تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

جدل الضرورة والحرية: مشكلة الحداثة في الثقافة العربية الإسلامية

هاني ادريس
 مشكلة الحداثة في الثقافة العربية الإسلامية, ومسألة تعدد الثقافات, مقاربة في المنهج‏ـ
ادريس هاني

 

ـ «وجعلناكم شعوباً‏وقبائل لتعارفو» (الحجرات/ 13)
ـ «وينقطع عن الازدياد من الحكمة بمجالسة أهل الحكمة,
إما مقتبساً‏ منهم وإما قابساً‏ لهم» أبو حيان التوحيدي

الإشكالية التقليدية التي حيّرت مفكري الأنوار, ولاتزال تشكل مصدر حيرة للفكر الإنساني إلى يومنا هذا, هي مشكلة تاريخ الشعوب وتطور الثقافات! فكلما ازدادت وثوقية فكرنا بحقيقة التطور وحيثيات التغيير, كلما ازددنا حيرة ومفارقة إلى حد الغثيان! واليوم, ونحن نعيش أهوال ومضاعفات سقوط أكبر ايديولوجيا في العصر الحديث ـ الشيوعية والاشتراكية العالمية‏ـ فإن الحيرة ستزداد أكثر مما مضى إذا ما حلّ بنا اليأس, فاعتبرنا هذا الانهيار الدراماتيكي للماركسية هو بمثابة سقوط نهائي للنظرية التاريخية والتطورية. فالسؤال الذي لن يبرح أذهاننا:
ـ هل الإنسان فعلاً له مكانته الحقيقية في العالم.. أم أنه سيبقى مجرد رابض في إحدى منتجعاته الهامشية؟
ـ هل التاريخ يصنع الإنسان, أم أن التاريخ ـ عكس ذلك تماماً‏ـ هو حصيلة فعل هذا الأخير.؟
ـ هل الإنسان ابن بيئته أم هو فاعل فيها, مستقل عنها؟
كل هذه التساؤلات باتت مشروعة.. والإجابات التي حاولت حلها, كانت مختلفة ومتناقضة. وهي مع ذلك منسجمة مع نفسها, متناغمة مع منطقها الداخلي حينما ننظر إليها بمعزل عن بعضها. وبلا شك, فإن انقلاباً ‏مهماً‏ أحدثته الهيغلية, كاد يصيب إحدى مقاتل هذه المفارقة‏ ـ ‏وإن رأى فيها البعض, للوهلة الأولى, تأسيساً‏ لمرحلة جديدة من المفارقة ـ ذلك حينما تراءى له ـ‏أي لهيغل ـ العالم في صورة جدل صاعد ونازل بين العقل والواقع..‏فكل واقعي هو عقلي بالضرورة,‏وكل عقلي هو واقعي.. لكن ذلك لم يكن ليحل هذا النزاع‏ـ فالحيرة ازدادت اتساعاً, فتنافرت زوايا النظر. فليس من الغرابة ـ بعد ذلك ـ‏في شيء, أن يرى بليخانوف في هذا التضارب المستديم,‏ضرباً ‏من مفارقات ـ Antinomy ـ إيمانويل كانط. لكنه أدرك الكيفية التي بها نقوى على الخروج من هذه المفارقة, ذلك, بأن القضيتين المتناقضتين في الظاهر, هما صحيحتان في الواقع بل انهما لايتناقضان إلا إذا نظرنا إليهما من زاوية خاطئة. ومعناه, أنه قد تصلح إحداها ملحقاً للأخرى. يعتقد بليخانوف بأن الخطأ ينعكس مرة أخرى على القضيتين, فإذا ما تبين خطأ إحدى هذه المتقابلات فإن الأخرى خاطئة لامحالة. وهو ما يفهم منه أيضاً, أننا بصدد قضايا صحيحة, وأن الإشكالية هي إشكالية منظور وزاوية نظر.
في ضوء هذه التوطئة, ننوي إنماء رؤية, هي بطبيعة الحال,‏تنتمي إلى نمط معين في نقد الأفكار, وتمثل أسلوباً ‏خاصاً‏ في معالجة جدل الحديث والقديم.. والإنسان والمحيط..‏التقدم والتخلف.. وذلك على شتى الأنحاء التي تسيطر عليها هذه العلاقة الثنائية ـ الجدلية. هذا النمط من التفكير, بغض النظر عما سيحتفظ به من خصوصية في إطار هذا الانشغال النقدي الآني, فهو من جهة أخرى, ينتمي بصورة ما إلى ذلك التيار الفكري الجارف لثوابت المملكة ‏الميتافيزيقية للحداثة. فهو يسعى بجهد إلى استدماج رؤية أكثر ديناميكية للحقيقة, تضع عن كاهلها أوزار التمركز العقلي المدجّج بترسانة عتيدة, طالما عملت على كبت المعرفة في نماذج محددة. كما أدت إلى تحقيق مزيد من النفي والإقصاء للآخر. الأمر الذي انتهى إلى حدوث ذاك الفصام الخطير, بين العقل واللاعقل, على قاعدة النفي والتهوين. إنه نمط من التفكير يتعالى على التمركز في عملية موضوعية وليس ردّ فعل عكسي يضع الظواهر والأشياء في دائرتها الحقيقية, مع إعادة الاعتبار إلى ما كان خفياً أو مستخفياً ‏في صميم ظاهراتنا الفكرية.

مشكلة التراث كنموذج

اتضح بعد ذلك,‏أن النمط الأكثر فعالية في بحث هذا الموضوع, هو ذلك الذي يستند إلى آلية لاتتقيد بالأسلوب الواحد في تحليل كافة مظاهر التراث, أي أنها تضع كل أسلوب أمام ظاهرته الخاصة, في ضوء استراتيجية إرائية تنحو إلى إرساء توازن ما بين أسلوب البحث وموضوعه. فهي تراعي تداخل الحقول والأبعاد كافة, كما تراعي نسيج التداخل الثقافي التاريخي لهذا التراث, كما وفرته ظروف الاحتكاك والمقابسات الكبرى عبر تاريخها. وتبقى الخاصية الأساسية لهذا النمط المختار,‏تتمثل في الانفتاح على الوجه الآخر لهذا التراث في كافة أبعاده, سواء ما كان يتعلق بنظرية المعرفة أو نظام القيم أو ما يتصل بالتصور العام للنظام السياسي وتدبير المدينة. وهو ما يدفعنا أكثر إلى تجاوز المعطى الواعي للتاريخ والقبض على المضمون اللاواعي لهذا التراث. فحينما ننفتح على هذا الوجه المغاير من التراث, نقع عادة أسرى لتلك الجريمة التقليدية المتمثلة في عملية التهميش الكبرى التي طالت نواحي هذا التراث. لهذا السبب تحديداً ‏لم يحفظ لنا تراثنا نحن العرب, من الوثائق عن الاخر التراثي المقصي, ما يجعلنا نقف على الصورة الشاملة والدقيقة لنزعاته ومكوناته. فالمطلوب اليوم هو تقديم هذا الوجه من التراث, بالكيفية ذاتها من الإصرار الذي يتم بها عرض الوجه المتمركز من التراث. وهذا النوع من العرض إنما ينحو باتجاه تقديم إراءة على قدر من الاستيعاب, وأيضاً, إراءة أمينة لمعطيات هذا الوجه المقصي من التراث, بغية فهم حقيقي له. ولهذا لازلنا نؤكد بأن تراثنا لن نفهمه في كليته طالما أن هناك قسماً لايزال ممنوعاً أو متمنعاً عن الفهم. فقد كان غياب الوثيقة وتناقض المنقول عن هذا التراث من قبل دوائر التدوين,‏قد جعل المخرج الوحيد لهذه الأزمة متوقفاً‏على نهج ظواهري مع كل ما يقدمه هذا الهامش من معطيات. مع أننا هنا لانغفل أن الاستناد إلى الأسلوب الظواهري ليس كافياً ‏لتحقيق طموح القراءة الفعالة للتراث. وهو فضلاً‏ عن ذلك, يمثل خطراً‏ آخر على صعيد فهم الوثيقة ذاتها. إن تجاوز المعطى التاريخي العام كما تقدمه دوائر التدوين الرسمية, إلى المعطى الآخر, غير كافي. اللهم إلا إذا كان ذلك خطوة وليس إقامة داخل هذا النمط من التحليل. هكذا, فإننا حينما نلجأ إلى النوبختي, فإننا نحقق خطوة جبارة في مجال استكناه الوثيقة. لكن ذلك لاينتهي عند العرض الظواهري, بل إن المسألة هنا لها مسار تفكيري آخر. فالنوبختي نفسه لم يقل كل شيء.. بل لعله أخفى الكثير ليقول الشيء القليل. والمعرفة إذن, بالتراث تبدأ من هنا. أي من عملية الإخفاء والإظهار التي يمارسها هذا المؤرخ أو ذاك. وهكذا يستوي عندي جميع مدوني التراث العربي الإسلامي. فقد نكون قساة في نقدنا لكثير من المؤرخين الذين ساهموا بشكل ما في إخفاء هذه الحقيقة أو حتى تزييفها.. لكننا من ناحية أخرى, نعتبرها تواريخ ضرورية. وهذا هو حقاً الفرق بين القراءة التاريخية التي تقف عند الشكل الخارجي, وبين القراءة التأويلية التي تنظر إلى الوثيقة كمدخل ليس إلا,‏لفهم المضمون, بغض النظر عن حقيقة الشكل. فالمؤرخ يبحث عن صحة الوثيقة بالنقد والمقارنة.. لكن المؤول, يستوي عنده الصحة والكذب في هذا المجال, فهو باحث عن المضمون.‏فالوثيقة المكذوبة, والخبر الكاذب عند المؤول, يتحول إلى وثيقة حقيقية لمعرفة أوضاع بكاملها. إن سيف بن عمر, والطبري وابن خلدون والمسعودي والنوبختي و..‏كلهم يساهمون في فهم النظم المعرفية التي سادت وأعادت انتاج نفسها عبر تاريخ طويل من الفعل الثقافي العربي الإسلامي. فحينما يحجب الطبري خبراً‏ ويبرز آخر, وهو الأمر الذي لانلاقي له مثالاً‏ عند مؤرخ آخر, يجعلنا لا أقل ندرك طبيعة الوضع العام لهذا المؤرخ أو ذاك. وأيضاً علاقة الانتماء بالموضوع.. وأيضاً ‏درجة الإقصاء والنفي.. إن المؤرخ حينما يكتب تاريخاً, فهو يخفي ويظهر بصورة إرادية أو غير إرادية.. شعورية أو لاشعورية.. ومن وظيفة الناقد آنئذ أن يكشف عن المتواري خلف هذا الخطاب التاريخي أو ذاك.. وهكذا أيضاً‏ حينما يذكر مؤرخون وآخرهم ابن خلدون, بأن سعد ابن عبادة الخزرجي قتله الجن.. فإن صحة هذه الواقعة أو كذبها قد يتوصل إليها المؤرخ بيسر عن طريق المقارنة وتقابل الأخبار..‏ولكن الناقد يأخذ هذه كمعطى معبر عن جملة من الحقائق الأخرى. فهذا من جهة يظهر أن ثمة أزمة نظام سياسي في التفكير التاريخي عند المسلمين قامت منذ اللحظة الأولى..‏وأفهم منها ثانية مكانة سعد ابن عبادة في قومه ومدى خطورة وضعه..‏وأفهم المستوى الذهني لذلك العصر, حيث تنطلي عليهم مثل هذه الأكاذيب, فافهم بالتالي أنه المجتمع لايزال يسلم بجملة من المعتقدات الخرافية..‏وأخيراً وليس آخراً, أفهم حقيقة انخراط مؤرخ ناقد في مستوى ابن خلدون في هذا المسار,‏وأيضاً ‏حقيقة انتماءه!
بعد كل هذا يتعين علينا إيجاد نوع من المصالحة بين عدد من المناهج, وهذا لايعني بالضرورة السقوط في توليفة تلفيقية جديدة, وإنما من حيث ان هذه المناهج مكملة لبعضها البعض. فالنظرة الشمولية لطبيعة العلاقة بين الإنسان ومحيطه وتاريخه.. تفرض علينا الخروج من تلك الدوائر الضيقة التي تفرضها المناهج.. هذه المصالحة تقوم على أساس رؤية نقيضة لما يمكن أن ننعته بديكتاتوريا المناهج والأنساق الفكروية التي ابتليت بها العلوم الإنسانية,‏إذ حولت موضوع المعرفة إلى ساحة للتباري, ومن ثمة, التضحية بالمعرفة لمقاصد تقع خارج موضوعاتها. لقد أدركت جلّ المناهج, أهمية الأبعاد الأخرى, وقامت جهود كبيرة لردم الهوة ما بين التيارات النقيضة, سعياً‏ إلى نوع من المصالحة وتخفيفاً لحدة الإصطدام. إن أي ثقافة كيفما كانت ظروفها التاريخية, تحتفظ لنفسها بخاصية ما, تمثل محور علاقاتها الداخلية, وأيضاً ‏جوهراً‏ خفياً ‏لنشاطها الواعي. فالحديث عن نظام معرفي تأسيساً‏ على هذه القاعدة, هو أمر ضروري للغاية. إلا أننا نواجه عاملاً آخر لايسمح لنفسه بالإقصاء, ألا وهو «التاريخ».‏وبين هذين العاملين, يطفو عامل «الإرادة» كمخرج ثوري لجدل الضرورة والحرية. وهو يقدم نفسه كإشكالية ملحة. نحن بالتالي أمام حاجة لإعلان المصالحة مع ثالوث قوي الأضلاع: البنية/ التاريخ/ الإرادة. وحينما نتحدث عن ثالوث فهذا يعني بالأحرى,‏أن صلة ما تكاملية هناك بين هذه العناصر, الأمر الذي يجعل من العبث الحديث عن نوع من الانفصال. بل سوف يكون من المجازفة أن نردد السؤال: لمن الأسبقية? ولا حتى شعار: في البدء كان الانسان,‏أو كانت البنية أو.. طالما أن الأمر لم يعد يحظ بتلك الأهمية, خصوصاً ‏بعد أن أدرك المتبارون, بأن التمركز حول عامل واحد من هذه العوامل, يؤسس لفهم تجزيئي ومغلق, لا يؤدي إلى نتيجة بناءة. فالإنسان أولاً, لكنا لانستطيع عزل الإنسان عن وضعه في العالم. كانت هناك بنية سابقة مغلقة, وكان الإنسان بعدها. وسواء جاء ليستلب فيها أو يمنح قدرة التحكم فيها.. فإن في الكون المتعاقب لبعضهما البعض, تتأكد تاريخية البنية والإنسان معاً! أي أن فعل الإنسان يجري في الزمن.. فهذا الأخير مادته الأولى, والهيولة التي تتحقق بها صورة الفعل. ويسعى الإنسان إلى تغيير بُناه, فيجتهد في كسر طوق الضرورة من أجل بديل آخر. فعن طريق الحلم والتوقع يسعى الإنسان إلى تغيير أحواله, فتستهويه القطيعة. هذه الإرادة النافذة, تُفعّل بنيتها, وفي الوقت ذاته تتوسل بمنطق التطور, أي تتحدد بمكر التاريخ بالمعنى الذي ذهب إليه هيغل. فالإرادة في حدّ ذاتها لاتصنع تاريخاً‏ عاماً, وإنما تصنع تاريخها الخاص, في هذا المدى الزمني البعيد. فكل فعل يتم في الزمن. فالزمان إذاً بعد أساسي في تشكيل البنية وفي تفاعلها وسكونها. الفعل كما أنه يقع في الزمان, فهو أيضاً‏ بشكل ما يقع في المكان. والتأثير الذي يمكن أن يحدثه التاريخ, هو ذاته الذي يمكن أن تحدثه الجغرافيا الطبيعية والبشرية. إذن كان أحرى أن نتحدث عن وحدة تاريخية/ جغرافية, وان الانفصال بينهما لامعنى له البتة, وهو أمر مستحيل فهمه خارج نطاق الذهن. إن إشكالية العلاقة بين القديم والحديث.. بين التراث والحداثة.. تتجلى قبل كل شيء في هذا الجدل التقليدي لفلسفة الأنوار. أي بما أن الحداثة, هي النتيجة الحتمية والصورة المستقبلية لكافة الأشكال البدائية للثقافات. وهذا ما يواجهنا, حينما تكون للتاريخ السلطة المطلقة في النقد والتحليل.
السؤال نفسه الذي طرح ولايزال يطرح يومنا هذا على الداروينية, في نطاق البحث الحيوي, أي حول المراحل الوسيطة. فلإن كان الإنسان بحسب هذا التقرير, هو ابن عم القرد أو ميكروب متطور, فلما لم ترق باقي الكائنات الأخرى؟ هل الإنسان حقاً يمثل صورة مستقبلية لكافة الكائنات الدنيا, كما قال بذلك ماركس في نطاق تطور المجتمعات?! داروين يتحدث إذن عن خبط عشوائي في تطور الطبيعة, أي الصدفة. غير أن هذا لايكفي, فثمة إذن «التكيف» مع المحيط. فلو غضضنا الطرف عن الباقي وقبلنا بهذا الحد من التخريج, لقلنا, لماذا تكيف هذا ولم يتكيف ذاك. الداروينيةلاتقدم جواباً‏ بهذا الخصوص, بل ربما ارجعت ذلك إلى الكائن نفسه ومدى استعداده الخاص. وماركس نفسه لايستطيع ذلك في حقل الاجتماع, لكنه أخيراً, وأيضاً ‏مع لينين بصورة أوضح, سوف يجيب بأن على الشغيلة أن تعي دورها التاريخي!
حسناً, هنا الإشكال يعود مجدداً, فهناك الشغيلة الواعية (الإنسان) وهناك الوعي التاريخي (التاريخ). فالتحول إذن, يعزى للإنسان والوعي والتاريخ..
أمامنا نماذج كثيرة, استهونت «الإنسان» وهي في ذلك أظهرت مفارقات عجيبة. فالإنسان وبشكل ما هو عند ماركس نتاج ضرورة تاريخية. وهو عند ميشل فوكو, بدعة حديثة للقرن الثامن عشر. لكننا نفاجأ حينما يتحدث البيان الشيوعي بلغة الاستنفار: «يا عمال العالم اتحدوا», أو حينما يقوم فوكو بدور سياسي دعماً‏للحرية, فإذن, تاريخانية ماركس وبنيانية فوكو, المغلقتين لاتستغنيان عن الإنسان بمعناه الوجودي الحق, (الإنسان الحر). وهو ما يؤسس في نهاية المطاف لهذه المصالحة الحتمية بين اضلاع الثالوث السابق, وهي المصالحة التي تقوم على رؤية خاصة للأشياء وليست نتيجة لتطوُّح المناهج.
نستطيع أن نقول بأن الحداثة التي تلخص لنا فلسفة الأنوار, شهدت رجّة قوية مع قدوم نيتشه, الذي جعل منها ثمرة لأكذوبة صاغتها ألف سنة من الأوهام. فلكي يكون لإعلان موت الإله على الطريقة النيتشية, معنى, فإنه قال قبل ذلك بموت الإنسان في شكله الأدنى, ليفسح المجال أمام إرادة الحياة. لكن شيئاً‏ما لم يغير حقيقة من جوهر هذه الحداثة, سلطتها النافذة من جهة, وتهافت الرؤية التائهة لخصوم الميتافيزقا الغربية. ومن هنا تحديداً, بدأت مسيرة جديدة لفعل النسيان, فسحت المجال لبروز أشكال من الضرورات القمعية; تاريخية وبنيانية.. جعلت في نهاية المطاف الإنسان في حدّ ذاته أسير تاريخه, أو معلولاً لقوانينه النفسية أو البيئية أو الاجتماعية. لقد ارتأت البنيانية, بأن من ضرورات وجودها, أن تجعل للإنسان دوراً‏ هامشياً, وسلبياً ‏داخل أنظمة كلية مغلقة. ومع فوكو سيصادر هذا الهامش ذاته, ليتحول الإنسان إلى مجرد وهم من ابتكارات العصر الحديث. ولا ننسى أيضاً, أن التاريخ هو نفسه لن يحظى بتلك الأهمية الكبرى. فالموجود الفعلي هو هذا الكلِّي الحصري حيث يظهر ويختفي, ويكرر نفسه, ويتعالى على زمانيته, بل وعلى ذلك الوهم المطروح أمامه بإلحاح, ألا وهو الإنسان. وهكذا, فمن الطبيعي أن نسقط في اسوأ نموذج للقراءة, حينما تتجاوز البنيانية‏ حدودها, كإجراء آني ضروري لفهم النظام, إلى مستوى النسق الكلي. أي إلى نفي مطلق لما هو جزئي فاعل خارج النظام!
لقد أدخلت الحداثة الجديدة, الإنسان في اغتراب جديد وخطير.. لا هو بالتاريخي ولا هو بغير ذلك من أشكال التعالي المطلق, بل اغتراب داخل أنساق ذهنية, هي في الواقع, إحدى أكبر الأوهام التي اخترعها الإنسان. أما من الجانب الآخر, فإن التاريخ لن يسمح لنفسه بالأدوار الدونية. فرواد النزعة التاريخية كانوا هم بحق ـ أكثر من أنصار العرقية ـ‏أكثر دعاة النفي والإقصاء. وطبيعي حينئذ أن تكون الثقافة الأقوى, والأكثر عالمية, هي ما يستحق الاحتفال.. النزعة التاريخية تلغي الفوارق وتؤكد على وحدة جنس الثقافات..‏وتعزوا الاختلاف إلى قاعدة التطور.. وهي بذلك تنسف كل مقدماتها العادلة, لإعطاء المبرر للأقوى في إلغاء الأضعف.. ومن هنا فإن التراث هو في وعي الباحث الأوروبي شكلا بائداً ومتخلفاً من بين آلاف النماذج الثقافية التي تصارع التحدي بلا جدوى. وبأن هذا التراث ـ‏يعنينا هنا أن نمثله بالتراث العربي الإسلامي ـ هو صورة ماضوية عما نحن عليه من قيم حضارية معاصرة. فالرجوع إلى التراث ـ من هذا المنظور ـ هو بحث في إحدى مراحل تطور الفكر الإنساني عموماً. والمطلوب منا الآن, ليس هو فهمه أو تعقيله أو انتقاءه.. بل المطلوب, إرضاء فضول الإطلاع أو معرفة كيفية تأثير العلل الحتمية في الإنسان والمجتمع, وحتى نفهم كيف كان الإنسان يصنع تاريخه وإلى أي حدّ يتكيف مع شروطه وصيرورته, وهو جاهل بذلك تماماً.
لقد تمت المصالحة يوماً ولو بصورة خجولة, ومع شيء من النفاق, بين البنية والتاريخ. وهو ما أتاح لنا فسحة لجعل الحوار مع الثقافة الغربية ـ‏ولو في جانب منها ـ ممكناً, هو ذلك الذي اتاحته الاتنولوجيا من إراءة أكثر حيوية وإيجابية بخصوص مفهوم الثقافة وتنوع الحضارات. وهذا الفتح كان مفيداً جداً, لكسر الطوق عن الثقافة الغربية وإيقافها أمام حتمية التنوع والتعايش بين أشكال الثقافات.‏لقد كان عالم الأجناس الفرنسي كلود لفي ستراوس, رائداً لهذه الثورة التي حاولت إحداث مصالحة من نوع خاص, بين البنية والتاريخ والانسان. فكان أهم ما في هذه الخبرة الميدانية الكبيرة, هو تقديم مبرر علمي على أهمية التنوع, وفضح قصور النزعة التمركزية النافية!

تطور الرؤية في ضوء الثورة الاثنولوجية

يطرح الفضاء البدائي تحدياً‏ على الآلية التأريخية, من حيث غياب الوثيقة المقروءة الخازنة للحدث التاريخي. ولخلو هذا المحيط من أي ثقافة زمنية تحقيبية أو ممارسة كتابية تدوينية, وهما عماد النقد التاريخي. إذن عندنا مشكلة خبر. وليس أمام التاريخ سوى عنصر الخبر في تناول ماضي الشعوب.. والخبر هو ما تنقله الوثيقة.. وأهم الوثائق ما كان مكتوباً.‏والحال أن لاشيء من هذا القبيل داخل المحيط الذي نعته المؤرخون‏ـ لهذا السبب طبعاً‏ـ بالبدائي. فالخبر هنا لا أهمية له.. إنه شيء يتكرر.. وفي تكراره, كأننا أمام حالة من الاتحاد تجري داخل فضاء الزمان نفسه.. هناك إذن وحدة ثقافية يشهدها الزمان بتخارجاته وأبعاده الثلاثة. ولأن تحقيباً ‏كهذا لامكان له في ثقافة البدائي, حيث ليس له أي صورة بدائية عن حاضره تتجلى في ماضيه.. ولاشكلاً غائياً‏ يسعى إلى إنجازه.. فهي ثقافة تتعالى على الزمان ولا تقاس به..‏فكيف نتحدث عن تاريخ لهذه الشعوب, إذا كان الحاضر نسخة أخرى عن الماضي, وإن كان الحاضر خالياً من هاجس التطور, لأنه يطرح كحالة من الإشباع الذاتي والشعور بالكمال, فلماذا التاريخ؟
لاشك أن الغاية من التاريخ هو عرض ماضي الشعوب والأمم, لتبين النقلة بين أطوارها من الماضي حتى الحاضر, قصد الاستفادة منه لصالح المستقبل. لكننا أمام هذا المحيط اللاكتابي, لانجد تلك المسافة, ولا الحاجة إلى أي نوع من الانتقال. هذا هو باختصار, المبرر الذي قامت عليه الاثننولوجيا, وعلى أساسه أعلن التاريخ استقالته من المحيط البدائي. وقد كان من شأن الاتنولوجيا الكلاسيكية, أن تكرس الشعارات التاريخية على هذا المجال. لقد ربط المؤرخون بين التاريخ والكتابة, وهنا تكمن المشكلة! فإذا لم يجد شعب من هذه الشعوب, حاجة إلى الكتابة, فهذا لايعني أننا أمام حالة ينعدم فيها التاريخ, إلى جانب الإنسان والبنية. والحال, وكما ستكشفه الثورة الاتنولوجية الجديدة, أن لهذه الشعوب أيضاً ‏تاريخها,‏فلا يهم إن كان يجري على غير مجرى التاريخ العام.‏فإذا كان معيار التطور, هو أن نستوعب بشكل ما, قانون الطبيعة, فإن شعوب الاسكيمو, وأدغال افريقيا, استطاعوا أن يبعدوا عنهم خطر هذا التحدي. ولا نعرف حتى الآن, ذلك المشوار الزمني ـ التاريخي الذي قطعته هذه الشعوب في سبيل تحقيق هذا التحدي للمحيط, خصوصاً‏ وأن بعضاً‏ من تلك الأساليب لاتقل مهارة ودقة عن أسلوب التقنية في المجتمعات المعاصرة. كان عليها إذن أن تفهم وضع شعوب كهذه في أزمنة غابرة,‏وجدت في الأدغال والصحاري الرملية والجليدية.. كان التكيف بالتالي هو الوسيلة الأنجع للتحدي.. فحتى ذلك الوقت كانت هذه الشعوب بما ابتكرته من أساليب التكيف ورد التحدي, تمثل المجتمعات الأرقى في العالم. فإذا أقر مرة ماسينيون بأن العرب كانوا على حق لأنهم لايمكنهم بناء حضارة في الصحراء, فإن الأمر بالأحرى هو أكثر ما ينطبق على شعوب وجدت على هامش العالم. فمن حقها من باب أولى, أن تصنع لها تاريخها الخاص, لأنها أيضاً لايمكنها بناء حضارة في محيطها الأمازوني والاستوائي أو أن تقيم مدنية متطورة في صحارى الاسكيمو الجليدية.

الاتنولوجيا الجديدة, مع لفي ستراوس

قد يكون من الصعب على الباحث, تناول الميدان الاتنولوجي باليسر نفسه الذي يجده في ميادين أخرى تتعلق بالأنظمة المعرفية ضمن شروطها وأشكالها المعاصرة. فلا يخفى أن الاتنولوجيا أحدثت ـ على شتى المستويات ـ ثورة معرفية هائلة, أعادت صياغة أخطر سؤال واجهته النظم المعرفية خلال تاريخ طويل, وهو الإشكالية الإنسانية La Problematique Humaine. هذه الأخيرة التي ظلت حجر عثرة في درب التطور العلمي والمعرفي, بماأنها بؤرة إشكالية تستعصي على قبضة العقل, مادام أنها لاتخضع إلى منطق الاختبار, ولايتحقق معها انفكاك الذات عن الموضوع. فالإنسان هنا في كل الأحوال هو الذات وهو الموضوع في آن معاً. هذه الثورة الاتنولوجية, هي في الواقع انقلاب عكسي لسير النظر الفلسفي. وهي أولى الثورات التي أعادت العقل المعاصر إلى محيط سبق وأن تجاهله بعد أن عجز عن حلّ عقدته, واستنفذ فيه وسائل النظر الإيجابي.. وهناك ثورات لاتقل أهمية عن ذلك في المجال نفسه, حيث أعادت الوهج المفقود للدراسات الاتنولوجية ومكنت هذه الأخيرة من الارتقاء بوسائلها وآلياتها إلى مصاف العلوم البحتة.. بل وجعلتها نموذجاً ‏للدراسات الاجتماعية بشكل عام.. ومع لفي ستراوس, ننفتح على تجربة فريدة من نوعها. مدهشة بقدر ما هي واثقة الخطى..‏مغامرة معرفية أحدثت ردود أفعال تتراوح ما بين النقد السلبي والتبني الإيجابي.. فما هي هذه الامكانات التي يتيحها الدرس الستراوسي على صعيد العلوم الإنسانية?
إن أهم خاصية في المنحى الفكري لرائدة الاتنولوجيا المعاصرة,‏هو نجاحه في تدمير الحدود المعرفية والتقسيمات أو التحقيبات التي أوجدتها الفلسفة المعيارية للأنوار. وهي تحقيبات وتقسيمات بقدر ما كانت مفيدة ومهمة في ذاك العصر, أصبحت تشكل حجر عثرة في وجه تطور المعرفة. هكذا أفاد ستراوس من البنيانية ما يمكنه من تجاوز المفهوم الكلاسيكي للتاريخ كعائق ابستمولوجي, ومن الجدل الماركسي ما يعزز رؤيته الخاصة للتاريخ. لقد كان ستراوس أكثر البنيانيين تمسكاً‏ بعروة التاريخ, وأكثر الجدليين ـ إن شئت ـ‏ رفضاً ‏لسلطته. فهو يقف موقفاً ‏لايمكن نعته بالوسطي أو التوليفي, بل إنه يستحق نعته بالموقف الثالث. فالتاريخ هو ميدان لبعث نسغ الحياة في النظر البنياني نفسه.. فهذا الأخير لم يكن يوماً ما موقفا ً‏مضاداً ‏للتاريخ, بقدر ما كان موقفاً‏ ضد النزعة التاريخية في نسقها التقليدي, الذي يقع في عرض النظر الكلِّي.
لقد كان علينا أن نلتفت إلى ذاك الوهم الكبير ـ‏حقاً ـ الذي أتت به إنسانوية Humanisme عصر الأنوار, حيث جعلت الإنسان ـ على عكس ما ذهب إليه فوكو تماماً‏ـ صاحب السيادة المطلقة على الأشياء. لقد كان هذا الغرور مقبولاً في ضوء الانبعاث الأوروبي منذ النهضة. وكان من الطبيعي أن تنعكس تلك النظرة الغارقة في الكبرياء, مع ميشيل فوكو, حيث يغدوا العالم, بصفته الكلية المغلقة, هو المتعين, والإنسانية بدعة معاصرة.
يتحفنا لفي ستراوس من جهة برأي أكثر إيجابية فالإنسانية هي واحدة من الغايات التي يتجه نحوها البحث الاتنولوجي. غير أنها إنسانية أكثر تواضعاً‏ من إنسانية عصر الأنوار ذات الصبغة المثالية, بل الجنونية! إنها إنسانية تتيح للأشياء أن تتقاسم معها المكانة في العالم. ولم يكن ستراوس مضطرباً في نظرته ـ المتوازنة ـ لقد كان واثقاً من رهانه, ويدرك المكانة الحقيقية للإنسان داخل عالم متمنع عن السيطرة. فالعالم وجد قبل الإنسان, وسوف يبقى بعده أيضاً. تلك هي الحقيقة التي يتحفنا بها صاحب المدارات الحزينة, إذ تنطلق, بفضل جهوده, الآلية الاتنولوجية إلى أبعد مداها في تفتيت النزعة الانسانوية في جبروتها الديكارتي. ليكون الفكر الوحشي la pense'e Sauvage, آخر ضربة صوبت ضد الكوجيتو.. من هنا أمكن لصاحب الاتنولوجيا الحديثة أن يوقف طغيان المركزية الغربية, معلناً ‏تهافت معاييرها حيال تعدد الثقافات. بل إنه يرسي مفهوماً علمياً ‏ينسف هذه الأنوية العنصرية التي ما فتئ الغرب يبشر بها. فمع لفي ستراوس أمكن النظر إلى العنصرية,‏ليس كآفة أخلاقية, بل كثغرة علمية في جدار الفلسفة الهيومانية الكلاسيكية للنهضة والأنوار, وأيضاً‏ في جسد النزعة التاريخية في صورتها القصرية. إن مشكلة التخلف في أنواع الحضارات, إنما هي ضريبة عدم الاتصال Communication, بين هذه الكيانات الثقافية. لأن العزلة تؤدي بالضرورة إلى العقم. إننا إذا تعاملنا مع الثقافات الأخرى من منظور مغاير ووفق معايير أخرى, فسوف ندرك لامحالة,‏أن بعضاً‏ منها دائماً ‏يحتفظ برصيد من التفوق على الآخر. هكذا يستطيع الشرق أن يتحدث عن تفوقه في مجال الروح.. وشعوب الأسكيمو, تكون أكثر تفوقاً‏بسيطرتها على أقصى بيئة وأخطرها على الانسان. ففي محاولة التعرف على موقف ستراوس من التاريخ, يتعين علينا وعي مفهوم التعاقب في منظور الاتنولوجيا البنيانية. فالتاريخ ليست له إلا اللحظة الأولى. إنه تاريخ الوقائع المحدودة.. فالمجتمع يعيد انتاج نفسه باستمرار خلال حركته التاريخية. فمهما اختلفت النعوت والهيئات, فهي تؤثر على مضمون بنيوي قار. إن التغيرات الطارئة على حركة التاريخ المتكرر إنما هي حصيلة صدمات خارجية وفجائية. إن ليفي ستراوس, لايرى أهمية في الرجوع إلى التاريخ من الناحية التقنية, لأن ذلك يحدث تشويشاً‏على البحث الاتنولوجي. وعليه, فإن الزمان القار هو الأنسب لذلك. إذاً, التاريخ في نظر ستراوس, ليس قضية وهمية, إذا ما وضعت في مكانها المناسب, ومكانها الأنسب في ضوء البحث الاتنولوجي‏هو مكان الصدارة من حيث لايمكن تصور الضرورة بدونه, لكن عليه بعد ذلك أن يستقيل.
وللقبض على حقيقة الظاهرة, لابد من تجاوز الظاهر المرئي وصولاً إلى الأعماق اللاواعية. فالوعي في حدّ ذاته عدو العلوم الانسانية حسب ستراوس دائماً. ذلك لأن علم الأجناس عادة ما يتجه نحو الأعماق, في حين يتجه التاريخ صوب النشاطات الواعية. وهنا ندرك عجز التاريخ عن أن يقدم فهماً حقيقياً عن طبيعة الظواهر. فالمشكلات قد تتصور ابتداءاً‏على أساس تاريخي, لكنها لن تقارب حقيقة سوى بالحفر الاتنولوجي, الوحيد القادر على ضبط البنيات اللاواعية لظاهرة ما. فالاتنولوجيا منذ انبعاثها أولت الأهمية للقار واللاوعي. وبناء عليه, نستطيع القول, ان استراوس, هو أحد أبرز دعاة نسبية الثقافات. فالتطور بالمعنى التاريخي كما ألفيناه لدى كل من فيكو أو أوجست كونت أو ماركس, ما هو في نهاية الأمر سوى ضرب من الميتولوجيا. فمهما بدت الفوارق بين الحضارات, فهي لاتقضي على الثابت والقار فيها. إن الحضارة الغربية اختارت طريقها منذ البداية. لقد اقتضى المنظور الغربي للحضارة هذا الثوران في طموح متواصل في البحث عن استثمار أفضل للطاقة, والرنو الدائم لتجديد القوة, درءاً‏ لنفاذها. هكذا انتهى به الأمر إلى استكمال حلقاته التاريخية بالنهب والاستعمار, تحقيقاً لتلك الرغبة. إن الأمر المهم في التحليل الاتنولوجي الحديث حسب ما انتهى إليه ستراوس, هو أن ضعف الحضارات الصغيرة ناتج عن عزلتها.

عود إلى بدء

في ضوء هذا الانجاز القيم, على صعيد أنماط التحليل, تتأكد شيئاً فشيئاً‏ أهمية تداخل أضلاع الثالوث. فالثقافة هي فعل الانسان داخل النظام في مدى زماني محدد. وإنسانوية هذا المنحى تستندýإلى حقيقة الانسان ذاته, كمحور لعلاقة البنية بالتاريخ. حيث قيمة هذا الأخير ـ التاريخ ـ تستند إلى هذه الفاعلية, وبدونها لايصبح له أي معنى! فلا مجال إذن للحديث عن أي انفصال, أو عن أي نوع من الحديث يمكنه أن يختزل هذين البعدين في صورة خاصية ثقافية ما, كما نحى د. حنفي في معرض وصفه للثقافة الغربية, ناعتاً ‏إياها بالتاريخ في قبال صفة التكوين التي تحظى بها الثقافة العربية/ الإسلامية. فأي ثقافة هي حصيلة فعل الإنسان داخل النظام في مدى زماني معين. وكيفية فعل الانسان واسلوب تعاطيه مع المحيط ومع النظام, هو ما يحدد مستوى تاريخيته. هكذا نستطيع القول, بأن دور النبوغ, يتجلى في الإدراك الدقيق والسريع لحقيقة النظام وشكل العلاقة الداخلية لقوانينه. وتحريك الامكانات والاستعدادات الداخلية, وجعلها بحيث تتكيف بشكل أمثل مع المحيط. وهذا ما يحدد معنى الأشكال المتجددة للبُنى, حيث يمكنها الوصول أحياناً ‏إلى حد الطفرة إلى بُنى جديدة. وبالنتيجة, ليس ثمة خاصية بنيانية وأخرى تاريخية, كما رأينا عند حسن حنفي, بل هناك جدل بنية وتاريخ, هي المادة الأولى لتشكل فعل الإنسان. كما ليس هناك أكثر من بنية في الثقافة الواحدة كما نحى إلى ذلك محمد عابد الجابري (عقل البرهان+ عقل البيان+ عقل العرفان) بل ثمة بنية واحدة ذات آثار مختلفة.
إن تاريخية الأفكار, مهما بلغ شأنها, لايمكنها إلغاء الطبيعة الجيولوجية لطبقاتها التي تظهر وتختفي بحسب اختلاف الشروط. وهي بذلك توهمنا بتعاقبها التاريخي الكاذب. والحق أن ثمة عوامل لاتقل غموضاً, مسؤولة عن سلسلة الانتقالات الكبرى بين منظومة وأخرى. إن هذه الانتقالات تتم بفعل ثورات كبرى, شاملة ومفاجئة.

نحن والتراث

نعود لنقف عند محددات التراثي والحداثي, وعن الكيفية التي تتم بها معالجة هذه الجدلية. إن الحديث عن علاقة التراث بالحداثة, هو في جوهره, حديث تاريخي. أي بما أن التراث يمثل شكلاً متجاوزاً لعصرنا. وهنا تطفوا عدة استفهامات, نحن من? هل المقصود بالـ «نحن» ما نستدمجه من أنوية غربية في نسقها الثقافي المغاير? أم يراد من سؤالنا نحن العرب والمسلمين؟
في الواقع إن القضية تحتاجýإلى جوابين. فالتراث العربي ـ الإسلامي في هذا الضوء, هو نسق مغاير للثقافة الغربية ويمثل بالنسبة إليها, الآخر ـ الغريب. أما فيما يتصل براهننا العربي ـ الإسلامي, فالأمر على درجة قصوى من الاختلاف, لأننا نعيش لحظة حرجة من سريان نظامنا المعرفي التراثي, في صورة مضطربة, أي أننا نعيش بروز هذا النظام, بشكله المغلق, المعزول, بآلياته البسيطة, في صورة ما نطلق عليها أصولية أوسلفية صريحة..‏أو عقل مصارع لنفسه متمثل لتقنية الآخر, في تقريب الهوة, رغبة في التعايش, يسميه البعض تحديث وتجديد و.. أو في صورة اصرار على التجاوز, يعبر عن حالة عجز عن إيجاد أسلوب للتعبير عن الذات في عالم,‏تظهره سلطة التعقيد والقوة بمظهر العالم المتغير. فما كان لجدل كهذا أن يثار في الأوساط الثقافية العربية لولا تنامي الشعور بالغبن أمام صدمة الحداثة. هذه التي حملتها لنا جيوش الاستعمار في غزو شامل للبلاد العربية. وعلى الرغم من أن حركات التحرر الوطني العربي ـ الإسلامي, كانت قد استلهمت اصرارها وتمنعها من موقع تميزها الثقافي وثراء موروثها الحضاري, موحية بأن ما حدث من تفاوت,‏إنما هو في القوة, وهو نتيجة وعكة, استغلها ممثلون فاشلون لقوة حضارية واعدة. أدرك المثقف العربي يومها أن المعركة غير متكافئة, وهم لم يطلبوا أكثر من فترة, لاستنهاض قواهم مجدداً, واللحاق السريع بالركب الحضاري الأوروبي. لكن المستعمر, ما أراد أن يمنح هذه الفرصة لكيان ثقافي يدرك تماماً, أنه طموحٌ وذو كفاءة عالية للمنافسة. لقد خرج المستعمر من البلاد العربية ـ‏الإسلامية, وترك حيازم أمنية داخل أقطارها. هكذا فتح جيل كامل عينيه على كيان لايملك فيه قراراً. فكان اقتصادنا هو ما يخططون له ‏واجتماعنا وثقافتنا هي ما يقرأونه ويحددونه..‏وسياستنا هي ما يملونها ويصنعون قرارها. فإن كان الغرب لم يفلح في أن يبيدنا كما كان شأنه مع الهنود الحمر في أمريكا, فإنهم راقبونا وحاصرونا وحاربونا حتى لانعود مجدداً إلى الواجهة. كان هذا القدر من الوعي حاضراً‏ بصورة ما في ذهن حركات التحرر الوطني في البلاد العربية والإسلامية. لكن الأمور سرعان ما تغيرت. وبدل من أن تزداد تمنعاً ‏تحت طائلة الإرهاب الثقافي, نحت منحى سهلاً, وسلكت مسلكاً ‏مريحاً, فالتفتت إلى نفسها, فإذا بها تتقزز من صورتها ومن وجهها الذميم, وركودها أمام ركب حضاري سريع الخطو. فأعلنت حينها المصالحة مع مقاصده, وجردت سيف الخصومة على ذاتها.. فكان التراث هو هذا الميدان الذي جرت عليه الجولة الأخرى من الصراع, في ضوء هذا الانقلاب في الموقف من الذات, برزت إشكالية التراث, كمسؤول عما نحن عليه من انحطاط. فكان السؤال التقليدي ـ البسيط: لماذا تقدم الاخرون وتخلفنا؟ وكان أولى أن يطرحوا هذ االسؤال بهذه الكيفية: لماذا ضعف المسلمون والعرب وقوي غيرهم?
إن وضعنا في العالم العربي ـ الإسلامي, لايسمح لنا بالنظر إلى التراث من موقع أعلى. لأننا نقف على أرضية أدنى من ذلك. بل نعيش لحظة حرجة من وجودنا الحضاري. هذا لايعني أن نقد التراث أمر مستحيل علينا, بل إن هذا النقد غدا مسؤولية على عاتق المثقفين, على أساس من الاجتهاد وبدل الوسع. لكن ما نراه الآن, هو تمثل باهت لتراث الأغيار, وممارسة نقدية استفزازية تلخص اضطراباً ‏باتولوجياً. إن شعار «نحن والتراث» مقابلة وهمية, لأننا نحن لازلنا هذا التراث في صورته الأدنى!

الإسلام في ضوء التقرير الاتنولوجي

أسجل ابتداءاً, بأن الإسلام كان الحدث الأهم الذي ساهم في نقل المجتمع العربي من طور الثقافة البسيطة والقارة نسبياً, إلى مرحلة الثقافة المركبة, والوعي الزمني والنص المكتوب. لذا فإن الحديث من وجهة نظر تاريخية يفرض التعاطي مع الثقافة العربية بصفتها هذا المركب التاريخي العربي الإسلامي. وبما أن المجتمع العربي والإسلامي حينئذ كان قد خطى خطوة رائدة في مسار تطوري متواصل, يستند إلى رؤية شمولية ويتأطر بمنظور مستقبلي بعيد المدى. كان من حق الاتنولوجيا هذه المرة, أن تعلن استقالتها مادام الإسلام, يخرج عن اختصاصها إننا بالتالي أمام تراث مدون, نستطيع من خلاله الوصول عبر السبر والتأويل إلى أعمق بنياته. وفي البداية, أرى من المفيد أن أشير إلى تلك الحيرة المشهور على رائد الاتنولوجيا البنيانية, بخصوص الإسلام. وسوف يبدأ بحثنا من هذه الحيرة والقلق اللذين عبر عنها ليفي ستراوس أثناء رحلته إلى الشرق.
يذكر ستراوس في المدارات الحزينة, بأنه صادف أثناء رحلته في القطار بين كاشمير وراوالبندي, حدثاً غريباً ـ مع أن الغرابة أمر شاذ في عرف الاتنولوجيا البنيانية‏ـ يتعلق الأمر بامرأة باكستانية مسلمة, برفقة زوجها وأبنائها. كانت المرأة حسب وصف الكاتب منطوية على نفسها, مديرة ظهرها للغريب ـ أي ستراوس ـ‏مصرة على عزلتها. كان لابد على العائلة أن تنقسم إلى قسمين: الأم والأبناء في الجناح المخصص للنساء, في حين ظل الأب يحتل الأماكن المحجوزة, ناظراً ‏إلى الزائر الغريب شزراً (1) .
كان ذلك الموقف المحرج للاتنولوجي الفرنسي, المبرر اليتيم, لكي يمضي في عنفه ـ بلا هوادة ـ ضد الإسلام, ناسجاً‏ له صورة قاتمة, لاتكاد تمت بصلة لذلك المنهج الذي أرساه قبلاً. الصورة التي حاكها عن الإسلام, نتيجة شعور عارم بالقلق تجاه تاريخية الإسلام المحيرة. هذا الأخير الذي ما كان له أن يظهر في هذه البقعة من العالم, فيما لو نجحت محاولة الاتحاد بين العالم المتوسطي والهند (2) . ان ستراوس لايخفي حيرته من موقف الإسلام من التاريخ. هذا الموقف الذي يتناقض مع الموقف الغربي بل ومع ذاته أيضاً (3) , إن اتصال المسلم بالآخر, أمر مقلق للأول (4) . وذلك أن نمط حياتهم قائم على نفي الآخر. لقد وضعهم نبيهم في مأزق تناقضي بين عالمية الرسالة, والقبول بتعددية الإيمان (5) . إن الأخوة الإسلامية كما رآها ستراوس من خلال الرحلة الأخيرة, تقوم على أساس ثقافي وديني, وليست ذات اعتبارات اقتصادية أو اجتماعية (6) .
ففي النتيجة كانت الصورة التي حاكها ستراوس عن الإسلام, زاخرة بأنواع التهم, والعنف الذي يقوم على التسرع في إصدار الأحكام. عنف ناتج عن جهل أو تجاهل, يجعل أحكام الاتنولوجي المتمرس في البحث لاتختلف عن حكم أي زائر عادي, يعتمد الرؤية المحدودة, وينأى عن مصادر المعرفة بالآخر. ويظهر أن ستراوس أثناء دفاعه المستميت عن وثنية الهنود مقابل ما يصفه بديكتاتورية التوحيد الإسلامي, كان يخطو الخطوة ذاتها التي قام بها يهود الجزيرة العربية أيام البعثة حيث رموا بالتوراة جانباً, وراحوا يساندون الوثنيين العرب في معاركهم ضد التوحيد, ويمدحون في معتقدات المشركين, هذا بعد أن كانوا يحتكرون التبشير بذلك قبل ورود الإسلام. إن العتاب الأول على رائد الاتنولوجيا البنيانية,‏هو أنه تنكر لكل النتائج التي توصل إليها أثناء أبحاثه الميدانية في أدغال الأمازون. فإذا كان قد جاهد لإيجاد تفسير لأكثر الأشكال الثقافية غموضاً, كيف يعلن عن عجزه وقلقه أمام تاريخية الإسلام. هذا ناهيك عن أنه استند في موقفه على أعراف معاشة, متناسياً ‏أن الإسلام ينتمي إلى نسق الثقافة المدونة والنص المكتوب. فعندما يعوز الباحث الأوروبي إلى القدر الكافي من المعلومات عن المجتمع والتاريخ الإسلاميين.. ها هنا يكون العود التقليدي إلى الرصيد الاستشراقي. وهو ما رأيناه ـ فعلاً‏ـ عند ستراوس, وهو أكبر رافض للأحكام المعيارية الأنوية. إن الأمر يتعلق بازدواجية يفرضها وجود عالم الأجناس في جزء من العالم الإسلامي, لايمثل بالضرورة الصورة الحقيقية عن المجال كله. نظراً لتميز البنية الثقافية لهذا المجال, بتعدد الأشكال والألوان والتجارب والخصوصيات. نحن أمام ظاهرة ثقافية يتداخل فيها الروحي بالمعيشي, وتصطبغ بأشكال اجتماعية وأنساق حضارية مختلفة من الصعوبة بمكان استقراءها من خلال التأمل السريع في بؤرة محدودة. هكذا سوف تكون نهاية ستراوس حزينة, من حيث وقوعها في لحظة فشل, أو ربما لحظة عياء, سوف نتبينها بوضوح في تغيير لهجته حالما يبدأ التعاطي مع الإسلام. وكان على ستراوس, بدل أن يبني أحكامه من خلال رد فعل بسيط لموقف من المرأة الباكستانية, أن يدرك بأن العالم الإسلامي بحجمه الجغرافي وتعقد تاريخيته وثراء مخزونه الثقافي, يستلزم منه ـ من باب أولى ـ‏إقامة أطول واحتكاكاً بحجم ما بدله في مداراته الحزينة. هذا إن أعفيناه من أن يتصل بهذه الثقافة من خلال مدارسها وجامعاتها وعلمائها, وليس من خلال حفرياتها وفلكلورها الشفهي.

تصحيح المنظور إلى الحضارة العربية ـ الإسلامية:

في البدء, يتعين علينا الإعتراف بحقيقة انتماء الثقافة العربية والإسلامية إلى نسق الثقافة التاريخية ذات الإيقاع التطوري الشبيه بالتاريخ الغربي تماماً. أي بتعبير آخر, لاتنتمي إلى جنس الثقافات «الباردة» ـ بتعبير ستراوس ـ أو الكيانات الاجتماعية القارة واللاتاريخية. فكل مقومات الثقافة التطورية متوفرة في هذا النسق, بدءاً بامتلاكه الذاكرة المدونة القادرة على توفير الإرادة اللازمة للوقوف عند البنى اللاواعية لهذه الثقافة,‏من حيث أنها شهدت أطواراً‏وتغيرات إلى جانب حفاظها على بنيتها الثابتة.. مروراً بامتلاكها رؤية إنسانية شمولية من حيث أنها تقدم نفسها بصفتها العالمية. إن المجتمع العربي والإسلامي, هو مجتمع كتابة ودولة ورؤية تاريخية. فعلى الرغم من أن المجتمع العربي ما قبل الإسلام, أي المجتمع الجاهلي, كان قد شهد سلسلة من التحولات المهمة على صعيد تكامل الخط والكتابة وبداية تشكل الملامح الأولى للتدوين في صورة ما, إلا أن الإسلام يبقى هو الحدث الأبرز في تاريخ الكيان العربي. لقد أدّى إلى توسيع نطاق الجماعة العربية بفعل المصاهرة والمثاقفة, لكي يصبح المجتمع العربي يضم أجناساً‏وأعراقاً مختلفة; تم هذا الاختراق بفعل الدعوة والفتوح الإسلامية. لقد احتج يوماً ماسينيون على السياسة الكولونيالية الفرنسية بقوله: «إن شعباً‏استطاع كالشعب العربي وخلال ثلاثين قرناً, أن يتحمل تلك الطريقة القاسية لشظف العيش في الصحراء, ليس شعباً‏ تافهاً‏ أو هزيلاً[...] ثم إن هذه النعوت ليست حججاً: فالبدو لايستطيعون شيئاً إزاء ذلك, لأنه لامجال هناك لإقامة مدن في الصحراء» (7) . لكن في الواقع, لم يكن العرب يفتقرون إلى الفكر التاريخي. لقد استطاعوا تغيير مجرى تاريخهم بفعل التوسع والاحتكاك والمثاقفة. أي مقتبساً عنهم وقابساً لهم, بتعبير أبي حيان التوحيدي.
إن الثقافة العربية الإسلامية من هنا, هي ثمرة لهذا التثاقف المعجز, الذي استطاع في فترة وجيزة من الزمان أن يكون أرقى حضارة في العالم. وهذا حقاً‏ ما يعود بنا إلى ما قرره ستراوس آنفاً, بأن مشكلة ضعف الثقافات يكمن في عزلتها وعدم تواصلها. لكن كيف تم هذا التواصل؟ ستراوس,‏يتحدث هنا عن أسلوب وحشي. لم يكلف نفسه مشقة فهم فلسفة الجهاد الإسلامي وأبعاده مثل ما قضى شطراً ‏من حياته في أمازونياً, يفكك أسطورة الأرنب البري والشفاه الشرماء.. إن الازدواجية في المعايير واضحة هنا.. فقد تعامل ستراوس بصورة ظواهرية مع الثقافة الإسلامية. والمشكل هنا, أن ستراوس تجاهل حقيقة تاريخية, وهي أن الإسلام استطاع الاتصال بكافة الشعوب ومختلف الأنساق الثقافية بروح الاكتشاف والتعارف والمقابسة. فالفتوحات التاريخية الإسلامية ـ‏مع كل الملاحظات التي تثار حولها‏ـ لم تكن تشبه حركة الإبادة التي قام بها المستعمر الغربي في سبيل نهب الشعوب. فهي حركة كانت تهدف إلى توسيع رسالة التوحيد, لتشمل العالم. وستراوس يدرك ذلك دون أن يعي ما يقول. لقد سبق وأكد, بأن الأخوة في الإسلام, ليست اقتصادية أو اجتماعية, بل هي ثقافية دينية. ويكفي هذا دليلاً على أن حركة الفتوح الإسلامية في مضمونها الرسالي المقنن في نصوصها المرجعية, هي حركة حضارية بالمعنى الذي تفيده عملية نقل الأفكار, وليس حركة مادية لاستعمار ونهب الآخر, كما هو الحال بالنسبة لحركة الإبادة الغربية. فخلال هذا المدّ, لم يكن من الغرابة أن يحكم أهل فارس العالم الإسلامي أو الأتراك أو العرب أو.. إنها أكثر أنواع المصاهرة نجاحاً في تاريخ الثقافات. أما اتهام الإسلام بإبادة كل سابق من أجل ثقافته, فإن تاريخاً كاملاً من الفتوح والنشاط الإسلامي, أظهر مدى قدرتهم على احتواء كل الثقافات, بل والسعي إلى إحياءها. فالمهمة الأساسية, أو ان شئت البنية القارة في هذه الثقافة, هي «التوحيد» إن الحركة العربية الإسلامية تجاه فارس مثلاً, لم تكن لتلغي تراثاً ثقافياً بهذه الأهمية. لقد بقيت فارس تحتل مكان الريادة في تاريخ الحضارة الإسلامية, وأخذ عنها الفاتح العربي المسلم كل ما رآه إيجابياً. لقد كانت هذه الفتوح مزدوجة الأبعاد. فهي من ناحية, حركة للتعارف والاكتشاف, ما يؤكد على منحاها التثاقفي السلبي, وحركة للتنوير والتثقيف, وهو ما يعبر عن المنحى التثاقفي الإيجابي. لقد قدم الفاتح العربي والمسلم إلى فارس فكرة التوحيد حيث ظل يتخبط فيها الفكر الفارسي القديم. كان التوحيد الخطوة الحاسمة للقضاء على الثنوية الفارسية. لكن مع ذلك, أفاد هذا الفاتح من كل الانجازات الحضارية لفارس من دون أي شعور بالتعالي. كما استطاع الفاتح أن يقترب من شعوب بدائية من دون أن يلجأ إلى أسلوب الإبادة أو تشكيل أسواق الرقيق. فقد أدخل الإسلام شعوباً‏أفريقية إلى دورته الحضارية التاريخية. فكان نجاح الإسلام في أفريقيا غير مسبوق بالعنف. لذا كان بإمكانه النجاح في العالم كله لو أتيحت له فرصة المضي في حركته التثاقفية. ووجود ملايين المسلمين في بلاد الغرب, أكبر دليل على أن الثقافة العربية/ الإسلامية تملك أن ترقى مستوى البديل الحضاري عن الغرب.
لابد من إدراك طبيعة المسار التاريخي للحضارة العربية الإسلامية. إننا بصدد الحديث عن كيان حضاري حقيقي وليس كياناً‏بدائياً. إلا أن المسار التطوري للثقافة العربية الإسلامية, يختلف عن المسار التطوري للغرب. فلقد كان دخول العرب والمسلمين إلى الأندلس وصقلية.. بمثابة اللحظة الأساسية في مسار التحول الأوروبي قبل عصر النهضة. فالنزعة التطورية هي بالنتيجة نزعة متصلة بجوهر الثقافة العربية الإسلامية. من هنا, يمكننا القول, أن رسالة التطور بالمعنى المجرد, رسالة العرب ردّت إليهم. غير أن تاريخية الحضارة العربية الإسلامية تنتمي إلى نسق التطور المتوازن. من هنا اختلاف فلسفة الإنسان في الثقافة العربية الإسلامية, عن نظيرتها في الغرب. فالإنسان في فلسفة الأنوار هو طغيان الأنا, ونمط من الكينونة متحرر من كافة القيود الروحية اللامادية. بينما هو في منظومة القيم العربية الإسلامية, وجود متكامل بين حركة الروح والجسد.. بين التطور المادي والقيم الروحية. إن قضية الروح ليست قضية بسيطة, إنها جوهر مشكلة العالم, وهي بالأساس مأزق الحضارة الغربية. والواقع أن العالم هو في حاجة للحفاظ على مكتسبات الحضارة الغربية. وحركة الإسلام في حقيقتها, حركة من أجل خلق التوازن بين الروح والتقنية.. بين الدين والعلم..‏بين الغرب والشرق.. فهي بهذا الاعتبار, ثقافة المستقبل. فإذا كان الشرق بشكل عام, يمتلك الروح, على أن الإسلام هو الصورة الأكثر توازناً لتلك الروح, والغرب يمتلك التقنية, ففي ظل التواصل وحوار الثقافات, قد تقبس إليهم الروح,‏ونقتبس منهم التقنية,‏بهذا وحده قد يسير التاريخ وجهته الصحيحة.
ومن الواضح إذاً, أن موقف ستراوس من الإسلام, لايمثل الموقف العلمي للاتنولوجيا البنيانية التي قضى عمراً ‏طويلاً في سبيل دعم مشروعيتها. إنه بالأحرى, موقف شخصي مبني على خلفية ذات صلة بالذاكرة الإيمانية, التي طالما عانى منها في ريعان شبابه. لقد تصرف بهذا الخصوص كيهودي, يختزن كل النظرة السلبية للإسلام. وهو المبرر الوحيد لتفسير هذه الازدواجية في المعايير.
لقد حدد الإسلام التعامل مع الآخر على أساس التعارف, «وجعلناكم شعوباً‏وقبائل لتعارفوا»‏(13/49). وهذا التعارف ينبني على قيمة جوهري, هي السلام. فقد كانت فكرة التوحيد بمثابة الخطوة الحاسمة في إرساء الإسلام بدءاً, في صميم التصور الإنساني للعالم. فالشرك بما يتركه من تمزق في عالم التصور, وأيضاً‏ من صراع في واقع الكيانات الإجتماعية والثقافية, لقي نهايته مع الحدث الإسلامي. فحركة الإسلام تجاه الآخر, إما اكتشافا له وتعرفا عليه, وبالتالي اقتباساً منه وإقباساً إليه, من هنا «اطلبوا العلم ولو في الصين», «قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق» (20/29). وإما أن تكون هذه الحركة, انقاذاً للآخر, وانتصاراً للمهمشين, ومعركة من أجل إقرار العدالة الاجتماعية. فالجهاد في الإسلام من حيث هو مقارعة القوة بالقوة, ليس سوى مرحلة انتقالية في هذا المنظور الإسلامي الذي لايستند إلى العنف في عملية التبشير بعقيدته فـ «لا إكراه في الدين». فالعنف في الإسلام, هو مقدس, من حيث هو دفاعي, فهو خيار يفرضه الآخر في تعامله مع الإسلام. هذه الحقيقة يتعين أخذها بعين الاعتبار, خصوصاً‏ وأن التاريخ يشهد, بأن عدداً‏ من البلدان, دخلها الإسلام من دون قوة, كبلاد الصين والهند وافريقيا السوداء. فالجهاد هو حركة في سبيل تعميم فكرة «التوحيد», وفي سبيل المستضعفين, «وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين». الجهاد بمعنى التدافع بالقوة, هو رهان مؤقت في التصور الإسلامي للعلاقة بين المسلمين والكيانات الأخرى, لأن هناك ما هو جوهري, جهاد النفس ـ الجهاد الأكبر ـ بما هو حركة دائمة للانتصار على النفس أولاً, قبل أن تنطلق في حركتها الرسالية نحو الآخر. هناك بالتالي فقه متكامل, ورؤية شمولية تحتفظ بها المدونات المرجعية للإسلام, تحدد المفهوم القيمي لفلسفة الجهاد الإسلامي من حيث الوسائل والأهداف, وتؤطر علاقة المسلم بالآخر في حال السلم كما في حال الحرب. فالآخر من حيث المبدأ يحتفظ بمكانته كإنسان, بناء على مبدأ الأخوة العامة, فخلافاً لما قرره ستراوس بخصوص الأخوة الدينية, ينطلق الفكر الإسلامي إلى أبعد حدوده في تكريم الآخر, من منطلق انسانيته فـ «الإنسان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق». لذا كان ـ أحرى ـ على مجدد الاتنولوجيا, أن يولي للإسلام من الوقت بالمقدار ذاته ـ على الأقل ـ الذي بدله في سبيل استكناه البنيات الثقافية لكيانات بدائية. لقد كان فوكوياما يتساءل عن أي مستقبل كانت أمريكا ستظفر به, فيما لو تركت القارة تحت تصرف هذه المخلوقات البدائية, من الهنود الحمر والازتيك الذين كانوا يذبحون أطفالهم قرابين للألهة (8) .
إنها حقيقة واضحة, غير أن مثل هذه الظواهر ما كانت لتثير انتباه ستراوس, الذي تجاوزهاýإلى البنيات اللاواعية, جاعلاً من الهمجية أرقى أشكال الثقافات إنسانية, في حين تجاهل الجهد التاريخي الذي بذله الإسلام من أجل القضاء على مظاهر التوحش والبداوة كمقدمة تاريخية حتمية لقيام كيان اجتماعي أخلاقي, ولتشكيل دولة القانون; معتبراً قيم البداوة مناقضة لمقاصد الإيمان.‏وهذا التحويل في صميم الكيانات الهمجية لم يتم بالإبادة, بل بالأناة «ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك» وهذا طبعاً, لايصرف أنظارنا عن تلك الهنات الكثيرة في الإسلام التاريخي بعد أن تعرض لسطو قوى التحريف. فباتت مقاصد الفتوح ـ‏على تميزها بالمقارنة مع حركة الغزو والإبادة الأوربية ـ أقل اتصالاً بالأهداف القيمية العليا للإسلام.

الثقافة العربية الإسلامية, ورهان الحداثة.

في ضوء ما سلف, لانرى في الحداثة سوى بضاعتنا ردّت إلينا, مع الفارق هذه المرة أننا قدمناها عبر إقباس حرّ في الجامعات التي أنشئت في البلدان التي خضعت للفتوح الثقافية الإسلامية.‏بينما الحداثة اليوم,‏تُقدم لنا بابتزاز, وتقصرنا على ضروب من الارتهان, لسيادة عرقية. المشكلة اليوم, أن خطاب الحداثة يتبناه كيان حضاري صنع تاريخه على أساس العنف, فكانت نظرته للآخر, لاتتجاوز كونه سوقاً لترويج بضاعته. فهو فهم احتكاري للحداثة. من هنا, فإن مشكلة الحداثة في الثقافة العربية الإسلامية, ذات وجهين: الأول يتعلق بمدى تفاعل الإنسان العربي والمسلم مع ذاته. والثاني, له صلة بالرقابة الغربية التي وضعت قوتها في سبيل حماية تفوقها. وهذا هو الفرق بين حركة التمدن العربي الإسلامي, وبين الحضارة الغربية. فالأولى لما حققت أهدافها في التحويل الحضاري للكيانات الثقافية الأخرى, لم تصادر على من يقود هذا الركب الحضاري. أما الغرب, فقد احتكر الحضارة الإنسانية في حدوده العرقية. من هنا عالمية الحضارة العربية/ الإسلامية, وعرقية الحضارة الغربية.
إذا أصبحت مشكلة الحداثة شأناً ‏داخلياً يتحدد بمدى تفاعل الإنسان العربي مع منظومته الثقافية, فهذا معناه, أن المتهم الأول فيما نحن عليه من تردي, هو الإنسان العربي نفسه. والحال أن هناك عوامل شتى قد تحول دون إدراك المضمون الثقافي الذي يجعل الحداثة قضية ملحة في راهن العرب. ولعل النسبة المئوية المهولة للأمية في الوطن العربي, هي أكبر عامل وراء هذه القطيعة والفصام الخطير بين الإنسان العربي وثقافته. من هنا تعين البحث عن علاقة الحداثة بالمضمون الثقافي العربي الإسلامي, كخطوة نظرية, وتأسيسية لمشروع حداثة تستمد مقوماتها من وعينا التاريخي وثقافتنا الخاصة, وتقوم على أساس تماسك الهوية العربية الإسلامية.

جدل الضرورة والحرية في الفكر الإسلامي

للإنسان في الفكر الإسلامي, مكانة خاصة. فهو من جهة, محور أساسي للخطاب الإلهي, وغاية العمران, والمسلط على الأرض,‏هذا ما تعكسه النصوص المرجعية للفكر الإسلامي حيث: ـ «ولقد كرمنا بني آدم‏[..] وفضلناهم على كثير مما خلقنا تفضيلاً» (70/17). «لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم» (4/95). «إني جاعل في الأرض خليفة»(30/2).
غير أن هذه القيمة ليست معطىً للإنسان بوصفه كينونة منفلتة من النظام, أو بصفته إرادة مطلقة السلطان.. بل إن أصل قيمته رهين بأداء الأمانة واتصاله بالناموس. فكل النصوص الحاكية عن الإنسان المتفوق, والكامل, إنما تربط هذه السيرورة التكاملية بوصفها سيرورة داخل النظام, وليس خارجه. فالإنسان مثله كباقي الموجودات الأخرى, مطالب بالانضمام إلى حركة الناموس: «أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعاً‏وكرها وإليه يرجعون» (83/3). لذا فإن الإخلال بهذا الشرط,‏يجعل الإنسان أقل شأنا في الوجود فيرتكس مرة ثانية. «إن هم كالأنعام بل هم أضل سبيلاً» (44/25).
إن مكانة النظام في التصور الإسلامي, تطرح كواقع قائم,‏يشمل كافة الوجودات. والإنسان أمام هذه القوانين يحتل موقعاً‏متواضعاً, فلا طريق أمامه لنيل الكمال إلا بمزيد من الاتصال بالنظام «فلن تجد لسنة الله تبديلاً», و«لن تجد لسنة الله تحويلا». والإسلام يصف لنا هذه المكانة المتواضعة داخل النظام,‏بالقول:
ـ وخلق الإنسان ضعيفا 28/4
ـ إن الإنسان لفي خسر 2/103
ـ ثم جعلناه أسفل سافلين 5/95
ـ هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكورا 1/76
فليس أمام الإنسان سوى التوسل بالقوانين, والانضمام إلى النظام, في سعيه إلى الكمال. إنه وجود حرّ, لكن في نظام..‏ومخير لكن مسؤول, «فمن يعمل مثقال ذرة خيراً‏ يره, ومن يعمل مثقال ذرة شراً ‏يره». إن الإنسان في التصور الإسلامي مدعو إلى العمل, والارتقاء بوضعه, في سيرورة متواصلة. إنه ضرب من الكدح لبلوغ الكمال «يا أيها الانسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه». فهو مرتهن لكده وعمله:
«لايسأم الإنسان من دعاء الخير وإن مسه الشر فيؤوس قنوط» 49/41
ـ «وإن للإنسان إلا ما سعى» 39/53
ـ «وينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وآخّر» 13/75
ـ «أيحسب الإنسان أن يترك سدى» 36/75
ـ «إنّا خلقنا الإنسان في كبد» 4/90.
فالإنسان في ضوء ما سلف هو كائن مسؤول وحريته في نهاية المطاف لاتأتي بالتمرد على النظام. إن تحرره من النظام يتم بمزيد من الإتصال بالقوانين الممكنة. إن وضعه في النظام, هو وضع حرّ وديمقراطي, لو صح التعبير. فهناك حيث أمامه أكثر من مخرج قانوني لتحقيق انطلاقته, وللخروج من سطوة القوانين: «فلا جبر ولا تفويض, بل أمر بين أمرين».. لقد أطنب الفلاسفة العرب والمسلمين, في تحليل موضوع الجبر والاختيار. وكان أن قرروا هذه الوسطية. فالإنسان مجبور في صورة مختار. أي أنه حرّ داخل النظام. إن الإنسان ملزم بقوانين النظام, لكنه حرّ في أن يختار اتجاهه. حرّ حتى تحت قهر القوانين. هناك, بالتالي فسحة من الأمل هي ما يقدح الرغبة في مواصلة الكدح نحو الكمال. إنه يملك تجاوز قهر النظام من خلال التوسل بأمثل القوانين, وأيسرها. فهو حرّ في نظام, ومجبور في اختيار. إن فلسفة التغيير في المنظور الإسلامي, لها علاقة وثيقة بالمكانة التي يحتلها الإنسان في هذا التصور, كمسؤول كادحýإلى الكمال, وليس سيداً مطلق السلطان على العالم. إنه التغيير الذي يتم بتفعيل الإنسان لكينونته, وسعيه الجاد لتحقيق تكاملها مع النظام الكوني, «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم..» 11/13 و «ذلك بأن الله لم يك يغير نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم» 52/8.
الإنسان إذن مسؤول داخل عالم تتحكم به قوانين صارمة «إنّا كل شيء خلقناه بقدر» 49/54. فهو ليس هملاً متروكاً «أيحسب الإنسان أن يترك سدى» 36/75. ولا شقيا تحت ضغط إرادة عمياء
أو مقهور تحت سطوة مدبر عابث كما هو حال «سيسيف» في وجودانية ألبير كامو; «طه, ما أنزلنا عليك الكتاب لتشقى» 2/20, «وما خلقنا السماء والأرض لاعبين» 16/21.
لقد تميزت نظرة الإسلام إلى مبدأ الحرية والضرورة, بحيث انتهت إلى إقرار فلسفة متوازنة من شأنها إزاحة كل التصورات السلبية ـ من أمام الإنسان‏ـ التي تختزل وجوده في صورة عدم, أو باب مسدود, أو زمانية متناهية.. فالإنسان داخل النظام, يمكنه, ليس فقط تغيير أحواله, بل وأيضاً ‏تدارك أخطائه. ففي الإسلام هناك عقيدة جرى بها العمل, وإن اختلف ظاهرياً, حولها المسلمون, تتعلق بمسألة «البداء».. التي تقدم نفسها كمخرج عادل للإنسان, يتلخص في أن العالم بقوانينه الصارمة وسننه الحتمية, يتصف بنوع من المرونة, من حيث أنه ينفتح على اتجاهات مختلفة. لذا بإمكانه تغيير أحوال مستقبله عن طريق التوسل بقوانين متعددة. وهذا ما يؤكد حريته داخل النظام. إنه في وضع ديمقراطي ضمن قوانين مرتبة بشكل موزون وعادل, تمنح الإنسان فرصة لتغيير مجرى مستقبله وصنعه, وليس مجرد مستسلم أو مقصور على قوانين أحادية الاتجاه.. وضعية مقهورة أمام مستقبل ممنوح لامفر منه كما تجسده تلك التراجيديا الأوديبية. من هنا «لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ماýبأنفسهم». فيغدو الإنسان, بقدر ما يصنع تاريخه ـ وذلك طبعاً استناداً إلى كافة القوانين المتاحة‏ـ فهو متحرر منه, مرتهن بفعله ونشاطه, وهذا ما تؤكد عليه النصوص الحاثة على أهمية الإفادة من السنن التاريخية والأحداث الماضية. فقيمة هذه العقيدة التي تضارع مفهوم النسخ على صعيد التشريع, أنها تمنح الإنسان مزيداً‏ من الحرية, فلا تقصره على قدر واحد, «أفرّ من قدر الله إلى قدره». وأيضاً تعطيه فرصة لتدارك أخطاءه وتعديل نتائج المستقبل بالمعنى الذي ذهب إليه كارل بوبر بخصوص «الأثر الأوديبي», كما تجعل الإنسان سيد مصيره وصانع مستقبله; «وإن للإنسان إلا ما سعى» 39/53.
إذن, نحن أمام رؤية متوازنة ومتداخلة بين مبدأ الحرية ومبدأ الجبر.. ما بين البنية والتاريخ والإنسان. يستطيع الفكر العربي الإسلامي المعاصر, أن يجعلها مطية لتحقيق انطلاقة واضحة باتجاه الحداثة. فهذه الأخيرة ليست في الحقيقة مشكلة في الثقافة العربية الإسلامية, بل هي إشكالية علاقة ما بين الإنسان العربي ووعيه بجوهر ثقافته. أي أنه مرتهن لخيارات خاطئة, تجعله يتصور بأن الحداثة ـ في صورتها الغربية النموذجية ـ مسألة متاحة بمجرد التهوين من هويته, والانضمام اللامشروط في المنظومة الثقافية الغربية ـ وهذا خيار يتجاهل مضاعفات الاستيلاب الثقافي ـ أو أنها قضية مستحيلة, وهو ما يجعل منها مسألة عرقية. والحال, أننا أمام رؤية قاصرة, لاتنظر إلى المشكلة من زاوية توازن الأبعاد الثلاثة داخل كل مشروع حضاري, أي البنية والتاريخ والإرادة! فالحداثة تختزل نفسها اليوم في رهان القوة. وكان الغرب النموذج الأمثل في تحقيق هذا التفوق على صعيد امتلاك الطاقة اللازمة للسيطرة على الطبيعة. لكن, مع الأسف, لايملك خياراً آخر في موازات ذلك التطلع الهستيري المستمر إلى مصادر القوة, والطاقة.
والتصور الإسلامي, يملك رؤية مغايرة تماماً,‏لهذه النزعة المتعصبة للسيطرة على الطبيعة; «كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالاً وأولداً, فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا, أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة» 69/9.
إن القوة, مطلب رئيسي في الإسلام, «واعدوا لهم ما استطعتم من قوة». لكنها ليست هدفاً أسمى, إذا ما تحولت إلى غاية مستقلة بذاتها. إن تحقيق كل هذا الوثب, الذي قد يعرض البشرية كلها ـ وقد عرضها فعلاً‏ـ إلى أخطر أنواع الدمار, لايتم بالقوة فقط. فالغرب اليوم يدفع ضريبة جنونه, واختياره. لأن هدفه في تحقيق السيطرة التامة على الطبيعة لم يتم قط. وكلما تطورت المدنية وتعاظمت وسائل السيطرة, كلما أنتجت مظاهر أخرى من التحدي. لقد كان الإنسان بالأمس, يموت بسبب الحمى العابرة والميكروب الضعيف, وهو اليوم يموت من الإيدز والاكتئاب.. لقد أدى الاختيار الأرعن لحضارة جعلت هدفها الرئيسي, البحث عن الطاقة, أن تجعل الأرض تحت رحمة الطاقة نفسها. واستطاع الغرب أن يصنع ما من شأنه تدمير الأرض, لكنه لم يتمكن من صنع ما ينقذ به البشرية من مخاطر التدفق النووي. وهكذا بات الإنسان ـ الذي كان حتى الأمس القريب يعيش أمناً ‏داخل كياناته الاجتماعية الأولى ـ لايجد الأمان من أي شيء. فغدا الحديث يومياً, عن الأمن الصحي والأمن الغذائي, والأمن الثقافي.. فأي سلام وأي أمان, جاءت به حداثة الإنسان الغربي. وهذا بالتأكيد لايعني أن طريق التحدي الذي سلكته الحداثة خاطئ من حيث المبدأ, بل لأنه طريق يتجاهل المدى الاخر للحياة, والأبعاد الروحية للإنسان. وهاهو اليوم, يدفع ـ غالياً ـ ضريبة قرون من التنكر للروح. إنه شكل من الأصولية أو التمامية الغربية ـ والغرب كان دائماً‏ أكبر أصولي ـ لايرى في التوازن والوسطية سبيلاً إلى تحقق مشروعه.
هذا ـ إذن ـ جانب من تاريخية الإسلام وتصوره, الذي حيّر ستراوس, لأنها لاتلتقي في الاتجاه الواحد مع تاريخية الغرب. فليس هناك بالتالي, أي مشكلة من جنس مشكلة الحداثة في الثقافة العربية/ الإسلامية. لأن مثل هذا الحكم, لايمكن أن يصدر إلا عن قارئ سيء الاطلاع على التاريخ. الحداثة التي قدمناها للغرب, في الطب (ابن سينا والرازي....) وفي الرياضيات (الخوارزمي...) والكيمياء (جابر بن حيان..) والبصريات (ابن الهيثم) وفي التاريخ (ابن خلدون) وفي الفلسفة (ابن رشد و...).. كل هذه الانجازات رافقت مسيرة الغرب الأولى إلى أن استوت ساقه على طريق النمو والتعاظم. فإذا كان أبو الحداثة «ديكارت» ليس سوى تنويعة باهتة على الغزالي, والكوجيتو مختصراً نافعاً‏ عن «المنقذ من الضلال», فلا أرى في سبينوزا سوى نسخة عن ابن عربي, ولا في الكوميديا الإلهية لدانتي سوى اقتباساً ‏من «رسالة الغفران» لأبي العلاء المعري, ولا في حكايات لافونتين Fables delafontaine, غير تنويع على «كليلة ودمنة» لابن المقفع..‏فلا نعتقد أن الغرب الذي ظل لسنين طويلة يستنسخ حداثتنا ـ وهو جهد يحترم عليه ـ ويتتلمذ على علومنا وانجازاتنا, أن يتحدث عن مشكلة حداثة في الثقافة العربية/ الإسلامية. وهو كلام, حقاً‏لا يصدر عن عقلاء الغرب. وليس هناك أيضاً ‏مشكلة في الفكر العربي/ الإسلامي بخصوص تعدد الثقافات, ولا وجود لتلك الحيرة أو الاضطراب اللذين وصف بهما ستراوس وضعية المسلمين, بين تعدد أشكال الإيمان وعالمية الإسلام. ذلك أنه فهم العالمية على نحو ما يفهم من عالمية الثقافة الغربية. إن عالمية الإسلام, هي إحدى مقاصد دعوته. لكن «لا اكراه في الدين». ولا وجود لبرنامج إبادة أو إدماج قسري, كما هو عنوان حضارة الغرب المعاصرة. فماذا لو قلنا للغرب, أن الثقافة العربية/ الإسلامية, هي من سينقذ حضارته ويعدلها. بما أنها تملك بديلاً ‏عن مقاصد الحداثة وتعدد الثقافات. فهذا أمر متروك للمستقبل!

مراجع البحث
(1) levi-strauss, tristes tropiques, p.455 Paris, librairie plop 1995.
(2) Tristes Tropiques p.458
(3) Tristes Tropiques p.459
(4) Tristes Tropiques p.464
(5) Tristes Tropiques p.464
(6) Tristes Tropiques p.466
(7) ماسينيون L'arabie et le proble'me arabe بتوسط د. أديب عامر مجلة الفكر العربي العدد 31 ص361 مارس 1983.
(8) المقابلة منشورة باللغة العربية في مجلة القاهرة عدد 117‏ـ أغسطس 1992 ص32ـ35.

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة