تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

ندوة: الشيخ محمد رضا: دوره الفكري ومنهجه الإصلاحي

محمد دكير

 الأردن (عمان) ـ 15 ربيع الثاني 1420هـ/ 28 تموز (يوليو) 1999م
محمد دكير


«إذا كان الأفغاني ملهم المدرسة التجديدية السلفية ومحمد عبده هو العقل المفكر لها, فإن رشيد رضا هو المتحدث باسمها..» د. زكي بدوي

تمهيد:
يعتبر الشيخ محمد رشيد رضا (1865ـ1935م), من بين الشخصيات الإصلاحية والتجديدية المهمة التي ظهرت خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. لكن جهوده في الإصلاح والتجديد, ومساهماته النظرية والعملية في هذا المجال لم تنل العناية الكافية من طرف المؤرخين العرب والإسلاميين, الذين أرّخوا لحركات الإصلاح والنهضة,‏وتتبعوا مراحل تطور الفكر الإسلامي الحديث, بحيث لايقع الباحث إلا على بضعة عشر كتاباً‏ـ كما يقول الأستاذ أحمد علي سالم ـ هي كل الأدبيات العربية عن الشيخ رضا.
ويرجع ذلك لعدة أسباب, أهمها اعتباره مجرد ناشر لأفكار أستاذيه الأفغاني وعبده, وهذا صحيح إلى حد ما, لأنه يصعب تحديد مقدار مساهمته الفكرية وعطاءاته الجديدة بعيداً عن أفكار أستاذيه وأرائهما النظرية ومشاريعهما الإصلاحية, التي اطلع عليها واستوعب مفرداتها. بل اعترافه بالتزام منهجيهما والعمل على تحقيق أهدافهما في الإصلاح والتجديد. وذلك من خلال أهم مشروع فكري وثقافي أشرف عليه وعمل فيه ولأجله مدة ثلاثة عقود أو أكثر, ونقصد به عمله في مجلة المنار التي أصدرها سنة 1898م. وتولى رئاسة تحريرها إلى أن وافته المنية. بالإضافة إلى ما كتبه في مؤلفات مستقلة. لكنه وبحكم ظروفه الموضوعية المختلفة عن أستاذيه, وتفاعله مع الأحداث والمعطيات الواقعية الجديدة, استطاع أن يطبع على منهج أستاذيه في الإصلاح وأهدافهما المعلنة, طابعه الشخصي, فظهر التمايز والاختلاف في بعض الرؤى والأولويات في مجال الإصلاح بشكل عام. كما أنه استفاد من تجاربهما ومسيرتهما العملية من أجل تحقيق التغيير داخل الدولة العثمانية خصوصاً‏ والأمة الإسلامية عموماً‏ والنتائج التي توصلا إليها.
وهذه الاستفادة كشفت عن مواطن تميزه عن أستاذيه, بالإضافة ـ كما قلنا ـ استجابته للأحداث السياسية والفكرية المتتالية, ومشاركته في صنع بعضها, وإبداء آرائه الصريحة والواضحة في القضايا التي كانت الساحة السياسية تحبل بها, وذلك عبر مقالاته في المنار, وهذه المقالات العديدة والمتنوعة,‏ساعدت الباحثين على الكشف عن التطور الفكري والسياسي لدى الشيخ رضا. لأن إصدارها ـ‏أي المنار ـ امتد لسبع وثلاثين سنة,‏وقد عرفت هذه السنين الطويلة أهم الأحداث التي غيرت مجرى التاريخ في المشرق والمغرب.
من جهة أخرى لايمكن الحديث عن مساهمات الشيخ رضا المتميزة في الإصلاح والتجديد, والكشف عن دوره الفكري ومنهجه الإصلاحي, بموضوعية علمية مع إغفال التطورات السياسية والاجتماعية التي هجمت على الدولة العثمانية عموماً‏ والمشرق العربي خصوصاً, فقد تابع الشيخ رضا انهيار الخلافة الإسلامية في الأستانة, نتيجة الفساد السياسي والإداري الذي كان ينخر في جسمها,‏وتراكم أعمال وأنشطة حركة التنظيمات التركية المنادية بالإصلاح والتغيير,‏والتي انتهى بها المطاف إلى إلغاء الخلافة بعد وصول الكماليين إلى السلطة في تركيا. كما شاهد عن قرب تداعي السلطة العثمانية داخل الولايات العربية,‏والتحرك الاستعماري الغربي للحلول محلها, حيث تم بالفعل استعمار مصر والجزائر وتونس وليبيا وصولاً إلى المغرب والعراق ثم سورية. من ناحية أخرى عايش الوضع الإجتماعي والسياسي المتفاقم والمتردي داخل الولايات العربية,‏خصوصاً في بلاد الشام. وردود الفعل التي بدأت تنتشر للترويج للاستقلال عن الدولة العلية, وتطالب بإقامة دول عربية قومية على غرار ما هو قائم في الغرب.
زد على ذلك الصراعات الفكرية التي نشبت بين دعاة التغريب والإصلاحيين المتشبثين بالتجديد والتغيير في إطار الأصالة الإسلامية. هذه المعطيات الموضوعية لابد من استحضارها لمعرفة الحجم الحقيقي لمساهمات الشيخ رضا في حركة الإصلاح والتجديد, لأنه لم يكن شاهداً فقط على هذه الأحداث التي عايشها عن قرب, بل شارك في صنع عدد منها مشاركة فعالة كدعوته للإستقلال عن الدعوة العثمانية, بعدما فقد الأمل في إصلاحها, أو إحداث التغيير في سياساتها تجاه العرب والإسلام, وتأسيسه لعدد من الأحزاب العربية,‏ودعمه ومشاركته في الثورة العربية, ونشاطه الدؤوب قبيل وفاته لتحقيق الوحدة العربية بين العراق وسورية.
هذا الحضور الفاعل للشيخ رضا والتعاطي الإيجابي مع الأحداث يمكن الباحث من رسم الحدود الفاصلة بينه وبين أستاذيه في مجال الإصلاح والتجديد, فقد تأثر بهما وتابع خطواتهما في الإصلاح, لكنه تميز عنهما بشكل واضح عندما أعاد إكتشاف مذهبه الحنبلي/ السلفي, واعتكافه على مطالعة كتب ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية الحنبليان, لأن هذا الاكتشاف سيجعل مضامين دعوته للإصلاح والتجديد في المجال الديني لاتعدو المطالب السلفية التي نادى بها ابن تيمية, وهو يواجه ظروف سياسية واجتماعية ودينية شبيهة إلى حد ما بالظروف التي عرفها الشيخ رضا. لقد سقطت بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية آنذاك بيد التتار, وعمت الفوضى السياسية منطقة الشرق العربي, وانتشر الجهل والخرافات, واشتغل السواد الأعظم بالبدع العقائدية بدل العقيدة الصحيحة التي تراكمت عليها الممارسات والتفسيرات الخاطئة والمنحرفة. وغير ذلك من مظاهر الفساد والانحطاط السياسي والديني. هذا بالإضافة إلى الأثر الذي تركته حركة محمد بن عبد الوهاب الحنبلي في نجد, ودعوته السلفية كذلك لإصلاح العقيدة ومحاربة البدع والشرك داخل الجزيرة العربية,‏وشروعه في تأسيس دولة مستقلة عن الخلافة العثمانية.
هذا الاكتشاف أو الرجوع إلى الجذور الحنبلية/ السلفية,‏أعطى مضامين جديدة لحركة الإصلاح والتجديد لدى الشيخ رضا, وإن حافظ على إطارها الشكلي العام, حيث نجد مجموعة من نقاط الإلتقاء بينه وبين أستاذيه بخصوص فكرة الرجوع إلى السلف. لكن سلفية الشيخ رضا كانت مغايرة لسلفية كل من الأفغاني وعبده, وهذه النقطة تحتاج إلى المزيد من العلاج والمناقشة ليس هنا مجالها, لكن الإشارة إليها كانت ضرورية في اعتقادنا,‏لأن بعض البحوث التي قدمت في الندوة التي سنعرض لها لاحقاً, أشارت إلى سلفية الشيخ رضا وتشبثه باختيارات المذهب الحنبلي في مجال العقائد والموقف من علم الكلام والفلسفة,‏والدفاع عنها باعتبارها مفردات أساسية في مشروعه الإصلاحي الديني, وهذا ما لم ينكشف بوضوح وجلاء في مشروع أستاذيه الأفغاني وعبده.
لن نسترسل طويلاً في هذا التمهيد, لأن أوراق الندوة ستجيب عن بعض التساؤلات التي ظهرت في أفق هذه المعالجة السريعة, لكن يمكن الجزم بأن مساهمات الشيخ رشيد رضا في مجال الإصلاح والتجديد كان لها تأثيرها العميق في الصحوة الإسلامية التي انطلقت في مصر خلال النصف الأول من هذا القرن, وعبرت الحدود بعد ذلك لتشمل باقي المناطق الإسلامية في شمال إفريقيا وبلاد الشام. فقد واصل الشيخ حسن البنا (مؤسسة جماعة الإخوان المسلمين في مصر) ـ كما يقول الأستاذ أحمد علي سالم ـ حتى حين إصدار مجلة المنار بعد وفاة مؤسسها ومحررها الشيخ رضا.
لقد دعا الشيخ رضا إلى تحرير العقل الإسلامي, وفتح باب الاجتهاد ومحاربة البدع وطالب بالدعوة إلى الإسلام على أسس جديدة,‏ونشر التعليم الإسلامي, كل هذه الدعوات والجهود تركت أثرها في الصحوة الإسلامية, التي لايشكك أحد بأن خلفياتها الفكرية والإصلاحية والتجديدية, قد انطلقت من تراث وعمل هؤلاء المصلحين الثلاثة الشيخ رضا وأستاذيه الأفغاني وعبده.
انطلاقاً ‏مما ذكرنا وفي إطار إعادة النظر في هذه الجهود الإصلاحية, ومحاولة تقييم هذه التجارب النهضوية الإسلامية, لجهة التأكيد على قيمة هذه الجهود الإصلاحية في تحقيق النهضة الشاملة,‏ولأهمية التواصل الفكري بين أجيال الأمة, نظم المعهد العالمي للفكر الإسلامي في الأردن خلال السنة الماضية وهذه السنة ندوات وحلقات دراسية حول رواد هذه التجارب النهضوية. فبمناسبة ذكراه المئوية نظم المعهد ندوة حول: «السيد جمال الدين الأفغاني: العطاء الفكري والجهد الإصلاحي» وذلك في 19 نوفمبر (تشرين الثاني) 1998م. (انظر مجلة الكلمة,‏العدد 22). وبمناسبة الذكرى المئوية لصدور مجلة المنار التي رئس تحريرها الشيخ رضا, نظم المعهد كذلك وبالتعاون مع جامعة آل البيت في الأردن. ندوة حول: «محمد رشيد رضا: دوره الفكري ومنهجه الإصلاحي», وذلك في 15 ربيع الثاني 1420هـ, الموافق 28 تموز (يوليو) 1999م. بمشاركة عدد من الباحثين والجامعيين والمفكرين الإسلاميين, وبحضور حفيد الشيخ محمد رشيد رضا الدكتور هشام رضا.
انقسمت أعمال هذه الندوة إلى أربع جلسات, قدم فيها المشاركون (13) بحثاً, تقاسمتها محاور أساسية هي:
1ـ خصوصيات المرحلة التاريخية التي عاش فيها الشيخ رضا, وأثر ذلك في تكوينه الفكري ومنهجه الإصلاحي.
2ـ مجلة المنار ورسالتها في التوعية والدعوة إلى الإصلاح والتجديد.
3ـ الخصائص المميزة لتفسير المنار.
4ـ الطبيعة السلفية لحركة الشيخ رضا, وامتداداتها التاريخية قبله وبعده.
5ـ منهج الشيخ رضا في الإصلاح السياسي والاجتماعي والتربوي
انطلقت أعمال الندوة مباشرة بعد إلقاء كلمات كل من رئيس جامعة آل البيت في الأردن, الدكتور محمد عدنان البخيت, ورئيس المعهد العالمي للفكر الإسلامي, الدكتور عبد الحميد أبو سليمان, أثناء جلسة الافتتاح.
في البداية تحدث د. البخيت, الذي اعتبر الشيخ رضا من الشخصيات الإسلامية التي اختلف حولها المؤرخون بسبب تطور مواقفه السياسية, ومشاركته في الأحداث التي عرفتها منطقة الشرق الأوسط في بداية هذا القرن. وقد استعرض د. البخيت محطات من حياة الشيخ رضا وتجاربه في الإصلاح, ليصل إلى التأكيد على أهمية هذه التجارب في الإصلاح وضرورة إعادة النظر فيها واستيعابها لتحقيق التواصل ومتابعة مسيرة الإصلاح والتجديد.
أما الدكتور أبو سليمان فقد أشار إلى أهمية تنظيم هذه الندوة باعتبارها تكريماً‏ واعترافاً‏ بجهود الشيخ رضا في مجال الإصلاح, في الوقت ذاته, فرصة لدراسة تجربته والكشف عن إيجابياتها ومكامن القصور فيها, من أجل دعم الاستشراف المستقبلي, خصوصاً‏ والأمة لاتزال تعاني من مظاهر التخلف الحضاري والتشرذم السياسي والفكري والاجتماعي وأمامها تحديات ضاغطة على جميع المستويات, كما تحدث د. ابو سليمان عن أهمية إحداث التغيير الذاتي داخل كيان الإنسان المسلم, للوقوف أمام التحديات التي تفرضها عليه الحضارة الغربية,‏المتفوقة علمياً‏وتقنياً.
وأضاف قائلاً: «من أجل تحقيق ذلك هناك عاملان: ونستطيع أن نرى هذه الأبعاد في كافة أعمال الحركات الإصلاحية بما فيها حركة الشيخ رشيد رضا. الأول: تنقية التراث والثقافة الإسلامية, هناك محاولات مستمرة للإجابة على بعض جوانب القصور والسلبية في التراث الإسلامي الذي يشكل عقلية المسلم ونفسيته, ولكن للأسف لم تستطع هذه الحركات حتى اليوم أن تكون المواجهة فيها كاملة. وأن تستطيع أن تقوم بالتنقية الكاملة لإزالة عدد من الأبعاد التي ستؤثر في التغيير. الثاني: هو إعطاء الجانب التربوي اهتماماً‏ أكبر في تجربة محمد رشيد رضا, وفي طبيعة تكوين الفرد المسلم وعملية تنظيم الإصلاح والحركات الإصلاحية. وتضع مقياساً ‏لطبيعة التحديات التي تواجه الإنسان والتغيير الذاتي. وذلك في العقلية العلمية وإزالة الخوف والإرهاب وإيجاد الروح الإيجابية..».
أما الدكتور فتحي الملكاوي المدير التنفيذي للمعهد العالمي للفكر الإسلامي فقد اعتبرýان الهدف من هذه الندوة هو إبراز الجوانب الإيجابية والسلبية في الجهود الإصلاحية لرموز حركة الإصلاح الإسلامية, مع التركيز على خصوصيات المرحلة التاريخية والتحديات التي واجهت الأمة..
ثم تناول الكلمة الدكتور هشام رضا حفيد الشيخ رشيد رضا. فشكر القائمين على هذه الندوة. واهتمامهم بإعادة إحياء ذكرى جده, وأكد على أهمية هذه المراجعة للتجارب الإصلاحية التي انطلقت في بداية هذا القرن, كما تحدث عن كيفية تعرفه على جده الشيخ رشيد رضا وذلك عن طريق والده الذي كان يحدثه عن جده وما قدمه من مساهمات في حركة الإصلاح.

التطورات السياسية والفكرية التي عايشها الشيخ رضا
الورقة الأولى كانت بعنوان: «موقف رشيد رضا من تيارات التحديث في عصره» وقدمها الدكتور محمد الأرناؤوط من معهد بيت الحكمة (جامعة آل البيت). وقد تتبعت الورقة أهم التطورات في مواقف الشيخ رضا تجاه مجموعة من القضايا والأحداث, انطلاقاً من دفاعه عن الخلافة العثمانية في بادئ الأمر ودعوته للإصلاح والتغيير تحت سيادتها السياسية والدينية, إلى مناهضته لهذه الخلافة بعد التطورات التي عرفتها الإستانة, وصولاً إلى المطالبة بالدولة العربية الكبرى,‏وانخراطه في مشاريع سياسية لإنجاز هذا المطلب. وهذا التطور يظهر واضحاً من خلال المقالات التي كتبها في مجلة المنار, ومن خلال هذه المقالات يمكن رصد تطور مواقفه الفكرية والسياسية تجاه قضايا مثل: «الجامعة الإسلامية, خلافة عبد الحميد, الثورة الدستورية سنة 1908م, سلطة الإتحاد والترقي, الثورة العربية, الحكومة العربية في دمشق.. بالإضافة طبعاً ‏إلى مشاركته الفعلية في العمل السياسي من خلال مشاركته في تأسيس حزب اللامزكزية, حزب الجامعة العربية, حزب الاتحاد السوري, حزب الاستقلال. ففي السنوات الأولى من كتابته في المنار نجده يقتصر في دعوته التوفيقية على المطالبة بتعزيز وضع العنصر العربي داخل الدولة العثمانية لكي يساهم أكثر ضمن هذه الدولة «في الدفاع عن نفسه أمام الخطر الخارجي (الأوروبي) إذا وقعت الواقعة».
لكن «بعد تولي جمعية الاتحاد والترقي السلطة أخذت السياسة المتحيزة للترك على حساب العرب تقلق الشيخ رضا ـ كما يقول د. الأرناؤوط‏ـ وتستثير مشاعره العربية وتطور أفكاره ومواقفه تجاه الدولة العثمانية والدولة العربية..».
وظهر هذا التطور لصالح العروبة في تأسيسه (سنة 1914) لحزب الجامعة العربية «والذي بلور بشكل مبكر مشروع كونفدرالية عربية». كما أيد الثورة العربية التي أطلقها الشريف حسين من مكة سنة 1916م. وبدأ يعلن في المنار بأن «مصلحة العرب السياسية أن يكون لهم دولة مستقلة».
ومع الشروع في إخراج مشروع الدولة العربية المستقلة إلى الوجود, برزت إشكالات فكرية وسياسية جديدة من قبيل: «طبيعة نظام الحكم (علماني, مدني, ديني), وقد انفجر الصراع بين التيارين الإصلاحي الإسلامي والعروبي العلماني, أما مواقف الشيخ رضا فقد كانت توفيقية في أغلب الأحيان, تبحث عن الحلول الوسط. لكن سقوط الدولة العربية السورية الناشئة على يد الفرنسيين بعد حرب ميسلون (24 تموز 1920), دفع بالشيخ رضا إلى إعادة النظر في كثير من مواقفه تجاه مشروع الدولة العربية, وإن كان قد تحمس كثيراً ‏لمشروع «توحيد بلاد العرب», الذي دعا إليه الكاتب الإنجليزي غوردن كاننج, باعتباره يتضمن آراء حكيمة ـ كما قال الشيخ رضا‏ـ «في إمكان الجمع بين مصالح الإنجليز والعرب».
وقد تابع الشيخ رضا عمله السياسي بين سنوات 1930 و1934 لإنجاز مشروع الوحدة السياسية بين سورية والعراق لكي تكون نواة الوحدة العربية الشاملة المنشودة. وقد عقب على هذه الورقة الأستاذ زكي الميلاد من السعودية.
الورقة الثانية التي قدمت في هذه الجلسة كانت للأستاذ زكي الميلاد رئيس تحرير مجلة الكلمة, وجاءت تحت عنوان: «الشيخ محمد رشيد رضا وتحولات الفكر الإسلامي المعاصر». في البداية تحدث الميلاد عن الإهمال الذي تعرض له الشيخ رضا من طرف المؤرخين والمفكرين العرب والإسلاميين, مع أنه كان «يمثل آخر حلقات مدرسة السيد جمال الدين الأفغاني, والمرحلة الأخيرة لحركة الإصلاح الإسلامي والفكر الإسلامي الحديث». لكن هذا الإهمال يمكن تداركه بالرجوع إلى تراث الشيخ رضا لأنه «يعتبر أهم وأبرز من وثق وأرخ ودون عصره وزمانه في النطاق العربي والإسلامي», كما يقول الميلاد. وذلك من خلال مجلة المنار وكتابه الضخم حول أستاذه محمد عبده, وكذلك كتابه المنار والأزهر.
أما القضية المحورية التي عالجها الميلاد في ورقته فهي: «حلقة الإلتقاء التي مثلها رشيد رضا بين مرحلتين من مراحل الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر, فهل كان الشيخ رضا حلقة اتصال أم قطيعة بين هاتين المرحلتين?».
من خلال تتبع مواقف الشيخ رضا وانشغالاته الفكرية والسياسية, خصوصاً‏بعد وفاة أستاذه محمد عبده, يظهر أن الشيخ رضا قد بدأ يبتعد تدريجياً‏عن النهج الإصلاحي الذي كان «ينشغل بقضية النهضة والتقدم والتمدن, وبالشأن العام في إطار الأمة. وبدأ ينحاز إلى الفكر والتوجه السلفي الذي يهتم بالدرجة الأولى باصلاح العقيدة, ومحاربة البدع والخرافات في هذا الميدان».
وقد ظهر هذا التحول جلياً ‏في مواضيع مجلة المنار. لكن ما هي الأسباب التي تقف وراء هذا التحول؟, يجيب الميلاد ـ بعد استعراض مجموعة من آراء بعض المفكرين والباحثين المعاصرين ـ «والذي أراه أن رشيد رضا كان مدركاً‏ لهذا التحول وواعياً‏له مصحوباً‏ بنوع من الشعور المحبط الباعث على الإنكماش والتراجع», لأنه شاهد انهيار مشاريع أستاذيه الأفغاني وعبده في الإصلاح السياسي والتربوي, وانهيار مشاريعه الشخصية خصوصاً. ودعواته للإصلاح السياسي داخل الدولة العلية, ورأب الصدع بين العرب والترك للحفاظ على الجامعة العثمانية الإسلامية. بالإضافة إلى التوسع الإستعماري الغربي الذي بدأ يحكم قبضته يوماً بعد يوم على عدد من المناطق الإسلامية.
والنتيجة التي يتوصل إليها الميلاد هي أن هذا التحول كان بمثابة قطيعة مع الفكر الإصلاحي, «وبالتالي قطيعة بين منظومة الفكر الإسلامي الحديث, ومنظومة الفكر الإسلامي المعاصر..». وهذه القطيعة تحددت حسب الميلاد في ثلاثة اتجاهات: الاتجاه الأول: التحول من الإصلاحية إلى السلفية, الاتجاه الثاني: القطيعة الفكرية بين النخب الليبرالية والنخب الدينية. الاتجاه الثالث: التحول من النهج الإصلاحي إلى النهج السلفي استتبع معه القطيعة بين أهم منظومتين إسلاميتين, السنية والشيعية. وهذه الأنماط من القطيعة ساهمت كما يقول الميلاد «في الجمود الذي اصاب الفكر الإسلامي المعاصر منذ الثلاثينات وكرست التوترات والتشنجات والسجالات الاحتجاجية, كما رسخت حدة التقسيمات والتصنيفات والفروقات بين الاتجاهات الإسلامية, من إصلاحيين وسلفيين, وبين المنظومتين الإسلاميتين السنية والشيعية,‏وبين النخب والجماعات الفكرية والثقافية من ليبراليين وحداثيين وإسلاميين وتراثيين».. إلى غير ذلك. وقد عقب على هذه الورقة الدكتور عزمي طه من جامعةýآل البيت.
الورقة الأخيرة التي كانت مدرجة في هذه الجلسة ولم تقدم بسبب غياب صاحبها الدكتور احمد الشوابكة جاءت تحت عنوان: «خصوصيات المرحلة التاريخية التي عاش فيها محمد رشيد رضا», وقد تابع فيها أهم الإحداث التي عرفتها المنطقة,‏وخصوصاً‏ عاصمة الدولة العثمانية «الأستانة», ومصر, أواخر القرن (19) وبداية القرن (20). وهذه الأحداث التي عايشها الشيخ رضا وأثرت في دعوته للإصلاح والتجديد كانت متنوعة ومتسارعة,‏أهمها: انطلاق حركة التنظيمات للعمل من أجل التغيير والبحث عن أسباب الخلل والضعف الذي كانت تعاني منه الدولة العلية. لكن هذه التنظيمات تحولت ـ كما يقول الشوابكة‏ـ وبدأت تطالب بإعادة «تنظيم شؤون الدولة ومؤسساتها وفق الرؤية الغربية, مستلهمة من الغرب فكره وثقافته وقوانينه». وقد تعزز موقف هذه التنظيمات عندما تمكنت من استصدار فرمان التنظيمات (الأول سنة 1839, والثانية سنة 1856), وهما يقضيان بمجملهما إعادة صياغة كثير من قوانين الدولة وأوضاعها وفق المنهج الغربي والقوانين الغربية. هذه التطورات السياسية كان لها أثر مباشر في انقسام المفكرين والسياسيين والعاملين في مجال الإصلاح والمنادين بالتجديد إلى تيارين رئيسيين:
1ـ تيار التجديد على النمط الغربي.
2ـ تيار المحافظة على الأصالة الإسلامية.
وقد تطور الصراع بين التيارين ـ بعد إدخال الإصلاحات التي دعت إليها التنظيمات ـ‏إلى انتصار تيار التنظيمات, بحيث بدأت القوانين الغربية تحل محل القوانين المعمول بها آنذاك, بطريقة تدريجية وصلت في نهاية المطاف إلى إلغاء الخلافة على يد الكماليين (1918ـ1924م). هذه التطورات التي عرفتها عاصمة الدولة العثمانية, كان لها انعكاساتها على باقي المناطق والولايات العثمانية, وخصوصاً في بلاد الشام ومصر حيث نشطت الحركات القومية, يتزعمها بعض المثقفين من المسيحيين والعرب الذين تلقوا تعليمهم في المدارس التبشيرية, أو ممن اطلع على الفكر الغربي وتشبع بالمفاهيم الفكرية والسياسية التي كان يروج لها وعلى رأسها مفهوم «الدولة القومية». وقد شجع الإجحاف والظلم السياسي الذي كان الأتراك يمارسونه في حق العرب, على تعميق الهوة بين العنصر التركي والعربي, وأعطى نوعاً‏من الشرعية للمطالبة بالإنفصال وتحقيق حلم الدولة القومية العربية المستقلة.
في خضم هذا التطور السياسي الذي كانت تعيشه الأستانة, وانتشار الأفكار حول قيام الدولة القومية الحديثة داخل الأوساط المثقفة والمتعلمة والمنادية بالإصلاح والتغيير في بلاد الشام. انطلق الشيخ رشيد رضا من مسقط رأسه في سورية متجهاً نحو مصر للقاء الأستاذ الإمام محمد عبده. وهناك انفتح على الأوضاع السياسية والفكرية, وتمكن من بلورة رؤيته في الإصلاح والتجديد على جميع المستويات, وخصوصاً في الجانب السياسي, ومع تطور الأحداث, تطورت مواقف الشيخ رضا, كل ذلك يمكن معرفته والإطلاع عليه من خلال مقالاته في المنار أو في ثنايا كتبه ومؤلفاته.

ملامح التجديد من خلال تفسيره للقرآن
في الجلسة الثانية قدمت ثلاث أوراق, الورقة الأولى تقدم بها د. أحمد القضاة وحملت عنوان: «النسيج القرآني وأثر المرويات في أسباب النزول والإسرائيليات عليه». قبل معالجة موضوع أسباب النزول وأثر الإسرائيليات في تفسير القرآن, تحدث الدكتور القضاة عن تفسير المنار وأهميته, وكيف أن الشيخ رضا «كان قد أشار على استاذه أن يضع تفسيراً للقرآن, فبدأ الشيخ محمد عبده يلقي دروسه المنتظمة في التفسير ورشيد رضا يسجل ما يدور في تلك الدروس ويعرضها على شيخه, وبعد أن توفي الشيخ محمد عبده, أزمع تلميذه مواصلة المسيرة,‏فبدأ يكتب التفسير مكملاً جهد أستاذه حتى وصل إلى أواخر سورة يوسف حيث وافته المنية رحمه الله», وهذا التفسير الجليل كما يقول القضاة: موسوعة امتازت بأنها عالجت أمراض الأمة ومشكلاتها من خلال النظرة الموضوعية والفهم الصحيح للنص القرآني, واعتنت بمقاصد القرآن وهدايته وما نبه عليه من السنن في الكون والمجتمع والتاريخ والأمم.
أما بخصوص منهج المنار وموقفه من أسباب النزول والإسرائيليات وكثرة النقول والروايات التي ساهمت في تمزيق النص الواحد, فقد لخصها د. القضاة في ثمان نقاط هي:
1ـ النظر إلى النص القرآني على أنه نسق واحد, محكم السبك لايمكن تفكيك أجزائه أو تقطيع أوصاله.
2ـ التأكيد على الفرق بين الآيات التي يبحث لها عن سبب نزول, والآيات التي لايحتاج في فهمها إلى ذلك.
3ـ مراعاة أن يكون سبب النزول ظاهراً أو مشاراً إليه في الآية.
4ـ رفض القول بتعدد أسباب النزول للنص الواحد.
5ـ الإهتمام بتاريخ نزول الآيات, ومعرفة المكي والمدني, وإشارات السياق ودلالاته لفهم النص القرآني فهماً‏ صحيحاً‏ دقيقاً.
6ـ رد الروايات الإسرائيلية والتشدد في قبولها, فلا تقبل إلا إذا صحت روايتها أو وافقت القرآن.
7ـ الموازنة بين الإسرائيليات المروية في كتب المسلمين, ونظيراتها عند أهل الكتاب لبيان الفرق الكبير بين هذه وتلك.
8ـ الاستناد إلى معطيات العلم لبيان بطلان الروايات الإسرائيلية, ومناقضتها للحقائق العلمية والتاريخية.
هذه النقاط استقاها الدكتور القضاة من خلال مراجعته لتفسير المنار وأقوال الشيخ رضا الصريحة في هذا المجال, واعترافه بأن عدداً ‏من الروايات التي أخذها المسلمون من أهل الكتاب وغيرها من الروايات الموضوعة أو المختلقة قد تسببت في «تمزيق السياق القرآني الواحد» وأفسدت الفهم الصحيح لكتاب الله. وتعارضت مع أصول العقيدة الإسلامية ومعطيات العلم الصحيحة. وقد تولى التعقيب على هذه الورقة الدكتور زياد الدغامين.
الورقة الثانية كانت للدكتور محمد الزغول وجاءت تحت عنوان: «الخصائص المميزة لتفسير المنار» حيث عالج فيها الباحث ثلاث قضايا رئيسية: عرف بتفسير المنار أولاً ثم تحدث عن أهميته ثم استعرض منهج الشيخ رضا في تعامله مع القرآن. وأخيراً بين أهم النتائج التي توصل إليهاýأثناء البحث.
بالنسبة لتعريف تفسير المنار فهو «يقع في اثنتي عشر مجلداً ابتداء بتفسير سورة الفاتحة وانتهاء بالآية الثانية والخمسين من سورة يوسف. ويسمى تفسير القرآن الكريم واشتهر بتفسير المنار نسبة للمجلة التي كان يُنشر فيها. والتفسير مطبوع ومتداولة (طبعته دار المعرفة في بيروت) وقد جاء في مقدمات أجزائه: «تفسير سلفي أثري, مدني عصري, إرشادي اجتماعي, سياسي, وهو التفسير الوحيد الجامع بين صحيح المأثور وصريح المعقولة وتحقيق الفروع والأصول, وحل جميع مشكلات الدين ودحض شبهات الماديين والجاحدين, وإقامة حجج الإسلام..».
أما أهميته فتكمن في أن «تأليفه كان في نهاية القرن التاسع عشر, وهي من الفترات العصيبة التي مرت بها الأمة, فقد أفل نجم النشاط والحيوية وافتتن الناس بالحياة المادية». ومن خلال الدراسة المستفيضة لتفسير المنار ـ كما يقول د. الزغول ـ يستطيع الباحث أن يضع يده على الأسس التي يقوم عليها هذا التفسير وأهمها:
1ـ الوحدة الموضوعية. 2ـ تجلية الهداية القرآنية. 3ـ يُسر العبارة وسهولة الأسلوب. 4ـ شمول القرآن وعمومه. 5ـ الإهتمام باللغة وآدابها كوجه من وجوه الإعجاز. 6ـ القرآن هو المصدر الأول للتشريع مع بيانه لحكمة التشريع. 7ـ عدم تجاوز النص فيما ورد مبهماً في القرآن. 8ـ حملته على البدع والخرافات والتحذير من الإسرائيليات. 9ـ محاربة التقليد. 10ـ بيان سنن الله في الكون والإنسان والحياة. 11ـ الإعتماد على العقل وتحكيمه في فهم النصوص القرآنية.
ومن بين الملاحظات أو النتائج التي توصل إليها الباحث, أن تفسير المنار أثر في النهضة التفسيرية في هذا العصر من خلال المنهج الجديد في النظرýإلى آيات القرآن الكريم, لكن يمكن توجيه بعض النقودات لهذا التفسير مثل: مبالغته بالثقة في العقل والحضارة الغربية, وطعنه في بعض الأحاديث الصحيحة.
الورقة الأخيرة في هذه الجلسة كانت بعنوان: «معالم فقه المقاصد عند الشيخ محمد رشيد رضا», وقدمها الدكتور عبد الرحمن الكيلاني, الذي حاول اكتشاف معالم فقه المقاصد عن الشيخ رضا من خلال ما كتبه في مجلة المنار وفي تفسير القرآن وفي بعض فتاويه الفقهية, وذلك ضمن مطالب خمسة: 1ـ جلب المصالح ودرء المفاسد أساس التشريع الإسلامي. 2ـ الأصل معقولية الأحكام وإدراك معانيها. 3ـ ضرورة استحضار مقاصد الشريعة عند النظر في آحاد المسائل. 4ـ التعارض بين المصلحة العامة والنص. 5ـ التعقيب على بعض الاجتهادات.
لقد كان الشيخ رضا حريصاً في تفسيره على «الإشارة والتنبيه إلى المعاني المقصدية التي تختزنها الآيات القرآنية». وقد استعرض د. الكيلاني مجموعة من الاستشهادات تؤكد ذلك, كما فصل في هذه المطالب أثناء بحثه حول التفكير المقصدي لدى الشيخ رضا. كما انتقد بعض اجتهاداته لأن التحقيق اثبت مخالفتها للمقاصد الشرعية. ومن خلال تتبع هذا المنحى المقاصدي عند الشيخ يتوصل الدكتور الكيلاني إلى بعض النتائج, من أهمها اعترافه بتأثر الشيخ رضا بالعلماء السابقين الذين كتبوا في علم المقاصد واهتموا به, مثل العز بن عبد السلام والشاطبي وابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية, وقد جاء اهتمامه بالمقاصد بغية الوقوف على حكم الله في النوازل والمستجدات المختلفة التي هجمت على الواقع الإسلامي آنذاك.

الموقف من الإصلاح السياسي داخل الدولة العثمانية
الورقة الأولى في الجلسة الثالثة كانت للدكتور أنيس الأبيض, أستاذ مادة التاريخ في الجامعة اللبنانية بطرابلس, وحملت عنوان: «رؤية رشيد رضا للإصلاح السياسي في الدولة العثمانية من خلال العلاقة بين العرب والترك». إن المتابع لمواقف الشيخ رضا تجاه الإصلاحات السياسية داخل الدولة العثمانية يلاحظ مدى التطور والتغيير الذي اتسمت به هذه المواقف, خصوصاً فيما يتعلق بمطالب الولايات العربية, وضرورة رفع الظلم والإجحاف السياسي الذي كانت تعاني منه, ففي البدء كان هم رشيد رضا منصباً ‏على تضييق الفجوة التي بدأت تتسع بين العرب والترك, والعمل على تجميع العناصر التي تكونت منها الدولة العثمانية وذلك للحفاظ على دولة الخلافة الإسلامية, وتقوية الأواصر الدينية بين هذه القوميات المتنوعة. وقد جاء في افتتاحية العدد الأول من مجلة المنار قوله وهو يتحدث عن أسباب صدورها: «عثمانية المشرب حميدية اللهجة, تحامي عن الدولة العلية بحق..».
لكن الدفاع عن الدولة العلية بدأ يتحول إلى نقد عنيف واعتراض على عدد من التصرفات والممارسات والتطورات, خصوصاً‏ بعد «تنامي العصبية التركية والجهر بالدعوة الطورانية». وقد دفعت آراؤه الانتقادية بعض الجهات المتنفذة في الأستانة مثل أبي الهدى الصيادي, إلى إعلان الحرب عليه, والتعرض لأفراد عائلته في سورية, ومنع تداول مجلة المنار في تركيا وبلاد الشام. لكن هذه الحملة لم توقف مطالبه بضرورة الإصلاح السياسي و«أن تكون العلاقة سوية بين العرب والترك وسائر الأجناس.. وأن يكون هذا الإصلاح في موازاة خطة تتبناها الدولة لإيلاء الولايات العربية الاهتمام, وتحقيق ما تصبو إليه من المطالب العمرانية والحقوق السياسية, وبما يعزز من انتماء العرب إلى هذه الدولة..».
لكن تنامي النزعة الطورانية وما قامت به جمعية الإتحاد والترقي من إذلال للعرب وإبعاد وتحجيم واستخدام اللغة العربية, جعلت الشيخ رضا يحذر من ظهور النزعة القومية لدى العرب, كرد فعل تجاه هذه السياسة التتريكية المجحفة بحق العرب ولغتهم. وهذا ستكون له عواقب وخيمة على وحدة الدولة والخلافة الإسلامية العثمانية التي كان الشيخ رضا لايزال متشبثاً بها. لذلك يلاحظ في هذه الفترة أن مطالب رضا كانت إصلاحية, ودعوة لتحسين أوضاع الولايات العربية وتوسيع إشراك العنصر العربي في القرار السياسي داخل الدولة العلية, وعدم إهمال العربية لغة الإسلام والدين الجامع بين العناصر القومية المختلفة التي تتكون منها الدولة العثمانية.
الورقة الثانية في هذه الجلسة, جاءت تحت عنوان: «الإصلاح السياسي الشرعي عند الشيخ محمد رشيد رضا» وقدمها الدكتور محمد خروبات «المغرب», الذي حاول تجلية حقيقة الإصلاح السياسي العام عند رشيد رضا والذي تم كما يقول د. خروبات «وفق مرتكزات السياسة الشرعية», وقد تحدث حول ذلك من خلال أربعة عناصر هي: 1ـ المؤهلات التي ساعدت الشيخ رضا على خوض غمار الإصلاح السياسي, 2ـ مجلة المنار ودورها في هذا الإصلاح, 3ـ موقع الشيخ من الظاهرة الإصلاحية عامة, 4ـ الجواب عن ما هي السياسة الشرعية التي خاض الشيخ رضا غمار الإصلاح السياسي من منظورها؟, ما درجة علمه بها وفقهه فيها? كيف ذاد عن حوضها? وكيف عالج سلبيات العاملين في حقلها؟
هذه الأسئلة أجاب عنها الدكتور خروبات بعد أن فصل القول في العناصر الثلاثة الأولى. فبالنسبة للسياسة الشرعية عرفها بأنها: «تقوم على حسن فهم حقيقة الشرع وحسن إنزاله على الواقع, ثم حسن الإدراك كما يترتب على هذا الإنزال من مآلات وقضايا». وقد كان الشيخ رضا فقيهاً سياسياً لأنه كان فقيهاً أولاً وواسع المعرفة والإطلاع على عدة علوم إسلامية مثل أصول الفقه والمقاصد الشرعية, وهذا ما مكنه حسب د. خروبات من العمل بـ «الفقه السياسي الشرعي». ومن خلال هذا الفقه انطلق لنقد التعصب المذهبي, والدعوة في المقابل إلى الوحدة بين المذهبين السني والشيعي.
وقد تميزت دعوته للإصلاح السياسي بالشمولية, فهو إصلاح «يتم بالإسلام وفي الإسلام». أما عناصره فهي كثيرة, أهمها: تحرير العقل الإسلامي من الخرافات وتنويره بالفكر العلمي, محاربة مظاهر الشرك والبدع, محاربة التقليد والجمود, وذلك بتفعيل العقل الاجتهادي, مقاومة الظلم والاستبداد السياسي, الدعوة إلى إشاعة العلم والمعارف الحديثة داخل الأمة الإسلامية.
وبشكل عام فالإصلاح السياسي الشرعي عند الشيخ رضا جمع بين عناصر متعددة, تجمع وتولي الاهتمام للقاعدة الجماهيرية بتعليمها وتهذيبها, حتى تتمكن من مواجهة الاستبداد السياسي وتقلع جذوره. ومن ثم تتقدمها طائفة من القمة أو أهل الحل والعقد, وبالتعاون بين القمة والقاعدة يتم الإصلاح الشامل, لأن الإصلاح السياسي وحده لايكفي خصوصاً‏ إذا اقتصر على القمة دون تهيئ الأرضية الشعبية التي ستحافظ عليه وتضمن استمراريته.
كما تحدث عن مجموعة من المواضيع التي رأى أن لها علاقة بالإصلاح السياسي الشرعي لدى الشيخ رضا, مثل موقف هذا الأخير من موضوع الخلافة والشورى والثورة والاشتراكية, وأوضح أن مواقف الشيخ رضا من هذه القضايا كانت مختلفة حسب الملابسات والظروف والتطورات التي أحاطت بالأحداث كما عايشها الشيخ آنذاك.
الورقة الأخيرة في هذه الجلسة كانت بعنوان «مفهوم الوحي عند رشيد رضا», وقدمها د. قحطان الدوري عميد كلية الدراسات الفقهية والقانونية (جامعة آل البيت), وهي قراءة في كتاب الشيخ رضا «الوحي المحمدي» الذي يعتبر خلاصة عامة من تفسيره المنار, وفيه دفاع عن الإسلام والقرآن الذي هجره المسلمون ـ كما يقول الشيخ رضا‏ـ هجرا جميلاً, إذ باتوا يجهلون أن فيه كل ما يحتاجون إليه من حياة روحية وأدبية وقوة سياسية وحربية, وثروة وحضارة ونعمة معيشة, بل ما يلزم ذلك من الفوائد السلبية كدفع طغيان الأجانب عليهم, وصد عدوانهم عن بلادهم, وانقاذهم من استذلالهم لشعوبهم, كما بين فيه إعجاز القرآن للبشر بالدلائل العلمية العصرية التي يفهمها كل قارئ وأبرز لهم خلاصة إصلاحه للبشر مفصلة في عشرة مقاصد..». ورد فيه كذلك على بعض الافتراءات التي روج لها مجموعة من المستشرقين وكشف عن وجوه الإعجاز القرآني, وقدم فيه الحجج القوية التي جعلته «يدعو به شعوب الحضارة المادية من الافرنج واليابان إلى الإسلام».
وبعد استعراض أقوال بعض المفكرين الإسلاميين البارزين حول أهمية كتاب الوحي المحمدي, شرع الدكتور الدوري في معالجة قضايا الوحي فعرفه لغة وإصطلاحاً كما جاء في الكتاب المذكور, وعرف النبوة والرسالة كذلك, ثم انتقل للحديث عن هداية الوحي, ورد على القول بالوحي النفسي وما يروج له الماديون من أن الوحي مجرد إلهام يفيض من نفس النبي وليس موحى له من الخارج. وكذلك فحص وانتقد بعض الشبهات حول الوحي المحمدي, أثيرت من الماضي ويثيرها اليوم بعض أعداء الإسلام من الغربيين الحاقدين.
وفي الفصل الرابع من كتابه تناول الشيخ رضا قضية إعجاز القرآن بأسلوبه وبلاغته وتأثيره في نفوس المسلمين والمشركين على حد سواء. أما الفصل الخامس فقد خصصه لبيان مقاصد القرآن الكريم والتي حددها في عشرة مقاصد.
وهكذا يقول الدكتور قحطان الدوري, فتح السيد رشيد رضا أبواب البحث على مصراعيها في موضوع الوحي خاصة, فكان كتابه «الوحي المحمدي» الذي استوحاه من تفسيره ومجلته المنار, مناراً يهتدي به الباحثون المسلمون وغير المسلمين إلى الحقيقة النبوية..) وقد عقب على هذه الورقة د. أحمد بدوي.

التجديد السياسي والموقف من الغرب
«في مفهوم التجديد السياسي في فكر محمد رشيد رضا» هو عنوان الورقة في الجلسة الرابعة وقد قدمها الدكتور مصطفى منجود الأستاذ المشارك للعلوم السياسية بجامعة القاهرة وآل البيت. ينطلق الباحث في دراسته المطولة من أن مفهوم التجديد يعتبر «أحد المفاهيم المحورية في دراسات الفكر السياسي» وأن ردود الفعل التي ظهرت في تاريخ الأمة الإسلامية,‏وتمثلت في جهود بعض علمائها ودعوتهم للتجديد والتغيير, كانت شاملة ومتنوعة بتنوع الأزمات والمشاكل. ومن خلال هذه الدعوات نجد: الدعوة إلى التجديد الديني, التجديد التراثي, اللغوي, الفقهي, الأدبي, وصولاً إلى التجديد الحضاري. لكن الدعوة إلى التجديد السياسي لم تكن واضحة المعالم لعدة اسباب موضوعية وتاريخية لايسع المجال للتفصيل فيها هنا.
أما بالنسبة لمفهوم التجديد السياسي لدى الشيخ رضا, فلا يمكن فهمه دون الرجوع إلى تجربة الإصلاح والتجديد التي نادى بها كل من الأفغاني وعبده, لأنه تلميذهما الذي استوعب أفكارهما واسترشد بتجاربهما.
يرى د. منجود أن مفهوم التجديد السياسي عند الشيخ رضا «مفهوم محوري له أبعاد متعددة, وأن هذا المفهوم هو أحد أوجه التجديد في فكره الإصلاحي..» ومن خلال ستة محاور رئيسية عالجها د. منجود, استطاع أن يكشف ملامح هذا التجديد وأسسه ومقوماته وعوائقه.
المحور الأول يتعلق بمنهج الشيخ رضا في تحليله لمفهوم التجديد السياسي, وقد تأثر هذا المنهج بمعارفه وثقافته التي جمعت بين التراث والعلوم المعاصرة ما جعله يجمع ـ كما يقول د. منجود‏ـ بين «عطائي المنهج الاستنباطي والمنهج الاستقرائي في الفكر السياسي, في تحليله للمفاهيم عامة, ومفهوم الإصلاح خاصة».
ثانياً في تعريف مفهوم التجديد السياسي في فكر الشيخ رضا,‏وهذا المفهوم لايمكن الإحاطة به إلا بمعرفة مجموعة من المقدمات, فقد استخدم الشيخ رضا هذا المفهوم في سياق بعض المفاهيم العامة مثل: النمو,الإحياء, التقدم. ثم استفادته من مصادر الفكر السياسي الإسلامي القديم. والخلاصة كما يقول د. منجود: «إن التجديد السياسي هو عملية تفاعلية بين عناصر خمسة عند رشيد رضا, المُجدِّد الذي يقوم بعملية التجديد ويتولى الاستجابة للحاجة السياسية إليه.. والأمر الثاني أن سبب هذه الحاجة ما علق بالدين من تخلف النظر, وما علق بالحكومات من تخلف السيرة, ثم هناك المجدَّد به وآلة التجديد ووسيلته, وهنا يأتي الاجتهاد.. ثم يكمل ما سبق المجدِّد عليه وهو البيئة التي يتأسس عليها التجديد, إنها الزمان والمكان اللذان يولدان الحاجة إلى التجديد. وأخيراً يبقى المُجدَّد له, وهو غاية التجديد ومقاصده, ومناط ابتعاث الله من يجدد أمر الدين, فيجدد أمر السياسة, برفع التداعي والغثائية والوهن, بالمصالح العامة, وهي ضابط مهم في ضوابط التجديد..».
ثم تحدث د. منجود عن خصائص التجديد السياسي لدى الشيخ رضا, وحددها في ستة سمات أساسية. اما مقومات هذا التجديد فهي أربعة, تربية الأمة وتعليمها, فقه الواقع, الاجتهاد, والمقوم الرابع هو تغيير الواقع المعيشي. وبالنسبة لضوابط هذا التجديد, ذكر د. منجود خمسة ضوابط أهمها: حاكمية التشريع الإسلامي, والاحتراز من خروج التجديد السياسي عن أصول التشريع وأحكامه ومقاصده, أن يراعي التجديد مصالح الأمة ويدرء مفاسدها, أن يلتزم بالسنن الإلهية الحاكمة للاجتماع الإنساني, ثم الإلتزام بالقيم العليا.
أما عقبات التجديد السياسي ومقوماته, فقد ذكر خمس عقبات, هي: العصبية الدينية والسياسية,‏عقبة الجهل والأمية, الاستبداد السياسي, التقليد في وجهتيه باتجاه الماضي أو الحاضر. وأخيراً ‏تمزق جسد الامة, وقد عقب على هذه الورقة الدكتور حمود عليمات من الأردن.
الورقة الثانية في هذه الجلسة كانت للأستاذ أحمد علي سالم, وحملت عنوان: «الإصلاح السياسي عند الشيخ رضا بين بناء دولة إسلامية نموذجية وإقامة جامعة إسلامية».
يرى سالم بعد استعراضه للملابسات التاريخية التي تحكمت في مواقف الشيخ رضا, إنه كان عليه أن يختار بين هدفين لحركته الإصلاحية السياسية في تلك المرحلة, الأول هو إقامة نظام سياسي إسلامي, بإصلاح الحكومة العثمانية المركزية. والثاني: هو حماية الدولة العثمانية من انهيار متوقع, بإصلاح هيكل الدولة ذاته, وقد اختار رضا الهدف الثاني, ودعم فكرة الجامعة العثمانية, لكن بشرط أن تصبغ الهوية العثمانية بالصبغة الوطنية والمساواة بين جميع الشعوب العثمانية. كما اقترح إقامة نوع من الاتحاد الفيدرالي بين الولايات العثمانية, تتمتع فيه بالاستقلال الذاتي في إدارة شؤونها. واقترح كذلك إقامة جامعة إسلامية تقوم على أساس الالتزام بقيم الإسلام وشريعته.
هذه الآراء والمواقف لايمكن فهمها إلا باستحضار التطورات التي كانت الساحة السياسية التركية والعربية تموج بها, فالتحول مثلاً من الدعوةýإلى إصلاح الحكومة المركزية إلى الدعوة لإقامة جامعة عثمانية على أساس اللامركزية, يجد مبرراته في فقدان الشيخ رضا الأمل في إصلاح حكومة الأستانة. وخلاصة القول, لقد تطور مشروع الإصلاح السياسي لدى الشيخ رضا تبعاً ‏للتطورات التي كانت تشهدها المنطقة. لقد دعا في البداية إلى إنشاء نظام سياسي إسلامي ودستوري داخل الدولة العلية, لكن بعد تأكده من إصرار الحكومة التركية على سياسة التتريك واتجاهها نحو العلمانية, «دعا إلى إقامة جامعة عثمانية مستوحياً ‏فكرة الجامعة الإسلامية التي دعا إليها الأفغاني من قبل, وبعد إعلان إلغاء الخلافة رفض الشيخ هذا الالغاء وطالب بإقامة خلافة إسلامية راشدة». أما بخصوص نجاح تجاربه في الإصلاح السياسي, فبالرغم من عدم النجاح الظاهري ـ كما يقول الأستاذ سالم ـ في تحقيق الأهداف الإصلاحية المعلنة لتجربة كل من الأفغاني ورضا, فقد اثرا في حركات الإصلاح السياسي والديني التي عرفها العالم الإسلامي فيما بعد. وساهما في نشر الوعي السياسي والحقوقي داخل شرائح واسعة من هذه الأمة. وقد عقب على هذه الورقة الدكتور سيف الدين عبد الفتاح من مصر. الورقة الثالثة في هذه الجلسة قدمها الأستاذ فادي إسماعيل, وجاءت تحت عنوان: «الإسلام والغرب والسياسة: قراءة في نصوص المنار في سنواتها الأولى». يطمح هذا البحث ـ كما يقول كاتبه ـ إلى توضيح رؤية رشيد رضا لكيفية التعامل مع واقع الأمة الإسلامية, وللخيارات المتاحة للنهوض بالأمة, وذلك من خلال نصوص منتقاة من كتابات المنار في السنوات الأولى من هذا القرن, أي منذ تأسيسها سنة 1898م, وحتى أواخر العقد الأول من هذا القرن, وهي الفترة التي عرف عنها اعتدال المنار, وتأثرها إلى حد كبير بنهج محمد عبده المهادن للسياسة.
كما يقدم محاولة لفهم دوافع اتجاه المنار التصالحي مع الإستعمار الأوروبي وتحديداً‏ في مصر. وبالتالي تصحيح بعض المفاهيم والقراءات حول النهج التوفيقي بين الإسلام والحداثة الأوروبية, التي تجعل منه تياراً استسلم للأمر الواقع, وتخلى طوعاً‏عن خيار المقاومة السياسية والعسكرية, واكتفى بالتغيير الثقافي والتربوي, وتتهمه بأنه مهد بذلك الطريق امام مزيد من التراجع أمام الحضارة الغربية واستراتيجياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. قبل استعراض مبررات الاتجاه التوفيقي, واسباب إعطائه الأولوية للإصلاح الديني والثقافي والتربوي, لابد من الإشارة إلى أن تطور الأوضاع داخل الدولة العثمانية وانتشار المطالبة بالتغيير والإصلاح, وما نجم عن ذلك من إنشاء التنظيمات وإدخال بعض الإصلاحات السياسية, وظهور النزعات القومية العربية الداعية إلى الإستقلال عن الدولة العلية, بالإضافة إلى توسع الهجوم العسكري الغربي واقتطاعه عدداً‏من المناطق الإسلامية وإخضاعها لسلطته السياسية. كل هذه الأحداث كشفت عن اتجاهات فكرية وسياسية متباينة في النظر لهذه الأحداث واقتراح الحلول لها. فمشروع الأفغاني اهتم بالنضال السياسي الثوري من أجل تحقيق الإصلاح ومقاومة الاستعمار الغربي. ومحمد عبده ركز على الإصلاح الديني والتربوي, لما تبين له أن الإصلاح السياسي وخيار المقاومة العسكرية للغرب غير مجديان في تلك اللحظة التاريخية, بالإضافة إلى دعوات أخرى للإنخراط في المشروع المدني والحضاري الغربي جملة وتفصيلاً, والاكتفاء بإنشاء دول قومية مستقلة على النمط الغربي.
بالإضافة طبعاً إلى التحركات الشعبية والجماهيرية المقاومة للإستعمار هنا وهناك, عن طريق الانتفاضات والثورات المسلحة. في خضم هذه الأحداث والوقائع الموضوعية نضج وتطور موقف رشيد رضا من الغرب ومن الإصلاح السياسي والاجتماعي. وتبلور مشروعه باتجاه التوفيق بين مطالب واقعية تدعمها «قراءة تاريخية وموضوعية لأحوال الأمة والدولة», وبين خيارات ثورية ومطالب جذرية في التغيير الداخلي ومقاومة الاستعمار.
ومن خلال قراءته لبعض نصوص المنار يتمكن الأستاذ إسماعيل من رصد ما أسماه بالتسلسل المنطقي للخيار التوفيقي الذي أدى إلى وجهته المحددة. فالإستعمار لايمكن أن يحقق ما ينشده من مكاسب إلا بإشاعة العمران داخل مستعمراته, وهذا لن يتأتى إلا بقدر من الاتفاق مع أصحاب البلاد المستعمرة, وبما أن تفوق الغرب هو بسبب التقدم الذي أحرزته الأمم الغربية على المستويين العلمي والسياسي, وبما أن وضع الأمة منحط ومتخلف في جميع المجالات «لهذه الأسباب جميعاً ـ يقول الباحث إسماعيل ـ يصبح خيار المهادنة مع المستعمر وتجنب مقاومته أو التعريض المباشر عليه. والدعوة إلى أولوية الإصلاح الديني, الثقافي, التربوي, وإلى التعايش بين الإسلام والغرب, والاقتباس من منجزاته ومصادر تفوقه, والتوفيق بينها وبين الإسلام هو خيار معقول ومفهوم..». إن درجة الانحطاط والجهل والجمود التي كانت سائدة في مصر وفي أنحاء العالم الإسلامي أمدت المشروع الإصلاحي بحجة قوية لتأجيل العمل السياسي الثوري الهادف إلى التخلص السريع من الاستبداد والاستقلال والسيادة, لصالح رد فعل على التفوق الأوروبي يعتمد على تحرير العقل, وإعادة تفسير الإسلام بشكل عقلاني ينسجم مع واقع الزمن كما يرى الدكتور وجيه كوثراني.
لقد جاءت نصوص المنار لتنتصر للحل التوفيقي الإصلاحي, لكن هذا الحل تعرض للفشل الذريع لأسباب داخلية وخارجية ضاغطة. لكن كان بإمكان هذا الحل التوفيقي للمأزق الإسلامي أن ينجح إلى حد أكبر ـ كما يدعي الأستاذ إسماعيل ـ لو صاغ معادلاته بشكل أكثر تعقيداً ‏واستيعاباً للاختلافات بين منظومات المفاهيم والأنماط الفكرية..
لكن هذا المشروع لم يكن ليحقق أهدافه, أي توليد نموذج مركب متكامل من نسقين حضاريين متمايزين في الفكر والثقافة والاجتماع والاقتصاد والسياسة إلا جزئياً. فالتوفيق جاء في إطار غلبة حضارية عسكرية جعلت منه عقيماً‏ومحدوداً كعملية تفاعل إرادي حر, فالذي يحدد مسيرة التوفيق والتحديث وحدودها لم يكن الطرف الأضعف.. إن من أهم أسباب عدم وصول معادلة التوفيق بين الإسلام والحداثة الأوروبية ـ يضيف الباحث إسماعيل ـýإلى توليفة حضارية ناجحة, كان عجز طرفها الأول عن وقف انهياره, وعجز الثاني أن يكون بديلاً شرعياً أي مقبولاً لدى الناس..
وعليه فالخطأ الكبير الذي وقع فيه التيار الإصلاحي التوفيقي, هو توهمه بأن الدولة الإستعمارية والفئات المتحالفة معها كانت ستسمح للمجتمع الإسلامي بامتلاك عناصر القوة, وتساعده على بناء ذاته, فما كان يهم الإنجليز هو الاستفادة من عنصر المهادنة لتثبيت المؤسسات الغربية, وتشريع القوانين التي تزرع الحداثة في الواقع الإسلامي وتجذر مؤسساتها المدنية والسياسية. وبعد ذلك,‏فإن الإصلاحية التوفيقية ستقع في شباك منطق عمل الحداثة الأوروبية بمؤسساتها المجتمعية. وهذا ما حصل بالفعل وقد عقب على هذه الورقة الأستاذ زيد أبو الحاج من الأردن.
الورقة الأخيرة كانت للدكتور بسام العموش وجاءت تحت عنوان: «معالم سلفية عند الشيخ محمد رشيد رضا في تفسير المنار» وقد حاول فيها أن يقدم الأمثلة من خلال هذا التفسير على الاختيارات السلفية للشيخ رضا وهو يعالج قضايا العقيدة, مثل الإيمان وصفات الله, القضاء والقدر, الشفاعة, وموقفه من علم الكلام, والابتداع والتقليد. وقد اختلف د. العموش مع الشيخ رضا حول إطلاق الاجتهاد وإهمال اعتبار الشروط التي حددها العلماء, وإفساح المجال للعوام لطرق باب الاجتهاد واستصدار الفتاوى, لأن ذلك سيؤدي إلى الفوضى, ولقد شاهدنا هذا بأم أعيننا ـ يقول د. العموش‏ـ من صبية لم ينتظروا على أنفسهم فهم الأساسيات والتفقه على أيدي العلماء, فحفظ الواحد منهم بضعة أحاديث وأخذ يرفع صوته تجاه الأئمة بقوله: هم رجال ونحن رجال.
ومن القضايا التي استعرضها العموش كذلك من خلال ما كتبه الشيخ في تفسيره الكبير, قضية انتشار التكفير بين المسلمين بسبب الاختلافات المذهبية, فأكد بأن جمهور أهل السنة ليسوا مع التكفير وكذا مسألة الإكراه في الدين. والنتيجة التي يتوصل إليها د. العموش هي أن الشيخ رضا كان في الوقت نفسه «علماً من أعلام الإسلام في القرن العشرين, وأحد رواد المدرسة السلفية» إلا أن سلفيته كانت منفتحة على العصر, تحترم السلف وتقدر جهودهم, لكن لاتصل إلى حدود تقديسهم.
تخللت الجلسات مداخلات وتعقيبات من المشاركين والمتحدثين.

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة