تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

خطاب الإستشراق... إلى أين؟ الإستشراق السياسي في النصف الأول من القرن العشرين

طاهر عبد مسلم علوان


الكتاب: الاستشراق السياسي في النصف الأول من القرن العشرين
الكاتب: مصطفى نصر المسلاتي
الناشر: دار إقرأ, طرابلس ـ ليبيا
سنة النشر: ط1 ـ 1998م.

[1]

ربما كان الخطاب الإستشراقي في ما تمخَّض عنه من معطيات قد جاء محمَّلاً بكثير من المداخلات التي اندمج فيها التاريخي بالأثني والجغرافي بالسياسي والقيمي بالاجتهادي والعام بالشخصي, ولذا انطبعت على أحكامه صفات ليس من السهل الفصل بين أيّ منها لأنها في مجملها العام شكلت لحمة هذا الخطاب وسُداه, فلم يعد خطاباً‏ مجرّداً مأخوذاً بأسس اللغة التحليلية المعنية بسبر أغوار الظاهرة وتفكيك بناها وتراتباتها, بل إنه نأى بنفسه بعيداً ‏عن هذه الساحة وأبحر في مديات عمد فيها إلى تكوين محصلاته الخاصة التي يصعب معها الفصل بين مراحله وتحولاته وغرضيته. فالغائية التي تحرّك فيها فرضت نوعاً ‏من النظر المؤدلج المسوَّر بالأحكام المسبقة, ولذا لم يكن هذا الخطاب الاستشراقي في منأى عن أسئلة وإشكاليات بقي الخطاب نفسه يدافع عمّا فيها ويحيل فرضياته إلى معطيات تاريخية عندما تعوزه الحجة في الإعتراف بإجحافه وغائيته.. ومن هنا وجدنا أنّ تلك الحملة المنظمة في (جيوبوليتيك) الشرق قد أزاحت الغطاء عن (بنية الاستكشاف الاستشراقي) ونأت به بعيداً‏عن منظومات الآداب والفولكلور والحياة الإجتماعية والتاريخ الحضاري العميق للشرق, وصارت كل هذه جزءاً‏من الصورة وليست الصورة كلها.. لأنّ ثنائية السياسي/ الإقتصادي القائم قد خلَّفت دويّاً لايمكن إغفاله أو تجاهله فمجرد ملامسة هذه الثنائية أفضت مباشرة إلى كشف المعطى (الأثني المسيّس) هذه المرة ثم كشفت لاحقاً‏عن أهداف استعمارية لسبر الشرق وتقديم صورة (للتابع) للغرب بكل ما فيها من محاور أساسية خطيرة.. ومن المؤكد أن (السياسي/ الإقتصادي/ الأثني) هي المحاور الأشد حساسية في الموضوع. نجد بعد هذا المدخل أننا إزاء إشكالية مركّبة, حاول الباحث (مصطفى نصر المسلاتي) الغوص فيها من خلال كتابه الموسوم:
(الاستشراق السياسي في النصف الأول من القرن العشرين) والصادر حديثاً, يقع الكتاب في ثمانية أبواب بالإضافة إلى المقدمة والخاتمة. وفي البدء يؤكد الباحث ما قاله (والزر) في أنّ «حركة الإستشراق كانت تسير جنباً إلى جنب مع التحوّلات والتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي سادت العصور التي عاش فيها أولئك المستشرقون فلا يمكن الفصل بين ما شهدته من ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية وغيرها وبين ما أنتجه أولئك المستشرقون من دراسات» ص8. وعلى هذا الأساس نؤكد ما بدأناه في أنّ فهم (الماضي الإسلامي) بحسب ما قدّمه الإستشراق يدخل في علاقة مع تجارب الاستشراق الخاصة إذ لايمكن فصل طروحاتهم بصدد هذا الماضي في معزل عن الواقع الإجتماعي الذي أثر في حياة المستشرقين بما فيها من تغيرات سياسية واجتماعية واقتصادية.
لكن هذا الخطاب ان كانت فيه مكامن (قوة) في صبره ودأبه وانكبابه على أهدافه المعلنة وغير المعلنة إلا أنّه وفي الوقت نفسه كان محمّلاً بمواطن الضعف الإستشراقي المتمثل في التحامل البشع الذي غذّته التحولات الإستعمارية في فكر المركزية الأوروبية. ص9
ينطلق الباحث في الفصل الأول نحو تتبّع (الملامح السياسية للإستشراق), وفي هذا المدخل نجد أنّ الفرضيات المسبقة المتعلقة بوظائفية الاستشراق قد أفضت إلى سؤال واضح محدد يتعلق بالملامسة الأولى ما بين الفكر الاستشراقي والكل المتكامل للمشرق الإسلامي, ببناه وثقله ومكوناته, «ذلك أن الفكر الغربي كان قد درج عندما تماسّت أمواجه وهي تضرب شواطئ المشرق الإسلامي والعربي خاصة بكل عنف, أن يحدث في أثناء هذا التماس ما يشبه الشلل الثقافي والتغلغل السياسي بحيث تظهر حركة الاستشراق في العصر الوسيط وكأنها قد وصلت إلى أعماق الحضارة الإسلامية ليستفيد منها الغرب في بناء حضارته». (ص23).
ولقد تمت عملية الإخصاب التالية بين الفكر الأوروبي والفكر العربي على هذا الأساس وأشعلت جذوة الحماس العلمي في أوروبا وبدأت رحلة العلم إلى أوروبا عندما قام (جيريير دي أورياك G.D.Aurillac) برحلة إلى قرطبة طلباً‏للحكمة ثم تبعه (أدرمان دي شابان A.D. Chabannes) عام 967م, وكان لهذه الرحلة أثر عظيم في نشر العلم العربي في أوروبا. ص25.
ثم لتتبع ذلك بالطبع حملة كبرى لنقل معارف العرب ونتاجهم الفكري والعلمي والفلسفي إلى أوروبا بالترجمات المباشرة ولكن ذلك كله رافقته ردة فعل عنيفة تجاه تلك الحصيلة الهائلة من المنجز المتنوع والكبير نظراً للمد الحضاري الذي دك حصون أوروبا وخلف آثاراً عميقة على الفكر الأوروبي عامة.
فالفكر الغربي عندما استيقظ ليجد نفسه أمام حضارة جديدة قادمة من الشرق كان أول عمل قام به هو التغلغل في أعماق الحضارة العربية الإسلامية وهو ما قام به علماء الاستشراق. ـص30ـ

[2]

أمام هذه الصورة ظنّ الأوروبيون أن المسلمين يشكلون تهديداً‏ خطيراً لهم ولديانتهم وعقائدهم وصورت أوروبا في مطلع العصور الوسطى أن هناك شعباً ‏هائجاً ‏اسموه (العرب) أو (السراسنة) وكان وصولهم ـ كما قالوا ـ إلى إيطاليا وإسبانيا كارثة وأسموهم أيضاً بالبرابرة. يقول (بيد المبجّل B.venerable):‏«قام الوباء الموجع المتمثل بالسراسنة المسلمين بتخريب مملكة بلاد الغال بعد مجازر أليمة لكنهم سرعان ما لقوا عقابهم الذي يستحقونه لقاء غدرهم» ـص32ـ.
لقد تكونت تلك الصورة المشوّهة عند الأوروبيين قبل ظهور الإسلام وليس بعد الفتوحات بل انهم عمدوا إلى الصاق (السراسنة) كأقوام همجية كافرة بالمسلمين الذين بهر أوروبا سطوع حضارتهم بتلك القوة المدعمة بالدفاع عن الدين الإسلامي.
وفي الفصل الخاص بـ (أثر الغرب على الحضارة الإسلامية) وهو الفصل الثاني ينطلق الباحث من فكرة (مالك بن نبي) القائلة بأن أوروبا اكتشفت الفكر الإسلامي في مرحلتين من تاريخها, فكانت في مرحلة القرون الوسطى قبل وبعد توماس الاكويني تريد اكتشاف هذا الفكر وترجمته من أجل إثراء ثقافتها بالطريقة التي أتاحت لها فعلاً تلك الخطوات الموفقة التي هدتها إلى حركة النهضة منذ أواخر القرن الخامس عشر, أما المرحلة الثانية فهي المرحلة العصرية أو الاستعمارية حيث اكتشفت الفكر الإسلامي مرة أخرى لا من أجل تعديل ثقافي بل من أجل تعديل سياسي لوضع خططها السياسية مطابقة لما تقتضيه الأوضاع في البلاد الإسلامية من ناحية وتسيير هذه الأوضاع طبقاً لما تقتضيه هذه السياسات في البلاد الإسلامية لتسيطر على الشعوب الخاضعة لسلطانها. ـص39ـ.
وعلى هذا الأساس فإنّ تتبّع ما أنتجه جلّ المستشرقين يفضي إلى محصلة مفادها أن ما كتبوه قد استمد مكوناته من خلفيات ايديولوجية سياسية أثرت على مناهج وبحوث المستشرقين تأثيراً بالغاً. رافق كل ذلك أسلوب (البناء والهدم) الذي اتبع كآليّة لتقديم الخطاب الإستشراقي من خلال الإطراء والمديح الذي كاله بعض المستشرقين للحضارة الإسلامية, لكن التحليل والإطراء لايستمر طويلاً إذ سرعان ما تتبعه عملية هدم وتشكيك منظمة وافتراءات متصلة ومن ذلك ما نجده لدى (جوستاف جرونبوم G.GRUNEBAUM) في تعرضه لقبول العرب للإسلام كدين جديد إذ يقول:
1ـ إن نظامه الديني من أشد النظم والديانات إحكاماً وأعظمها توافقاً‏وتماسكاً.
2ـ كان هذا النظام ينطوي على أجوبة مقنعة للمسائل التي كانت تشغل مواطنيه كما كان يتجاوب وروح العصر.
3ـ انه رفع العالم الناطق بالعربية إلى مستوى العوالم الأخرى ذات الكتب المنزلة.
ومما سبق يبدو ظاهرياً‏أن الرجل ينهج منهجاً موضوعياً‏إلى حد ما لكننا سنرى بعد ذلك أنه يهدم كل ما بناه وصولاً لأهداف محددة هي صورة للهدم.. إذ يقول: «كان الهواء يفوح بالزهد وكان الزهّاد يحرّمون الخمر ويستحبّون الإعتدال الجنسي, وكما حدث في الإسلام بعد ذلك فالراجح أن العناصر المسيحية غلبت اليهودية في تكوين نظرهم وسننهم ولكن العربي الذي كان يبحث عن الصدق لم يكن يعنيه كثيراً ممّن أخذ آراءه الدينية التي يستولي عليها, ذلك ان حرمانه من كل ميراث قومي أجبره على الأخذ من مختلف العقائد» ـ ص42‏ـ.

[3]

وبعد هذا نجد الباحث يطرح سؤالاً هاماً ‏هو: هل استطاع الفكر الإستشراقي في نهضته الحديثة وقد تأثر بفلسفة ديكارت وحرية الفكر أن يصفّي الفكر نفسه من أحقاده المذهبية القديمة? ولعل طرح هذا السؤال ينطلق من موجة التشويه المتصلة التي طرح شيئاً‏ يسيراً منها (جرونبوم) وغيره, مضافاً‏ إليها مقولات لاتقل إيذاءً من سابقتها ومنها القول بأنّ الفقه الروماني قد أثّر في الفقه الإسلامي وان الإسلام انتشر بالسيف وازهاق الأرواح بالإضافة إلى صور شنيعة من التلفيق والتعريض بالإسلام وبالرسول محمد «ص». ويردف الباحث سؤاله السابق بسؤال مكمّل له وهو: أنه إذا كان الإسلام كما يراه هؤلاء على ضوء هذا النسق العجيب من التناقضات فلماذا يخافونه?, وإذا كانت المجتمعات العربية لايربطها رابط سواء كان اللغة أو الدين أو الدم فلماذا يخافون وحدتها ولماذا لايتركونها لتناقضاتها لتحل نفسها طوائف وطرائق قدد ولتتمزّق من ذات نفسها? وإذا كان مستقبلها لايوحي بوجود ثقافة مشتركة هي عمودها الفقري فلماذا يقف المنظرون جهودهم لإجهاضها؟ ـ ص57‏ـ
وإذا كان الفكر الاستشراقي قد غلبت عليه فاعلية اتخاذ الإسلام هدفاً ‏للتشويه فإن هذا الفكر قد اقترن بنمو إيديولوجي يهدف إلى تكوين صورة متكاملة لحضارة عدوة. فتاريخ العلاقات بين الغرب والشرق وما كتب حول هذا الموضوع مشحون بالآراء المتطرفة في الغالب. ففي غضون قرن ونصف (1800ـ1950) نُشر في الغرب أكثر من (60) ألف كتاب يعنى بالشرق العربي وحده, لكنّ خطيئة أغلب هذا الكم أنه نظر إلى المجتمع العربي من خلال فكرتين مسبقتين هما: جموده عبر التاريخ على حال لاتتغيّر وخصوصيته الشاملة المطلقة بحيث لايمكن فعلاً مقارنته بالغرب? ـ ص 73 ـ ثم ليأتي إفلاس المناهج هذه المرة فعند فشل بعض من المستشرقين ومنهم (جون بيجوت جلوب باشا (J.B.Glob Basha) في محاولات التشكيك في كل ما هو إسلامي لجاوا إلى محاولة تحليل المجتمعات العربية ليثبتوا أنّ الجنس العربي الذي احتضن دعوة الإسلام لايؤلف ثقلاً يذكر فنبشوا في الحفريات ولجاوا لعلم الآثار للبرهنة على وجود سلالات من البشر بادت وانقرضت متخذين منها ومن الدراسات التي بنيت على أساسها افتراضات مشبوهة وأحاجي لإثبات أن العرب الذين احتضنوا الإسلام ونشروه ليسوا هم العرب. ـ ص77 ـ

[4]


ويفرد الباحث بعد هذا فصلاً خاصاً بعنوان (تاريخ ترجمات معاني القرآن الكريم باللغة الإنجليزية) ويذهب إلى أن أول محاولة لتعريف الغرب بمحتوى القرآن الكريم كانت في الفترة ما بين (1096) و(1270م) حيث ترجمت معاني القرآن إلى اللغة اللاتينية عام 1143 من قبل (روبرت تشستر R.Chester) ولم تطبع إلا في عام 1553 في مدينة بازل ثم تتابعت الترجمات ومنها ترجمة ميداتشي الإيطالي عام 1668 حيث لاتوجد ترجمة لمعاني القرآن الكريم إلا وهي مدينة لفضل ميداتشي وأن مقدّمته للترجمة تجمع ما عرفه أهل أوروبا عن الإسلام وعن محمد «ص» والقرآن الكريم. ص88.
ثم تتابعت الترجمات وبالأخص في انجلترا عام 1688 و1718, ولقد شهدت بعض من ترجمات القرآن الكريم امتداداً‏ للسياق الاستشراقي المتحامل فظهرت ترجمات فيها تحريف خطير للمعاني السامية للقرآن العظيم كما في ترجمة رادويل Rodwell وترجمة بالمر Palmer وغيرهما حيث يجري التحريف باتجاه أن القرآن الكريم يوجّه دعوته إلى عرب الجزيرة فقط وان القرآن أحاديث محمدية ثم عززوا ذلك بترجمة مختارات من القرآن الكريم كما فعل لين. ـ ص110ـ, وتتابعت ترجمات أخرى عُرفت في أوروبا وأميركا ومنها تراجم (جوزيف تيلا) و(كارلايل) و(هودجسون) و(هنري سميث) و(جون مردوخ) و(ج. لاما) و(ارثر جفري) وغيرهم. وان المتتبع للمصنفات الإستشراقية التي انصبت على دراسة القرآن وتفسيره يجد أن هذه المصنفات قد اختلفت في طرق معالجتها لتفسير القرآن وتباينت مناهجها أيضاً‏ فمن الدارسين من انتحى منحىً أدبياً ‏لدراسة القرآن ومنهم من قصر اهتمامه على فهم المعنى ومنهم من خلط هذا بذاك. ـ ص120ـ
ويكرس المؤلف باباً خاصاً‏ للتربية الفرنسية في شمال أفريقيا ثم للمؤسسات المدرسية الإيطالية والتبشيرية منها في عهود الاستعمار في الشمال الأفريقي وليبيا خاصة, وهي محصلات تعطي عيّنة محددة ـ‏كما تبدو للوهلة الأولى‏ـ إلا أنها ذات منطق وثائقي انتقائي ربما تخرج بعض الشيء عن المنهجية التي سادت مباحث الكتاب التي اشرنا إليها في تفحص مقولات الاستشراق, إلا أن العودة إلى فصل خاص بعنوان (مسؤولية الاستشراق) يعيد التوازن في موضوعية ومنهجية الكتاب. وفيما يخص مسؤولية الاستشراق وهو آخر أبواب هذه المناقشة الجادة, يقول المؤلف «ان ابرز ما تقدّم به علم الاستشراق فيما مضى, أنه كان علماً تبريرياً وتعليلاً نظرياً‏ قام على التبريرات والتعليلات لما قام به في الغرب وكنتيجة لتراكمات وعوامل سياسية واجتماعية واقتصادية فإن الغرب في حاجة إلى علم جديد لكي يصل إلى الإدراك العلمي الحقيقي لما يجري في الشرق» ـ ص229ـ.
وعلى هذا الأساس فإن الشك الديكارتي الذي اتخذه البعض قاعدة صلبة لتحليل تراثنا الإسلامي الحضاري لم يفرض وجوده على تراث الاستشراق نفسه أي الباحثين المستشرقين المتأخرين لم يطبقوا منهجيته الصارمة على ارثهم الثقافي الذي بناه المستشرقون القدامى. وان الأسس السفلى للاستشراق لم تخضع لمنهج الشك هذا, بل أُتخذت كمسلمات وحقائق وهذا ما ينافي طرق البحث العلمي المنهجي. ـ ص230ـ.

[5]


إن تجريد هذا التراث الاستشراقي من تراكماته وفرضياته الخاطئة يعني إعلان ثورة استشراقية وهي ثورة يجب أن يقوم بها أولئك الذين تكوّنت عندهم قناعات علمية موضوعية في هذا العصر وأصبحوا ينظرون إلى تراث الاستشراق ذاته نظرة الناقد ونظرة فيها الكثير من الشك العلمي المنهجي بعيداً عن الحلول التوفيقية والحلول الوسط أو التحيّز والخلفيات السياسية. ـ ص231ـ.
ويمرّ الباحث سريعاً ‏بجهود (إدوارد سعيد) و(أنور عبد الملك) في تصدّيهم لقضايا الاستشراق ومقولاته.. ويقول: «إن إعادة طرح صدام الشرق بالغرب متمثلاً في موضوع الاستشراق لايمكن أن يكون مقنعاً إذا ما انتحى أو انتهج منهج الطرح التاريخي أو الطرح القومي المنبعث من ردة الفعل القومية الجريحة وإنما نطمح أكثر من ذلك, أكثر من طرح أنور عبد الملك في كتابه (عصب الاستشراق) ونخوته القومية وغيرته وأكثر أيضاً من كتاب الاستشراق لصاحبه (إدوارد سعيد) في ردوده العنيفة وكراهيته وعدائه السياسي وضعف بعض حججه, وإنما نريد أن تكون إعادة طرح موضوع الاستشراق أكثر شمولية من كل ذلك بمعنى أنه يلزمنا استخدام كل المناهج لتفكيك بنية الاستشراق, لأن هذا الاستشراق قد تبنى كل المناهج لأن عصب هذا الاستشراق سياسي وتبيانه ممكن لابدراسة موضوعة الشرق بل بالتوقف عند مصدره (الغرب) وبصورة أدق ليس الاستشراق إلا عملية توزيع لإدراك جيوسياسي على نصوص فنية أكاديمية اقتصادية سوسيولوجية تاريخية أو نحوية فالاستشراق تفصيل لانهاية له لا للتمييز المبدئي الثنائي غرب/ شرق فحسب بل لسلسلة طويلة من المصالح» ص238.
ويعرض المؤلف لرأي عبد الله العروي ويتفق معه عندما يؤكد هذا الأخير الحقيقة الموضوعية التي ينبغي الوصول إليها وهي أن الاستشراق القديم كوّن الأرضية الثقافية للاستشراق الحديث وأثّر التأثير المباشر على مجتمعات الغرب وكوّن الصورة السيئة للشرق العربي بمنظار غربي وحمل الاستعمار السياسي لكي يواصل امتهان الشرق وتحطيم حضارته.
وكما يقول العروي أنه «لابد من نقد جدي من أن يبنى على اختيار منهجي واضح ولكن في إطار مباحث العلوم المسلم بصحتها ولنفحص افتراضات فون قرونباوم المتراجعة في نتائجها المطبقة على الإسلام مثلاً كنموذج على ذلك». ص242.
إن المأزق الذي وقع فيه الاستشراق اليوم هو إصراره القديم على النظر إلى نتائج مجالات بحوثه القديمة واهتمامه المفرط بالثقافة الكلاسيكية باعتباره شيئاً‏جامداً وباعتبار هذه الثقافة في نظرهم تمثل العصر الذهبي للحضارة العربية وقد أهملوا التطورات اللاحقة مع بعض الاستثناءات ولذا فلا يكفي نقد الاستشراق من زاوية نظره وأحكامه على المجتمع العربي الإسلامي وفي أنماط تفكير مثقفيه وأنظمة حكمه بل يجب أن نحدد موقف الاستشراق سواء على الصعيد النظري والعملي ومواقفه العملية على أرض الواقع لأن الاستشراق مرتبط بشكل عام بمؤسسات سياسية اقتصادية ثقافية ـص249ـ.
وهنا تبرز شخصية العربي المسلم في صورتها الاستشراقية حيث أصبحت هذه الشخصية في نظر الاستشراق موضوعاً شيقاً وفق انتقاءات الاستشراق المعنية من تراث هذا العربي المسلم وكان أن صادر الاستشراق تاريخه الطويل بتغييب العربي عن زمانه أولاً وتحويله إلى موضوع لازماني ولا تاريخي وقد ألصقت به أحياناً‏ الوحشية واللاعلمية والبدائية وهي جوانب يعرضها المؤلف في الصفحات 249 و250.
ويختصر المؤلف المدارج الاستشراقية التي اتخذت من الشرق مسرحاً‏ لها في مايلي:
1ـ طبقة المستشرقين القدامى الذين واكبوا عصرالحروب الصليبية والذين اهتموا بترجمة القرآن الكريم.
2ـ طبقة المستشرقين الكلاسيكيين الأكاديميين الذين اهتموا بدراسة الأدب العربي القديم وتحقيق المخطوطات العربية النادرة.
3ـ طبقة المستشرقين المحدثين الذين اهتموا إلى جانب دراستهم الأدبية والإسلامية بتقديم الاداة العلمية للاستعمار الحديث.
4ـ طبقة شراقنة الشرق نفسه وهم تلاميذ الاستشراق الحديث من أبناء الشرق نفسه وقد اهتم بعضهم بنقد ودراسة التراث وفق مناهج أوروبية.
5ـ طبقة المستشرقين السياسيين وصولاً إلى ماسينيون وهاملتون جب. ـص257ـ..
وبعد هذا, يظهر البناء الاستشراقي حصيلة ونهاية لصدام الغرب بالشرق فهو مزيج من العداء السياسي والكراهية. ذلك أنه نما كجهاز شكلي للمعرفة ورسخ دعائمه على تمايز فلسفي إيديولوجي بين الشرق والغرب بمعنى أن البناء الاستشراقي قد اتخذ من الشرق موضوعاً ‏مؤطراً في نطاق أفكاره وحكمه عليه. وإذا كان كل هذا الثقل الايديولوجي/ السياسي المدعوم بثقل المؤسسة الاستعمارية الآفلة وما تركته من تراث استشراقي صار يتخذ أشكالاً من العلاقات (الاستلابية) التي تموّه التاريخ وتطمس العقيدة عندما تقدمها إلى الغربي, إذا كان هذا الثقل قد تبلور في أشكال وهيئات فقد كان في مقابله (العربي المسلم)‏ـ‏المحور والقضية ـ وهو المثقل بالارزاء والتعقيدات وتحفه التهديدات من كل جانب حيث يقول المؤلف: «لقد علمتنا الأجهزة التي جزّأت الثانية بعقولها الالكترونية إلى ملايين الجزيئات وفي كل جزيء صغير حيّز لحل مشكلة من مشاكل ومعضلات العالم المستعصية, إنّ الزمن الذي يحس بدبيبه الغربي المسلم هو زمن الكهف الذي فقد الإحساس بالحركة التي تصنع الزمن وتصنع الإحساس بالفصول الأربعة بين حدّي التناقض, درجة الجليد ونهاية الترمومتر. أنني لا أستطيع أن أتصور أننا صنعنا شيئاً‏ في حيز هذا الزمن الرديء على الأقل بالنسبة لنا بعد أن استيقظنا مذعورين أو كمن يمشي وهو نائم, لأننا بدأنا نحسب بأن الغضب وحده لايصنع الأشياء.. وان المثالية وحدها لاتفلح في إسعادنا عبر آفاق التجاوز والحلم لأنها مراهنة على المستقبل والمستقبل حاضر بالفعل وبالقوة في ذواتنا وقدراتنا على تحقيق تلك الأحلام. إن إحساسنا بالتخلف أو الغبن لايفيد شيئاً ‏في عصر لم تُخترع فيه بعد أي حاسبة إلكترونية تحلل مشاعر وأحزان القبيلة العربية».

* عضو هيئة التدريس بجامعة الفاتح, كلية الإعلام, طرابلس ـ ليبيا

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة