأمر، يميل الشيخ عبده عقلياً للمعتزلة والماتريدية وايمانياً للاشاعرة، وهذه الثنائية انعكست في منهجه الفكري وأدائه الاصلاحي ايضاً، وحسب زكي بدوي: «في ضوء تحليل نفسي، كان عبده قادراً على اعطاء دعم قوي لوجهة النظر المعتزلية، وباللحاظ السيوسيولوجي (الاجتماعي) لاختلافات لا حد لها..يؤول الى الموقف الاشعري..» (80) . فيما ذهب ايرل إ. ايلدر الى أنه «في العصور الحديثة، وبالرغم من التبجيل الذي يحظى به الاشعري، باعتباره النصير الأكبر للموقف الايماني، الا أن المصلحين مثل محمد عبده انجذبوا الى الموقف الأكثر تحرراً لأبي حنيفة والماتريدية» (81) .
ولا يفوتنا هنا العودة الى موقف الشيخ عبده من التحسين والتقبيح العقليين، لما في هذه العودة من أهمية كبرى لجهة استجلاء جوهر الفكر الاصلاحي والخلفية الشرعية التي يستند اليها، لقد بنى الشيخ عبده موقفه من التحسين والتقبيح العقليين على أساس مبدأي المنفعة والضرورة، اللذين يلعبان دوراً كبيراً في تحديد حسن الافعال وقبحها وخير الأعمال وشرها، وكما يقول الشيخ عبده عن العقل البشري بأنه «فرق..بين الضار والنافع وسمى الأول فعل الشر والثاني عمل الخير، وهذا التفريق هو منبت التمييز بين الفضيلة والرذيلة، وقد حددهما النظر الفكري على تفاوت في الاجمال والتفصيل للتفاوت في درجات عقول الناظرين، وناط بهما سعادة الانسان وشقاءه في هذه الحياة، كما ربط بهما نظام العمران البشري وفساده وعزة الأمم وذلتها وضعفها وقوتها..» (82) .
وهذا النص يؤكد على أن المعوَّل في حياة وحركة الأفراد هو قدرتهم على التمييز بين الخير والشر، وقد التفت الى هذه النقطة مالكوم كير، وعدّها : «نقطة البدء في تفكير الشيخ عبده» (83) . وتأسيساً على هذه النقطة المركزية تنبني اطروحته في الاصلاح الديني، حيث منح العقل رتبة ثانية بعد القرآن الكريم، وفي ضوء تحليله للاسلام يثبّت له استقلالية النظر (84) ونبذ الاسترسال مع التقليد (85) ، تأسيساً على حق كل جيل في تشكيل وعيه الخاص لمصادر الاسلام في ضوء فهمه (86) .
وهنا يؤسس الشيخ عبده الأرضية المشتركة بين العقل والاسلام، من خلال التأكيد على حق الاجتهاد لدى كل جيل، ولذلك ايضاً فسّرت العلاقة بين العقل والاسلام على أساس «التعايش الذي قدِّر له خدمة طبيعة الانسان، باعتباره كائناً مفكراً وحسّاساً» (87) .
لقد أراد الشيخ عبده، أن يثبت بأن الاسلام متصالح مع العقل والعلم، ولذلك عالج موضوعات الاسلام الكبرى والصغرى في ضوء المنهج العقلاني الحديث، تركيزاً على المتعارضات والمتناقضات التي أثارها العقل الاوروبي الحديث والحداثة، فعالجها، وبناء على نتائج هذه المعالجة، رتّب عبده العقل والاسلام، مؤكداً على القيمة الكبرى للعقل في الاسلام، ثم وجّه جهداً مكثفاً لتنظيم العلاقة بين العقل ومسائل اسلامية عديدة، كالقضاء والقدر، والمعجرة، والكرامة وعصمة الانبياء التي أخضعها للعقل البشري، اقتفاءً للمنهج المعتزلي العقلاني في التعامل مع هذه المسائل، فقد رأى الشيخ عبده بأن النبي معصوم في حدود كونه رسولاً لابلاغ ونقل رسالة السماء، أما خارج هذه الوظيفة فإن الرسل يخضعون للطبيعة البشرية «فهم بشر يعتريهم ما يعتري سائر أفراده» كما أنكر كثيراً مما ورد في كتب المسلمين، حول الكرامات، وخوارق العادات، والتي «أصبحت من ضروب الصناعات يتنافس فيها المتنافسون وتتضافر فيها همم الأصفياء وهو مما يتبرأ منه الله ودينه وأولياؤه وأهل العلم أجمعون» (88) . وتوقف عند كثير من القصص التي تروى عن معاجز الأنبياء «ولا علم لنا بما اكتنف ت لك الوقائع في شئون الله في أنبياء ذلك العهد الا قليلاً» (89) . وما كتابي (رسالة التوحيد) و(الاسلام والنصرانية مع العلم والايمان) الا محاولة جادة للتوفيق بين العلم والدين استناداً على التأويل (90) واستطراداً فإن كتابات الشيخ عبده التيولوجية والالهية تسعى لاثبات «الانسجام الجوهري بين العقل، والوحي، والفطرة البشرية» (91) .
ولتحقيق هذا الانسجام بين العقل والاسلام، حاول الشيخ عبده عقد مؤالفات بين موضوعات اسلامية وموضوعات هي ثمرة العلم الحديث، وخصاصاً تلك التي يمكن نزع الطابع الالهي/الديني عنها وادراجها ضمن الاختيار البشري مثل المصلحة التي تتحول الى المنفعة، والشورى الى الديمقراطية البرلمانية، والاجماع الى الرأي العام، والاسلام نفسه يصبح بذاته يعني الحضارة والنشاط، معيار الفكر الاجتماعي في القرن التاسع عشر (92) .
ولعل واحدة من أهم الموضوعات التي طرحها الشيخ عبده في فكره الاصلاحي، موضوع السلطة في الاسلام، والتي نزع عنها الطابع الديني وخلع عليها الطابع المدني، ونفي أن يكون في الاسلام السلطة الثيوقراطية (= سلطة الحق الالهي) وقال ما نصه: «ليس في الاسلام سلطة دينية، سوى سلطة الموعظة الحسنة، والدعوة الى الخير، والتنفير عن الشر وهي سلطة خوّلها الله لأدنى المسلمين ويقرع بها أنف أعلاهم، كما خوّلها لأعلاهم يتناول بها أدناهم» واعتبر السلطة في الاسلام «مدنية قررها الشرع الاسلامي ولا يسوغ لواحد منهم أن يدعي حق السيطرة على ايمان أحد أو عبادته لربه، أو ينازعه في طريق نظره» (93) .
إن عملية التوفيق هذه تنتهي الى معرفة حدود استعمالات العقل، وليس صلاحية العقل نفسه، وهذا يقودنا الى حقيقة صلبة، تدلنا الى الكشف عن مهمة العقل، والتي يظهر من خلال التعمق في معطياتها انحصارها في الاثبات وتطوير طرق الاثبات وليس للنقد والتفكيك. ولربما تثير هذه المؤالفات، الواردة في الفقرة السابقة بين موضوعات محددة في الفكر الاسلامي التاريخي، وموضوعات العلم الحديث، تثير الكثير من الاستغرابات والاندهاشات، ولكن هي في كل الاحوال تندرج في سياق المهمة التي أرادها الشيخ عبده من الاسلام، وهي كما أشار اليها ن.خوري بأن الشيخ عبده : «نجح في عرض الكامن من الاسلام، بوصفه ايديولوجية للتطور» (94) .
وبالفعل، نجح الشيخ عبده في كسر احتكارية الشرع على طبقة معينة ممثلة في رجال الدين، وفتح المجال لإمكانية دخول العنصر البشري لجهة تحقيق أنسنة ظاهرية للاسلام والقبول بمقتضى نتائج الاجتهاد البشري وما يصدر عن العقل البشري من تصورات وأفكار، ولذلك توصل عبر أحاديث عدة عن (الاصلاح القانوني) وبخاصة حول (القانون والشورى) توصل الى «أن أفضل القوانين وأعظمها فائدة هو القانون الصادر عن رأي الأمة العام..» (95) .
كما حاول الشيخ عبده، أن يطرد اشكالية كبرى طالما طرحت على الفكر الاسلامي، حول السيادة الالهية التشريعية، وقال بأن السيادة لله ولكن الله قد يمنح بعض عباده سيادة ثانوية، وهي المكافىء السياسي للحكومة التمثيلية (Representative Government)، وأوجد لها تأييداً من القرآن الكريم «يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم» فاعتبر الأخيرين هم العلماء والقادة المعروفين اليوم بصفتهم ممثلين عن الأمة، وحينئذ تأخذ القوانين الصادرة عنهم صفة الإلزام على اعتبار أن الشورى، في نظر الشيخ عبده ملزمة للحاكم والمحكوم (96) ، وأن واضعي القوانين هم نواب الشعب والنائب لسان المنوب عنه (97) .
من خلال نظرة متعمقة في أعمال وكتابات الشيخ عبده، يستحضر القارىء ـ وفي مجال الفكر الاسلامي المعاصر ـ الدافع الرئيسي للتفسير العقلاني للاسلام، متمثلاً في التحدي المفروض على المجتمع الاسلامي (98) ، وهذا يتوافق مع الرأي القائل بأن حركة عبده الاصلاحية تأسست كرد فعل على تحديات ومتغيرات خارجية، وليست مؤسسة على متغيرات داخلية اجتماعية وفكرية.
ويجب القول هنا، أن دوافع الاصلاح ستحدد/ وستكشف عن اتجاه الاصلاح ونوعيته. بالنسبة لوجهة نظر شرابي فإن حركة عبده الاصلاحية «سعت جاهدة لاعادة مأسسة وتقوية الحقيقة الاسلامية، وليس إخضاعها للنقد الحر»، بكلام آخر أكثر دقة، فإن دعوة الشيخ عبده «لم تكن مسعى من أجل إعادة تشكيل العقيدة، ولكنها دعوة للعودة الى الاسلام الحقيقي» (99) ، وهذا يساعدنا على فهم دور العقل من خلال ادراجه ضمن محفزات الاصلاح، بما يجعلنا نشكك في استعمال العقل لطاقته الكاملة في فكر الشيخ عبده الاصلاحي.
أما بالنسبة لـ زكي بدوي، فإن المشهد يصبح واسعاً، يرى من خلاله بعد الصراع الثقافي، فهو يعتقد بأن «فكر المسلم المعاصر يتموضع كرد فعل على هجوم الغرب على المجتمع الاسلامي» (100) ، وأولى بدوي عناية خاصة مطارحات عدد من المفكرين الغربيين مثل ارنست رينان، وهانوتو، بالاضافة الى المفكرين المتغربين في بلاد العرب مثل فرح انطون زائداً النزعة العقلانية التي انتشرت حول العالم، وبناءً على هذا الرأي فإن عبده يؤمن بأن الحداثة مؤسسة على/ أو متمحورة حول العقل، ولذلك أمكن إثبات أن الاسلام متوافق مع الحداثة، ومن خلال اثبات «التوافق بين النظريات والاختراعات العلمية المفصّلة مع الاسلام الموحى».
وهذا يقودنا الى الهدف الجوهري من برنامجه الاصلاحي، والذي يمكن التعبير عنه بوصفه محاولة لانقاذ الاسلام وحمايته من النقد، وعلى حد بدوي نفسه أن الشيخ عبده تبنى خيار التأويل «كغطاء للحماية ضد النقد» (101) ، من خلال فتح الابواب للعقل المسلم لاستقبال واستيعاب العلم في حقل الفكر الاسلامي، كتب البرت حوراني أن عبده كان في غاية الحماس «للدفاع عن سمعة الاسلام وتالياً للكشف عن وبث حقائقه: إن إغراء المدّعى بأن الاسلام يتبطن كل ما حققه وأثبته العالم الحديث يختفي وراء كل ذلك..» (102) ، وبناءً على وجهة النظر هذه، يمكن الدخول الى المهمات الرئيسية لبرنامج الاحياء الاسلامي، والتي يمكن تلخيصها على النحو التالي:
1 ـ العروج بالاسلام الى ذروة العقل الاوروبي الحديث، والتدليل على الجوهر العميق للعقلانية الاسلامية في مقابل الاتجاهين التقليدي والعلماني.
2 ـ التأسيس لتيولوجية قائمة على أسس عصرية، بكلام آخر تلامس المتطلبات العصرية.
3 ـ اصلاح الحقل التعليمي، الذي سيسمح للرؤية العقلانية للانتشار في أفق واسع (103) .
نشير هنا الى أن ثمة نزعتان متعارضتان لعبتا دوراً هاماً في حركة عبده الاصلاحية، الاولى: نزعة تقليد الغرب، بناء على إعجابه بالمنجزات المتحققة ـ وبخاصة العلوم العصرية ـ في عالم الغرب، فكان عبده يؤمن بأن مهمته الاولى هي : «السعي بكل ما أوتي من قوة لتعميم هذه العلوم في بلادنا» (104) ، ولكن نلفت هنا الى نقطة هامة تنبّه اليها ن.خوري حول سر إعجاب الشيخ عبده بالغرب، والحداثة، وحسب رأي خوري فإن الشيخ عبده «يتميز عن الكثير من الدارسين العرب الذي أعجبوا بالغرب، فوصفُه بأنه مفكّر متغرّب غير مبرر تماماً» (105) .
ودعنا نعود الآن الى رؤية الشيخ عبده حول كيفية تحقيق المهمات المذكورة، فبالنسبة للمهمة الأولى، يعتقد الشيخ عبده بأن الاسلام يجب أن يحرر من الموروث الذي تحول الى مغالطة تاريخية (106) ، فأنكر الافكار العقدية التي يوصمها كمعوقات تحول دون تقدم الاسلام، وهذه الافكار مستوردة من التراث الهيليني الاغريقي تسربت الى الفكر الاسلامي (107) .
وجّه الشيخ عبده نقداً شديداً للفلاسفة لتطفلهم على المسائل التيولوجية (108) ، ولعل من المفارقات المحيّرة أن تكون فكرة ما حاثّة على نهوض مجتمع ما، ومجهضة لمجتمع آخر. ففي محاضرة للمفكر الفرنسي ارنست رينان حول الاسلام والعلم، في جامعة سوربون في 29 مارس ،1883 وعلى خلفية الحديث الذي دار بينه وبين السيد جمال الدين الافغاني حول الاسلام والعلم، ركّز رينان في محاضرته على تبجيل واطراء التراث الهيليني باعتباره مصدراً للعلم والتقدم في أوروبا.. (109) .
ولعل واحدة من الافكار العقدية الرئيسية التي حاربها الشيخ عبده في سبيل نبذها من الفكر الاسلامي، هي فكرة القدرية والتوكل، والتي عدّها معوّقاً رئيسياً لحركة المسلم، «أخطأ المسلم في فهم معنى «التوكل» و«القدر» فمال الى الكسل وقعد عن العمل ووكل الأمر الى الحوادث تصرفه حيثما تهب ريحها، ويظن أنه بذلك يرضي ربه، ويوافي رغائب دينه» فحاول تبديد سوء الفهم لمعنى التوكل والقدر، لجهة قبول الانخراط في الوضع القائم، وتصعيد التطلع ومضاعفة الجهد لتغيير الواقع، كتب يقول : «إن الواحد منا اذا لاح في ذهنه نور الهي يرشده الى طريق العلم، يأتيه معارض يقول له: إن الحالة الحاضرة هي ما قدر الله، لا حيلة لنا فيها، فالمرء متوكل على الله، مسير بحسب القدرة، فعلينا بتسليم أمورنا اليه تعالى، والتوكل عليه، وبذلك ينطفىء النور الذي لاح بذهنه، وبعد أن كان خطر بباله داعي العمل، ينزع للبطالة والكسل، والعجب انهم يظنون هذه الوساوس من العقائد الدينية، ولكن الدين يتبرأ منها، وما للدين عدو أضر من أمثال هذه الاعتقادات» (110) ، كما وجّه رسالة عتاب للعلماء الذين مالوا الى تبني هذه الفكرة عملياً، بما أفضى الى اعتزالهم، وتاليا ً هروبهم من مهمتهم العقلانية. إن هذا الموقف الديني للشيخ عبده والذي يتمثل فيه تعاليم الامام ابي حامد الغزالي في عقد تلك الموازنة الضرورية بين الدين والدنيا، بين الشعور الوجداني والواقع الخارجي، وقبل كل شيء بين العقل والوحي، فكتب يقول: «الدين الكامل، علم وذوق، عقل وقلب، برهان وإذعان، فكر ووجدان، فإذا اقتصر دين على أحد الأمرين فقد سقطت إحدى قائمتيه، وهيهات أن يقوم على الأخرى، ولن يتخالف العقل والوجدان حتى يكون الانسان الواحد انسانين والوجود الفرد وجودين» (111) .
من جهة ثانية، رد الشيخ عبده النقد الحاد الذي وجهه ارنست رينان وهانوتو للاسلام، وفي هذا الرد أماط اللثام عن نرعته السيكولاستيكية والتي يبدو فيها حضور التعاليم المعتزلية بارزاً، لجهة التأسيس للاهوت عقلاني يعيد فيه بناء تلك التعاليم، كما ظهرت في أهم اعماله الفكرية (رسالة التوحيد) ورده على هانوتو، الذي حاول وبسبق اصرار على الدمج بين الاسلام الموحى من الله سبحانه، وبخاصة في مسألة (القضاء والقدر) وبين واقع المسلمين الثقافي والاجتماعي. لقد أثار هانوتو في مقالة نشرت في جريدة (دي جورنال) الفرنسية في عام ،1900 وفي عدد من اصدارات الجريدة مسائل مثل: القضاء والقدر، والتنزيه، وهي من المسائل التي خضعت للنقاش داخل الدائرتين الدينيتين: الاسلامية والمسيحية. ففي مسألة القضاء والقدر، شّن هانوتو هجوماً نقدياً لاذعاً على الاسلام، بالمقارنة بين عقيدتي الاسلام والمسيحية في القدر، فالمسيحية ـ حسب هانوتو ـ عقيدة ربانية ورثت الآريين، ببينما الاسلام عقيدة بشرية ورثت الساميين: «وأن الاولى ترقى بالانسان الى المقام الالهي، والأخرى تنزل به الى أسفل درك حيواني» بكلمات أخرى، وهبت المسيحية الانسان الارادة المطلقة، ب ما يؤهله لأن يكون إلهاً بشرياً، بينما حرم الاسلام هذا الانسان من كل ذلك.
رفض الشيخ عبده رؤية هانوتو النقدية هذه، من منطلقات جد مختلفة، تقوم على نفي الاعتقاد بأن الاسلام قطع العلاقة بين العبد وخالقه، فهذا اعتقاد غارق في الخيال، والصحيح أن «الاسلام أفضى بالعبد الى ربه، وجعل له الحق أن يقوم بين يديه وحده بلا واسطة تبيعه رضاه، قضى الاسلام بأن لا يكون للكون الا قاهر واحد يدين له بالعبودية كل مخلوق، وحظر على الناس مقامين لا يمكن الرقي اليهما: مقام الألوهية التي تفرد بها ومقام النبوة التي اختص بمنحها من شاء، ثم أغلق بابها. وما عدا ذلك من مراتب الكمال فهي بين يدي الانسان، ينالها باستعداده، لا يحول دونها حجاب، الا ما كان من تقصيره في عمله أو قصوره في نظره» (112) .
وبناء على هذه النظرة، يعتقد عبده بأن الاسلام الحقيقي قد رفع العبد، «وهذا هو معنى الاسلام والاستسلام، والذي أخطأ في فهمه «مسيو هانوتو» ارتكازاً على أن ليس هناك من انجازات الغرب ما هو متعارض مع الافكار الاسلامية أو التاريخ الاسلامي» (113) ، وبنفس الطريقة، وفي السياق نفسه، رد الشيخ عبده انتقدات فرح انطون.
ويبقى، الجهد الأكبر للشيخ عبده، في نطاق تأسيسه لبنى العقلانية الدينية مصروفاً الى تفسير القرآن الكريم والذي قضى فيه طيله حياته ولم ينجزه بالكامل، وقد وصف بأنه أول تفسير عصري في تاريخ الاسلام الحديث، «تجاوز الطرق التقليدية، وابتعد عن التفاسير القديمة المتواترة وما ارتبط بها من روايات جانبية وتأويلات سريعة» (114) . وفي الوقت نفسه، نقد الفقهاء الذي اشتغلوا في شرح سور القرآن الكريم، بطريقة النقل الساذج للآراء والروايات دون تحقيق وتمحيص في صحتها وطرق اسنادها، وحتى دون الكشف عن تفسير لأهداف وغايات الوحي.
عدّ الشيخ عبده العودة الى القرآن نفسه، أساس التفسير العقلاني بالسعي الى «تفهم أوامره ونواهيه، ومواعظه وعبره، كما كان يتلى على المؤمنين والكافرين أيام الوحي»، وليس العودة للتفاسير القديمة «الا لفهم لفظ مفرد غاب عنك مراد العرب منه، أو ارتباط مفرد بآخر خفي عليك متصله، ثم اذهب الى ما يشخصك القرآن اليه، واحمل بنفسك على ما يحمل عليه، وضم الى ذلك مطالبة السيرة النبوية واقفاً عند الصحيح المعقول حاجزاً عينيك عن الضعيف والمبذول» (115) .
لقد سعى عبده في هذا التفسير، أن يقيم اساساً متيناً مشتركاً بين التأويل العقلاني وضرورات العصر، انطلاقاً نحو مشروعه الاصلاحي، ولربما من المناسب هنا الاشارة الى أن أغلب التفاسير العصرية وبخاصة تلك التفاسير التي جاءت على خلفية اصلاحية (أو بالدقة مشروع سياسي) كانت تستلهم طريقة الشيخ عبده، المؤسس الأول لتلك التفسيرات المؤدلجة.
لقد نادى الشيخ عبده ـ ونادى المستهلمون لطريقته من بعده ـ بوعي الحقائق الاجتماعية، والعلم بأهل الزمان، وشروط التوحد والانقسام الاجتماعي، من أجل التفكير في وسائل التغيير الاجتماعي والثقافة المطلوبة في عملية التغيير.
تنبّه عبده الى الاشكالية التي تحيط بطريقة تفسيره للقرآن الكريم، وخصوصاً ما يفضي منها الى المغالطات التاريخية، ولذلك تفادى الانجرار الى مطب التفسير العلمي للآيات القرآنية، أي استنباط الحقيقة العلمية من النص القرآني، كما تفعل التفاسير المتأخرة، ولذلك انتقد أولئك المفسرين الذي يتجاوزون مساحة النص ومتن الآية لجهة تأويلها الى أن يقع في المغالطة التاريخية، وكتب عبده يقول : «يجب على من يريد الفهم الصحيح أن يتتبع الاصطلاحات التي حدثت في الملة ليفرّق بينها وبين ما ورد في الكتب، فكثيراً ما يفسر القرآن بحسب المعاني التي كانت مستعملة في عصر نزوله» (116) ، وكان من الضروري تسليط ضوء كثيف على التبدلات الدلالية للالفاظ، بما لا ينسحب على تأويلها العقلاني، خصوصاً لبعض الآيات المشتملة على إشارات علمية، رغم تأكيده المتكرر على استقلالية العقل في الكشف عن كنوز العلم والمعرفة. فمهمة القرآن الكريم كما يعتقد عبده هي تحرير العقل والارادة البشرية ولذلك «يذكر القرآن اجمالاً من آثار الله في الأكوان تحريكاً للعبرة، وتذكيراً بالنعمة، وحفزاً للفكرة، لا تقريراً لقواعد الطبيعة، ولا الزاماً باعتقاد خاص في الخليقة.. » (117) ، كما أثار نقطة مركزية، تؤكد اعتقاده بقدرات العقل البشري والامكانيات البشرية في السيطرة على الكون استناداً الى مبدأ الاستخلاف الموهوب من الله للانسان، والتي بموجبها يزاول الانسان حريته الكاملة وعقله في سبيل تعمير الارض، ففي مقارنة بين الانسان والملائكة، يؤمن الشيخ عبده، بأن استحقاق الانسان لمنصب الخلافة في الارض، كون الملائكة مقيّدين، محدودي القدرة، والمعرفة، والفعل، وعلى عكس ذلك الانسان، وبناءً على هذه الخصوصية، التي فطر الله الانسان عليه، أصبح الانسان مؤهلاً للاستخلاف.
نعود الآن الى سياق البحث في الحقول (=المهمات) الرئيسية في مشروع الشيخ عبده الاصلاحي، حيث الحقل الثالث هو اصلاح التعليمي الديني، والذي يتمثل، بالنسبة للشيخ عبده، في اصلاح الأزهر، والذي شهد فيه أوقاتاً عصيبة، وفي الوقت نفسه تجربة غاية في الاهمية، تعود الى السنوات الاولى من حياته الدينية، وكما يذكر عبده: «إن نفسي توجهت الى اصلاح الأزهر منذ كنت مجاوراً فيه، بعد التلقي عن السيد جمال الدين، وقد شرعت في ذلك، فحيل بيني وبينه، ثم كنت أترقب الفرص، فما سنحت الا واستشرفت لها وأقبلت عليها، حتى اذا ما صادفت الموانع وليت وصبرت مترقباً فرصة أخرى». ويمضي «إن بقاء الأزهر متداعياً على حاله في هذا العصر محال، فهو إما أن يعمر وإما أن يتم خرابه، وإنني أبذل جهد المستطاع في عمرانه..» (118) .
اعتبر عبده، أن القصور في التعليم الديني السبب الوحيد في خذلان أحوال المسلمين (119) ، ولذلك انصرف الى توجيه انتقاده ضد البرامج التعليمية في الأزهر، اضافة الى نظام التربية فيه، الذي رأى فيه عقماً خطيراً، إذ كان من غير المعقول حبس إهتمام الطلبة في اطار الكتب الفقهية القديمة والجامدة «فإن الناس تحدث لهم باختلاف الزمان أمور ووقائع لم ينص عليها في هذه الكتب، فهل توقف سير العالم لأجل كتبهم؟! هذا لا يستطاع، ولذلك اضطر العوام والحكام الى ترك الأحكام الشرعية ولجأوا الى غيرها» (120) .
وعلى أفق أوسع، ناقش عبده أنظمة التربية والتعليم عموماً، ووضع لوائح اصلاح التعليم في الدولة العثمانية (الاعمال الكاملة ج3 ص 77 ـ 85) ولائحة اصلاح التعليم في القطر السوري، ويشمل سوريا ولبنان (الاعمال ج3 ص 93 ـ 95) ومشروع اصلاح التربية في مصر (الاعمال ج3 ص 105 وما بعدها) ورأى بأن «الفقر الحقيقي هو قلة الراشدين المتعلمين..» وذلك بسبب «عدم سريان روح التربية الشرعية العقلية» (121) .
وفي محاولة لانقاذ التعليم الديني في مصر، سعى لأن يجعل من دار العلوم (تأسست 1871) مركز التأهيل الرئيسي والأول للعلماء من أهل الارشاد والتربية بحيث «ينتهي أمرها الى أن تحل محل الأزهر وعند ذلك يتم توحيد التربية في مصر» (122) . وفي نفس السياق، أنشأ عبده جمعية احياء العلوم العربية (1899)، وقام بتحقيق ونقد عدد من الكتب العربية مثل (فتوح الشام) الذي شكك بنسبته الى الواقدي، وحقق كتب: أسرار البلاغة، ودلائل الاعجاز للجرجاني، وفي الفقه: المدونة للامام مالك، وفي المنطق: البصائر النصيرية للطوسي، وفي الأدب: مقامات بديع الزمان للهمذاني، اضافة الى شرح نهج البلاغة للامام علي بن أبي طالب، وقد تأثر بأسلوبه كثيراً.
استناداً الى ما سبق يمكن الانتقال الى الاهداف الكبرى في حركة الاصلاح الديني التي قادها الشيخ عبده، وهي أهداف تفاوتت في الأهمية حسب تباين وجهات النظر اليها من قبل الباحثين ودارسي هذه الحركة، فبينما حصرها جمال أحمد في هدف واحد هو: «لتحرير العقل المسلم من قيود التقليد» (123) ، جعلها زكي بدوي في هدفين بناء على ما ورد في (تاريخ الاستاذ الامام الجزء الاول ص 11) وهما: لاول: تحرير العقل من سلاسل التقليد، والثاني: اصلاح اللغة العربية (124) . فيما ذهب هشام شرابي وهاملتون جب في تحليل حركة عبده الاصلاحية وجهة أخرى، فقد توصل شرابي الى أن حركة عبدة مرت بأربع مراحل ـ تشتمل على أربعة أهداف ـ على النحو التالي:
الاولى: تحرير العقل من قيود التقليد. الثاني: التوصل الى فهم صحيح للاسلام. الثالث: أن السلطة النهائية هي للقرآن الكريم والسنة وليس للمدارس أو للسلطة الدينية. الرابعة: تأسيس معيار عقلاني لفهم وشرح الاسلام (125) .
أما هـ. جب فقد نظر الى حركة عبده الاصلاحية باعتبارها توجهات، حيث حدد أربع توجهات لحركة الاصلاح الديني بقيادة عبده، وهي:
1 ـ تطهير الاسلام من التدخلات والممارسات الفاسدة. 2 ـ اصلاح التعليم الاسلامي العالي. 3 ـ اعادة تشكيل العقيدة الاسلامية في ضوء الفكر الحديث. 4 ـ الدفاع عن الاسلام في وجه النفوذ الاوروبي والهجمات المسيحية (126) .
وفي واقع الأمر، إن حاصل هذه التحليلات والاستنتاجات لحركة الاصلاحية الاسلامية بقيادة الشيخ عبده، يتفق على نقطة جوهرية وهي أن الشيخ عبده صاحب مشروع اصلاحي وظّف كل امكانياته من أجل العودة بمجتمعه الى الاسلام من جهة، ومن جهة ثانية إحداث ثورة عقلية كبرى داخل الاسلام لجهة تحويله الى ايديولوجية للتقدم والتغيير الاجتماعي.
افترقت التحليلات ازاء عقلانية الشيخ عبده، فقد نظر اليها نداف سافران باعتبارها «أهم مغامرة ثورية»، وخلص الى أن عبده ـ من خلال مناقشاته للمصادر الكبرى في التشريع الاسلامي كالسنة والاجماع يضع من الـ «العقل العالمي المصدر الرئيسي» (127) بعد القرآن. بينما لم يخلص شرابي لهذه النتيجة، رغم اعتقاده بأن عبده كان يحمل نظرة عميقة وروحاً جديدة تسري في معالجاته للمشاكل العقلانية، الا أن الانطباع النهائي الذي خرج به شرابي من تعريف عبده للعقل الانساني هو ببساطة «الحاجة الى تفسير منطقي» فالعقلنة التي استخدمها عبده هي في نهاية الأمر «نظرية قابلة للتعديل، بحيث يمكن تثميرها عملياً بأقل الخسائر» (128) .
أما ايلي قدوري (Elie Kedourie) فقد ذهب بعيداً، من خلال قراءة ملتهبة ومتوترة تتجه للغوص في بواطن فكر الاصلاحية الاسلامية، والسعي الى تقديم قراءة خلفية لحركة عبده، من خلال الاشارات الهامشية أو الغامضة، كموقف الشيخ عبده من الشيعة، حيث نقل الشيخ رشيد رضا أن الشيخ عبده طلب منه عدم البوح بموقفه من الشيعة، واكتفى رضا بالقول «إن حكمه ـ أي عبده ـ عليهم أشد من حكم شيخ الاسلام ابن تيمية» (129) ، اضافة الى ما دار بين السيد جمال الدين الافغاني وارنست رينان من حوارات حول الاسلام، حيث زعم قدوري بأن الافغاني ـ وهو لم يدركه الشيخ عبده في بادىء الأمر في النسخة العربية لرد الافغاني على رينان ـ «أراد استعمال الاسلام لأغراض سياسية، وأن ايمان الافغاني يقوم على اعتبار أن كافة الاديان بما في ذلك الاسلام سيئة». واعتقد قدوري بأن «الشيخ عبده الذي كان عليه أن يعيش ويعمل تحت حكم المستبد الشرقي، لا يمكن التوقع بأن ما يمارس عملياً له بالضرورة صلة بما يقال، وأن ما يقال في العلن ربما يختلف تماماً عما يعتقد به في السر» (130) .
وربما هذا الرأي يتفيأ ظلال موقف كرومر وبلنت من اصلاحات عبده، وهما ممن نقل قدوري عنهما كشاهدي اثبات، فبينما وصم كرومر الشيخ عبده بأنه عنادي (agnostic)، ثبّت بلنت في مفكرته عبارة «أخشى بأن ايمانه ـ أي الشيخ عبده ـ بالاسلام أقل من إيماني بالكنيسة الكاثوليكية» (131) .
ولا ريب أن في هذا الرأي تطرفاً وتجنياً على الحقائق العلمية والتاريخية، وهو رأي ينفرد به المتورطون في تمرير مشاريع استعمارية في الشرق، أو أناس غير محايدين، مما يجعل الركون الى مثل هذا المواقف مجانبة للحقيقة واغماضاً لحق هذا المصلح الكبير.
وهناك رأي يبدو محايداً الى حد ما، كونه ينظر الى موضوع العقل في حركة عبده الاصلاحية في اطارها الوظيفين وعلى أساس البحث عن اجابة محددة للعلاقة بين العقل والاسلام، حيث خلص شارلز آدمز الى أن «سلوكه ـ أي عبده ـ ازاء العقل يبدو وكأنه رغبة في تعميم العلوم ـ الحديثة بين المسلمين» (132) .
وبطبيعة الحال، أدت هذه العملية الى ابتذال كبير، فقد أحال الشيخ عبده من الاسلام الى ما وصفه البرت حوراني بـ «ختم تصريح» (133) ، بدافع كما أشار ن. خوري تقديم الاسلام باعتباره «ايديولوجية للتقدم» (134) .
ولهذا السبب قبل عبده استيعاب الفكر الحديث، وقبل ايضاً مبدأ الاقتباس، ولكن في ذات الوقت سعى لعقد موازنة بين الاقتباس الذي سيمر عبره الفكر العلماني وبين الفكر الاسلامي، أي بين الاسلام والمعاصرة، أو بين الحداثة والاسلام، وكما يشرح ذلك شرابي : «قبل ـ الشيخ عبده ـ مبدأ الاقتباس بينما أصر على أن الاصلاح العلماني (الاصلاح السياسي والاجتماعي مثلاً) يجب أن يسير جنباً الى جنباً وخطوة بخطوة مع الاصلاح الديني (الاصلاح الروحي والاخلاقي)» (135) .
دعنا نستدرك هنا، فإن عبده رغم افتتانه بالفكر الحديث على حد نداف سافران (136) وبنظرية داروين في النشوء والارتقاء على حد زكي بدوي (137) ورغم إظهاره المعارضة العلنية لها في احتجاجه على فرح انطون في مجلة (الجامعة) ومبالغته المفرطة في تمثّل المنهج الخلدوني (138) الا أن الصحيح أيضاً أن «حداثته داخل البيئة الاسلامية ليست مؤسسة على قبوله بنموذج التحليل ـ الاجتماعي ـ الغربي» (139) . وعلى حد ليونارد بندر أن عبده في معالجاته مجتمعة «يعتمد على الاسلام أكثر من اعتماده على النماذج الأوروبية في التحليل».
لقد استخدم الشيخ عبده أعمال ابن خلدون وفي مقدمتها «المقدمة» في توصيف الخلافة بكونها مؤسسة تاريخية رمزية وتبريرها، بل أرسى أفكاره الخاصة على أساس أفكار ابن خلدون فيما يتصل بأسباب وصعود وسقوط السلالات الحاكمة وأيضاً أفكاره عن أسس المدنية (140) التي راح ينشرها عبده في محاضراته بالأزهر، اضافة الى افادته من ابن خلدون في قواعد التأويل (141) . كما تأثر بالامام أبي حامد الغزالي وعمله الرائد (احياء علوم الدين) في احداث التوازن بين التجربة الوجدانية وبين الشريعة والنظام العقلي، وأفاد من ابن سينا وابن رشد الى جانب التراث الارسطوطاليسي في تفسيرهم للأفلاك، فيما أفاد من ابن رشد في التأكيد على محورية العقل في وعي الشريعة اضافة الى استيعابه الكامل والواعي للمنهج المعتزلي العقلي.
ولعل هذا ما تنبه له ليونارد بندر، من خلال قرائته النقدية المقارنة لأعمال عبده، وبخاصة رسالة التوحيد، والتي كانت بحسب وجهة نظر معينة «فريدة» فإنه خلص من قرائته المقارنة لأعمال عبده وابن خلدون الى أن «تقديم عبده لم يكن أصيلاً، أو فريداً، أوعصرياً» (142) .
على أن احجام عبده عن تبني طريقة التحليل الغربية لا يلغي حقيقة كون «التنازلات التي قدّمها للفكر الحديث كانت خطيرة وغير ضرورية، كما أن اعادة التفكير في العقيدة أو القانون لم يكن أيضاً ضرورياً» (143) . فعملية التوفيق التي قام بها عبده بين الاسلام والعلم الحديث لم تنجح لأنها «كانت قائمة على اجراء ايماني أكثر من اعتمادها على الاستنتاج المؤسس على فهم الروح الحقيقية للعلم» (144) .
وفي حقيقة الأمر، أن عبده وابن خلدون واجها مشكلة مشتركة في معالجاتهما التأويلية، كونهما سعيا الى «التوفيق بين المتناقضات والمتعارضات في التاريخ والفكر الاسلامي» (145) ، ورغم دعوة عبده الى ضرورة انزال معاني الالفاظ والمصطلحات الاسلامية بحسب زمان صدورها، والحيلولة دون نزعها من سياقها اللغوي والتاريخي عبر اخضاعها لعملية تأويل تفقدها معانيها الاصلية وغاياتها الأولى، الا أنه سقط في هذا المطب بحيث استعمل بعض المصطلحات استناداً على القرآن الكريم والسنة دون الغوص في متطلبات ما جاء فيهما، وحسب زكي بدوي: «استعمل ـ عبده ـ صيغة بسيطة اعتماداً على نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية دون التعمّق في مضامينها» (146) . وقد تتبع شارلز آدمز بنجاح أمثلة عديدة لطريقة عبده في التأويل عبر قراءة متأنية في تفسير عبده، والذي سعى فيه لايجاد علاقة عقلية بين الدين والعلم.
ويبدو من الصحيح والدقيق ايضاً القول بأنه «متى تم تجاوز التفسير التقليدي للاسلام، وفتح الطريق للاجتهاد الخاص، يصعب حينئذ، إن لم يكن يستحيل، التمييز بين ما هو اسلام وما هو غير اسلام» (147) ، وهذا يثير مسألة حساسة تتجه الى البحث عن تفسير للتشوّهات الكاملة التي أصابت الاسلام بسبب الاجتهادات الخاصة، التي تجاوزت كونها تفسيراً للاسلام نفسه (148) .
ومن أجل موازنة النظرة الى أعمال عبده الاصلاحية، فإن من الضروري الاشارة الى ما أسس له، أو تحرياً للدقة لما أعاد تأسيسه من مبدأ استقلالية القضاء والاجتهاد، وتالياً وضع السلطة الدينية التقليدية محل تساؤل، إذ لم يكن يسعى وهو يقلب السلطة الدينية الى مناقشة العقيدة كما توقّع منه هشام شرابي (149) ، والسبب في ذلك ليس غامضاً، فهو لم يصل في عقلانيته ـ رغم أنه يجعل من العقل مصدراً ثانياً بعد القرآن ـ الى حد جعل الأرض ميداناً بشرياً خالصاً دون تدخل لقانون السماء، كما تفرضه المتطلبات العلمانية، فمهما يكن يظل الشيخ عبده وفياً لنزعته السلفية التي تمتزج مع عقلانيته (150) ، اضافة الى صوفيته التي لم يجد هاملتون جب أي تعارض بين ذينك النزعتين، تأسيساً على كون اندماجهما ضرورياً «لتفادي التطرف الناتج عن طغيان إحدى النزعتين بما يؤدي الى عزل الأخرى» (151) .
كما يلفت الانتباه، الاسلوب المتقدم الذي عالج به الفكر الاسلامي التقليدي، وحقق به انجازات كبرى لخدمة مشروعه الاصلاحي، فهو يشبه «لوثر» في ثورته الداخلية على الفكر الديني سعياً الى تثويره من الداخل، كما يشبه الى حد ما نيكولاس ميكافيلي، حيث اعتبر أول من فصل كامل ميدان شؤون السياسة عن الجوهر الاخلاقي المسيحي ووضع هذا الميدان خارج قيود الخير والشر، حيث سحب من الدولة والقانون والسياسة مبررها الديني، دون اغفال للملاحظة التي تثار دائماً، حول وقوع عبده في اطاري التعارض بين سيادتين قانونيتين: قانون السماء ممثلاً في سيادة الله التشريعية، وقانون الارض ممثلاً في اجتهادات البشر، ومجسّدة في القوانين الصادرة عن المجلس التمثيلي.
ورغم رفض الشيخ عبده الدمج بين السياسة والدين، على أساس أن السياسة هي من اختصاصات العقل، وأن السلطة مدنية الطبع، وهي في كل الاحوال منتج اجتماعي، الا أنه في الوقت ذاته، لم يذهب مذهب آبوت رانيال الذي يقول فيه «لم توجد الدولة من أجل الدين بل بالأحرى وجد الدين من أجل الدولة» ولكن عبده يعكس الأمر ويقول «لا دين الا بدولة» وكان يرى بأن «المحافظة على الدولة العلية العثمانية ثالثة العقائد بعد الايمان بالله ورسوله» باعتبارها «وحدها الحافظة لسلطان الدين، الكافلة ببقاء حوزته، وليس للدين سلطان في سواها» (152) .
أما الكلام عن مصير الاصلاحية الاسلامية، فيمكن القول بأن ثمة انجازات كبرى قدّمتها هذه الحركة في العمل الاصلاحي الديني والاجتماعي، فقد بصّرت الرأي العام بالمشكلات الاساسية كما أنها «حررت المسلم من الحدود الضيقة للاسلام التقليدي» (153) ، ولكن في ذات الوقت يجب القول بأن عبده لم يقدّم من خلال القراءة الاجمالية لأعماله الفكرية «اطاراً فكرياً مقنعاً يمكّنه من النجاح» (154) ، فهو لم يقدم سوى «قليل من الهداية الى السبيل الذي يجب أن يسلكه المسلم» (155) .
ومع ذلك، هذا لا يقلل من حجم التغيير الذي مارسه عبده ولا يمكن الذهاب مع موقف البرت حوراني في أن الشيخ محمد عبده لم يقدم «وجهة نظر فاصلة حول الاسلام، وإنما اصطنع نوعاً جديداً من التقليد، كمنهج للرؤية الى الاسلام والعالم» (156) ، بل الصحيح أنه أرسى معالم عقلانية اسلامية قابلة للانماء والاستثمار في مجال تسوية الاشكالات الكبرى في الفكر الاسلامي، بل وفتح الانسدادات الخطيرة في الوعي الديني والتاريخي والسيسيولوجي.
وقد يبدو صحيحاً الى حد كبير ما ذهب اليه زكي بدوي في تحليل الأثر الاجتماعي لحركة عبده في التوفيق بين الاسلام والعلم، إذ انتهت هذه الحركة الى الفشل على الصعيد الاجتماعي على أساس «أن الجناج المتغرب من اصدقائه المفترضين أصبح أكثر تغرباً، فيما أصبح الجناح المسلم أكثر تشدداً» (157) . ولكن الصحيح أيضاً أن الشيخ عبده لعب دوراً هاماً في حياة مصر، فقد كتبت جريدة الأهرام المصرية في الذكرى السنوية الثانية من وفاته تقول «لعب الشيخ عبده خلال حياته العملية دوراً في كل شيء حصل في مصر» (158) .
أما بعد رحيله، فإن عدم نجاحه في وقته لم يفشل مشروع الاصلاحية الاسلامية تماماً فقد ظل الشيخ عبده يحصد على الدوام ثمار مشروعه في المستقبل في ظهور الحركات الاصلاحية الدينية في طول المشرق الاسلامي.
ولذلك أتفق تماماً مع رؤية هاملتون جب التي شرحها بهذا النحو «أن النتائج المباشرة لفعاليات الشيخ عبده تمثلت في بروز المدرسة السلفية الجديدة» وأضاف أيضاً «أن الشيخ عبده ـ كشخص ـ وكتاباته شكلت وما زالت تشكل، درعاً، ودعماً، وسلاحاً لكل المصلحين السياسيين والاجتماعيين» (159) .
ونود الاشارة هنا الى النفوذ الذي مارسه الشيخ عبده على قاسم أمين (1863 ـ 1908)، أحد الاعضاء الفاعلين في حلقة الشيخ عبده العلمية، وقد شاركه الشيخ عبده في فصول من كتابه «تحرير المرأة» (160) الصادر عام 1899 كما ترك تأثيره الواضح على علي عبد الرازق (1888 ـ 1966) حيث ظهر بوضوح سريان روح عبده في اطروحة (الاسلام وأصول الحكم) التي نشرت عام 1925 انطلاقاً من أفكار ابن خلدون، بل لحظ أحد الجامعين والمحققين لتراث الشيخ محمد عبده ثمة تناصاً بين عبده وعبد الرازق، وبخاصة فيما يتصل بالأصل الخامس من أصول الاسلام بعنوان «قلب السلطة الدينية» (161) .
وختاماً يمكن ايجاز تجربة العقلانية الاصلاحية التي توسل بها عبده في احداث ثورة داخل الفكر الاسلامي، وتقديم الاسلام كأيديولوجية للتقدم، وأنها استطاعت اختراق حاجز التقليد، ولكن الاتكال على المفهوم الكلامي للعقل وبناؤه على التأويل أدى الى «الحد من امكان تأسيس فلسفة اجتماعية وسياسية مستقلة، ومنعتقة من اسار النص، ومؤسسة عقلياً، يمكنها التطور من تلقاء نفسها واستيعاب التجديدات المتواصلة في المجتمع والفكر دون الحاجة في كل مرة الى العودة لتبرير نفسها وتأسيس شرعيتها على النص» (162) ، وهذه عائدة لتضارب النزعات داخل حياة وحركة عبده، بين صوفية الشيخ درويش، وعقلانية الافغاني، وسلفية رشيد رضا والمناريين.
كما لم يصل عبده في عقلانيته الى اطلاق العنان للعقل، بل ظل يحبسه في أجواء الوحي، ولذلك من الصعب تحديد هوية هذا العقل المفترض: هل هو العقل النقلي، أم العقل التأويلي، أم العقل النقدي. فالعقل الذي يناقشه عبده أو يبشّر به قد لا يتخذ معناه الشامل الذي يشمل الحس والعقل والخبر، وهل كان عبده يقدّم العقل على أنه «الوريث الشرعي للوحي، ولما اكتمل الوحي فإن العقل هو التطور الطبيعي له» أم هو العقل التبريري حيث «يستعمل ـ منهج العقل ـ احياناً للتبرير أكثر من استعماله التحليل، تبرير المادة المعطاة سلفاً لا يجاد اتساقها الداخلي دون تحليلها الى عناصرها الأولية وبيان مدى تطابقها مع التجربة الحيّة ومع الواقع العريض» (163) .
وأياً كان الأمر، فإن الشيخ عبده يظل واحداً من أبرز قادة الشرق، حمل مشروع الاصلاح الديني والاجتماعي ونذر له حياته، وبث في مجتمعات الشرق روحاً جديداً تسري نحو خيوط الأمل، سعياً للانعتاق من عتمة التقليد والجهل وظلمة الاستبداد والطغيان، وقد وهب تراثاً فكرياً مهما بلغت عثراته، يحمل في طياته شعلة من نور، ورسالة فاصلة في المسؤولية والاصلاح الاجتماعي والديني.
الهوامش
محمد عمارة ـ الاعمال الكاملة للامام محمد عبده، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ايلول سبتمبر 1972 الجزء الثاني ص 329
نفس المصدر ص 330
نفس المصدر ص 330
بدأ الشيخ عبده نشر أول مقالة تحمل اسمه في جريدة (الاهرام) عام 1876، وكان عمره حينذاك 27 عاماً.
محمد عمارة ـ الاسلام والمرأة في رأي الامام محمد عبده، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت الطبعة الثانية 1980 ص 154
الاعمال الكاملة للامام محمد عبده، سيرتي، الجزء الثاني ص 331
محمد عمارة ـ الاعمال الكاملة للامام محمد عبده، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1972 الجزء الاول ص 316
محمد عمارة الاعمال الكاملة للامام محمد عبده، مصدر سابق الجزء الثاني ص 320
برهان غليون ـ الوعي الذاتي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الثانية 1992 ص 54
Khoury, Islam and Modernization in The Middle East: Muhammad Abduh, An Ideology Of Development, University Microfilms International, london 1976 p102
Leonard Binder, The Ideological Revolution In The Middle East, New York 1979 p.60
Nadav Safran, Egypt In Search of Political Community, london 1961 p.62
Jamal Mohammed Ahmed, The Intellectual Origins Of Egyptian Nationalism, Oxford 1968 p.35
محمد رشيد رضا ـ تاريخ الاستاذ الامام الشيخ محمد عبده، مطبعة المنار الطبعة الثانية 1344 الجزء الثاني ص 198
هذا الوصف يعود لـ محمد فريد بك المحامي، تاريخ الدولة العثمانية، بيروت ط5 1986 ص 252
يعتقد جملة من الباحثين أن انحطاط الدولة العثمانية بدأ من الناحية العملية بعد عام 1566 أي بعد موت السلطان سليمان القانوني الذي بلغت الدولة في عهده ذروة مجدها وتألقها، ثم بدأ الانحطاط يفت في عضد الدولة العثمانية حتى أصبح حقيقة منظورة في نهاية القرن التاسع عشر وحتى انهيارها عام 1924: أنظر: محمد فريد بك المحامي، مصدر سابق وأنظر ايضاً: قيس جواد العزاوي ـ الدولة العثمانية، قراءة جديدة لعوامل الانحطاط، بيروت، تامبا ـ فلوريدا الطبعة الاولى 1994ص 17
برهان غليون ـ اغتيال العقل، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت الطبعة السادسة 1992ص ص 24، 26
برهان غليون ـ الوعي الذاتي، مصدر سابق ص 55
Nadav Safran , ibid, p. 64
Albert Hourani, Arabic Thought In The Liberal Age 1798 - 1939, Oxford 1970 p.61
Malcom H. Kerr, Islamic Reform, The Political and Legal Theories of Muhammad Abduh and Rashid Rida, Berekely, Los Angeles 1966 p.105
Zaki Badawi, The Reformers of Egypt, London, 1978, p.51
Leonard Binder, The Ideological Revolution In The Middle East, New York 1979, p. 64
Charles C. Adams, Islam And Modernism In Egypt, New York 1968 p.141
الاعمال الكاملة للامام محمد عبده، حققها وقدم لها د. محمد عماره، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الثانية 1980 الجزء الثالث ص 284 وأنظر أيضاً: محمد عبده، مشكلات القرآن الكريم، اعداد محمد رشيد رضا، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت (د.ت) ص ص 17، 34، 59
محمد رشيد رضا، تاريخ الاستاذ الامام الشيخ محمد عبده، مطبعة المنار، القاهرة 1344هـ الجزء الثاني ص ص 327 ـ 328
الاعمال الكاملة للامام محمد عبده، تحقيق وتقديم د. محمد عمار، مصدر سابق الجزء الرابع ص 180
محمد عبده، مشكلات القرآن الكريم، مصدر سابق ص 59
المصدر السابق ص 60
الاعمال الكاملة للامام محمد عبده، مصدر سابق الجزء الرابع ص 180
محمد عبده، رسالة التوحيد، بيروت 1986 ص 9
أحمد بن يحى بن المرتضى (1363 ـ 1437) ـ كتاب طبقات المعتزلة، بيروت الطبعة الثانية 1988 مقدمة سوزان ديوالد، ص ب، هـ
الشريف المرتضى (1015م) ـ المجازات النبوية، مكتبة بصيري، قم (د.ت) ص 11
أحمد بن يحي بن المرتضى ـ طبقات المعتزلة، مصدر سابق ص 120 ـ 121
المصدر السابق ص 62
محمد أبو زهره ـ ابن تيمية عصره، وحياته، القاهرة 1394هـ ص 192
ابو الحسن الاشعري ـ مقالات الاسلاميين، مكتبة النهضة بمصر، 1969 الجزء الاول ص ص 320، 325
القاضي عبد الجبار الهمداني ـ شرح الاصول الخمسة، مصر 1384هـ ص 363
محمد عبده رسالة التوحيد، مصدر سابق ص 33
مجلة دار الاسلام، عدد 21 سنة 1933 استانبول
حسن حنفي ـ من العقيدة الى الثورة (1) المقدمات النظرية، بيروت 1988 ص ص 502 ـ 503
أحمد بن يحي بن المرتضى ـ طبقات المعتزلة، مصدر سابق ص 86
حسن حنفي، مصدر سابق ص 503
أحمد بن يحي بن المرتضى ـ طبقات المعتزلة، مصدر سابق ص 102
الشريف المرتضى علي بن الحسين الموسوس العلوي ـ أمالي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد)، القاهرة الجزء الثاني ص 348
ذكر الشريف المرتضى في قول المعتزلة في مسألة عصمة الانبياء ما نصه: <<واعلم أن الخلاف بيننا ـ الامامية ـ وبين المعتزلة، في تجزيزهم الصغائر على الانبياء صلوات الله عليهم يكاد يسقط عند التحقيق لأنهم إنما يجوزن من الذنوب ما لا يستقر له استحقق عقاب، وإنما يكون حظه نقص الثواب على اختلافهم ايضاً في ذلك، لأن أبا علي الجبائي يقول: إن الصغيرة يسقط عقابها بغير موازنة فكأنهم معترفون بأنه لا تقع فيهم ما يستحقون به الذم والعقاب. وهذه موافقة للشيعة في المعنى لأن الشيعة إنما تنفي عن الانبياء عليهم السلام جميع المعاضي من حيث كان كل شيء منها يستحق به فاعله الذم والعقاب، لأن الاحباط باطل عندهم، واذا بطل الاحباط فلا معصية الا ويستحق فاعلها الذم والعقاب، واذا كان استحقاق الذم والعقاب منفياَ عن الانبياء (ع) وجب أن تنتفي عنهم سير الذنوب ويصير الخلاف بين الشيعة والمعتزلة متعلقاً بالاحباط<<. أنظر: الشريف المرتضى ـ تنزيه الانبياء، بيروت 1989 ص 17
ابي علي الفضل بن الحسن الطبرسي ـ اعلام الورى بأعلام الهدى، النجف ـ العراق 1970 ص 472
الشيخ محمد بن النعمان (الشيخ المفيد) ـ الارشاد، شيراز ـ ايران (د.ت) الجزء الاول ص 342
الشيخ المفيد ـ الافصاح في امامة أمير المؤمنين، مؤسسة البعثة، قم (د.ت) ص 81
ناقش المعتزلة كون أجل المقتول هو الأجل المقدر له، بحيث لو لم يقتل لعاش فترة أطول: أنظر: محمد بن علي بن الحسين القمي (الصدوق) ـ التوحيد، طهران 1398 ص 378
للمعتزلة رأي مختلف في كون الجنة والنار قد خلقتا بالفعل، أو أنهما ستخلقان يوم القيامة.، فقد ذهب الاشاعرة وأبو علي الجبائي وبشر بن المعتمر وابو الحسن البصري الى أنهما مخلوقتان وهو مذهب أكثر علماء الامامية، وأنكر أكثر المعتزلة ذلك كعبّاد الضمري وظهر بن عمر وأبي هاشم والقاضي عبد الجبار، واليه مال الشريفين الرضى والمرتضى. وقد استدلوا على ذلك بقوله تعالى (يوم نطوي السماء طي السجن للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً..الآية) وباعتبار أن الجنة هي في السماء فلا بد أن تطوى معها فكيف يصح، ولذلك تكون غير مخلوقة الآن. أنظر: الشريف الرضي، حقائق التأويل ومتشابه التنزيل، دار المهاجر للطباعة والنشر، بيروت، الجزء الخامس ص 245
حسن حنفي ـ من العقيدة الى الثورة، مصدر سابق ص 220
المصدر السابق ص 301
المصدر السابق ص 300 ـ 309، وأنظر: محمد عمارة الاعمال الكاملة للامام محمد عبده، مصدر سابق الجزء الثالث ص 499
أحمد أمين ـ ضحى الاسلام، القاهرة 1961 الجزء الثالث ص 112
محمد عمارة، الاعمال الكاملة للامام محمد عبده، مصدر سابق الجزء الثالث ص 282
نفس المصدر.
أنظر: ابن سينا ـ الشفاء (الالهيات)، منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي، قم ـ ايران 1404هـ ص 454
ابن رشد ـ فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر (د.ت) ص 12
محمد عمارة الاعمال الكاملة للامام محمد عبده، مصدر سابق ج3 ص 141
محمد رشيد رضا، تاريخ الاستاذ الامام الشيخ محمد عبده، مصدر سابق الجزء الثاني ص 25
أنظر: الامام أبو حامد الغزالي ـ احياء علوم الدين، دار المعرفة، بيروت (د.ت) الجزء الاول ص ص 105، 106
Leonard Binder, The Ideological Revolution In The Middle East, ibid,p.64
Hisham Sharabi, Arab Intellectualls And The West, Ibid p.30
القاضي عبد الجبار الهمداني ـ المغني، الدار المصرية، القاهرة (د.ت) الجزء السادس ص 20
الشيخ محمد عبده، رسالة التوحيد، مصدر سابق ص 37
المصدر السابق ص 39
نفس المصدر 68
نفس المصدر ص 64
نفس المصدر ص 65
محمد عمارة، الاعمال الكاملة للامام محمد عبده، مصدر سابق الجزء الثالث ص 65
Nadav Safran, ibid, p.73
اعتمدنا هذا التحليل على مادة (الدين الاسلامي أو الاسلام) في رسالة التوحيد، مصدر سابق الصفحات من 80 ـ 95
Hisham Sharabi, Arab Intellctual and The West, ibid p.30
محمد عمارة، الاعمال الكاملة للامام محمد عبده، مصدر سابق الجزء الثالث ص 192
Malcom H. Kerr, Islamic Reform, The Political and Legal Theories of Mohammad Abduh and Rashid Rida, Los Angeles 1966 p.105
Nadav Safran, ibid, p.67
Zaki Badawi, Ibid,p.62
Malcom H. Kerr, Ibid. p.111
وأنظر: محمد عبده، رسالة التوحيد، مصدر سابق ص ص 33، 34/ وانظر أيضاً: محمد عبده، مشكلات القرآن، مصدر سابق ص 70
Zaki Badawi, ibid, p.64
Sa`d al - Din al - Taftazani, A Commentry On The Creed Of Islam, Translated by Earl Edgar Elder, New york 1950 p.xiii
محمد عبده، رسالة التوحيد، مصدر سابق ص 39
Malcom H. Kerr, Islamic Reform.., ibid p.121
أنظر: محمد عبده، رسالة التوحيد، مصدر سابق ص ص 102، 103
المصدر السابق ص 13، 82، وأنظر: محمد عمارة، الاعمال الكاملة للامام محمد عبده، ج3 ص ص 192، 196 ـ 197
Nadav Safran, ibid, p.64
Nadav Safran, ibid,p.65
محمد عبده، رسالة التوحيد، مصدر سابق ص 108
المصدر السابق ص 107 وأنظر أيضاً: محمد عمارة، الاعمال الكاملة، مصدر سابق ج3 ص 279 ـ 280
Malcom H. Kerr, ibid, p.110
ibid, p. 109
Albert Hourani, ibid, p.144
محمد عماره، الاعمال الكاملة للامام محمد عبده، مصدر سابق الجزء الثالث ص ص 288، 289
N.Khouri, Islam and Modernization, ibid p.197
محمد رشيد رضا، تاريخ الاستاذ الإمام، مصدر سابق الجزء الثاني ص 23
في تفسير الشيخ محمد عبده لآية (وشاورهم في الامر) عالج موضوعة الشورى باعتبارها أصلاً عاماً في حياة الجماعة المؤمنة ووظيفة للحاكم والمحكوم<< إن الشورى في الامور الشرعية الواجبة فمن رام أمراً شرعياً قضت به الشريعة وحتمته على الحاكم والمحكوم جميعاً، بحيث لو منعناه لا كتسبنا بذلك اثماً مبيناً<< أنظر: محمد رشيد رضا، تاريخ الاستاذ الامام محمد عبده، مصدر سابق الجزء الاول ص 207
المصدر السابق الجزء االثاني ص ص 198، 203
Hisham Sharabi, Arab Intellectuals And The West..,ibid p p 25, 32
Hisham Sharabi, ibid p. 25
Zaki Badawi, ibid p. 11
ibid, p.95
Albert Hourani, Arabic Thought, ibid p.162
أنظر: برهان غليون ـ الوعي الذاتي، مصدر سابق ص ص 61، 62
Nadav Safran,ibid p.63
Khouri, Islam and Modenization, In The Middle East: Muhammed Abduh, An Ideology Of Development, London 1976 p.60
Zaki Badawi, ibid, p.56
محمد عبده، رسالة التوحيد، مصدر سابق ص ص 9 ـ 11
Leonard Binder, ibid p. 69
Elie Kedouri, Afghani And `Abduh: An Essay On Religious Unbelief and Political Activism In Modern Isalm, New York 1966 p.43
محمد عمارة، الاعمال الكاملة للامام محمد عبده، مصدر سابق الجزء الثالث ص ص 229، 153
المصدر السابق ج3 ص 334
المصدر السابق ج3 ص ص 207، 218
Khouri, Islam And Modernization In The Middle East, ibid p63
برهان غليون، الوعي الذاتي، مصدر سابق ص ص 63 ـ 64
محمد عماره، الاعمال الكاملة للامام محمد عبده، مصدر سابق ج1 ص 589
الشيخ محمد عبده، مشكلات القرآن الكريم، مصدر سابق ص 15
محمد عماره، الاعمال الكاملة للامام محمد عبده، مصدر سابق ج3 ص 279
نفس المصدر، ج3 ص 177
نفس المصدر ج3 ص 74
نفس المصدر ج3 ص ص 196 ـ 197
نفس المصدر ج3 ص 43
نفس المصدر ج3 ص 119
Jamal Mohammed Ahmed, Intellectuals Origins, ibid p.41
Zaki Badawi, ibid 93
Hisham Sharabi, ibid pp 35 - 37
Gibb, Modern Trends In Islam, New York 1972 p 33
Nadav Safran, ibid pp 64, 65
Hisham Sharabi, ibid 37
محمد عمارة، الاعمال الكاملة للامام محمد عبده، مصدر سابق ج3 ص 532
Elie Kedourie, ibid p.3
ibid,p.2
Charles Adams, ibid p. 134
Albert Hourani, ibid p.161
Khouri, ibid p. 197
Hisham Sharabi, ibid p.29
Nadav Safran, ibid p.63
Zaki Badawi, ibid p.57
Leonard Binder, ibid,p.67
Binder, ibid p.72
Gibb, Modern Trends In Islam, ibid p.128
Binder, ibid p.69
Binder, ibid, p.70
Albert Hourani, ibid p.161
Nadav Sfran, ibid p.69
Leonard Binder, ibid p.70
Zaki Badawi, ibid pp 57 - 58
Albert Hourani, ibid, p.144
Zaki Badawi, ibid p.95
Hisham Sharabi, ibid p.24
محمد عمارة، الاسلام والمرأة في رأي الامام محمد عبده، مصدر سابق ص 178
Gibb, ibid p.32
الاعمال الكاملة للامام محمد عبده، مصدر سابق الجزء الثالث ص ص 20، 72
Nadav Safran, ibid p.70
Malcom Kerr, ibid p.106
Nadav S afran, ibid p.70
A.Hourani, ibid p.163
Zaki Badawi, ibid, p.88
Jamal Mohammed Ahmed, ibid pp 40 - 41
Gibb, ibid pp 29, 42
أنظر: محمد عماره، قاسم أمين الاعمال الكاملة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت 1976 ص ص 57 ـ 80 وأنظر لنفس المؤلف: الاسلام والمرأة في رأي الامام محمد عبده، مصدر سابق ص 170 وأنظر الرد على هذا الرأي في: دراسة الدكتورة زينب محمود الخضيري، في كتاب قاسم أمين ـ المرأة الجديدة، كتاب سينا (2) السياسي القاهرة 1987
المصدر السابق ص 181، وأنظر حول قلب السلطة الدينية: محمد عماره، الاعمال الكاملة للامام محمد عبده، مصدر سابق الجزء الثالث ص 258
برهان غليون، الوعي الذاتي، مصدر سابق ص 77
حسن حنفي، من العقيدة الى الثورة (1) مصدر سابق ص ص 380، 381
شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
يحاول الكاتب محمد محفوظ في 166 صفحة أن بضيئ الحديث عن السلم الأهلي والمجتمعي، في الدائرة العربية والإسلامية، بحيث تكون هذه المسألة حقيقة من حقائق الواقع السياسي والإجتماعي والثقافي، وثابتة من ثوابت تاريخنا الراهن.
ينتمي مالك بن نبي وعبدالله شريط إلى بلد عربي إسلامي عانى من ويلات الاستعمار ما لم يعانه بلد آخر، سواء في طول الأمد أو حدة الصراع أو عمق الأثر. إنهما مثقفان عميقا الثقافة، مرهفا الشعور، شديدا الحساسية للمعاناة التي عاشها ملايين الجزائريين من ضحايا مدنية القرن العشرين، بأهدافها المنحطة وغاياتها الدنيئة.
عقد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات خلال الفترة الواقعة بين 6 و 8 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2012، مؤتمرًا أكاديميًّا عنوانه «الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي: تجارب واتّجاهات»، في فندق شيراتون بالدوحة، وشهد الافتتاح حشدًا كبيرًا من الباحثين والأكاديميّين من دول عربية.
يأتي الاهتمام بالقضية الفنية في فكر الأستاذ عبدالسلام ياسين من منطلق أن الوجود الحضاري للأمة كما يتأسس على أسس القوة المادية التي يمليها منطق التدافع القرآني أي التدافع الجدلي بين الخير والشر الذي هو أصل التقدم والحركة، يتأسس كذلك على جناح تلبية الحاجات النفسية والذوقية والجمالية بمقتضى الإيمان الذي هو ...
ثمة مضامين ثقافية ومعرفية كبرى، تختزنها حياة وسيرة ومسيرة رجال الإصلاح والفكر في الأمة، ولا يمكن تظهير هذه المضامين والكنوز إلَّا بقراءة تجاربهم، ودراسة أفكارهم ونتاجهم الفكري والمعرفي، والاطِّلاع التفصيلي على جهودهم الإصلاحية في حقول الحياة المختلفة
لا شك في أن الظاهرة الإسلامية الحديثة (جماعات وتيارات، شخصيات ومؤسسات) أضحت من الحقائق الثابتة في المشهد السياسي والثقافي والاجتماعي في المنطقة العربية، بحيث من الصعوبة تجاوز هذه الحقيقة أو التغافل عن مقتضياتها ومتطلباتها.. بل إننا نستطيع القول: إن المنطقة العربية دخلت في الكثير من المآزق والتوترات بفعل عملية الإقصاء والنبذ الذي تعرَّضت إليه هذه التيارات، مما وسَّع الفجوة بين المؤسسة الرسمية والمجتمع وفعالياته السياسية والمدنية..
لم يكن حظ الفلسفة من التأليف شبيهاً بغيرها من المعارف والعلوم في تراثنا المدون بالعربية، الذي تنعقد الريادة فيه إلى علوم التفسير وعلوم القرآن والحديث والفقه وأصوله، واللغة العربية وآدابها، وعلم الكلام وغيرها. بينما لا نعثر بالكم نفسه على مدونات مستقلة تعنى بالفلسفة وقضاياها في فترات التدوين قديماً وبالأخص حديثاً؛ إذ تعد الكتابات والمؤلفات في مجال الفلسفة، ضئيلة ومحدودة جدًّا، يسهل عدها وحصرها والإحاطة بها.