تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

إشكالية العنف في الفكر العربي المعاصر

أحمد الشهاب


يكتسب موضوع العنف أهمية متزايدة منذ أواخر السبعينات سواء على المسرح السياسي والإجتماعي, أو على مستوى الخطاب الفكري الذي تتناوله وتنتجه جماعات التطرف في البلاد العربية, ومنذ الثورة الإسلامية في إيران (1979) بدأت أصابع الإتهام الأجنبية تتوجه بشكل مكثف إلى الإسلاميين, وبشكل تلقائي تلقف التيار التحديثي في العالم العربي الإتهام وبرزت إلى الأفق مفاهيم عدة لتعريف الظاهرة منها.. الغضب الإسلامي, والإسلام النضالي, والإسلام المسلح, كما وصف المسلمون على أثرها بتوصيفات مثل: الأصوليون, والمتطرفون, والمتأسلمون. وبالإطلاع على الكتابات الغربية نجد ثمة نظرة تجزيئية عامة للظاهرة, بمحاولة إلصاقها بتيار واحد هوالتيار الإسلامي, حتى ليكاد المسلم اليوم أن يكون الوكيل الشرعي لأعمال العنف في الشرق الأوسط. بيد أن حقائق الواقع تتحدث بغير هذه اللغة التي تقفز على كل التناقضات السياسية والإجتماعية والإقتصادية التي تعيشها مجتمعاتنا المعاصرة. لترمي بهمومها على الدين الإسلامي, محملة إياه وزر التخلف والعنف والإرباك الذي تعيشه مجتمعاتنا في لحظاتها الحرجة. وإذا أردنا التفصيل بصورة قد تغضب الكثيرين, ولكنها تستقرئ الحقيقة, فيجب أن نسلم أولاً أن العنف ليس مهنة إسلامية, يتخصص فيها الفرد المسلم منذ انتماءاته الأولى إلى تيار الإسلام العام أو الحركي. فليس صحيحاً أن المسلم عنيف بطبعه, أو أن الإسلام بنصوصه يسوغ للعنف مع الآخر.
نقول ذلك اعتماداً ‏على جملة من النصوص الإسلامية التي تدفع إلى العفو والتسامح. وتؤصل لحق التفكير والتعبير, وتؤكد على التعددية كسمة من سمات المجتمع البشري (شعوباً ‏وقبائل), ففقهاء المسلمين ومؤرخوهم لم يعترفوا بالأمر الواقع فحسب بل بذلوا جهداً ‏معرفيا ً‏في التنظير له استناداً إلى النصوص التأسيسية التي تعاطت مع الإختلاف باعتبارها ظاهرة طبيعية تواكب نمو المجتمعات في مراحل تطورها الديني والسياسي و..‏لقد كانت نظرياتهم السياسية تبرر الوقائع التاريخية وتبني عليها, ولم تكن تحاول حشر الوقائع التاريخية في إطار فكري مسبق (1) . نعم هو يفضل الإنسان الأمين, النزيه والصادق (أتقاكم), على من سواه وهذا لايخل بحضارية الإسلام بل يزيدها تألقاً. وهو يدعو إلى التعايش السلمي بين مختلف الشعوب والطوائف (لتعارفوا), حتى تتمظهر الساحة كلها بحالة من العمل المشترك من أجل صالح الجميع, وهي الصيغة التي ينتظر أن يتم التبشير بها بدلاً من عقلية الحضارات المصطدمة أو محاولة صهرها في قالب واحد.
فالعنف ليس سمة إسلامية كما يراد للأمور أن تصور, فالإسلاميون وخصومهم يقعون في ذات الإشكال ـ رفض الآخر ومحاولة نفيه ـ فالبيئة التي ينشأ فيها إسلامي متطرف, ينشأ إلى جانبه مسيحي متطرف وعلماني متطرف, وكل منهم يستنفد مالديه من مخزون هجومي لفظي وعملي, تغذيه ثقافة الشخص وانتماؤه. فإن أشارت اصبع مسلم إلى علماني بالكفر والزندقة, فإن العلماني بدوره يتهم المسلم بالعمالة والرجعية. وإن طالب عالم مسلم بخنق حق آخر في التعبير عن رأيه لكونه علمانياً متجاوزاً نصوص التسامح والتعددية الدينية, فهناك العلماني الذي يتجاوز كل قوانين الحريات ودساتير حقوق الإنسان ليحرض السلطة ضد تيار إسلامي هنا أو هناك. إن الحدة ذاتها يعيشها الإنسان في الشرق بغض النظر عن ميوله العقائدية وتوجهاته الفكرية.
إن ما يعقد من مسألة الرأي الاخر في المجتمعات الشرقية الحالية, هو الإحباط وخيبة الأمل التي تجتاح الشارع العربي ـ الإسلامي, من التركيبة السياسية للأنظمة القائمة بعد الإستقلال. لاننفي دور هذه الأنظمة في محاولة تحقيق بعض الإنجازات على صعيد تأكيد الذات الوطنية وعملية البناء القومي, ولكنها فشلت فشلاً ذريعاً في ميدان التنمية المستقلة (الإجتماعية, الثقافية, التربوية, السياسية والإقتصادية), وفي حقل بناء الإنسان وضمان حقوقه في قبال تراكم القوانين التي يفرض عليه الإلتزام بها.
إن بؤس العالم الثالث السياسي ارتد على هيئة تأزم فكري وصراع اجتماعي عنيف لم تتمثله الشبيبة المسلمة فحسب, بل تمثلته كل التيارات العاملة في الساحة, قومية كانت أو ماركسية أو إسلامية, علمانية كانت أو مؤدلجة أو توفيقية. وبتعبير آخر إن من يريد أن يتصدى لمعالجة ظاهرة العنف عليه أن يبتعد عن الحلول المعلبة (الجاهزة), وأن يطرح التساؤل بالشكل التالي: لماذا تتوالد في منطقة الشرق الأوسط بالذات (مصانع العنف) وتنمو ظاهرة الإرهاب?. ولماذا نبدو هنا أكثر انفعالاً وتشنجاً أمام الرأي الآخر, ونعتبر أقل مخالفة في نسق التفكير, مؤامرة تستلزم السحق والمواجهة?

العقل التصنيفي
في 1998م صدر كتاب للباحث «خليل علي حيدر» حاول فيه الكشف عن جناح الإعتدال والوسطية في الحركة الإسلامية (2) . ويولي الكاتب أهمية كبيرة للخطاب الذي تنتجه الحركة الإسلامية, باعتبار أن التأسيس النظري هوالمحرك الأساسي لجمهور المتلقين, وإن ما ينتجه فقهاء وأمراء الحركة الإسلامية من فتاوى ومصطلحات ومفاهيم, تمثل الصورة الحقيقية لما يمكن أن تكون عليه الدولة التي يأمل الحركيون إيجادها على أرض الواقع. كما أنها تلعب دوراً مباشراً في تشكيل نمط العلاقة بين المسلمين الخاضعين للخطاب الديني, وغيرهم من فئات المجتمع, ويرى أن الإندفاع نحو تطوير نظرية إسلامية سياسية شمولية ومتكاملة, يتسبب في زيادة مثالية بعض الكتاب أو تعصبهم (3) .
ويأخذ الكاتب على الإسلاميين توسيعهم لمفاهيم المصطلحات بحيث يأخذ المصطلح أكبر من حجمه الواقعي, وبالتالي إنتاج خطاب تصنيفي إلغائي.. [ومما يشترك فيه الإسلاميون جميعاً‏معتدلهم ومتطرفهم, إلغاؤهم للفاصل الزمني بين صدر الإسلام وعصرنا هذا. وبخاصة وصم القيادات السياسية والفكرية المعاصرة, والأوضاع القائمة عموماً, بالأسماء والنعوت التي استخدمها المسلمون في بداية الدعوة. فهذا فاسق وذلك طاغوت وهذا جاهلي وذلك منافق, وهذه مرحلة مكية وتلك مرحلة مدنية.. وهكذا يقوم الإسلاميون في الواقع بتكبيل المجتمعات العربية, ومحاصرة حرية الفكر والإبداع] (4) . وقد نتفق مع الباحث في أن ثمة موارد قصور في خطاب الحركة الإسلامية ينبغي أن يعمل عليها نقداً‏وتنظيراً وتطويراً. ولكن ما يثير القلق والدهشة أن الكاتب يقع في ذات الإشكال الذي يثيره ضد خصومه, فهو يفترض ان ثمة أزمة في توسعة المصطلحات, أو كما يعبر إلغاء الفاصل الزمني بين صدر الإسلام والحاضر, مثل نعت الجاهلية الذي يختص بفترةماضية من الزمن ترتبط بمجتمع ما قبل البعثة النبوية, ليوصم بها المجتمع المعاصر لأنه علماني أو مخالف. فنجد أن «خليل حيدر» وحين يعالج مفهوم التطرف الديني في الوقت الراهن يربطه بالغلو الديني في التراث الإسلامي ليمارس على الإسلاميين ما ينكره عليهم.. [ويتضمن التطرف الديني بعض عناصر الغلو الديني المعروف في التراث الإسلامي منذ أيام الخوارج مثلاً.. ولكن التطرف الديني المقصود في عصرنا يشتمل كذلك على مواقف سياسية من البلدان الأجنبية ومن الديمقراطية ومن المرأة وحرياتها وتفاصيل سياسية واجتماعية] (5) .
ويقرر الباحث وبصورة قاطعة بأن [الدولة الدينية ليست ديكتاتورية فقط, وليست عقائدية فحسب, بل غير واضحة الهوية سياسياً واقتصادياً‏واجتماعياً وثقافياً] (6) , وعليه فإن الأزمة بنظره تتلخص في أن هذه الحركات ستمضي وقتاً لابأس به تجرب مختلف المناهج والأساليب بأمل أن تضع يدها على الأسلوب الصحيح (7) . ولأن الأمر هكذا فإن حيدر وفي تعقيبه على ورقة د. حيدر إبراهيم, يرى [أن السؤال الأكثر أهمية يبقى متوجهاً حول ماهية الحضارة التي ستقيمها الأنظمة والأحزاب الإسلامية حين تستلم السلطة?.. هل سوف يعيش ألف مليون مسلم على شعارات فقط] (8) فإن الشعارات والعناوين الجميلة والقواعد العامة برأي الكاتب لاتحقق الضمانات ولاتحل المشاكل بل قد تزيدها تعقيداً, إنه يريد من المسلمين أن ينزلوا النظرية الإسلامية كما هي دون فوارق, ودون أن يكون هناك أي تباين بين الفكرة في مستواها النظري وتطبيقاتها على أرض الواقع, فإن تطابق المثال مع الواقع وإلغاء المسافة بينهما, مع ذكر البرامج التفصيلية للدولة التي يُعمل على جعلها تتلاءم والشريعة الإسلامية, هو وحده الذي يزيل التناقض وغموض الهوية الإسلامية.. [فنتائج نظريات الإسلاميين وحيثما جربها عالمنا العربي جاءت أقل بريقاً مما تبدو عليها في الكتب والأشرطة] (9) . رغم أنه وفي الندوة ذاتها لم يجد ضيراً‏في أن تقدم الديمقراطية الليبرالية عناوين وشعارات ومنطلقات مجرّدة, دون أن تلزم نفسها بضمان النتائج التي تبشر بها كالحريات وحقوق الإنسان وغيرها ويرى أن ذلك هو الشيء المعقول والواقعي (10) .
ويبدو هذا التحليل في حقيقته نوعاً من الإشكاليات المقتبسة من الثقافة الأوروبية والغربية التي مرت بمراحل من الصراع العنيف ضد شريعة الإسلام, وإلا فإن تجاهل دور الإسلام في تشكيل هوية الإنسان والمجتمع أمر ليس له ما يبرره, فالدين بشكل عام والإسلام بشكل خاص يمثل الرأسمال الرمزي للإجتماع المدني, بل ويعد المصدر الأول إن لم نقل الوحيد للقيم الرمزية والتاريخية والأخلاقية والمعنوية والنفسية والتربوية التي يقوم عليها بناء المدنية والحس الحضاري, وهو عملياً‏أهم مرتكز لهوية العرب شاءوا ذلك أم أبوا (11) . إن ما يثير الذعر حقاً ليس التمسك بالهوية الإسلامية, أو محاولة البحث عن صيغة للتوافق الممكن بين قيم التشريع ومتطلبات الواقع, فإن ذلك مما يقلل من حالة القلق والتوتر في الإجتماع المدني فإن القيم..‏تحدد اتجاه الحركة عند الأمة في كل أبعاد حياتها, وبالذات في البعد السلوكي والقانوني, إذ أنها تلهمهم العرف العام مما يصعب على أحد مخالفته, كما تلهم مشرعيهم الأنظمة والشرائع المناسبة] (12) . بل إن محاولة القفز على الدين, وتحريض الرأي العام على ذلك هو المفضي إلى العنف والقوة, وهو الذي يحول القتل والسرقة والنهب والسلب والعدوان إلى سلوك يومي وشرعي وشائع, كما لم يحصل في أي حقبة أخرى (13) .
إن ما يحاول الكاتب إثباته بإشكالية الهوية في حقيقته هو إشكالية انبهار المثقف العربي بفكر الحداثة والذي يطرح في قبال استبعاد واستعداء هوية الامة. وقد وجدنا العلمانية في العالم العربي تعيد إنتاج الواقع الذي تنتقده بصورة أو أخرى, فلأنها لم تستوعب الأزمات الحقيقية للسياسة في الإسلام, استحدثت إشكالية جديدة تقوم على استعداء هوية الأمة ودينها الإسلامي, واستبعاد أي مساهمة لتنظيم العلاقة بين الإسلام والدولة في المجتمعات العربية والإسلامية, كذلك فإن رفض الإعتراف بالمشروعية العقلية والتاريخية للفكر والوعي الدينيين جملة وتفصيلاً, عند أصحاب الفكر العلماني, أو من يطلقون على أنفسهم هذا الإسم, قد منعهم من تبني موقف من الدين غير المقاتلة والمناكفة (14) . ونجد صورة من هذا الخطاب التصنيفي الموغل بالسلبية والتطرف ضد كل ما يتصل بدين الإسلام متكرراً في أدبيات هذا الإتجاه, فالإسلام حيناً..‏[إما أن يكون أداة تسويغ وهروب وتبرير, أو أن يكون إيجابياً مجرد أداة تحريض وتجييش] (15) . والخطاب الإسلامي لامعنى له إلا..‏[التقدم بالحركة إلى الخلف, وبالقراءة التراجعية للنصوص] (16) . والحركة الإسلامية..‏[تتعامل مع الواقع وتجابه التحديات باستخدام لغة قديمة أو باحتذاء نماذج فقدت مصداقيتها] (17) .

الليبرالية المتطرفة
وعلى نفس السياق, تتبادر إلى الذهن نموذج مقالات الدكتور «أحمد البغدادي» والذي كرسها لمعالجة استبداد التيار الديني مع الاخر, ويلخصها بـ ... إرهاب التيار الإسلامي للمثقف عندما يريد ممارسة دوره, وبرغم تقديرنا لجهده وجرأته في محاولات تشخيص الداء, فإننا لانستطيع هضم المنهجية التي يمتطيها مطمئناً في استقرائه للواقع.
فعلى الرغم من إيماننا التام بضرورة البحث وتسليط الضوء على موارد القصور, والتنقيب الجاد عن آفاق تتيح لنا مواكبة العصر, فإننا لانرى الأزمة كما يختزلها البغدادي في التيار الإسلامي الذي يحب أن يصفه بـ (التيار الديني).. [اي حزب اصولي ديني ليس سوى مشروع إجرامي لتفريخ الإرهاب وقتل المستقبل] (18) . بل قد تكون في جزء كبير منها تتركز في عدم ممارستنا النقدية بصورة سليمة, أو ممارستها بصورتها السلبية المجتزأة.
والبغدادي رجل مثابر وملتزم في فكره, ولكنه منغلق على الفكر الديني الذي كرس جهده الكتابي في مهاجمته, بمعنى أنه يمارس النقد كمهنة دون أن يحاول انتاج معرفة أو فتح آفاق جديدة لفكر جديد. إنه يقرأ الخطاب الإسلامي لينتقده بهاجس نقدي, وليس بحثاً عن معرفة أوتطلعاً لإقتناص حقيقة, أو مساهمة في فعل حضاري راق.
إنه ينتقد العقل الإسلامي الأيديولوجي المغلق الذي لايرى أبعد من رجليه ولايتفتح على آفاق العلوم الحديثة والنظريات المتطورة, ولكنه ينتقده بعقل أيديولوجي لايكاد يتميز عن من ينتقدهم (كل من يختلف معي فهو ضدي) و(هذا عدوي على طول الخط مهما كانت أفكاره). إن كل كتابات البغدادي تصب في تعبئة الساحة ضد التيار الديني وضد من يدافع عن هذا التيار, بل وضد من يسمح لهذا التيار بالتعبير عن نفسه والتبشير بأفكاره, بمعنى أنه يحرض السلطة على ضرب التيار الديني, ويدعو إلى نفي الآخر لأنه يخالف توجهاته ولايكون عكساً لمرآته [لايوجد على وجه الأرض حزب ديني آدمي بكل معنى الكلمة, بل أن الأدمية أبعد ما تكون عن ممارسات وسلوكيات أتباع الحزب الديني مع الآخرين. إن الأمل الوحيد لحفظ الديمقراطية يتمثل في عدم السماح لأي حزب ديني بالقيام والعمل] (19) . ولنا أن نتخيل شكل هذه الديمقراطية التي يبشر بها الكاتب والتي تبدأ بإلغاء المختلفين والنيل منهم, رغم أنه ليبرالي يؤمن بحرية الرأي ويدعو للتعددية, ويشنع على آكلي حقوق الأقلية. إنه يطرق الأسئلة الكبرى ولكنه يتوقف عن الإجابة فثمة عائق يحول بينه وبين الغور في البحث والدراسة والتنقيب, وأعتقد أن هذا العائق هو أصولية البغدادي, لذا وبرغم ثقتنا بقدراته الفكرية فإننا لانكاد نعثر على جديد له. فهو يتساءل في (مقالته أوهام2) (20) عن العقبة التي تحول أمام اندماج المسلمين في المجتمع العالمي? وبرغم أهمية السؤال, فإن الجواب يأتي بالشكل المبسط التالي [لابد من أن نهجر كتب الفقهاء] (21) هكذا فقط. ولاتستطيع أمام هذه الحلول المعلبةمن مثقف واكاديمي يدعو للتعددية ويؤمن بالتراكم المعرفي إلا أن تظن (ظناً قريباً من العلم) بأن أصولية البغدادي تعدت ليبراليته. فالدعوة للحوار والتعددية والديمقراطية هي حق للجميع ولكن أن يتم كل ذلك بأسلوب ديمقراطي ودون أن تلغي حق الآخرين في التفكير والتعبير عن الرأي والموقف بحرية.
فالبغدادي بأصوليته الليبرالية لايكاد يختلف عن أولئك الذين يوجه سهامه إليهم (الأصوليون الإسلاميون), فالعقل التصنيفي الإلغائي المفضي إلى إرهاب الآخر يتمظهر حيناً ‏بزي راهب وحيناً بزي أفندي.. إن الأصولية مصطلح من المصطلحات المعاصرة التي شاعت في حياتنا الفكرية مؤخراً, للإشارة إلى أبعاد سلبية من الدلالة.. وتحولت في هذا الإطار إلى دال ينصرف مدلوله إلى الإستخدام القمعي للأصول, وتأويلها بما يحجر على حق الإختلاف في الفهم, أو التعدد في تفسير الأصل الواحد. وآية ذلك ما رأيناه, ومازلنا نراه حولنا في الكيفية التي انتهى بها استخدام الأصل إلى أداة تسلط, يحجر بها الماركسي الأصولي, على من يخالفه في فهم الماركسية, والقومي على من يغايره في الإجتهاد الوحدوي, والناصري على البعثي في ترتيب الأقانيم, وأخيراً رجل النقل الذي يحجر على رجل العقل حجره على داعية الدولة المدنية (22) . فهذه الأصولية كتلك, فليست المأساة في دينية المجتمع أو في علمانيته وليست المسألة كما يقررها الدكتور البغدادي بعدم وجود معتدل في التيار الإسلامي, فكم من قومي معتدل وكم من إسلامي متسامح وتبقى المسألة متحركة في منحنيات الواقع وتعرجاته.

العنف في الفكر العربي..
1ـ في حقل الفكر العربي الحديث تتحرك ماكينة التغيير في اتجاه قلع القواعد الثابتة, والإنقلاب عليها, باسم التجديد والخشية من الوقوع في دائرة التقليد والعودة إلى التراث, ودون النظر إلى خطورة افتقاد التأسيس الثابت والمتواصل في مراحله السابقة والحالية. حتى لم يعد بإمكان الباحث أن يجد بناءً شاهقاً تتكامل جوانبه المختلفة في عالمنا العربي.
إن ما يقوم به الفكر العربي الحديث هونقض كل التجارب والمراحل التاريخية والمعاصرة والبدء من جديد, من نقطة الصفر, بدلاً من محاولة تأسيس المعارف الحديثة على التجارب الأخرى بما يسير في سلك التراكم المعرفي والتاريخي وبما يخدم مشروع النهضة المأمول.
قد نجد فيما تم استعراضه في الأسطر السابقة خير دليل, فمن الدعوة إلى الدين باعتباره أحد ثوابت الأمة, إلى الدعوة إلى نفي الدين وقمع مريديه, ومن الإنتصار للديمقراطية إلى تحفيز همم الأنظمة لإلغاء التعددية إذا سمحت بإحضار الحركة الإسلامية إلى الواجهة, إنه الواقع المأساوي للفكر العربي الذي تحول التغيير والإنقلاب عنده إلى قاعدة لايكاد يستطيع التخلص منها. إنه يوشك أن ينقلب على نفسه وافكاره لتتحول آلة النقد والفعل إلى مشرط في يد قاصر.
إنه يريد تمثل الفكر والواقع الغربيين بحذافيرها, يريد ديمقراطيته, وليبراليته, وتعدديته, واقتصاده الحر, ومجالسه المنتخبة, دون أن تطرف عينه لحظة إلى جذوره التاريخية وواقعه الإجتماعي. ليتساءل حول علاقة كل تلك الأغطية الإيديولوجية التحديثية بجذوره وواقعه. إنه يلجأ إلى حل سريع, نقض الدين والإنقلاب على التراث باعتبارهما إرثاً ‏طائفياً وعشائرياً مخزياً ومعيباً.
وفي تقديري أن حالة الإرباك الفكري ونقض الهوية ومجمل مظاهر الإضطراب الإجتماعي التي يعيشها ويختلقها الفكر التحديثي, إنما هي الحلقة الأولى من حلقات العنف. وبرأي برهان غليون [إن العقائد لاتولد العنف, ولكن الإندفاع نحو العنف, والإخفاق في حل التناقضات الإجتماعية والسياسية بالطرق السلمية هما اللذان يدفعان الناس إلى تأويل عقائدهم تأويلات عنيفة] (23) .
ويرى حسنين توفيق وأماني الحديني (إلى جانب الإختلافات الإقتصادية والإجتماعية, وأزمة الهوية التي تعاني منها المجتمعات الإسلامية بدرجات متفاوتة وبأشكال مختلفة, هناك ظاهرة الغزو الثقافي والتغريب الفكري والسياسي) (24) (إرباك عنيف) لن تكون نهايته سوى اللجوء إلى العنف, وهو ما يؤكده جورج الراسي (في الأصل كان البحث عن الهوية, فإذا كان الجوع كافراً, والهوية الوطنية مضطربة, والفوارق الإجتماعية صارخة, تكون الطريق ممهدة أمام ثقافة من نوع جديد يمكن تلخيصها مجازاً بثقافة التكفير, وبين التكفير والذبح مسافة قصيرة يمكن اجتيازها بسهولة) (25) .

العصمة الفكرية
2ـ تتحول الأفكار والإجتهادات المتحركة في ساحة الواقع التي ينتجها أو يستوردها العقل العربي, إلى مفاهيم ثابتة تستعصي على التطور ناهيك عن النقد والتقويم, بفعل الشعور بالكمال النظري وبلوغ الحقيقة المطلقة. وهذا الشعور لاينبع من الدين, بل أن قطاعاً من المفكرين وجدوا في هذا الشعور سبباً رئيسياً لتعثر حركة الإجتهاد والتجديد في الوسط الإسلامي.. وسنجد دعوة قرآنية للبحث عن الحقيقة عن طريق الحوار مع المختلفين فكرياً‏وعقائدياً على قاعدة (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين) (26) .
بيد أن الشعور بالعصمة الفكرية هو من التراث المأزوم الذي يعكس حالة الشرقي في تعاطيه مع الواقع وفي النظر إلى نفسه, وما ضاعف من هذه الأزمة تحول الأفكار المستوردة إلى ثوابت فكرية لايمكن مساسها, وسنتلمس انعكاسات ذلك على مجمل النشاط الفكري للمسلمين والعرب. نعم يبشر الفكر العربي الحديث بعناوين جذابة مثل التعددية والحوار, ولكن في ساحة الممارسة يبدو العقل العربي عاجزاً عن الحوار بقلب وعقل مفتوحين. دعنا نمارس وعينا قليلاً ونتجرأ لنقد مفهوم الديمقراطية ومدى صلاحيته للتطبيق على أرض الواقع الإجتماعي والسياسي المتعلق بنا, سنجد في كل الأحوال حالة من التشنج, وسيل التهم إلى جانب مفردات القاموس الأجنبي من تخلف ورجعية وخيانة, وقد لايكون المعترض أو المستفهم عن مفهوم ودلالات الديمقراطية صاحب موقف مسبق منها, وربما كان أكثر إيماناً والتزاماً باحترام حرية الآخر, وأكثر تقبلاً للتعددية وحق الإختلاف, بيد أنه لن ينجو من التصنيف قبل مناقشة الفكرة, وقبل الإستماع إلى رأيه. ويبدو أن مرجع ذلك, اعتقاد التيار التحديثي بالتفوق, وبأنهم المالكون الشرعيون للحقيقة المطلقة, حتى وإن تزعزت تلك الحقيقة أمام الدليل ولم تثبت عنده [إن الوجدان العربي ومعه الفكر العربي يمكن أن يتغذى بغير الحقائق بل بما يناقضها, وأن يصر على ذلك ويكابر ويجاهر باحتقاره للحقيقة وتعمده إنكارها وقلبها تماماً, أياً كان الثمن الباهظ والخسائر بما يمثل نوعاً من الإصرار على الإنتحار الجماعي الذاتي] (27) .
إن الواقع العربي لايبحث عن الحقيقة العلمية, لذا لاتكون عنده الرغبة في الحوار الموضوعي, بل يريد من الأطراف المختلفة التسليم المطلق له ولأفكاره. وقد نجد في هذه القراءة تبريراً لفشل الفكر العربي المتواصل في إحداث أي نقلة نوعية من مجمل الأفكار التي بشر بها. فإن أي توتر في مستواه العلمي يتحول بصورة مفاجئة إلى صراع على المستوى الإجتماعي, تستخدم فيها عادة كل اسقاطات الواقع السيء, وتستنفر كل الأسلحة. إننا لا نعاني من ضعف فكري أو شح في إعداد المفكرين, بل نعاني غياب المنهجية الصحيحة في التعامل مع الرأي والرأي الآخر, من أجل ان تكون إسهامات غيرنا مدخلاً لإنتاج نظرية جديدة تخترق العجز العربي, وتتغلب عليه.

استعارة النموذج التاريخي
3ـ تعقد كتابات التيار التحديثي في الوطن العربي صلة دائمة بين تنامي ظاهرة العنف والحالة الدينية في المجتمع العربي المعاصر, فكلما تمددت الحركة الإسلامية تمدد العنف ونما التطرف. وأينما وجد تفخيخ وإرهاب وجد مسلم مختبئ خلف جدار. ويورد أنصار هذا الرأي العديد من الأدلة والبراهين, مستلهمين من أحداث مصر والجزائر وأفغانستان نماذج حية ومتجددة, ولايشفع للمسلمين والحركة الإسلامية تنظيرات مفكريها التي تؤكد على قيم التسامح وتنبذ حالات التطرف, وتسهم بأعمال نقدية راقية في هذا الإتجاه.
إن مشكلة المسلمين كما يلخصها مثقف حداثي, رغبتهم الدائمة بتمثل نموذج العصر الذهبي للإسلام, واستعادة الأصل, والخروج من الواقع.. [إن العنف خاصية بنيوية فيها‏ـ‏الحركة الإسلامية ـ لكونها أصولية والأصولي الساعي إلى استعادة الأصل والتطابق معه محكوم للماضي بنماذجه وأطيافه] (28) , ويأتي هذا الإتهام من مثقف يستلهم من كانت (عقلانيته) ومن فوكو (تفكيكيته), ومن هيغل (جدليته), ومن باتلار (قطيعته المعرفية), ولايجد في ذلك حرجاً. فعودته لهؤلاء المفكرين استلهام للفكر, واستحضار للتجارب, بينما يجد في العودة إلى النص الديني تسويفاً للأصل, ونفياً‏للحاضر. إن مأزق هذا النوع من النقد أنه يثبت ما ينفيه, وينفي ما يثبته. فلا الماضي يمكن أن يلغى من دائرة التفكير والتأثير, ولا العودة إلى التراث استلاباً‏للحاضر أو نفياً له. إن الحاضر ما هو إلا تراكم للماضي, ولايتحرك حاضرنا إلا بقدر ما يتحرك ماضينا فيه. وأن ثمة إشكالية حقيقية قد تواجهنا حين نقرر الخروج من ثوبنا التاريخي, والتنكر له.
على أن الفكرة تكون مقبولة عندما يتحرك المسلم المعاصر لإستعادة النموذج المحسوس للدولة الإسلامية, كما تؤمن بذلك فرقة لاتمثل نسبة كبيرة بالنسبة للتيار الإسلامي العام, فلماذا تُؤخذ كنموذج لمحاكمة بقية المسلمين?
ما يريده المسلم المعاصر هو استحضار الأصول والقيم الفكرية, بما يمثل إثراءً للفكر المعاصر. وهكذا وجدناه لايتوقف عن انشغالاته الفكرية العميقة والمواكبة لكل مناحي الحياة, وقد اعتبر الفقهاء قيمة ما ينتجه العقل البشري من حاجات الواقع اليومية ولاتخالف الشرع, ولكن دون أن تتحول إلى دين..[شرعية السياسة لاتقف عند ما نص عليه الشرع, وإنما هي الشرعية متحققة فيما يبدع المسلمون من سياسات, طالما أنها لم تخالف ما شرعه الله] (29) .
إن النص الذي لايُرد هو القرآن الكريم وما وصلنا من الأحاديث الثابتة, أما ما دون ذلك فهو قابل للنقاش والأخذ والرد.. ولقد كاد الجيل الأول من المسلمين رضوان الله عليهم أن يجعل من تجربته السياسية والتنظيمية في إدارة الدولة جزءاً‏من الشريعة لولا تصدي الإمام علي بن أبي طالب (ع) لمثل هذه المحاولة, وكلفه هذا التصدي التضحية بمنصب الخلافة ـ في أول عرض لتوليها‏ـ عندما رفض الإلتزام بتجربة الشيخين بعد كتاب الله وسنة نبيه, إذ كان تقييمه لهذه التجربة لايعدو كونها اجتهاداً بشرياً يسع من بعدهم ويتسع لآفاق المستقبل السحيق, وبتضحيته هذه أوقف الإمام (ع) زحف الثابت من الدين إلى حدود تلك المساحات التي حرص الوحي على إبقائها مفتوحة لصالح الإجتهاد البشري الوضعي (30) .

الهوامش
1ـ الفضل شلق, مجلة الإجتهاد, ص6, السنة السابعة, العدد 26, خريف 1995.
2ـ خليل علي حيدر, اعتدال أم تطرف, تأملات نقدية في تيار الوسطية الإسلامية. 1998 الطبعة الأولى, دار قرطاس للنشر, الكويت.
3ـ مصدر سابق ص60.
4ـ مصدر سابق ص68.
5ـ مصدر سابق ص28.
6ـ خليل حيدر, تيارات الصحوة الدينية, 1987, ص209.
7ـ مصدر سابق ص209.
8ـ ندوة «الفكر العربي المعاصر تقييم واستشراف», مجلة عالم الفكر, المجلد 26, عدد 2, 3, 1998, ص25.
9ـ اعتدال أم تطرف. مصدر سابق ص59.
10ـ في تعقيبه على ورقة د. علي الدين هلال «أزمة الفكر الليبرالي في الوطن العربي» [الديمقراطية لاتعطيك ضماناً‏كاملاً, لا تعطيك مجتمعاً خالياً‏من أي مشاكل, إنها تعطيك منطلقات.. تستطيع من خلالها أن تتوصل إلى أكثر الحلول معقولية, والتي تتفق عليها سائر الشرائح والطبقات والقيادات الإجتماعية وجماعات الضغط وغيرها, هذا هو الشيء الواقعي المعقول] «ندوة الفكر العربي المعاصر», مصدر سابق, ص148.
11ـ برهان غليون, نقد السياسة, الدولة والدين, بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر, 1991, ص21.
12ـ السيد محمد تقي المدرسي, التشريع الإسلامي مناهجه ومقاصده. ج2, ص244.
13ـ برهان غليون, مصدر سابق ص21.
14ـ راجع: برهان غليون, مصدر سابق ص19.
15ـ عاطف العقلة غضيبات, «الدين والتغيير الإجتماعي في المجتمع العربي المعاصر» ص142.
16ـ نصر حامد أبو زيد, مجلة الطريق «الإستقطاب الفكري بين الإسلام العصري وأسلمة العصر في مصر» ص12.
17ـ علي حرب, الممنوع والممتنع, نقد الذات المفكرة, ص89.
18ـ جريدة السياسة,‏الكويت, عدد 10604, تاريخ 3 يونيو 1998.
19ـ جريدة السياسة,‏الكويت, عدد 10604, تاريخ 3 يونيو 1998.
20ـ جريدة السياسة,‏الكويت, عدد 10536, تاريخ 25 مارس 1998.
21ـ مصدر سابق.
22ـ جابر العصفور, أنوار العقل, الهيئة المصرية العامة للكتاب, مهرجان القراءة للجميع 96, الطبعة الثالثة, ص137 ,138.
23ـ برهان غليون, حوارات من عصر الحرب الأهلية, بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر, ص42.
24ـ حسنين توفيق إبراهيم, أماني مسعود الحديني, ظاهرة الإحياء الإسلامي, مجلة منبر الحوار, بيروت, صيف 1992 ص27.
25ـ جورج الراسي, محاولة في فهم ما يحدث في الجزائر, منبر الحوار, بيروت, العدد 35 شتاء ـ ربيع 1998, 105, 106.
26ـ سورة السبأ, آية 24.
27ـ محمد جابر الأنصاري, تجديد النهضة باكتشاف الذات ونقدها, بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر, 1992, ص79.
28ـ علي حرب, مصدر سابق, ص177.
29ـ الإسلام والسياسة, الرد على شبهات العلمانية, محمد عمارة, ص17.
30ـ اسماعيل الشطي, ملف «أي إسلام نريد?» الشرق الأوسط عدد 7131 تاريخ 7/6/1998.
* كاتب من الكويت

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة