تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

تحيز الغرب لتصوراته في قراءة عالم الإسلام

محمد الدعمي


لم يغادر إدوارد سعيد, ناقد الإستشراق المعروف (جامعة كولومبيا ـ نيويورك) الصواب, عندما عمّم قائلاً بأنه لم يجد في تاريخ الفكر والفلسفة الغربية (منذ العصر الوسيط حتى شبنغلر) (1) مفكراً‏أقدم على التعامل مع الإسلام خارج الأطر المشوهة الموروثة المرتكزة على عواطف التحامل والضغينة والخوف من طاقات المسلمين الكامنة. وعندما حاولت شخصياً‏أن أدحض هذا التعميم الخطير من خلال انتقاء عدد من الفلاسفة وانتخاب بعض النصوص المكتوبة بأقلام مؤلفين أوروبيين أحرار (أقل ما يقال عنهم) من الذين عبروا عن إعجاب بالرسول الكريم محمد (ص) وبالفتوحات وبالخلافة, وجدت نفسي حبيساً في خلاصات سعيد أعلاه بعد أن استثمرت أدوات النقد والتحليل العلمي الحديث (2) الذي لايكتفي بالدلالات السطحية للنصوص بل يسبر أغوار ما تحت النص من معاني مختبئة خلف الأسطر والحروف.
لقد تيقنت تماماً بأن أفضل المؤلفات عن الإسلام والعرب لايمكن أن تفلت من عملية «تشييء» الإسلام وإحالته إلى تجريد مبسط يمكن التعامل معه بيسر بوصفه «ظاهرة» شرقية لايمكن أن تحيا إلا في الشرق الساخن والمشحون بالسحر والخيال واللاعقلانية (تمييزاً عن غرب عقلاني لايمكن لبذور الإسلام أن تنبت في تربته, حسب اعتقادهم). فكانت جميع هذه النصوص المستلة بعناية (من بين كم هائل من أدبيات الإستشراق) تصب في بوتقة الخوف والتحذير والكراهية للإسلام, خاصة إذا ترادف ببرامج تنمية بشرية وعلمية تؤهل معتنقيه لإمتلاك أدوات التقدم العلمي والصناعة ووسائل البحث العلمي الدقيق. ثمة بون كبير لايمكن تجسيره بين الإعجاب اللفظي التبسيطي من ناحية, وبين الإدراك المتعمق لأبعاد هذا الدين والنظام الإجتماعي المتكامل والمتماسك! فمن كارلايل ونيومن حتى إمرسون وموريس, ومن إرفنغ حتى عتاة المستشرقين الأحياء اليوم (من أمثال برنارد لويس) في مراكز الدراسات الشرق ـýأوسطية والإقليمية المنتشرة في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وغيرها من الدول الأوروبية كان الإسلام يبدو ظاهرة تاريخية «بائدة» وأثرية, تُرصد وتُدرس بوصفها من بقايا عصر زائل طللي (3) .
وعلى هذا الأساس (ونظراً للإنتشاء الذي ترافق مع التقدم الصناعي والمادي في أوروبا خاصة) تم الإرتجاع إلى ماضي الإسلام وكأنه ماض مؤلف من شذرات فردية عظمى لا أكثر: فعملية «شخصنة» الإسلام وتحديده فقط بشواخص ورموز فردية عظمى [الرسول الكريم (ص), علي بن أبي طالب (ع)] ترمي إلى الإيحاء بنضوب هذا النوع من الرجال ولا إمكانية تكرر شذرات عبقريتهم في عصر جديد لايسمح ببروز أبطال مسلمين جدد, بحسب اعتقادهم. كما أن الباحث لايمكن أن يفلت من الإنطباع (المؤسس على هذه الشخصنة) الذي يوحي بتعظيم الإسلام «دين سيف», وليس «دين حضارة».
وهكذا ركز المفكرون الغربيون على «رجل السيف» بديلاً عن «رجل القلم», مخفقين في إيلاء الحركات الفكرية والسياسية والفلسفية الإسلامية حقها من العناية والرصد (لاحظ الإهمال الملفت للنظر لعبقريات الفكر الإسلامي كالغزالي وابن خلدون وغيرهم, ولاحظ تناسي الحركات الفكرية والفلسفية كالمعتزلة وإخوان الصفا وغيرهم) (4) .
ومن نافلة القول أن الثقافة الغربية تعمدت إضفاء المسحة «الرومانسية» الخيالية على قصة الإسلام وحضارته التالية, وكأن الأمر هو قصص أسطورية تستحق العناية بقدر ما تعكسه من خيالية وسحرية وإغراء. وهكذا تم ربط الإسلام (هذا الدين الحنيف المتكامل) بأسماء معينة وكأنها رموز نهائية له, وهي في حقيقتها من افرازات الأسطورة والخيال الإسلامي في العصر الوسيط: لاحظ التوكيد الغربي على شخصيات مثل علاء الدين, السلطان في حكايات (الف ليلة وليلة), حجي بابا الأصفهاني, تيمور لنك, الخيام من بين حفنة أسماء أخرى. لقد كان ذكر اسم واحد من هذه الأسماء كاف للإيحاء «بعالم الإسلام» في الذهنية الغربية التي طالما تعودت توشيج هذه الأسماء بخيالات (الليالي العربية) وبساط الريح ومفاهيم تعدد الزوجات وامتلاك العبيد و «الحريم» (5) .

إسقاطات التراث المحلي
واحدة من أخطر ظواهر الإحتلال الغربي في التعامل مع الإسلام وتراثه تتلخص في تعمد المفكرين الغربيين استثمار وتوظيف تراثهم المحلي الغربي معياراً لدراسة الإسلام ولإطلاق التقييمات المعيارية فيه, متناسين الشخصية والفلسفة المتفردة لهذا الدين المتأسس في تراث قديم وغني بالتجارب والخبرة. وهكذا يلاحظ الباحث الفطن فرض الدارسين الغربيين للإسلام مقاييسهم المستقاة من تاريخهم وحضارتهم على الإسلام بشكل قسري لايخلو من الشعور الوسواسي بالعلوية التي تتعامل مع ظاهرة «دونية». لنلاحظ مثلاً حديثهم عن «أنواع» مختلفة من الإسلام: كالإسلام الأولي أوالمبكر, الإسلام الوسيط, الإسلام الحديث, واليوم يتحدث الإعلام الغربي عن إسلام جديد يطلقون عليه تعبير «الإسلام الأسود», ويقصدون به الإسلام الذي يعتنقه ويمارسه السود والملونون في أمريكا الشمالية! ياله من تعبير مربك ومغرض. كما أنهم يتحدثون عن مؤسسة «الخلافة» بوصفها المكافئ الدقيق «للبابوية» الأوروبية, بينما يتعاملون مع الخليفة العباسي في بغداد بوصفه مكافئاً لبابا روما!
ويسحبهم هذا الخطأ المتمثل باستخدام معايير غربية لفرضها على دين لا أوروبي عصي عليها حتى يصلون حد اعتبار المدارس الفقهية الإسلامية والطوائف الإسلامية ظواهر معادلة لإنشطارات النصرانية الأوروبية خاصة, كالبروتستانتية والكاثوليكية, محاولين شق الإسلام وشرذمته بمعاييرهم الغربية.

هل الشرق يلتقي بالغرب!
وإذ أني لست بصدد استعراض كامل ما توصلت إليه من خلاصات ونتائج يمكن أن تقدم للفكر العربي والإسلامي المعاصر عدداً من «رجات الوعي» المريرة والمؤلمة أحياناً, أود بإخلاص متابعة التطورات الأخيرة في أساليب التناول الغربي المثقف للإسلام وللعرب من النقاط التي توقفت عندها في بحثي (تعبيرات القرن الجاري, هـ.جـ. ويلز وبرنارد لويس خاصة). وفي هذا السياق الهادف إلى تفحص تواصل التناول الغربي للإسلام, لقد اطلعت على مجلة «نيوزويك» (6) التي خصت موضوع «الشرق يلتقي الغرب» بعدد من الكتابات المهمة بقدر تعلق الأمر بإماطة اللثام عما يرسب في قعر العقل الغربي (الأمريكي خاصة) من مشاعر الحساسية والتحامل والرغبة بتشويه الإسلام, ديناً‏وتراثاً ومؤمنين.
وعلى الرغم من «براءة» العنوان أعلاه والذي يوحي بالتفاهم والتحاور, فإن المقالة الرئيسية الأولى (بقلم مايكل إليوت) المعنونة «قتل كبلنغ» (7) تتأسس على فكرة خطيرة, مفادها: إن الغرب يرحب بالتأثيرات الثقافية الشرقية, ولكنه يخشى المنافسة الإقتصادية والصناعية والعسكرية, كما أنه يكره بقوة فيض هجرة الشرقيين إلى اراضيه. وقد تعمدت المجلة أن ترفق المقالة بصورة فنية بريشة رسام من القرن الماضي تصور جانباً‏من حياة «الحريم» في هذا القرن: عدد من نساء «الحريم» الجزائريات (جميلات ومائلات إلى البدانة بسبب عدم العمل!) وهن يتحدثن ويدخن, مرتديات الحرير واللألئ والأحجار الكريمة, بينما تقف عبدة سوداء البشرة على خدمتهن! إذاً, هذا هو التأثير «الثقافي» الذي يرحب الغرب به من الشرق العربي الإسلامي: إنه نص ثقافي مؤسس في خياليات وحسيات (الليالي العربية), نص لايمكن أن يفلت قط من أطر الطرائق التي أراد الغرب (ويريد) رؤيتنا من خلالها. ولكن خوف كاتب الدراسة الحقيقي ينطلق من حقائق إن هذا الشرق يتحرر بسرعة فائقة منýأطر هذه الصورة المنمطة التي اعتمدها الذهن الغربي طوال القرون الماضية ومنذ العصر الوسيط (8) . إنهم يريدون للشرق العربي الإسلامي أن يبقى منفلتاً من عصر الحضارة الحديثة, ملعباً ‏لخياليات شعرائهم ورساميهم وسياحهم.
أما المقالة الثانية «أوروبا المغتربة» (بقلم كرستوفر دكي وجودث وارنر) فإنها تنجح في إطلاق رسالة تحذيرية لأوروبا تخيف الأوروبيين من تواصل دفق المهاجرين الشرقيين (المسلمين خاصة) نحوالدول الأوروبية. ويمكن تلخيص خلاصات المؤلفين في الصورة الفوتوغرافية المرفقة بالمقالة: صورة رجل مسلم ملتحي يرتدي الملابس التقليدية والعباءة مع إمرأته المغطاة بالعباءة السوداء وطفلته (لاتتجاوز 6 سنوات) وهي «مدرعة» بالحجاب الإسلامي, وهم يقفون متأملين (بنظرة تحدي) تحت ظلال بناية البرلمان البريطاني قوطية العمارة! ومن الطريف أن الكاتبين يتأسفان بمرارة جلية على أوروبا المعاصرة بسبب «احتلال» المهاجرين الشرقيين لها, وبسبب ما يمكن لهذا «الإحتلال» أن يتركه من آثار «سلبية» على حياة وثقافة الأوروبيين.
يذهب المؤلف إلى أن مشكلة أوروبا المعاصرة تتجلى في أنها تفقد هويتها وتضحي بتقاليدها الثقافية بسبب إنفتاحها أمام المهاجرين الشرقيين وتقديسها لمبادئ «حقوق الإنسان» والنتيجة التي يتوصل إليها الكاتبان هي أن الأوروبيين أنفسهم يخشون أن يأتي اليوم (القريب, لامحال) الذي يعيشون فيه «مغتربين» في قارتهم نتيجة لهذا الكم الهائل من المهاجرين متنوعي الأجناس والمعتقدات والتقاليد. وإن كان المرء ينسى, فإنه لايمكن أن ينسى (في هذا السياق) المشكلة التي تفجرت في بلجيكا وفرنسا بسبب دراسة إمكانية منع إرتداء الزي والحجاب الإسلامي من قبل المسلمات المهاجرات هناك, وهي معضلة تعرض لها بعض الكتاب العرب المهاجرين والمقيمين في بلدان أوروبا (لاحظ كتابات محمد أركون).
إن الأمر الذي يجرح كاتبي هذه المقالةالمشحونة بالدلالات وبالشعور الملحاح بالإستعلاء على شرق يعدونه دونياً, يتلخص في الحقيقة المريرة التالية: إن أوروبا خلال العصر الذهبي للإستعمار كانت تفرض ثقافتها ولغتها وتقاليدها على شرق مذعن ومستضعف وسهل الإنصياع, إذ كانت أوروبا وقتذاك هي التي ترسل آلاف من مواطنيها إلى الشرق العربي الإسلامي بصفة ضباط وإداريين ومبعوثين ومبشرين ومرتحلين وخبراء, كي تعولم هذا الشرق وتنزع عنه هويته وصفته الإسلامية والمحلية. أما اليوم فإن المعادلة قد انقلبت رأساً على عقب نتيجة لإنتهاء حركة الإستعمار القديم وإنكسار سيل الهجرة المعاكسة من الشرق العتيق المتيقض نحو الغرب الحديث الذي يدفع اليوم أثمان نهبه لثروات العرب والمسلمين. ولكن الكاتب لاينكر على أوروبا الإمبراطورية «فضائل» غزوها للشرق خلال القرون الماضية, ولكنه ينكر على الشرقيين «سيئات» وسلبيات ما يأتون محملين به إلى الغرب في القرن العشرين. إن اللهجة الأساس والتي لايمكن للقارئ الحذق إلا أن يدركها تتلخص في الدعوة إلى أوروبا شوفينية بجدران فولاذية تمنح لنفسها حقوقاً محرمة على العرب والمسلمين.

الهوامش
1- Edward W. Said, Covering Islam: How the Media and the Experts. Determine How We See the Rest of the World (N.Y: Pantheon Book, 1981), pp. 12-30.
2- Muhammed A. Al-Da'mi, «Arabian Mirrors and Western Soothsayers: Nineteenth-Century Literary Approaches to Arab-Islamic History», unpublished PH.D. dissertation (C.I.E.F.L, Hyderabad- India), 1993.
3- أود هنا أن أذكر كتاب برنارد لويس المهم:
Bernard Lewis, History: Remembered, Recovered, Invented (Princeton, New Jersey: Princeton Univ. Press, 1975), pp. 99-100.
4- Al-Da'mi (1993), pp. 297-330.
5ـ حول تبلور فكرة «الحريم» المشوهة, يراجع:
Muhammed A. Al-Da'mi, «The Harem in the Colonizer's Eye», Middle East Quraterly, vol.3, no.11 (1996), pp. 32-40.
6- Newsweek, Dec. 15, 1997.
7- Michael Elliot, «Killing of Kipling», in ibid, pp.10-14.
8ـ محمد الدعمي, «تاريخ التأريخ الأوروبي للإسلام والعرب: من العصر الوسيط حتى عصر الثورة الصناعية», الكلمة, بيروت, ع 16 (صيف,1997), ص 84ـ90.
* كلية اللغات, جامعة بغداد

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة