تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

لماذا نحن مجتمعات لا تقرأ؟

إعداد عقيل المسكين ـ عبد العزيز آل عبد العال

ـ مدخل ـ

ليس هناك احصاءات اسمية ترصد معدل القراءة في دول العالم العربي، كما أننا لم نسمع عن احصاءات قامت بها مراكز البحث أو مؤسسات اعلامية عربية تمكننا من الاجابة بموضوعية علمية حول التساؤلات التي بدأت تطرح بشكل واسع حول ضعف القراءة داخل الأوساط العربية المتعلمة، أو تراجع معدلات القراءة بنسب كبيرة تختلف عما كانت عليه قبل عقد أو عقدين من الزمان. لكننا نستطيع أن نتحدث عن ظاهرة ضعف وتراجع القراءة في العالم العربي من خلال عدة معطيات.
أولاً: التقارير التي تنشرها المنظمات العربية والاسلامية والعالمية في المناسبات المختلفة وتتحدث عن ارتفاع نسب الأمية في العالم. فقد حذرت المنظمة الاسلامية للتربية والثقافة والعلوم بمناسبة اليوم العالمي لمحو الأمية (8 أيلول / سبتمبر 1998م) من خطر زحف الأمية على معظم فئات المجتمعات الاسلامية. وأكدت على أن نسبة الأمية في العالم الاسلامي تتراوح بين 45 و60%، أي أن أكثر من نصف السكان يعانون من الأمية. أما المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم فقد أكدت بدورها في دراسة حديثة لها أن الغالبية السكانية في العالم العربي تعاني من الأمية، وأن عدد الأميين سيرتفع إلى 66% سنة 2000م. كما ذكر تقرير لمنظمة العمل العربية أن 53% فقط من سكان العالم العربي قادرة على القراءة. أما منظمة اليونسكو فقد تحدثت تقاريرها الأخيةر عن نسبة 43.4% من مجمل سكان العالم العربي يعانون من الأمية. وإذا رجعنا لاستقراء رفع الانتاج الفكري وحجم الاصدارات السنوية، فسنجد أن العالم العربي يأتي في مؤامرة الركب العالمي من حيث الاصدارات السنوية، نأخذ على سبيل المثال مصر، فهي تصدر أو تنتج ما يقارب (1638) كتاباً أو إصداراً سنوياً، في المقابل نجد بريطانيا تصدر ما يناهز (48000) كتاباً أو اصداراً سنوياً، أما روسيا فمعدل الاصدارات السنوية يقارب (81900) إصدار. وتصدر الولايات المتحدة الأمريكية ما يقارب (84800) إصدار سنوي. كما تصدر (200) مجلة تعنى بالأطفال، في مقابل (10) مجلات للأطفال في العالم العربي. وقد أكدت بعض الإحصائيات أن ما تطبعه دور النشر العربية مجتمعة لا يصل نصف ما تنشره إسرائيل وحدها (اليونسكو سنة 1996). وهذه المعطيات في حركة النشر يؤكدها المسؤولون عن النشر والطباعة والتوزيع في العالم العربي، إذ يتحدثون عن تراجع نسب توزيع الكتاب في الأسواق العربية بشكل ملفت وخطير، مما يشكل ظاهرة تحتاج إلى الرصد والمتابعة لمعرفة أسبابها وتداعياتها على واقع التنمية المترنحة أصلاً في العالم العربي. وإذا رجعنا لاستقراء آراء المعلمين والأساتذة في مختلف المستويات التعليمية. فسنجد أن هناك شبه إجماع على أن غالبية الطلبة والتلاميذ لا يعتنون بالقراءة إلا في حدود المناهج والكتب المقررة، وأن حصيلتهم المعرفية والثقافية هزيلة وفي تراجع مستمر. وعليه فبغض النظر عن عدم وجود احصاءات علمية حول نسب ومستويات القراءة في العالم العربي، إلا أن هذه المعطيات المذكورة، من ارتفاع نسب الأمية وتراجع حركة النشر، لا تترك مجالاً للتأكيد أو للحديث عن ظاهرة العزوف عن القراءة في العالم العربي. وأن هذه الظاهرة آخذة في الانتشار والتوسع، تدعمها أسباب داخلية اقتصادية وسياسية واجتماعية، وأسباب خارجية يمكن اعتبار العولمة الثقافية وانتشار وسائل البث الفضائي من أهمها.
هذا في الوقت الذي يحفل فيه الإسلام بعشرات النصوص القرآنية والنبوية، التي تحض على العلم، وتدعو إلى التفكير، وتجعل العلم تفرضاً على كل مسلم، والنظرة في طلبه فرض كفاية. واليوم لا سبيل لنا نحن المسلمين إلى حمل الرسالة والشهادة على الناس، بدون القراءة، فهي طريق المعرفة، وهي المفتاح الحضاري الذي فتح لأمتنا منذ فجر التاريخ الاسلامي أبواب العلم والمعرفة والابداع والشهود الحضاري. لذلك تحتل مفردات (القراءة ـ الكتاب ـ العلم) موقعاً متميزاً في المنظومة الفكرية والقيمية الاسلامية. وعلى هدى أهمية القراءة والكتاب في تقدم الأمم والشعوب.. كان لنا هذا الاستطلاع الثقافي ـ الفكري حول لماذا نحن مجتمع لا يقرأ.. وكيف السبيل إلى إعادة ممارسة هذه القيمة الكبرى في عالم العرب والمسلمين اليوم..
فالقراءة هي بوابة الانسان إلى المعرفة واكتساب العلوم، وفي نفس الوقت هي الوسيلة اليدوية الممكنة والمتاحة لكل فرد. وما من تقدم علمي أو ثقافي أو أدبي وصل إليه الانسان إلا وكان للقراءة فاعليتها الحيوية في خلق هذا التقدم. ومجتمع لا يقرأ هو مجتمع مصاب بالأمية الثقافية، ويصنع لنفسه معوقات التقدم. فكيف نصل إلى مجتمع يقرأ؟
وقبل ذلك لماذا نحن مجتمع لا يقرأ؟
ـ هل لضعف ثقافي عام؟
ـ أم لعدم التنشئة التربوية على حب المطالعة؟
ـ أم لعدم دور التعليم في تنمية حسن المطالعة؟
ـ لأم لانتشار وسائل الاعلام المرئية؟
ـ أم هناك أسباب أخرى؟
وكيف نصل إلى مجتمع يقرأ؟
هذه الأسئلة والمحاور تجيب عليها هذه المداخلات التي يجمع بينها كونها لشريحة متنوعة من مثقفين وأساتذة جامعيين وأدباء ومفكرين من المملكة العربية السعودية وتتخذ من المجتمع السعودي كحالة لدراسة هذه الظاهرة.
ملاحظة: رتبت الاسماء بطريقة هجائية باعتماد أول حرف في الاسم الأول.

التعليم يتحمل المسؤولية
أحمد علي الشمر
كاتب / المملكة العربية السعودية

لعل شيوع مقولة أن المجتمع العربي لا يقرأي هي مقولة صحيحة وصادقة إلى حد كبير، هي من المثالب الكبيرة التي كثيراً ما حاول أعداؤنا استغلالها بشكل سيء للتشنيع بنا في مواقف كثيرة ومختلفة، ولعلي أذكر هنا على سبيل المثال مقولة وزير الدفاع الإسرائيلي السابق (موشي ديان) بأن العرب لايقرأون التاريخ.
هذه المعضلة التي أصبحت صفة ملازمة قد تطال نسبة غير قليلة من المجتمعات العربية خلال الثلاثين السنة الماضية على أقل تقدير، ترجع أسبابها الحقيقية إلى عوامل مختلفة، اسهمت جميعها بشكل أو بآخر بالوصول إلى هذه النتيجة أوالمحصلة غير المرضية، هذه العوامل ترجع مكونات اسبابها الأولية إلى العاملين في الدوائر والمراكز التي تمسك بزمام الأمور، خاصة المهتمين بقرار العملية التعليمية والإعلامية، ووسائل تربية وتعليم وتثقيف النشىء منذ التعليم الأولي وحتى التعليم الجامعي.. فلأسف مازالت أغلب اجهزة التعليم في البلاد العربية تقوم على أساس اتباع وسائل تعليمية وتثقيفية عديمة الجدوى والمنفعة في طريقة تقديم مناهج التعليم، بالشكل الذي لاينمي في عقلية الطالب حب الكتاب والقراءة بشكل عام، نتيجة استخدام أساليب منفرة تعتمد على وسائل الحفظ والتلقين الإجباري، الأمر الذي يؤدي بالتالي إلى تنفير وابتعاد الطالب منذ مراحل تعليمه الأولى عن الكتاب. وقد ثبت بالفعل من خلال هذه التجارب المستقاة من الواقع، والتي مرت على الإنسان العربي، وخاصة في المرحلة الراهنة، من تردي الأوضاع والظروف التي تمر بها معظم البلاد العربية، أن هناك أجيالاً من الشباب العربي رغم وصول بعضهم إلى مراحل تعليمية عالية، لا يعرف طريقه إلى القراءة، بل لا أغالي أن هذه الأجيال قد فقدت صلتها بالكتاب، ولايتعدى أو يتجاوز مفهوم الثقافة عندها ما تبقى لديها من مخزون في ذاكرتها عن الكتاب المدرسي أو الجامعي، ولغرض الحصول على الشهادة ليس إلا.
ان تهميش دور الثقافة والمطالعة والمعرفة لدى معظم شبابنا أصبح هو السمة الغالبة على كل اهتماماتهم، إذ الملاحظ من خلال الوضع السائد لهؤلاء غياب المعلومة الثقافية، فهذه السمة قد برزت بشكل ملفت ومثير للانتباه، بينما برزت لديه هوايات واهتمامات أخرى سيطرت على كل مداركه، ولعل من أبرزها، اهتمامه بوسائل اللهو التي تعددت وتطورت أساليبها في هذا العصر. ولاشك أيضاً ان التطور الكبير الذي حدث في حجم نقل الكلمة ووسائل المعلومات والإتصالات السريعة التي سيطرت على أساليب الحياة المعاصرة، كان له أكبر الأثر في التقليل من أهمية الاهتمام بالكتاب، خاصة بعد أن سيطر على أذهاننا مفهوم نقل الكلمة (المسلوقة والمبتورة) التي تضخها وسائل الإعلام المرئي والمسموع والمقروء، وأجهزة الإعلام والاتصال وغيرها من الوسائل التي لاتقدم سوى ثقافة مبتورة وسريعة تفتقد في أكثر عناصرها إلى عوامل البحث الدقيق والعمق الثقافي والفكري، والمعلومة الموثقة والمشوقة التي تنمي ملكة القراءة وحب الكتاب.. هذا بالإضافة إلى عام عدم وجود الكتاب المتميز، والصحافة التي ترضي اهتمامات القارئ وتقترب من همومه الفكرية والإجتماعية والسياسية أما ايقاع العصر فحدث ولاحرج، فهذا العنصر اصبح يسرق من الإنسان كل وقته وراحته وفراغه، ويبعده عن اهتمامه ورفقته للكتاب، ليصل الانسان بذلك إلى هذا المستوى من الخواء الثقافي والفكري. رغم تراجع أهمية اقتناء الكتاب، وأهمية القراءة عند أكثر شبابنا إلا أن الكتاب سيظل رغم تلك التحديات يحتفظ بمكانته الرفيعة العالية، والمتميزة في تقديم المعلومة الأثرية والتاريخية، والجرعة الثقافية والفكري العميقة، ولن يتأثر دوره الكبير والعظيم على مر التاريخ بأي من المؤثرات مهما كان شأنها، بل سيبقى دوره الريادي على مر الأجيال والعصور، وتظل له الأهمية الكبرى بين مختلف وسائل الإعلام والمعرفة، كمرجع حيوي لاغنى للبشرية عنه.

مجتمع لايقرأ في زمن انفجار المعرفة
بدر الشبيب
شاعر وكاتب/ المملكة العربية السعودية

في ظل غياب المؤسسات العلمية التي تعنى بدراسة الظواهر الإجتماعية المختلفة ومتابعتها، تبقى محاولة الإجابة على المسألة الإجتماعية مشوبة بالقصور من هنا تكون الإجابة على هذا السؤال معقدة جداً، لأنها تتطلب دراسة المجتمع دراسة عميقة لمعرفة العناصر التي تؤثر في توجه مجتمع ما نحو الكتاب وعزوف آخر عنه. وقضية كهذه يجب أن تشغل وقت الكثير ممن له صلة بالشأن الثقافي، ذلك لأنها قضية خطيرة تتصل إتصالاً مباشراً ببقاء المجتمع ونموه وتقدمه. باختصار إن المجتمع الذي لايقرأ هو مجتمع ميت خصوصاً في زمن الإنفجار المعرفي. وفي هذه العجالة سأحاول الكشف عن بعض الأسباب التي أراها ذات علاقة بالإجابة عن السؤال الذي نحن بصدده.
ضعف الشعور بالحاجة للكتاب، عندما نشعر بالجوع يحركنا هذا الشعور نحو ما يسد جوعنا ويشبع غريزتنا وهكذا بالنسبة لبقية الحاجات الأساسية المادية. ولكن ماذا عن الحاجات المعنوية؟ كيف نشعر بالجوع العاطفي أو الأخلاقي؟ كيف ومتى نشعر بالجوع المعرفي؟ ربما يكو الجواب: إننا نشعر بالحاجة للمعرفة عندما يتعاظم شعورنا بجهلنا، لكن هذا يجرنا نحو سؤال آخر: متى نشعر بجهلنا؟
في ظني إننا نشعر بجهلنا عندما نعيش في وسط يميز العالم من الجاهل، والمثقف من غيره، وعندما ترتفع قيمة العلم والمعرفة لتصبح معياراً أساسياً في تقديم الناس وتأخيرهم وتبوئهم المناصب والمراكز القيادية. أما عندما تغيب هذه القيمة يضمحل الشعور بالحاجة للعلم والمعرفة والقراءة. إن الشعور بالحاجة للمعرفة لايكفي للتوجه للمعرفة فهو يقتضي ذلك، ولكي يحصل التوجه لابد من زوال الموانع وارتفاعها، بأن تكون المعرفة متاحة للجميع وأن يتوفر الكتاب المطلوب في الوقت المطلوب.
دور الإعلام، الإعلام من أخطر وسائل التوجيه في عصرنا الحاضر إذ عنه يتلقى الناس الجزء الأكبر من ثقافتهم ويتأثرون برؤيته وتحليلاته من حيث يشعرون أو لايشعرون. إن كثيراً من المواقف التي نتخذها والاهتمامات التي تطغى على تفكيرنا هي مواقف واهتمامات وسائل الإعلام وإذا نظرنا إلى الفضائيات بشكل خاص لرأينا أن هذه المحطات لاتهتم بالثقافة الجادة الأصيلة من جهة بل تبث كل ما يمكن أن يحط من شأن العقل ويعمق تشرذمنا الثقافي ويزيدنا تيهاً على تيه. يتسمر الناس أمام المحطات الفضائية ساعات طويلة، ينتقلون من غناء إلى رقص إلى فيلم إلى حديث مع فنان أو فنانة. يستمعون إلى الفنان يدلي برأيه في كل شيء.. والراقصة تهز المشاهدين بآرائها (الوضيعة طبعاً) في السياسة والأخلاق والإجتماع. وهكذا يتلقى الناس ثقافة ساذجة، فكيف يشعرون بالحاجة للكتاب ماداموا مشغولين بمطاعم الوجبات (الثقافية) السريعة.
دور المثقفين، المثقفون في المجتمعات النامية لايمارسون دورهم بالشكل المطلوب في نقل القراءة من حالة فردية خاصة إلى حالة اجتماعية عامة، فالمثقفون إما غائبون أو مغيبون عن الفعل الإجتماعي، غائبون بسبب النظرة الفوقية وما يصاحبها من لغة النخبة التي لايفك طلاسمها ويحل رموزها إلا أخص الأخص من المثقفين. ومغيبون إما بسبب الإحباطات الإجتماعية المتوالية وإما بسبب تأزم العلاقة بين السيف والقلم.
أين الإهتمام بالناشئة، ممارسة القراءة عادة والعادة محصلة ثلاثة أمور هي: المعرفة‏(ماذا نقرأ ولماذا نقرأ)، ومهارات القراءة‏(كيف نقرأ)، والتوجه للقراءة المدفوع بالرغبة. ولكي تتحول القراءة إلى عادة اجتماعية يجب أن تكون متضمنة في العملية التربوية والتعليمية.
فالطفل عندما ينشأ في بيئة تعشق الكتاب وتمارس القراءة لابد أن يتأثر بتلك البيئة، وكذلك الأمر بالنسبة للتعليم أي عندما تشكل المادة التعليمية دافعاً للطفل وحافزاً له على القراءة بما تحمله من مضامين حيوية واساليب تشويقية، وعندما يتم التركيز على تنمية مهارات الطالب وتوسعة مداركه، بدلاً من أساليب التلقين التي تعتمد على حشو رأس الطالب بمادة يحفظها ولايفقهها، ينتظر وقت الإختبار ليقذفها من رأسه ويستريح من صداع لاتسكنه المهدئات. ولعل إحدى المشاكل الكبيرة التي تواجه الآباء الراغبين في تنشئة أبنائهم على القراءة هي ندرة الكتاب الذي يتناسب والمرحلة العمرية للناشئة. ويعود هذا إلى ندرة الكتاب المتخصصية الذين يؤلفون لهذه المرحلة العمرية الدقيقة التي تتطلب موضوعات خاصة وصياغة خاصة بل وشكلاً وحجماً خاصين للكتاب. من هنا تأتي أهمية ظهور متخصصين يستطيعون تلمس حاجات الناشئة الثقافية ويستجيبون لمتطلباتهم من أجل إحداث نقلة نوعية في ممارسة القراءة على مستوى المجتمع.

لماذ لانقرأ؟
الدكتور بشير العيسوي
كلية اللغات والترجمة، جامعة الملك سعود/ من مصر

سؤال ملح على جميع المهتمين بالثقافة العربية المعاصرة وغير المعاصرة. وهو سؤال دائم التكرار في جيلنا والأجيال السابقة، وأذكر من تجربتي أن جيلي كان مهتماً بالتفريط في القراءة وأننا لانقرأ كثيراً كما كان يفعل الجيل السابق علينا. كان ذلك الجيل يعيرنا أننا فقط نقرأ نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس وتوفيق الحكيم ويوسف السباعي. وكانوا يعتبرون القراءة الصحيحة هي لأمهات الكتب العربية مثل «الأغاني» وما شابهها. ورغم شعورنا بالظلم من حكمهم علينا إلا أننا مضينا نقرأ ونستزيد وكنت واحداً من ذلك الجيل المظلوم.
أما اليوم فالسؤال «لماذا لانقرأ؟» لابد أن نستعد للإجابة عليه استعداداً ذهنياً خاصاً، ولابد أن نكون موضوعيين قدر المستطاع حتى لانظلم ولا نُظْلَمْ. وإن كنت أعتقد أن اجابتي ليست الوحيدة إلا أنني أجتهد فيها وأقدمها في النقاط التالية:
1ـ في الماضي غير البعيد ـ منذ عشرين سنة خلت‏ـ كانت وسائل الترفيه الحالية قليلة إن لم تكن منعدمة الوجود. كان التلفزيون، مثلاً، من خصائص اهل المدينة. أما القرى فقل أن تجد قرية بأكملها بها تلفزيون. والتلفزيون الوحيد كان إما لغنيٍ جداً وكان الناس يرتادون بيته للتفرج على تلك المعجزة العجيبة التي تأتي بالصوة والصورة معاً من مكان بعيد، أو أن يكون ذلك التلفزيون تابعاً لوزارة الإرشاد القومي، وهو يعمل فقط لمدة ساعتين أو ثلاث. ذلك إضافة إلى عربة سينما متنقلة تعرض من وقت لآخر فيلماً وطنياً‏أو أحد الأفلام التي لها قضية حيوية. كما كان من الممكن أن نجد التلفزيون في أحد المقاهي أو الأندية الصغيرة القرى أو المدن يلتف حوله الناس لمشاهدة مباريات كرة القدم أو لمشاهدة الدراما أو الأفلام.
2ـ فيما عدا ذلك، يبقى الناس في وقت فراغهم، عاكفين على مناحي الحياة المختلفة. التلاميذ والطلاب يذهبون إلى الكتب والدروس، الأبوان إلى تدبير أمور المعيشة والمنزل، الجيران والأهل يتزاورون ويتواصلون. وكانت حميمية العلاقات الإجتماعية سمتةً بارزةً في مجتمعاتنا بشكل يقترب من العمومية.
3ـ اليوم، الوضع يختلف تماماً. إن القراءة ليست نبتاً‏صحراوياً لانعرف متى أو كيف ينبت. فالنبت الصحراوي نراه مخضراً بعد أن كانت الأرض يابسة جرداء. وتعرف سبباً ـ إن أردنا ـ لخروج هذا النبت وهو نزول المطر في موسمه. لكن نزوله قد يتأخر في موسم ما فلا تنبت الأرض وتظل قاحلة جرداء لاتسر من ينظر إليها. ونحن لانريد أن يُنْظَرَ إلى القراءة على أنها عمل معزول عما يدور في مجتمعنا.
4ـ نعلم أن هناك مئة قناة تلفزيونية عربية فضائية تبث على مدار الساعة الغث والسمين. فمن برامج «إرفع إيدك.. ونزل إيدك» وضيوف قرناء الجن الإنسي وغير الإنسي، إلى برامج تخوض في أسرار المعاشرة الزوجية وما يدور فيها من خصوصيات، إلى برامج المعارك الكلامية حول موضوعات بالية رثة تثير في النفس القرف والإشمئزاز من الوضع الثقافي المتردي لدى النخبة. إلى برامج «ما إلك إلا..» و«فلان/ فلانة ع الهوا» ولاتنتهي القائمة عند «فنان/ فنانة ع الهوا». ساعات البث هذه تصل إلى 2400 ساعة بث يومياً. ولابد أن فيها ما يجذب ربات البيوت وأربابها وكذا الأولاد والبنات.. ونحن لانفترض أن جميع البيوت العربية لديها هذه القنوات الفضائية، فهي ماتزال عالية الكلفة بالنظر إلى أجهزة الإستقبال والهوائيات الخاصة بها. لكن التلفزيونات المحلية لكل دولة عربية ملآى بهذه النوعية من البرامج التي إما تُلهي الناس عن أعمالهم، أو تقدم لهم تسلية رخيصة، أو تفسد أذواقهم بتقديم الفنانين والفنانات كأمثلة عليا في الحياة العامة والخاصة. ونكتشف بعد قليل ـ في الصحف والمجلات‏ـ أن بعض هؤلاء قد نزلوا ضيوفاً على أقسام شرطة مكافحة المخدرات أو شرطة الآداب أو شرطة الأحوال العامة.
5ـ الليل الطويل الذي كنا نقضيه مع مسرحية أن رواية لكاتب، يقضيه شبابنا اليوم مع إحدى تلك القنوات، ومعروفاً تربوياً أن القراءة تنمي قدرات كثيرة منها التكلم والذخيرة اللغوية والتثقيف والإرتقاء بالمضامين الفكرية للقارئ. لكن الأهم من كل ذلك، أن القارئ لنص ما، يبدأ في رسم صورة لما يقرأ في خياله. فإذا كنت تقرأ «زقاق المدق» لنجيب محفوظ وصادفتك شخصية «زيطة» مثلاً فعلى الفور تتخيل مدى القذارة والنتانة والملابس الرثة المهترئة وكذا ما يفوح من تلك الشخصية من روائح تزكم الأنف، هذا البعد التخيلي ينعدم تماماً إذا كنت تشاهد نفس القصة في فيلم سينمائي أو عمل درامي تلفزيوني. وبذا يخسر الشباب عند مشاهدتهم التلفزيون والسينما كثيراً من تكوين ملكات الخيال الواسع. وذلك بدوره يقربهم من المادية البحتة التي تفسد حياتهم وتحيلهم إلى آلات بشرية وتجعل كل شيء في مفهومهم خاضعاً لعلاقات مادية حسابية بحتة. وهذا يحيل بدوره، حياتنا إلى عبء ثقيل سندفع جميعا ً‏ثمنه من رقينا وتحضرنا الذي نحلم به.
6ـ إضافة إلى التلفزيون والسينما وألعاب الأتاري وألعاب الفيديو التي لايخلو منها بيت عربي في يومنا هذا، أصابتنا حُمى اقتناء الكمبيوتر، إن لم يكن للإستخدام الفعلي فللتباهي بأننا نمتلكه‏ـ بفلوسنا‏ـ كمظهر حضاري، وأن ما صنعه الغرب أصبح الآن ملكاً لنا. وتلك حالة نفسية صعبة يعيشها معظم الناس في عالمنا العربي. ولايدركون مدى خداع النفس الذي يعيشون فيه إلا عندما يتوقف ذلك الكمبيوتر عن العمل فنضرب أخماساً في أسداس ومن ثم نغطي ذلك الجهاز العجيب بسجادة جميلة قارئين عليه فاتحة وخاتمة الكتاب، وبذا يبقى قطعة ديكور في المنزل.
7ـ يتوهم بعض المخدوعين من أهلينا أنه لاداعي لشراء الكتب أو تكوين مكتبة منزلية بعد اليوم، فكل شيء موجود على الكمبيوتر: الموسوعات، القواميس، القرآن الكريم، السنة النبوية، أعمال كبار الكتاب. مع شروحات لها، حتى المناهج المدرسية مع حلول اختباراتها وإجابات أسئلتها، وجميعها على أسطوانات مضغوطة‏ـ والغريب أن بعض الناس قد صدقوا هذا الوهم، وبالفعل خلت بيوتهم من مكتبة ولو صغيرة الحجم كأن تكون من ثلاثة أرفف مثلاً. وهذه قمة الجهل وقمة العبثية الثقافية التي نعيشها. إن بيتاً بلا مكتبة هو بيت خرب. وإذا كانت الصحة البدنية التي يوفرها المطبخ لأفراد البيت، فإن الصحة الذهنية والعقلية توفرها المكتبة. وليست المكتبة بشكلها التقليدي مما يستغنى عنه الإنسان مهما كانت البدائل. ويجب أن تكون هناك رفوف عليها كتب الأطفال، ثم كتب الشباب، ثم كتب للبالغين. هكذا، المكتبة أجيال كما أن حياة الإنسان أجيال تتعاقب وتتطور.
8ـ في الغرب، الذي ابتدع الكمبيوتر وجميع الأجهزة الأخرى التي نتطفل عليها استخداماً واقتناءً أو عبثاً، لم نسمع دعاوي خرفة كتلك التي نسمعها عند انتهاء دور الكتاب التقليدي، أو انتهاء دور الصحيفة أو المجلة التقليديتين. إنما وُضع الكمبيوتر كوسيلة لتيسير وصول تلك المادة المطبوعة إلى القارئ أينما كان بأيسر التكاليف، إذا لم يتيسر لأسباب اقتصادية أو سياسية وصولها. وانظر مثلاً، إلى كلفة شراء جزء بسيط من كتب مكتبة الكونجرس. ذلك مستحيل. أماýغذا كان لدى القارئ اشتراك في إحدى قنوات المعلومات فله حق الإطلاع على كل ما فيها من ذخائر في جميع مناحي الأدب والفكر والإقتصاد والسياسة والفن من كل بقاع الأرض. لكن اقتناء أي مادة من تلك المواد التي تظهر على شاشة الكمبيوتر تستدعي أن نستخدم الطابعة للحصول على ما يسمى printout أي مادة مطبوعة من النص الذي نراه أمامنا على الشاشة لكي نحتفظ به للبحث أو الاطلاع فيما بعد. أي أننا في النهاية نعود إلى الورق والمادة المطبوعة. بمعنى آخر، نعود إلى المكتبة والكتاب حتى مع وجود ماýأسميته «خداع النفس» عند استخدام الكمبيوتر كبديل للكتاب بشكله التقليدي، وينطبق ذلك على الصحف والمجلات والدوريات التي لها مدخل على شبكات الكمبيوتر. وعلينا أن نلاحظ أن الكمبيوتر مايزال مقصوراً‏ على فئةٍ قليلة في عالمنا العربي فهو ما يزال ذا كلفة عالية ويحتاج إلى انفاق مالي يعتبر عالياً بالقياس إلى دخول العامة. ومن ثم لامناص من العودة إلى الكتاب، أو المطبوعات، بالشكل التقليدي.
9ـ قد تكون أسعار الكتب المرتفعة بشكل ملحوظ سبباً في عزوف الكثير من الناس عن القراءة، ولكن ذلك عذر واهي لامبرر له. فإذا قارنا انفاق أي بيت على المأكل والملبس وملء البطن مع ثمن كتاب حديث يصل إلى عشرة دولارات أمريكية، مثلاً، لوجدنا أن النسبة قد تصل في كثير من الأحيان 30:1 والسيدات العربيات يستطعن تكوين مكتبة رائعة إذا وضعن في اعتبارهن شراء كتاب جديد مع كل حملة لهن على محلات بيع العطور والماكياج. وأنا أدعوهن جميعاً‏إلى زيارة المكتبات مع كل زيارة لمحلات الملابس والأزياء التي قد تستخدم عاماً‏أو أقل ثم تلقى في سلال المهملات. لكن الكتاب يبقى وتتوارثه الأجيال لأن الفكر لايبلى ولايتغير كما تتغير الأزياء.
10ـ الإحصاءات الرسمية التي تصدرها اليونسكو من وقت لآخر مخيفة. فمثلاً، في 1996م كانت الإحصاءات الرسمية تشير إلى أن جميع ما تصدره دور النشر في العالم العربي مجتمعة، مؤلفاً ومترجماً مسروقاً ومعاد طبعه ومهضوماً حق ناشريه، لايصل إلى نصف ما تنشره غسرائيل وحدها، ناهيك عن مقارنتها بما يصدر في أمريكا أو روسيا التي أتت بعد أمريكا مباشرة من حيث الإصدارات رغم ما تمر به من أزمات متعاقبة.
11ـ إننا شعب لايقرأ إلا من رحم ربي. وهذا الحكم قد يؤيده كل من ألف كتاباً بالعربية. فالمعتاد أن يُطبع من الكتاب ألف نسخة ـýإلا إذا كان كتاباً‏جامعياً مقرراً بخيره وشره على طلاب مساكين يضطرون لشرائه أملاً في اجتياز امتحانات ذلك الأستاذ وليس لفائدة علمية أو أدبية أو فكرية. ويظل الكتاب الذي طبع منه ألف نسخة يراود مكانه في كبرى مكتبات المدن العربية ولاتباع منه إلا عشرون نسخة أو خمسون نسخة سنوياً في أحسن الظروف.
أختم بأن القراءة نشاط ذهني دائم طالما بقي في قلب الإنسان نبض. فلا تتوقف القراءة يومياً والإنسان لديه وقت لها. وأمة لاتقرأ أمة جاهلة. وإذا كان أحد اليهود قد قال عنا في عام 1967: «العرب لايقرأون وإذا قرأوا لايفهمون وإذا فهموا لايعملون» فإن التحدي مايزال قائماً بيننا وبينهم، وهم الذين سادوا العالم بعلمهم ومالهم وبهما تكون النفوذ الذي نراه ملموساً في كل صوب وحدب. إن مشكلة القراءة وتوفير الكتاب مطروحة والحلول قائمة، لكن الكثيرين يحبون التعامي فالمكتبات المركزية في الجامعة تشتكى العزلة ومقاطعة قرائها لها، وكذا المكتبات المركزية في العواصم العربية. إلا أن الكسل أصابنا، وكأننا ـ والحال هذا‏ـ كمن سمع أن هناك مطراً خارج بيته، فبدل أن يمد يده أو رأسه ليتأكد، ظل ينتظر حتى تأتي قطة من الشارع فيرى أهي مبتلة أم لا، وأخشى أن ننتظر كتلك الحلول فيطول الإنتظار.

كيف نصنع مجتمعاً قارئاً؟
صناعة المجتمع القارىء، مسؤولية من؟
حسن آل حمادة
كاتب / المملكة العربية السعودية

من الصور الحضارية للمجتمعات ـ المتقدمة أو المثقفة ـ كثرة إقبال أفرادها بمختلف مستوياتهم العلمية والفكرية والاجتماعية على القراءة، حتى أصبح الفرد منا يتصور بأن تلك المجتمعات مصابة بمرض نفسي نستطيع أن نطلق عليه مرض التعطش للقراءة ـ إن صح التعبير ـ وهو في الحقيقة ليس مرضاً، إنما هو حالة صحية، قوته الدافعة حب الاستطلاع والمعرفة عند الإنسان فنجد الواحد منهم لا يبرح عن مكانه إلا وفي يده كتاب ما، مما ساعد على انتشار «كتب الجيب» بصورة كبيرة في تلك المجتمعات. هذه كانت صورة بسيطة وموجزة لحالة المجتمعات «المثقفة» ولكن لو نظرنا إلى المجتمعات الأخرى، والتي تمثل صورة مغايرة لتلك المجتمعات، نرى أفرادها وعلى اختلاف مستوياتهم يقتلون أوقاتهم بأمور هامشية أو ثانوية إن لم تكن مضرة بالانسان والمجتمع والدين، تضيع ساعات العمر سدى!. إن الكثير من أبناء هذه المجتمعات لا يعرفون مصطلح «القراءة» إلا قبل ساعات الامتحان، وذلك من أجل الحصول على الشهادة العلمية، فعندمنا تسأل الطالب في الجامعة على سبيل المثال ماذا تقرأ؟ يجيبك تكفينا المواد الدراسية وكتب التخصص!!، فإذا كان هذا مستوى تفكير الطالب الجامعي فما هو حال طالب الثانوية أو غيرها من المستويات الأقل ثقافة ونضوجاً؟، بالتأكيد ستكون الحالة مزرية (1) . وأكثرنا ـ للأسف الشديد ـ يحفظ الشطر الثاني من شعر أبي الطيب المتنبي، حيث يقول: (وخير جليس في الزمان كتاب) ولكن من منا عمل بهذه المقولة؟ ربما القليل!! (2) . فإن معظم الذين يتعلمون القراءة ولا يتابعون القراءة بعد التعلم. وهذا بالطبع سوف يؤدي إلى رجوعهم للأمية مرة ثانية وتتفشى الأمية الثقافية، وهي أخطر من معضلة أمية الأميين (3) . فعلى صعيد القراءة في العالم العربي: «تراجع عدد النسخ التي يطبعها الناشر من كل عنوان، إذ على الرغم من تزايد عدد السكان إلى 250 مليون عربي، وتناقص عدد الأميين بسبب قوانين التعليم الإلزامي، فإن الناشر بات لا يطبع من أكثر عناوينه رواجاً أكثر من ثلاثة آلاف نسخة، مما يعني بأن أمة (اقرأ) أصبحت لا تقرأ» (4) . الأمة الإسلامية التي انطلقت من كلمة (اقرأ) أصبحت لا تقرأ!
لماذا نحن مجتمع لا يقرأ؟ هذه (المداخلة) ليست من وظيفتها الإجابة عن هذا السؤال، بل سوف ينصب التركيز فيها على الإجابة عن الشق الآخر، وهو كيف نسهم في صنع مجتمع قارىء؟.

كيف نصنع مجتمعاً قارئاً؟
سؤال قمت بتوجيهه إلى مجموعة من طلبة المرحلة الثانوية; فتحدث كل طالب عن رؤيته التي يراها حلاً مناسباً لهذه القضية.
من ضمن الإجابات، على سبيل المثال:
1) توفير الكتب والعناوين الجديدة والسماح بتداولها.
2) وضع مناهج دراسية مناسبة لنا تعتمد في مجملها على الفهم والاستيعاب، لا على الحفظ الذي يستغرق وقتاً طويلاً منا.
3) إصدار كتب تناسب أعمارنا، تتحدث عن موضوعات تشكل إجابات لأسئلة واستفسارات تدور في أذهاننا، فرؤوسنا مزدحمة بالكثير من الأسئلة التي لا نجد إجابة عليها داخل أسرنا!.
4) عمل المسابقات الثقافية التشجيعية لنا، كمسابقة أفضل عرض لكتاب.
أما رأيي حول هذا السؤال الكبير الذي ينبغي أن يجيب عليه كل إنسان يرتبط بالكلمة المكتوبة، وستكون إجابتي تحتمل التطبيق على المدى القريب والبعثد ما أمكن، وسأستفيد هنا من دراسة وضعتها من قبل تتضمن الإجابة على هذا السؤال ذاته صدرت عام 1417هـ، بعنوان «أمة اقرأ.. لا تقرأ، خطة عمل لترويج عادة القراءة» (5) .
من أجل الإسهام في صنع مجتمع قارىء نحن بحاجة إلى جهود كثيرة، تعمل بطريقة منظمة لدفع عملية التغيير خطوات كبيرة للأمام. صحيح أن الجهود الفردية قد تسهم في عملية التغيير إلا أن العمل الفردي لن يكن بطبيعة الحال عملاً قوياً قادراً على إحداث موجات كبيرة، بل سيكون بمثابة الحجرة الصغيرة التي تلقى في الماء الراكد; فما تحدثه يكون بقدرها وحجمها وربما لا يلاحظ الكثير من الناس تأثيرها المحدود لكن، ماذا لو اجتمعت الجهود وتضافرت جميع القوى القادرة على التأثير والتغيير، أليس بإمكانها أن تخلق حالة جديدة باستطاعتها أن تخرج الناس من الظلمات إلى النور، أو بتعبير آخر من حالة العزوف عن القراءة إلى حالة الولع بها. «إن باستطاعة أي مجتمع أن يحول الحلم إلى حقيقة، وأن يكون (مجتمع القراءة); إذا تضافرت جهود ابنائه ومؤسساته، وقام كل منها بدوره، وتعاونت على أداء واجبها الأول والكبير» (6) . وللإجابة على سؤال: كيف نستطيع أن نصنع مجتمعاً قارئاً، محباً للعلم والتعلم ومندفعاً نحو القراءة والكتاب؟
أقول: يبدو أن هناك العديد من العوامل التي من الممكن أن تلعب دوراً كبيراً في تنشيط عادة القراءة في المجتمع، وسأتحدث عن كل عامل منها على حدة ـ بالرغم من تداخل الكثير من الأدوات المشتركة فيما بينها ـ وهي:
(1) الأسرة. (2) المدرسة. (3) المجتمع. (4) الاعلام. (5) الدولة.

الأسرة ودورها في تنمية عادة القراءة
الكثير من الكتاب عندما يتحدث عن العوامل المؤثرة في تكوين وتنمية عادة القراءة، يقوم بإدراج الأسرة كعامل أساس وأولي في ذلك، وما ذلك إلا لأن «قلب الحدث كالأرض الخالية ما ألقي فيها من شيء قبلته» كما يعبر عن ذلك الإمام علي (ع): «والطفل صفحة بيضاء فكلما نقش فيها لون تلونت تلك الصفحة بذلك اللون.. هذا بالإضافة إلى أن تقبل الطفل أكثر وأسرع من تقبل غيره» (7) . فالكثير من القراء ربما ارتبطوا بعالم القراءة وانجذبوا لسحر الكلمة المكتوبة، وتكون لديهم سلوك اقرأ، بسبب وجودهم في أسر تحتضن الكتاب، ولا تستطيع لفراقه صبراً! وعلى حد قول الشاعر:
بتُّ ليلي ومني القلب شظايـــــــــــــا تتمزق للكتاب الأمل المنشود عقلــــــــي يتشوق
ظامىء الروح إلى جدوله الصافي المرقرق رشفة من ضوئه الشفاف للروح المحرق (8)
لذلك فمن الأحرى بنا أن نلون تلك الصفحة البيضاء للطفل بتنمية عادة القراءة في نفسه منذ الصغر «من شب على شيء شاب عليه» و«العلم في الصغر كالنقش في الحجر»، والطفولة هي أفضل مراحل تكوين عادة القراءة. والقراءة كعادة لا تولد مع الإنسان بل تزرفع فيه زراعة; فبإمكاننا أن نزرعها في أوردنا إن نحن أردنا ذلك. ولا يخفى ما للأسرة من دور في التأثير على شخصية الطقل سلباً وإيجاباً ومن المعلوم أن المرالح الأولى التي يمر بها الطفل هي مرحلة تقليده لآخرين، وهو بأسرته أحرى بالتقليد، ومن هنا تأتي أهمية وجود القدوة للطفل داخل الأسرة، فلو فتح الطفل عينه على الحياة ورأى أباه أو أمه أو أحد إخوانه محتضناً لكتاب يقرأ فيه بين الفينة والأخرى، فإن تلك الصورة لن تغيب عن الإبن حتماً، وسيعمل عاجلاً أم آجلاً على محاكاتها. ويذكر العلماء «أن الطفل يرى أن ما يقوم به الأم إنما هو العمل النموذجي الذي يجب أن يحتذي به، لذلك فهو يرى أن تصرفات أبيه كلها صحيحة ولا بأس في تقليدها، ويشعر أنه سوف يلاقي استحساناً لذلك من أبويه ومجتمعه» (9) . «ونحن أخذاً بتجارب الباحثين الذي قضوا عمراً في مراقبة ودراسة متعة الأطفال فيما يقومون من نشاط نرى أن القراءة إذا أدخلت إلى عالم الطفل في وقت مبكر وبطريقة صحيحة، تعد بأن تصبح أهم متع حياته على الإطلاق في حينه، وفي كل مراحل طفولته، وفي مستقبل حياته، وربما لسبب أساسي ومهم وهو; أنها تتضمن انشغال والديه معه وتضمن له انتباهما واهتمامهما الكامل ولو لفترة من الزمن كل يوم وما يتبع هذا من مكافأتهما له بالحنو والقُبل والعناق» (10) . فهنا لابد أن تستشعر الأسرة مسؤوليتها وتقوم بدورها على أحسن وجه وأفضل صورة ممكنة، وذلك من خلال وضع الحوافز المادية والمعنوية، من أجل تشجيع أبنائها على القراءة والتعليم. ومماي ساعد على تحقيق هذا المطلب، قيام الأسرة بتخصيص جزء من ميزانيتها لتعمل على توفير الكتب والمجلات والإصدارات الثقافية الأخرى في مكتبة المنزل; فليس من الصحيح إطلاقاً أن تقول الأسرة لأبنائها تناولوا طعام الغذاء وهو لم يُعد بعد! ومن اللطيف ما تقوم به بعض الأسر حيث أنها تكافىء ابنها المحسن بقطعة من الحلوى عند إحسانه، فهلاّ فكرت بأن تكافئه بنسخة من كتاب في يوم من الأيام، لتعمل على غرس هذا التوجه في نفس الطفل منذ الصغر.

المدرسة ودورها في تنمية عادة القراءة
مسألة إيجاد الطفل القارىء (المثقف) ليست مسؤولية الأسرة وحدها فحسب، ولكنها مسؤولية المدرسة أيضاً، والمدرسة الابتداية هي الأساس في ذلك. ومن الأمور البديهية أن من أهم الأغراض التعليمية هي توجيه الأطفال نحو الكتب، لا لمجرد معرفتهم كيفية قراءتها وإنما لعقد قرانهم بها! إذاً «علينا أن نبدأ البناء من أسفل وليس من أعلى فنركز على الطفل الذي هو شاب المستقبل، فنضع برامج تعليمية ومقررات دراسية نبرز فيها بصورة واضحة أن المكتبة والكتاب وغيرهما من المواد الثقافية هي العادة الذي يجب أن يعتمد عليه الطالب، فنربي في الطفل عادة القراءة والقراءة الحرة» (11) .
فليس من الصحيح أن نطلب من التلميذ أو الطالب في المدرسة أن يقرأ ويتثقف ذاتياً، اعتماداً على قراءات ومهارات خاصة يزاولها بنفسه دون أن نوضح له الطريق، فالتعلم الذاتي جيد وحسن وربما يكون هو الأسلوب الأمثل خلال عملية التعليم ولكن بعد أن نبين للطالب كيف يكون وبأي صورة يتم؟ فينبغي أن تكون هناك دروساً تعلم الطالب وترشده إلى كيفية الرجوع للمصادر وكيفية استخدامها، هذا الأمر ربما يكون حاصلاً نوعاً ما حالياً من خلال «مادة المكتبة والبحث» ولكن في ظل الظروف التعليمية التي نعيشها الآن في مدارسنا فالأمر ربما يكون صعباً‏للغاية نظراً للزيادة في عدد المواد المقررة، ونظراً لاعتمادها بصورة كبيرة على عملية التلقين أثناء التدريس، وعلى عملية الحفظ عند المراجعة. وهذا أسلوب خاطىء، كما يتحدث الكثير من التربويين، فـ«حديث تدريه خير من ألف ترويه» كما جاء عن الإمام الصادق (ع). فلمدرسة دورها الكبير والمؤثر في تعزيز عادة القراءة وتنمية التعليم والتثقيف الذاتي، خصوصاً في ظل وجود القدوة المتمثلة في المدرس، فما أجمله من منظر عندما يرى الطالب أستاذه متصفحاً لكتاب مقلباً لأورابه، ما أجمله من منظر عندما يرى الطالب أستاذه وقد عقدوا حلقة للنقاش في قاعة المكتبة. فالمدرسة بإمكانها أن تعمل على تغيير اتجاهات الطلبة والانتقال بهم من حالة العزوف عن القراءة إلى حالة الولع بها، وهذا ما نأمل تحققه للمدرسة أن تقوم ببعض ذلك الدور من خلال إيجاد حصة القراءة الحرة التي يختار أثناءها الطالب ما يريد قراءته من مواد بتوجيه من أمين المكتبة، وكذا باستخدام أسلوب القصة خصوصاً في المرحلة الابتدائية، ولن يكون ذلك إلا بوقفة شجاعة من المسؤولين لأجل العمل على التغيير في السياسات التعليمية في وطننا العربي والإسلامي. وبما أن الحديث يدور حول المدرسة ودورها في تنمية وتعزيز عادة القراءة أشير هنا إلى ضرورة اهتمام المدارس بـ«المكتبات المدرسية» من ناحية «المظهر والجوهر» فتعمل على اختيار المكان المناسب لإقامتها والاهتمام بها من ناحية الشكل والإضاءة والتهوية. وتعمل جاهدة على توفير مختلف المراجع والمصادر التي تعين المدرس في تحضير دروسه، والطالب في دراسته وقراءته وإعداده للبحوث، وكذا السعي نحو تقديم كل ما من شأنه جذب المدرس والطالب نحو عالم القراءة، ولن يكون ذلك إلا بتوفير المواد المقروءة المناسبة، فالطفل يقدم على الحلوى التي يسيل لها اللعاب اشتهاءً! وقبل أن أتحدث عن أهمية القصة أقول بضرورة تعاون جميع المنتسبين من أجل إنجاح هذا الهدف النبيل; فأفضل ما يمكن أن نقدمه لطلابنا هو عقد قرانهم بالكتاب! فمن الأمور البسيطة التي يستطيع أن يقوم بها الكثير من المدرسين، قيامهم باقتطاف بعض العبارات والجمل البسيطة من الكتب التراثية وكذا الحديثة وإبقائها أمام الطلبة ومن ثم التعريف بكتّابها في حدود عشر دقائق (مثلاً) في بعض الحصص، ويفضل أن ترتبط المعلومة الخارجية بالنهج المدرسي. إن للقصة دوراً كبيراً في إشاعة جو القراءة في المجتمع وتحبيب هذه العادة للطفل والشاب، «فالقصة موضوع قائم بذاته في الدول المتقدمة، من خلالها يزرعون التوجه الذي يرغبون في عقول أطفالهم» (12) . فينبغي علينا جميعاً أن نصوغ أفكاراً نهضوية بشكل قصص جميلة ومشوقة ونسمعها لأطفالنا سواء في البيت أو في المدرسة أو عبر وسائل الاعلام المختلفة... إلخ. ومما يجب أن نركز عليه في هذا الخصوص موضوع (القراءة) وبهذا الأسلوب ربما تضمن التأثير الكبير على ابناء المستقبل. فهل نبادر جميعاً من أجل غرس هذا التوجه في نفوس أطفالنا؟.

المجتمع ودوره في تنمية عادة القراءة
تقع كبيرة على المجتمع كله وبالخصوص «العلماء والمثقفون» منهم في غرس هذا التوجه ـ القراءة ـ في نفوس أبناء المجتمع صغاراً وكباراً، وذلك عن طريق مختلف الأساليب المتاحة والممكنة، وخصصنا الكلام هنا عن العلماء والمثقفين دون غيرهم، ذلك لأنهم يجب أن يكونوا في موقع القدوة والتأثير على المجتمع، ويمكن أن يمارس هذا الدور عن طريق إقامة الندوات والمحاضرات التي تركز على هذا الموضوع المهم عن طريق إقامة المسابقات الثقافية المشجعة، وغير ذلك من الأساليب، كقيام المثقفين بإعارة كتبهم لمن يطلبها; والعمل على إهداء ما توافر منها بالنسبة لميسوري الحال منهم فزكاة العلم تعليمه لمن لا يعلمه. ولا ننسَ ضرورة مشاركة أبناء المجتمع (رسمياً وشعبياً) في إنشاء المكتبات العامة والعمل على تطويرها من أجل الترويج لعادة القراءة في المجتمع، ومن المفترض أن تسهم المكتبات العامة مغ غيرها من أنواع المكتبات في خدمة المواطنين والمقيمين على اختلاف مستوياتهم الثقافية، وتخصصاتهم العلمية، وميولهم المذهبية!. «ومما يقترح في هذا المجال أن تكون في الجوامع والمساجد وأماكن العبادة مكتبات مناسبة... فذلك قد يشجع من يؤم هذه الأماكن فيغلب معه الاتجاه للكسب المعنوي الذي يعد الكسب المعرفي شكلاً من أشكاله» (13) . ففي السابق كان اهتمام المسلمين كبيراً بالمكتبات، وذلك إدراكاً منهم لأهمية الدور المناط بالمكتبة والكتاب في حياة الانسان ـ الفرد والمجتمع ـ حتى أن «ويل ديورانت» في كتابه «قصة الحضارة» يقول: «كان عند بعض الأمراء كالصاحب بن عباد من الكتب بقدر ما في دور الكتب الأوروبية مجتمعة». وتؤكد المستشرقة الألمانية «زيغريد هونكه» في كتابها القيم «شمس العرب تسطع على الغرب» الحقيقة ذاتها إذ تقول: «إن متوسط ما كانت تحتويه مكتبة خاصة لعربي في القرن العاشر، كان أكثر مما تحتويه كل مكتبات الغرب مجتمعة» (14) .
أما في عصرنا الحاضر، فإننا نشكو من مشكلة «عدم الوعي بأهمية المكتبات في التنمية والتربية والبحث والثقافة، ولا يقتصر عدم الوعي هذا على المواطنين العاديين، ولكنه ينسحب ـ وهذا هو الأخطر ـ على المسؤولين الحكوميين أصحاب القرارات» (15) . وبكلمة: المجتمع القارىء يدفع أبناءه نحو القراءة والكتاب.

الاعلام ودوره في تنمية عادة القراءة
في بعض الأحيان قد تسأل صديقاً لك، ماذا تقرأ؟، فيجيبك: إنني أقرأ الكتاب (الفلاني) تسأله لماذا بادرت في قراءته: يجيبك: قرأت له عرضاً في إحدى المجلات، أو رأيت اعلاناً في إحدى الصحف اليومية. من خلال هذا المثال البسيط نستشف أهمية الدور الذي يمكن أن يمارسه الاعلام المكتوب وكذا المرئي والمسموع في الترويج لعادة القراءة في المجتمع.. ومما لاشك فيه أن لوسائل الاعلام قدرة كبيرة في التأثير على سلوكيات المشاهد وتفكيره، فوسائل الاعلام العصرية غيّرت الكثير من عاداتنا وتقاليدنا، ولسنا في حاجة لسرد القصص والوقائع لإثبات ذلك; فالقارىء يستحضر في ذهنه ـ أمثلة عديدة ـ كما أتصور. فـ«الإعلام بأجهزته المختلفة يفترض أن يلعب دوراً أساسياً وفعالاً في التربية والتنشئة لكافة المراحل العمرية بشكل عام ومرحلتي الطفولة والشباب بصورة خاصة» (16) . و«التربية الأسرية والمجتمعية التي تؤدي إلى فكر وثقافة وسلوك سوي تستوجب توجيهاً إعلامياً مدروساً بشكل علمي وواقعي، أي متصل بواقعنا بدءاً من الدائرة الأصغر فالأكبر» (17) . فنحن كثيراً ما نتهم الاعلام بأنه سرق أوقات المشاهد، ولم يكن اتهامنا له لأننا ننظر بعين سوداوية لا ترى إلا الجانب السلبي; إنما اتهامنا له لأننا في الكثير من الأحيان نرى هذا الاعلام يتسابق في تقديم الغذاء الفاسد للمشاهد بدلاً من الغذاء الصحي.
فالاعلام بإمكانه أن يقدم لنا جرعات صحية باستطاعتها أن تدفعنا للقراءة والكتاب، من خلال عرض لكتاب صدر حديثاً أو كتاب قديم كان له تأثيراً على مجتمع من المجتمعات، وكذا عقد لقاءات مع مؤلفين لهم تأثيرهم على المجتمع، ليتحدثوا من خلال برنامج تلفزيوني (مثلاً) عن أحد مؤلفاتهم وبالخصوص الحديثة الصدور، وغير ذلك ذلك من أمور. وفي هذا الصدد فكرة «نادي أوبرا للكتاب» البرنامج التلفزيوني الذي تقدمه أوبرا وينفري على شاشة التلفاز. فقد ظل الكثير يعتقد أن الجمع بين متفرقين ـ التلفاز والكتاب ـ يبدو صعباً، بل يكاد الكثير يجزم بأن حرباً بينهم لا تسمح لهما بالالتقاء. حتى جاءت فكرة البرنامج، فأصبح التلفاز نافذة لمكتبة تبيع الكتب، نافذة يطل عليها عشرة ملايين في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها، وخمسة عشر مليوناً خارجها! البرنامج الذي أدهش دور النشر ومطابع الكتب، فبمجرد عرضه تتطاير من رفوق المكتبات مئات الألوف من نسخ الكتب، يشتريها أناس ما خبروا القراءة من قبل. في كل شهر تقف «أوبرا» أمام الكاميرا، وبيدها كتاب، مخاطبة متابعيها هكذا: «هذا اختياري كتاب لهذا الشهر، أريدكم أن تذهبوا لمكتبات بيع الكتب، أريدكم أن تشتروا هذا الكتاب، أريدكم أن تقرأوه، ثم تطلب منهم أن يبعثوا رسائل إلكترونية أو ورقية محتوية تفاعلهم مع النص. ومن بعد، يتم اختيار أربعة أشخاص من مجموع كتّاب الرسائل تلك، يطيرون ـ على حساب برنامج أوبرا ـ من أجل الالتقاء بمؤلف ذلك النص، وتناول العشاء على مائدة أوبرا، والتي يتم حولها نقاش النص وتجربة مؤلفه، وتجربة القراء الأربعة، ومداخلات أوبرا، أمام عين الكامير الراصدة، لتعرض مقاطع من ذلك النقاش، وفكرة عن الكاتب، خلال حلقة البرنامج المعنية» (18) . نعم نحن بحاجة لبرامج كهذه يعرضها التلفاز للتشجيع على عادة القراءة ولبيان ما للمكتبة والكتاب من أثر على حياة الأفراد والشعوب صعوداً أو نزولاً، بدلاً من تركيز وسائل إعلامنا على الرياضة التي أكلت الأخضر واليابس!!
فلابد أن يقول لنا الإعلام بأن (حاجتكم إلى القراءة كحاجتكم إلى الشراب والطعام). لابد أن يقول لنا الاعلام أن (الشعب الذي لا يقرأ لا يفهم الحياة.. شعب لا يستطيع العيش.. شعب سيصبح في مؤخرة الركب..( هل يستطيع إعلامنا أن يقول لنا بعض ذلك؟!.

الدولة ودورها في تنمية عادة القراءة
إذا كان للعوامل التي ذكرت سابقاً، وهي (الأسرة، المدرسة، المجتمع، الاعلام) دوراً كبيراً في تنشيط عادة القراءة لدى المجتمع;; فالدولة بإمكانها أن تلعب الدور الأكبر في ذلك، فهي القادرة على استنهاض الرغبة في المطالعة لدى كافة أبناء الشعب بما تمتلك من قدرات وإمكانيات هائلة لا يمتلك المجتمع الأهلي منها إلا النزر القليل، خصوصاً في مجتمعاتنا العربية والاسلامية; إضافة إلى أن معظم المؤسسات الرسمية هي بيد الشعب. فمن الأدوار التي يمكن للدولة أن تقوم بها من أجل التشجيع على تكوين عادة القراءة في نفوس المواطنين، قيامها بعمل البرامج الاذاعية والتلفزيونية التي تصب في هذا المضمار ـ بما أن أغلب إعلامنا رسمي ـ كقيامها بعمل الندوات والمحاضرات التي تتحدث عن القراءة وأهميتها في الارتقاء بفكر المجتمع وسلوكه وكونها السبيل الذي من خلاله نستطيعýأن نعمل على بناء مستقبل أفضل لمجتمعاتنا وجعلها قادرة على مواكبة التطور السريع والهائل في العالم من حولنا، فلا حضارة بلا قراءة.. ولا مجد بلا قراءة.
كذلك دعمهخا للبرامج التي تهدف إلى التعريف بالانتاج الفكري سواء كان عالمياً أو محلياً، خصوصاً أن الرغبة في متابعة الانتاج المحلي موجودة لدى الكثير من الناس الذين لم يتعودوا مسك الكتاب ومداعبة أوراقه، وقد قامت الدولة الفرنسية بمحاولة من هذا الطراز كتب لها النجاح. فبإمكان الاذاعة أو التلفاز أن يقوما بالتعريف بإنتاج المواطنين في مختلف مجالات المعرفة، فما يضير إعلامنا لو قام أسبوعياً بالتعريف بالإصدارات الثقافية والفكرية لأبناء الوطن؟ ما الضير لو عرض لنا من خلال شاشة التلفاز برنامجاً يتحدث حول أفكار كتاب جديد عن الأساليب الحديثة لتربية البناء والارتقاء بمستوياتهم الثقافية والعلمية؟ ما الضير لو عرض لنا كتاباً يتحدث عن التسامح وضرورة حل مشاكلنا وقضايانا التي هي محل الخلاف عادة بمنطق الحوار والعقل.. لا بمنطق العصا والسلاح؟ أليس في ذلك الصلاح والخير لنا؟! فمن خلال برنامج كهذا بإمكاننا أن نضرب عصفورين بحجر كما يقولون. فنحن نستطيع أن نقدم من خلال هذا الطرح رؤية لأبناء وشعوب بلداننا، وهي ضرورة التمسك بلغة الحوار والعقل لا لغة العصا والسلاح ـ كما أسلفنا ـ، وذلك من خلال إسهابنا في الحديث عن واقع المجتمعات التي احتكمت للغة السلاح (مثلاً). ماذا سيقدم برنامج كهذا للمواطن؟ بالتأكيد سوف يخلق في نفسه فضاءات من الأسئلة حول أسباب تلك الصراعات والفتن، وسوف يخلق في المشاهد الرغبة في التفكير حول ضرورة إبعاد مجتمعه وبلده عن تلك (المهازل)، بالطبع ستكون وسيلته في ذلك قراءة الكتاب الذي قام التلفاز أو الإذاعة مشكورين بعرضه. وربما قرأ مجموعة من الكتب والدراسات في نفس الموضوع. ومن الأدوار التي ينبغي للحكومات أن تقوم تبها هي سماحها للأصوات المتعددة أن تتحدث بكل حرية دون خوف أو وجل من أحد، ففي الكثير من بلداننا العربية والاسلامية توجد حالة من التعددية المذهبية والفكرية والسياسية، فلا ينبغي أن يفسح المجال في بلد من البلدان لاتجاه دون آخر أو لجماعة دون أخرى، فإن ذلك من أسباب الجمود والتخلف. فمن الخطأ أن نعمم في مجتمع من المجتمعات ثقافة الاتجاه الواحد ونكمم أفواه الآخر، فإن ذلك قد يؤدي إلى زيادة الطحالب في المجرى وبالتالي تلوث الأفكار التي نتجرعها، والتي ربما تتسبب في هلاكنا. ثم أن السماح للآراء في المتعددة والمختلفة بالبروز في الساحة قد يؤدي إلى زيادة إطلاع الناس وإقبالهم على قراءة الأفكار الجديدة علهم يجدون فيها خلاصهم ونجاتهم; فالناس لن تقبل على آراء قديمة وبالية أكل الدهر عليها فالدولة في الغرب مثلاً «تلعم تمام العلم أن سر التقدم والتفوق يقوم على الإبداع، وأن من شيء يؤمن استمرارية هذا الابداع سوى تشغيل العقل النقدي بالقراءة الدائمة والمجددة للأفكار. فالمطالعة، من هذا المنطلق عادة حيوية للذهن تحثه على تخطي نفسه باستمرار، فمن هذا المنطلق بالذات تقع على الدولة المسؤولة، مهمة السهر على عدم تراجع القراءة عند أبناء شعبها، وبخاصة عند شبابها، حيث أنه بذهاب القراءة يذهب الإبداع، ومعه تذهب القدرة على المنافسة والصمود» (19) .
إننا كشعوب ننتظر بفارغ الصبر ذلك اليوم الذي تقوم فيه حكوماتنا بإهدائنا المزيد من المكتبات العامة ـ التي تعد في الغرب من أهم مراكز الإشعاع الثقافي والتربوي ـ كما فعل «هارون الرشيد» حينما قام بإهداء «مكتبة بيت الحكمة لبغداد»، تلك المكتبة التي بلغت شهرتها الآفاق، وكما فعل غيره من الأمراء والحكام الذين حكموا في البلاد الاسلامية ابان العصر الذهبي للمكتبات الاسلامية. كما أننا ننتظر بفارغ الصبر ذلك اليوم الذي تقوم فيه الدولة بدعم الكتاب كما تدعم رغيف الخبز!. ربما يكون القلم قد شط بنا قليلاً ونحن نتحدث عن الدور الذي يمكن أن تلعبه الدولة من أجل نشر وترويج عادة القراءة في المجتمع، إلا أننا نكتفي بهذا الحد، وسوف نتحدث عن أمور يمكن للدولة أن تقوم بها في هذا المضمار بمؤازرة من بقية العوامل التي ذكرت آنفاً، أثناء ذكرنا للتوصيات والمقترحات العامة في نهاية البحث. وقبل ذكرنا للتوصيات، أنقل للقارىء هذا المشهد: في التسعينات (1993م) شعر الفرنسيون بانخفاض في نسبة القراء، حينها نزل وزير الثقافة الفرنسي ومعه كبار المؤلفين والكتّاب إلى الشوارع والحدائق العامة والمراكز الثقافية يقرؤون ويتحدثون مع الناس من حولهم عن القراءة والكتب في مهرجان عام أسموه (مهرجان جنون المطالعة)، هكذا هم يفعلون! لكن ماذا نحن نفعل؟!

توصيات ومقترحات عامة في نهاية البحث
(1) يجب أن تسعى الأسرة لخلق شعور في نفسية الطفل بأنه منتسب إلى عالم الثقافة والفكر وذلك من خلال الإهتمام بآرائه ومقترحاته حول ما يقرأ.
(2) أن تهتم كل أسرة في المجتمع، بإنشاء مكتبة منزلية، وتعمل جاهدة على تزويدها بالكتب والإصدارات الثقافية المختلفة ومن المهم أن تحتوي المكتبة على نصيب وافر للأطفال، إن لم نقل بضرورة عمل مكتبة خاصة بالأطفال.
(3) توفير الكتب المناسبة للطلاب في المراحل الدراسية المختلفة، والتي تتميز بخاصية الجاذبية في الشكل والسلاسة في الأسلوب.
(4) أن تقام معارض للكتاب في المدرسة، بالإضافةýإلى إقامة المعارضة على مستوى المنطقة والدولة وأن تكون هناك مساحة جيدة من الحرية، حيث يتاح لدور النشر المشاركة فيýعرض أكبر عدد ممكن من الكتب والاصدارات الثقافية الجديدة.
(5) أن تخرج المكتبات إلى الناس، لا أن ننتظر قدومهم!، بمعنى أن تقام ندوات ومحاضرات موسمية (مثلاً) لاجتذاب القراء، ويمكن أن يتمثل هذا الخروج عن طريق إقامة المعارض السيارة للكتب وبالخصوص في القرى والأرياف.
(6) تزويد المكتبات (المدرسية، العامة،.. الخ) بالوسائل السمعية والبصرية وخدمة الحاسوب التي تسهم في جذب القراء بتقديم خدمة سريعة لروادها.
(7) تنظيم الرحلات المدرسية المنتظمة لمعارض الكتب المحلية.
(8) مكافأة كل طالب يأتي بمعلومة جديدة (خارجة) عن الكتاب المقرر.. وكل طالب متميز يكتب مقالة للصحيفة الحائطية (في المدرسة، في البيت، في المسجد،.. الخ).
(9) إصدار طبعات شعبية للكتاب بأسعار مقبولة كما هو الحاصل في دولة مصر يمكن للشباب أن يقتنيها والعمل على توفير الكتاب المناسب لمن يطلبه.
(10) ضرورة مشاركة ابناء المجتمع في عمل الدراسات والبحوث والمقالات، التي تسعى وتهدف لإيجاد الحلول في هذا الموضوع المهم.
(11) أن يأخذ الكتاب مكانه الطبيعي المرموق في وسائل إعلامنا المختلفة، ويكون هناك تركيز على البرامج الثقافية التي تثير اهتمام المشاهد.
(12) أن تعقد برامج تلفزيونية، يشار فيها بالبنان إلى المؤلفين وكتاباتهم، وبالخصوص الوطنيين منهم ليكونوا قدوة وأسوة.
(13) دعم الكتب والاصدارات المختلفة التي تعنى بأدب الأطفال.
(14) قيام الدولة بتزويد جميع المراكز الحكومية من وزاراة ومستشفيات و.. بالاصدارات الثقافية المختلفة، خصوصاً الجرائد اليومية، فالمُراجع للدوائر الحكومية يبقىýأحياناً لفترة طويلة منتظراً دوره، فلو وفرنا له مجلة أو جريدة في ركن خاص لربما استمتع بقراءتها وقضى على ملل الإنتظار.
(15) أخيراًن لم يبق لنا إلا أن نهمس في أذن القارئ بالعبارة التالية: «ينبغي علينا جميعاً (..) أن نسهم في نشر عادة القراءة بين أبناء مجتمعاتنا العربية والإسلامية، فبغير هذا الخيار ـ القراءة‏ـ لايمكن أن تقوم حضارة عظيمة!».

الهوامش
(1) في سؤال قمت بتوجيهه لمجموعة من طلبة المرحلة الثانوية، مفاده: ماذا تقرأ من كتب خارجية؟ أجابني أكثرهم، وهل نحن نقرأ الكتب الدراسية حتى يتسنى لنا الوقت لقراءة الكتب الخارجية!!
(2) آل حمادة. حسن. أمة اقرأ لاتقرأ: خطة عمل لترويج عادة القراءة ط1، السعودية: دار الراوي، 1417هـ. ص15ـ16.
(3) الزيناتي، صالح محمود. «لماذا لانقرأ» مجلة رسالة المكتبة مج6، ع4 (سبتمبر 1982) ص54ـ67.
(4) سالم، محمد عدنان. «صناعة النشر وتحديات القرن المقبل» مجلة الكلمة، ع16 (صيف 1418) ص119ـ123.
(5) أنظر الهامش الثاني.
(6) سالم، محمد عدنان. القراءة أولاً ط2، بيروت: دار الفكر المعاصرة، 1418هـ. ص121.
(7) الشيرازي، السيد محمد الحسيني. الفقه الإجتماع ط6، بيروت: دار العلوم، 1408هـ. ص235.
(8)الخنيزي، محمد سعيد الشيخ علي، مدينة الدراري «شعر» ط1، السعودية: مطابع الرضا، 1414هـ. ص12.
(9) أحمد، عبد الله. بناء الأسرة الفاضلة ط1، بيروت: دار البيان العربي، 1410هـ. ص27.
(10) حسن، حسن مرضي. النهج الجديد في تعليم الأطفال الصغار: القراءة PIONEEY HOUSE LTD LONDON. DUBAI، بالاشتراك مع، بيروت: دار الفكر، 1995م، ص79.
(11) الزيناتي، صالح محمود. مصدر سابق. ص96.
(12) أحمد، عبدالله. مصدر سابق. ص197.
(13) المعتوق، أحمد محمد، الحصيلة اللغوية: أهميتها ـ مصادرها ـ وسائل تنميتها. ط1، (سلسلة عالم المعرفة 212)، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1417هـ، ص145.
(14) هونكه، زيغرد. شمس العرب تسطع على الغرب. ط8، بيروت: دار الجيل، دار الآفاق الجديدة، 1413هـ، ص388.
(15) عباس، هشام عبد الله. الركائز الأساسية للنظام الوطني للمكتبات العامة بالمملكة العربية السعودية. الرياض: مكتبة الملك فهد الوطنية، 1410هـ، ص83.
(16) المنيس، سامي أحمد. «دور الإعلام في مواجهة قضايا الشباب والتنمية»، مجلة شؤون اجتماعية. ع64 (صيف 1416) ص 153ـ163.
(17) نفس المصدر ـ ص153.
(18) الصمعاني، إبراهيم. «أكبر سمسار» لبيع كتاب: «أوبرا وينفري» تحريض الملايين على القراءة! «مجلة المجلة» ع938 (شوال 1418هـ) ص 23ـ25.
(19) معتوق، فردريك. «الشباب الجامعي والكتاب في العالم العربي» استطلاع للرأي قامت به «جريدة الحياة» في لبنان والسعودية ومصر والكويت وسورية (4 من 4) ع12523 (صفر 1418هـ) ص20.

كيف نصنع حوافز القراءة
كاتبة وقاصة/ المملكة العربية السعودية
بهية بو سبيت
كاتبة وقاصة / المملكة العربية السعودية

لماذا نحن مجتمع لايقرأ؟ هذا السؤال العميق لايحتاج إلى إحابة واحدة، وليس له سبب واحد أيضاً لاسيما وأن القراءة بالنسبة للفرد بمثابة العين التي يتطلع من خلالها على الحياة ويرى ما فيها من أشياء جميلة وزاهية، ويعرف كل مايجري في الحياة من أمور حسنة أو سيئة وعن طريقها يدرك متاهات الحياة ومجاهلها، ويأخذ منها ما يفتح أمامه سبل الخير والنجاح والتقدم والرقي، كما يدفعه إلى تجنب ما يقوده إلى الجهل والظلام والفقر والضياع، لأن القراءة بحد ذاتها تعتبر لصاحبها سلاحاً قوياً يحميه من غول الجهل وظلام الدمار، وتكون له عوناً على التغلب على الزمن، كما أن القراءة مفتاح الشخصية للفرد. وإذا بحثنا عن السبب الأساسي أو الأسباب الأساسية في قلة الإقبال على القراءة، فإني أرجعها أولاً إلى ضعف التنشئة التروية على حب المطالعة، وذلك لأن الطفل إذا عوّد وعُلم ورُبي على شيء حسن منذ الصغر، نشأ على حب هذا الشيء، وتعود عليه. وأصبح بالنسبة له عادة لايمكنه الإستغناء عنها أو تركها، لأن العادة أو التعود على الشيء يشب مع الطفل، وكثيراً ما نرى ونسمع عن بعض العادات أو الصفات الحسنة التي يُعود عليها الطفل منذ صغره، فيشب عليها متعلقاً بهان لاسيما إذا لقي من يدفعه إليها ويشجعه عليها، وفي مجتمعنا مع الأسف الشديد خاصة في السنوات الماضية لم تكن القراءة ذات أهمية عند الكثيرين، ولم يدرك البعض أهمية القراءة وفوائدها، كان الجميع يركز فقط على حفظ المواد الدراسية، وبمجرد إنتهاء الإمتحانات تنتهي رحلة القراءة، والحفظ لدى الطلاب والطالبات، اللهم إلا من لديه هواية القراءة، ولم تكن هناك كتب متوفرة، وفي متناول اليد ليحصل عليها هاوي القراءة، ولم تكن هناك مكتبات منتشرة، ولامجلات وجرائد متنوعة، لقد كان مجال القراءة محدوداً لايستطيع الجميع التواصل إليه ولم تكون هناك وسائل إعلام تحث على القراءة.
ثانياً: لم يكن التعليم يهتم بمفهوم القراءة أو يدرك مدى فائدتهان فكانت حصة التعبير عبارة عن عناصر تكتب على السبورة أو تقال شفهياً من قبل المعلم، ويترك للطالب التعبير عن موضوع بعينه دون الإشارةýإلى أن القراءة هي سرقوه التعبير وتنوير الفكر وتوسيع المدارك وتحسين الخط والقوة في الأسلوب وجمال السبك والعبارة.. الخ.
ولم تكن هناك مكتبات موجودة في المدارس وإن وجدت ففي المدارس العليا والكبيرة وبشكل يعد على الأصابع، فلم يكن هناك تشجيعاً لدفع الطالب للقراءة الدائمةوحثه عليها، هذا بالإضافة إلى أن من عادة الطلاب تضييع الوقت في اللعب خارج البيت. والدليل على ذلك أن الكتاب السعودي عندما يطبع منه المؤلف ثلاثة آلاف نسخة أو خمسةýآلاف نسخة تظل أغلبها لمدة سنوات على أرفف المكتبات وفي المخازن، وذلك لقلة القراء ولعدم وجود الوعي الكافي بأهمية الكتاب والدعوة لقراءته.
ويحدث عكس ذلك ف الدول الأخرى فبمجرد الإعلان عن صدور كتاب جديد تجد الجميع يذهب لشرائه، ويحرص على قراءته وسرعان ما ينفذ من السوق في غضون أسابيع أو شهور قليلة.
أما في السنوات الأخيرة، فقد بدأ الجميع وخاصة المسؤولون يدركون أهمية القراءة وفائدتها، وأهميتها في توسيع المدارك ومن هذا المنطلق بدأ الإهتمام بالقراءة عن طريق إفتتاح المكتبات وتعميمها في جميع مدارس المملكة، ومن ثم التركيز على القراءة، والتشجيع عليها، بعد ذلك قامت الرئاسة العامة لتعليم البنات بتخصيص حصة للمكتبة كتجربة من منطلق الإهتمام بالكتاب والقراءة. بعد فترة تم استحداث منهج خاص لمادة المكتبة. وهذا في حد ذاته دافع قوي للاهتمام بالقراءة والتشجيع عليه وكثر افتتاح المكتبات وإقامة المعارض الدورية.
أما كيف نحفز مجتعنا على القراءة، والتزود من معين الثقافة والمعرفة للوصول إلى مستقبل أفضل؟
فهناك عدة طرق لا طريقة واحدة تساعد أولاً على حب القراءة، والدخول في عالمها اللامحدود، وعندما يتعلم أي فرد حُب القراءة طبعاً أقصد الفرد الذي لايجد في نفسه هوى القراءة ومن ثم يحس لذتها، وهو يبحر في عالمها الكبير المتنوع فإنه لاشك تصبح ممارسة القراءة لديه نوعاً من العادة اليومية التي لايستطيع التخلي أو التنازل عنها. ولأن التعود لا بدýان يكون في الصّغر هذا طبعاً بالنسبة للأطفال من كلا الجنسين، فإن وسيلة الإعلام يقع عليها الدور الأول حيث أن الإعلانات الدعائية تشوق كثيراً الصغار والكبار بشكل يزيد من الرغبة في اقتناء الكتاب وقراءته عند شرائه، والدعاية لها دور كبير في الترغيب والتحبيب في المادة المعلن عنها، لاسيما لدى الصغار، لدرجة أن أغلبهم ينتظر موعد الإعلانات التجارية، بل يلجأ البعض الآخر للبحث عن الإعانات في قنوات أخرى. خاصة وأن حب التقليد لدى الأطفال شيء فطري. واقترح لو تقدم وزارة الإعلام بالتعاون مع دور النشر والمؤلفين بالإعلان عن الكتب القديمة أو الجديدة عند صدورها والتركيز على كتب الأطفال، بطريقة سهلة ومحببة ومشوقة وملفتة للنظر، يوضح من خلالها عدة نقاط مثلاً:
1ـ فائدة الكتاب والقراءة.
2ـ أهداف القراءة.
3ـ نتائج القراءة.
4ـ الإشارة إلى عنوان القصة أو الكتاب.
5ـ ذكر بعض ما تحويه القصة من أحداث مشوقة.
6ـ طرح مسابقة تحدد مثلاً:
1ـ أسئلة حول القصة؟
2ـ أو كتابة قصة عند الإنتهاء من قراءة القصة.
3ـ أو تخليص ما تم قراءته.
4ـ بعث أسماء القصص والكتب التي قرأها المتسابق.
ومن ثم تحديد جوائز منوعة تدفع الطفل لحب القراءة.. الخ. أيضاً يمكن طرح مسابقة تحدد قراءة عدة كتب أو قصص مختلفة.ز وتكون هناك جوائز للأكثر قراءة وأفضل قارئ.
5ـ إجراء مسابقة في كتابة القصة يحددها الطفل بنفسه ليعطى حرية التصرف والإبداع والتفكير، وتحدد له جائزة أو بطاقة عضوية لشراء أي لعبة أو أدوات تخصه بسعر رمزي.
6ـ تحديد اسبوع للقراءة وقد سبق من عدة سنوات أن طالبت بإقامة أسبوع للقراءة أسوة بأسبوع الشجرة وأسبوع المرور.. الخ من أسابيع.
ومكافأة أكثر قراءة بعدة كتب تناسب سنه + جائزة رمزية والإحتفال بهذا في جميع المدارس بطريقة توضح للطلاب فوائد القراءة.ز الخ. وضرورة الحرص عليها. وطرح المسابقات المختلفة في القراءة والتعبير.
أيضاً يبقى دور المدرسة والبيت، وهما عمودان أساسيان في تعويد الأطفال على حب القراءة، فعلى الوالدين تقع مسؤولية تكوين مكتبة صغيرة، وشراء الكتب التي تناسب سن كل طفل من أطفال الأسرة، وتعويد الأطفال على القراءة والإطلاع ومشاهدة الصور وقص القصص على الصغار منهم لتجذبهم، وتحببهم في القراءة ونجد بعض الأطفال بمجرد جلوس الأم لتحكي له حكاية، نجده يسبقها ليحكي لها ما قصته عليه بالأمس.
يأتي بعد ذلك دور المدرسة، فعليها يقع دور حث الطلاب والطالبات على القراءة وتحبيبهم فيها، وتخصيص حصة للقراءة الحرة، أسوة بحصة التعبير، والإهتمام بالقراءة أثناء الإذاعة المدرسية.. والإشادة بكل طالب وطالبة يحرص على القراءة أو يكون مميزاً عن غيره من حيث كثرة الإطلاع.
وأعتقد أن أطفال اليوم الذين هم رجال المستقبل، لو طبق معهم برنامج يعودهم على القراءة ويجعلها شيئاً أساسياً في حياتهم اليومية لاشك أن مستقبلهم سيكون مستقبلاً مشرقاً ومنيراً.

القراءة فعل انتاج..‏ونحن بنية استهلاك
حسين المناصرة
استاذ مشارك في كلية الآداب، جامعة الملك سعود

ثمة حقيقة مؤلمة يمكن أن نتواجه معها على مستوى مجتمعنا عموماً في مكانيته المعاصرة، إنها حقيقة غياب الموضوعة الإنتاجية في كافة البنى الإجتماعية والإقتصادية.. الخ، وهذا الغياب يجعل من واقعنا عموماً مجتمعاً استهلاكياً، بل مفرطاً في الإستهلاكية، إلى كحد الإختناق.. بحيث يجعل الفرد لدينا مترهلاً في وجوده الإجتماعي والثقاف]، مما يُغيِّب الشخصية الواعية أو الشخصية القادرة على أن تكوِّن لنفسها وعياً مصيرياً شاملاً.ز وهنا يصبح واقعنا بمجمله في مهب الريح، تعصب به رياح الآخر أنَّى شاءت، ولا حول لنا ولا قدرة غير ابتلاع المهدئات لامتصاص الصدمات، وأن نتحسر على ماضينا «كان يا ما كان في قديم الزمان»، وأن نفتخر بما كان. ونأكل ونشرب ونستهلك كل ما يُصَدَّر إلينا، وندَّعي أننا نعيش على ذمة التاريخ في الحضارة الحديثة، والغزاة يتعاطفون مع الماشية أكثر مما يتعاطفون معنا. ما الذي ننتجه على مستويات السلع الإقتصادية، والعلاقات الإجتماعية، والوعي الثقافي الإعلامي، والقضايا المصيرية المتميزة؟!!
لاشيء من هذا كله.ز وفي الوقت نفسه نعيش تخمة استهلاك المضخة المتجسدة في كرة القدم، الشكولاته، واستهلاك المضخة المبتذلة في الأغنية الساقطة والافلام الإباحية المبتذلة، واستعراضات الجسد الأنثوي في القنوات الفضائية، ومضخة آخر ما أنتجته الموضة، وأحياناً، وفي لحظات نادرة، استهلاك مضخة مصيرنا العربي المشتت المتصارع المستعمَر المنتَهك بتوالي النكبات والحروب. إن هناك غياباً حقيقياً للبرمجة التربوية الثقافية المنتِجة في المدرسة والجامعة، بل هناك محاربة للقراءة والكتاب الثقافي الجاد، في مقابل ترويج متعمد لكل ما يفقد شخصيتنا وهويتها الثقافية المصيرية، لتصبح القراءة الجادة سعلة يُستهزأ بها، ولتصبح الثقافة الجادة قيمة غير حضارية، والكتاب الجيد عبئاً.. في حين تتلخص الحضارة في الفيدو كليب الأسهل للهضم والإخراج من قراءة لابد أن تحتاج إلى قارئ منتج لإنتاج قيمها الإنسانية والجمالية!!
لماذا نحن مجتمع لايقرأ؟!
إن هذا أخطر سؤال ثقافي!! لأنه سؤال مصيري!! وجوابه ببساطة: نحن لانقرأ لأننا لا نفكر، ولانريد أن نفكر!!
الكتابة المبتذلة كتابة مقروءة في مجتمعنا.. وهنا ندرك الفرق بين توزيع الكتب الفضائحية والمجلات الرائجة، وكتابات الإثارة وبين توزيع كتاب ثقافي، أو نقدي، أو تاريخي، فمن النوع الأول قد نوزع ملايين النسخ، في حين لانريد ما نوزعه من النوع الثاني على المئات.ز لماذا نحن لانقرأ؟ لماذا نحن لانفكر؟ لماذا نحن لاننتج؟ لماذا نحن لانخطط؟
لماذا نستهلك كل مال ليس له جدوى؟
هذه الأسئلة وغيرها كلها مترادفة، وكلها تحتاج إلى إجابة واحدة!! هي: أن نبني هويتنا المصيرية!!
كان علينا مثلاً أن نقرأ تاريخ اليابان الحديث، لنتمثل شيئاً من هذا التاريخ بدل أن نُعلّم في المدارس فوائد الإستعمار في بلادنا.. وكان علينا أن نخطط لخمس مئة سنة قادمة كما تفعل الصين بدل أن نحتفل بتواريخ «داحس والغبراء».. وكان علينا أن نطبع عشرة ملايين نسخة شهرياً من كتاب مصيري ثقافي جاد ونوزعه بسعر مخفض، بدل أن تكون أسعار الكولا والشكولاته والهمبورغر مخفضة قبل أن تُشرب وتُؤكل لندفع التسعيرة مرتفعة نتيجة لأمراضها التي تحتاج إلى ميزانية خاصة.. وكان علينا أن نبث القراءة والكلمة من خلال التلفاز.. بدل أن نصرف المليارات في أغاني الفيديو كليب. ومن يرانا نغني ليل نهار، يقول عنا «لاهم دنيا ولا عذاب آخرة».. وكأننا لسنا في زمن المصيبة!! إن مصيرنا الثقافي في طريقه من انهيار إلى انهيار، بفعل غياب الكلمة الجادة المقروءة.. وغياب المؤسسات التربوية الموجهة لأجيال الأمة!!
كيف نبدأ هذا الإشكالية (إشكالية القراءة) وكيف ننتهي منها؟! إنها الجرح الذي لايندمل لكن هناك وسائل كثيرة يمكن يمكن أن نعيد من خلالها ثقة الأجيال الجديدة بواقعها للنهوض به. وبداية يجب تكريس القراءة والكتابة كفعلين انتاجيين عن طريق الحد من المجاري الإستهلاكية المبتذلة، والمتمثلة في أزمنة الرياضة الشوفينية، وأزمنة العري في القنوات الفضائية الغثة وبرامجها المعوقة..
ويجب علينا أيضاً السعي الدائم إلى توزيع الكتب الثقافية والفكرية والأدبية بأسعار تشجيعية، وتعويد طلبة المدارس تحديداً على ضرورة قراءة كتاب أو كتابين شهرياً وإدخالهما في سياق المناهج المفتوحة على الواقع والعلاقات للتعريف بالذات والصور المتوقعة أو المفروضة لبناء العلاقة مع الآخر. فالتربية الوطنية والثقافية الجادة هي التي تنتج جيلاً منتجاً واعياً، جيلاً قادراً على أن يقف في وجه الأعداء الذين يحاصرونه من كل جانب، وبالتالي نستطيع أن نسقط كرقابة ثقافية أية فضائيات إباحية، أو مجلات هابطة تتقصد استعمارنا ثقافياً، الإستعمار الذي تجاوز إلى حد كبير الإستعمار العسكري، خاصة وأن الأمية الثقافية أخطر بكثير من الأمية العسكرية، لأن الوعي الثقافي هو الأقدر على ان يعرفنا العدو من الصديق، وأن يجعلنا بالتالي نعرف كيف نبني قدراتنا الذاتية المصيرية لنتمكن من العيش بسلام وأمن ف ي هذا العالم المليء بالذئاب!!

لماذا لا نقرأ؟!
الدكتور سلطان سعد القحطاني
استاذ في معهد اللغة العربية بجامعة الملك سعود / المملكة العربية السعودية

ترددت هذه العبارة كثيراً على ألسنة بعض المثقفين في الوطن العربي خاصة في السنوات الأخيرة من هذا القرن، فكادت التهمة أن تثبت على كل ناطق بلغة الضاد بجانب تهمة أخرى ألصقت بالمثقف العربي في بداية النهذة العربية الحديثة في بداية القرن العشرين، فقد قيل أن المثقف العربي لا يقرأ إلاَّ كتب التراث ولا يعترف بالكتابات الحديثة، وما يدور في عالم اليوم، وهذا القول فيه ما فيه من التعميم الخاطىء، ونستطيع في مداخلة كهذه أن نحدد عدداً من النقاط البالغة الأهمية في التركيبة العربية، والتي بنى بعض الكتّاب آراءه على بعض منها:
1 ـ عرف عن العرب منذ جاهليتهم، أنهم أمة سماعية، أي يعتمدون على السماع أكثر من الاعتماد على القراءة، ومن هذا المنطلق اعتمد العرب على الشعر المقفى ذي الأجراس الموسيقية الايقاعية لسهولة تداولها والتغني بها وعلى أنغامها، ولذلك سمي الشعر (ديوان العرب) لأنهم يفتقدون إلى الكتابة، التي تترتب عليها القراءة، وما أن ظهرت الكتابة في القرن الثاني الهجري حتى رافقتها القراءة عند من خدمتهم ظروف التعلُّم إلى أن انهارت الحضارية العربيةالاسلامية في أواخر القرن السابع الهجري وتمزقت الأمة إلى دويلات قامت على الأنظمة القبلية، وانتشر الجهل والأمية، وكادت الأمة تخلو من التعليم إلا من قليل من الكتاتيب، وكاد مصدر الثقافة أن يقف، فلا جديد يذكر، مما جعل المثقف يدور في حلقات القديم ولا يجد جديداً يذكر، فعاد إلى الشفاهية السماعية، وكادت ملكتان من ملكات الانسان أن تتوقف، وهاتان الملكتان والتي سماهما علماء اللغة الحديثة (بالمكتسبة) حيث تتكون ملكات الانسان من أربع (الكلام، والاستماع، والكتابة والقراءة) ولن أفيض في شرح هذه الملكات فشرحها يطول. وقد خيَّم على الأمة العربية قرون طويلة وثقيلة بدأت بغزو التتار لعاصمة الدولة الاسلامية بغداد 656هـ وانتهت بنهاية الخلافة العثمانية وقيام النهضة العربية الحديثة، وهذه الحقبة الزمنية المظلمة في حياة الأمة تركت آثارها السيئة بتخلف الأمة عن ركب الحضارة التي تقوم ـ أساساً ـ على القراءة. فإذا كانت أمة هذه حالها وهذه الظروف التي مرت بها فإن الفرص لم تكن مواتية لتنمية عادة القراءة في أوساطها.
2 ـ بعد أن دخل العالم العربي مجال النهضة العربية في بداية القرن ظهرت في أوساطه طبقات مثقفة ثقافات متنوعة بين تراثية وحديثة، وأخذ الصراع الثقافي عدة سبل ومجالات بين القديم والحديث، وحتى الحديث نفسه تشعَّب إلى ثقافات غربية وعربية، واتسعت الهوة بين الطرفين فلا المحافظون على القديم مقنعون بالحديث، ولا الحديثيون مقنعون بالقديم، وبالتالي حرم كل منهم نفسه من قراءة الطرق الآخر، وادعى كل منهم لنفسه الحق والصواب، ووقف القارىء العادي على مفترق الطرق، ينظر أيهما أجدى؟! وأخذ يقرأ هؤلاء، وهؤلاء، وهذا في حد ذاته انجاز قرائي عظيم، واكتشف أن كلاً من الطرفين على خطأ. واختصرها في جملة واحدة (لا جديد بلا قديم، وليس للقديم بقاء بلا جديد) إنها معادلة تكمِّل بعضها البعض.
3 ـ مازال المثقف العربي يؤمن بوجود النخبوية الثقافية التي سادت العالم العربي منذ العشرينيات من هذا القرن، ويرى أن كل شيء ليس من صنع أيدي هذه النخبة لا يساوي شيئاً في دنيا الثقافة العامة والخاصة. وإننا إذ نقدر دور هذه النخبة التي فتحنا أعيننا على قراءة انتاجها، نرى أن التمسك بآرائها يشكل احدى العقبات في وجه الثقافة القرائية، وأول سلبية هذه الفئة، وجود الشللية الثقافية، وحصر القراءة في مجالات ضيقة النطاق لا تتعدى المجال الذي تدور فيه أفكار النخبة.
4 ـ للقراءة وجهان، قراءة موجهة، وقراءة حرَّة، وكلا القراءتين معروف، فالقراءة الموجهة تنحصر في اهتمامات القارىء، وقد تفرض عليه، كالمناهج الدراسية، وهذه تجب فيها الجاذبية وخفة الأساليب وعنصر التشويق ووضوح الهدف. وللأسف الشديد فإن شيئاً مما ذُكر لم يتوفر فيها باستثناء بعض المناهج الجامعية في بعض التخصصات الدقيقة غير المهنية، ويرى الطالب أن هذا النوع من القراءة قد فرض عليه من السلطة العلمية فما أن ينتهي من الامتحان فيه حتى يرمي به في أقرب مكان وقد يتركه في صالحة الامتحان. هذا جزء من القراءة الموجهة وهي قراءة ينقصها الشيء الكثير. أما الجزء الثاني من القراءة فهي القراءة التي تناسب الضرورة الفردية للقارىء، وللأسف الشديد فإن هذه القراءة تعتبر في حكم المفقود في العالم العربي، فأما كتاب علمي موجهة لأصحاب الاختصاص أو فئة المثقفين، أو كتاب مكرر الأفكار والآراء لا يسمن ولا يغني من جوع.
5 ـ يقف في وجه القارىء العادي المتحرر من التبعات النخبوية عقبة كبرى تمثل في ضعف الدعاية والدليل لصدور كتاب جديد اما بالعرض أو الاعلان العادي وسوء التسويق فبعض الناشرين والمسوقين ليسوا على قدر المسؤولية الثقافية والمهنية.
6 ـ لم ينشأ الجيل على تقدير قيمة الكتاب قراءةً وامتلاكاً، ولهذه النقطة في حياة الأمة العربية أسباب صرفت النشىء عن الاطلاع وتقدير قيمة الكتاب:
أولاً: جذب انتباه الشباب إلى الاستماع والمشاهدة من قبل وسائل الاعلام (إذاعة وتليفزيون).
ثانياً: بث الألعاب الرياضية من خلال هذه القنوات واهدار الوقت في أشياء مكررة.
ثالثاً: عدم التطلع إلى مستقبل ثقافي له تقديره الاجتماعي، وتستطيح الثقافة.
7 ـ ضعف التوجيه الدراسي بما يتعلق بالتفكير وتنمية القدرات وتبني المواهب ورعايتها. فالمنهج الدراسي لا يلبي رغبات الطالب وخاصةً الموهوب لمواصلة البحث والرجوع إلى المصادر والمراجع وتعبئة الزمن اليومي والأسبوعي ثم الاختيار النهائي من داخل المناهج وبالتالي الحصول على درجة النجاح.
8 ـ إن هذه النقاط وغيرها انتصبت عائقاً أمام القراءة، وجعلت البعض يفتخر بجهله وعدم اطلاعه، ولو صرف مبلغاً ضعف قيمة كتاب على صرعة من صرعات التقليد على شعره لهان عليه الأمر، ولكن لا يجب على رجال الثقافة في الوطن العربي الكبير الوقوف مكتوفي الأيدي أمام هذه المعوقات، والحلول كثثيرة وميسرة:
أولاً: تحسين حال بعض المكتبات القائمة الآن، وتسخير الطاقات المكتبية الشابة للقيام عليها، والصرف عليهاب سخاء وجلب الكتب الحديثة، ورفع بعض القيود عنها.
ثانياً: الاهتمام بشؤون الثقافة اعلامياً واجتماعياً.
ثالثاً: وجود دور ثقافية وتوزيع منتظم، يضمن للقارىء الحصول على الكتاب بأيسر الطرق.
رابعاً: إنشاء مكتبات شعبية في الأحياء والقرى والأرياف.
خامساً: تعويد الطالب منذ الدراسة الابتدائية على القراءة وحب الكتاب، وبذل جوائز للمكتبة المدرسية.
سادساً: تشجيع وحفز الاقبال على اللغة العربية والاعتزاز بها، ومعالجة الضعف اللغوي والاملائي، وتنقية المنهج من الشوائب.
وبعد فإنني من المتفائلين بيوم تنهض فيه الأمة العربية وتعتمد ـ بعد الله ـ على سواعد أبنائها ويكون لها الفخر بحاضرها، كما لها الفخر بماضيها.

مجتمع لا يقرأ أم يقرأ ثقافة الوهم والخيال
شفيق العبادي
شاعر وكاتب / المملكة العربية السعودية

سوف أجعل هذا السؤال المحوري قاعدة انطلاقي للاجابة على باقي التساؤلات الأخرى. لأني أرى أنه يشكل مفتاح الاجابة عليها. لكن قبل الولوج إلى فضائه أراني مضطراً إلى تفكيك معناه أولاً، لاشتماله على أكثر من وجه. حيث ما المقصود بلفظه القراءة هنا؟ هل على سبيل المثال يقصد بها حرفية اللفظة، أي معناها الطقوسي، أم معناها التوعوي. كذلك ما المقصود من لفظة المجتمع، هل إستيعاب كافة الشرائح الاجتماعية وحسب المفهوم الكلي للمجتمع؟ أم الاقتصار على شريحة النخبة وحسب بصفتها الفئة القادرة على التمثيل الثقافي، وامداد المجتمع بالطاقة الفكرية. عموماً سأفترض في مناقشتي للفكرة على أن المقصود هو الرأي الأول للمجتمع والقراءة، وسأترك مناقشة الرأي الثاني فيما يخص المجتمع، حري بوقفة نقدية ولو عابرة. وبناء على ذلك تستحيل أن تتحول القراءة من عادة إلى ظاهرة يمكن ملاحظة آثارها في النسيج الثقافي للمجتمع ككل.
وعلى هذا الأساس فإنني أشكك في صيغة السؤال حيث يمكننا أن نلمح مظاهر هذه القراءة من خلال الألوان الفاقعة التي تلطخ ذلك النسيج الثقافي لمجتمعاتنا العربية. بغض النظر عن عدم انسجام تلك الألوان، إذ ما يهمني هو دراسة الظاهرة بحد ذاتها دون الالتفات إلى نتائجها (أي ما يهمني هو قابلية المجتمع للقراءة). طبعاً باستيعاب مضى القراءة لكافة مظاهرها. أما إذا كان المقصود هنا هو معناها التوعوي. أي بمعنى أن تفضي بنا القراءة إلى فضاء من الوعي يخولنا أن نسرح بأبصارنا وبصائرنا لأبعد مما تحت أقدامنا. فما ظنك بمجتمع يعتمد على وجباته الثقافية على كل ما هو رخيص وسطحي. سواءً ما يتناوله عبر الوسائل الاعلامية (ثقافة الوهم ـ والخيال) أو ما يمتصه من عادات وثقافات وافدة. إذ أن الأثر الذي تتركه القراءة (الثقافة) على مجتمع ما يتوقف على نوع الغذاء الثقافي الذي يقدم لذلك المجتمع. وأريد أن استرعي الانتباه هنا إلى أنني لا أنطلق من رأي شفاهية الثقافة العربية. إذ أن لدي تحفظ على هذا الرأي. لذا فأنا أدعو إلى تعديل صيغة السؤال، والبحث عن أسباب انحراف أساليب القراءة (كما لاحظنا)، ولا أقول عدم القراءة في مجتمعنا. لاختصار الطريق، وعدم الدخول في متاهات لا تصل بنا إلى الهدف المنشود، ولعدم تكريس هذا المفهوم كواقع ما أسر أن يتشكل به وجداننا العام ليصبح بعد برهة من الزمن جزءاً من وعينا الثقافي. ونقع فريسة شراكه، ونصبح كمن سمل عينيه بيديه، أقول هذا وأنا يعتريني القلق في واقع الأمر من إلحاح بعض حملة الأقلام والاعلاميين، المستمر على العزف على هذه النقمة. دون تكليف أنفسهم البحث عن أسباب انحراف القراءة وللتأكيد أرى أنها من الكثرة بحيث لا تخفى على كل ذي لب. ومن أهم أسبابها في نظري بالاضافة إلى ما ورد في الاستطلاع هو غياب أو تغييب المحسوبين على الجانب الثقافي. إما باشتغالهم بتصفية الحسابات، أو بشيوع المجاملات الشخصية على حساب الحقيقة وظاهرة الشللية.
أو بالاستسلام لنشوة الانجازات الأولية والدخول في سُبات أبدي. أو بالغناء على أطلال الماضي واجتراره دون الالتفات لواقعنا الراهن الذي يعبر عن فصام زمني. أو بالتهويم في عوالم رومانشية لا تمت للواقع بصلة، أو بالقفز على قضايانا ومشاكلنا الخاصة واستعارة قضايا ومشاكل ليس بينها وبين واقعنا الثقافي أدنى رابطة، كل هذه الأمور وغيرها شكلت انعكاساً خطيراً على واقعنا الثقافي حيث افتقاره للقواعد التي ينتظم في سلكها وتكتمل حلقته بها. مما أدى في نهاية المطاف إلى شيوع هذه الفوضى فيما نرى، ونسمع، ونقرأ. ولتنشأ كذلك هذه الهوة بين المجتمع وبين رموزه الثقافية ليتم استبدالهم برموز أخرى، يتشكل وعيه الثقافي عن طريقهم كما رأينا في (ثقافة الوهم والخيال).

كيف نصل إلى مجتمع يقرأ؟
الدكتور صلاح محمد عبد التواب
استاذ ورئيس قسم الأدب والنقد، كلية اللغة العربية، جامعة الأزهر، مصر

ما من شك في أن حضارة أية أمة إنما تكون بقدر ما تبلغه من علوم ومعارف تستطيع بهما أن تبلغ ما تريد من مظاهر التقدم والرقي في هذه الحياة، كما يمكنها في الوقت نفسه أن تدفع عنها غوائل القهر والذل، أو ما قد يتهددها من مظاهر ظلم الانسان لأخيه الانسان في هذا الزمان
ولحكمة أرادها الله سبحانه وتعالى لكي يدرك الانسان حقيقة العلم وأهميته وأسبابه وأدواته: جعل أول آية تنزل في كتابه الحكيم على نبيه ورسوله خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد «ص» تلك الآية التي تعدّ مفتاح الحياة كلها في هذا الكون الفسيح.. ألا وهي قوله الله عز وجل {اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الانسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الانسان ما لم يعلم} «العلق، 1ـ5».
ولعلنا هنا نلحظ مدى الحرص على هذه الوسيلة العظمى في التعرف على كل أسباب الحياة بشتى مظاهرها وظواهرها ـ وهي القراءة ـ في أن جاء الحث عليها والإغراء بها في صورة التأكيد أو التكرار للفظ «اقرأ» وما ذاك إلا لإدراك فضل القراءة، وأنها هي المدخل الوحيد الذي عن طريقه يمكن للانسان أن يكتشف كل ما حوله من مظاهر الحياة والأحياء في هذا الكون الفسيح بل من خلال اطلاع الانسان ومعرفته ـ عن طريق هذه القراءة ـ يمكنه أن يعرف حقيقة نفسه هو، {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} «الذرايات، 21» كما يدرك موقعه من بين سائر المخلوقات في هذه الحياة.. وأنه هو المخلوق الذي ميزه الله عن سائر خلقه بالعلم. والإدراك والبيان: {الرحمن. علم القرآن. خلق الانسان علمه البيان} «الرحمن، 1ـ4» وهنا نلتفت إلى قوله سبحانه «علم القرآن».. أي وجّه خلقه إلى قراءة هذا الكتاب المقروء والذي سماه (القرآن) وأودعه من الأسرار، ما ستظل البشرية كلها على مر السنين في محاولات مستمرة من أجل التعرف عليها.. وصدق الله العظيم حيث يقول {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق. أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد} «فصلت، 53».. فالله سبحانه علم الانسان الذي خلقه ـ علمه هذا القرآن، ليدرك حقيقة خالقه وليدرك حقيقة نفسه، وليدرك حقيقة هذا الكون الفسيح من حوله.. ولن يكون هذا كله إلا بالمعرفة الحقة ووسيلتها الوحيدة القراءة.. ليس غير..
ومن هنا جاء هذا الكتاب المعجز الذي سماه الله تعالى بالقرآن.. ليُقرأ.. ولتعلم البشرية كلها عن طريق هذا الكتاب أولا... كيف تدرك هذا الكون كله في ماضيه وحاضره ومستقبله.. وقد جاء في الأثر: «كتاب الله تعالى فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم».. وإذن فقد جاء القرآن ليوجه (بالقراءة) إلى التعرف على على الحياة وأسبابها وما يدور فيها وما ينبغي على الانسان في مواقفه منها. وذلك كله حتى يكون جديراً بحق بخلافته لله في هذه الأرض.. ولكن هل وعى الانسان هذه الحقيقة؟.. وهل أدرك قيمة هذه الوسيلة التي تصله بكل أسباب الحياة؟ هل أدرك قيمة القراءة التي جعلها الله أول كلمة تتنزل بها آياته المحكمة في هذا القرآن العظيم؟ وحتى يكون الجواب منصفاً ومتأنياً.. أقول نعم.. لقد أدرك الانسان ـ عندما كان متعطشاً إلى العلم والمعرفة ـ أدرك قيمة القراءة، وعرف أنها وسيلته للحياة الحقة في هذه الدنيا التي يحياها.. وعرفنا فيما (قرأناه) من تاريخنا أن الأولين السابقين إلى فهم الحياة في أسمى معانيها قد عرفوا قيمة العلم والمعرفة والقراءة إلى درجة أن أسرى الحرب إذا أرادوا أن يفتدوا أنفسهم من الأسر أن يقوم الواحد منهم ـ ممن يعرفون القراءة والكتابة ـ بتعليم عشرة من أبناء المسلمين القراءة والكتابة وكان هذا هو اجتهاد الرسول «ص» في أمر الأسرى في غزوة بدر.. وكان ذلك انطلاقاً من مبدأ الأخذ بأسباب العلم انتشار المعرفة وليست القراءة والكتابة إلا المنطلق الوحيد إلى الأخذ بأسباب العلم والمعرفة. كذلك عرفنا فيما (قرأناه) كيف أن أمثال (الجاحظ) ممن أدركوا قيمة العلم والمعرفة كانوا يأخذون أنفسهم بالسبب الأوحد لهذا العلم وتلك المعرفة.. ونذكر في هذا المقام كيف أن الجاحظ كان يقوم باستئجار دكاكين الورّاقين (أصحاب الكتب) ويبيت ليله ساهراً يقرأ ويقرأ.. لأنه لا يجد من المال ما يمكّنه من شراء الكتب التي يحرص على قراءتها.. ونحن نعرف من هو الجاحظ الذي لم يمت إلا وقد ترك وراءه ما يربو على ثلاثمائة كتاب في مختلف العلوم والفنون والآداب.. وذلك من كثرة الذي قرأه ووعاه.. بل إنه لم يمت حتى يومنا هذا فمازال ملء أسماعنا وملء أبصارنا هو وأمثاله من كثرة الذي كتبوه وألّفوه..
وكان على مجتمعاتنا الحاضرة، إزاء هذا التراث الزاخر من مؤلفات الأقدمين في مختلف العلوم والفنون والآداب بجانب ما يستحدث من هذه المؤلفات.. كان عليها أن تكون امتداداً لحرص الأقدمين في الإقبال على هذه القراءة بكل الحب والشغف الذي كان عليه السابقون.. ولكن شتان بين ما كان، وما هو كائن.. لقد كان الكتاب أولاً... هو نعم الأنيس، ونعم الجليس ونعم الصاحب ونعم المرافق. وأصبح الآن الكتاب في شبه عزلة بعد أن زاحمته وسائل ووسائل.. وتعددت الأسباب والهمّ واحد. أقصد اسباب الانشغال عن الكتاب التي تخلّفت هماً ما بعده همّ. أجل لقد كثرت مجالات متعددة صرفت أو كادت عن الكتاب ولا أقول إن هذه المجالات كانت شراً خالصاً وضرراً جسيماً أحاط بالكتاب وقرائه. وإنما كانت هذه المجالات صارفة إلى حد كبير عن العناية بالكتاب وتمثلت هذه المجالات في وسائل الاعلام المرئية والمسموعة وفي انصراف الكثير إلى مشاهدة المباريات الرياضية المتنوعة على مدار العام وإلى الحفلات الترفيهية المختلفة مما خلق التوجه الواضح إلى الاهتمام بالفرق الرياضية والتمحس للنوادي والتعصب للاعبيها كما كان التحمس لكل ما هو جديد في مجال الفنون المتنوعة بدلاً من أن يكون التحمس للكتاب. ومما زاد الأمر خطورة هو انتشار الفضائيات المتعددة والمتنوعة والتي أصبحت وكأنها في سباق فيما بينها وهي تتفنن في عرض وتقديم أحسن ما عندها من برامج متنوعة وكانت دعوة لإغراء المشاهدين في تتبع هذه البرامج وتلك المنوعات ولم يكن هذا الإغراء وقفاً على الصغار دون الكبار، وكانت النتيجة المحتومة، أن لا وقت للكتاب، وكاد يضيع من القاموس مفهوم القراءة ومنطوق (القُرَّاء). ولكن مع ذلك كله هل هناك مجال لليأس أو الاستسلام لكل هذه العوامل والدواعي بأن تطغى على (نعمة) القراءة؟ والجواب: إنني لا أعتقد أن هناك شيئاً ما في هذه الدنيا يمكن أن يصرف أو يقضي على هذه الوسيلة التي تعد بمثابة (الرئة) التي نتنفس بها ونتلقى من خلالها هذا الإكسير إكسير الحياة. إنها القراءة التي أعدّت السابقين وهيأتهم وجعلتهم قادرين على بناء الحياة. والقراءة التي هي أداة الجيل الحاضر أيضاً على أن يلتحق بالسابقين في هذا المجال والحق يقال إن أبناء جيلنا الحاضر جديرون بأن يلحقوا بركب العلم والحضارة، ركب التقدم والرقي في هذا العالم الذي لا مجال فيه الآن لجاهل أو متخلف. أجل إن أبناء جيلنا الحاضر تتوافر لديهم من وسائل العلم وأسبابه وعلى رأسها القراءة ما لمي توافر للأجيال السابقة، فالكتب وما أكثرها تدعو قراءها ليتزودوا منها بكل ما هو مثلم ومفيد وبنّاء فقط لابد من مزيد من العناية (والتفرّغ) الذي يعطى لهذه القراءة حقها بما يستوجبه قدرها. ولابد لأبناء الجيل الحاضر وبخاصة الصغار منهم أن يجدوا من التشجيع من أهليهم ما يجعلهم يقبلون على القراءة وتخصيص وقت كاف لها يتناسب مع ظروف حياتهم وبيئتهم وحتى لا تقضي الوسائل الأخرى بمشاغلها وشواغلها على كل اهتماماته في هذه الحياة. ولابد لأبناء جيلنا الحاضر في مدارسهم ومعاهدهم من أن يجدوا في معلميهم وموجهيهم ما يحببهم ويغريهم بالقراءة وأن تعنى مكتبات المدارس والمعاهد والجامعات بجلب الكتب المتنوعة التي تتناول كل ما يهم المجتمع في مجالات العلوم والفنون والآداب. ومن ثم يجد كل قارىء في كتابه طِلْبته بما يشبع نهمه ويروي ظمأنه ويعمّق فكره ويوسّع مداركه. كذلك تجب العناية بإقامة المسابقات المتنوعة بين شباب الأمة وعُدّة الأوطان، حيث يقوم هؤلاء الشباب بإعداد البحوث في مختلف المجالات.. وذلك يؤدي بطبيعة الحال إلى الإقبال على المراجع والمصادر وقراءة أهم ما فيها من ثمار الأفكار وحصيلة العقول التي يقوم عليها بنيان الأمم وأركان المجتمعات وهناك رسالة أيضاً يمكن أن تقوم بها وسائل الاعلام وبخاصة (الاعلام المرئي).. وهي أن تفرد مساحة كافية من برامجها للتعريف بأهمية القراءة في حياة المجتمع، وبالتالي تعمل على التعريف بكل جديد من الكتب والأبحاث إضافة ما تكشف عنه من خبايا التراث..
وهناك عناية الدولة التي تشرف على هذا كله. والتي يمكن أن تقوم بجانب ما تقوم به من خدمات لمجتمعاتها أن تقدم مزيداً من الدعم للكتابات، بأن تعمل على دعم ثمنه تماماً كما تدعم الغذاء، فغذاء العقل والروح لا يقل أهمية عن غذاء الأجسام. ولاشك في أن الحريص على القراءة إذا وجد حصوله على الكتاب أمر ميسور.. لاشك في أن ذلك سيشجعه ويعينه على تحقيق رغبته وشدة إقباله على الكتاب، ويضيف عضواً جديداً وجديراً بأن يلتحق بركب القارئين..

الإفتقار إلى الإحساس بأهمية القراءة
عبد العزيز علي آل عبد العال
كاتب/ المملكة العربية السعودية

إن أبرز حدث في حياة الانسان بعد آلاف من السنين قضاها على الأرض محاولاً توثيق تجاربه هو اختراعه الحروف الأبجدية بلغاتها المختلفة المسمارية والهيروغليفية والعربية واللاتينية.. الخ. ثم الكتابة بها. فقد استعاض عنه سليقة الحفظ بالتوصل إلى لغة مكتوبة تعينه على التواصل والتفاهم عن قرب وعن بعد مع الاخر، إذ كان قبل ذلك العهد يستخدم الذاكرة مستودعاً يخزن فيها كل ما يحصل عليه من معلومات وأفكار وتجارب، ينتهي أثرها بموته أو نسيانه، فأصبحت الكتابة الطريق الواضح للإنطلاق إلى تدوين الحضارة الإنسانية.
وفي مسيرة تطوير هذه الكتابة التي بدأها بالخربشة على جدران المعابد والكهوب والبيوت والمقابر والصروح ثم النقش والرسم في الطين والحجارة والخشب وقطع الأديم.. توصل إلى صناعة الورق، ثم ما لبث أن توصل وتأهل إلى المزيد من الإتقان في تجويد هذه الصناعة واستغلالها في تدوين إنجازاته العلمية والفكرية والتاريخية وخبراته المتنوعة في شؤون الحياة على مختلف الأصعدة. وكان اختراع فن الطباعة نقطة تحول أخرى في حياة الإنسان، ساهمت في انتشار الكتابة بين الناس، وهكذا برز الكتاب.
بالنسبة لمجتمعنا لعل أهم ما ينقصه هو الثقافة الهادفة المتمثلة في قراءة ما يحتاجه الإنسان ليضيء طريقه بالعلم والمعرفة كي يدرأ عنه كل ما يحيط به من خطر ويبني مجتمعه على اساس ثابت ليساهم بذلك في نهضة وطنه، ففي مجتمعاتنا تتدنى مستويات القراءة وذلك راجع في ظني لأسباب أربعة هي:
1ـ التنشئة وحب القراءة: يركز الإسلام في المسلمين قيماً فاضلة ونبيلة تقوي من عزتهم وتأخذ بأيديهم نحو الطريق الأمثل للتخلص من كل العقبات التي تواجههم في مسيرتهم دنياً وآخرة، وذلك بتأصيل العلم النافع في الأجيال التي تتعاقب بغرس حب القراءة عندهم، المسألة التي يؤكد عليها القرآن الكريم في كثير من الآيات. قال تعالى: {اقرأ بسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، إقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم}«العلق/1-4» وفيýآية أخرى: {إقرأ كتابك كفى بنفسك واليوم عليك حسيبا}«الإسراء‏ـ14». في هاتين الآيتين أمر صريح من قبل الله سبحانه لعباده بتبني القراءة والمداومة عليها، ليس هذا فحسب بل المسائلة والمدارسة في القراءةن قال تعالى: {فاسئل الذين يقرأون الكتاب من قبلك} «الإسراء/71». وأكد الرسول الأكرم والأئمة الأطهار عليهم الصلاة والسلام على ضرورة التعلم بمعناه الشامل.. القراءة والكتابة والبحث.. إلخ، لما في ذلك من أهمية في توجيه الناشئة إلى الطريق السليم الذي حث عليه القرآن، قال رسول الله «ص»: «طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة» (بحار الأنوار ج1 ص177). بالخصوص في الفترة المبكرة من عمر الإنسان لأنه سوف يعتاد على ما ينشأ عليه، فالطفل أرض خصبة تقبل ما ألقي فيها لأنها مؤهلة لكل غرس صالحاً كان أم فاسداً. ففي وصية للإمام علي (ع) يوصي بها ولده الإمام الحسن (ع) يقول فيها: «إنما قلب الحدث كالأرض الخالية ما ألقي فيها من شيء قبلته، فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك ويشتغل لبك» (نهج البلاغة كتاب31). وقال الشاعر:
وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوده أبوه
ولكن رغم هذه الوصايا القرآنية والأحاديث النبوية وكذلك وصايا الأئمة، يرى الملاحظ المتأمل أن الكثير من أبناء المجتمع يقتصر في تعليم الناشئة الصلاة وبعض العارف افسلامية، وادخالهم المدارس، دون تعويدهم على المطالعة والقراءة والبحث الهادف. وهذا من شأنه إضعاف روح التربية السليمة عندهم، لذلك يخرج للمجتمع جيلاً غير محصن أو محمي ثقافياً وغير قادر على مواجهة ما يعترضه من مواقف أو هزات قد تغير من اتجاهه وتسمم كثيراً من افكاره.
2ـ التعود على القراءة: من صفات الإنسان أنه صاحب طبع، يغلب طبعه تطبعه، فأي شيء طبع عليه ليس من السهل أن يتركه أو يعدل عنه إلى غيره، قال الإمام علي (ع): كل شيء يستطاع إلا نقل الطباع (ميزان الحكمة ج7 ص125). لذا يرَّغب الإسلام بتقمص العادات الحسنة التي تنمي فكر الإنسان وتوسع مداركه وتعزز مكانته، وتعطيه اندفاعه نحو التقدم والحصول على المزيد من المراتب العليا لبناء مستقبل مشرق زاهر، يقول الإمام علي (ع): «تخير لنفسك من كل خلق أحسنه فإن الخي عادة، وتجنب كل خلق أسوأه، وجاهد نفسك على تجنبه فإن الشر لجاجة» (ميزان الحكمة ج7 ص123). ومن هذه الأخلاق الحسنة عادة القراءة، لأن الإنسان لو التزم منهجاً بتخصيص وقتاً دائماً لقراءة والمطالعة لكان من السهل عليه أن يضمن لنفسه المواصلة ولو تأملنا أكثر المفكرين والكتاب في العالم أجمع وفي العالم العربي بالخصوص لوجدناهم يلزمون أنفسهم بعادة يومية يمارسون خلالها القراءة والكتابة، لذا نراهم في غطاء مستمر حتى لو تقدم بهم العمر وطال بهم الزمن، وربما تكون البداية شاقة ولكن سرعان ما يزول كل عناء ومشقة بالإندماج والغرف ثم الإنتهال من غير عالم العلم والمعرفة.
3ـ تنوع مصادر التلقي: في الزمن الماضي كان الكتاب من أهم الوسائل التي يتلقى بها الإنسان علومه ويأخذ منه معارفه، وزاد من مكانته اختراع الطباعة، ثم ابتدأت مصادر التلقي خلال هذا القرن تتنوع، حيث تم اختراع الراديو والتلفزيون والكمبيوتر، الأمر الذي أتاح للإنسان الخيار الواسع والحرية التامة في تلقي معلوماته. حيث وصف العالم في هذا العصر بأنه أصبح كالقرية الصغيرة لإمكانية حصول الإنسان على مايريد وهو جالس في بيته، وبهذا ظهر جيل يعتمد في بناء ثقافته على التلقي من مصادر متعددةن لذا انحرف قسم كبير من الناس عن القراءة واتجه إلى الإستماع إما من الراديو أو اشرطة الكاسيت أو مشاهدة الفضائيات وما تبثه من برامج متنوعة، وبدأت القراءة تأخذ حيزاً صغيراً من حياته يعتمد عليها فيما تلتقطه عيناه من عناوين عن طريق المصادفة، أو في حال الإحتياج إليها في الأمور الضرورية، كقراءة اللوائح القانونية مثل العقود، أو أمور تختص بمجال العمل. وبذلك أخذ وميض القراءة يخبو شيئاً فشيئاً، وهذا ما زاد في ضعف التحصيل الثقافي الأصيل الذي ينتقيه الإنسان وفق توجيه ووعي وحينما خرج الإنسان عن ثقافته الأصيلة، وتبنى ثقافة مشتتة غير مبنية على أساس سليم الأمر الذي خلق جيلاً ليس له القدرة على انتقاء الصالح وترك الرديء. تعود الناس على التلقي ومالوا إلى السكون والدعة.
4ـ ضغط ظروف الحياة: لعل أبرز ما يلاحظ في القرنين الأخيرين حدوث نقلة كبرى في حياة الإنسان مع التطور الذي وصل إليه على كافة الأصعدة، حيث سهل عليه الطريق ذلك له الصعاب، ومن جانب آخر أحدث له مشاكل وعقد أموراً، فبمقدار التطور الذي وصل إليه زاد من ضغط ظروف الحياة عليه وبالخصوص في مجتمعاتنا العربية، إذ يجعلهم يلهثون وراء لقمة العيش وينخرطون في مشاغل الحياة، فيستهلك الإنسان الإنسان جل وقته في الأعمال المضنية التي لاتتيح له فرصة التفرغ لذاته أو لمن حوله، وإن كان ذا خبرة أو صاحب مؤهل علمي أو كفاءة عالية لايجد عملاً يلائم تخصصه أو يقاربه، الأمر الذي يدفع الإنسان إلى حالة الإحباط. الأنظمة لازالت تحاصر ثقافة الإنسان وتتدخل في كل صغيرة وكبيرة عبر الرقابة، ثم تشغله بمسائل هابطة ووضيعة في الفن والرياضة، وبذكل تكبح جماح تطلع الإنسان إلى مستقبل أفضل، لذا يكون هم الإنسان أن يعيش مستور الحال ويكف يديه عن الناس. وفي معترك هذه الظروف يبتعد الإنسان عن مصدر الثقافة الأول.. القراءة.

لماذا نحن أمة لم تعد تقرأ؟
الدكتور علي أحمد طلب
استاذ النحو والصرف بكلية اللغة العربية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية/ من مصر

إن الإنصاف لأمتنا العربية الإسلامية يقتضي تعديل السؤال ليكون هكذا: لماذا نحن أمة لم تعد تقرأ؟
لأن العرب كانوا أمة أمية، فلماذا شرفهم الله بإنزال القرآن بلغتهم على رجل منهم، وكان أول لفظ نزل من القرآن الكريم هو «إقرأ» الذي هو أمر بالقراءة التي هي مفتاح العلم، وقد ذكر هذا الفعل مرتين في الآيات الخمس التي بدأ بها نزول القرآن على خاتم الرسل نبينا محمد «ص» واستجابة لهدى القرآن، وتوجيهات النبي الكريم انتشرت القراءة في الأمة الأمية.
وأثمرت القراءة علوماً نافعة في كل جوانب الحياة، ولم يقف العرب عندما كتب بلغتهم وإنما اتسع مجال القراءة والدراسة ليشمل كثيراً مما كتب بلغات غير العرب عن طريق الترجمة. وظلت أمتنا القارئة رائدة في مجال العلم والتعليم والتأليف إلى أن ضعف المسلمون نتيجة لتفكك رابطتهم، وعدم اعتصامهم بحبل ربهم، وترك الإهتداء بما شرع الله لهم فشاعت بينهم الأمية من جديد، وقل الاهتمام بشأن العلم فأصبحنا أمة لم تعد تقرأ!!
وارتفاع نسبة الأمية في أمتنا سبب مهم من أسباب عدم القراءة، ويضاف إلى هذه الأمية بمعناها الدارج وهو عدم القراءة والكتابة، نوع آخر من الأمية هو أمية المثقفين الذين نجد معظمهم لايخرج اهتمامه الثقافي عن حدود تخصصه أو وظيفته. وهذا القصور الثقافي يقلل من إقبالهم على القراءة. وقد وجدت في حياتنا مستحدثات واهتمامات تغتال معظم أوقات فراغنا كبرامج التلفاز ومباريات كرة القدم التي تستحوذ على اهتمام كثير من المثقفين فلا يجدون وقتاً للقراءة، ومعظم هؤلاء لايهتمون في الصحف اليومية إلا بأخبار كرة القدم، وبعضهم لايقرأ إلا الجرائد الرياضية. ونتيجة لغياب الوعي بأهمية القراءة اختفت من بيوتنا مكتبة الأسرة، التي لم تعد تدخل ضمن خطة تأثيث منازلنا، ولم يعد الحديث بين أفراد الأسرة، أو بينهم وبين زوارهم بدور حول الجدي مما قرأه أحدهم. وسيطرة الجانب المادي على الحضارة الجديدة التي استيقظنا على ضوئها، وأغرمنا بتقليدها جعلت كثيراًممن يعملون في تجارة الكتب وطباعتها وتوزيعها يهجرون هذه المهنة إلى مهن أخرى أكثر ربحاً، فقلت المكتباتن وارتفع ثمن الكتاب. والعجيب أننا نقلد الأجانب في كثير من الأمور التي يأباها ديننا، ولا ترضاها تقاليدنا، ولا نقلدهم في الأمور الإيجابية التي يدعو إليها ديننا. وكم كان يؤلمني أن أرى الأجانب السائحين ينتهزون أي فرصة ليخرجوا كتاباً يقرأونه حتى وهم وقوف أمام نافذة حجز تذاكر السفر، وفي القطارات يشغلون ساعات السفر الطويلة بالقراءة المفيدة وكثير من المثقفين منا يزعجونهم بتبادل الأحاديث التافهة بأصوات مرتفعة!! ووسائل الإعلام في أمتنا لاتعطي القراءة ما تستحقه من الإهتمام فمن النادر أن تجد برنامجاً يعرف بالجديد من الكتب، أو مسابقات تشجع على القراءة!!

القراءة.. لماذا وكيف
غازي شبيب الشبيب
كاتب/ المملكة العربية السعودية

إن الله سبحانه وتعالى حينما خلق الإنسان، لم يخلقه عالماً، وإنما فاقداً كل علم ومعرفة. لكنه عز وجل وفر له مصادر المعرفة ووسائل العلم، قال الباري عز وجل‏{والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لاتعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون} ـ78 / النحل‏ـ والعلم يأتي عن طريق الإكتساب، ويكون بواسطة الوسائل التي وفرها الله للإنسان، فالحواس التي ذكرتها الآية المباركة ـ على سبيل المثال لا الحصر‏ـ أدوات مهمة في عملية وحركية العلم والمعرفة. والقراءة من أوضح وأجلى مصاديق اكتساب المعرفة وهي تستدعي تكلفة وجهد وتتطلب أن يحرك الإنسان مجموعة من الحواس، من أهمها (البصر).. أو (اللمس) كما هو الحال في قراءة المكفوفين، وسابقاً‏لم يكن المكفوف يستطيع القراءة ولكن العقل البشري اخترع طريقة اللمس لكي لايغلق باب المعرفة على الكفيف، وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على الميزة الكبيرة للقراءة وللقارئ وما لها من أهمية في رفع مستوى الوعي الخاص والوعي العام لكل مجتمع وكل فرد. وقد حث الإسلام على القراءة والمعرفة وطلب العلم وشجع على ذلك في وقت لم يكن العرب يطعون ذلك أي قيمة، وحينما نزلت أول آية في كتاب الله (اقرأ) لم تكن لهذه الميزة قيمة عند العرب في ذلك الوقت، فلم يكن في قبيلة قريش إلا سبعة عشر يقرؤن ويكتبون. يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) في نهج البلاغة ـ خطبة 33.. (إن الله بعث محمداً (ص) وليس أحد من العرب يقرأ كتاباً) وتكررت هذه العبارة في خطبة أخرى أيضاً. لقد كان الرسول (ص) ورسالته أول من رفع ستار محو الأمية، وأخذ بنشر الآيات والأحاديث التي تحث على القراءة والعلم في كل مكان وزمان، بل وحتى في المعارك والحروب، كان يفرض على الأسرى المتعلمين تعليم القراءة والكتابة لغير المتعلمين من المسلمين. ولو ألقينا نظرة سريعة إلى ما تقوم به المؤسسات الرسمية العالمية كالأمم المتحدة، وكذلك الدول في جميع أنحاء العالم في برامج محو الأمية لعلمنا الأهمية الكبرى للتعليم، كما أن برنامج ومشروع محو الأمية الذي تسعى كل دول العالم لجعله من أهم خططها المستقبلية لشعوبها لايعني في حقيقته جعل كل الناس أطباء ومهندسي وعلماء أفذاذ، وإنما الأمية في معناها العام هو عدم معرفة القراءة والكتابة وإن كانت قد تعدت في زماننا هذا إلى معان ابعد وأعمق من هذا المعنى.. وربما يجيء زمان (أو جاء) تكون فيه الأمية بمعنى عدم معرفة لغة الحاسب الآلي أو (الحاسوب).. فالقراءة في هذا الوقت وسيلة ممكنة لكل فرد وربما أصبحت حاجة ماسة لكل شخص.. ولكن لماذا جيل اليوم وشباب اليوم لايقرأون؟ ولماذا نحن مجتمع لايقرأ؟ والجواب يستدعي الكلام في جانبين..
أولاً: الجانب النفسي.. حيث الدواعي الداخلية والمنطلقات النفسانية عند الإنسان هي التي تدفعه إلى الأمام، أو تعيقه وتجره إلى الخلف والتراجع. فكلما صرخ في داخل النفس داعي التقدم والتطلع والطموح تراه يغوص ويتعمق في بحر المعرفة بالبحث والقراءة.. وكلما شعر بالجوع الثقافي والحاجة إلى المعلومات جال في بساتين الكتب يقتطف منها ما يشاء. يقول الخواجه الطوسي في رسالته آداب المتعلمين: كان محمد بن الحسن (يعني الشيخ الطوس) إذا سهر الليالي وانحلت فه المشكلات يقول: أين ابناء الملوك من هذه اللذات. وما من عالم أو زعيم أو أديب وصل إلى ما وصل إليه إلا وكان قارءاً باحثاً يأنس بالكتاب، وقديماً قال بعض الحكماء «الكتاب جليس بلا مؤونة». قال الجاحظ في الكتاب: (نعم الأنيس ساعة الوحدة). فإذا انعدم الطموح ومات التطلع في النفوس، وحل مكانه حب الراحة والدعة والكسل فعند ذلك لن تجد مجتمعاً قارئاً، بل ولا حتى فرداً واحداً يهتم بالقراءة.
ثانياً: الجانب البيئي الإجتماعي. فالبيئة ليست ضرورة للنبات والزرع والكائنات الحية فقط، بل هي ضرورة ملحة لمن أراد أن يصنع جيلاً قارئاً، فعدم توفير المناخ المساعد للقراءة عند الطالب والشاب في الأسرة والمجتمع، يدفع هذا المجموع للبحث عن مناخات بديلة ربما كانت من الخطورة بحيث تشكل قناعات ثقافية أو سلوكية من الصعب تغييرها أو قلعها. فعامل المناخ أو البيئة له دور كبير ومؤثر حتى على الجانب النفسي، فإذا كان المحيط الذي يحيط بالأبناء متأثراً بالجو العلمي فإن التركيبة النفسية للأبناء تتأثر بذلك، كما أن المحيط الإجتماعي الذي يزخر بالزيارات والمحاورات والمحادثات والمواقف والصداقات له تأثيره أيضاً، فالمدرسة جزء من المناخ والمنزل جزء من المناخ والمحيط الإجتماعي كذلك. وهنا ينبغي أن لانغفل وسائل الإعلام المرئية والمسموعة فإنها قد أخذت الكثير من وعينا ومن وقتنا ففيýاستطلاع أجرته صحيفة الحياة تحت عنوان ـ الشباب العربي والموسيقى والغناء‏ـ في كل من لبنان والمملكة العربية السعودية ومصر والمغرب وسورية، تبين أن المتوسط العام للوقت المخصص للإستماع للموسيقى والغناء عند الشباب العربي المعاصر يومياً هو ساعتان، وأن متوسط الوقت المخصص للمطالعة عند الشباب العربي بلغ ساعة و39 دقيقة يومياً‏وتعليقاً‏على هذه النتيجة تقول الصحيفة.. ويعود ذلك إلى أسباب عدة أبرزها سهولة الدخول إلى فضاء الموسيقى قياساً بصعوبة الدخول إلى فضاء الكتاب، فالإستماع إلى الموسيقى والغناء لايتطلب مجهوداً ذهنياً كالمجهود الذهني الذي تطلبه عملية القراءة، ذلك أن الإستماع إلى ساعة من الأغاني لايرهق الذهن كما تفعل ساعة من المطالعة فإذا كانت النتيجة بين سماع الموسيقى والمطالعة هي هذه المحصلة، فكيف يا ترى سوف تكون النتيجة والمحصلة لو تمت المقارنة بين مشاهدة القنوات الفضائية والمطالعة!!

متى تكون القراءة من مقومات النهضة الثقافية؟
فيصل العوامي
كاتب/ المملكة العربي السعودية

هل المطالعات الثقافية ـ القراءة ـ تعتبر المؤشر الأبرز لنمو الحالة المعرفية في المجتمعات؟ وبالتالي فإن انعدم تلكم المطالعات يصبح معوّقاً من معوّقات النهضة الثقافية؟
كل مجتمع تبعاً لبيئته الإجتماعية وموروثاته التاريخية، لديه أدوات معرفية خاصة يستمد منها ثقافته، فكما يوجد المجتمع الذي يقتصر على الكتاب والصحيفة، فإنه يوجد أياً من يتغافل عن الكتاب ويعمتد الكمومبيوتر وسيلة معرفية، وكذلك المجتمع الذي اصبح المنبر والمسجد فيه من أبلغ الادوات المعرفية المؤثرة.. وما إلى ذلك. لهذا فإن سياسة جمع الإحصاءات والمقارنة على اساسها بين مجتمع وآخر أسلوب غير دقيق، كالمقارنة التي يتعمد الكثير إيرادها بين المجتمعات الغربية والعربية، حيث أن الأولى تقرأ بنسبة 50-70% والثانية بنسبة 2%، لأنها لم تنظر إلى الخصوصيات المعرفية للأخرى أو لبعضها، بحيث لو عكست المقارنة لربما اتضح أن الثانية افضل. نحن من تلك المجتمعات التي بزغ فيها نجم المنبر والمسجد، حتى أصبح من أكثر الأدوات الثقافة فاعلية، لإستناده إلى قدسية المكان والزمان، لدرجة ساهم في إشاعة بل تركيز الثقافة الفقهية والتاريخية والنصية ‏ـ ثقافة القرآن والحديث ـ لهذا فإن المنبر يُعد منافساً أساسياً للكتاب، وإن لم يكن الأخير ديفاً له. من هذا المنطلق فإننا إذا أردنا أن نحلل دور الكتاب والقراءة في سياق النهضة ـ لامجرداً عنهاـ، فإننا ينبغي أن نحدد قبل كل شيء موقع القراءة في ذلك السياق، لا بما هي عمل مجرد يُرجى منه فائدة معرفية، وفرق شاسع بين الموردين.. وعلى المورد الأول فإن القراءة تجد لها مزاحماً أساسياً ـ وليس فرعياً ـ يؤدي مؤدّاها، وعليه فإن دراستنا لها على اعتبار انها أداة من بين أدوات لها فاعلية تذكر، لا لأنها الأداة المتفرّدة الواقعة في طريق البعث الثقافي ـ مع ملاحظة القيد والخصوصية السابقين ـ لذا فإنه لم عُمم المنطلطق واستوعب كافة الأدوات المعرفية، لكان أشمل وأدق في تشخيص الخلل المعرفي، لكن لا مناصل من الجري وراء التخصيص المقترح، والذي بإمكاننا أن نشخص مثبطاته في أمور عدة.. منها.. دور الخطاب العم في الإمداد الثقافي. فبالاضافة إلى أنه أقلّ مؤونة، هناك من أبناء المجتمع من يتعبره زاداً ثقافياً يُستغنى به عن غيره، أي أنه يجد في المادة المنبرية وغيرها التي يتضمنها الخطاب الثقافي العام غذاءً ثقافياً كافياً يسد به حاجته الضرورية من المعرفة، والتي يمكن أن يحصرها فمجرد الاطلاع على تعاليم الدين المهمة والتحصن ضد الأفكار المشبوهة.. وهي مسائل يتشبع بها المنبر بل تعد من أهم رسائله الثقافية. فمن يفهم الخطاب العام بهذا الفهم ـ خصوصاً الملازمون ـ، لا يجد مبرراً يصنف ضمن مرتبة الضرورة يدفعه للتعاطي مع الكتاب، ولصرف قسط كبير من فرصه الزمنية لقراءة دراسة علمية، فهو ان أراد التاريخ تسنى له، أو الفقه فهو كذلك، أو مسائل العقيدة وغيرها فهي مادة ذلك الخطاب، فلماذا إذاً ارهاق الذات في البحث والاستقصاء، خاصة انه يسمع ذلك ممن يثق به ويطمئن إليه، وهذا ما قد يفقده في الكتاب في بعض الأحيان.
ـ ومنها.. تدني الطموح العلمي.. إذ اننا لو قمنا بمسح اجتماعي شامل لمعرفة مستويات الطموح ومفرداته في محيطاتنا الاجتماعية، فيا ترى إلى ماذا سنتوصل..؟ لاشك في أننا لن نجد الغالبية تطمح لتسلق مناصب قيادية كبرى، أو للمساهمة الجادة في صناعة الحياة وما أشبه ذلك مما يستلزم بطبيعته اهتماماً علمياً كافياً، ويشكل دافعاً للانسان كي يقرأ ويطلع ويقتني الكتب.. بالطبع لن نتوصل إلى هذه النتيجة، وإنما غاية ما نتوصل إليه هو الاقتناع بالدور المحدود في الحياة والذي لا يعدو الدور الوظيفي والمعيشي. ان الهم الحياتي الأهم عند الغالبية الساحقة من أبناء مجتمعنا انما هو اعداد وتهيئة حياة كريمة لأنفسهم ولعوائلهم، بالقدر الذي لا يفرض عليهم الاحتياج إلى الغير، أو أن يكونوا دونهم في المستوى، وهذا لا يتطلب منهم سوى الاسترزاق.. ولهذا فإن مقياس النجاح والفشل عندهم لا يتعدى هذه الأمور.. فالناجح هو الذي يملك داراً طيبة تلمّه وعائلته، ووسيلة جيدة للتنقل، ورصيداً يستر به حاجته اليومية من الأكل والشرب والأسفار، أما من لم تحالفه الحياة لتوفير ذلك فإنه لن يصنف إلا مع الفاشلين. فإذا كان هذا هو الطموح الاجتماعي الغالب، فما هو وجه الحاجة إلى الكتاب.. إنما يُحتاج إليه إذا كان واقعاً في طريق تحقيق هدف ما، مثل ذلك الهدف لا يمكن أن يقع الكتاب في طريق تحقيقه، إذ ليست هناك ثمة حاجة علمية وانما كلها حاجات روتينية متعارفة. انما يكون الكتاب ضرورة حياتية، إذا كانت هناك طموحات رفيعة لابد من الاستعانة بالعلم والمعرفة فيها، أما إذا انعدمت فإن الحاجة إلى الكتاب ستنعدم أيضاً.. نعم يمكن أن يكون أداة للتسلية ولسد الفراغ في بعض الحالات الشاذة.
ـ ومنها.. غياب المحفّز. فإنما يضطر الانسان للمطالعة ويتشجع إليها، إذا كان أغلب من حواليه من أصحاب الهم الثقافي، لأنه حينئذ سيحاول أن يتميز بينهم، أو لا أقل يحافظ على درجة من التساوي معهم ولن يجد وسيلة لذلك سوى الكتاب.. أما إذا كان أغلب المرافقين له والذين يتعامل معهم في مختلف مرافق المجتمع، من البيت إلى المدرسة والعمل والمحافل العامة، إذا كان أغلب هؤلاء من غير القرّاء ـ ما عدا القلّة القليلة ـ، فإنه تبعاً لذلك لن يجد نفسه مضطراً للقراءة وهذا هو حالنا تماماً، فالأجواء العامة ليست مشجعة على القراءة، لأنها اما مكتفية بالخطاب العام، أو منشغلة بهموم المعاش ومكتفية بنتائجها.. وبالتالي فإنها أجواء غير قارئة، فلا يمكن أن تكون محفزاً على القراءة.
فهذه المسائل الثلاث من أبرز المثبطات التي تحجب الانسان عن الكتاب، لكننا إذا أردنا أن نتجاوزها، ونسعى لايجاد صداقة طيبة بين الانسان والكتاب، فعلينا أن نضع عدة من المقدمات الفنية والاجتماعية في اعتبارنا.
1 ـ ان نكتب للمجتمع لا للذات. في بعض الأحيان يخون القلم كاتبه، فيقوده للكتاب لنفسه لا للمجتمع، وذلك حين يدفعه لاسقاط همومه الثقافية والنفسية على المجتمع، متناسياً القضايا العالقة والحقيقية لمجتمعه.. وذلك من الطبيعي أن يكون للمثقف هموم ومشاكل تواكب مسيرته الثقافية، إلا أنها في بعض الأحيان تسيطر عليه فينظر للحياة من خلالها، فلا يكتب إلا فيها ولا ينظر للأمور إلا من خلالها، في حين انها قد تكون بعيدة عن هموم الناس ومشاكلهم.. وحيث لا رابط بين الناس وبينها، فإن الاندفاع نحوها سيقل لا محالة. بينما لو كان ما يكتب معبراً عن مشاكل المجتمع الحقيقية، وناظراً إلى طلبيعة اهتماماتهم، فإن التفاعل معها سيزداد.. وملاحظة سريعة لحركة الكتاب في مجتمعاتنا تثبت ذلك، فكلما كان الكتاب أقرب إلى هموم الناس وقضاياهم كلما كانت نسبة توزيعه أكبر، بل ان الشراء لا يقتصر على محترفي القراءة أو الراغبين إليها، وإنما حث غيرهم ممن لا عهد لهم بكتاب يسعون لاقتنائه وتصفحه ان أمكن، وذلك لاشك أفضل من تجاهله.
2 ـ اعتماد الخفّة الكمية والنوعية.
ففي هذه المرحلة الزمنية حيث مازال المجتمع بعيداً عن الهم الثقافي، لا يمكننا أن نطلب من المجتمع أن يقرأ بصورة مركزة، فهذا هداف أسطوري، لأن قراءة كهذه ـ سواء عندنا أو عند غيرنا من المجتمعات ـ تقتصر على طبقة معينة وعادة ما تكون قليلة، لكننا إذا أردنا أن يشاركنا المجتمع، فلنكتب ما يمكن أن يقرؤه من الكتابات الخفيفة التي يمكن أن يتسهويه أو تتناسب مع فرصه الزمنية. وذلك بأن يكون مثيراً في موضوعاته من جهة تركيزه على القضايا الملحة سواء الاجتماعية أو التاريخية أو الثقافية، وأن يكون خفيفاً في الوزن، وسهل العبارة.. وذلك كله كيلا يجد القارىء صعوبة في مطالعته لا عقلية ولا زمنية. وأعتقد أن أغلب الكتب التي قرأت في مجتمعاتنا، وأثرت في أكبر نسبة منهم، هي التي وضعت في اعتبارها هذه الملاحظات الفنية، أما غيرها فقد بقي حبيس الرفوف.
3 ـ نزول المثقف إلى الساحة الاجتماعية. هذه مسألة قد يتصور البعض انها ليست ذات أهمية في المقام، لكنها في حقيقة الأمر من أفضل الأدوات المنشطة للقراءة، وهي نزول أصحاب الهم الثقافي في المجتمع، وتعمدّهم التحدث عن القراءة والكتاب، ومحاولة نقل الأفكار والمعلومات الجاذبة مع نسبتها إلى مصادرها.. فإن ذلك يمكن أن يبعث هماً لدى البعض فيتشجع للقراءة، كما يحدث تماماً للخطيب حين ينوّه إلى أسماء الكتب التي يتحدث عنها أو ينقل منها، ما يثير فضول المستمعين فيندفع بعضهم للسؤال عنها وقراءتها.
ثم ان وجود المثقف في الساحة الاجتماعية يمكن أن يحوله إلى قدوة يراقبها الناس باحترام ويسعوا إلى تقليدها، خاصة ان قربه سوف ينضج أفكاره الاجتماعية ويبدعه عن النظرية المجردة التي ينتقده الكثير عليها بدعوى انها خلاف الواقع.. فإذا طبّع المثقف علاقته مع مجتمعه فسوف يُتخذ مثالاً: أما إذا استمر في الهروب عن الساحة الاجتماعية لمبررات لا يعلم مصداقيتها، فإنه في بادىء الأمر سينعكس عليه نفسه حيث سينظر إليه على أنه انسان معقد ومبتلى بالكبر، وفي النهاية فإن سلوكيات المثقف ستصبح معرضاً للتقزز والسخرية ومن أبرزها القراءة.
فهذه المقدمات الثلاث إذا ما روعيت، فإنها لاشك ستؤثر أثراً ايجابياً على الحالة الثقافية في مجتمعاتنا، وبالذات ما يتصل منها بإشكالية تجاهل الكتاب..
وفي خاتمة هذا المطاف يتوجب علينا التنويه إلى أن القراءة الصحيحة هي التي تؤدي بصاحبها إلى بلوغ مستوى النضج الثقافي، لا مجرد التراكم المعلوماتي، وذلك لا يتسنى للقارىء إلا إذا أضاف لقراءته قسطاً من التجارب الثقافية والاجتماعية، وتتملذ على أيدي المتخصصين، بالذات في العلوم الشرعية.

حتى لا يصدق علينا ان العرب لا يقرأون
محمد رضي الشماسي
عضو هيئة التدريس بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن / المملكة العربية السعودية

كلمة إقرأ أول كلمة تهبط من السماء إلى الأرض، أول كلمة تنزل في أشرف كتاب سماوي، على شفة أعظم رسول إلهي. أول كلمة تتلقاها الأرض فتعيها أذن واعية لتبلغها إلى الناس قرآناً تقرأه العصور. وليس عبثاً ولا مصادفة أن تكون القراءة هي الأمر الإلهي الأول الذي أوحته السماء إلى الانسانية، يشير المفسرون إلى هذا المعنى، فيقررون أن الله سبحانه وتعالى، أراد أن تكون هذه الأمّة المسلمة قارئة والقراءة هي باب العلم والثقافة. ولا يمكن أن يكون العلم والثقافة بمعناهما الشمولي بدون القراءة. فالأمة التي لا تقرأ لا تعرف العلم، ولا يمكنها أن تتصل بأسبابه، ولا يمكنها أن تبني حضارة، أو حتى تستفيد من حضارات غيرها، بل الأمة التي لا تقرأ تفتقد تاريخها، وتجهل حاضرها، وتميت تمستقبلها، الأمة التي لا تقرأ تكاد تعيش الجهل بكل مقاييسه وتنتهي إلى الضياع بكل أبعاده. منذ أن وجدت أول كتابة، وجد بالضرورة أول قارىء. فهذا يعني ارتباطط القراءة تاريخياً بالحضارة الانسانية. فارتباط الحضارة بالقراءة والكتابة ارتباط عضوي، إذ لم تقم حضارة بدون علم، ولم يحصل هذا بدون كتاب وقراءة فالأمة الاغريقية مثلاً برزت ناهضة بعلمها وعلمائها وفلاسفتها وشعرائها; فحققت بذلك حضارة شامخة. والعرب أمة عاصرت فجر التاريخ، وأخذت دوراً مناسباً في بناء حضارة تتفق وأوضاعها الطبيعية التي عاصرتها آنذاك، معتمدة على ما كان لديها من أدوات بدائية تستخدمها في نحت صخرة، أو بناء بيت، أو انشاء كوخ، أو زراعة أرض، أو صناعة آلة تتقي بها شر حيوان مفترس. وكان الاستعداد النفسي يقوي ذلك الاعتماد التقني البدائي وكل من هذا وذاك كان يهيء تلك الأمة للمستقبل، وهي تنظر لما هو أبعد من يومها; تنظر إلى امتدادها البشري المتمثل في أبنائها عبر الزمن الطويل.
دخل العرب كما دخل غيرهم في طور الحرف كتابة وقراءة وامتد بهم الزمن حتى أوصلهم إلى عهد أراده الله أن يكون بداية الانطلاق نحو حياة افضل، ومطلع انفتاح نحو عوالم أرحب; انه عهد الرسالة المحمدية، التي خلقت في المسلمين روح العلم، وأوجدت فيهم حب المعرفة، والنزوع غلى ما فيه كل خير للأمة المسلمة، بل البشرية جمعاء. وارتبط المسلمون بقرآنهم الكريم، الذي وجدوا فيه الحافز الكبير على طلب العلم، واستقصاء سبل المعرفة، وارتبطوا أيضاً بسنتهم الشريفة التي أشبعت هذا الموضوع حثاً وتشجيعاً بكثير من الأحاديث النبوية المقدسة. ذلك كله هيأ المسلمين نفسياً وفكرياً حتى غدوا مفورين على طلب العلم، واستقصاء سبل المعرفة; فارتبطوا بالحرف قراءة وكتابة، وتأليفاً وترجمة، حتى بلغوا في ذلك شأناً رفيعاً في عهدهم الذهبي الذي انفتحوا فيه على معارف الأمم، وثقافاتهم مثل الفرس واليونان والهنود وغيرهم. لقد وصل بالعرب حب العلم حتى أخذوا يعطون وزن الكتاب ذهباً. فهل كان بإمكان ذلك أن يحصل بدون قراءة؟
إنها أمة خوطبت بقول ربها «إقرأ»، ووعت قول نبيها «ص»: «اطلبوا العلم ولو بالصين»، «اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد». تلك أمة قد استوعبت جيداً اسم كتابها المقدس الذي اشتق من القراءة فسمي (القرآن). وظلت الأمة المسلمة، أمة علم وأدب، وبنت حضارة باذخة، يقوِّمها العلم، ويهذبها الأدب، ويصقلها العمل الجاد. أصيبت تلك الأمة العظيمة بنكسة في حضارتها نتيجة للظروف السياسية السيئة التي أحيطت بها، فانطوت على نفسها تبتلع آثار الهزيمة، وتتجرع علقم التخلف، صابرة على مرارة النكسة، فانهزمت في داخلها النفسي، وفي وجودها الفكري، فأخذت تبتعد عن الساحة، التي طالما فيها وجالت، شامخة بعلمها، باذخة، بأوج عظمتها.
ونتيجة للهزيمة النفسية; كان انهزامها العلمي والفكري، فابتعدت عن مدارس العلم، ومواطن الثقافة ومظان البحث، وابتعدت بالضرورة عن الكتاب، حتى أصبحت القراءة لديها نوعاً من الترف الفكري، والسلوك الترفيهي بعد أن كانت سلوكاً تربوياً ينبع من الذات، واتجاهاً دينياً يقبل عليه القارىء بشعور المسلم الملتزم بكلمة «إقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم...»، والمستوعب للتوجيه الشريف «اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد» جاء العصر الحديث، وأخذت الأمة العربية تنفض عنها آثار الهزيمة، من تبعات نفسية وفكرية، محاولة العودة إلى ماضيها المجيد، فانفتحت على سبل العلم، واستقصاء المعرفة. فانتشر التعليم في الوطن العربي حتى مراحل الدكتوراه، وراحت الجامعات تصدِّر خريجيها إلى المجتمعات ليقوموا بدور البناء الحضاري على مختلف مستوياته. ولكن مع هذه الأعداد الكبيرة من الخريجين، يلاحظ بالباحثون في المقابل، العدد الضئيل جداً من الاصدارات في الوطن العربي.
فمن المصادر ما يشير إلى أن ما تصدره مصر، وهي الدولة العربية الكبيرة، وذات الصدارة العلمية، والثقافية في العالم العربي; تصدر ما معدله (2/1 4) كتاب في اليوم الواحد، في الوقت الذي يصدر فيه بلد أوروبي كبريطانيا (132) كتاباً في اليوم الواحد، وفي روسيا (225) كتاباً، وفي أمريكا (233) كتاباً في اليوم الواحد طبعاً. هذا عدا المجلات التي تصدرها تلك البلدان بأعداك كبيرة، واكتفى بذكر ما تصدره أمريكا وحدها للأطفال فهو يعادل (200) مجلة، في حين أن الوطن العربي بكل أقطاره يصدر (10) مجلات فقط للأطفال العرب. هذا الانخفاض الشديد في الاصدارات الثقافية في الوطن العربي يعطي دلالة واضحة على انخفاض المستوى الثقافي لدى العرب. وهذا الانخفاض الثقافي يدل بالضرورة على انخفاض مستوى القراءة واقتناء الكتاب. ضعف ثقافي ملحوظ، وأسبابه ملحوظة يعرفها الجميع، من مثقفين ورجال التربية والقائمين على المرافق التعليمية. والأسباب هي:
1ـ عدم التنشئة التربوية على حب المطالعة.
2ـ ضعف دور التعليم في تنمية حس المطالعة.
3ـ انتشار وسائل الإعلام.
فإذا نشأ الفرد في بيت فقير من الكتاب، لايعرف أهله مصادر الثقافة، فكيف ينمو على حب القراءة والكتابة وكيف ينشأ على تربية فكرية وثقافية؟
وأسفي في هذا شديد، وأنا ارى كثيراً من البيوت لايدخل فيها الكتاب أو المجلة ولا حتى الصحيفة اليومية. وليس هناك من اهتمام إلا بالكتاب المدرسي أو الجامعي. أي أن الإهتمام الموجود في البيت العربي بعامة، إنما هو منصب على الثقافة التلقينية التي يتلقاها الطالب في المدرسة أو الجامعة. ويشتد الأسف أكثر إذا علمنا أن الطالب الجامعي شأنه في هذا شأن الطالب المدرسي. لايكاد يختلف الطالب الجامعي عن الطالب المدرسي في هذا الشأن، فالطالب في الجامعة يحصر كل اهتمامه بالكتاب المقرر، والدرس المشروح، ويظل اهتمامه بالكتاب ذي الصلة بالمادة التي يدرسها، أو الموضوع الذي يتخصص فيه. وقليل جداً أولئك الطلاب الذين يقرأون ما يحوم حول مادة الدرس أو التخصص، في كتب أخرى، تكون عادة متوفرة في مكتبة الجامعة. وهنا يكمن طرف مهم في مسألة القراءة كبعد ثقافي. يمسك بهذا الطرف برج البناء التعليمي العالي. الذي عليه أن يدير سكان المسيرة التعليمية بنجاح، وهذا النجاح لايكون إلا بالخروج من التقليدية التي ألفها النظام التعليمي القائم، واعتاد عليها الطالب والأستاذ. فلو كان التعليم الجامعي بعيداً عن وجود كتاب مقرر للمادة المدروسة. وتوضع بين يدي الطالب بعض المصادر المهمة في الموضوع ليرجع إليها في دراسته. وهنا أضيف شرطاً مهماً هو الإقتصار على المواد المهمة التي تخدم الطالب في موضوع تخصصه، بعيداً عن الحشو، والمنهج الممل. وأستثني من هذا القول ضروريات الشريعة والأدب التي تقوم أساساً‏على الحفظ والإستذكار كالآيات القرآنية والأحاديث الشريفة، والنصوص الأدبية شعراً ونثراً.
في تصوري أن هذا النوع من النهج التعليمي المقترح يأخذ كثيراً بيد الإنسان العربي نحو الكتاب الخارج عن الدائرة التعليمية، ويغريه بالإهتمام بالقراءة التثقيفية. علينا أن نضع هذا الإقتراح موضع التنفيذ، ولو من باب التجربة والمحاولة في الأخذ بالأفضل، خصوصاً أن من الجامعات الغربية والأمريكية ما تقوم الدراسات فيها على هذا النمط من التدريس الحافل بالنشاط والحيوية بعيداً عن الكتاب المقرر.
وأما ثالث الأسباب فهو وسائل الإعلام، التي تحيط بالإنسان في سمعه وبصره. ودخلت إليه حتى في غرفة نومه، وعدها ضرورة من ضرورات حياته، وليست حاجة من كماليات بيتعه. غزو فضائي متسلط على الإنسان من خلال الشاشة التلفزيونية الساحرة بألوانها الزاهية وبرامجها المختلفة، وبشريطها الزمني الطويل. الذي لايركن إلى الراحة ولو ساعة من نهار، ولا تأخذه غفوة من نوم الليل فماذا يرجى من الإنسان العربي إذا كانت يده لاتعرف إلا أزرار التلفاز، ولايدرك عقله إلا موجات القنوات ولاترى عينه إلا الشاشة الملونة، ولاتسمع أذناه إلا صوت مذيع أو أغنية مطرب. هذا الجهاز الذي لايخلو منه بيت يقف وحده حائلاً دون الإنتشار الثقافي. ولج البيت العربي ليمنع دخول الكتاب، فابتعد البيت العربي بعامة عن مصادر ثقافته العربية، فتضاءل الوازع على القراءة، وانخفضت القدرة على التثقيف الذاتي، وانصب الإهتمام على البرامج التلفزيونية، التي تنقلها القنوات الفضائية، فأصبح الجهاز نفسه هو الوجهة التي وجهتنا إليها حياتنا المدنية، وفراغنا الثقافي. ولا يبتعد عن الحقيقة من يقول إن هذا الجهاز هو أقوى تلك الأسباب تأثيراً لما له من قوة جاذبة طاردة لما سواها منýألوان الثقافة.
تلك هي الأسباب البارزة، أو الأساسية في موضوع الصدود عن الكتاب، وعدم مجالسته (وخير جليس في الزمان كتاب) وعدم مصاحبة الكتاب الذي بدله المرحوم أحد شوقي بأصحابه:
أنا من بدل بالكتب الصحابا لم أجد لي صاحباً إلا الكتابا
أما العلاج فإنه يأتي من خلال الأسباب نفسها، يأتي أولاً من خلال المؤسسة التعليمية، من القائمين على التعليم. كضرورة ايجاد الأستاذ او المعلم المثقف، ولا أقول المتخصص، الذي وقف عند تخصصه، قالباً لايتسع لأكثر مما درس واستوعب. نعم إيجاد الأستاذ الجامعي المثقف، والمعلم المدرسي المثقف لأن المثقف يقدم ثقافة، والعكس صحيح، لأن فاقد الشيء لايعطيه. الأستاذ المثقف يحث طلابه على الإتصال بأسباب الثقافة والورود إلى منابعها، و%?

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة