تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

المشهد الثقافي الراهن في المملكة العربية السعودية

عقيل بن ناجي المسكين

 إعداد وتقديم: عقيل بن ناجي المسكين
الرياض ـ المملكة العربية السعودية

تقديم:
حركة المجتمع على مسرح هذه الحياة يفعِّلها مجموعة من القواعد والأساسيات التي ينطلق منها الانسان لبناء حضارته والصعود بمستوى معيشته إلى أرقى المستويات الممكنة، وهذه القواعد هي الدين والمبدأ بما يحملان من الأصول العقائدية المتفق عليها وينطلق من هذه الأسس فاعلية الانسان واجتهاداته التي تحمل ما يطلق عليه في المصطلحات الشرعية «أمور دنياكم» أو ما يطلق عليه «الثقافة»، فالثقافة في عصر النهضة الحديثة للانسان أصبح لها اهتمام كبير بقدر اهتمام الانسان نفسه بتهيئة سبل العيش والصراع من أجل البقاء، خصوصاً أن الانسان المثقف يأخذ من كل شيء بطرف ويأخذ من كل علم ومعرفة ما يحتاج إليه لتسيير دفة مركبه في بحر هذه الحياة.
والثقافة في العصر الحديث تختلف عن العصور القديمة من حيث توسع الاهتمامات البشرية ومستوى التقدم الحضاري خصوصاً بعد اكتشاف البترول وظهور الثورة الصناعية وتقدم العلم وسبل الاكتشاف والتطور التقني على صعيد كافة المجالات الحيوية. والمشهد الثقافي هو ما يلمس في الواقع من فعاليات على كافة الأصعدة الانسانية وما يرصد من حركة البشر تجاه عملية البناء الحضاري وقد يدرس هذا المشهد في دائرة واسعة للبشر على هذه المعمورة، وقد يدرس في إقليم معين، ويدرس أيضاً في قطر من الأقطار لاكتشاف معالم هذا المشهد الثقافي ومميزاته ومقارنته بالأقطار الأخرى المجاورة وغير المجاورة.
وللمشهد الثقافي مفردات موضوعية يمكن النظر في كل مفردة على حدة ويمكن أيضاً النظر في جميع هذه المفردات بشكل جمعي أو بعضها وهذا ما نقوم به في استطلاعنا هذا.
ومن مفردات الثقافة العصرية في الواقع الراهن للانسان هو التقارب حيث أن الكرة الأرضية بتقدم وسائل المواصلات، والكمبيوتر، والإنترنت، والفضائيات، ووسائل الاعلام السريع أصبحت قرية صغيرة ولابد من إيجاد لغة بين بني البشر ـ لا أقول لغة كلامية ـ إذ لابد من صناعة لغة تفاهم ثقافية بين بني البشر تجمع كل الوسائل الممكنة لإيصال وجهات النظر والتفهم للآخر، ولعل المفاهيم الثقافية الحيوية هي أجدى السبل التي تقرب بين بني البشر بغض النظر عن نوعية الوعاء اللغوي الذي يحمل هذه المفاهيم والمسارات، ومن هذا المنوال أصبح هناك نوعاً من الالتقاء المسمى بالمثاقفة والحوار الحضاري، فالمثاقفة والحوار الحضاري هو أحد مفردات الثقافة في العصر الحديث.
هذا على صعيد العمل الثقافي مع الآخر، ولكن ماذا عن العمل الثقافي في داخل كياننا كأمة وكمجتمع يلتقي في اللغة والدين، من هنا يجري رافد آخر من روافد العمل الثقافي وهو الحوار العربي العربي، والمشهد الثقافي يُلمس في النتاجات الأدبية كالشعر والقصة والرواية والمسرح والمقالة ويلحق بهذه النتاجات النقد الأدبي المصاحب لكل هذه النتاجات الأدبية، وكذلك يلمس هذا المشهد الثقافي في المؤسسات الثقافية التي تقوم بتنظيم العمل الثقافي والأدبي والفكري والفني كالأندية الأدبية وجمعيات الثقافة والفنون والنوادي ومؤسسات الجوائز التقديرية والجامعات والمعاهد، إلخ...
التأكيد على الراهنية.. لماذا؟
الحركة الثقافية كمظهر يُرى بالعين المجردة على مسرح هذا الوطن أمرٌ واضح في الساحة كما هو واضح في أي رقعة جغرافية بالعالم، ولكن سؤالنا هو أي مشهد ثقافي ينبغي أن نشاهد.. ونلمس.. ونعي.. ونتفاعل معه..؟ ما هو المشهد الثقافي الحيوي الذي ينطلق من آخر مرحلة توصلت إليها حركة الثقافة الماضية وإلى أين ستنطلق الثقافة وفعالياتها على مستوى الفرد والمجتمع والدولة؟.. ما هي استراتيجيتنا الآنية في ذلك؟ ما هي أهدافنا للمستقبل القادم؟.. من هنا يتم التأكيد على الراهنية، ولعل من إهتمامات الاستطلاعات الثقافية والفكرية والأدبية سواءً العامة أو المتخصصة هو إثارة بعض الأسئلة المتعلقة بالتقويم عن الحالة في فترة زمنية محددة هدفاً للتوصل إلى الأفضل والبحث عن المسار الصحيح والتطلع إلى آفاق أوسع.
هذا الاستطلاع...
الثقافة ومظاهرها في حياتنا من حيث التوصيف والنقد والتطلع تحدث فيه عبر هذا الاستطلاع عدة شخصيات ثقافية وأدبية وفكرية وكلٌ له رأيه حسب اطلاعه ومرئياته وربما التقوا في كثير من الأمور، وربما اختلفوا، المهم هو وجود هذا الالتقاء الثقافي الودي الذي يهدف إلى التوقف عند نقطة وصول الثقافة في هذا الوطن وإلى أين تسير، وقد أردنا لهذا الاستطلاع أن يكون متنوعاً في موضوعاته فقد دارت موضوعات الاستطلاع عن الثقافة عموماً والنتاجات الأدبية والصحافة والنشر وجمعيات الثقافة والنوادي الأدبية والجامعات والمرأة.. الخ.. ومن المشاركين في هذا الاستطلاع ممن تخصصوا في الشعر ـ القصة ـ الرواية ـ المسرح ـ الفنون التشكيلية ـ العمل الصحفي ـ التحقيق العلمي ـ اللغوي ـ النقد الأدبي ـ وغيرهم..
وهذا الاستطلاع العام عن توصيف وتقويم الحالة الثقافية الراهنة بالمملكة العربية السعودية يأتي لكي يبرز دور الثقافة في هذا البلد، وضرورة المثاقفة بين العالم العربي والاسلامي، كما يعتبر هذا الاستطلاع وقفة تأمل هدفاً للبحث عن مساقات جديدة للتطوير وإيجاد لغة حيوية.. أكثر انطلاقاً.. على مسرح هذه الحياة والوصول بالعمل الثقافي في هذا الوطن إلى أرقى درجاته الانسانية لخدمة الفرد والمجتمع.
وقد قسمنا هذا الاستطلاع إلى محاور أساسية هي:
أولاً: المشهد الثقافي العام.
ثانياً: المشهد الثقافي من منظور المرأة.
ثالثاً: المشهد الثقافي من منظور اقتصادي.
رابعاً: المشهد التعليمي.
خامساً: المشهد النقدي.
سادساً: المشهد التشكيلي.
وقد اعتمدنا ترتيب السماء ترتيباً هجائياً حسب الاسم الأول وحسب ترتيب المحاور المذكورة..
***
المشاركون في هذا الاستطلاع والتعريف بهم:
[الأسماء مرتبة هجائياً]
1 ـ ابراهيم ناصر الحميدان. كاتب وروائي.
2 ـ الدكتور أحمد رامز قطرية. استاذ مشارك، كلية الآداب ـ قسم اللغة الانجليزية جامعة الملك سعود بالرياض. من سوريا.
3 ـ أحمد الشمر. كاتب وصحفي.
4 ـ الدكتور أحمد الشويخات. مدير عام مشروع الموسوعة العربية العالمية.
4 ـ أيمن حامد. فنان تشكيلي من مصر.
6 ـ بهية بوسبيت. كاتبة وقاصة.
7 ـ الدكتورة ثريا العريض. شاعرة وكاتبة.
8 ـ الجوهرة بنت محمد العنقري. كاتبة ونائبة رئيسة الجمعية الفيصلية الخيرية بجدة.
9 ـ الدكتور حامد أبو أحمد. استاذ بكلية الآداب، جامعة الملك سعود بالرياض. من مصر.
10 ـ الشيخ حسن الصفار. كاتب ورجل دين.
11 ـ حسين مناصرة. عضو هيئة التدريس بجامعة الملك سعود بالرياض. كاتب وقاص من الاردن.
12 ـ الدكتورة حياة البسام. كلية الآداب والعلوم الانسانية، قسم التاريخ، جامعة الملك عبد العزيز بجدة.
13 ـ الدكتور زيد بن عبد المحسن الحسين. رئيس تحرير مجلة الفيصل وعضو مجلس الشورى بالسعودية.
14 ـ الدكتور سعد البازعي.
15 ـ الدكتور سلطان القحطاني. معهد اللغة العربية، جامعة الملك سعود بالرياض. كاتب وروائي.
16 ـ شفيق العبادي. كاتب وشاعر.
17 ـ الدكتور عبد العزيز داغستاني. رئيس تحرير مجلة عالم الاقتصاد، ورئيس دار الدراسات الاقتصادية وعضو مجلس الشورى بالسعودية.
18 ـ عبد المنعم عواد اليوسف. شاعر وكاتب من مصر.
19 ـ الدكتورة عزيزة المانع. قسم التربية، جامعة الملك سعود بالرياض.
20 ـ الدكتور محسن الشيخ آل حسان. مستشار وكيل وزارة الاعلام المساعد لشؤون التلفزيون ومدير الادارة المركزية بالتلفزيون.
21 ـ الدكتور محمد بن أحمد الرشيد. معالي وزير المعارف.
22 ـ محمد الجلواح. شاعر وكاتب.
23 ـ الدكتور محمد رحومة. عميد كلية الدراسات العربية بجامعة المنيا بمصر، استاذ بكلية الآداب للبنات بالرياض.
24 ـ محمد رضي الشماسي. عضو هيئة التدريس بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن بالظهران ـ قسم اللغة العربية.
25 ـ محمد سعيد البريكي. شاعر وكاتب.
26 ـ الدكتور محمد بن صالح الرصيص. رئيس قسم التربية الفنية، جامعة الملك سعود بالرياض.
27 ـ محمد العباس. كاتب وناقد.
28 ـ محمد العلي. شاعر وكاتب.
29 ـ محمد محفوظ. مدير تحرير مجلة الكلمة.
30 ـ محمد الوعيل. رئيس تحرير جريدة المسائية.
31 ـ نبيه الأنصاري. صاحب ورئيس مجلة المنهل.
32 ـ يحيى بن عبد الله المعلمي. كاتب وعضو مجمع اللغة العربية.

أولاً: المشهد الثقافي العام
ابراهيم الناصر الحميدان
1 ـ المشهد الثقافي في المملكة له بطبيعة الحال خصوصية ـ شأن أي مجتمع آخر ـ إذ مازالت الحركة الثقافية المتنامية تطرح بين الحين والآخر أسئلة على صفحات الصحف أو بما يدور من مناقشات في المنتديات والأندية الأدبية، والمشهد الثقافي في بلادنا متعدد ومتنوع وهو يتأثر بما يدور في أروقته من خصوصيات دينية وخلافها في المواسم، كما أنه مقبل على فترة صيفية تشهد فيه المصائف حركة فكرية ناشطة عبر المنتديات التي تتهيأ لها المنطقة الجنوبية ـ مثلاً ـ حيث يذهب الكثير من المصطافين هرباً من حرارة الجو في المناطق الأخرى فيكون التجمع هناك فرصة لتداول الآراء وتطارح الانتاج الشعري بالذات في المنتديات هناك، إذ تستعد الأندية في تلك المنطقة لاستقبال فرسان الكلمة كل عام ويتخلل اللقاءات إقامة محافل ثقافية من مسرحيات إلى أنشطة أخرى لاسيما الشعرية منها حيث يتبارى الشعراء في إلقاء الجديد من نتاجهم الذي يجد إقبالاً من المهتمين، ففي هذه الحركة الثقافية تدار المناقشات والندوات طوال فصل الصيف وهذا دليل على أن الحركة الثقافية تسير بخطى لابأس بها ويشتعل التنافس في هذه الفترة‎أكثر من الأوقات الأخرى مما يحرك المشهد الثقافي ككل بعد أن عانى من بعض الركود في الفترات الماضية.
2 ـ العطاء الثقافي له عدة مظاهر منها النشر، الإصدارات، اللقاءات الفكرية، المعارك الثقافية ـ الحركة النقدية.. الخ، ولو وقفنا عند كل نقطة من هذه الجوانب لوجدنا أنها تتسم بالتوازن، إذ أن النشر لدينا بأنواعه يتكاثر في مطبوعاتنا الفكرية وهو نشيط حيث تطرح القصيدة والقصة القصيرة والمراجع المختلفة ذات الفائدة وبعض الدراسات.
كما أن الإصدارات هي الأخرى لم تتوقف مع عدم التحكم في مستواها لأن النشر لا علاقة له بأهمية المطبوع وفائدته ـ خاصة الذين يطبعون على حسابهم الخاص ـ ولهذا السبب فإن التقويم يختلف من مطبوع إلى آخر لاسيما وان الاصدارات متتالية مما يصعب منه إطلاق الأحكام.
اللقاءات الفكرية تتم على عدة محاور فهناك المنتديات الأدبية المتوزعة على‎أكثر المناطق، والمجالس والمنتديات الخاصة في بعض المدن تتم أسبوعياً وتناقش فيها بعض الأمور الأدبية الراهنة.
أما التنظيرات الثقافية والحركة النقدية عامة فهي خفيفة للغاية وتكاد تكون مشلولة عدا دراسات قصيرة تنشر هنا أو هناك دون ذلك التأثير الذي يشد القرّاء ويجعلهم يتابعون ما ينشر فيستفيدون من اختلاف وجهات النظر أو تفتح أمامهم آفاق جديدة في طبيعة المدارس النقدية وخلافها.
وعموماً فإن العطاء الثقافي لا يخلو من معظم ما يحدث في البلاد العربية الأخرى.
3 ـ الروائي أو القاص ينتزع مادته الابداعية من محيطه الاجتماعي مقترباً أو مبتعداً قليلاً عنه، كما أن الروائي أو القاص قد يتأثر بمشاهداته ومعايشته لمجتمع آخر ازدحم ببعض الأحداث في حياته فينقله إلى إبداعه، فالمبدع يضع غالباً نقطة ارتكاز فينطلق منها إلى البعيد أو التحاور مع أفكاره أو تصوراته المستقبلية ولهذا فهو ينجح هنا وهناك لأن مخيلته تنتقل به من خلال رحلته التي تؤثر عليه كما يتأثر هو بعوامل أخرى مثل القراءات والأعمال الفكرية المتاحة له ومعاناته أو معاناة أبطاله الذين يختارهم كنماذج لعمله الفكري المرسوم في ذهنه فهو من خلال تلك الرحلة يطرح تصوراته ورؤاه الناقدة التي تصطرع في أعماقه معبراً عن ذاته الاجتماعية
.
الدكتور أحمد رامز قطرية
من الخطأ أن تعطي حكماً عاماً يشمل مثاقفة المجتمع بأكمله، هناك علاقة متميزة مع الآخر في المجتمع السعودي وتأخذ أشكالاً مختلفة. فالمملكة تستضيف أعداداً كبيرة من العاملين وأهليهم. وهذا يشكل رافداً قوياً للمثاقفة. الرافد الآخر هو العدد الضخم من المتبحثين الذين عاشوا مع الآخر وعادوا ليشغلوا مناصب قيادية في مؤسسات الدولة. بالاضافة لهذين الرافدين هناك رافد الحجيج المتكرر عبر السنين حاملاً معه طرقاً حياتية وطباعاً مختلفة تجعل من جمع المسلمين أثناء الحج جمعاً لا مثيل له في تاريخ الانسانية.
الانفتاح على الآخر يحدّه أطر تمنع التجاوزات التي تخالف البنية الأساسية للمجتمع وقيمه. وهذا يحتم علينا وصف العلاقة مع الآخر بأنها عقلانية تأخذ ما يفيد وتترك ما لا يصلح. هذا لا يعني أنه لا توجد تجاوزات فردية ولكنها تؤكد الاتجاه السائد الملتزم بقيم المجتمع المبنية على الاسلام.
المثقف السعودي معجب بالكثير مما عند الآخر ويود الكثير من المثقفين أن يكون في مجتمعهم وفكرهم شيء يماثل ما لدى الآخر، لكن هذا المثقف يبقى دائماً واعياً لأسس مجتمعه فلا يخالفها، يواجه بعض المثقفين مشاكل الاختيار من جملة أفكار مترابطة بعضها يصلح لبيئته والبقية تخالفها. فكيف يترك الجزء المكمل لما يأخذ دون أن يبتر ما يأخذ؟ الهدف لدى المثقف واضح والقيم واضحة ويبقى التطبيق وتقع بعض الهفوات التي تحمل مقصداً سليماً رغم أنها أحياناً لا تفسر كذلك.
أعتقد أن معرفة المثقف السعودي لما يتفق مع مجتمعه من أفكار الآخر معرفة واضحة له فإعجابه بالآخر يأتي بشكل ينتفي فيه القليل أو الكثير ويترك ما تبقى أو يهاجمه. فالواضح لديه هو الانتماء للوطن والثقافة وهذا الانتماء علامة تميزه. غير أن من ينظر إلى المشهد الثقافي السعودي دون دراية كافية سيرى أشكالاً من النشاطات والأفكار التي تبدو وكأنها تقليد للآخر في العالم المتقدم لكن نظرة متمعنة ستريه أن ما يبدو تقليداً إن هو إلا بناء يسترشد بالآخر لكنه ينبع من المكان والبيئة. وهذا ينطبق على النصوص المنشورة في الصحف والمجلات والكتب. النقد الأدبي السعودي على سبيل المثال يعي المدارس الأدبية النقدية العربية والغربية لكن الكتابات النقدية المتميزة تبقى مبنية على وجهة نظر المكان والزمان في الوطن السعودي. يقرأ المثقف ما ينتجه الغرب بنهم وينقل منه إلى العربية لكنه يعطي هذا الانتاج أبعاداً محلية.
ويحاول المثقف الأكاديمي السعودي التواصل مع الانسان العادي عن طريق كتاباته في الصحف والمجلات وهذه ظاهرة يشترك فيها مع اخوانه في العالم العربي وقد يزيد عليهم. فالشيء الذي يلفت النظر الأسماء الكثيرة جداً من الأكاديميين الذين يكتبون في الصحافة المحلية والعربية فقد لا تخلو صفحة واحدة من صفحات أي جريدة سعودية من اسم أكاديمي واحد أو أكثر. محاولة التداخل مع المجتمع ورفع مستوى الثقافة العامة أمر ملحوظ ولا يحتاج إلى دليل أكثر من اي عدد من أي صحيفة سعودية. كما يمكن ملاحظة استعانة أكثر مؤسسات المجتمع بخبرة وعلم وأفكار الأكاديميين.
هناك تيار قوي لدى الشباب في المجتمع يدفع هذه الفئة الهامة إلى متابعة الأنشطة الرياضية والمعيشية بعيداً عن الأمور الثقافية. ويشكو بعض محرري الصفحات الثقافية من هذا الأمر رغم أنهم يعرفون أن الصفحات الرياضية تُسوق الصحف. لكن علينا أن نلاحظ أيضاً أن الأدب الذي يجذب هذه الفئة هو الأدب الشعبي الذي يتعرض للهجوم من قبل كثير من الأكاديميين بسبب لغة الأدب الشعبي. لكن الجماليات التي يقدمها هذا الأدب هي من نفس النوع الذي يقدمه الأدب العام.
أما بالنسبة للتعليم فهناك مأخذ يهمني، في اعتقادي أن الطلاب لا يقرؤون الكثير من النصوص الابداعية المحلية الحديثة فيأتي الطالب إلى الجامعة وهو لا يعرف أكثر من اسم أو اسمين من رواد الحركة الأدبية أو من الكتّاب النشطين في المملكة من المعاصرين.

الدكتور أحمد الشويخات
فيما يتعلق بالموسوعة العربية العالمية ودورها في مسيرة الحركة الثقافية بالمملكة خاصة والوطن العربي بشكل عام أفيدكم بأن هذه الموسوعة تعتبر أحد معالم النهضة الثقافية في بلادنا لأنها خرجت من هذا الوطن، والموسوعة كما يعلم كثير من الناس في داخل المملكة وخارجها عمل يتحدث عن نفسه، ونحن فخورون في المملكة العربية السعودية أن يصدر هذا العمل بفكرة ودراسات وطنية، وبتمويل ودعم صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز، رئيس مجلس إدارة مشروع الموسوعة، الذي أدخل بحق واقتدار المملكة العربية السعودية والوطن العربي عالم صناعة الموسوعات الشاملة الكبرى الحديثة.
ثمة عمل تم إنجازه بالفعل بعيداً عن الضجيج، ويبقى تقويم ما لهذا العمل وما عليه، بكل إنصاف ومحبة للثقافة وللعمل الصادق النافع، بعيداً عن الهوى والتزلف والنفاق والمعادلات الجاهزة، ويبقى أيضاً تطوير هذا المشروع والدفع به في آفاق عصر المعلوماتية والتوزيع الجماهيري الواسع.
فعلى صعيد الحركة الثقافية بالمملكة كتب عدد من المثقفين السعوديين عن العمل، وكذلك على صعيد الحركة الثقافية والفكرية بالوطن العربي وكثير من دول العالم، وأسجل هنا تقدير للأصدقاء الذين استشعروا الواجب الوطني الثقافي في الكتابة عن العمل بعيداً عن الاحتفالية والجاهزية.
والموسوعة العربية العالمية تسعى إلى تحقيق جملة أهداف هي:
1ـ تقديم مادة متنوعة متكاملة شاملة، دون نزوع إلى التعمق المتخصص في جميع مجالات المعرفة الانسانية، مع محاولة صياغة المادة بلغة عربية سهلة واضحة دقيقة.
2ـ التوجه إلى أوسع جمهور من مختلف الأعمار والاتجاهات والمستويات التعليمية والثقافية والاجتماعية.
3ـ تحري الدقة فيما يتعلق بالدين الاسلامي، والأديان السماوية الأخرى.
4ـ تحري الإنصاف فيما يتعلق بالعرب والمسلمين وثقافتهم، أو فيما يتصل بشعوب العالم الأخرى وثقافاتها.
5ـ استهداف المصداقية والنزاهة والشمول.
6ـ تأسيس تجربة علمية حضارية جديدة على الصعيد العربي المعاصر في مجال الموسوعات الشاملة الكبرى.
وكل هذه الأهداف تصب في خدمة الحركة الثقافية محلياً وعربياً ومشروع الموسوعة يعد قفزة نوعية في الأنشطة الثقافية بالمملكة.

أحمد الشمر
ان المتتبع لمعطيات النقلة الحضارية التي خطتها المملكة العربية السعودية في شتى المجالات والمناحي الحياتية، والتي أصبحت محل ثناء وتقدير لكثير من الباحثين والناقدين.. ان المتتبع لذلك يلاحظ بوضوح التطور والتقدم الشامل الذي قطعته النهضة العلمية والفكرية والثقافية بصورة عامة..
وأعتقد أن دور المؤسسات الاعلامية والتعليمية والعلمية والثقافية بما في ذلك الجامعات والمعاهد ومراكز البحوث والأندية الأدبية والرياضية.. بجانب المؤسسات الصحفية وغيرها من المؤسسات المهتمة بهاجس النهوض بجوانب الوعي الثقافي والفكري.. قد اسهمت مجتمعة في تفعيل وتقدم النهضة الثقافية التي تعيشها المملكة حالياً بصورة شاملة..
ان مشهد النهضة الحضارية الذي تطور في مجمل النواحي الثقافية في المملكة قد انعكس بصورة ايجابية، وبما لا يدع مجالاً للشك وبشكل عام على المجتمع السعودي، وهو ما أدى بالتالي إلى أن يشتمل ذلك جوانب الحقل المهني الصحفي وعناصر اصداراته الثقافية والفكرية، وسواء كان هذا في مجال العاملين في هذا الحقل من القدرات والكفاءات والخبرات السعودية المؤهلة والمدربة.. أو على مستوى الطباعة والاخراج.. أو على مستوى محتوى ومضمون المادة التحريرية المقدمة للقارىء وللمتلقي عامة..
وبرغم تفاوت مستوى هذه المادة من مطبوعة إلى أخرى.. إلا انني أستطيع القول بمنتهى الثقة.. ان ثمة تطور واضح قد بدأ يجني ثماره.. خاصة في السنوات الخمس الأخيرة.. وبعد أن أدركت معظم المطبوعات السعودية نضوج تجربتها في جوانب استقطاب الطاقات والقدرات من الكتاب والأساتذة في مختلف التخصصات والثقافات والعلوم.. وكذلك استقطاب اهتمامات القارىء بمختلف توجهاته العلمية والثقافية والرياضية وغيرها.. ومع ان ذلك بالطبع ليس هو مبتغى أهدافنا.. فمازلنا نتطلع إلى تحقيق المزيد من التطور للاقتراب أكثر من المتلقي لتجسيد همومه وهواجسه.. لكن ما تحقق حتى الآن يعد خطوة ناجحة لتحقيق المزيد في المستقبل القريب إن شاء الله تعالى..
وأظن انه من هذا المنطلق قد بدأت الصحافة السعودية في تقديم الكثير من الأبواب والصفحات، بالاضافة إلى إصدار الملاحق التي تلبي رغبة القارىء الملحة وتحقق له بعض طموحاته وجوانب اهتماماته من تلك المواد التي يتطلع إلى تحقيقها، أو التي يهتم بمطالعتها ومتابعتها.. وسواء كان هذا في الصفحات المتخصصة.. كصفحات الرأي والسياسة والاقتصاد والصناعة والطب والزراعة.. أو غيرها من صفحات الخدمات التي تهتم بنقل ومتابعة آراء وانطباعات وملاحظات وشكاوى المواطنين إلى المسؤولين عن بعض الخدمات.. إلى غير ذلك من الأبواب، كالصفحات الاسلامية والثقافية والأدبية المتنوعة والتي تهدف جميعها في النهاية إلى تحقيق التكامل الاعلامي والثقافي، وحاجة المتلقي العصرية إلى تلك النوعية من الخدمات بصورة عامة وشاملة..
يتضح من خلال هذا الكم الهائل من المواد والصفحات المتخصصة.. إن معظم المطبوعات لا تكتفي أو تقتصر في مجال إصداراتها على تخصيص تلك الصفحات فقط.. وإنما درجت على اصدار الكثير من الملاحق التي ترمي إلى تحقيق المزيد من التفاعل الثقافي وملاحقة التطورات، ومتطلبات الحركة الثقافية والاقتصادية التي تشهدها البلاد في مختلف المجالات.. فهناك الملاحق الأدبية والثقافية، وملاحق الرياضة والفن والمال والأعمال والاقتصاد والصناعة، بالاضافة إلى ملاحق الخدمات كالحاسب الآلي وغير ذلك من الخدمات المتنوعة التي تصدر في العديد من المناسبات.
أما عن تقييم مستوى هذه الاصدارات والملاحق.. في تقديري انها كما نوهت تعد خطوة ايجابية متقدمة للأمام، ومازال الأمل معقوداً على استمرار مواصلة العمل لتحقيق أكبر قدر ممكن من الموائمة والمواكبة مع التقدم العلمي والتقني اللذان تحققا في الدول التي سبقتنا في هذا الميدان.. وكل ما نتأمله هو أن تتوفر لدى الصحفي السعودي حاضراً ومستقبلاً كافة عناصر الدعم والمساندة والتشجيع المطلوبة التي تؤدي به إلى تحقيق الأهداف المرجوة للمجتمع، والتي تتناسب مع متطلبات المرحلة الراهنة، وبحيث تنعكس فعلاً على المشهد الحضاري لحركة التنمية التي تعيشها دول العالم المتقدم.
وعن تفاعل المثقف والكاتب السعودي مع قضايا المجتمع والأمة بشكل عام..
أقول.. انه رغم وجود بعض المعوقات التي تحول دون انتشار الكاتب والكتاب والمطبوعة السعودية بشكل عام في أرجاء الوطن العربي أو غيره.. لكن لاشك هناك الكثير من التجارب والمحاولات الناجحة التي قام ويقوم بها الكاتب والمثقف السعودي في مجال وإطار تفعيل دوره في إنماء الحركة الثقافية والفكرية في مجتمعه، وبما يسهم في النهوض بهذا الدور فكرياً واجتماعياً وحضارياً..
ولاشك أيضاً ان هذا الدور هو محل تقدير واعتزاز لكل مواطن، وأعتقد أن هناك الكثير من تلك المحاولات المبذولة والجادة لتفاعل المثقف السعودي مع قضايا أمته، وبما يثري جوانب النهضة العملية في مجتمعه بصورة عامة..
.. ولعل بعضاً من تلك المشاركات الواضحة والملموسة لتفاعل المثقف السعودي مع قضايا الأمة.. قد برزت، وتبرز كما هو ملاحظ من خلال الكثير من المناسبات والمؤتمرات والمحافل العلمية المختلفة.. بجانب اصداراته الفكرية والصحفية، وكذلك إسهامه في قيام المؤسسات الاعلامية في الداخل والخارج.. فكل هذا يوضح جانباً من ذلك التفاعل الذي أصبح حقيقة واقعة، ومن الظواهر الايجابية التي تخدم قضايا المجتمع المحلي والاقليمي والدولي وقضايا الأمة بشكل عام.

الشيخ حسن الصفار
على مستوى العطاء والانتاج الثقافي هناك تقدم ملحوظ في المملكة يستحق الاشادة والإكبار حيث أصبحت لدينا مؤسسات ثقافية عديدة ونواد أدبية في مختلف المناطق ومجلات فكرية وعلمية رائدة.
لكن مستوى تفاعل المواطن مع الحركة الثقافية ومع الاهتمام الفكري المعرفي يحتاج إلى دراسة وتأمل، فما عدا النخبة المثقفة والمهتمين بالشأن الفكري والأدبي فإن عامة المواطنين لا يخصصون من وقتهم وجهدهم وإمكانياتهم للجانب الثقافي إلا نسبة ضئيلة محدودة.
وضمن هذه النسبة المحدودة من الوقت والجهد الذي ينفقه المواطن على الاهتمام الثقافي فإن التناول السطحي والجانبي هو السمة الغالبة.
ويبدو أن الانسان في هذا العصر تحيط به الاهتمامات والانشدادات المختلفة من شؤون الحياة وتوفير مستلزماتها ومن الاغراءات والرغبات والتي تدعمها برامج مكثفة ومتطورة من الدعاية والاعلام. ولكن الجانب الثقافي لا يحظى بشيء مناسب من الترويج والدفع والتعبئة باتجاهه.
إننا بحاجة إلى اعتماد وسائل تربوية وبرامج توجيهية لتربية ابنائنا على الاهتمام بالثقافة والمعرفة، كما نحتاج إلى برامج لرصد الحالة الثقافية في المجتمع ومتابعة مستوياتها ومعالجة أسباب تأخرها ومضاعفة اهتمام المواطن بها.
التمايز الثقافي والمعرفي في المجتمعات أمر طبيعي، فقد وهب الله تعالى كل انسان عقلاً يفكر به ويدرك به الأمور، وجعل عقل الانسان وقلبه منطقة حرة لا سبيل لأحد أن يقتحمها بالفرض والقوة، حيث يمكنك أن تفرض على الآخرين ممارسة معينة، أو تجبرهم على القيام بعمل معين، لكنك لا تستطيع أن تجبرهم على الايمان بفكرة لا يقتنعون بها وإن تظاهروا لك بذلك.
كما ان مستويات أفهام الناس تتفاوت، والظروف التربوية والاجتماعية التي يعيشونها تختلف ولذلك اثر على ثقافاتهم ومعارفهم.
لذلك يقرر القرآن الحكيم تفاوت مستوى المعرفة بين الناس يقول تعالى {نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم}. سورة يوسف ـ آية 76.
بل حتى على مستوى الأنبياء (عليهم السلام) فإن القرآن يشير إلى اختلاف في تناول قضية والحكم فيها بين نبيين هما نبي الله داود ونبيه سليمان (عليهما السلام): {وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين. ففهمناها سليمان وكلاً آتينا حكماً وعلماً} سورة الأنبياء ـ آية 78ـ79.
وبين نبي الله موسى عليه السلام والخضر عليه السلام ورد حديث مفصل في سورة الكهف حيث لم يتقبل ولم يستوعب نبي الله موسى عليه السلام مواقف الخضر وتصرفاته في البداية لعدم إطلاعه على ملابساتها وعذره الخضر على ذلك {وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا} سورة الكهف ـ آية 68.
فلا يمكننا إذاً أن نطلب تطابق الآراء واتفاقها في مختلف القضايا ومن هذا المنطلق تتعدد آراء الفقهاء والمجتهدين في المسألة الواحدة والحكم الشرعي الواحد على أساس إن المجتهد إذا أصاب فله أجران وإذا أخطأ فله أجر واحد على ما بذله من جهد في اجتهاده.
نعم في المجتمع المسلم هناك ضابطة الالتزام بالكتاب والسنّة مع إفساح المجال لتنوع واختلاف الأفهام في نصوص الكتاب والسنّة وللشيخ العلامة ابن تيمية كتاب جميل حول تعدد آراء الأئمة ومدارسهم في فهم مسائل الدين هو كتاب (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) طبعته الجامعة الاسلامية بالمدينة المنورة عام 1396هـ.
والمملكة جزء من العالم الاسلامي بل هي قلب العالم الاسلامي وهي بلد واسع الأرجاء جغرافياً وتتكون من مناطق متعددة ومن الطبيعي أن تتعدد فيها المدارس الفكرية والفقهية وان يكون لكل منطقة نوع من التمايز في ثقافتها وأدبها. لكن ذلك كله في اطار الاسلام وبالالتزام بالكتاب والسنّة.
والتمايز في مناهج الفهم ومدارس التفسير وفي التراث الثقافي والأدبي مادام في إطار الاسلام فهو عنصر إثراء وإنضاج إذا ما تم على قاعدة الاحترام المتبادل وضمن آداب الاسلام وأخلاقه واتجه نحو خدمة المصلحة العامة والحفاظ على وحدة المجتمع.
وأضيف هنا ان المملكة بدورها الريادي والقيادي في الأمة الاسلامية لابد وان تستوعب مختلف التيارات والتوجهات والمذاهب والمدارس الاسلامية، بل وان تلعب دور حفظ التآلف والتضامن وتشكل جسر الارتباط والتواصل بين الجميع بما يخدم مصلحة الاسلام والمسلمين.
وتبني المملكة للمؤسسات الاسلامية العالمية كرابطة العالم الاسلامي ومجتمع الفقه الاسلامي ما يعزز لديها توجه الانفتاح على الجميع والتعامل مع مختلف التوجهات.
ومهرجان الجنادرية أصبح مثلاً بارزاً لتلاقي مختلف الاتجاهات والتيارات تدعيماً لوحدة الموقف العربي والاسلامي.
التوجيه الديني المنطلق من خطب الجمعة وبرامج الدروس الدينية والإفتاء في المسائل الشرعية لها دور أساس في تشكيل وعي الانسان المسلم بدينه وتحديد موقفه الشرعي من الأحداث والقضايا.
وشعبنا ملتزم بالدين ويصغي لآراء وفتاوى العلماء الموثوقين المعتمدين، وخطب الجمعة تصل إلى الجميع بالحضور والاستماع المباشر عبر المشاركة في صلاة الجمعة أو باستماعها عبر وسائل البث الاذاعي والتلفزيوني والذي تحتل فيه البرامج الدينية مساحة واسعة.
لكن من الطبيعي أن لا تكون كل الخطب والبرامج الدينية في مستوى واحد فهناك ما تتوفر فيه مواصفات التوجيه الجيد والمتقدم وهنا ما يلحظ فيه بعض نقاط الضعف.
فمع تطور أوضاع الحياة وتقدم مستوى العلم وانفتاح الناس على البرامج المعرفية والثقافية المختلفة عبر القنوات الفضائية ومحطات البث المباشر لابد وأن تتطور الخطب والبرامج الدينية فلا تكون مقتصرة على الوعظ الإنشائي والأوامر والزواجر المباشرة بل ينبغي أن تحتوي على تقديم الأفكار والمفاهيم التربوية والمعرفية المعمقة وان تواكب قضايا العصر وأحداث الحياة وتكون مطعمة بالأرقام والاحصائيات ونتائج البحوث الميدانية فيما تتناول من قضايا المجتمع.
وحيث ابتليت الساحة الاسلامية ببعض التوجهات المتطرفة التي تسيء لسمعة الاسلام بممارساتها وأعمالها المنافية فلابد وأن تهتم خطب الجمعة والبرامج الدينية ببث الروح السمحاء والتركيز على منهج الوسطية والاعتدال ونبذ التطرف والتعصب وتعليم الناس على القبول ببعضهم البعض والانفتاح على بعضهم والاحترام المتبادل وان اختلفت مذاهبهم أو مدارسهم أو أفكارهم.
نعم المطلوب هو الجدال بالتالي هي أحسن والحوار القائم على طلب الحقيقة وتقديم البراهين {قل هاتوا برهانكم} {قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا}.
أما تكفير الآخرين والمسارعة في اتهام نواياهم والتشكيك في دينهم فليس ذلك من الاسلام في شيء.

حسين المناصرة
إن المشهد الثقافي بالمملكة جزء مهم من المشهد الثقافي العربي بكافة إشكالياته الرؤيوية، وسياقاته الجمالية، وملامحه الثقافية، وخطاباته المتعددة في مستويات عديدة، منها: مجلات مختلفة / ملاحق الصحف الثقافية / القصيدة / الشعر الشعبي / القصة القصيرة / الرواية / النقد الأكاديمي / الدراما / فنون تشكيلية مختلفة... إلى آخر ذلك من حقول إبداعية تميز الحركية الثقافية الجديدة وعلاقتها بماضيها التراثي في وجوهه المختلفة!!
ثمة حركية ثقافية نشطة محلياً‏ومتواصلة ـ من خلال المجلات المختلفة الصادرة محلياً، أو من خلال الكتب التي تنشر بالخارج تحديداً، والمهرجانات والندوات ـ مع الإطار الثقافي العربي، الأمر الذي يفضي إلى القول بأن الحركة الثقافية المحلية لا تختلف كثيراً عما ينجز في العالم العربي عموماً، مع الإقرار بأهمية أثر صياغات العادات والتقاليد في إعطاء كل أدب محلي نكهته الخاصة.. ويبدو أن الخطاب الثقافي المحلي الإبداعي حريص قدر الإمكان على أن يكون ملتزماً أخلاقياً، لا وجه فيه للعبثية أو البوهيمية، كما يمكن ملاحظة ذلك في العديد من المبدعين المتمردين في الغرب والشرق..
ومن الضروري بداية الإشارة إلى أن مجموعة المجلات المهمة التي تصدرها الأندية والجمعيات الثقافية والمؤسسات الخاصة تحفل بخطابات ابداعية مختلفة محلية وعربية، حيث نجد على سبيل المثال: علامات، وقوافل، والتوباد، والعقيق، وبيادر، ودارين، وأذرع الواحات المشمسة، والأدبية والنص الجديد متخصصة بالخطاب الأدبي.. يضاف إليها مجلات أخرى تصدر عن مؤسسات مختلفة، مثل الفيصل والمجلة العربية والحرس الوطني.. تهتم بالأدب بجانب اهتمامات أخرى عامة.
أما في مجال ملاحق الجرائد فبكل تأكيد هناك تميز ثقافي خاص تنجزه جريدة الجزيرة من خلال ملحقين ثقافيين يصدران أسبوعياً، كما توجد ملاحق أخرى لجرائد الرياض والمدينة واليوم.. ولعل ما ينجز في الصحافة الأدبية من مشهد ثقافي مازال هو الأكثر حيوية في التعبير عن تموجات الشارع الثقافي بكافة تقاطعاته وتوازياته، إذ ان الصحافة تحرص على إثارة كل جديد محلياً وعربياً‏وعالمياً، وبالتالي لا يمكن التقليل من القيمة الكمية والنوعية عندما تقدم جريدة الجزيرة على سبيل المثال أكثر من عشر صفحات ثقافية أسبوعياً، ويمكن أن ينسحب هذا المثال على صحف أخرى مهمة...
ولعل من يتابع تطور حركية الإبداع المحلية سيجد تميزاً في مجالي القصيدة، والقصة القصيرة. فقد مارس الشعراء الكتابة بمختلف أنماط القصيدة المختلفة: الكلاسية، والتفعيلة، والنثرية، والشعبية.. ويبدو أننا مؤخراً بدأنا نشهد تدفقاً شعرياً في سياقي الكتابة الشعبية، والنثرية، مما يعني انقلاباً ثقافياً تحول فيه ما كان هامشياً إلى رئيسي. في حين تميزت كتابة القصة القصيرة في تدفقاتها الشعرية مقابل محدودية السردية في مجال الرواية.. فهناك تاريخ طويل ومهم للقصة القصيرة المحلية نقش فيه مبدعون كثيرون نصوصهم ممثلة كافة أنماط السرديات القصيرة.. في حين بدأت مؤخراً وفي التسعينيات بالتحديد تظهر الروايات الجديدة لمجموعة من الروائيين الجدد، أو من الروائيين الذين لهم سياقهم في السبعينيات والثمانينيات...
وفي مجال النقد مازالت هناك هيمنة خاصة للنقد الأكاديمي الذي يظهر من خلال مجموعة كتب تصدر بين الفينة والأخرى أو من خلال صفحات المجلات والجرائد، دون أن نغفل الجانب الأكاديمي أيضاً في مجال إثراء الندوات والورش الأدبية التي تقام في الأندية والمراكز المختلفة...
ومن الصعب حقيقة الحديث عن أدبين ذكوري ونسوي في المشهد الثقافي المحلي، وإن كان من الضروري الإشارة إلى أن الكتابات النسوية تمظهرت بشكل خاص في سياق القصة القصيرة تحديداً، على اعتبار أن هذا اللون من الكتابة مازال يمثل كما كان عبر تاريخه الطويل الأقرب إلى روح المرأة إلا أن القاصين أيضاً تميزوا في كتابة القصة القصيرة بوصفها الأكثر قرباً من روح الحضارة الحديثة المتدفقة بالسرعة والانكسار..
أسماء مختلفة مبدعة تتمظهر في المشهد الثقافي المحلي في الثلاثين سنة الأخيرة.. وبالتالي من الصعب تعداد ذلك الحشد الكبير، إلا أنه يمكن الإشارة إلى ما ينجزه الغذامي في مجال النقد الأكثر تجدداً، وما ينجزه القصيبي من خلال التحول من الشعري إلى السردي، وما ينجزه شعراء القصيدة النثرية، وما ينجزه كتاب الخطاب الجديد في جريدة الجزيرة، وما تنجزه ورشة الاثنينية بالنادي الأدبي بالرياض من حرص على انفتاح ثقافي معرفي...
ومن الجدير ذكره أن هناك حركة مسرحية شبابية تجريبية مهمة يمكن التعرف عليها من خلال مسرحيات شباب الشرقية، ومسرحيات طلاب جامعة الملك سعود بالرياض. كما يوجد حركة تشكيلية مهمة لفنانين تشكيليين، أصبحوا يمارسون أيضاً التشكيل من خلال الصحافة الأدبية.
لكن فيما يخص العلاقة والنصوص الجديدة، فأنا أعتقد أن هناك أزمة حقيقية سببها الأول أن ثقافة القراءة انقلبت إلى ثقافة المشاهدة التي تتمظهر من خلال القنوات الفضائية، علماً بأن هناك أخطاء يمارسها المبدعون أنفسهم عندما يدخلون إبداعاتهم في سياقات مغلقة تبتر العلاقة حتى بين المثقفين أنفسهم.
وقبل النهاية لابد من التأكيد على أن المشهد الثقافي المحلي يتصف بغزارة في الإنتاج الإبداعي والنقدي، ولعل هذا الأمر يعود بالدرجة الأولى إلى ما يتوفر من إمكانيات تتيح سهولة النشر والتواصل، لنجد ما يزيد على خمسين مطبوعة ما بين كتاب ومجلة وجريدة تصدر شهرياً...
ونهاية لابد من الإشارة إلى الفعل الثقافي المتميز الذي ينجز من خلال مهرجان الجنادرية كل عام، حيث يتاح لمجموعة كبيرة من المثقفين إلى الالتقاء من خلال فعاليات المهرجان نفسه أو من خلال ما فيه من هوامش وملتقيات خاصة..

الدكتور زيد بن عبد المحسن الحسين
تكتسب المملكة العربية السعودية مكانة كبيرة لدى المسلمين في كل أنحاء العالم، انطلاقاً من كونها تتشرف بخدمة الحرمين الشريفين، موئل أفئدة المسلمين، ولهما في قلب كل مسلم موقع سامق، وهذا ما يجعل للمملكة خصوصية في توجهها الثقافي، الذي يصطبغ بالصبغة الاسلامية الخالصة، مع بعد إنساني واضح تستمده من انسانية رسالة الاسلام، التي تخاطب جميع البشر من غير أدنى تمييز.
وتتعدد المؤسسات التي تقوم بمسؤوليات الثقافة في أي مجتمع، وتتنوع نشاطاتها، وتختلف وسائلها وأساليبها، إلا أنها جميعاً تتكامل لتحقيق غايات النهوض الثقافي في المجتمع، وإنعاش الحركة الثقافية. وفي مجتمع له رسالة كبرى مثل المملكة العربية السعودية يبدو المجتمع كله مؤسسة ثقافية شاملة، لأن في كل ركن فيه نشاطاً ثقافياً فاعلاً يرمي إلى صياغة الانسان الذي هو محور كل الخطط التنموية الثقافية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية، وفي الوقت نفسه فهو المنوط به مسؤولية بناء المجتمع ودفع عملية التنمية به، والأساس لكل تطور حضاري، حيث استوعبت سياسة التعليم في المملكة العربية السعودية هذا المعنى، ونصت على أن «غاية التعليم فهم الاسلام فهماً صحيحاً متكاملاً، وغرس العقيدة الاسلامية ونشرها وتزويد الطالب بالقيم والتعاليم الاسلامية وبالمثل العليا، وإكسابه المعارف والمهارات المختلفة وتنمية الاتجاهات السلوكية البناءة، وتطوير المجتمع اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، وتهيئة الفرد ليكون عضواً نافعاً في مجتمعه»، ويأتي هذا المفهوم الذي تعبر عنه سياسة التعليم من منطلق تعاليم الاسلام التي ترسخ قيم التعلم والتفكر في المجتمع، والتي تتضح جلياً في التوجيه القرآني الذي يحث على التبصر والتفكر والتدبر وإعمال العقل، حتى يكون الانسان جديراً بحمل مسؤوليته على هذه الأرض، وترجمت المملكة العربية السعودية هذه المعاني إلى سياسات عملية تنفذ على أرض الواقع، فانتشر التعليم في كل بقعة من بقاعها، وشمل القرى والحضر، متجاوزاً صعوبة التضاريس ووعورتها في بلد يماثل قارة في مساحته، وأصبح التعليم بجميع مراحله متاحاً لكل فرد على امتداد المملكة، وغدت جامعاتها مراكز تعليم وتثقيف.
ويعدّ الاعلام بكل صوره وأشكاله وسيلة فاعلة في تجديد بنى الثقافة في أي مجتمع، بما لديه من إمكانات التأثير في وجدان المتلقين لرسالته وتوجيه سلوكهم، وبوصفه عاملاً من عوامل تحقيق الاندماج الاجتماعي بين طبقات المجتمع وفئاته، إلى جانب كونه وسيلة التواصل بين الأجيال. وكما تنبثق جميع سياسات المملكة العربية السعودية من الاسلام الذي تدين به الأمة منهجاً وتطبيقاً، فإن سياستها الاعلامية ترتكز على مجموعة من مبادىء وقيم، إذ «يعتمد الاعلام السعودي على الموضوعية في عرض الحقائق والبعد عن المبالغات والمهاترات، ويقدر بعمق شرف الكلمة ووجوب صيانتها من العبث، ويرتفع عن كل ما من شأنه أن يثير الضغائن ويوقظ الفتن والأحقاد»، وهو يقوم بدور مهم في دعم النهضة العلمية والثقافية بالمملكة بالتزام قيم الاسلام وتعاليمه.
ولا يمكن للناظر إلى المشهد الثقافي في المملكة العربية السعودية أن يلم بجوانبه المختلفة، لأنه مشهد تتسع أبعاده باتساع جغرافية المملكة، وتتنوع عطاءاته بتنوع الرصيد الثقافي لمناطقها، التي يتفرد كل منها بعطاء ثقافي متميز، بحيث يكون هذا التميز والتمايز إغناءً لثقافة المملكة، وتأكيداً لتفردها بالموازنة بينها وبين غيرها من الدول.
وقد استطاع المهرجان الوطني للتراث والثقافة أن يعكس هذا التنوع الثقافي وأن يبرز للعالم الطابع المميز لثقافة المملكة التي تتمازج فيها العطاءات الثقافية لمناطقها مكونة نموذجاً فريداً من التآلف الثقافي، الذي يعبر عن وحدة المنبع الذي تستقي منه المملكة ثقافتها.
واستطاع هذا المهرجان ـ كذلك ـ أن يبرز البعد الانساني لثقافة المملكة في بناء الانسان بناءاً متوازناً، بحيث تشارك فيه جميع مؤسسات الدولة، إلى حد أن غدت المؤسسات العسكرية، بجانب المؤسسات الأخرى ذات العلاقة صروحاً تعليمية وثقافية تعنى بالجانب الفكري في إعداد العنصر البشري، بما تنظمه من مهرجانات وندوات ومحاضرات، وما تصدره من كتب ونشرات ومجلات متخصصة وعامة، لتتضافر جميع هذه النشاطات في تحديث القوة البشرية، وتهيئتها دينياً وعلمياً وفكرياً وصحياً لتتفاعل مع معطيات العصر ومستجداته، ولا غرو، والحال كذلك أن تفوز المملكة العربية السعودية بجائزة اليونسكو لمحو الأمية لعام 1996م، التي جاءت تقديراً لجهود وزارة الدفاع والطيران في هذا المجال، فللهيئات التابعة للوزارة والكليات العسكرية إصدارات متخصصة وبحوث ودراسات ومجلات تتوجه إلى القارىء العادي، لتعمق معارفه بالمجال العسكري المتجدد دائماً، ورفع مستواه الثقافي العام، وهذه الجهود تتضافر وتتكامل مع ما تضطلع بها الوزارات الأخرى من دور في بناء الانسان، بوصفه منطلق التنمية وهدفها الأساس، بل ووسيلتها أيضاً.
وتسهم المجلات التي تصدرها الوزارات والمؤسسات العلمية والتعليمية بدور ملموس في تركيز الاهتمام الثقافي، وتوسيع آفاقه وتحديث أطره، ومن تلك الإصدارات مجلة الحج الصادرة عن وزارة الحج، ومجلة المعرفة التي تصدرها وزارة المعارف، ومجلة البلديات التي تصدر عن وزارة الشؤون البلدية والقروية، ومجلة «الجيل» التي تصدر عن الرئاسة العامة لرعاية الشباب، والمجلات والدوريات المحكمة التي تصدرها الجامعات والمعاهد العليا.
ومن مظاهر الاهتمام بالحركة الثقافية ما يقدمه المسؤولون من رعاية ودعم معنوي ومادي، حيث صدرت في العام الماضي الموسوعة العربية العالمية بتمويل من صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء ووزير الدفاع والطيران والمفتش العام، وشارك في إعدادها أكثر من 1000 أستاذ جامعي من تخصصات علمية مختلفة، وينتمون إلى عدد كبير من الدول العربية والاسلامية، وهذا العمل عكس ما توليه المملكة العربية السعودية من اهتمام واضح بخدمة الثقافة العربية والاسلامية، وما تتيحه لأبناء الأمة من مجالات للإبداع الفكري والحضاري.
والراصد لمكونات المشهد الثقافي يجد أن من أهم معالمه في المملكة تلك المؤسسات التي غدت مراكز إشعاع ثقافي وتنوير فكري، والتي تفتح أبوابها لعامة الناس، وتوظف فيها التقنية الحديثة في تقديم خدماتها،‎الأمر الذي جعل البلاد على صلة وثيقة بأهم المراكز الثقافية في أنحاء مختلفة من العالم، ومواكبة للمستجدات في حقول المعرفة. فالمكتبات العامة في المدن، والمكتبات مثل مكتبة مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الاسلامية، ومكتبة الملك عبد العزيز العامة، ومكتبة الملك فهد الوطنية، ومكتبة معهد الإدارة العامة، وغيرها من مكتبات الجامعات والوزارات، كلها تتيح فرصاً‏ومجالات رحبة للاطلاع والمتابعة وإغناء الزاد الثقافي للفرد والمجتمع. وانتشرت في المملكة مؤسسات ودوائر علمية وفكرية ترسخ نشاطاتها لخدمة الوعي المعرفي وتوفير متطلباته، فمدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية ـ مثلاً ـ تقوم بأنشطة علمية وثقافية متعددة من خلال أجهزتها ومطبوعاتها التي تسعى‎إلى توفير مستويات من المعرفة المتخصصة، وهناك مركز الملك فهد الثقافي في أبها الذي يوفر بيئة مواتية لمختلف ألوان الإبداع الفني. ويصعب حصر المؤسسات العاملة في مجالات العلوم والفنون والآداب على امتداد المملكة العربية السعودية، نظراً لكثرتها وتعدد نشاطاتها، مما يقتضي دراسة وافية ومسحاً شاملاً بما يتناسب والأدوار والمسؤوليات التي تقوم بها في نشر الثقافة والمعرفة.
وتنتشر في المملكة مؤسسات خيرية لها أنشطتها الثقافية والفكرية التي تتخذ أبعاداً إنسانية، فنجد أن جائزة مثل جائزة الملك فيصل التي تمنحها مؤسسة الملك فيصل الخيرية أصبح لها ثقل دولي، وغدت موضع اهتمام العلماء والمفكرين في جيمع دول العالم، لما تتسم به من صدق التوجه وسلامة الهدف. وتقوم المؤسسة داخل المجتمع السعودي بأنشطة ثقافية وفكرية متعددة من خلال أجهزتها المختلفة، ومنها: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الاسلامية التي يختص بالعمل في مجال البحوث والدراسات والحضارة والتراث الاسلامي، والاهتمام بنشر ذلك كله، من خلال ما يعده من إصدارات وكتب ومحاضرات وندوات ومؤتمرات.
وتوجد مؤسسات عديدة في مناطق المملكة المختلفة لها نشاطها الثقافي الواسع، مثل مؤسسة عبد الرحمن السديري الخيرية في الجوف، وجمعيات أخرى مماثلة تستعصي على الحصر لكثرتها، وامتدادها بمساحة المملكة كلها.
ويصدر في المملكة عدد من المجلات الثقافية العامة التي لها تأثيرها الكبير في رفد الثقافة العربية والاسلامية بالجديد من الأفكار والعلوم التي تغني وجدان الانسان في عالمنا الجديد، فهناك أكثر من عشر مجلات عامة، مثل: مجلات الفيصل والمنهل والمجلة العربية، إلى جانب المجلات المتخصصة، مثل الدارة والقافلة والحرس الوطني والدفاع والصقور والجوية والخفجي والعلوم التقنية وغيرها، التي تعنى بالشأن الثقافي العام إلى جانب اهتمامها بمجالات تخصصها، فضلاً عن المجلات الأسبوعية والصحف اليومية. وتلاقي الإصدارات السعودية من الصحف والمجلات إقبالاً واضحاً من الجمهور العام والمتخصص في جميع الدول العربية، وإذا كان لي أن استعمل مجلة «الفيصل» كمؤشر على الطرح الثقافي خارج حدود المملكة، فإنني لا أذيع سراً إذا قلت إننا نجد صعوبة كبيرة في ملاحقة رغبات الموزعين الذين يطالبون بزيادة مخصصات الدول التي يتولون التوزيع فيها، ومع أننا نحاول تلبية هذه الرغبات من الموزعين والقراء قدر الإمكان، إلا أن أرقام التوزيع في تزايد مستمر، مما يعكس مكانة المجلة في الأوساط الثقافية العربية، لاهتمامها بالقضايا الفكرية والثقافية والحياتية، شأنها في ذلك شأن بقية رصيفاتها السعودية، وهي روافد ثقافية لها إسهامها الكبير في تشكيل المشهد الثقافي العربي، لاستقطابها كثيراً من الكتاب في عالمنا العربي الذين يشاركون فيها بمقالاتهم ودراساتهم.
وينتشر في مناطق المملكة‎اربعة عشر نادياً أدبياً يقوم بالعديد من الأنشطة الثقافية كتنظيم المحاضرات والندوات الفكرية والثقافية وإجراء المسابقات الأدبية على مستوى المحترفين من الأدباء أو الناشئين منهم، وتصدر الكتب في المجالات المختلفة، وتشارك في المهرجانات والمناسبات الأدبية في الداخل والخارج، وتقيم معارض الكتب، وتضم مكتبات عامة فيها مختلف كتب العلوم والفنون والآداب، وقد أقيم مؤخراً المؤتمر الثالث عشر للأندية الأدبية في مدينة تبوك الذي اهتم بمناقشة مجموعة من القضايا الثقافية التي لها أثرها في المشهد الثقافي في المملكة العربية السعودية وفي عالمنا العربي، فكان المحور الأول الذي عني به المؤتمر توزيع مطبوعات الأندية الأدبية، وهذا موضوع له أبعاد كثيرة، إذ تتوقف عليه فعالية إصدارات هذه الأندية، بضمان وصولها إلى الجمهور المستهدف، تحقيقاً لدورها في الارتقاء بالمستوى الفكري والثقافي العام، كما أن المحور الخاص بالتعاون بين الأندية الأدبية ووسائل الاعلام يؤكد ما بين المؤسسات الثقافية من علاقة تكامل لبلوغ مقاصدها وغاياتها. وإذا كانت الرئاسة العامة لرعاية الشباب تعنى بأمر هذه الأندية، فإنها ترعى كذلك الجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون التي تقوم بنشاطات مختلفة لخدمة الثقافة في المملكة، كإقامة المعارض التشكيلية ومعارض الكتب وتنظيم المسابقات الثقافية المختلفة، والاهتمام بالارتقاء بالذوق الفني والأدبي في المجتمع، وتمثيل المملكة في المحافل المختلفة.
ومن يزر أي مكتبة لبيع الكتب سيجد أعداداً هائلة من المؤلفات السعودية في مجالات العلوم والفنون والآداب المختلفة، وإذا كان من الصعب وصف جميعها بالتميز، أو إصدار حكم موحّد عليها، إلا أن لها زخماً علمياً وفكرياً وثقافياً واسعاً، وتسهم بكل تأكيد في رفع مستوى الوعي الفكري والثقافي لدى المتلقين.
وتنتظم في مدن المملكة وقرارها مجالس علم وأدب وفكر، تعقد في بيوت الأمراء والعلماء والأدباء والمفكرين، ويؤمها جمع كبير من المثقفين والمهتمين، يتداولون فيها الرأي عن القضايا التي تعتمل في الساحة الفكرية والثقافية على المستوى العربي والاسلامي والدولي، حتى يمكن وصف المملكة على امتدادها بأنها مؤسسة ثقافية وفكرية جامعة، مهمومة بقضايا الانسان أينما كان، اتساقاً مع مكانة المملكة ومسؤولياتها الدينية والتاريخية، والمبادىء التي تؤمن بها، وتعمل من أجلها.
ومجمل ما يمكن استنتاجه من هذا الاستعراض السريع للروافد والمنابع التي تشكل المشهد الثقافي في المملكة العربية السعودية، ان النتاج الثقافي السعودي يعد جزءاً أصيلاً من الثقافة العربية الاسلامية، وعاملاً مؤثراً في تطور هذه الثقافة وتجدد بناها، وان المؤسسات الثقافية في المملكة بما تقوم به من أدوار مختلفة ومتكاملة تمثل منابع رئيسة للفكر العربي والاسلامي، وقنوات للحوار بين الأجيال، وجسوراً تربط المثقف العربي بالفكر الانساني، ووسائل للتواصل مع الآخرين من موقف الندِّية المستند‎إلى ثوابت الأمة وأصولها، وهي تعمق نتاجات الواقع الثقافي في المملكة برؤى وأفكار جديدة، بما يجعل هذا الواقع دائماً معبراً بصدق عن المكانة الكبيرة التي تتبوؤها المملكة العربية السعودية على المستوى العربي والاسلامي والانساني، وموضحاً رسوخ توجهها الثقافي والسياسي الذي ينطلق من أنظمتها وسياساتها المنبثقة من قيم الاسلام وتعاليمه.

شفيق العبادي
1ـ نتيجة لهذا الانصهار الحادث على مختلف الأصعدة والذي أدى إلى تلاشي نظرية المركز والأطراف فيما يخص الجانب الأدبي لتحل محلها مرحلة جديدة تحكمها قوانين وثوابت أدبية. أصبحت الساحة الشعرية مفتوحة أمام مختلف الإبداعات الحقيقية وبغض النظر عن أي اعتبارات أخرى.
ولأن الساحة الشعرية في عموم المملكة تستند إلى رصيد أدبي ضخم. فقد استطاعت أن يكون لها حضوراً قوياً وفاعلاً ليس فقط على المستوى الخليجي، بل حتى على المستوى العربي أيضاً، إذ يندر أن نرى تظاهرة أدبية في مختلف الحواضر العربية لا تعززها أسماء من رموز الأدب السعودي، ولا يخص هذا الكلام منطقة دون أخرى بما فيها الشرقية.
أما بالنسبة للتيارات السائدة في المنطقة، وكيف ينظر إلى صراعاتها القائمة. فيمكن استقراؤها من خلال هذا النسيج المتنافر، والذي أرى أنه يمتلك مقومات التجانس والتعايش السلمي شريطة مصداقية العملية الابداعية دون التعويض عنها بالدخول فيما يشبه التكتلات (الشكلية) والتورط بما يحدث في كواليسها من عمليات تهميش وتصفية تستند إلى جذور نفسية بحتة.
وطبيعي أن تشذّ عن هذه الزوبعة بعض الأسماء التي استطاعت تأكيد حضورها الكبير بواسطة المراهنة على خصوصيتها الذاتية والمكانية وفقط، ولا داعي لذكر الأسماء.
2ـ ظاهرة تنامي الجلسات الأدبية إزاء الأندية الأدبية بنظري لها عدة اسباب، بعضها عادي، وبعضها جوهري وهذه الأسباب هي:
1: لأسبقية الجلسات الخاصة على المتنديات الأدبية مما أدى لارتباط وجداني لا يمكن الانفكاك عنه.
2: للانسجام الذي تتيحه هذه الجلسات، من حيث الميول الثقافية والتي لا تستطيع توفيره المنتديات الأدبية لتحركها في إطار مناخ ثقافي شمولي وذلك لاحتواء كافة التوجهات الثقافية مما يؤدي إلى افتقاد الخصوصية التي يتوخاها الأديب.
3ـ انطلاقاً من مفهومي الخاص للأصالة، لكن قبل الاجابة يجدر بنا أن نعيش في أجواء التغيرات التي طرأت على الساحة الشعرية العربية بعيد دخولها بوابة الحداثة على أيدي روادها. وما شهدته من صدامات وحروب ثقافية كبيرة اتخذت خطاً بيانياً متأرجحاً استناداً لظروف المرحلة الزمنية. والتي أفضت في نهاية أمرها نظراً لاشتغالها بقضايا جزئية إلى شيوع هذه الفوضى والتي حدت بكل الروّاد تقريباً لإعادة حساباتهم منطلقين على ما أدى من وجهة نظرٍ قاصرة عن حقيقة صراع الأفكار مفسحين المجال بالتالي أمام البعض لاستثمار تلك المواقف لتكوين رأي مناهض لكل ما هو جديد. نظراً للخلط الحادث بين الأخير وبين الفوضى التي أشرنا لها آنفاً والتي لا تمثل الشعر بقدر ما تمثل أصحابها والتي لم تخل مرحلة زمنية من أمثالها حتى يقول التاريخ كلمته.
إذاً على ضوء ذلك يمكنني أن أقول وبكل ثقة أنه ليس هناك أي مشكلة يعانيها أدبنا الأصيل (شعرنا) فقد كان ولايزال وسيظل الشجرة «التي تؤتي أكلها كل حين» مادام هناك مبدعون حقيقيون، لم يولدوا من غير رحم الأمة العربية، بدون استثناء لأي من أعضائها المباركة.
4ـ بعيداً عن لعبة الأحكام التي يحدقها أغلبنا، تحدو بي الرغبة على استثمار هذا السؤال بالتأكيد على ضرورة استيعاب الثوابت والمتغيرات التي تتشكل من خلالها معالم الخريطة الشعرية، وذلك من خلال القراءة الواعية للغة الشعرية والمؤسسة على آليات مرنة تستمد مفرداتها من سياق الواقع الذي تعيش فيه، وبالتعامل معها ككائن اجتماعي ينفعل ويتفاعل مع محيطه بشكل مستمر.
ذلك لأن الشعراء الشباب هم المشروع الشعري الذي سيشكل معالم هذه الخريطة الشعرية في المستقبل القريب سواءً على الصعيد القطري أو الصعيد القومي.

عبد المنعم عواد يوسف
1ـ الحقيقة أنني فوجئت بارتفاع مستوى الوضع الثقافي بالمملكة، فلم أكن أتصور وجود هذا الكم الكبير من الأندية الثقافية ذات الفعاليات الحية من ندوات ومحاضرات ومسابقات أدبية وأنشطة متعددة هذا إلى جانب ما تقوم به الصحافة الأدبية من خلال الملاحق الأسبوعية والصفحات اليومية والمجلات الشهرية والفصلية من تنشيط للواقع الثقافي ومتابعة جادة للفعاليات الثقافية العديدة.
وقد افرز هذا الوضع الثقافي المتقدم مجموعة من المبدعين والنقاد من أبناء المملكة لا يقلون بحال من الأحوال عن نظرائهم في البلدان العربية المختلفة.
وإذا كان المسؤولون لم يألوا جهداً في توفير المناخ الثقافي المتمثل في الجمعيات والأندية الثقافية، وإتاحة كل الإمكانات المطلوبة، فإن المبدعين وأصحاب القلم من‎أبناء المملكة بدورهم أفادوا من كل ذلك، وكان من ثمار هذا المناخ الثقافي هذه النهضة الأدبية والثقافية التي تشهدها البلاد.
2ـ في اعتقادي أن التواصل الثقافي قائم بالفعل بين المثقفين ورجالات الفكر والأدب مع الجو الثقافي والأنشطة في الدول العربية المختلفة، ويتجلى ذلك في مشاركة العديد من أبناء المملكة من المبدعين ورجال الفكر والنقد في المؤتمرات الأدبية التي تعقد في البلدان العربية وخاصة جمهورية مصر العربية التي تحرص في أنشطتها الثقافية العربية أن يكون لأبناء المملكة حضورهم الفعّال في هذه الأنشطة. كما أن من أهم مظاهر التواصل الثقافي بين مبدعي المملكة ونقادها واخوانهم البلدان العربية ما نلمسه من دور بارز من خلال الصحافة الأدبية للكتاب والأدباء من الدول الشقيقة الذين يتناولون كتابات مبدعي المملكة بالنقد البناء والتقويم السليم، مما يؤكد هذا التواصل الحميم بين أدباء المملكة ونقادها وبين نظرائهم في البلدان العربية المختلفة.
ولعل ما نشاهده كل عام في مهرجان الجنادرية الثقافي من مشاركة أعداد غفيرة من مثقفي الوطن العربي إلى جانب أبناء المملكة ما يؤكد هذا التواصل الجاد والفعال من خلال الندوات والمحاضرات والأبحاث.
3ـ ان المستوى الشعري الراهن في المملكة لا يقل بحال من الأحوال عن المستوى العام للشعر في وطننا العربي، فجميع الاتجاهات الشعرية المعاصرة في الواقع العربي نجد لها نظيراً في الوضع الشعري في المملكة.
فالاتجاه المحافظ نجد له ممثليه، وكذلك الاتجاه التجديدي المعتدل، واتجاه شعر التفعيلة نجد أن من شعراء المملكة من يتصدرونه على مستوى الوطن العربي كله، وحتى قصيدة النثر نرى من بين أبناء المملكة من اصبح لهم في مضمارها الباع الطويل، وإذا كان لابد من ذكر أسماء للاتجاهات المختلفة فحسبي أن أذكر وعذراً لمن يسقط اسمه من الذاكرة: الشعراء محمد حسن فقي، وعبد الله إدريس، وحسن عبد القرشي، وعبد الله الفزعاوي، ومحمد فهد العيسى، وغازي القصيبي، وعبد الصبيخان، ومحمد جبر الحربي، وسعد الحميدين، وثريا العريض وعشرات غيرهم.
والحقيقة أن شعراء المملكة لا يشذون في هذه الظاهرة عن شعراء الوطن العربي، فالصراع قائم هنا كما هو قائم في كل ركن من‎أركان هذا الوطن بين الشعراء الذين يمثلون الاتجاه الكلاسيكي، وهؤلاء الذين يمثلون الاتجاه الحداثي بغموضه المعروف.
وفي رأيي أن هذا الصراع سوف يستمر محتدماً حتى يثبت أحد الاتجاهين أنه الأجدر بالبقاء، والبقاء للأصلح دائماً كما يقولون، ولاشك أن الاتجاه الحداثي المعتدل الذي يعتمد العمق لا الغموض والإلغاز، والذي يظل متمسكاً بجذوره التراثية مبتعداً عن الألاعيب الشكلية هو الذي سيكون له الغلبة في النهاية.
وفي المملكة عدد كبير من النقاد الجادين والمتميزين يمثلون كل الاتجاهات سواء في الوسط الأكاديمي أو خارجه، ومنهم من أصبح له اسمه الكبير على مستوى الوطن العربي كله، والأسماء معروفة.

الدكتور محسن الشيخ آل حسان
من المعروف ان لكل عصور الحضارة البشرية وتردده الذي يعطيه سمته. لكن هذا القول لا يمكن أن يطبق بقانونيته على حضارتنا المعاصرة ذلك لأن ما نشهده الآن من تدفقات انجازية في شتى الميادين انما تختلف في تسارعها وتنوعها عن بقية عصور الحضارة التي تعايشها الانسان منذ فجره. فالتنوع الشديد في ايقاعات عصرنا الثقافية واتساع مدى تغيره.
والمملكة العربية السعودية تعيش فجر ثقافتها في الوقت الراهن ويعود الفضل لله سبحانه وتعالى وثم للمسؤولين الذين أولوا منابع الثقافة كل اهتمام وتقدير مثل تأسيس الأندية الأدبية وتشجيع المكتبات.. وإنشاء الصحف والمجلات وتسهيل طباعة الكتب ويأتي العنصر الرئيس انتشار المدارس والمؤسسات والجامعات في كل بقعة من بقاع المملكة.
وليس هناك من شك في ان ذلك المنطق قد شمل بالتأثير فنون الاعلام السعودي من مرئي ومسموع ومقروء في ابراز معالم وفعاليات الحركة الثقافية بشتى أشكالها على الساحة السعودية. من هذا المنطلق فإن الاستفادة الكاملة من الاعلام السعودي في تنمية وانطلاقة الحركة الثقافية في المملكة جاء من خلال برامج ثقافية مثل الندوات والمحاضرات والبرامج التلفزيونية الجماهيرية والمباشرة على الهواء.. كذلك توفير المشورة والتوجيه الثقافي لجميع المشاهدين.. وكما هو معروف ان الاعلام يساعد في وضع مناهج الدراسة وتطويرها.
أما بالنسبة لخطط التنمية الشاملة للمملكة فهي تتركز على تنمية البنية التحتية والارتفاع بالثقافة التي هي منبع كل تقدم في البلاد.. ومن خلال تجاربنا السابقة لما حققته خطط التنمية في الماضي من تقدم ملموس في جميع المجالات إن كانت اقتصادية أو ثقافية أو علمية أو أمنية أو غيرها فإن الانسان السعودي يعيش عهده الزاهر ويتمتع بمستوى راقي حققه من خلال مشاركته الجدية في تنفيذ خطط التنمية.
شهد عام 1996م بداية خطوات القنوات الفضائية نحو انتاج البرامج الجماهيرية.. أي ربط الجمهور بالقنوات.
وهذه النوعية من البرامج منتشرة في جميع القنوات التلفزيونية العالمية، وتعتمد على مشاركة الجمهور في هذه البرامج المختلفة.
وتحدث هذه المشاركة، إما من خلال دعوة الجمهور لحضور تسجيل البرنامج.. وطرح ما يراه من أسئلة على ضيوف البرنامج أو تخصيص رقم تليفون دولي يستطيع الجمهور من خلاله الاتصال وطرح ما يراه من أسئلة مباشرة ليسجلها الضيف والمشاهد في نفس الوقت.
وقد نجح التلفزيون السعودي في أخذ مكانته المرموقة في مثل هذه البرامج المباشرة وتفاعل معها المجتمع السعودي المحافظ.. وقد ساهم نجاح هذه البرامج في طرح ومعالجة عدة مشاكل اجتماعية وسياسية وأخلاقية.. ومن هذه البرامج برزت أيضاً البرامج الثقافية المباشرة والتي كانت تتمثل في برامج مسابقات ثقافية.. للتذكير فقط بهذه البرامج في التلفزيون السعودي مثل.. «سباق مع الساعة..‎وانطلق للهدف.. وحروف.. وسباق الجيل.. ولمن الكأس.. ولقاء على الهواء..» وكذلك «وجه لوجه» «وأحلى الليالي».. وغيرها من البرامج الجماهيرية الثقافية والفنية. وقد كان لها كبير الأثر على المشاهدين في المملكة وغيرها من دول العالم حيث وجدت لها صدى كبيراً وتفاعلاً متميزاً من المشاهدين الكرام.
وقد لجأ التلفزيون السعودي وبتوجيه خاص من معالي وزير الاعلام الدكتور فؤاد عبد السلام الفارسي إلى هذه النوعية من البرامج لخلق نوع من الترابط والالتحام بين المشاهدين وبين الشاشة الصغيرة.. فضلاً عن انها من البرامج الطيعة والتي يمكن طرح القضايا العامة من خلالها..
ونستطيع القول ومع ان التلفزيون كوسيلة جاء متأخراً عن أقرانه من الوسائل الاعلامية في المملكة.. ولذا فإنه قد أخذ من سماتهم الكثير وطرح أيضاً منها الكثير.. ولكنه على الوجه الأعم يمكن القول بأن التلفزيون السعودي ببرامجه المتميزة والمتنوعة والتي تحقق رغبة جميع المشاهدين قد كان له الأثر الواضح في إبراز عاداتنا وتقاليدنا الاسلامية وأصالتنا العربية والاسلامية.. حيث نشاهد أن جميع هذه البرامج وبدون استثناء تتقيد بأصول الحشمة والأخلاق.. والابتعاد عن البرامج السيئة عن طريق رفضها رفضاً كاملاً.

محمد الجلواح
قد أنظر لهذا الأمر بعين مستبشرة.. إلى حدّ ما، وبشيء من عدم الذهاب بعيداً في ذلك.
فيمكن القول.. أن المشهد الثقافي الآن يعيش في حالة متعافية.. متباينة.. محاولاً أن يستمر في التصاعد، وإثبات الذات.
بيد أنه لابد من الاعتراف أن هذا المشهد.. قد تجاوز ـ لحسن الحظ ـ مرحلة محاولة النهوض، ومرحلة الوقوف برأسه، ليبدأ في السير المتواصل..
هذا من الناحية الآلية.. أو (الميكانيكية)..
أما من ناحية الطرح.. فأراه.. مازال مسرفاً في الإتكاء على التراث، والعزف على وتر التاريخ، والأمجاد، وقد نجد له العذر الذي يمكن السكوت عنه ـ رغم مطالبته بتجاوز هذا الإتكاء ـ، وهو أنه لايزال هناك الكثير الكثير من المعارف التراثية القريبة، والبعيدة عهداً.. لم يعرفها الناس بشكل كاف، وبتغطية كاملة.
ومع كل ذلك.. نجد بين حين وآخر أصواتاً معاصرة.. هنا، وهنا..‎تحاول اللحاق بالركب / الحلم / الميدان..
ولكن ما يحسب لصالح الحركة الثقافية.. أنها رسمت لنفسها ـ أو رُسِم لها ـ خطاً خاصاً يشير إلى سماتها التي لا يشبهها أحد سواها..!.
مما جعل الحرف والفكر السعودي المعاصر.. موضع سؤال، واستفسار وأَيْنّية.. لدى الآخر.. خارج الحدود..
ولعل ما يكتبه البعض من دراسات، وانطباعات، وتعليقات وغيرها حول بعض المطبوعات، والكتب والدوريات العامة، والخاصة الصادرة داخل المملكة من لَدُنْ مَنْ هُمْ خارج المملكة.. سلباً أو إيجاباً: يبين ذلك بجلاء..
ولكن مع ذلك كله.. لاتزال هناك.. ثمة غربة.. ألمحها.. بحسّي.. يعيشها الجميع، ولا يفصح بها، وعنها.. إلا القليل، وهي عدم تواصل الكثير من القطاعات، والطاقات والأسماء الفكرية، والثقافية فيما بينها على المستويات كافة..، إلا ما كان على المستوى الرسمي، أو ما جاء ضمن محاولات فردية من القلّة القليلة.
وهنا.. يخطر في بالي ذلك الحلم، والأمنية، والرجاء، والمطالبة التي أكرر ذكرها، منذ ثلاث سنوات، وهي المطالبة بإنشاء وافتتاح قناة فضائية أدبية وفكرية خاصة.. تتناول الثقافات والابداعات العالمية في المجالات الفكرية وغيرها..
إن الكثير من جوانب الحلم الثقافي العام.. لايزال يراوح مكانه ـ انتظاراً للقدر والفرصة.. بين تجسيده صوتاً معروضاً للمتلقي، بواسطة كل وجوه التلقي المتاحة، وبين ما يمكن أن يسمح في ذلك، وبخاصة حين نرى أن تراثنا المحلي جداً.. مملوء بكنوز، وثقافة معرفية هائلة، وغنية تعكس مسيرة حضارة عظيمة.. قامت لها الدنيا، ولم تقعد بعد..
وعلى مستوى الوطن.. المملكة.. تُماثل ما أشرت إليه مئات الأمكنة، والمشاهد والأحداث، والبصمات.
كل ذلك يبرعم داخلنا نظرة خاصة عن الثقافة الواردة إلينا من خارج الحدود.
صحيح أننا أصبحنا ثقافياً ـ على أبعد تفاؤل ـ نشكل عجينة عربية واحدة عامة على مساحة زمنية رَبت على القرن، في الطموحات، والتوجهات الفكرية.. أو.. نكاد..
ولكن الصحيح أيضاً..‎أننا لانزال نتلقف بلهفة عجيبة، ومجنونة معظم الأطروحات والابداعات التي تبزغ من الخارج / وهذه الصورة.. حالة تعادلية موضوعية أمام ما نقدمه نحن إلى خارج الحدود ـ إن كان متواجداً بقوة ـ ليتم التساؤل عنه.. كما ذكرت آنفاً..
سأقترب من القارىء أكثر، وسأكون صريحاً.. أكثر..:
لماذا يقوم اسم سعودي لامع جداً.. كغازي القصيبي.. بطباعة رواياته المدهشة.. خارج المملكة؟ ورغم أنه وزير، وسفير، وناثر، وشاعر.. / إلا أن كتبه المنشورة خارجياً.. مطلوبة بشدة داخلياً.. وغير موجودة في السوق محلياً؟!.
ومثله د. تركي الحمد، في روايته (العدّامة)، وثالثهما.. عشرات المبدعين الشباب والكهول في مختلف فنونهم.. وكذلك محاولة بعض الزملاء تأسيس صحف ومطبوعات دورية مختلفة..
هذا أحد الهموم..
وهذه إحدى صور المشهد الثقافي في المملكة.
وهذه إحدى الجوانب.. غير اللامعة..
أما ما سواها.. فإننا ولله الحمد.. نفاخر بأقلام.. وطنية رائعة.. يذكرهم الآخرون بالخير، ويشهدون لهم بجدارة الاقتداء في جانب الالتزام الأدبي الرفيع.
ولكن يشاغبني سؤال في هذه اللحظة.. ما الذين يجعل تلك المعادلة..‎متكافئة الجانبين..؟
والجواب..: هي الصحافة..
ـ الصحافة؟، كيف؟
ـ حقيقة.. لا أرى غير هذه القناة العصرية الرائدةـ رغم تدفق القنوات الفضائية ـ التي لم تغلبها الوسائل الأخرى..
ولقد صدق الشاعر العربي الكبير: أحمد شوقي، وهو يصف الصحافة ـ في زمانه.. انها.. آية ذاك الزمان..!، وحقيقة فإنها.. آية من آيات العصر الحديث:
لكلّ زمانٍ مضى آيةٌ وآية هذا الزمان.. الصحف..
ومادام الحرف قد..‎جررنا إلى الصحافة، فامسألة فيها نسبية، ويختلف عليها الحكم.. فحيناً../ تكون الصحافة ـ أقصد السعودية تحديداً ـ جادة وملتزمة ووقورة، وجافة، وتبحث عن كل جديد.. بكل صدق، كما تبحث عن الابداع، والوضوح.. بعيداً عن الأسماء وبريقها، والشخصيات ولمعانها، ويمثل هذا النحو عدد من المطبوعات الهادفة، والجادة.. كمجلة «القافلة» التي تصدرها شركة أرامكو، والمجلة العربية، ومجلة الفيصل، والحرس الوطني وغيرها كثير..، وعن طريق هذا الاتجاه برز عدد كبير من الأسماء التي ساهمت في تشكيل ثقافة المجتمع السعودي الحديث، في مختلف وجوه الابداع.
وحيناً تكون غارقة في غياهب (الشللية) والعلاقات الثنائية، وقانون (شيلني واشيلك)، وغارقة كذلك في بحر أو سجن ـ إن شئت ـ الأسماء اللامعة.. على قلّة انتاجها، وغارقة أيضاً في المجاملات، والمحسوبيات وغيرها.. رغم تدفق بريدها بالرائع من الأقلام المختلفة.. لكنها بأسماء مغمورة، غريبة عن ذاكرة، وقاموس القائمين على مثل تلك المطبوعات.
وهذه ـ لسوء الحظ ـ كثيرة في بلادنا.. وأحسبها في بلاد غيرنا أيضاً..
ولولا التجريح، والتشهير لكانت هناك سطور أخرى في هذا الشأن جلية بالتبريج..!
ولكن مع ذلك كله.. أيضاً.. فإن للصحافة بريقها الخاص، ومتاعبها العذبة، وصولاتها التي يركض إليها، وفيها، وبها الكاتب.
وكم من مبدع عام، كانت الصحافة سبباً هاماً، وأولياً، ورئيسياً، ومباشراً لتنفّسه، ومعرفته.. والتقائه بقرائه..
وأرغب ـ وأنا أصل إلى نهاية هذه المشاركة ـ في ذكر نقطة إيجابية أخرى للصحافة السعوديةـ رغم تركيز معظم إداراتها على مناطق اصدارها ـ وهي أنها ـ أي الصحافة ـ يمكن أن ينسحب عليها ما يقال على الأدب والفكر والابداع السعودي المعاصر بوجه عام.. من تناولٍ جاد، وهادف، وملتزم بالدين والأخلاق، وعدم الإثارة، وتضخيم الأشياء..
كما أن بعضها يتمتع بجرأة ملموسة.. قد لا تجدها في غيرها.. كصحيفة الرياض، ومجلة اليمامة.. الصادرة في الرياض..

الدكتور محمد رحومة
تمر الحركة الثقافية بالمملكة العربية السعودية بعدة ظواهر منها:
1 ـ انها حركة موسمية منتظمة كما نرى في الموسم الثقافي الكبير.. الجنادرية.. وما يصاحب ذلك من نشاط ثقافي متنوع يمهد للحدث الموسمي الكبير أو يعلق عليه. 2 ـ الملاحق الثقافية الأسبوعية لكبريات الصحف اليومية التي تغطي تقريباً كافة الفنون والأنشطة الثقافية وتستكتب هذه الصحف أعلام الفكر والأدب العربي جنباً إلى جنب مع كتاب ومثقفي المملكة.
3 ـ النوادي الأدبية والجمعيات الثقافية التي تنتشر في ربوع المملكة ولا تكتفي هذه النوادي والجمعيات بالندوات والمحاضرات العامة وانما تلجأ أيضاً إلى النشر في كافة الفنون والأنواع الثقافية.
4 ـ الصالونات الأدبية الخاصة وتلك ميزة تنفرد بها المملكة العربية السعودية حيث تشهد هذه الصالونات فعاليات ثقافية مباشرة تزخر عادة بالضجيج والتفاعل الذي ينتج عن مشاحنات فكرية تلقائية وعلمية مؤثرة، تلعب دورها في نضج المبدعين السعوديين.
5 ـ للجامعات هنا دور خطير كذلك عن طريق المؤتمرات والملتقيات الثقافية والمسابقات الدورية والنشاطات المختلفة التي تبحث دائماً عن الابداع أنّى كان.
وهذه الأجواء الثقافية تصبح أحياناً غير مؤثرة كما نرى في بعض البلدان العربية الأخرى لغياب التخطيط والتنظيم فكل عنصر من العناصر السابقة يعمل منفرداً كأنه في جزيرة معزولة دون مراعاة جهود الآخرين أو التأثير أو التأثر..
كذلك ضعف حركة النشر للأعمال الابداعية (شعر ـ قصة ـ رواية ونقد) يخلق أحياناً حالة من اليأس والضياع للكتاب.
إن عدم توافر النص الأدبي بين أيدي النقاد يجعل الأدباء بمعزل عن حركة العصر ودفق الواقع.
ويغيب النقد بشدة عن ساحة الأدب السعودي فهو إما قدح أو مدح أو ملاحظات جزئية لا تفيد.
بالرغم من أن المملكة تنفرد بميزة ضخمة هو وجود علماء وكتاب من أقطار عربية وأجنبية يعملون جنباً إلى جنب مع زملائهم النقاد والكتاب والمثقفين السعوديين.
انني أسأل عن جدوى الاحتكاك بين هؤلاء لماذا يتأخر ولا ينتج حركة ثقافية واسعة كما هو الأمل.
من خلال عملي بكلية الآداب للبنات فأنا سعيد جداً بهذا السؤال وأجدها فرصة لتحقيق أمنيتي التي نقلتها إلى بعض المسؤولين عن تعليم البنات مثل الاستاذ د. عبد العزيز الغدير الذي ساند آرائي وشاركني الاهتمامي بانتاج الطالبات الأدبي والفكري ويبحث حالياً عن صيغة للاستفادة من هذه الكتابات وتثمينها..
لقد فوجئت حقاً بمواهب طالبات كلية الآداب، حيث يكتبن الشعر والقصة القصيرة والمقال الأدبي والبحث العلمي المتخصص. وأعددت ملفاً لبعض هذه الأقلام وأنوي تقديمه بدراسة أدبية لهذه الأقلام، وقد رحب المسؤولون في وكالة تعليم البنات بالفكرة وإن شاء الله سوف ترى النور قريباً.
إن الطالبة السعودية الموهوبة أدبياً تبحث عن نوافذ تتيح لموهبتها أن تطل على القراء فهل نمد أيدينا لها وتصبح لهن بعض الاصدارات الدورية التي تحمل أمل مئات الطالبات، أديبات المستقبل؟! أتمنى ذلك.

محمد سعيد البريكي
1 ـ المستوى العام للحركة الثقافية بالمملكة العربية السعودية:
يتصف المشهد الثقافي في المملكة العربية السعودية بالحركة ويتميز بتغير مستمر وفاعلية مستمرة. ويمكن أن نعزو هذه الحركية إلى عوامل مختلفة:
1ـ تغير المشهد التعليمي في المملكة حيث خطى التعليم خطوات واسعة في مجالات شتى من مجالات الثقافة، نظريِّها وعلميِّها وفنيِّها، وإن كان بدرجات متفاوتة.
2ـ توفر وسائل المعرفة والاطلاع على نتاج الأقطار العربية المختلفة وكذلك على النتاج الثقافي العالمي. وتشمل هذه الوسائل الكتب والتلفزيون والصحافة. وقد ساهم اتساع الهامش الاقتصادي للفرد على قدرته الوصول إلى مصادر الثقافة إما بالشراء أو بالسفر إلى منابعها.
3ـ حركة التبادل الثقافي ولقاء الأدباء والمثقفين العرب وغير العرب التي أخذت في التنامي في السنوات العشر الأخيرة.
4ـ طموح المثقفين السعوديين إلى أن يحصلوا على مكان لهم في الساحة الثقافية العربية مع إدراكهم بالمدى الشاسع بين مركزهم الذي بدأوا منه في تاريخ الثقافة العربية المعاصرة وبين مركز المثقفين العرب وغير العرب الذين تهيأت لهم وسائل التعليم والاعلام قبلهم بسنين طويلة نتيجة لظروف تاريخية مختلفة.
5ـ اتساع رقعة المملكة وتنوع التجارب الانسانية والطبيعية لدى سكان مناطقها المختلفة، مما جعل محتوى نتاجهم الثقافي سيما في مجال الشعر والقصة والرواية (على قلتها) غنياً بصور متنوعة نابعة من تجاربهم المختلفة ومن ثم تصوراتهم للعالم من حولهم. ولعل المتابع للفنون التشكيلية في المملكة يدرك بوضوح تنوع التجربة البيئية للفنانين سيما وأن النتاج الثقافي السعودي ظل إلى حد كبير ـ‎ادباً واقعياً ـ بمعنى أنه يدور حول أحداث ترتبط بالواقع والتجارب اليومية.
2ـ أبعاد الحركة الثقافية في المملكة:
نقصد بالبعد هنا الهدف النهائي للتأثير السلوكي والنفسي الذي يقصده المثقف من خطابه للمتلقي. ويمكن لمتابع الحركة الثقافية في المملكة في الوقت الراهن أن يميز بين أبعادها المختلفة وهي:
1ـ البعد الاجتماعي.
2ـ البعد الديني.
3ـ البعد العاطفي.
4ـ البعد السياسي.
5ـ البعد التحليلي.
6ـ البعد الاقتصادي.
7ـ البعد الفني.
إذا نظرنا إلى مستوى الثقافة في المملكة بالنسبة إلى هذه الأبعاد فإنه يمكننا القول ـ دون اللجوء إلى كثير من التفصيل ـ أن القدر الأوفى من نتاج الثقافة في المملكة يمثل الأبعاد الثلاثة الأولى (الاجتماعي والديني والعاطفي). ولا غرابة في ذلك، إذ أن هموم الانسان الأساسية تتخذ في غالبيتها‎ابعاداً اقتصادية واجتماعية وعاطفية ودينية. فالعاطفة شيء فطريٌّ، والدين بمعناه الشامل وهو محاولة الانسان معرفة خالقه وعلاقته بالقوى الطبيعية المحيطة به همٌّ انسانيّ أزليّ، والعلاقات الاجتماعية وما يحكمها من سلوكيات وما يؤثر فيها من مؤثرات همٌّ يوميٌّ للمجتمعات البشرية. ولاشك أن الاقتصاد وهو البعد الممثل لاهتمام الانسان بكسب لقمة عيشه ومن ثم ضمان بقائه من أوائل اهتمامات المجتمعات البشرية، وقد تمثل في الأدب السعودي بما ظهر فيه منذ زمن بعيد من كتابات تتعلق بالبحر والصيد ووسائل النقل كالجمال وما صوره من صورٍ جميلةٍ للكرم، وحتى للغزو ـ في عصره الجاهلي ـ إلا أن الثقافة المتعلقة بالاقتصاد كما نفهمه بمعناه الحديث من وصف وتحليل وتنظير لم يظهر بقدر واضح ومهم ومؤثر، ولذلك فإن مستوى الثقافة بالنسبة لهذا البعد ظل أقل مما ينبغي ويندرج هذا الحكم من حيث المستوى أيضاً على البعد الفني للنتاج الثقافي في المملكة وإن كان حظه أكبر من حظ البعد الاقتصادي نظراً لاتساع الاهتمام الكبير بحقول معرفية كالطب والهندسة.
نقصد بالبعد التحليلي، البعد المتعلق بمناقشة التفاصيل للموضوع مدار البحث والعودة به إلى عناصره الأولية، ومحاولة اكتشاف ما إذا كانت تركيبته تناسب ما صيغ من أجله. ويشمل ذلك مناقشة النظريات التي بنى عليها تركيبه. وأوضح أنواع الثقافة في المملكة التي تمثل هذا البعد هو النقد الأدبي. وقد قطع النقد الأدبي شوطاً لابأس به على اعتبار أنه حديث النشوء وجاء بشكل جاد مع ظهور بعض الأكاديميين الناجحين الذين احتلوا مكانة على مستوى الوطن العربي، ولكن ساحة النقد شملت ايضاً عدداً من الناقدين الذين مارسوا النقد بالتجربة وحسن السليقة ولم يدرسوا أصول البحث العلمي وطرق الدراسة مما يمكن معه تصنيفهم ذوّاقة لا ناقدين فنيين، كما أن النقد ـ بوجه عام ـ غرق في التنظير واستعمال المفردات دون وضوح تعاريفها لدى عدد من الناقدين والتفّ كثير منه بالغموض وابتعد عن تشريح النصوص واختلط فيه نقد النص بنقد الكاتب والموضوع وما إليه. غير أن اهتمام الأكاديميين والأدباء بهذا الموضوع سوف يؤدي في النهاية ـ بإذن الله ـ إلى تطور هذا البعد المهم إلى مستوى علمي مقبول وإن كان في الوقت الحالي لم يواكب مقدار التطور في فنون الثقافة الراهنة.
البعد السياسي للثقافة في المملكة يتمثل فيما انتجته فنونها من النتاج ـ على درجات متفاوتة ـ الذي يعبر عن هموم المثقفين وبالضرورة هموم المتلقين المتعلقة بالقضايا المصيرية للأمة العربية والاسلامية، فقد حفل الشعر العربي السعودي وهو أكثر فنون الثقافة شمولية لهذا البعد بمادة غزيرة تعكس مشاعر قائليه عما يعانيه الوطن العربي الكبير والأمة الاسلامية من مآسٍ وآلامٍ ابتداءً بالاستعمار الغربي والقضية الفلسطينية وانتهاء بمحنة البوسنة وتفكك الأمة. ولعل الكثير من المشاعر السياسية يكون موجوداً في كثير من الشعر الغامض الذي يصعب على كثيرٍ من المتلقين فهم مقاصده ومعانيه.
3ـ فنون الثقافة في المملكة.
ظهرت للثقافة في المملكة فنون متعددة وسوف نستخدم هنا لفظ الفنون المختلفة بدلاً من الأشكال، وهذه هي:
1ـ الشعر.
2ـ القصة.
3ـ النقد الأدبي.
4ـ الرواية.
5ـ الأدبيات العلمية والتقنية.
6ـ الفنون التشكيلية.
ويتلقى جمهور الثقافة نتاج المثقفين في هذه الفنون عن طريق المؤسسات التالية:
1ـ المطابع ودور النشر.
2ـ النوادي الأدبية.
3ـ جمعيات الثقافة والفنون.
4ـ الصحافة.
5ـ المهرجانات والمحافل.
6ـ الأسبوعيات الخاصة بالأدباء.
وقد بدأ التوجه في السنوات العشر الماضية لتشجيع منتجي الثقافة وتقدير جهودهم وحثّهم على الابداع بتقديم جوائز تقديرية في مسابقات أدبية كتلك التي تقدمها النوادي الأدبية وجوائز التفوق العلمي والأوسمة. ويبدو أن هذا التوجه آخذ في النمو والتطوير.
وسوف نحاول هنا وبصورة مختصرة أن نقيِّم مدى فاعلية هذه المؤسسات التي هي مصدر الإشعاع ونشر الثقافة في القيام بمهمتها. ونظراً لكون هذه المناقشة محدودة بحيزٍ أعتقد أنه غير كبير بالنسبة للنشر فإن هذا التقييم سيكون تقييماً كيفياً لا كمياً.
المطابع ودور النشر: تعددت المطابع ودور النشر وتحسنت ولكن مستواها لايزال أقل من المطلوب في الوقت الراهن ويعوز الكثير منها التخصص والاهتمام بضبط المادة وحسن الاخراج، وبعضها يستخدم مدخلي معلومات غير عربي لمعالجة موضوعات أدبية وعلمية عربية. ولايزال التوزيع الشامل لمناطق المملكة ضعيف والتوزيع خارجها كذلك.
النوادي الأدبية: تقوم بجهد مشكور، وتختلف في نشاطها باختلاف إداراتها وتشترك إلى ـ حد ما ـ في اعتمادها على أن تقصد ـ أي أنها لا تقوم بجهد كبير للتفتيش عن المواهب، ولاتزال نشاطاتها تقليدية تتلخص في الإلقاء والمحاضرة، وهي جميعاً مظلومة بقلة الحضور من قبل الجمهور المثقف وبقلة المؤازرة من الأدباء مؤازرة تشعرها بأنها عنصر تحتاج إليه الثقافة. تحتاج إلى نظام يجعل تجديد قياداتها وطواقم إداراتها دورياً (كل أربع سنوات على سبيل المثال). نتاجها الأدبي في غالبيته غائب عن الأنظار وهو لطول غياب بعضه يكاد يترحم عليه. ولكنها تظل نوافد تشع منها أشعة الثقافة على مجتمع ثقافي يطمح لأن يُعترف بمواهبه الخلاقة.
جمعيات الثقافة والفنون: مؤسسات ثقافية مهمة، تسهم في تشجيع الفنون ونشر الثقافة ولكنها لاتزال محدودة التأثير، وقد يكون السبب في قلة تأثيرها افتقارها إلى كوادر إدارية متفرغة ومحترفة، تشترك مع النوادي الأدبية في اعتمادها على أن تُقصد، لا تعطيها الصحافة حقها من الاعلان عن برامجها، وربما يعود ذلك لافتقارها للتخطيط البعيد المدى.
الصحافة: تستقطب كثيراً من المواهب من داخل المملكة وخارجها، يشتمل بعضها على ملاحق أدبية مهمة، والصحف في المملكة تنافس الصحف في بقية أقطار الوطن العربي، وتجد في عدد منها مادة للقراءة أكثر مما تجده في كثير من تلك الصحف. وجدت فيها كثير من الأقلام الواعدة متسعاً لإبراز مواهبها حتى أصبح أصحابها كتّاباً يُعتدُّ بهم. وهناك مجلات قيّمة متخصصة وعلى مستوى ثقافي رفيع، بعضها تصدرها النوادي الأدبية وجمعيات الفنون والثقافة، في رأيي المتواضع أن الصحافة في المملكة خطت أوسع الخطى بالنسبى لبقية المؤسسات الثقافية الأخرى.
أما الصحافة الالكترونية (التلفزة) فعهدها حديث، واحتياجها إلى تقنيات وفنون أكثر تعقيداً من الصحافة المكتوبة، وكوننا أحدث عهداً بها يجعلها أقل تطوراً وأقل مستوى ولكن هناك جهد واضح لتطويرها.
المهرجانات والمحافل: متعددة ونشطة، قيمتها المهمة جداً تكمن في كونها أنجع وسيلة للقاء مثقفي الوطن وربطهم بمثقفي الأمة العربية ومفكري ومثقفي العالم. لها دورها الكبير في تضييق الهوة بين واقع المثقف السعودي وصورته عند المثقفين الآخرين. تناقش فيها مواضيع حساسة ومهمة ومصيرية.
لايزال فيها متسع كبير للتحسن والتطور في مادتها وتنظيمها.
الأسبوعيات الخاصة بالأدباء: لاشك أنها مهمة ومتميزة. يصعب علي تقييم مدى فاعليها ومستواها نظراً لخصوصيتها، وعدم وجود سجل أو انتاج يمكن تقييمه، ولكن ترفد الثقافة وينبغي أن لا تحل محل اللقاءات العامة، بل ينبغي تفعيل الأخيرة.
وإذا حاولنا الحديث عن مستوى هذه الفنون في المملكة في الوقت الراهن يمكننا أن نصف هذه المستويات وصفاً كيفياً كمايلي:
الشعر: الشعر هو اقدم الفنون التي احتفى بها المثقفون في المملكة وأنتجوا فيها على مدى عصور وجودهم الثقافي، وقد عالجوا فيه شتى مواضيع نشاطاتهم المعيشية وأرّخوا به أحداثهم وعبروا فيه عن عواطفهم. غير أن الشعر بقي زمناً طويلاً تقليدياً بعد أن هبت رياح التغيير عليه في بعض البلاد العربية المجاورة كالعراق ومصر في بداية عصر النهضة الأدبية العربية وذلك بسبب صعوبة الاتصال وترامي أطراف المملكة الشاسعة وقلة قنوات الاتصال الثقافي. غير أن الشعر في المملكة تأثر بما حوله من التطور في الشعر العربي وإن كان هذا التأثر بطيئاً. وبانتهاء عقد الستينات توفرت في المملكة عينات من الشعر الذي يتصف بالجدة في الأسلوب والصور والموضوع وبدأ شعر التفعيلة يأخذ طريقه إلى القبول والاستعمال، وشهد عقد السبعينات قبول شعر التفعيلة وشيوعه، وشهد عقد الثمانينات والتسعينات ولوج الشعراء إلى ساحة الشعر الرمزي الذي تطور إلى شعر الغموض، ودخل النثر الفني الغامض المعنى إلى ساحة الثقافة ونشأ الخلاف على تسميته: بشعر الحداثة وقصيدة النثر الخ...
لاشك أن من يدرس الشعر في المملكة دراسة متأنية محايدة يدرك أن جزءاً يعتد به منه قد وصل إلى مستوى مثيله في الأقطار العربية، وقد يكون بعضه ذا مستوى عالمي، في مضمونه وفي حسن صياغته وصوره وتأثيره. وهذه الخصائص لا ينفرد بها الشعر العمودي دون شعر التفعيلة ودون النثر الفني الذي يصنف عند البعض «قصائد النثر». وصعوبة الحكم على الشعر في المملكة حكماً منصفاً أو علمياً يعود إلى أسباب نورد منها ثلاثة:
2ـ كثير من الأحكام صادرة عن قراءة العينات التي تظهر في الصحف والمجلات فقط، ونظر لأن الصحف يخضع قبول مادة ما للنشر أو عدم قبوله إلا اعتبارات كثيرة منها الإداري ومنها ما يتعلق بالمساحة فإن ما ينشر من الشعر في الصحف والمجلات لا يعكس الصورة الكاملة للموجود، وإن كانت الصحف والمجلات تحتوي على قدر كبير من الشعر الجيد.
2ـ الحكم برداءة نوع من الشعر ومعاداته اعتماداً على العينات التي تتكرر في الصحافة، والحقيقة أن أنواع الشعر لا يمكن أن تصنف بأنها أنواع رديئة أو غير مقبولة اعتماداً على بعض العينات المنشورة التي تنقصها الخصائص الابداعية، وسيكون كتّابها غير مبدعين سواءاً أنتجوا شعراً عمودياً أو تفعيلياً أو نثرياً لأنهم تنقصهم الشاعرية.
3ـ نشر دواوين الشعر وتوزيعها يحتاج إلى تفعيل، لأن كثيراً من الشعر الجيد غير مطبوع والمطبوع غير موزع.
مشاركة شعراء المملكة: مشاركة شعراء المملكة في المهرجانات والمحافل التي تقام في الداخل والخارج أقل من المطلوب. فعلى الرغم مما تقوم به النوادي الأدبية وجمعيات الثقافة من جهد مشكور لتهيئة الفرص للشعراء للمشاركة في أمسيات شعرية، إلا أن هذه الأمسيات قليلة ويعوزها الحضور الجماهيري. ولكن هذه الأمسيات في مجملها تشكل منبراً أطلت منه مواهب ابداعية ممتازة.
مشاركة شعراء المملكة في المهرجانات خارج المملكة قليلة ولكن مستوى إنتاجهم الذي قدموه في كثير من هذه المهرجانات لا يقل في مجمله عن مستوى شعر الشعراء الآخرين.
النقد الأدبي:
قطع النقد الأدبي في المملكة شوطاً لابأس به وقد سبق أن أشرت إلى بعض موارد قصوره عند الحديث عن البعد التحليلي من أبعاد الثقافة في المملكة. وتنشأ صعوبة النقد بوجه عام إلى كونه بحسب تعريفه العلمي مجالاً للبحث عن مواطن القوة والضعف في عمل ما، وكثيراً ما يشيع إظهار مواطن القوة البهجة في نفس المنتقد ولكن الحديث عن مواطن الضعف في عمله يؤدي إلى غضبه.
وقد قصرت حركة النقد الأدبي عن مواكبة التقدم الذي أحرزته الثقافة في المملكة بفنونها المختلفة. وقد يكون قصورها عن مواكبة تطور الشعر في المملكة أكثر ظهوراً من غيره من مظاهر القصور إذا نظرنا إلى الكم الكبير المتنوع من الشعر الذي أنتجته الثقافة في المملكة وطول الفترة التي وُجد فيها الشعر.
القصة:
أبرز الفنون الأدبية التي تطورت في المملكة بعد الشعر. وتم أكثر التقدم في مجال القصة القصيرة، وأصبح عدد لابأس به منها يتصف بالعمق في الطرح والفاعلية في تركيب العقدة، وتوفر عناصر التشويق والإثارة. ولكن مواضيعها ظلت واقعية تقليدية تدور حول النقد الاجتماعي أو التعبير عن خلجات النفس ولم تلج إلى الآفاق الواسعة التي نقل عصر الفضاء والكمبيوتر العالم إليها. فهي لاتزال خالية تماماً من الخيال العلمي وكثير منها تخيم عليه روح الجد والصرامة وانعدام روح المرح.
الرواية: النتاج الروائي قليل ولا يمكن معه الحديث عن فن روائي في المملكة وقد شهدت السنوات الثلاث الأخيرة توجهاً نحو هذا الفن وقد تشهد الساحة الثقافية عدداً من الروايات بعد أن ظهر بالفعل عدد منها يصنّف بعضها في قائمة السِيَرْ الذاتية.
ما ظهر من هذه الروايات، والسِيَرْ الذاتية، بقيت مواضيعه اجتماعية، عاطفية أو تسجيلاً للتجارب الشخصية، كثير منها مشوق، المستوى الفني لبعضها سيما التي ظهرت خلال السنوات الثلاث الماضية عال.
المسرح: شهد المسرح في المملكة شيئاً من الاهتمام ولكنه ظل محدوداً ولم تظهر مسرحيات مطبوعة يمكن دراستها والحديث عنها كما أنه لم تظهر مؤلفات في الأدب المسرحي، حظّ المسرح من الشعر كحظه من النثر غير موجود أو هو نادر حسب علمي المتواضع.
الأدبيات العلمية والتقنية: الجانب الموجود المغيّب، غيّبته اللغة التي يكتب بها، أنتج العلماء والمثقفون في المملكة كثيراً من الأدبيات العلمية من بينها رسائل علمية في الطب والهندسة وعلوم الحياة والاقتصاد وغيرها وكتبوا مقالات علمية في أمهات الدوريات العلمية، جميعها باللغة الانجليزية وبلغات غربية أخرى لذلك فهناك جزء كبير من الثقافة في المملكة يستحق الفخر ولكنه مغيّب نسأل الله له الظهور.
التأليف باللغة العربية والترجمة العلمية سيما في المجال التقني التطبيقي قليل، وما يظهر منه يجد صعوبة في التوزيع لقلة القارىء.
الفنون التشكيلية: من فنون الثقافة التي قطعت شوطاً مهماً ووصلت إلى مستوىً محترف. ويمكن مقارنة التقدم في الفنون التشكيلية بالتقدم الذي تم في مجال الشعر وإن لم يكن بالضرورة بنفس المقدار لقدم التجربة الشعرية في المملكة.
ظل الفن التشكيلي مع تقدمه محافظاً في استعماله لمواد إنتاج اللوحات الفنية. غير أن المواضيع التي يعالجها تخطت مرحلة الفن الكلاسيكي المسجل للوقائع والصور إلى التعبير عن الحالات الذهنية والنفسية والرمزية. كما أن تجربة الفن التشكيلي في مجال خلط الألوان والأشكال الهندسية وبشكل عام في مجال التأثير البصري تجربة ناجحة وذات مستوى يبعث على الإعجاب، سيما إذا أخذنا في الحسبان الفترة الزمنية التي بدأ فيها الفن التشكيلي يظهر كوجهٍ من أوجه اهتمام المؤسسات الثقافية.
أدب الطفل:
كيف يمكن للمبدع التمكن من مخاطبة الطفل؟
لكي تكتب أدباً موجّهاً للطفل ومقبولاً لديه ومؤثراً فيه يجب أن تكون على معرفة بعالم الطفل، ولكي تكون عارفاً بعالم الطفل يجب أن تكون قريباً منه وأن تتعامل معه وهذا يستدعي أن تحبه. فالذي لا يحب الطفل ينزعج منه، وإذا انزعج ابتعد أو حاول أن يوجه سلوكه إلى الانضباط الصارم وبذلك تخفى عليه طبائع الطفل ويفوته الكثير من تعابيره اللغوية وخيالاته التي تعكس اهتماماته، ويصبح من العسير اختيار المواضيع واختيار التعابير المناسبة أي يفقد القدرة على اختيار لغة الخطاب بمعناها العام الذي يشمل الألفاظ والصور الذهنية وطريقة الطرح التي توجه اهتمام المخاطب وتثير حب الاستطلاع فيه.
ولكي يستطيع الكاتب أن يتمكن من اللغة الفنية التي تخاطب عقله وخيال الطفل ينبغي أن يكون متمكناً من اللغة، عارفاً ببسيطها ومعقدها، بسهلها وجَزْلِهَا، وأن تكون حصيلته اللغوية كافية لكي تجعله يستطيع التعبير عن المعنى الواحد بطرق مختلفة من بينها طريقة سهلة ولكنها بعيدة عن الابتذال المخل.
فإذا عرف الأديب طبائع الطفل وخيالاته التي تعكس اهتماماته وتعابيره اللغوية وكان متمكناً من اللغة كما أشرت سابقة أمكنه مخاطبة الطفل بطريقة مؤثرة.
وجمال الكتابة للطفل وتأثيرها يعتمد في النهاية على إبداع الكاتب ومقدرته على التصوير وتمكنه من جعل تعابيره موسيقية سيما في الشعر. وينبغي القول هنا أن شاعرية الشاعر وغناه بالمعلومات وقدرته على الصياغة ضرورية لإنتاج شعر جميل مؤثر مفيد للأطفال.
الأبحاث التربوية في شؤون الطفل المطبوعة أو المنشورة في المملكة لكتاب قليلة جداً. وكذلك القصص والشعر، ويعود ذلك إلى الاهتمام بالطفل من ناحية تربوية شاملة لم يبدأ إلا حديثاً في المجتمعات العربية بوجه عام وإن كان لبعضها السبق في مجال الكتابة للطفل سيما في موضوع القصص كما هو الحال في مصر ولبنان. وحتى في مثل هذه المجتمعات لم تعكس الكتابة للطفل التطور الكوني الهائل كما أنها ظلت تعيش في عالم النقل والترجمة من ثقافات بعيدة كل البعد عما نريد أن تكون عليه ثقافة أطفالنا.

محمد العلي
المستوى العام للحضور الثقافي في المملكة ـ في نظري ـ مستوى مزدهر، ويتقدم بثبات لأفق أفضل، سواء على مستوى الانجاز الفكري أو الفني أو النقدي.
هنا في ساحتنا أصوات شعرية وروائية ونقدية وفكرية لا تقل لمعاناً وعطاء عن أي ساحة عربية، وهذا يبشر بمسيرة خصبة صاعدة بدون شك.
المثقف في السعودية لا أعتقد أن موقفه يختلف عن أي مثقف عربي آخر في الساحات العربية.. من القضايا المصيرية للأمة.. ما عدا فارقاً واحداً هو:
أن المثقف في الساحات الأخرى يعبر عن موقفه من تلك القضايا، ويعلنه، أما في ساحتنا فإن المثقف صامت، إنه لا يقول رأيه، أي أنه ملاك أخرس.
أما ما ينقص الثقافة في ساحتنا المعاصرة فهو: المزيد من حرية الرأي.
نعم الصحافة لها دور فاعل في تفعيل الحركة الثقافية، وأعتقد أنها تقوم بالدور المطلوب منها.

محمد الوعيل
1ـ لعله من المناسب أن أشير هنا إلى الجهد الذي توليه رعاية الشباب للأندية الأدبية بالمملكة والذي أعطى مساحة كبيرة لتنشيط العمل الثقافي في الوطن. وهذا الاهتمام أعطى الأدب في جميع أشكاله المعروفة وبالذات في مجال القصة القصيرة والفن التشكيلي دفعاً للأمام غير أن مسألة الأدب بشتى أنواعه لم تأخذ الفضاءات المرجوة لها والسبب ـ كما يبدو لي ـ عدم تفاعل رجال الفكر والأدب مع الأندية.. وكذلك المتلقين.
وإذا نظرنا لما كنا عليه وكيف أصبحنا لوجدنا أنفسنا في مرحلة طيبة تحتاج منا إلى التفاعل معها حتى نحقق المزيد من التفوق الثقافي.. والدولة رعت هذه الجوانب وأعطت للأندية الأدبية دعماً متواصلاً لدفع عجلة الأدب في المملكة العربية السعودية.
2ـ كلنا نردد مقولة: نحن على أبواب القرن الحادي والعشرين.. وكلنا يقول: إن العالم العربي أصبح موجوعاً.. وكلنا يقول أيضاً: لقد أصبح العالم قرية صغيرة.. وهكذا يكون السؤال التالي:
كيف يمكن أن نتفاعل مع معطيات القرن الحادي والعشرين.. وكيف نشكل انسان القرن الحادي والعشرين.. كل هذه التساؤلات يجب أن تطرح على طاولة الجامعات ومراكز البحث.. ومن هنا ننطلق..
3ـ الصحافة السعودية استطاعت أن تواكب التقنية العالمية وتحقق مزيداً من الانتشار مع الالتزام بخطها الأخلاقي المتميز والذي لم يفقدها توجهها المهني. كما أن الصحافة السعودية استطاعت وفي فترة وجيزة أن تأخذ بمشروع سعودة العاملين فيها وكل ذلك يمكن الصحافة السعودية من تحقيق المزيد من النجاحات.
أما ان الصحافة بشكل عام أصبحت تجارية فلا أظن أن هذه المقولة صحيحة مئة بالمئة وبالذات الصحافة السعودية.

نبيه عبد القدوس الأنصاري
تحديد المصطلح للكلمة (أي كلمة) يشكل محورية الفهم.. وحتى لا ينداح الحديث في دائرة عريضة، يأتي تحديد المصطلح ليمثل الحدود الطبيعية الواجب الوقوف عندها للكلمة..
هذه المحاور الثلاثة التي أمامي تدور كلها في فلك كلمة «الثقافة» (الثقافة الراهنة للمملكة، المثقف السعودي، الفعاليات الثقافية العالمية) إذن، فلنحدد بدءاً المدلول الضابط للثقافة، ثم تأتي النقاط التالية تبعاً..
بنظرة سريعة في لسان العرب لابن منظور نجد أن: (الثقّاف ما تقوَّم به الرماح.. وما هو ما يُقوّم به الشيء المعوج، والتثقيف هو التسوية..).
من هذا ندرك أن (الثقافة) تعني منهجية تسيير حركة الحياة في المجتمع، وهي أسلوب الحياة السائد في أي مجتمع بشري.. وهذا المعنى يبعد قليلاً أو كثيراً عن المعنى المتعارف عليه الآن الذي يحصر الثقافة في المخزون المعرفي للمجتمع أو الأفراد.. أو مجموع النتاج الفكري والأدبي والمعرفي..
من هذا ندرك أيضاً أن الثقافة إضافة إلى ما سبق هي المقوم السلوكي الضابط لحركة المجتمعات الانسانية. وبهذا تختلف المجتمعات في هذا الضابط السلوكي أو المنهجية المسيرة لحركة الحياة فيه التي هي (الثقافة).. إذ نجد السلوك المحرّم عند شعب من الشعوب أو أمة من الأمم، نجده مباحاً في أمة أخرى لا شائبة فيه..
وهذا بسبب تباين صيغة (التحسين والتقبيح) بين المجتمعات الانسانية..
من هذا المنظور، وبهذا الفهم للثقافة فإن العالم الاسلامي بأسره، وليس المملكة العربية السعودية فحسب ينبغي أن يكون على ثقافة واحدة، ومنهجية واحدة ضابطة، تنبثق كلها من التوجه الاسلامي الضابط لحركة الحياة.. ويأتي ـ تبعاً لهذا التوجه السلوكي المميز ـ كل الناتج الثقافي والفكري والأدبي والعلمي، والمعرفي بعامة.. من شعر وقصة ومسرح وفن تشكيلي وعمارة.. كل هذا الناتج ينبغي أن يكون بصيغة من صيغ هذا التوجه..
تجدنا كثيراً نتحدث عن ثقافة محلية وقومية وعالمية.. ولا أجد مبرراً واضحاً لهذه التقسيمات.. وبخاصة (محلية وقومية).. ماذا نعني بالمحلية..؟..
ان كانت هي المعادل التراثي لكل شعب من شعوب العالم الاسلامي، فانها لا تختلف إلا في جزئيات وتفاصيل، لا تمنحها سببية الخروج عن المجموع الممثل لسلوكية العقل الجمعي عند المسلمين..
أما قضية العالمية التي يتحدث عنها كثير من مثقفينا فإني أرصد هذه القضية بكثير من الغرابة..
إذا كنا قد اتفقنا بدءاً بأن (الثقافة) هي المنهجية المسيّرة لحركة الحياة في أي مجتمع بشري، فإنه ينبغي الاتفاق ـ بعيداً عن أي جدلية سفسطائية ـ بأن منهجية كل مجتمع هي المشكّلة لناتجه الانساني بكامله في فكره ومعرفته ودواخل مشاعره وأحاسيسه..
وتبعاً لتباين الثقافة ومنهجيتها عند الشعوب تكون تبعية الناتج.. ومادام الأمر كذلك فليس هناك صيغة (عالمية) ـ برأيي ـ ينصهر في بوتقتها كل ناتج الشعوب.
ولا نجد (التقاءً) إلا في حدود ضيقة لا تمثل بحال صيغة يمكن أن نسميها (عالمية)، وما ذلك إلا لاختلاف المنهجية السلوكية، إذ ما هو (حسن) هناك (قبيح) هنا.. وبالعكس، حسب معايير لثقافة كل أمة.. وهذا أمر لا جدال فيه.. وكما أسلفت، فإن هذا رأيي وقناعتي، وتبقى لكل منا قناعته..
وتناغماً مع هذا المضمون فإني أذهب إلى تحسين وتجويد ابداعنا حسب معطياتنا الثقافية والمعرفية المتفردة والمتميزة عن غيرها في معطياتها المعرفية ورصيدها من التراث..
وهذا لا يعني بحال من الأحوال الانغلاق دون الآخرين، بل يعني الأخذ من الآخرين ما يثري ما عندي ويضيف إليه جديداً في حركية الابداع وصيغه، مما لا يمس بحال ثوابتي في منهجية الحياة السالف ذكرها..

يحيى عبد الله المعلمي
1ـ المشهد الثقافي في المملكة زاخر حي متحرك مفعم بالأنشطة وان كان بعض هذه الأنشطة ليس في مستوى ما يعتز به الوطن فهي لا تزيد على مقطوعات من الشعر العامي أو القصصي الباهت الخالي من كل مقومات الفن الرفيع والأدب الذي نعتز به ونفخر.
وفيما عدا ذلك فالشعر العربي الفصيح له رواج على أعمدة الصحف والمجلات ويحتفي به الأدباء والشعراء ومتذوقو الشعر في الحفلات والندوات واللقاءات الأدبية ومنه ما يسمو إلى درجة عالية من الجودة والاتقان والابداع ومنه ما هو دون ذلك ولكنه ليس معيباً تلفظه الساحة الأدبية، وكذلك للمقالة الأدبية أو الاجتماعية مكانها المرموق في الساحة الأدبية وتحفل بها الصحف والمجلات.
أما القصة والرواية فبضاعتنا فيها مزجاة والانتاج قليل وما ينتج لا يثير الحماس لقراءته أو انتاجه ومن المؤسف أن المنتجين في التلفاز أو المسرح لا يهتمون بالانتاج العربي الفصيح وإنما يركزون على الانتاج العامي التافه السخيف الذي قد يثير الضحك ويثير السخرية والاستهزاء.
وفي رأيي أنه لا يعيبنا أن لا يكون لدينا مسرح تمثيلي ولدينا المسوغ الكافي لذلك فالمسرح صورة من الحياة والحياة تضم رجالاً ونساء ولا توجد أسرة كلها رجال وليس فيها نساء فاخراج رواية لا يشترك فيها العنصر النسائي تعد صورة ممسوخة للمجتمع لا تصوره ولا تعبر عنه وإذا أشرك في المسرح نساء من خارج المجتمع فذلك أيضاً لا يعبر عن المجتمع ولو حاولت النساء تقليد اللهجة السعودية فالزبد يذهب جفاء وخير من التقليد الباهت الانتظار إلى أن يصبح في الإمكان اخراج فن مسرحي متكامل يشتمل على جميع العناصر اللازمة.
2ـ أهم المؤسسات الثقافية التي تعنى بتوعية المجتمع في المقام الأول المدرسة على مختلف مستوياتها ابتداء من التعليم الابتدائي إلى التعليم الجامعي وما بعده ثم الاطلاع على ما تخرجه المطابع من صحف ومجلات وكتب وإلى جانب ذلك ما تقدمه وسائل الاعلام المرئية والمسموعة من برامج ثقافية علمية مفيدة وينبغي أن تكون برامج التسلية في هذه الوسائل مجرد فاتحات لشهية المشاهد أو السامع لاجتذابه إلى البرامج العلمية والأدبية والثقافية المفيدة وأن لا تطغى عليها ولا تصبح مكرسة للتسلية وتنحرف عن الهدف الأساسي وهو التنمية الثقافية.
3ـ العطاءات الابداعية في الشعر جيدة وبعضها رفيع المستوى وبعضها دون ذلك ولكنها تسير في طريق التقدم والانتماء وأنا هنا أتكلم عن الشعر ولا أعني ما يثرثر به بعض العامة من أزجال عامية أو ما يفضفض به بعض أدعياء الثقافة من همهمات وطمطمات لا تقيم وزناً ولا تضبط قافية فهذه كلها خارج نطاق الشعر.
أما الرواية والقصة والمسرحية فإنتاجنا فيها قليل وهي لا ترقى إلى مستوى انتاج غيرنا من الأقطار العربية لأسباب شرحت بعضها في الاجابة السابقة.
أما المقالة فهي في أوج ازدهارها وعمليات البحث والتحقيق قائمة على قدم وساق في الجامعات والمعاهد وهي تؤتي أكلها طيباً وتخرج لنا انتاجها بين آن وآخر وهو انتاج جيد مدقق محقق يتم فحصه قبل نشره من قبل أساتذة مشهود لهم بالعلم والفضل ولعلنا في هذا المجال لسنا أقل من غيرنا من الأقطار العربية الاسلامية تمكناً من البحوث والدراسات العلمية في الدين والأدب والاجتماع.
ولاشك أن هذه القطاعات جميعاً ترتبط بقضايا المجتمع والأمة بشكل عام وقلّ فيها ما هو معزول عنها أو سائر على مبدأ الفن للفن وإذا وجد شيء من ذلك فهو مطروح ومنبوذ ولا حياة في المجتمع إلا لما يتفاعل معه من إنتاج أدبي أو ثقافي.
5ـ الحوار الاسلامي يشغل مساحة واسعة في الثقافة السعودية وبخاصة في الصحف والمجلات وهو يسير على مبدأ الاخوة الاسلامية والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والاعتصام بحبل الله.
لا أرى داعياً للمفاضلة بين الحوار الاسلامي / الاسلامي، والحوار الاسلامي / الأجنبي، فلكل منهما فوائده ومسوغاته، والمسلمون بحاجة إلى التذاكر في أمور الدين وتنبيه بعضهم بعضاً إلى بعض ما قد يخفى عليهم من أمور الدين أو ما يعرض لهم من شبه وتنويرهم بنور الحق فيها وتبصيرهم بوجه الصواب في التعامل معها، كما أن الحوار الاسلامي / الأجنبي له أهمية في بيان فضائل الاسلام وروعة مبادئه وتشريعاته ودفع الشبهات والاتهامات المعلنة عليه من بعض المغرضين أو الجاهلين من الأجانب وغيرهم وكلا النوعين من الحوار مطلوب ومفيد ولا مفاضلة بينهما ولا يحول أحدهما دون الآخر.

ثانياً: المشهد الثقافي من منظور المرأة
بهية بوسبيت
1ـ لاشك أن المملكة العربية السعودية تمر هذه الفترة بحركة أدبية وثقافية نشطة سواء على المستوى المحلي أو الخارجي، وأيضاً على
مستوى الانتاج والنثر. والمتابع للحركة الثقافية يلاحظ الكم الذي تفرزه المطابع.
كما أن من الملاحظ أن عدداً من القاصات والقاصين بدأوا يتجهون في الفترة الأخيرة في انتاجهم على التركيز على الأدب المحلي، وهذا في رأيي شيء جميل يعود أولاً لوعي وثقافة المبدع المؤلف، حيث أن أصدق الأدب ما يحاكي مشاكل المجتمع وما يدور فيه من منازعات وخصومات أسرية واجتماعية معقدة تحتاج إلى دراسة وحلول تعالج بطريقة فنية محببة ومؤثرة في نفس القارىء والقارئة.
أما عن دور المرأة في تفعيل الحركة الثقافية في المملكة فالمتابع لا ينكر دورها الكبير الفعال ولها مشاركات مشهودة من الجميع وخاصة بها، لاسيما حضورها ومشاركتها في المهرجان الثقافي السنوي الذي يقام في الجنادرية بالرياض، ففيه تخصص لها أمسيات قصصية وشعرية وندوات ومحاضرات، هذا بالاضافة إلى احياءها بعض الأمسيات الشعرية، والقصصية التي تدعي لها من قبل بعض الجمعيات الخيرية أو الجامعات أو أماكن الترفيه.. الخ.
2ـ المرأة السعودية بكل فخر واعتزاز وثقة بدأ عطاءها يساير عطاء المرأة العربية والأجنبية وبدأ يحلق خارج الحدود على الرغم من أن ظهورها على الساحة الثقافية والأدبية كان متأخراً وكانت تسير ببطئ، وضمن حدود اسلامية ملتزمة، إلا أنه بحمد الله وتوفيقه، وبقوة ابداعاتها المختلفة وثقتها في نفسها استطاعت أن تثبت وجودها في مجال الأدب بجميع أنواعه، أسوة بريادتها في مجال التعليم والطب وغيرهما. كل ذلك وهي ماتزال محافظة على عاداتها وتقاليدها الاسلامية وملتزمة بالشريعة الاسلامية، وهذا هو النجاح الحقيقي أن تبدع المرأة بكل صدق وواقعية بقدرتها وبجهدها الخاص وهي محافظة على نفسها وفكرها من كل ما يشوه.
3ـ من الأشياء الحقيقية التي تدخل البهجة على القلب والسرور على النفس أن المرأة السعودية بكل اعتزاز وفخر أخذت تشارك الرجل في عملية البناء الحضاري الشامل وفق ما تسمح به الشريعة الاسلامية وداخل حدود مشروعة ترضي الله وتفيد المجتمع وهي غير متبرجة في مجالات مختلفة ومتنوعة لها مشاركات خاصة بها وجمهور كبير متابع، والأجمل من ذلك أنها أو أن أغلبهن استطعن أن يظهرن نجاح وتفوق فيما يؤدينه من عمل بسرعة غير متوقعة وأصبحت المرأة السعودية تجاري زميلاتها العربيات وفي الدول الأخرى في نجاحاتهن، بل إننا نسمع ونقرأ في الجرائد عن تفوق سعوديات على أجنبيات في مجالات عملية مختلفة، وهذا من فضل الله على المرأة السعودية والتي بلاشك أن مستقبلها سيكون أكثر إشراقاً وتطوراً وتميزاً من غيرها، وحاضرها وما تقدمه من أعمال جليلة ومشاركات مختلفة يدل على أن المستقبل الواعي والزاهر يفتح لها ذراعيه، لأنها تسير في طريقه بكل ثقة وقوة وإيمان وعقيدة سليمة.

الدكتورة ثريا العريض
من منطلق علمي يلتزم بعرض الحقائق، أتوجس من تناول أي أمر بمنطلق العموميات، فالعميم يخفي الكثير من الملامح الخاصة ويضع المجموع في إطار يلغي الخصوصية المميزة..
وفي السعودية مثل غيرها من المواقع الجغرافية، هناك كثيرات في ساحة الأدب والفن التشكيلي، بينهن نخبة من مبدعات مميزات، بين قاصة، وشاعرة، وروائية، وكاتبة مقالة، وفنانة تشكيلية، ونقادة. ومنهن من ليس من العدل أن يضيع تميّز عطائها حين يدمج في تناول عام سواء تحت مسمى عطاء المرأة السعودية أو العربية، أو حتى تحت مسمى عطاء نسائي.
ثم من الصعب بشكل خاص أن أتكلم عن عطاء المرأة السعودية بالذات، بصفة تعميمية.. فأنا من جهة أراها تعايش نفس الساحة التي تعايشها الكاتبة العربية عموماً والكاتبة الخليجية خصوصاً، بل، وعلى مستوى أبعد، نفس ما تعايشه المرأة في المجتمع الإنساني عالمياً.. ومن جهة أخرى اراها تعايش ظروفاً وضعية تنفرد بها تجعلها تتميز بعلاقة ذات خصوصية مع ساحتها الأقرب تحظى فيها بالكثير من الدعم المادي والمعنوي وتعاني فيها الكثير من الضغط المادي والمعنوي. وبين الدعم المقصود الذي قد يرفع أسماء عادية إلى مانشيتات المبدعات، والضغط الوضعي الذي قد يخنق بعض الموهوبات ويمنعهن من إعلان قدراتهن، تلتبس الصورة إلى حد التعمية. وسأعود إلى إشكالية اجتماع المتناقضات، ومحصلة ذلك من حيث تعايش مكبرات الصوت النسائي مع محاولات تحجيمه وتكميمه، وأبدأ بالنظر في تفاصيل وجود هذا الصوت فعلاً.. وهو ما لايمكن إنكاره.
هناك ناحيتان لتقدير أو تقرير أي انجاز; ناحية كمية، وناحية نوعية.. والمرأة بأوضاعها الخاصة في الجزيرة العربية ـ وقد يسري بعض هذا التعميم على بعض مبدعات الخليج أيضاً ـ محاصرة الحضور في الناحيتين. حتى لو سألنا عن مقاييس كمية بحتة لما يوجد فعلاً على الساحة، لوجدنا الإجابات تختلف.. هناك باحثة احترمها، قدمت ورقة نقدية جادة ذكرت فيها أسماء ما لا يقل عن خمسة وعشرين شاعرة سعودية. وهناك مشرف على ملحق ثقافي بأحد صحفنا، احترمه أيضاً، قرر جازماً في مقابلة صحفية ذاتية، أننا لا نملك إلا ثلاث شاعرات سعوديات..!
وكلاهما يبالغ. قد تكون هي عدت كل الأسماء على الساحة، دون تقييم لمستويات العطاء كتأكيد على وجود الصوت النسائي في الشعر المحلي أو تقديم صور أشمل لما يجري، وقد يكون هو لأسباب خاصة به قصد أن يرسل رسالة مبطنة لغير من ذكر من الشاعرات يعلنهن فيها بأنه يستثنيهن من أفق الشاعرية.
ولا يهم رأيها أو رأيه بهذه الصيغة، فكلاهما تعميم صارخ.. ومثل هذه التعليمات المتناثرة بلا تدقيق أو تحديد للمعايير، تطال كل التصنيفات الأدبية في الساحة، فنجدها أيضاً لو حاولنا أن نحدد رقماً عددياً للقاصات، أو الكاتبات، أو الصحفيات، أو الفنانات التشكيليات، أو غيرهن من حاملات مشعل التعبير، حيث تبقى المعايير النوعية مشكلة غير متفق عليها.
بين حاملات القلم ـ إذا استثنينا المئات من كاتبات الخاطرة الوجدانية الذاتية التي تملأ الصحف في دورة حياتية قصيرة كفراشات المواسم، خاصة من فئة المراهقة العمرية والفكرية، أستطيع أن أقول أن وضع الكتابة النسائية في منطقة الجزيرة والخليج من ناحية الكم لا يشي بحالة شح..، وأن الناحية النوعية هي التي تستوجب التأمل المتعمق، وإن كانت هي الأخرى لا تجزم بحالة تعسّر فوق قدرة انفراجات المستقبل. وأستطيع أن أتناول الوضع السائد كمياً بصورة نسبية، أن عدد الناقدات هو الأقل، تليهن الروائيات، فالشاعرات. والأكثر وجوداً هي فئة كاتبات القصة القصيرة، ربما لأن الشعر تعبير مباشر عن الانفعالات الذاتية، خارج نطاق التحكم المتعقل، بينما تأتي القصة والرواية وصفاً سردياً، غالباً يفصّل راسماً أحوال الغير، فكلاهما أقل مباشرة في تناول العمق الحياتي للكاتبة ذاتياً. والمعتاد حتى الآن ان رد الفعل المعتاد للقارىء والمتلقي للإبداع يعرّض الشاعرة والقاصة المتكلمة بلسان الفرد لتسلط الأضواء الفضولية، وليس النقدية، في محاولة‎إيجاد تفسيرات لإبداعها من منطلق رؤية محدودة تختزله في أنه اعتراف بتجارب ذاتية تشجبها أحكام المجتمع العام وأعرافه. وقد تتطور هذه الرؤية إلى اتهامات للكاتبة بالنشوز على ما تعارف عليه المجتمع، من ستر كل ما يختص بالمرأة واعتباره شأناً شخصياً سرياً تشمله الرقابة الأسرية لأنه يلامس خصوصياتها ولا يمكن أن يدخل في نطاق الكتابة الجهرية.. هذا إذا لم يتسع الإتهام ليشمل أنها محاولة إغواء للمجتمع لتمزيق ثوابته. وكلا هذين الموقفين يهدد الأديبة بوصمة أكبر من أن تترفق بها أوضاع المجتمع اليوم، مما يجعل مقاربة الشعر الذاتي النفس مغامرة كبرى وممارسة تتطلب عدا الميل الفطري والموهبة، مهارة في تدجين اللغة وتوظيف كل وسائلها في خدمة التعبير دون الوقوع في شرك الكلام المباشر. أي أن التعبير الشعري في القصيدة والقصة القصيرة النسوية، يخاتل محاكمة المجتمع للمحتوى الذاتي المرجعية والمسؤولية، ملتجئاً إلى الاحتماء بغطاء كثيف من الثقافة الذاتية التي تستمد دعماً تعبيرياً من الرموز التاريخية والتراثية والأحداث الكونية. الرواية تتيح مجالاً أكبر للابتعاد عن الذاتية، ولكنها الأصعب في الممارسة والنجاح خارج مستوى السرد المبسط، ولذلك لم تقارعها إلا قلة محدودة من الأديبات. ولكني أتنبأ لفئة كاتبات الرواية بالميزد من النمو العددي، كما هو الحال في الساحة العربية، بغض النظر عن مستويات النجاح والتميز أو تفرد الأسلوب، إذ كل مستجد يحصل على سمعة الانتشار يجتذب المزيد من الراغبين والراغبات في مواكبة التيار الجديد.
النقد في عطاء المرأة
أما الجانب النقدي فمازال شبه خال من الحضور النسائي، حيث تتطلب التناولات النقدية تخصصاً معلوماتياً ومنهجياً لا يتوفر غالباً إلا عبر برنامج دراسة أكاديمية معتمدة تثبت التأهيل للممارسة، وليس فقط الرغبة الطموحة للحضور دخولاً إلى الساحة من بوابة النقد. ولكن هناك أسماء معدودة تحاول إثبات موقع مميز لها عبر مشاركة محدودة الفرص.
ما مدى حضور المرأة السعودية على ساحة الإنجاز؟
يعتمد الأمر كيف يقاس الحضور.. كمياً.. أو نوعياً؟.. وأي ساحة جغرافية للانتشار؟.. فهي ساحة متداخلة تختلط فيها المؤثرات الوضعية العامة والخاصة، وتتداخل فيها أوضاع الابداع بالنقد، وبالصحافة، وبالثقافة، وبالوعي العام للمتلقي وبالأطر العامة للمؤسسات الأدبية والثقافية ضمن الأنظمة الرسمية المختصة.
في تبسيط يتجاوز تفاصيل أي حالة فردية بعينها، تكرار قراءة الاسم في الساحة المحلية هو غالباً حضور كمِّي.. وتألق الإسم في الساحة الخارجية، العربية والعالمية الأكبر، هو غالباً حضور نوعي. ولكن المرور من الحضور الكمّي المتساهل فيه إلى الحضور النوعي الأكثر صعوبة في الوصول إليه، محكوم بالتداخلات بين شبكة الأوضاع الفردية الخاصة ـ بما في ذلك كون المبدعة ذات مستوى ثقافي عال، أو متوسط، وانتمائها لأسرة متسامحة ثقافياً أو محافظة تتمسك بتقاليد وضغوط صارمة تفضل الأنثى وصوتها مصونين عن الجهر ـ، وشبكة الأوضاع الحضارية العامة، ومنها كونها تنتمي لفئة النساء والعرب والمسلمين، ومواطنة بقعة بعينها في هذا الانتماء المتداخل، ذات خصوصية تاريخية جغرافية سياسية، والأوضاع الثقافية السائدة ومنها تفاوت انفتاح الساحة الثقافية العربية لما يجري في أي بقعة محددة من العالم العربي بما يعنيه ذلك من فرص النشر والتوزيع والمتابعة النقدية، وحتى فرض الترجمة إلى اللغات الأجنبية. فبعض مواقع العالم العربي أكثر تواصلاً مع تفاعلات الساحة الأدبية من مواقع غيرها. وحتى وقت قريب ظلت الساحة الأدبية في المملكة العربية السعودية مثل كل منطقة الخليج العربي، مختزلة في دور المنبهر والمتتلمذ والتابع بخطوات متلكئة لما يدور في المراكز العربية للثقافة والأدب مثل بغداد وبيروت والقاهرة. ولم يكن هناك من يهتم بأدب الجزيرة (من الرواد وحتى المحدثين) إلا من منطلق جد متخصص، ولأسباب شخصية. حتى لو كانت الأسماء ذاتها واضحة الحضور والعطاء على الساحة المحلية القريبة. وفي البداية كانت الأسماء النسائية بينها معدومة لدرجة أن بعض الأدباء الكبار محلياً كتبوا بأسماء نسائية تشجيعاً للفتيات ليكتبن.. أو ليستثير الانتباه لما يكتب من آراء تصب في تيار تحسين أوضاع المرأة، دون أن يتعرض شخصياً لهجوم مضاد ومقاوم من عامة المجتمع.. خاصة وأن الكتابة حتى الأدبية منها كانت تطل عبر شرفة الصحافة المحلية، وهي شرفة مجتمعية التوجه، وإن بدت في بداياتها متوجهة للنخبة الأدبية المثقفة بسبب غلبة الأمية وقتها كطابع عام للمجتمع ككل.
وقد ابتدأت المرأة في الجزيرة تكتب منذ زمن جد قريب مقارنة بغيرها من الكاتبات عالمياً وعربياً، وذلك يرتبط بكون التعليم النظامي للمرأة لم يأت ـ كالتزام رسمي تدعمه وتتكفل به الحكومات رسمياً ـ إلا متأخراً، ولا يتعدى عمره في السعودية الآن بضعة عقود لا تتجاوز الأربعة أو الخمسة. ولكن ذلك أعطى الفتاة السعودية الموهبة والقدرة والمجال لتعبر عن انفعالاتها الذاتية والمجتمعية على منبر عام، وهي مازالت تفعل غالباً بتحفظ وتعقل ملحوظ مقارنة بالساحة العامة عربياً وعالمياً، مكتفية بمتعة التعبير وفرصة النشر، ومقتنعة بمشروعية إصرار المجتمع الأبوي على حمايتها من الآفاق غير المضمونة.
أما بدايات الإنطلاق إلى التعبير الابداعي الأكثر ذاتية فقد جاء تحت أسماء متلثمة.. (والأسماء الملثمة لم تقتصر على المرأة بل لجأ إليها كتاب معروفون لأسباب مختلفة زامنوا بين الكتابة بأسمائهم الحقيقية والتلثم بأسماء مستعارة بعضها اختاروه أنثوياً). وكلما كان الانفعال أكثر توهجاً والتعبير أكثر صدقاً وملامسة للذات كانت الحاجة للتلثم أكبر.. وأذكر من الأسماء التي استوقفتني، شعراً، غجرية الريف وغيداء المنفى، ونثراً، طفول العبد العزيز، وكأن المبدعة منهن تنفث نزف دمها ودمعها على الورق صدقاً خالصاً وإبداعاً راقياً يستوقف المجتمع القارىء منبهراً. ويلاحظ كم كانت الأسماء اللثامية تلك مختارة بعناية لتوحي بشخصية الكاتبة نفسياً فتكون عاملاً إضافياً يحمل قوة جذب القارىء، بدلاً من أن تكون عامل تعريف باسم الكاتبة شخصياً فتعرضها على أرض الواقع للأحكام المواجهة بالاستهجان أو الرفض والشجب. كان التركيز إذن حتى في بداية عقد الثمانينات على الموهبة وفرصة التعبير عن الابداع وليس على الاسم الشخصي. ومع هذا فقد ظلت للأسماء الانثوية جاذبيتها المضاعفة ربما لندرتها على الساحة. ولا أذكر أن مرَّ بتجربتي أن امرأة نشرت تحت اسم رجل.. كما فعلت جورج صاند في فرنسا مثلاً لتضمن أن ينشر لها، بالعكس، في الساحة المحلية كان الإسم النسائي يضمن النشر بغض النظر إن كان من كتب رجلاً أن امرأة. ثم شيئاً فشيئاً كشفت الكاتبات عن هوياتهن، وأصبح الشائع هو التوقيع بالاسم الصريح، حيث أصبحت كتابة المرأة أمراً يتقبله المجتمع، وإن ظلت بعض المبدعات شعراً يحتفظن بأسماء إبداعية غير أسمائهن الصريحة لأسباب خاصة بأوضاعهن المنفردة.
وحتى وقت قريب ظل الوضع الغالب أن بروز الاسم محلياً يأتي عبر نوافذ الصحف أكثر مما يأتي عبر كتب ودواوين وروايات مطبوعة. ولذلك تختلط في الساحة كل الأسماء التي تبرزها الصحف اليومية المتعطشة أبداً لملء مساحات ورق تتوالد يومياً. وفتاة الجزيرة اليوم، وقد تعلمت وأتقنت مفردات التهجئة والكتابة ونالت قسطاً جيداً من العلم والثقافة العامة، تقف مع أخيها تملأ بعض هذا الفراغ الصحافي المتوالد، فتجد الشاعرة والروائية والقاصة والناقدة ـ بغض النظر عن تفاوت مستويات الابداع وتياراته وأساليبه ـ تشغل صحفياً موقع كاتبة المقال اليومي أو الأسبوعي ذي المردود المادي كاحتراف مهني، وهي في هذا محكومة مثل الرجل بضغط الالتزام، أن تشمل في كتاباتها تناول المستهلك والمجتر والمفروض من مواضيع التوعية المجتمعية، والمعايشة ولو عن بعد للأحداث المحلية والعربية والعالمية، والمتطلبات الرسمية. وقد تضطر أن تتخلى عن بعض نخبوية موقع المبدعة، وتخضع لضغوط الاحتراف الكتابي، مثلها مثل بقية حاملات القلم من الصحفيات والمحررات ومن يتولين تجميع الأخبار ونقل الأحداث وإجراء التحقيقات ومتابعة الرأي العام.
ولذلك أرى‎أن تعداد الأسماء المتداولة في الصحف كمياً لا يدل على حقائق وجود الإنجاز الأدبي النسائي ـ ولا الرجالي ـ نوعياً. كما أن تغطية الابداع المنشور صحفياً تختلف عن التناول النقدي الجاد لابداع أدبي نسائي أو رجالي منشور في كتاب. فالنقد الصحفي الذي يكتب موجهاً لقارىء غير متخصص، يخضع هو الآخر للتقييم المتساهل في النشر، مثله مثل الكتابة الصحفية ولنفس الأسباب. ولكن ساحة الصحافة الخليجية تستحق التقدير لأنها إذ تفتح تصدرها للكتاب بما في ذلك المبدعين تتيح للحبر الابداعي ألا يبهت ويدفن في مخطوطات فردية لا ترى النور لأسباب مادية بحتة، وإن كانت في موقع الملوم أيضاً أنها في كرمها بمنح فرصة النشر لاتدقق كثيراً بين الغث والسمين. وتظل الملاحق الصحفية الأدبية الثرية المحتوى ظاهرة صحية تتميز بها صحف الجزيرة والخليج وتتيح فرص النشر والبروز حتى لمبدعين ومبدعات من الساحة العربية الأبعد.
ويتزامن انفتاح مجال الانتشار الصحافي محلياً بظاهرة سلبية في ساحة النشر الكتابي عربياً، حيث نشر الابداع الخاص في كتب محاصر بالقدرة المادية للمؤلف، وتوجهات دور النشر والتوزيع العربية وسياساتها. ويلاحظ بوضوح تحول ميلها راهناً نحو توجه السوق الاستهلاكي الضحل الثقافة، ورغبة تحقيق الربحية على حساب التميز في ما تتبناه للنشر، وتخليها عن معاييرها الأفضل والأكثر صرامة من حيث التقييم في العقود السابقة. وقد كانت أكثر تخيراً وانتقاء لما تجيز للنشر، تخوفاً من الخسارة المادية إن لم يلق تقبلاً وإقبالاً في سوق البيع.. وبالتالي أمست في خياراتها وسياساتها مجحفة بحق المبدعين عموماً، ولا مبالية فيما تنزله للساحة، ـ خاصة حين يكون لأقلام من الخليج، وسوق الخليج هي راهناً أقدر سوق قرائي على الشراء، وإن كانت الأسواق العربية الأخرى أوسع مجالاً من حيث التعداد السكاني والثقافي ـ، ومن ذلك انتشار موجة نشر أي تجميع لقصص أو نصوص من قبل دار نشر لا تمحص الاختيار للنشر ولا تتعنت مادام المؤلف سيدفع تكلفة النشر مسبقاً، ويتساوى في ذلك القادرون على التحبير والدفع مقدماً، رجالاً ونساء.
محلياً، يظل أمام المبدع والمبدعة السعوديين ـ والخليجيين في دولهم المعنية ـ خيار الاعتماد على تبني إبداعهما من قبل مؤسسة أدبية كالنوادي الأدبية مثلاً لطباعة ديوان أو مجموعة قصصية أو أي مؤلف آخر. وهو خيار لا يخلو من مطباته الخاصة، ويعتمد إلى حد بعيد على العلاقات العامة والمعرفة الشخصية بين المؤلف ومسؤولي المؤسسة. ولأن المرأة في السعودية لا تواصل شخصي مباشر بينها وبين أي مؤسسة أدبية، فالأمر في حالة المرأة يتطلب حلقة أخرى أي وجود من يعرفها شخصياً وله صلة بالمؤسسة الداعمة. ثم بعد ذلك تبقى مشاكل الاشراف على الطباعة والاخراج بصورة ترضي صاحب المؤلف ولا ترهق الجهة الداعمة. ويظل قلة بين المبدعين والمبدعات من هو قادر على تبني طبع ونشر إبداعه شخصياً دون أن يأتي ذلك تحت مظلة ما. ولذلك ظلت معظم الإنجازات في صورة مخطوطات متناثرة لإبداعات أو مؤلفات دون أن ترى النور ونصوص لا تتعدى حدود النشر في الصحف المحلية والمطبوعات الدورية. والأفضل منهم نوعياً قد يجد الطريق إلى النشر عربياً في المطبوعات الأدبية المتخصصة والدوريات وهذا بالتالي حصر غالبية الأدباء الخليجيين والسعوديين، رجالاً ونساء، ممن لا تواصل شخصياً بينهم وبين الساحة الأدبية خارج الحدود، عموماً في الدائرة المحلية حيث لا تصل ابداعاتهم إلى خارج الصحف المحلية وتوزيع الكتب محلياً. أو إلى اطلاع النخبة المتخصصة المتابعة للمطبوعات الأدبية المحدودة في العالم العربي.
ولكن المبدعة الخليجية، ومؤخراً السعودية، تحظى باهتمام أكبر من قبل الناشرين والنقاد العرب من أخيها، أسباب تتعلق أكثر بالمردود وقوة جذب القارىء للمتابعة والشراء، منها بتميز الانجاز المعني بالأمر، إذ مازال الوضع محلياً وعربياً أن أي امرأة من الجزيرة العربية تجرؤ على النطق والجهر والتعبير عن الزوايا الساكنة، هي حالة غريبة تلفت الانتباه ـ خاصة لو جاءت من الجرأة والتهور أو التهافت على اجتذاب الضوء فقررت أن تختصر الطريق وتخرق الحواجز وتعبّر مباشرة عما يثير الاهتمام القرائي ـ لا الأدبي ـ بالدرجة الأولى، أي ما يتعلق بموضوع الانفعال العاطفي والجسدي عند الأنثى.. هذا الموضوع الممنوع مجتمعياً والجاذب جداً للاهتمام.
يأتي هنا سؤال قد لا نستطيع إجابته بتكامل في محدودية مساحة الطرح.. ولكنه سؤال مهم يتكرر طرحه أمام الأديبة والناقدة بالذات وربما أمام الناقد بصفته مختصاً بتحليل محتوى النصوص.
كيف يقيم الابداع؟.. تلذذاً بالنص؟، أو إعجاباً بالمحتوى الفكري جدّة؟ أو غرابة؟ أو مواكبة لما يستجد على ساحة الابداع والنقد العالمي، الغربي منه بالذات؟، أو موجهاً لشخص الكاتب أو الكاتبة وعلاقة الذاتي بالأدبي؟
وهل هناك صحة لتصنيف الابداع نسائياً وليس هناك في مقابل ذلك تصنيف رجالي؟، وهل يعالج هذه الإشكالية تصنيف يقسم الابداع إلى انثوي وذكوري؟ بناء على موقف الكاتب أو الكاتبة من موقع المرأة والرجل في معادلة التكامل الوجودي أو السيطرة المجتمعية؟.. أو هو تصنيف لمحتوى النصوص من حيث التوجه لخدمة قضية المرأة في مقابل السيطرة الذكورية، أو بالعكس إبقاء الوضع السائد من حيث تفضيل موقع الرجل على موقع المرأة في معادلات العلاقات الأسرية والمجتمعية..؟ وبذلك قد يكتب النص النسوي رجل.. وقد تكتب النص الذكوري امرأة. أليست ظاهرة التنظير هذه، حول تقسيم الأدب نسائياً ورجالياً أو نسوياً وذكورياً، اهتماماً جاء إلى الساحة العربية وبالتالي المحلية، مستقى مما نحتذيه دون تمييز من تيار اهتمامات الساحة العالمية الغربية.. وقد كانت الحركات النسوية التوجه «الفمينيزم»، أحد أهم محركات الساحة هناك ـ الاجتماعية كلها وليس الأدبية فقط ـ منذ الستينات؟ بل تعود الجذور هناك، في تداخل أوضاع الإبداع الأدبي النسائي، والنظرة المجتمعية المعاصرة لنشاط المرأة ككل إلى ما قبل ذلك بكثير منذ كتابات جورج صاند في فرنسا، وفرجينيا وولف في الولايات المتحدة.
كان محتوى إبداع المرأة هناك يمشي يداً بيد مع تساؤلات وإشكالات أوضاعها الاجتماعية الخاصة. فهل هذه العلاقة موجودة اليوم في ابداع المرأة العربية ككل؟.. في إبداع المرأة في الجزيرة والخليج؟.. أم ان طرق بعض المواضيع يأتي من باب التقليد السطحي فقط؟ من باب الرغبة في الظهور؟ من باب الرغبة في استقطاب انتباه الساحة الخارجية؟ من باب استقطاب الدعم من الحركات النسوية؟ كل هذه الاحتمالات وارد وموجود وممكن كتفسير عام.
الابداع والصدق
كم هو مقدار الابداع أو الصدق في التعبير فيما يطرح على الساحة من كتابة المرأة أو أدب النساء؟ وكيف نقيم الابداع من المساهمة في اجترار السائد؟
أقول ـ بغض النظر عن التصنيفات الجاهزة والمبسطة والملتبسة ـ: الابداع هو كل ما عبر بصدق عن المشاعر الانفعالية الحقيقية سواء كانت مشاعر الفرد أو المجتمع الذي يرسمه ذلك الفرد.. رجلاً أو امرأة. على ألا يثير الابداع تحت أي مبرر نزعات مرضية من تلذذ بالقبيح من الأفعال أو اللغة أو المحرمات. ولا يحلل ذلك التوجه أن هذا القبيح هو أيضاً وجه من وجوه الواقع. لأن علاقة الابداع بالواقع هي علاقة الحوار الذاتي مع الجوهري من مؤثرات الوجود الخارجي وإتاحة الفرصة للمتلقي أن يصغي لهذا الحوار الحي مما لا يتاح له أن يقاربه إلا عبر شفافية التعبير الأدبي الذي يمتلكه المبدع كموهبة فطرية.
لابد في الابداع الحي من صفة الصدق في التعبير، وعدم التكلف في الأسلوب أو الموضوع.. وشرط الصدق لا يتوفر في حالة إلغاء الخصوصية الوجودية قصداً.. وللمرأة خصوصية لا يمكن تجاهلها سواء ظلت خصوصية محايدة، أو ايجابية كما هي في استعدادها الطبيعي لدور للأمومة، أو غير محايدة بمعنى سلبية التأثير كما هي الحال في النظرة إلى جاذبيتها الجنسية الطبيعية، من حيث أنها تاريخنا جلبت على الأنثى البشرية لعنة التعسفات ضد الجنس الأنثوي كله حكماً على ضعف الرجل أمام هذه الجاذبية، رغم إقرار المجتمع بدورها، أي الجاذبية، الجوهري لحكمة استمرارية الوجود البشري ككل. وللمرأة، بما في ذلك المرأة المبدعة، في أي مجتمع بعينه ميراثها المجتمعي، سواء رضت عنه، أم رفضت التصنيفات المجتمعية المتوارثة فيما يتعلق بموقع الأنثى فيه.. فهي في مجتمعات بدائية ربة معبودة للخصب أو الجمال كعشتار وأفروديت والعزى آلهة الجزيرة في الجاهلية، أو قرينة للشيطان والموت كالإلهة كالي الهندية، وهي في مجتمع الجدب الموسمي والغزو مصدر تخوف من الإذلال عند الحرب أو الغزو من أعداء، وهي في مجتمع اليهود المتطرفين مسبب للنجاسة والتلوث، وهي في مجتمع الغرب المستجد مصدر لذة جنسية مباحة برضاها. كل هذا يعني أن لكل امرأة مبدعة تجربتها الخاصة في تذوق علاقتها بذاتها وبالرجل في مجتمعها، عبر شبكة التصنيفات والتعاملات المسموح بها أو الممنوعة في ذلك المجتمع بالذات. ولأن لكل امرأة انفعالاتها الخاصة بوجودها الخاص كما لها أحاسيسها الأنثوية المشتركة، وتفاعلات مجتمع عام، كان لابد أن يكون لها لغتها الخاصة للتعبير عن هذه التجربة بكل تفردها وتداخلاتها.
وقد يكون صحيحاً أن المرأة بدئاً اضطرت إلى تبني لغة الرجل ومنطلقاته في الكتابة لتحصل على الإذن بالكتابة وعلى التقبل لما تكتب، خاصة لأن الثقافة ومهارات القراءة والكتابة كانت مجالاً يحتكره الرجل ولا تعبر أسواره المرأة إلا كحالة فردية غير اعتيادية، ولو استخدمت غير لغة الرجل ومعتمداته الفكرية وتمردت على أطره وحدوده منذ البدء، لما وجدت قارئاً ولأوقفت عن الكتابة حالاً. إلا أن الوضع اليوم قد اختلف عالمياً، وحان أن يكون هناك ابداع نسائي يستخدم لغة فردية خاصة تختلف ليس فقط عن لغة الرجل بل تتميز أيضاً بين مبدعة ومبدعة. وعلى المبدعة في الجزيرة والخليج أن تجد لغتها التي تعبر عنها وعن خصوصيتها وإحساساتها بصدق لكي تستحق أن تصنف مبدعة لا مجرد حاملة قلم متمكنة من مهارات الكتابة الميكانيكية أو تقليد الآخرين. ولذا إن بحثنا عن الابداع الصادق سنلامس شيئاً من شمم الجبال في كتابات مبدعة من عسير مثلما سنتذوق رطب العذوق في رواية امرأة نجدية، وتستوقفنا أطياف الدان وأحلام الغوص في شعر امرأة من سواحل الخليج.. وقد تعبر قاصة أو شاعرة من أي موقع في الجزيرة عن انفعالها بالحدث السياسي في الوطن العربي الكبير من المحيط إلى الخليج.. ثم كلهن يعبرن عن عشق رجل ما طيّب أو ظلوم، قريب الوصال أم متعذر في هجرة بعيدة.. ويشكون رجلاً ما، أباً أو أخاً أو زوجاً أو محبوباً أو عاشقاً مرفوضاً ينسى أن لها روحاً تعاني مثله. وقد لا يختلفن في هذا الذي يجمعهن عن أي مبدعة عربية إلا في تفاصيل الحياة اليومية في مدن وقرى قد تتسرب أسماؤها في الروايات والقصائد والقصص.
ولكنك لا تتوقع أن تجد إباحية تتلذذ بالولوع في وصف اختلاجات الجسد مجرداً من العاطفة مثلما هي سائدة في الكتابات الغربية ـ وهي هناك صادقة في تعبيرها عن المعاش ـ!. فكون المبدعة خليجية أو سعودية بالذات يضيف معطى آخر في تكوين وخلفية وخصوصية هذه المبدعة بيئياً يمتزج بلاشك بمكوناتها الأخرى لتتضح خصوصية لغتها أسلوباً ومحتوى وترميزاً. ـ إذ أن أحد جوانب هذه الخصوصية هي الآنفة والاعتزاز اللذان عرفتهما جداتنا البدويات وأجدادنا العذريون، لا تقارب ولا تجيز، حتى في أوضاع اليوم، الإنفلات الخلقي المقصود ثم تسمح أيضاً بالاحتفاظ بصدق الانتماء الكامل.. وحين يأتي ذلك في تعابير أديبة من هذه المنطقة اليوم فهو دليل على اهتراء معالم الخصوصية المجتمعية، وسطحية الخصوصية الفردية إذ يأتي التعبير الإبداعي ملتصقاً بتفاصيل الحياة في مجتمع آخر غريب، أو مجتمع فردي منفصم لا تعيشه المبدعة في وضح النهار.
ترسبات الرؤية العامة لصوت المرأة
وهذا يحملنا إلى خصوصية أخرى للساحة المحلية، ذات تأثير لا يمكن أن نتجاهله في هذا الاستعراض السريع، وهي ترسبات الرؤية العامة لصوت المرأة كصوت يختلف في شرعيته ومرجعيته وموقعه من حرية التعبير عن صوت الرجل.. ويفيض ذلك حتى على الصوت مكتوباً. هل تعبر المرأة بصدق حين ترسم أوضاعاً تتمرد على هذا الواقع؟ أم هي تعبر بصدق حين ترسم مدى ضغوط موقعها الفعلي ضمن هذا الواقع؟ ثم ما هو حقاً واقع المرأة في خصوصيتها العربية، بما في ذلك الأديبة والمبدعة؟. في الجزيرة، وبصورة أوضح تعيها المرأة الكاتبة دون أي التباس، مازالت هناك حساسية شديدة في التعامل مع صوت المرأة (مثلما هي موجودة في كل ما يتعلق بها في إطار إشكالية تحديد موقعها بين الملكية الخاصة أو الحقوق الأوسع). ولذلك مازال هناك تضارب وازدواجية في النظرة العامة لصوت المرأة.. نعتز به مثالياً ووعظياً ويتوجس منه المجتمع حين يتطرق للذاتية والصراحة والتساؤل عن مرجعية الأوضاع القائمة. وفي حين أن الخطابات الوعظية ـ حتى لو علت وأوجعت ـ لا تتطلب أكثر من قدرة التعبير عن مثاليات المجتمع المعترف بها والمتفق عليها، بغض النظر عن جوانب الرياء والنفاق في تعاملاته، فإن الإبداع لا يمكن أن يدعى إبداعاً إذا لم يأت من منطلق الصدق الخاص للمشاعر والانفعالات الفردية والجماعية، سواء تقبلت أو تعارضت مع الأعراف الرسمية. والمشاعر الفردية وردود الفعل نحو نفس المواقف، ليست واحدة. ولذلك فالصوت الإبداعي معرض للرفض، بل وحتى للمقاومة النشطة ومحاولة الكبح والتكميم متى تخلى عن النبرة المنادية بالمثاليات.. وقد تقبل النبرة الفردية العاطفية من المرأة عشقاً ورثاء وشكوى باللغة الشعبية ويعترف بها شاعرة مبدعة، ولكن شاعرة الفصحى وكاتبة القصة والرواية مصنفة أيضاً بأنها امرأة مثقفة، وهي بذلك موضع التشكك ومواجهة تهمة احتضان الرغبة في تغيير الأوضاع، ومطالبة أن تثبت براءتها وأن تلجم محتوى ما تقول بحيث لا ينفذ واضحاً إلا ما هو مثالي ومقبول مجتمعياً. ولذلك جاءت اللغة الأنثوية الإبداعية ملتجئة إلى دعم الثقافة الفردية لتستطيع النفاذ عبر الحصار والتعبير بالرمز والأسطورة للإفلات من قبضة التحفظ على صوت المرأة إذا انطلق معبراً عن الانفعالات البشرية، الانثوية بالذات، لا عن المثاليات المجتمعية.
ورغم اعتزازنا الظاهري كلنا عربياً، بالمبدعات العربيات من جداتنا منذ الجاهلية وحتى عصور النهضة الاسلامية، وأغلبهن جذورهن في الجزيرة بما في ذلك الخنساء وجليلة بنت مرة وبنات الخلفاء، إلا أن بنت الجزيرة اليوم قد تكون الأخفت صوتاً بين اخواتها المبدعات العربيات. ولأن الجزيرة أحدث المجتمعات العربية بحركة تطوير المجتمع الحديث وتنويره ثقافياً، مازالت هناك موهوبات مغلقة أمامهن شرفات التعبير وبوابات النشر لأن الصدق في التعبير ابتلاء لا يتيح لها تجاهل معاناتها الخاصة لتعبر فقط عن المعاناة العامة.
ولكن الوضع يسمح بالتفاؤل وبصورة واضحة: فالدعم الرسمي يقف في صف المرأة ويطالب بزيادة مساهمتها في كل المجالات بعد أن وقف راسخاً وراء نشر تعليمها وتثقيفها كمسؤولية الدولة خلال العقود الماضية منذ ابتدأ التعليم الرسمي النظامي.. وكلمة المرأة تجد طريقها‎غلى اعتبار صانعي القرار من المسؤولين حتى ولو لم تصل هي بعد إلى مقعد رسمي في المجالس العليا، يكفي أن نقول أن المرأة قد تعدت أسوار السرية التي كانت حتى وقت قريب تجعل المرأة في الجزيرة وكل ما يتعلق بخصوصية تعبيرها عن مشاعرها ضمن ما يسري عليه قانون العيب. ثم ليس بعيداً في الزمن أن المرأة العربية في كل الأقطار عاشت ذات الأوضاع من التعتيم والتهميش والمصادرة للخصوصية الابداعية، وذات الإحباطات، ورغم كل المسافة الثقافية التي قطعناها عربياً منذ مطلع القرن مازال صوت المرأة وتعبيرها مضطر إلى التحفظ على نبراته، وإلى مسايرة الرأي العام.
عطاء المرأة مستقبل واعد
كيف إذن الصورة النهائية اليوم من حيث علاقة الساحة بالمبدعة السعودية وعطاءاتها؟ رغم كل ما يبدو للنظرة الأولى تراكماً محبطاً من ترسبات الماضي القريب وتأثير التدخلات المجتمعية، أستطيع أن أجزم أننا اليوم نحصد عطاء متنوعاً لم يكن من الممكن أن يرى النور بالأمس القريب.. وأن اليوم حافل بإرهاصات غدٍ واعد بالمزيد من عطاءات المرأة وإبداعاتها.. ويملؤني التفاؤل أن الميزان سيعود إلى التوازن معتدلاً بين دافعين نفسيين طاغيين ومتعارضين مازالا يصطدمان بعنف، الرغبة في عدم إثارة تخوفات المجتمع أو تحريك أمواج المعارضة المتخوفة من أي تغيير خاصة فيما يتعلق بموقع المرأة المتعارف عليه، والإيمان المتنامي بضرورة مواكبة العصر، وتفعيل طاقات المرأة مع اعتبار خصوصيتها. وأستطيع أن أقول بأن القادم أفضل وأن المجالات تتسع والأبواب تفتح بل ستشرع واسعة أمام عطاء المرأة.. يحدوني لتأكيد ذلك ما أراه من تكثيف تشجيع مشاركة المرأة في كل المجالات وبدعم رسمي مقنن ومحسوب النتائج.
أوضح هنا أن صوت المرأة المثقفة القادرة على التعبير، بكل منافذه، إبداعياً، أو تنوير المجتمع أو اقناعه بصورة مباشرة أو غير مباشرة، يلعب دوراً محورياً له أهمية مصيرية، ليس فقط لتطوير معادلات المجتمع، بل لها هي وقريناتها على الدرب كمبدعات لهن الحق في التعبير الصادق وأن تشرع أمامهن أبواب المستقبل. وأهم تحد تواجهه الأصوات النسائية هو المواصلة والبقاء. وأضيف أن صوت المرأة ذاتها هو أكبر قوة داعمة أو محبطة للمزيد من عطاء المرأة.. كل إنجاز تقدمه إيجابي أو سلبي، يحسب لها أو عليها.. ولذلك فإن توخي العقلانية والتوازن راهناً مهم جداً قبل تحقيق البروز الشخصي بأي طريقة جاذبة للنظر. قد تجذب التصدي المعارض الذي ينادي بإيقاف أي خطوة في اتجاه يثير التوجس والحساسيات.
مهم جداً الدور الذي يلعبه الصوت النسائي الفاعل في تحريك الساحة نحو المزيد من التقبل للصوت النسائي، أو التباطؤ نحو تحجيمه وإطالة زمن خفوته. ولن أقول أن الوضع سيعود في أي وقت إلى اختفاء الصوت النسائي من الساحة فالزمن قد يتباطأ ولكنه لا يعود إلى الوراء. بل إن ملايين خريجات المدارس والمعاهد والكليات والجامعات السعودية، اللائي يمثلن نصف نتاج المؤسسات التعليمية السعودية ككل، يحملن بين صفوفهن مئات إن لم يكن آلاف الموهوبات اللواتي لابد أن يجدن موقعاً من الفعل والتعبير البناء في ساحة المستقبل. والمهم هو وعي هؤلاء الرائدات بأن توازن الخطى مطلوب لكي تستمر الخطوات..‎وأن أي حركة غوغائية أو نرجسية غير متعقلة قد تساهم في تبطيء مسيرة المشاركة. ويبقى على المرأة المثقفة والموهوبة أو تعي أهمية هذه النقطة في موقع اللحظة.
خارج هذه الخصوصية المجتمعية وحساسية التعبير ومحتواه، كيف هي ساحة الانجاز النسائي كموضوع أدبي بحت؟؟
لن أستطيع في هذه المساحة المحدودة تقديم رصد علمي كامل لكل العطاءات.. ولكني أستطيع أن أقول أن عندنا أصواتاً تتفاوت في خلفيتها الثقافية، ومدى قدرتها على التعبير وتمكنها من أدواتها أدباً وفناً.. ومدى انتشارها وظهورها على الساحة المحلية والعربية. وأستطيع أن أقول أن بعضها يتمتع بالطموح أكثر مما هو يتمتع بالموهبة، وأن بعضها قد يفيد من المزيد من التجربة والصقل، وأن بعضها واعد بالتميز، وأن بعضها تعدى حدود التواصل المحلي، فشاركن في معارض ومنتديات، وترجم ابداعهن وكُتبت عنه دراسات جادة، وسُجلت أسماؤهن في قوائم توثيقية ترصد المبدعات العربيات. من هؤلاء تأتي د. أمل شطا كرائدة في الرواية تبدع في رسم صورة شديدة الخصوصية المحلية، ورجاء عالم كروائية حداثية متميزة الأسلوب، وفوزية أبو خالد كشاعرة رائدة في قصيدة النثر منذ السبعينات، وهدى الدغفق تحفر لها طريقاً متفرداً في القصيدة النثرية مثلما تفعل لول بقشان وابتسام الباحوث، وفي القصيدة التفعيلية تتمتع خديجة العمري وأشجان هندي ولطيفة قاري بموقع الموهبة وعمق الانفعال وحداثة التعبير، وإن اختلفن في عمر الممارسة وعمق التجربة والتأثر بما يسود الساحة. وتمزج سلطانة السديري، فاطمة القرني الإيقاع الشعري الكلاسيكي بخصوصية المواضيع الأنثوية الإنفعال والتوهج. وتضيف د. ثريا العريض للقصيدة العربية بعداً ثقافياً ونفساً نسائياً ولغة عربية التوقد. وفي القصة القصيرة تأتي قائمة ممتدة ومتنامية، منها شريفة الشملان، وفوزية الجار الله، وفوزية البكر، ورقية الشبيب، وليلى الأحيدب، ونجوى هاشم، وقماشة السيف وأميمة الخميس، رائدات قصة قصيرة ذات خصوصية لغوية ورمزية ترتبط بالمرأة في الجزيرة قلباً وقالباً، وإن كانت لكل منهن لغتها وأسلوبها الأدبي الخاص فكلهن يمتحن من البيئة المحلية بأسلوب متطور متمكن من أدواته، ويمثلن دفعة رائدة تلتها موجة مكثفة من عشرات القاصات الواعدات أذكر منهن مثالاً لاحصراً، بدرية البشر، وفاطمة العتيبي، ونورة الغامدي، ووفاء الطيب، وفي الساحة الأدبية النقدية والبحثية هناك د. سعاد المانع وشقيقتها د. عزيزة المانع، وهناك فاطمة الوهيبي كناقدة طالعة واعدة بالتميز. أما في الترجمة من الأدب العالمي فلا يمكن إلا أن نذكر حصة ابراهيم العمار في ترجمة القصص القصيرة، ولولو بقشان في ترجمة الشعر.
وأجزم أنه من حيث النسب الكمية والتزايد العددي لا تختلف ساحتنا عن غيرها، إلا أن بعض الأصوات الموهوبة والواعدة تنطفئ بضغوط عائلية تمنعها من أن تنطلق إلى أقصى آفاق مداها الواعد، وأن كثيراً منها لا يصمد طويلاً في وجوه الضغوط الوضعية الخاصة بعد الزواج والأمومة، وكثيراً من الصامدات يتشتت عطاؤهن في مجالات شتى للكلمة المكتوبة فتعرف ككاتبة مقالة أو إعلامية أكثر مما يعرف الجانب الابداعي فيها ككاتبة قصة أو كشاعرة مثلاً، وأذكر هنا د، فاتنة شاكر، ود. خيرية السقاف، وانتصار العقيل، كما‎أذكر سامية عطا الله، وأمجاد محمود رضا، ومريم الغامدي، ودلال ضياء، وهداية درويش، ونوال بخش، اللواتي خطفتهن الالتزامات المهنية في ساحة الصحافة والاعلام من ساحة الابداع الأدبي.
وأستطيع أن أقول أن نسبة المتميزات من حاملات القلم، قلة بين الطامحات والراغبات. وأقل من ذلك من يتمتعن بالموهبة الحقيقية ولا يحملن الرغبة النرجسية في الانتشار السريع كنجوم منفردة. ومثل كل الساحات تعاني ساحتنا المحلية من صراعات النجومية ورغبة الاستئثار بالأضواء المركزة.
وهو وضع يتفاقم بعدم قدرة المساهمة في نشاط الساحة، جذرياً أو هامشياً لا يهم، على النظر في عطائها الخاص بنظرة متجردة تقيمه بصورة حيادية، ناضجة، وخارج إطار التولّه بالذات الذي يضخم الطموحات إلى حجم غير واقعي التوقعات، مما يدفع الغالبية إلى البحث عن مصدر خارجي للتقييم، تعتمد عليه في الاعتراف بوجودها ومساهمتها ولتقييم موقعها. ولذلك تتأثر الصورة بمدى تلوث هذا الاعتراف الخارجي بدوافع أخرى.. من تبادل مصالح.. أو ارتقاء بالواسطة المشروطة.. أو بإقصاء الأخريات ليبدو الصوت الملمع أكثر لمعاناً. وعدا قلة المهتمين بالصوت النسائي الخليجي كظاهرة حديثة تستحق الدراسة والاهتمام والمتابعة والتشجيع، هناك ايضاً فئة المركزين على استعراض أي صوت نسائي في منطقة الجزيرة والخليج بغض النظر عن مستوى العطاء، لأسباب ودوافع فردية مادية، تتمثل في أن الساحة الثقافية المحلية متعطشة لهذه التغطيات، وكريمة العطاء لمن ينشر فيها.. وهي نظرة قاتلة تبيح احتلاب الساحة الثقافية الصحافية بعطاء نقدي مشبوه المرجعية والقدرة، وبنتائج تراكمية سلبية بالضبط، كما هي الحال مع نظرة دور النشر من نشر الإبداعات الضعيفة على نفقة أصحابها.
ثم ما يزيد الوضع تداخلاً في حالة الابداعات النسائية أن الساحة النقدية المحلية ـ وهي محدودة الفعل والعضوية ومترسخة الانقياد والتقليد للتيارات النقدية الخارجية عربياً وغربياً ـ مازالت هي الأخرى في عمومها محكومة بترسبات النظرة المجتمعية للصوت النسائي المحلي، والغالب أن يفضل الناقد المحلي الابتعاد عما يثير الحساسية المجتمعية والشبهات الفردية، وفي حالة التعامل مع المرأة بالذات يصل ذلك إلى حدود الصمت والمتابعة دون تعليق.. إلا إذا جاء التناول مبرراً بالتزام مهني واضح كقراءة نقدية متفق عليها مسبقاً‏ضمن ما يتناول محتوى ملحق ثقافي صحفي. هنا يشكر لملاحقنا الصحفية الأدبية والثقافية النشيطة ريادة في تقريب الابداع النسائي ضمن الابداع ككل من الأضواء النقدية. وخارج التزام الملاحق، قلة من نقادنا من يمتلكون الجرأة على ريادة النقد لابداع المرأة المحلية، وغالبيتهم تبتعد عن ملامسة عطاء المرأة خشية التعرض للاسقاطات السلبية، وتهمة التعامل من منطلق العلاقات الفردية بين الجنسين، فيكتفون بالاعجاب الصامت. وكفى الله المؤمنين شر القتال. ولذلك نجد نقصاً محزناً في تغطية إبداع الأديبة السعودية، تهمة العلاقات الفردية ومحاباة المعارف والأصدقاء والأقربين من المتطلعين والمتطلعات إلى رتبة تميز الابداع موجودة.. ولكنها نصف مبلوعة بين أفراد الجنس الواحد.. ومن الصعب أن تضاف إليها تهمة استغلال العلاقات النقدية لصداقات خاصة غير مقبولة في المجتمع بعد. والأسوأ أن هذا الوضع المحزن يترك مجال الدعم والإشادة مفتوحاً لقاصديه الهادفين فعلاً الاقتصار على دعم أصوات بعينها على أساس المعرفة الشخصية التي تجعل الأمر يستحق المجازفة بخوض خضم لا يقاربه من ليس له فيه مصلحة ذاتية.. بينما دعم أي صوت واعد دون معرفة شخصية لا يأتي إلا من قبل القلة من النقاد الذين يتمتعون فعلاً بنظرة علمية تركز على الإنجاز وليس على الشخوص. والساحة لا تعدم هؤلاء ولهم إضاءات نقدية تخفف من عتمة التداخلات.
كل هذا يحرم المتميزات فعلاً في الساحة الثقافية الأدبية والفنية من تغطية النقد الحيادي وإضاءاته. وقد يكون الأمل في الوقت القريب أن تبرز فئة من الناقدات الأدبيات والفنيات.. وأن تتجاوز بنضجها المهني واهتمامها الموضوعي، مشكلة التنافس الفردي بين المبدعات والناقدات.
والأمل الأجدر بالثقافة أن تصل الأصوات المتميزة من الجنسين، والإبداعات المؤهلة للملاحظة إلى معرفة نقاد الساحة العربية الأكبر وحتى العالمية حيث لا يصح إلا الصحيح، ولا تحيز يئد إبداع من ليس له أو لها سند غير القلم أو الريشة.
ويبقى أن الامتحان الأخير هو امتحان الزمن..
كم سيبقى مما يطرح على الساحة وتحتفل به الملاحق، إما لمعرفة شخصية تعطيه حجماً أكبر من حجمه وتحيطه بهالة من الأضواء وتكسوه ثوباً فضفاضاً.. أو فقط لأن الساحة الصحافية تعاني من سغب دائم ولا يمكن أن تكتفي احتياجاتها للنشر بإبداعات المتميزين والمتميزات؟.
وكم من الابداعات المتميزة نوعياً يمر الآن بصمت، كما مرت لوحات كثير من المبدعين العالميين أدباً وفناً قبل أن يعاد اكتشافها وانتشارها بعد غياب الأسماء التي أبدعتها في غياهب الأرض؟.
وكم من النصوص المرفوضة الآن سيكتب له البقاء والعبور إلى ذاكرة التراث الثقافي كإنجازات تميز هذه الحقبة من الزمن التي نعيشها رغم التجاهل المقصود أو التهميش غير المقصود لها من هذه الفئة أو تلك؟
أسئلة تراود المتابع للساحة وتداخلاتها.. وإجابات قادمة لا محالة.. في مستقبل قريب أو بعيد.. يبقى المبدع الحقيقي والمبدعة الحقيقية ينتظرانه في ثقة.

الجوهرة العنقري
إن الواقع الراهن لما يعيشه مجتمعنا في المملكة العربية السعودية والذي يرتبط إرتباطاً مباشراً وممتداً لما تعيشه بقية المجتمعات العربية والاسلامية والعالمية.. من متغيرات وتحديات فكرية، واقتصادية، وسياسية واجتماعية يجبر كافة المجتمعات للتفاعل والتحرك بايجابية كمحاولات يمليها ويدفع إليها الواجب الديني، والوطني والانساني.
والمملكة العربية السعودية، لعلها تكون أكثر حرصاً على مواجهة هذه التحديات لتميزها الديني، ففيها قبلة المسلمين، علاوة على موقعها الجغرافي في قلب العالم العربي، وأهميتها الاقتصادية والسياسية يفرض عليها كدولة أن تسخر طاقاتها وامكانياتها المختلفة لأداء دور متميز أيضاً.
ومنذ اكتشاف النفط.. وتوفر الامكانيات المادية حرصت المملكة على توفير الإمكانات البشرية علماً وتأهيلاً.
وأولت اهتماماً كبيراً بالتعليم.. وابتعثت الطالبات والطلبة للخارج للحصول على شهادات عليا في تخصصات مختلفة.. وأنشأت الكليات والجامعات في المدن الرئيسية، كما فتحت فروع في مختلف المناطق لاتاحة الفرص أمام أعداد أكبر للتحصيل الجامعي والتعليم العالي.
علاوةً على ذلك ومع توفر وسائل الاعلام المختلفة، ووصول الكلمة المقروءة عبر الصحف والمجلات لكل مدينة وقرية ونتيجة لما سبق ارتفع منسوب الوعي لدى المواطن السعودي بكل القضايا الخاصة والعامة، وبدأت مشاركته في النقد والتوجيه ولفت النظر لمختلف الظواهر الاجتماعية والاقتصادية...‎الخ.
كما أننا لا ننسى ما للقنوات الفضائية العالمية والعربية الاخبارية والثقافية، ومنذ حرب الخليج من تأثير في سرعة وصول المعلومة، ومواكبة الحدث العالمي، والاسلامي والعربي. كل هذا أدى إلى اثراء معلومات المواطن السعودي عما يدور حوله، وسهل للمختصين في مختلف المجالات الاطلاع ومن ثم التحليل، ونشر ذلك في الصحف والمجلات أو في اصدارات مطبوعة، بالاضافة لما يقام من خلال الأندية الأدبية، ومهرجان الجنادرية من ندوات ومحاضرات متخصصة.
وان مجرد مراجعة ما ينشر في الصحف السعودية من تحليلات سياسية واقتصادية واجتماعية، نقدية وتوجيهية يؤكد أن المستوى الثقافي العام في المملكة من حيث اهتماماته بالقضايا المتعلقة بالمواطن وقضايا الأمة بشكل عام وصلت لمستوى بالامكان وصفه بالجيد مقارنة بالحقبة الزمنية التي عاشتها من البداية وحتى الآن ولكن مازال أمامه الكثير...
وعندما بدأ التعليم النظامي للبنات في المملكة، وفتحت المدارس في مختلف المناطق.. في عهد الملك سعود ثم الملك فيصل... جوبهت بالرفض من منطلق نظرة متخلفة بعيدة من الاسلام، ولكنها منبثقة عن عادات وتقاليد تفضل بقاء المرأة في حدود الزواج والانجاب فقط. ولم تكد تمضي فترة زمنية.. إلا وطالب الكثير بزيارة عدد المدارس للبنات.. بعد اقتناعهم بالدور الايجابي الذي من الممكن أن تؤديه المرأة المتعلمة نحو نفسها، وأسرتها ومجتمعها.. وخلال الأربعون عاماً الماضية.. تخرج أعداد كبيرة من الحاصلات على الشهادات الجامعية العليا سواء من خارج المملكة أو من الكليات والجامعات داخلها.. وبدأت مشاركة المرأة الايجابية في مختلف المجالات الوظيفية، والتطوعية.
وبدأت مساهماتها في الحركة الثقافية نتيجة لوصولها لمستوى من الوعي بكل ما يدور حولها من قضايا تخص المواطن، والأمة بشكل عام.
ورغم أن الطريق الذي سلكته المرأة السعودية لم يكن ممهداً منذ بدايته، إلا أنها حفرت وعبدت طريقها بيديها.. حيث كانت تجابه بوعورة بعض الأفكار المتعنتة عند بعض الأسر وبعض فئات المجتمع... إلا أنها في النهاية أثبتت جدارتها العلمية وكفاءتها العملية، وكسبت إقتناع الجميع بأهميتها كعضو فاعل في المجتمع له حقوقه وعليه واجبات وطنية عليه تأديتها.
وبعد أن كانت مشاركتها الثقافية موقعة بأسماء مستعارة.. ومحدودة.. أصبحت اليوم على خط واحد مع الرجل في عطاءه الفكري. فهي أستاذة في الجامعة، طبيبة، معلمة، اخصائية اجتماعية، إدارية، ممرضة، أديبة، كاتبة، مهندسة، تاجرة، وحتى أنها برعت في مجال الفنون اليدوية باختلاف أنواعها، واستخدمت الكمبيوتر في كثير من القطاعات النسائية. وإذا كانت الثقافة هي محصلة المظاهر الحياتية والأنشطة العملية التي يعيشها الانسان في مجتمعه ويمارسها بحرية.. فأستطيع القول أن المرأة السعودية، وبدعم من الدولة التي لاشك أنها سهلت أمامها كثيرة من العقبات ووقفت بجانبها، دعامة تحقيق دور المرأة في المسيرة الحضارية للمملكة، رغم عمرها القصير.
المرأة السعودية.. خطت خطوات حثيثة وثابتة وأصبح لها وجود.. مؤثر حتى في الناحية الاقتصادية فبعد أن كان هدفها من العمل ملء الفراغ في حياتها أصبح اليوم عملها حاجةً اقتصادية داعمة لأسرتها ومجتمعها. ومن خلال معرفتها ووعيها بهذا الدور واقتناع المجتمع به.. وجد صوت المرأة صدى ايجابياً على مختلف الأصعدة، ونظرةً على ما تطرحه المرأة من قضايا في الصحف يؤكد ذلك.
هذه الثقة المنبثقة والمدعومة من وصول المرأة علمياً وعملياً.. دفعها للمشاركة في الحركة الثقافية، ووجدت في نفسها الجرأة للمطالبة بحقها في صنع القرار.. والمشاركة في مجلس الشورى عبر لجان منبثقة عنه. وتجد ولله الحد آذاناً صاغية، وهذا يؤكد النقلة الكبيرة خلال الأربعين عاماً الماضية.. فبعد رفض التعليم.. أصبحت الآن قوة داعمة في مجالات لم تكون في حسبانها. ومازال أمامها الكثير! ولكنها في الطريق الصحيح، لتحقيق تكامل ذاتها.. كيانها.. قدراتها.. ومع زيادة الفرص ولو بشكل تدريجي قد يراه البعض بطيئاً نوعاً ما.. إلا أننا لا يجب ألا نغفل عن أن المجتمع السعودي يعتبر حديث الولادة مقارنة بغيره.. من حيث الامكانات المادية والبشرية.. وانفتاحه على العالم الخارجي.. وبتركيبته الخاصة جداً.. تستوجب الحرص في الاختيار لتقليل نسبة السلبيات الناتجة عن التغيير.

الدكتورة حياة البسَّام
بالنسبة لدور المرأة في مشاركة الرجل لتفعيل الأنشطة الثقافية العامة في المملكة فهو ضعيف ذلك لانها لم تعط الفرصة المناسبة التي أعطيت للرجل فلو أتيحت لها تلك الفرصة لكان عطاءها عظيماً وذو دور فعال فهي تمثل النصف الآخر للمجتمع. أي أنها تغرس ثقافة العصر وعلمه في الجيل الجديد من الطرفين سواءً رجل أو امرأة.
هنا يتضح لنا أن دورها عظيم وعطاءها أعظم ولكن في وقتنا الحالي لم تعطَ الفرصة المناسبة.
أما بالنسبة لعطاء الكاتبات السعوديات فبالرغم من العقبات التي تحاول عرقلة سير هذا العطاء إلا أنه برز وكان له دور فعال ومازال يعطى الكثير وسيعطي لو أتيحت له الفرصة التي أتيحت للكاتب الرجل.
أما بالنسبة لغزو الفضائيات لأجواء أسرتنا ومنازلنا فإن هذا الغزو حسب ما يوجه له إن كان خيراً فخير وإن كان شراً فشر، فلو أحسن استعماله واختيرت البرامج الهادفة المفيدة التي تزيد من ثقافة الفرد سواءً طفلاً أم كبيراً‏وكذلك وجهت الأنظار إلى قراءة بعض الكتب التي تساعد في نمو العقل الانساني فهي مثل الكتاب فالكتاب هو الآخر سلاح ذو حدين فلو كتب به شراً فهو شر وإن كتب به خيراً فهو خير.
أما كونها تمحي ما تبقى لنا من عادات وتقاليد فإن ذلك إجحافاً في حقها، فكما قلت لو أن العادات والتقاليد صيغت بأسلوب العصر الحالي وبُثت من خلال الفضائيات على هيئة مسلسلات تدعو إلى تثبيت هذه القيم ولا أقول كل العادات ولكن بعض العادات لأن بعض العادات السابقة لها مردود سيء على الفرد فمن واجب الفضائيات تبيان ما هو حسن وما هو سيء، أما عن ثقافة الطالبة السعودية ومسؤولية التعليم وصالات المدرجات الجامعية في المملكة فأقول إن الطالبة السعودية ولله الحمد تتمتع بروح ثقافية عالية رغم أن ما أعطي لها من إمكانات في الجامعات فإنها استطاعت أن تصل إلى أعلى الدرجات العلمية ولكن أود أن أوضح بعض الظواهر التي انتشرت في عدد من المدرجات الجامعية ربما يؤشر على ثقافة الطالبة وتحصيلها العلمي، فالمدرجات الجامعية أخذت تكتظ بعدد كبير من الطالبات وواجه ذلك نقص في أعضاء هيئة التدريس، فطبيعي سيكون مردود ذلك غير حسن على تحصيل الطالبة لأن روح المناقشة والجدال والحوار سيكون مفقوداً فالمدّرس الجامعي في هذه الحالة لا يستطيع أن يدير حواراً مع مئات الطالبات ولكن ولله الحمد جامعاتنا تسعى للقضاء على هذه المشكلة رغم الإمكانات القليلة والضعيفة بالنسبة للطالبات ـ ولا أقول الطلبة ـ إلا أنها تحاول جاهدة إكمال رسالتها على أكمل وجه، أما عن شخصية الفتاة السعودية فهي ولله الحمد تعتبر من خيرة فتيات هذا الزمان وذلك عائد إلى تمسكها بدينها وتقاليدها الحسنة منها التي ورثتها من المنزل.
أما عن اهتماماتها وتطلعاتها فهي تصبو دائماً إلى الأحسن وتسيّر عجلة التقدم على أكمل وجه فها هي الجامعات السبع فتحت المجال أمام جميع الطالبات الراغبات في الالتحاق بالتعليم الجامعي ولكن يجب أن تلاحظ الفتاة السعودية أن كل انسان له قدرات يتوقف العقل عنها وليس كل من نال شهادة الثانوية العامة يستطيع أن يلتحق بالجامعة ولكن نتمنى أن تفتح أمام هؤلاء فرص أخرى غير أبواب الجامعة وهي معاهد تكميلية كمعاهد السكرتارية وأمينات المكتبات وغيرها.

الدكتورة عزيزة المانع
1ـ هناك نشاط بارز في بعض منها وخمود في البعض الآخر، وأعتقد أن من الظلم أن نحكم على المؤسسات الثقافية حكماً جماعياً، فليس الحديث عن الصحافة مثل الحديث عن دور النشر، أو عن المكتبات، أو عن جمعيات الفنون، أو النوادي الأدبية، فكل واحدة من هذه المؤسسات لها حديث خاص ووضع متفرد ولا يمكن الحكم عليها جميعها بشكل واحد.
2ـ إذا نظرنا إلى ضيق المجال الذي تتحرك في داخله المرأة، مقارنة بما للرجل من سعة وحرية، وجدنا أن مشاركة المرأة في تنشيط الحركة الثقافية عامة تعد مشاركة فعالة متى ما قورنت بمشاركة الرجل، الذي يفترض فيه أنه يتمتع بظروف اجتماعية أفضل من المرأة تعينه على التفوق في الانتاج الثقافي وتتيح له فرصة السبق.
أما بالنسبة لمستوى جودة ما تقدمه الكاتبة من انتاج فكري، فإني أراه في ضوءين: أحدهما ضوء مقارنته بانتاج الرجل، والآخر ضوء مقارنته بالانتاج العربي أو العالمي. في الحالة الأولى أجد أن الانتاج الفكري للمرأة في جودته يضاهي ما يقدمه الرجل سواء في الجانب الأكاديمي أو الجانب الأدبي. بل اننا لا نملك إلا أن نعجب بما تفعله المرأة متى ما تذكرنا قرب تاريخ دخول المرأة السعودية لعالم التعليم والاطلاع.
أما في الحالة الثانية، وهي مستوى الانتاج الفكري النسائي مقارنة بغيره من الانتاج العربي أو العالمي، فأظنه لايزال يسير وئيداً، حاله حال الانتاج الفكري للرجال في مجتمعهن، وقد يعود ذلك إلى أسباب ثقافية وفكرية تتصل بطبيعة الوضع الاجتماعي نفسه وتعم الجنسين معاً.
3ـ الوعي التربوي لدى المواطنين عامة منخفض جداً مع الأسف، فرغم كثرة المثقفين والمتعلمين نجد أن الوعي التربوي يختفي عند الكثيرين منهم، فالتربية لا تؤخذ مأخذاً جاداً كعلم يكتسب ومهارة تحتاج إلى التدريب، وانما ينظر إليها من الأغلبية كشيء فطري وتلقائي يدركه الفرد بإحساسه العفوي، فإن اراد الاجتهاد أضاف شيئاً من خبراته المكتسبة وراثياً عن طريق ما تعلمه من آبائه. ولافتقاد الخبرة المطلوبة والثقافة التربوية الصحيحة، فإن الأغلبية يجهلون كيف يتعاملون بالأسلوب السليم مع أولادهم، في هذا العصر الذي اكتظ بالمتناقضات وتزاحمت فيه الأضداد، وأصبحت تتنازع الإنسان جوانب عدة واتجاهات مختلفة، فلا يجد الفتى أو الفتاة سوى التخبط والضياع، عندما لا يكون هناك من هو كفؤ لقيادته إلى الطريق الصحيح عبر هذا الخضم المتلاطم الأفكار والنزعات.
4ـ من خلال قاعات التعليم التي أرتادها يومياً، يؤسفني أن أجد المستوى العام لثقافة الفتيات ليس على المستوى الذي نرجو لهن، وهو ليس أمراً خاصاً بالفتيات، إذ كما يبدو هو شيء منتشر بين الشباب من الجنسين، فهناك شيء من الانغلاق الفكري والقصور الثقافي، حيث يوجه كثير من الشباب اهتمامهم إلى أمور سطحية ليست بذات قيمة تشغلهم عن الاهتمام بما هو أجدى وأنفع. ومع ذلك، هناك فئات من الشباب والشابات الذين نفخر بهم ويزهر الأمل في قلوبنا عندما نراهم بيننا، تجدهم يملؤهم الحماس والرغبة في نفع مجتمعهم ويحملون في أعماقهم الاحساس بالمسؤولية تجاه ما يجري في داخله أو خارجه، ويحرصون على أن يكون لهم دور في التنمية والتطوير. فهم الذي يعتمد عليهم هذا
الوطن في دفع عجلة سيره إلى الأمام.

ثالثاً: المشهد الثقافي من منظور اقتصادي
الدكتور سلطان القحطاني
الثقافة هي المحرك الديناميكي للتنمية، ولم تقم التنمية إلا على روافد الثقافة شعبية كانت أم عصرية. وقبل أن ندخل في مناقشة الثقافة ودورها في الوجود الثقافي، ودور الثقافة في الوجود التنموي، نود أن نتعرف على الوجه الثقافي من داخل الوجود التنموي في مختلف المجالات العلمية والاقتصادية والتربوية.
وإذا عدنا إلى التعاريف القديمة للثقافة، فسنجدها مشتقة من الفعل «ثقف» أي حذق الشيء وملك زمامه، والمثقف هو الشخص الذي حذق وعرف كيف يتعامل مع علم من العلوم بفن واتقان.
وإنطلاقاً من التعريف السابق نجد أن الثقافة جزء من التنمية الشاملة ولا يمكن أن تقوم تنمية حقيقية بدون ثقافة، خاصة بكل فرع من فروعها.
فمنذ قيام المدرسة الابتدائية ـ وهي المؤسسة الثقافية الأولى في حياة المثقف ـ التفاعل بين التنمية الشاملة وبين الثقافة يدور في سلسلة متصلة الحلقات من الأهداف والتطلعات. فبناء المدرسة جاء من المدرسة نفسها ضمن هذه السلسلة.
وكما ارتفعت معدلات التنمية الاقتصادية، زادت معدلات التنمية الثقافية خاصة في العقدين الأخيرين من هذا القرن. ولم تكن هذه الزيادات المضطردة بمعزل عن الارتباط بالتنمية الشاملة، حيث يربطها مفردات عامة ومفردات خاصة. فالمفردات العامة ما يتعلق بظاهر التنمية، والمفردات الخاصة كل ما يتعلق بخصوصيات تنمية معينة، مثل التنمية الزراعية، والاقتصادية، والثقافية...
وتعتبر سنة 1954/1374هـ، بداية التنمية الثقافية في المملكة العربية السعودية حيث أنشئت وزارة المعارف، وبدأت الجهود الجبارة لتأسيس المدارس في معظم أنحاء البلاد، على صعوبة ما فيها من تضاريس، إضافةً إلى قلّة الموارد الاقتصادية، وجلب الكوادر المدربة للقيام بالتدريس، إلى جانب السعوديين العائدين من البعثات في مصر.
والحدث العظيم الثاني، أنشاء جامعة الملك سعود في الرياض، كأول جامعة في شبه جزيرة العرب سنة 1957م/1377هـ، وبهذا الحدث أخذت التنمية حجماً أكبر ومسؤولية أعلى، ومن خلال هذه الجامعة قدم العلماء والأدباء والباحثون للعمل والتدريس في كلياتها المختلفة، وقد تدرب على أيديهم رموز من أبناء المملكة، وأصبح لهم شأن فيما بعد، كما وجد بعض العائدين من البعثات الدراسية في مصر فرصةً للتدريس ثم الابتعاث إلى دول أوروبا وأمريكا لإكمال الدراسات العليا، ثم العودة للمشاركة في التنمية الشاملة.
وما أن استقرت البنية الأساسية للتنمية حتى أخذ المختصون في شؤون الثقافة في تطوير فروعها ومجالاتها المختلفة. ولا ننسى دور الاذاعة والصحافة السعودية التي كان لبرامجها ومقالاتها الدور الكبير في تحويل المجتمع من الطور القبلي والزراعي الريفي إلى طور المؤسسات والانتماء إلى المؤسسة، بدلاً من القبيلة والقرية والاقليم، إضافةً إلى توطين البادية، ولولا وجود المدارس ورغبة المواطنين في تعليم أبنائهم ماكانت التنمية لتتمّ، التي بدأت بالتنمية الزراعية والعمرانية، ثم الاقتصادية.
وبعد هذه المقدمات والارهاصات الأولية، وجد المواطن (بعد أن اطلع على أحوال العالم الخارجي) أن من أولويات واجباته، الحفاظ على هذه الأساسيات الثقافية التنموية وتطويرها بقدر المستطاع، وأن الانسان ـ الذي جعلت الدولة في أولوليات اهتماماتها بناءه قبل بناء الطرق والجسور والعمارات ـ هو الثروة الحقيقية، وبناء على ذلك هيأت له المكتبات والنوادي الأدبية والمناسبات الثقافية، ومن خلالها استطاع أن يتفاعل مع مختلف الأجناس الفكرية والتيارات الأدبية والثقافية العامة.
ووجود سبع جامعات سعودية تضم في معظمها جميع الكليات والتخصصات يعطي مؤشراً صادقاً على اهتمام المملكة بالثقافة في السابق والوقت الراهن ضمن خطط التنمية في مجال البناء الحضاري.
والمملكة ليست بمعزل عن مواكبة التطورات الثقافية والمنعطفات الفكرية بعد أن ثبّتت وضعها الثقافي واستطاعت من خلاله مشاركة بقية البلاد العربية في مجالات مختلفة، ومستجدات ثقافية وأدبية متطورة، مثل الرواية والقصة القصيرة، والشعر الحديث، والمجالات النقدية والمشاركات الثقافية. ففي عقد واحد من الزمن استطاعت الأجناس الثقافية أن تتضاعف بشكل ملحوظ بفضل وجود المثقفين والطباعة والنشر، وزيادة الوعي القرائي، وتعدد التيارات الفكرية، وفي نظري أن التنمية الثقافية تسير جنباً إلى جنب ضمن خطط التنمية الشاملة،
إضافة إلى أن خطط التنمية يكمل بعضها البعض.

الدكتور عبد العزيز اسماعيل داغستاني
يعكس تطور هيكل الاقتصاد السعودي دور «الانسان» السعودي في بناء الاقتصاد السعودي، الذي أصبح يمثل أحد أكثر الاقتصاديات النامية حركة وديناميكية، محققاً المرتبة السادسة والعشرون في الترتيب الدولي للاقتصاديات العالية.
دور «الانسان» السعودي تعكسه مؤثرات نسبة مساهمة القطاع الخاص في النشاط الاقتصادي والتي تشير إلى أن القطاع الخاص يساهم بنحو 48% من إجمالي الناتج المحلي. ولا يمكن للقطاع الخاص أن يساهم بمثل هذه النسبة ما لم تكن درجة الوعي والتفاعل مع المسار الاقتصادي مرتفعة ومتمكنة وفق المعايير الاقتصادية التي لا تحتمل العواطف وتركز على الأرقام كمؤشر للانجازات والأعمال. هذا «الانسان» السعودي هو نموذج من «المثقف» السعودي الذي تجاوزت اهتماماته الشخصية المنتديات الأدبية والشعرية التقليدية ليدخل إلى عالم الفكر العملي في عالم تركن حضارته المعاصرة إلى معايير التطورات التقنية التي تتفاعل مع العملية الانتاجية في المجتمع باعتبارها مرآة لنضج الفكر وتطور الفهم والإدراك. ومن الممكن تأطير هذا التطور من خلال بعض الأرقام والمعايير الاقتصادية الأخرى التي تسود في الاقتصاد السعودي ومنها ان القطاع الخاص يستوعب نحو 88% من عرض العمل الكلي في الاقتصاد السعودي. هذا المؤشر يعكس قدرة «الانسان» السعودي على تسخير قدراته «الثقافية» في ساحات العمل الاقتصادي مما يعكس توجهاتها الاجتماعية وتفاعله «الثقافي» من منظور عملي. وهنا لابد وأن نؤكد على أهمية البعد الاقتصادي للمسألة الاجتماعية باعتبار أن «الاقتصاد» بحد ذاته هو المرتكز الأساسي الذي يجسد تطلعات المجتمع وينقلها من غموض الفكر إلى وضوح الواقع. وقد تمخض هذا البعد عن تكوين شريحة مؤهلة من رجال المال والأعمال والاعلام الاقتصادي تمكنت من الحصول على موقع متميز في خارطة الاقتصاد المحلية والاقليمية والدولية ومنها ـ كأفراد ومؤسسات ـ في مقدمة المؤسسين والمشاركين والمساهمين في الكثير من الفعاليات الاقتصادية الدولية والهيئات والمؤسسات الاقتصادية العالمية ذات العلاقة.

رابعاً: المشهد التعليمي
الدكتور محمد بن أحمد الرشيد
سؤال ـ دور التعليم في رفع المستوى الثقافي للمجتمع السعودي بمختلف شرائحه وتخصصاته، وكيف يقيم معالي الوزير المشهد الثقافي الراهن في المملكة على مستوى الفرد والمجتمع؟
جواب ـ بداية لا يشك أحد في أن التعليم يعد أساساً تستند إليه الأمم في نموها وتطورها. ولنا في دستورنا العظيم خير دليل، حيث كانت أول كلمة من وحي السماء إلى خاتم الأنبياء محمد عليه الصلاة والسلام هي (اقرأ) التي تمثل أول أمر تلقته البشرية، أمر بالقراءة مفتاح العلم أخرجت الأمة من ظلام الجهل إلى نور اليقين. وفي التاريخ الانساني شواهد كثيرة على أهمية العلم في رفع المستوى الحضاري لأي أمة، فبعد هزيمة ألمانيا على يد نابليون، قامت النهضة العلمية على يد المربي (فيخته Fichte ) الأمر الذي جعل رجل الدولة (بسمارك) بعد انتصاره يقول «ان الذي يدير المدرسة يدير المستقبل»، وفي التجربة اليابانية دليل آخر حيث استطاع اليابانيون بعد هزيمتهم في الحرب العالمية الثانية أن يكرسوا جهودهم لبناء نهضة تعليمية أوصلتهم لمكانة عالية في رأس قائمة الدول المتقدمة صناعياً وتكنولوجياً.
أما في بلادنا فإن المتتبع لتاريخ بناء الدولة السعودية الحديثة منذ توحيد المملكة على يد جلالة الملك عبد العزيز يرحمه الله، يدرك تماماً مدى رعاية ولاة الأمر للتعليم، وتأكيدهم على أهميته ودوره في بناء مجتمع حديث يتمسك بقيمه الدينية والاجتماعية الراسخة، ويأخذ بأسباب التطور والتقدم. وقد جاء ذلك التأكيد بارزاً في صلب النظام الأساسي للحكم في المملكة حيث نصت المادة الثالثة عشرة منه على أن «التعليم يهدف إلى غرس العقيدة الاسلامية في نفوس النشئ وإكسابهم المعارف والمهارات وتهيئتهم ليكونوا أعضاء نافعين في بناء مجتمعهم ومحبين لوطنهم معتزين بتاريخهم».
ومن حسن الطالع أن خادم الحرمين الشريفين فهد بن عبد العزيز يحفظه الله كان أول وزير للمعارف وقد أولى التعليم رعاية خاصة واهتماماً بالغاً أوصلت البلاد إلى ما نشهده اليوم من نهضة حضارية في مختلف جوانب الحياة الاقتصادية، والتعليمية، والاجتماعية.
ولعلني أجد صعوبة في عرض مظاهر تأثير التعليم في رفع المستوى الثقافي للمجتمع السعودي، وذلك بسبب كثرتها، ولكن يمكن الاشارة إلى أبرز تلك المظاهر مثل الانتشار الواسع لمدارس التعليم العام للبنين والبنات في كل بقعة من بقاع المملكة، ووجود سبع جامعات تضم جميع التخصصات، وهذه كلها مؤسسات تعليمية تعد عاملاً أساسياً من عوامل بناء ثقافة المجتمع السعودي إضافة إلى دورها في نقل التراث والمحافظة عليه، وفي التجديد والابداع دون المساس بالمعتقدات والقيم والمبادىء.
ومن المظاهر أيضاً ما نلحظه من رقي في مستوى ثقافة أبنائنا، وبناتنا، وفي تغير أنماط، وأساليب تفكيرهم، ووعيهم، وتعاملهم مع القضايا الحياتية.
ولعل من أبرز شواهد رقي المستوى الثقافي في المجتمع السعودي انحسار الأمية، وإقبال أبناء، وبنات الأمة ممن فاتتهم فرصة التعليم إلى الالتحاق بمدارس محو الأمية وتعليم الكبار، بل أن الكثير منهم استطاع أن يواصل التحصيل العلمي إلى أن تحصل على أعلى الدرجات العلمية.
كما أن الاهتمام بالبحث العلمي من جهات كثيرة يعد مظهراً آخر له دلالته على تأثير التعليم في الارتقاء بمستوى ثقافة المجتمع. كما تشهد الساحة الثقافية طروحات علمية وأدبية وفنية تظهر في المطبوعات والندوات والمهرجانات كمهرجان الجنادرية السنوي الذي يشهد تظاهرة ثقافية وعلمية وفنية يلتقي فيها كثير من المثقفين والعلماء من جميع أنحاء العالم ومن ضمن فعالياته طرح قضايا معاصرة تلامس آمال المثقفين، بالاضافة إلى الدور البارز الذي تضطلع به النوادي الأدبية والمراكز العلمية، وما تقوم به الجامعات من دور في تثقيف المجتمع من خلال مراكز خدمة المجتمع والتعليم المستمر.
ولا ننسى حقيقة ما طرأ على المجتمع من تغير في نظرته إلى العمل الفني والمهني، الذي أصبح يشكل دعامة قوية في بناء نهضتنا الصناعية، والزراعية، والتقنية ورافداً من روافد إحلال العمالة السعودية محل العمالة الوافدة.
وكما ذكرت سابقاً‏فإن المجال يضيق لعرض دور التعليم في البناء الثقافي للمجتمع السعودي، ويمكن أن أوجز القول في أننا، وبتوفيق من الله، قد وصلنا إلى مستوى ثقافي وعلمي متميز على مستوى المجتمع ككل، أما على المستوى الفردي فإن نظرة إلى أعداد الحاصلين على الشهادات الأكاديمية العليا في مختلف التخصصات، ومشاركتهم في مختلف المراكز العلمية والوظيفية، يعطي مؤشراً على الدرجة المتميزة للمستوى العلمي والثقافي للفرد السعودي، وكل ذلك لم يكن ليتم لولا توفيق الله ثم اهتمام قيادتنا الرشيدة بالتعليم باعتباره مفتاح تطور المجتمع وتقدمه. ولكننا نتطلع دائماً إلى المزيد وبخاصة في ظل ما يشهده العالم من تطور سريع ومتلاحق يوجب على أي أمة تريد لنفسها موقعاً جيداً على خريطة العالم أن تحث الخطى وتهتم بشكل مستمر بالتعليم وتطويره «فوراء كل أمة عظيمة تربية عظيمة».
ـ دور وزارة المعارف في التنمية الثقافية العامة بما يختص بالمناهج وتطويرها مواكبةً مع التطور الحضاري في العالم.
تؤدي وزارة المعارف في المملكة العربية السعودية مهمة جليلة في ميادين التنمية الثقافية فمدارسها التي تنتشر في جميع مدن المملكة وقراها وهجرها تُعد بمثابة البوابة الرئيسة التي يدخل منها أبناء الأمة إلى المجالات الثقافية المتنوعة وحقول المعرفة المختلفة.
وتحرص الوزارة على تمكين الأبناء من المهارات الأساسية ـ منذ سنواتهم الدراسية الأولى ـ التي تجعل بمقدورهم الاستفادة من جميع أنواع المعارف الانسانية النافعة في ضوء تعاليم الاسلام للنهوض بالأمة ورفع مستوى حياتها وانطلاقاً من التوجيه السديد «الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أولى الناس بها».
ولذلك تركز المناهج الدراسية على الجوانب التعليمية والمهارية التي تغرسها لدى الناشئة وتنميتها مستندةً في ذلك على قاعدة أساسية صلبة تتمثل في «الثقافة الاسلامية» التي هي ركيزة أساسية في جميع سنوات التعليم والتي يتم تقديمها متناسبة مع قدرات الطلاب وإمكاناتهم. ثم تسير المناهج وفق منظومة متكاملة تجعل الطلاب متفاعلين ثقافياً وبدرجة كبيرة مع «التطورات الحضارية العالمية في ميادين العلوم والثقافة والآداب» بما يعود عليهم وعلى مجتمعهم بالخير والتقدم والنمو.
وتحرص مناهجنا الدراسية على أن تصبح المعلومات والمهارات التي تعلمها للطلاب سلوكاً في حياتهم وذلك بالربط بين النظرية والتطبيق وبين العلم والعمل. فالثقافة لا تقف عن حد كمٍّ معين من المعلومات بل تتعداه إلى السلوك الإيجابي الفعَّال وهذا هو عمق الثقافة وجوهرها إذا ما رجعنا إلى مفهومها الحقيقي فهي تعني التهذيب والتشذيب والاستعداد للمستقبل.. وهكذا تعنى المناهج بالجوانب السلوكية لدى الأبناء فإلى جانب التربية الاسلامية تهتم مناهجنا بميادين السلوك المختلفة في المجالات الصحية والبيئية والسلامة المرورية والثقافة الوطنية والسلوك الاجتماعي كما تهتم بتقويم الجانب السلوكي وتحسين تعامل الأبناء مع معطيات الحضارة والتقنية المعاصرة.
ونظراً للقفزات الكبيرة التي تشهدها ميادين العلوم والثقافة والتقنية فإن المناهج الدراسية تحرص على تنمية التفكير العلمي لدى الطلاب وتعميق روح التجريب واستخدام المراجع العلمية والبحث عن المعرفة واستثمار المعطيات التقنية والتعامل معها بكفاءة في سبيل تنمية المعلومات وزيادة الخبرات وتنويعها.
ولقد شهدت المدارس في المملكة العربية السعودية تطوراً كبيراً في هذه المجالات وبصفة خاصة بعد إدخال الحاسب الآلي كمادة تعليمية وبعد الاهتمام المتزايد بتطوير مادة المكتبة والبحث التي تمكن الأبناء من مهارات البحث والازدياد من العلم النافع واستغلال أوقات الفراغ على وجهٍ مفيد تزدهر به شخصية الفرد وأحوال المجتمع.
ولا يقتصر اهتمام المناهج في غرس وتنمية الثقافة على المقررات والكتب الدراسية بل إن النشاط المدرسي والتوجيه والارشاد الطلابي وميادين تعليم الكبار ذات صلة عميقة بالمناهج بل هي نشاطات متممة تنبثق من توجهات مناهجنا لتتكامل جميعها من أجل دعم مسيرة التنمية الثقافية.
كما لا يقتصر اهتمام المناهج على داخل المدرسة بل إن المشاركة الفعالة للمدارس في مناسبات التوعية العامة ـ كأسبوع المرور والشجرة ويوم الصحة العالمي واليوم العالمي لمكافحة المخدرات وغيرها ـ تخرج بنشاط المناهج إلى حيث محيط المدرسة الذي يستفيد من دورها في التنمية الثقافية ليصبح أبناؤنا مُنتجين للثقافة صانعين لها مشاركين في التنمية الثقافية العامة.

محمد رضي الشماسي
إذا كانت الثقافة في اللغة تعني الاستقامة وتقويم الاعوجاج، وإذا كانت في الاصطلاح تعني المحصول المعرفي في فكر الانسان المثقف; فإن مسؤولية القائمين على المؤسسات الثقافية ان يدأبوا على تحقيق تلك المعاني السامية; التي يطمح إليها الانسان بطبعه.
والثقافة بوصفها لوناً معرفياً; تتسع لكثير من الأغراض الانسانية، والمفاهيم الاجتماعية، تتعدد مصاديقها بتعدد وسبل الحياة. فليس هناك وجود لأي سبيل يخلو من ثقافة ومثقفين، ولكن هذه السبل تتفاوت سعة وضيقاً حسب الموضوع. فكلما كان الموضوع أكثر حيوية، وأهمية في حياة الانسان كان أكثر اتساعاً من سواه.
والانسان بطبعه ميال إلى حب الاستطلاع، أي أنه ميال إلى الثقافة، ميال إلى المعرفة. والتعليم عامل يساعد على تأصيل هذا الميل، وتعميقه في نفوس المثقفين. يعمل على فتح المنافذ أمام الانسان المتعلم. ولهذا السبب تعد المدرسة والمعهد والجامعة، من المراقي الأولى في البناء الثقافي لكل بلد وأمة.
والمملكة العربية السعودية، وهي في اطار المجموعة البشرية; تتوثب إلى المستقبل المزدهر، بنشر التعليم من خلال المدرسة والمعهد والجامعة، وعلى نطاق غير محدود. خصوصاً وهي تتطلع‎إلى فجر قرن جديد، وميلاد حياة جديدة; يلدها القرن الواحد والعشرون.
العالم يتطلع إلى القرن الجديد آملاً أن يكون قرن خير وسلام بالاضافة إلى ما سوف يكون من تقنيات وروائع علمية..
والمملكة ـ في فلك المجموعة البشرية ـ تهيء نفسها للغد الآتي، السعيد إن شاء الله.
المشهد الثقافي في المملكة يتمثل في معالم متعددة من أبرزها الجامعات والنوادي الأدبية والصحافة والرموز الفكرية الشاخصة التي تدير حركة الأدب والثقافة في المملكة.
أما الجامعات، فهي أولى المشاهد في مسلسل البناء العلمي في بلادنا كما هو كذلك في كل بلد آخر. آلاف من الخريجين ذوي الطاقات العلمية والأدبية والفكرية ينتظمهم عقد واحد هو العمل الاجتماعي الذي تنتشر بُناته على جميع الأصعدة الميدانية.
والتعليم ـ هو التثقيف بالمفهوم العام. يلعب دوراً كبيراً في العمل الاجتماعي من خلال سبع جامعات، وكليات تقنية، ومعاهد علمية وفنية، ويكفي شاهدٌ على المستوى العلمي أن تقف جامعة الملك فهد للبترول والمعادن قمة شامخة على جبلها الباذخ منارة علمية ينظر إليها من الداخل ومن الخارج كنموذج علمي منفرد صالح للاحتذاء. وتعد هذه الجامعة من أبرز المعالم الرفيعة في المملكة، بل في منطقة الخليج العربي والشرق العربي كله.
وفي هذا السياق، أرى أنه من الضرورة مراجعة المناهج الدراسية على جميع مستوياتها، مراجعة تتلاءم مع روح العصر، ومتطلبات الحياة، فإن الآراء العلمية تتغير، والنظريات قد يطرأ عليها التبدل والتحول. وطلاب العلم أجيال تعقب أجيالاً. وكل جيل يأتي يتطلع إلى ما جد من فكر ومن علم وآراء ونظريات. والناس يتطلعون إلى القرن الواحد والعشرين، ولياليه حبالى لا ندري ماذا تلد.
ومن المشاهد الثقافية البارزة في المملكة العربية السعودية، النوادي الأدبية التي أخذت تنتشر في مدن المملكة، وبرزت كظاهرة أدبية مرموقة. هي مؤسسات أدبية فكرية، يلتقي في أروقتها الأدباء والشعراء على اختلاف أجيالهم، من شباب وشيوخ، ويرتادها عشاق النغم العذب والكلمة الهادفة، حيث تُلقى المحاضرات، أدبية أو علمية، وتحيى الأمسيات الشعرية، وحيث تعقد الجلسات للمناقشة والحوار في قضايا الفكر وموضوعات الأدب. هذه النوادي إنما هي منتديات وصالونات أدبية فكرية كتلك الصالونات التي كان يعقدها طه حسين والعقاد ومي زيادة وابراهيم ناجي وسواهم من أدباء مصر.
نحو ربع قرن من الزمن هو تاريخ هذه النوادي منذ بدأت نواتها نسبياً ظهرت اصدارات كثيرة بجهود القائمين على نشاط هذه النوادي، بعضها بأقلام ناضجة، وبعضها بأقلام شابة تحتاج إلى الكثير من الدراسة والممارسة، وإنما أصدرتها النوادي لغرض الأخذ بأيدي الكفاءات المتفتحة حتى تصل إلى طور النضوج.
والصحافة مشهد آخر من المشاهد الثقافية الكبيرة، وأخص من الصحافة المجلات التي ساهمت ولاتزال تساهم في ازدهار الحركة الأدبية والفكرية في المملكة. مجلات مثل العرب والفيصل والمجلة العربية وقوافل وعلامات والحرس الوطني والقافلة وبيادر والتوباد وسواها. كل هذه المجلات تعكس الواقع الثقافي الجيد في المملكة، إذ تتصدر النشر فيها شخصيات أدبية مرموقة من داخل المملكة وخارجها. بعض هذه المجلات ذات تاريخ غير قصير مثل مجلة العرب للاستاذ العلامة حمد الجاسر، والقافلة لشركة أرامكو السعودية.
والصحافة ـ عادة ـ مدرسة سيارة، فكل صحيفة أو مجلة قناة ارسالية للبلد التي تنتمي إليها هذه الصحيفة أو تلك المجلة. وإذا أخذت الصحيفة بعلائق السياسة، والقضايا الرسمية، وشؤون المجتمع، فإن المجلة ـ غالباً ـ ما تأخذ بعلائق الأدب والفكر، وإبداعات العلم. فهي إلى الاختصاص أقرب. لذلك فإن المجلة وحدها تعكس الواقع الثقافي والأدبي والفكري لهذا البلد أو ذاك.
التعليم واللغة العربية
التعليم بصفة عامة وحده لا يكفي، في أي موضوع من الموضوعات العلمية أو اللغوية أو الأدبية أو غيرها.
فلكي يكون العلم ملكة لدى المتعلم; لابد له من الدراسة والممارسة، وهما أساس الاتقان والابداع. ولقد قيل: (الممارسة أفضل معلم) واللغة العربية ليست بدعاً في الموضوعات الأخرى. فهي تحتاج إلى الكثير من الممارسة والتطبيق بحيث تصبح اللغة وكأنما هي وظيفة يمارسها المتعلم، ويزاولها الطالب برغبة منه، وسيان عندي; مارسها المتعلم والطالب تحت اشراف استاذ أو بعيداً عن الاشراف. المهم هنا وجود الرغبة الأكيدة لدى الطالب. وهذا ما نعتقده عند الطلاب عامة. فالضعف هو الأساس لدى الطلاب العرب في كل البلاد العربية. أعني الضعف في اللغة العربية خاصة، في قواعدها وصرفها وحتى إملائها. ومصدر هذا الضعف ـ في نظري ـ هو الطالب أولاً، وإن كان الأستاذ والمنهج يقع عليهما عبء في تحمل مسؤولية هذا الضعف.
الطالب بحكم تربيته الاجتماعية بدأ يفقد الاحساس بأهمية اللغة العربية في الحياة العلمية، وأحياناً العملية، يدرك الطالب وهو في مراحل ما قبل الجامعة أن لغة مستقبله العلمي والعملي غالباً ما تكون اللغة الانكليزية، هي لغة الجامعة التي تستقبله إذا كان من ذوي الاختصاص العلمي، وهي لغة الوظيفة بعد التخرج. وهي لغة السفر إلى ما وراء البحار. هذا الشعور يأخذ بيده نحو الالتزام باللغة الأجنبية، وفي المقابل الانصراف عن لغته العربية، وهي لغة قومه ودينه وقرآنه.
وإذا ابتعد الطالب عن لغته; ابتعد بالضرورة عن ثقافته وأدبه العربي. لذلك أرى ـ من خلال خبرتي في حقل التعليم الجامعي ـ الضعف شائعاً بين الطلاب، والضحالة تكاد تأخذ عمقاً بعيداً في عقولهم وهو في هذا الوضع يبتعد عن المنابع الصافية، وروافد الأصالة فيتخرج من الجامعة ويخرج إلى المجتمع وهو مهزوز في ثقافته، لايكاد يعرف منها إلا ما حفظه في أثناء دراسته، ولعل هذا الحفظ كان حفظاً تلقينياً، لا يعبر عن استيعاب وعمق في الفهم.
والشيء الذي أتمناه على المسؤولين; أصحاب القرار ـ وهم حملة رسالة القرآن العربي المبين ـ أن يدخلوا مادة اللغة العربية في كل امتحان يُجرى على المتقدمين لدخول الجامعات، أو الملتحقين بوظائف. أو غير ذلك مما هو في نفس السنخ.
والأخذ بهذا الاقتراح ينهض باللغة العربية كثيراً لأنه يحمّل الطالب مسؤولية النهوض باللغة، يحمله عبء الاهتمام والممارسة منذ سِنِّيه الدراسية الأولى وحتى سنة المرحلة الدراسية الأخيرة في حياة الطالب التعليمية.
أنا هنا لا أريد أن أتحدث أو أعالج الموضوع بكل سلبياته، فليس هنا مجال المعالجة.
ومبدأ اتقان اللغة العربية لدى الطالب هو حجر القاعدة في استلهام المعاني الأدبية الرفيعة، والاتصال بالتراث الفكري الضخم الذي أنتجته عقول عاشت في عصور الفصاحة، وفي عصور التوليد المعنوي، وفي عهود ذهبية تتابعت في تاريخ الأدب العربي; كالعصر الأموي والعصور العباسية وعصر الإحياء الذي سبق العصر الحديث.
ثم لابد من ايجاد الوعي لدى الطالب بأهمية الأدب، وايجاد الوعي يكون عن طريق تقديم النصوص الرفيعة من منابعها الأولية، وترغيب الطالب في الافادة منها، مع محاولة ربطها بواقع الحياة المعاصرة، وتوفير الأشباه والنظائر إلى تلك النصوص، من الأدب المعاصر إن وجدت، وخلق جو أدبي من الصور البلاغية التي يوحيها النص، سواء كان هذا النص شعراً أم نثراً. وأرى ضرورة الاهتمام بالمضامين الانسانية والأخلاقية التي اهتمت بها ودعت إليها الأديان السماوية.
ومن اللزوميات في هذا الموضوع ارجاع الطالب إلى أمهات الكتب الأدبية والفكرية والارجاع إلى كتب اللغة مثل لسان العرب، والقاموس المحيط، وتاج العروس. ومن كتب الأدب مثل كتب الجاحظ وابن قتيبة، وأدب المقامات، وخطب العرب، وخطب فصحاء المسلمين ونهج البلاغة بالاضافة إلى دواوين الشعر في عصورها المختلفة.
وكم أتمنى على التلفزيون العربي أن يكثف البرامج الأدبية من أمسيات شعرية، وحوارات أدبية، ولقاءات فكرية، ونقل الندوات والاحتفالات الأدبية المهمة. والجميع يعلم أهمية التلفزيون لأنه قد أصبح اليوم من الضرورات المنزلية ولم يعد من الكماليات.

خامساً: المشهد النقدي
الدكتور حامد أبو أحمد
أعتقد أن الوضع الثقافي في المملكة العربية السعودية الآن لا يختلف عما يدور في أي بلد آخر من بلدان العالم العربي، لسبب بسيط هو أن الصحافة والقنوات الثقافية هنا منفتحة على كل ما يدور في الساحة العربية. ومعروف أن الصحافة السعودية تفتح أبوابها لكل الكتاب في العالم العربي، وخذ ـ على سبيل المثال ـ ملحق جريدة الرياض الثقافي الذي يصدر كل يوم خميس، فنحن نقرأ فيه لحنا مينا (من سوريا)، وعبد السلام المسدي (من تونس)، وابراهيم أصلان (من مصر) وكذلك كاتب هذه السطور، وعلوى الهاشمي (من البحرين) وغيرهم وغيرهم من كل أقطار الوطن‎العربي، إضافة إلى الكتاب والنقاد والشعراء السعوديين مثل عبد الله الغذامي، وأحمد الصالح، وسعد الحميدين، وعبد الله المعيقل... وغيرهم. وقل مثل ذلك في جريدة «عكاظ» و«الجزيرة» و«المدينة المنورة»، والبلاد.. الخ، فضلاً عن المجلات مثل «الفيصل» و«المنهل» و«المجلة العربية» وسواها وجميعها يشترك في الكتابة فيها السعوديون وغيرهم وهذا لاشك انفتاح ثقافي قد لا نجده في بلدان عربية أخرى، تكتفي بنفسها وترى أن ذلك أفضل، مع أنه من الأفضل للثقافة العربية ألف مرة أن تكون هناك قنوات مشتركة تجمع بين الكتاب والمفكرين العرب.
ولاشك أن هذا الانفتاح في الثقافة والصحافة السعودية منذ سنوات طويلة أدى‎إلى ازدهار بعض الأجناس الأدبية وخاصة الشعر. وأنا أعتقد أن الشعر الحديث في المملكة، على قصر عهده بالحداثة مقارنة ببعض البلدان الأخرى، خطا خطوات واسعة خلال عقدين أو ثلاثة وأصبحت هناك أعمال ودواوين شعرية تلفت الأنظار بقوة للشعراء محمد الثبيتي، وعبد الله الصيخان، ومحمد جبر الحربي، وسعد الحميدين، وأحمد الصالح وغيرهم من هذه الكوكبة من الشعراء الذين يعدون رواد هذا النوع من الشعر في المملكة. أما الأجيال التالية فقد حاولت تجاوز هؤلاء وصولاً إلى ما يسمى حالياً بقصيدة النثر والتي صارت لها مساحة واسعة في المملكة على نحو ما يحدث في كل أنحاء العالم العربي. وإذا كان بعض المتابعين والنقاد يحسون حالياً بوجود أزمة في الشعر فهذه الأزمة قاسم مشترك لا في العالم العربي فحسب بل في كل أنحاء العالم. ومن ثم فإن الخروج منها قد يأتي من خلال جهود محلية، أو من خلال جهود تنداح في دوائر أوسع، ولكن المهتمين بالشعر في كل مكان الآن يتنادون لإنقاذه من أزمته ولاشك أن الشعر الحديث في المملكة قد واكبته حركة نقدية قوية تمثلت في كتابات النقاد الذين ظهروا خلال عقد الثمانينيات الميلادي مثل الدكتور عبد الله الغذامي التي تناول أعمال كثيرين من هؤلاء في كتبه مثل تشريح النص، والكتابة ضد الكتابة، وثقافة الأسئلة وغيرها، والدكتور سعد البازعي في كتابه «ثقافة الصحراء»، فضلاً عن الدراسات الكثيرة في هذه الصحيفة أو تلك لنقاد من كل الأجيال. وقد حظيت الأجيال السابقة على جيل الحداثة بكتب نقدية كاملة للدكتور حسن الهويمل والدكتور عبد الله الحامد والدكتور محمد ابن سعد بن حسين، وغيرهم، إضافة إلى الكتاب الشهير للدكتور الغذامي عن «الخطيئة والتكفير»، وهو قراءة في أعمال حمزة شحاتة. وكل هذه الأعمال النقدية جاءت لترفد الأعمال الأولى أو الريادية للأجيال السابقة مثل «التيارات الأدبية الحديثة في قلب الجزيرة العربية» لعبد الله عبد الجبار، و«الحركة الأدبية في المملكة العربية السعودية» لبكري شيخ أمين، و«شعراء نجد المعاصرون» لعبد الله بن إدريس، و«شعراء الحجاز في العصر الحديث» لعبد السلام الساسي... الخ. وأعتقد أن كل هذه الدراسات التي قد يحمل بعضها عنواناً كهذا: «حركات التجديد في الشعر السعودي المعاصر» وهو كتاب من جزأين للدكتور عثمان الصالح العلي الصوينع، أقول كل هذه الدراسات تحتاج إلى قراءة شاملة تركز على عناصر التجديد والتطور في الحركة النقدية السعودية المواكبة لحركات التطور في الشعر. ومما يجدر ذكره الآن أن كل الاتجاهات الشعرية تتعايش مع بعضها البعض، ولهذا ننظر حوالينا فنجد من يكتبون قصيدة النثر، ومن يكتبون قصيدة ـ التفعيلة، والقصيدة العمودية ذات التوجه الرومانسي أو الكلاسيكي. وهذا إن دل فإنما يدل على أن حركة الشعر في المملكة تعيش حالة من الازدهار، وتواكبها حركة نقدية فاعلة ومؤثرة ومتفاعلة مع أحدث التيارات النقدية العربية والعالمية، خاصة على يد الأجيال التي درست في الخارج وعادت لتمارس دورها الثقافي على أرض المملكة.
فيما يتعلق بالأجناس الأدبية الأخرى كالرواية والقصة القصيرة والمسرحية لا أستطيع أن أدعي أني أتابعها بالقدر الذي يُخوِّل لي الحكم عليها، وإن كنت أعتقد أن هذه الأجناس لا يمكن أن تتطور بالصورة المطلوبة إلا في مناخ مختلف تماماً عن المناخ السائد في المملكة: فالرواية والقصة القصيرة والمسرحية لها ارتباط وثيق بما يسمى بنقد العادات والتقاليد، حتى ولو كان هذا النقد فيه خروج عن الجادة، بمعنى أن يكون لمجرد استنطاق مشهد كوميدي أو غير ذلك، وأعتقد أن طبيعة المجتمع السعودي، ونموذج العلاقات الاجتماعية القائمة لا يمنح الأجناس المذكورة البيئة المواتية. وإن كان هناك بعض الأدباء استطاعوا الخروج من قيد التقاليد وقدموا أعمالاً روائية متميزة مثل الدكتور غازي القصيبي في روايتيه الأخيرتين، لكن يلاحظ أنه أدار الأحداث في بيئات بعيدة، هناك كذلك عبد العزيز بشرّي. وغيره من الروائيين، ولكن على كل حال أؤجل الحكم في هذه المسألة لفرصة أخرى يتاح لي أثناءها الاطلاع على عدد كبير من الأعمال الروائية في المملكة. ومن الملاحظ أن هناك حركة نقدية واكبت الأعمال الروائية والقصصية كما نرى في كتب الدكتور الحازمي، والدكتور محمد صالح الشنطي وغيرهما إضافة إلى المقالات الكثيرة والرسائل الجامعية التي أعدت وتعد في هذا المضمار. وكل هذا ـ في رأيي ـ يمكن أن يؤدي في المستقبل القريب إلى ظهور حركات نشطة وقوية في هذا الحقل من حقول الأدب.
فيما يتعلق بالمعركة حول القديم والجديد أو حول الاتجاه الكلاسيكي أو الاتجاه الحداثي فأنا أعتقد أننا تجاوزنا أو ينبغي أن نكون قد تجاوزنا هذه الثنائية، لأن هذه القضايا تطرح عادة في البداية. ونحن منذ رفاعة رافع الطهطاوي حتى الآن مازلنا أسارى لفكرة الفصل بين الاتجاهين. فالحداثة ينبغي أن تكون امتداداً للكلاسيكية، لأنها تمتح منها، ولا شيء في هذا العالم يأتي من فراغ. وقد شهدنا فترة في العالم العربي كانت الأجيال الجديدة من الكتاب والشعراء تنفي نفياً مطلقاً إبداعات الأجيال السابقة، أو رفضها رفضاً كلياً، حدث هذا مع جيل السبعينيات بصورة خاصة في الشعر والقصة القصيرة. لكن كل الأحبار التي كتبت بها كلمات النفي والرفض لم تكن كافية للقضاء على محمود سامي البارودي، وأحمد شوقي وحافظ ابراهيم، وجماعة أبوللو، وطه حسين ومحمد مندور وغيرهم، وظل هؤلاء جميعاً أصحاب السيادة بامتياز في مجالات النقد والشعر والأدب.. ومن قبلهم بأزمان بعيدة ظلت السيادة للمتنبي، وأبي العلاء المعري، والبحتري، وجرير، والفرزدق، وامرىء القيس. ولاشك أن جيل السبعينيات كان متأثراً بدعوات سابقة عليه تنادي بالقطيعة المطلقة، وكأن التاريخ يبدأ من جديد عند هؤلاء. الآن أصبح هناك وعي جماعي بقيمة التواصل والحوار والتلاقي، التواصل مع الأجيال السابقة والحوار معها، ومحاولة تجاوزها بما يخدم فكرة التواصل نفسها. وقد شهد نقدنا العربي أيضاً خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات الميلادية محاولات للقطيعة مع التراث السابق قديماً كان أو حديثاً اعتماداً على أن ما يأتي من الغرب هو وحده المفيد والمطلوب. وقد ثبت أيضاً خطأ هذا الاتجاه، لأن الشعوب التي تريد بناء المجد وإحداث التقدم لا يمكن أن تفعل ذلك على حساب الآخرين، بل ينبغي أن يكون الفعل صادراً عن الإمكانيات الذاتية. ومن ثم فإن المحافظة على الأصالة ينبغي أن يتواكب مع التجديد، وبذلك يمضي هذان (أي الأصالة والتجديد) في خطين متوازيين باستمرار لا يتخلف أحدهما عن الآخر.
قنوات التواصل كثيرة ويمكن أن أقتصر هنا على ما أراه مهماً منها مثل: انتقال الكتب بلا أية عوائق أو سدود بين أقطار الوطن العربي. ولاشك أننا جميعاً نعرف أن هناك عوائق كثيرة تحول دون ذلك. ومنها تيسير الحصول على الكتاب بخفض ثمنه وتوفيره للجميع. وإن كنت‎ارى في عصر القنوات الفضائية أن تتاح الفرصة للكتّاب والمفكرين لعرض أفكارهم وآرائهم، ولن يكون ذلك إلا بالحد ولو قليلاً من المساحات الواسعة الممنوحة للراقصين والراقصات والممثلين والممثلات في هذه القنوات. فالكتاب والمفكرون في عالمنا العربي محاصرون بشكل مقيت: حصار اعلامي، وتقليل من قيمة ما يكتبون أو ينتجون، وكل هذا يحد من قدرتهم على العطاء في زمن أصبحت السيادة فيه لوسائل الاعلام المرئية منها بصورة خاصة. وأنا أنتهز هذه الفرصة لأحيي الصحافة السعودية لأنها تكاد تكون الوحيدة التي تتيح مساحات واسعة للمقالات الجادة، ولذلك فإني أعرف أن كثيرين من المثقفين العرب الآن، من مصر، ولبنان، وسوريا وتونس والمغرب وغيرها من الأقطار العربية ينشرون إنتاجهم الفكري والثقافي في هذه الصحف. وهي بادرة طيبة تتيح الفرصة لعدد كبير من المثقفين للتعبير عن أنفسهم في زمن تقلصت فيه قنوات اتصالهم بالجمهور القارىء. ثم إن هذه القناة الصحافية كما قلت في بداية هذا الحوار تتيح للكتّاب والأدباء السعوديين فرص التعرف عن قرب على الانتاج الفكري العربي.
أما حول النتاج الابداعي عند الأدباء الشباب وكما قلت في البداية لا نستطيع أن نفصل إنتاج الشباب في المملكة عن انتاج نظرائهم في باقي أنحاء العالم العربي، فإذا كان الأدباء في مصر ولبنان والمغرب والبحرين وغيرها يكتبون قصيدة النثر فالأدباء الشبان في السعودية يكتبون أيضاً قصيدة النثر، وتدور المناقشات الجامعية حول هذا الموضوع في كل مكان. ونحن ينبغي ألا نسرع إلى تقييم إنتاج الشباب بل يجب أن نتركهم يجربون ثم نحكم عليهم فيما بعد من خلال التراكم الابداعي. فمنهم من يحمل قيمة معينة أو موهبة في مجال ما فلابد أن تظهر موهبته في أي يوم من الأيام. وهنا نستطيع‎أن نحكم عليه. إننا لا يجد أن نحمل سوطاً ونقول هذا صالح وذاك غير صالح، بل لابد أن نترك الأزهار تتفتح براحتها وعلى مهلها.

محمد العباس
على العكس من حس المحافظة الذي يبديه أكثر من لون ابداعي في ساحتنا، يسجل خطابنا النقدي اندفاعاً صاعداً باتجاه ثقافة الآخر، والتعالق الامتثالي لموحيات العولمة، سواء في تجلياتها كظاهرة ثقافية كليانية شديدة الاغراء والتأثير، أو في تمظهراتها الجزئية المتمثلة نقدياً في تشكلات «ما بعد الحداثة» كمثال كثيف الحضور والدلالة.
وهذا الانفتاح الذي يفترض أن تكون منطلقاته حوارية، يتأسس في مشهدنا الثقافي ربما لأن النقد في الأصل حالة وعي منفتحة، وأداة مثاقفة متعددة الأبعاد، الأمر الذي يجعله أكثر الخطابات تأهيلاً وجدية في التجابه بمفهوم «الآخرية» بتعبير ادوارد سعيد، وأكثرها قرباً من حاثات العولمة بضروبها المعرفية المختلفة، وليس في محدودية اصطلاحها السياسي والاقتصادي، وبالتالي فهو أكثر الخطابات استيعاباً لمتغيرات العصر، والأقدر على مجادلتها، فهذا النشاط الفكري المتقدم يبدو أكثر احساساً باللحظة الحضارية وحراكها، وأقل حساسية تجاه مخاوف الاستلاب، فهو حالة تجمع بين الانفعالية والتأملية، وان كانت العقلانية هي العنوان الذي تتسيجه ذواتنا الناقدة في علاقتها بالآخر، باعتبارها وسائط ثقافية تعي حقيقة وجودها.
وفي هذا الصدد يمكن تأمل التحول الانقلابي في خطابنا النقدي خلال فترة قياسية لا تتجاوز العقد من الزمن، الذي يجهد لخوض الآفاق التي هيأتها العلوم الانسانية الحديثة، بالتتلمذ على الجهد التأسيسي لرواد النقد الحديث، ثم بالتماهي مع معالجات جاك دريدا وامبرتو ايكو على وجه الخصوص، باعتمادها قمة الاشتغالات النقدية، أو الموجة الفكرية الصاعدة، شديدة الاغتناء بأهم المعارف التي يطاردها النقد العربي عموماً ليقتفي خطاها.
وهذا الانفتاح الواسع واللامتحفظ، الذي يصل إلى مستوى من الامتثال الصريح لممليات الثقافة الغالبة، أو القابلية المشكوفة لحاثات الدوائر الثقافية الصاعدة، وضعت خطابنا النقدي على حافة ما يعرف بظاهرة «الإبدال الثقافي» التي تتجاوز ابدال السلوك والأدوات إلى القيم والمكتسبات الروحية، وتعمل كمحور متقدم من محاور العولمة، بل أن شيئاً من هذا قد حدث بالفعل، فالنقد الحديث الذي تتعاطاه ساحتنا بكثافة واصرار، يؤسس لحالة من الطلاق المعرفي مع الأسس المعرفية المتعارف عليها في النقد العربي القديم، على اعتبار أن المنهجيات النقدية الحديثة وليدة لحظة حضارية مغايرة في منظورها الفكري والروحي، وبالتالي فإن خطابنا النقدي كما يلاحظ يعيش حالة من التشوش، أو لحظة من لحظات انعدام الوزن الحضاري على مستوى المناهج والأسماء التي تسعى جاهدة لتأصيل الاتجاهات الجديدة وتكييفها، أو احالتها إلى مرجعيات تراثية أكثر صلابة. لكن تلك الجهود لا تتعدى استعارة المناهج، وتعريب النظريات أو التأقلم معها دون جهد حقيقي لمفارقتها.
وإذا ما شئنا تقصي ذلك الفعل من منظور السيرة الشخصية للمنهجية ذاتها، بتأمل منتوج الخطاب ذاته، وشهادات تقويمه، سواء من داخله أو من خارجه، نلاحظ في هذا الصدد، الصعود المسجل على الخط البياني لخطابنا النقدي، داخل المشهد الثقافي عموماً، وحالة الانتعاش أو الخصوبة الانتاجية التي يعيشها على مستوى السماء والاصدارات، ففي حين خلا كتاب الدكتور غالي شكري «سوسيولوجيا النقد العربي الحديث» الصادر سنة 1981م عن دار الطليعة من أي كتاب نقدي سعودي، كما لاحظ الدكتور محمد صالح الشنطي في قراءته لملامح المشهد النقدي المحلي (قوافل السنة الأولى ـ العدد الثاني)، سجل الدكتور عبد الله الغذامي منذ منتصف الثمانينيات وحتى منتصف التسعينيات عشرة اصدارات متباينة في الأهمية والمستوى، اعتبر بعضها محطة هامة ليس في تاريخ النقد المحلي، بل والعربي أيضاً، فكتاب «الخطيئة والتكفير: من البنيوية إلى التشريحية، قراءة نقدية لنموذج انساني معاصر» الصادر في طبعته الأولى عن النادي الأدبي في جدة، أعلن انقسام الساحة الثقافية‎إلى معسكرين متضادين، بل الارهاصات الأولى لتأسيس ظاهرة الابدال الثقافي، في خطابنا النقدي، التي أخذت، منذ تلك اللحظة، بالتقدم والتنامي لمزاحمة تيار المحافظة.
ونتيجة لهذا النجاح المستند أصلاً على المنهجية النقدية الحديثة، واحتقان الساحة بالطلائع الأولى من الدارسين محلياً وخارجياً، اندفع خطابنا النقدي إلى واجهة المشهد النقدي العربي بقراءة الدكتور الغذامي التي تعتبر أول دراسة عربية تعلن عن انتماءها لمنهج القراءة التفكيكية، حسب الناقد فاضل ثامر. كما ازداد اقتناعنا بالتوغل داخل لحظة الآخر الثقافية من ناحية أخرى. ولم تسلم تلك الخطوة من الأخطاء المنهجية وأحياناً من الادعاء والتعالي، فقد كان بعض ذلك التجاوز مبرراً آنذاك نتيجة التصارع، والانبهار أو الارتهان لتيارات حداثية لم تهضم كما ينبغي، ولغلبة حسّ التجريب والمغامرة والاستعراضية على كثير من المحاولات.
وبالتوقف عند تجربة الغذامي كحالة استثنائية، كماً وكيفاً، داخل ذلك الاتجاه، يمكن بها تفسير سر انبثاق ذلك التيار أو بالأحرى تأسيسه، لابد أن نقر بأنه قد دخل، نفس المأزق الذي تحتم على الانتلجنسيا العربية أن تعبره في مواجهتها مع الغرب منذ بداية القرن التاسع عشر، فتعسرات المشروع الثقافي العربي لم تكن تسمح لا للغذامي ولا لغيره من المثقفين بأن يضيف شيئاً جديداً لعالم المعرفة المكتمل بمصنّعات ثقافية جاهزة، وبالتالي صار لزاماً عليه تبني طروحات الآخرين والترويج لها، وأحياناً الخضوع لمحاولات دمجه، هو نفسه كمثقف، في مشروع عالمي، غربي السمات، باعتبار الغرب حالة صاعدة حضارياً، يمكنها أن تملي من موقعها المتقدم مرئياتها، والتأكيد على نهجها بفرض سيادة الثقافة الواحدة أو الغالبة.
وعند هذا الحد يسجل خطابنا النقدي، ممثلاً بالغذامي هنا، استعداداً مقنعاً للمثاقفة كما يسميها، لا تخلو من الثقة المفرطة، كما يلغي طائعاً البعد الصراعي في تلك المثاقفة ولو مؤقتاً، خصوصاً حين يشبه هذا الترافد بحالة تاريخية «عندما بدأ أسلافنا في ترجمة أرسطو عند الفارابي، عند ابن سينا، عند ابن رشد» ثم في مرحلة لاحقة استفادة الجرجاني، والجاحظ، وحازم القرطاجني من ارسطو، متغاضياً عن تصور مؤكد بأن كل حضارة غالبة تمتلك من ارادات التصدير المعرفي والروحي، ما يقابلها ويوازيها أو يزيد من ارادات الهيمنة.
ولنلاحظ هنا نبرة الثقة التي يبالغ الغذامي في التأكيد عليها، وتبسيط مفهوم المعرفة والثقافة لمستوى أقرب إلى حد السلعة. وكذلك انبهاره الواضح بمنظومة الغرب الثقافية، بل وميله لتبرئة دوائر الهيمنة السياسية من توظيف الثقافة، خلافاً لادوارد سعيد الذي يؤكد اعتماد الغرب «كثيراً على الخطاب الثقافي وعلى صناعة المعرفة وانتاج وتسويق النصوص والنصانية» لتحكم رباطاً متيناً حول العالم. وهو بهذا التنازل السهل كأنما يعلن الاستعداد لابدال منظومته الثقافية كلياً أو جزئياً بالثقافة الوافدة، أو على الأقل تبرير ذلك الانبهار، تحت عنوان المثاقفة، وهو بهذا يذكرنا برفاعة الطهطاوي الذي أعلن من باريس، ابان صعود الحالة الاستعمارية وتوحشها، بأنه لا يرى في أوروبا خطراً سياسياً.
وفي هذا الصدد يسجل للغذامي جهوده الدائبة للمواءمة بين المناهج النقدية الحديثة ومكنونات التراث العربي، مع بعض الملاحظات على مستوى النجاح الذي يحققه، فالنيات لا تكفي لتجسير الهوة بين عالمين متباعدين، وتوليد نهج شديد الاخلاص للأصول، خصوصاً عندما تتم معالج الأمر بكثير من التردد، أو بالتموضع في حالة دفاعية محتمة بلحظة الهبوط الحضاري الشاملة التي نعيشها، وهو الأمر الذي يلاحظ اغراق الغذامي في الاستشهاد بالموروث واستحضار الأدوات المؤكدة على وجود جذر عربي لكل تصور غربي، ولو في تمثلاته الابتدائية، لدرجة تهدد بحوثه بالوقوع في هاجس الاستعادة الانتقائية التدليلية للموروث، والتخلي عن حس الانفتاح على اللامتوقع.
وفي هذا الاتجاه تصب محاضرته الشهيرة «من النقد الأدبي إلى النقد الثقافي ـ دعوة للتحول والانفتاح» المقدمة في 10 ديسمبر 1996م في نادي الرياض الأدبي، فهي تتويج آني لوعي وانتصار نهج النقديات الحديثة، واعلان صريح عن التماهي المتقدم مع اللحظة الحضارية المملاة من موحيات أقوى ان لم تكن ضاغطة، من خلال التعويل على النقد بأن «يقود حركة تحديث في الخطابات الفكرية، السياسية، الشعبية، الثقافية» على اعتبار أن النقد وكما توصل الغذامي «وسيلة وليس غاية، وتحول النقد إلى وسيلة يقتضي أن نفك الرباط القسري ما بين النقد والأدب فنرجع النقد نقداً دون أن نسميه بالنقد الأدبي، ونرجع النظرية نظرية دون أن نربطها بالأدبي».
ويبرر الغذامي مراوحاته للخروج من ذلك الأسر من خلال إقران ذاته بالظرف الثقافي العالمي، يعني الانصياع لحاثات العولمة، حيث يخضع ذلك المشهد، حسب تحليله «لظاهرة تراجع الفرد والفردية، وظهور الرقم المتعدد حيث أصبح كل شيء رقماً وأصبح الانسان جزءاً من جدول أرقام، ولم يعد هو الرقم الوحيد، كذلك تعدد اللغات والثقافات، وتراجع الشعر، وطغيان الخطاب السياسي، وظهور سلطات معرفية جديدة تتمثل في الصورة والعين والحركة»، ولنلاحظ هنا كيف تعمل ظاهرة «الابدال الثقافي» بفاعلية خصوصاً عند تأمل انحياز الغذامي لتلك التطورات، التي لا يجمع على توفرها في مشهدنا الحياتي والتي تتفق حسب قوله «مع المقولة الاعلامية الآن، والتي هي السائدة في الخطاب الأمريكي تحديداً التي تقول بأن الوسيلة هي الرسالة» وكالعادة يجد لهذه المقولة جذراً قولياً عند الجاحظ، الذي جعل الوسيلة هي الرسالة» وكالعادة يجد لهذه المقولة جذراً قولياً عند الجاحظ، الذي جعل «الوسيلة نصف الرسالة» ليحفظ لنفسه وأداته حالة من التوازن النفسي والمعرفي.
ولاشك أن التيار التحديثي قد سجل نجاحات كبيرة وملفتة داخل خطابنا النقدي، فقد كانت محاضرته «المنعطف النقدي بين علم الأدب وعلم المضمون» في الطائف بداية النهاية لتيار المحافظة النقدية، والاعلان عن مزاحمة شرسة بدت في ظاهرها لصالح التيار المحافظ، فيما كانت الصيرورة الثقافية تعمل على تطوير وتمتين التيار التحديثي الذي أثمر سلسلة من المطالعات النقدية الهامة التي عززت التيار، شملت ـ مثالاً لا حصراً ـ كتاب الدكتور سعيد السريحي «الكتابة خارج الأقواس» وصولاً‏إلى كتابه الأخير «حجاب العادة ـ اركيولوجيا الكرم، من التجربة إلى الخطاب». كما اصدر الدكتور سعد البازعي كتابه «ثقافة الصحراء، دراسات في أدب الجزيرة العربية»، بالاضافة إلى سلسلة متنوعة لعابد خزندار المعروف بالنقد المنتمي لما بعد الحداثة والتي شملت «قراءة في كتاب الحب» و«حديث الحداثة» و«ومعنى المعنى وحقيقة الحقيقة».
والمفارقة الهامة أن هذا التنامي، الذي توج بالابدال، مارس تمدده في فضاء معاد تماماً، فتم في ظل مناهج تلقينية ضاغطة، وممانعة تقليدية واسعة، وامتناع مؤسساتي عن اعتماده كمنهج تربوي أو معرفي دون معوقات، وربما كان هذا هو سر نجاحه، بالاضافة إلى عوامل أخرى لا ثقافية أصلاً. لكن هذه النتيجة تضعنا أمام أسئلة اشكالية، فهذه المنتجات المعرفية لا تعكس حاجتنا الاجتماعية، أو على الأقل الثقافية في مداها الأوسع، وبالتالي فهي ليست نتاج تشوفاتنا، إنما هي مصنّعة في مختبرات الآخرين، وينطبق عليها مفهوم الرأسمالية الأحدث الذي يروج للعرض قبل الطلب، انطلاقاً من أننا لا نمتلك بنية ناقدة أصلاً، أو في أحسن الأحوال، نملك بنية ولكنها تعاني من الاهتراء، فنقدنا العربي عموماً غائب لغياب ذاتنا الواعية في الأصل، ولم يكن لنقدنا العربي صوت أو شخصية تتمثله كمشروع إلا من حيث الانتصابات الفردية، وبالتالي لابد أن نستعير أداة ناقدة من الآخرين، فنحن في حاجة إليها للحضور، وهي هنا، أي ضمن الدائرة النقدية، تتمثل في المنهج الذي يجيء بمعية طوفان من البنى الثقافية والسياسية والاقتصادية الشاملة، ولو أنها غير ثابتة، بقدر ما هي متجادلة.
ان خطابنا النقدي اليوم، في جانبه الصاعد والمستقل، وباتجاهه الالسني النصوصي، أكثر قساوة، أو أقل ممالأة للابداع المحلي. وقد صار متبوعاً لا تابعاً، فهو الذي يخلق الحالات الجديدة، أو هكذا يفترض، فالغذامي يصر على تحديث شامل للخطاب المعرفي، ولذلك يبدو عدم التراسل معه، وأحياناً القصور عن فهمه، ناتجاً عن قفزه على التراكمات الأولية التي ينبغي ان يمر بها كل خطاب معرفي، فقد بدأ خطابنا النقدي بسيطاً معنياً بالجمالانية الصريحة، شديد التعالق بالقيم الاجتماعية والاخلاقية والمضامين، ثم قفز فجأة إلى تذوق واستبنات قيم جمالية مطلقة، تنتمي أحياناً إلى عوالم فكرية وجمالية نائية لا يتفق عليها بأي معيارية زمانية أو مكانية إلا ضمن مرتقى نقدي معوم بالتجريدية الذهنية والفنية، فهو يستمد طاقته من الدراسات الاجتماعية بتشعباتها التجريبية والمضامينية، ومن جدل المادية التاريخية وغيرها من المضخات المعرفية، وأيضاً من مناخات النفس الانسانية سريعة التبدل. وهو بهذه القفزة كأنما يعلن الانقلاب على التقليدي، والنية على خض المفاهيم مثلما فعل الغذامي ابتداء بمزدوجة اللفظ / الإخبار، والصوت / المعنى، مخترقاً قدسيات بيانية ولغوية كانت يقينية، أو اعتقادية على الأقل، وهو ما يرفضه النقد الحديث، إذ هو خطاب لا اعتقادي في نهاية المطاف.
ولأن هذا النهج الصاعد يعيش حالة انتعاش حقيقية، وله اليوم صدى وقدرة على الاقناع والتأثير، صار يستقطب الأصوات النقدية الجديدة دون حدة المواجهة المكشوفة التي اعتدناها بينه وبين التيار التقليدي، فكتابات الجيل الجديد من الشباب كحسين بافقيه وعلي الشدوي عبد الله السفر ومحمد الحرز وفاطمة الوهيبي مثلاً، تعلن الانتماء لهذا التيار، وتدخل المشهد النقدي من بابه ومن لحظة المعاصرة التي أضحت أصلاً، لا من باب النهج القديم الذي بات هامشاً، أي من آخر محطة يقف فيها خطابنا النقدي، وقد ساعدها على ذلك الانتماء القصدي توفر المناخ الملائم لظاهرة الابدال الثقافي، التي تبلغ مداها المعجمي بكتاب «دليل الناقد الأدبي» للدكتور ميجان الرويلي، والدكتور سعد البازعي، الذي يبرر مؤلفاه نهوضه كمشروع «بأن الحاجة ماتزال قائمة في المكتبة العربية إلى نوع من الكتب التي تؤسس لمعرفة دقيقة منهجية في العلوم المعاصرة».
وإذا كانت تلك العلامات على أهميتها الواضحة، تبدو مجرد مغامرات فردية أو استثنائية، فإنها بشكل أو بآخر تنتمي مجتمعة إلى حالة جامعة أعم، وأقرب إلى الظاهرة، فالحاجة تعكس بأمانة نوع وحجم الاشتغالات، ومن هنا يمكن القول أن خطابنا النقدي، من خلال انفتاحه الامتثالي على الآخر، قد استولد بالفعل صوتاً نقدياً مسموعاً، ولكن من رحم العولمة، فقد استبدل أدواته، وكيّف تشوفاته بمتطلبات الآخرين لفترة زمنية قد تطول لاستنبات شروط نبرته الخاصة، هذا إذا أردنا تجاوز توصيف الظاهرة إلى محاولة تقويمها، فلازال المنهج النقدي الحديث يقارب في ساحتنا في كثير من الأحيان، كمحاولة للرهان على المعاصرة، بلا تحفظ، وبدون فهم يتعدى المعنى الاجرائي للمصطلح والمنهج، ولن ينفك بالتأكيد من اللحظة التاريخية المهيمنة، حتى يتحول ذلك الكم إلى حالة نوعية تحتمها تناميات أشمل.
00
سادساً: المشهد التشكيلي
أيمن حامد
بالرغم من قِصِر عمر التجربة العربية الجمالية في السعودية إلا أن تفاعلاتها السريعة أفرزت حركة تشكيلية واعدة استطاعت مواكبة النهضة العمرانيةة والحضارية السعودية الحديثة. وكان ولايزال للحركة التشكيلية السعودية تواجد في مهرجانات لها تاثيرها العالمي تمثل معرض المملكة بين الأمس واليوم والذي طاف العديد من العواصم العربية والأوروبية، إلى جانب كندا وأمريكا، كذلك مهرجان الثقافة والفنون بالجنادرية والذي يقام سنوياً والذي اكتسب شهرة عالمية، فزاره ولي عهد بريطانيا الأمير شارلز، وكتب إليه الرئيس كلينتون رسالة أذيعت على الهواء في المهرجان، وأشادت به الأوساط الثقافية العربية والغربية وكان للفن التشكيلي نشاطاً قوياً فيهما، إلى جانب أنشطة الرئاسة العامة لرعاية الشباب ومعارضها الدورية وكذلك أنشطة الجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون وفروعها العشرة المنتشرة في جدّة والطائف والمدينة المنورة وحائل والباحة والاحساء والدمام وأبها والقصيم بالاضافة إلى بيتين للتراث الشعبي وأنشطة وزارة المعارف من خلال مدارسها واقامتها لمعارض سنوية في نهاية كل عام دراسي واقامتها لمدة تزيد عن سبع سنوات متتالية «لمعرض الحديقة» حيث وجدت عزوف الجماهير عن ارتياد المعارض التشكيلية فأقامت معرض الحديقة حيث انتقلت بالفنون التشكيلية إلى «الحديقة» ـ المكان المفضل الذي ترتاده العائلات ـ واقامت النصب التذكارية في الحديقة المجاورة لبرج مياه الرياض وإلى جانب أنشطة الجامعات، ووجود 20 متحفاً أثرياً وتراثياً تتبع وكالة وزارة المعارف لشؤون الآثار والمتاحف وموزعة في جميع أنحاء المملكة. إلى جانب جهود بعض أفراد أحبوا وعشقوا الفن التشكيلي فساهموا في تنظيم المعارض التشكيلية مثل الفنان الرائد الراحل محمد موسى السليم، والفنان سعيد العبيد بالرياض والفنانة نبيلة البسام بالخبر والفنانة صفية بنت زقر بجدة حيث قامت برسم وتسجيل وتوثيق فنون فتيات البادية في العديد من ربوع المملكة وسجلت الحياة الشعبية قديماً بالمنطقة الغربية، إلى جانب رعاية الأمير خالد الفيصل ـ أمير منطقة عسير للفنون التشكيلية، وانشاءه لقرية «مفتاحه» التشكيلية بأبها ـ في عام 1410هـ 1989م وهذه القرية التشكيلية تطل على طبيعة خلابة خضراء وجبال شاهقة ذات جمال آخاذ وتضم 12 مرسماً ومكتبة لبيع أدوات الفن ومسرح مكشوف وقاعتين للعرض (جالير) أحدهما تحتل مساحة 700 متر مربع والأخرى 1000 متر مربع. وللدلالة على نجاح هذه القرية فقد زارها في عام «1413» فقط 35400 زائر، كما انشئ عبد الرؤوف خليل متحفاً على نفقته الخاصة بجدة يحوي التحف واللوحات الفنية العالمية وركز فيه على نفائس العالم الاسلامي الفنية. كل هذه الروافد ساهمت في اثراء وتفعيل الحركة التشكيلية السعودية.
وانطلقت هذه الفعاليات وسافرت إلى عدة دول عربية مثل مصر والجزائر ودول مجلس التعاون الخليجي.
ولسهولة تقييم الحركة نستطيع تقسيم المملكة‎إلى أربع أجزاء جغرافية، هي المنطقة الوسطى وفيها عاصمة المملكة ـ الرياض ـ، والمنطقة الغربية وفيها جدة والطائف والمدينة وغيرها، والمنطقة الشرقية التي تطل على الخريج العربي وفيها الظهران والخبر، والمنطقة الجنوبية وفيها أبها وجازان وتتسم كل منطقة بمناخ ونشاط سكاني مميز ساهم بقوة في تحدي هوية الفنون وتشكيل سماتها الخاصة، وبصفة عامة لعل أهم ركيزتين للفن التشكيلي السعودي تكمن في: النهل من الثقافة الاسلامية وتعاليم الدين الحنيف والركيزة الثانية تكمن في طرح رموز التراث الشعبي ومعالجته بشتى أنواع الفنون الجميلة والتشكيلية والتطبيقية.
وهناك خطوات رائعة تسجل لحساب الحركة التشكيلية لها علامات مضيئة وبارزة وبالتأكيد لابد أن يكون هناك بعض السلبيات وبعض العثرات وأهمها أن هناك بعض التشكيليين تجمدوا عند نقطة البحث في شؤون التراث الشعبي وأخذوا يعتلكونه دون فهم أو أي محاولة للتطوير، أما من استطاع تطويره فهم كثيرون جداً ومنهم محمد السليم، فؤاد مغربل وصالح خطاب وعبد الله الشيخ ويوسف جاها وابراهيم الثغيثد والطخيس وعبد الرحمن السليمان ومحمد سيام ومحمد المعيرفي وأحمد منشي أما الإناث فنرى فتيات وسيدات لهن مستقبل مشرق وحققن الكثير، أمثال منى المروحن، وأزهار المدلوح واعتدال عطيوي ومنى القصبي ومنيرة موصلي (من الرواد) وهدى العمر وريما شيخ الأرض. وشريفة السديري ومديحة العجروش وبدرية الناصر.
أما عند مقارنة الحركة التشكيلية السعودية بالأقطار العربية المجاورة فأعتقد أن المقارنة لكي تكون عادلة لابد أن يتساوى الجميع في جميع الظروف مثل عمر الحركة الفنية وما يتوفر لها من دعم وخلافه، ومن هنا لن تكون المقارنة عادلة لاختلاف وتباين الظروف بين كل دول عربية وأخرى.
وأهم ما يميز الفنان السعودي هو التصاقه بتراب بلده حيث تشكل البيئة المحلية وعاداتها القوية موروثاً هاماً، يحاول دائماً الفنان السعودي الاغتراف منه والتعبير عنه بشتى الوسائل، وبما أن قضايا الأمة جزء من مسيرة حياة الأمة ونشاطها الكياني المتنوع، فلابد أن يكون هناك تعبير عنها بمعالجات تشكيلية.
ونجد العديد من التشكيليين عالجوا بعض القضايا التي تهم الأمة ولكن ليس بالصورة الكافية فهناك العديد من الأمور التي تمس الجتمع لم يتطرق التشكيليون إليها مثل غلاء المهور، دور الفتاة السعودية في تنمية المجتمع، التصور المستقبلي واستشراف ما هو آت، فيجب أن يحلق الفنان في أجواء مجتمعه ليكون رئته ونبضه، وما نراه هو وقوف العديد منهم عند معالجة قضايا «التراث» وكأنه الموضوع الوحيد المطروح على الساحة.

عبد العظيم محمد الضامن
عاشت الحركة التشكيلية منذ بداية السبعينيات نهوضاً عاماً.. محاولة منها الالتحاق بركب الثقافة والآداب في مملكتنا المترامية المتسعة من الشرق وحتى الغرب ومن الشمال حتى الجنوب. وكان النهوض الابداعي مع بدايته آخذ الصفة الشخصية حتى كثرت أسماء منتجيه.. وقد تزامنت فترة النهوض ببدايات الصفة الرسمية لتنظيم الشكل العام لتحديد مسار الفنون التشكيلية وكيفية الاهتمام بها منذ عام 1395هـ. مرت فترة من الزمن تجاوزت الثلاثة عقود والتشكيل يعاني النهوض والمجازفة.. قد يكون لعدم قابلية الفنانين على التفكير في الدخول لمعترك الفنون البصرية وقد يكون خوافاً من الصدمة التي ستواجههم من ردة فعل الجمهور. المواجهة بين الجديد والقديم.. النضج والفجاجة.. «ليس كل ما يخالف الذوق العام والأعراف والاتفاقات يمكن أن يؤدي إلى العمل الذي ننشده.. وإنما من خلال فهم المبدع لآلية قلب المسميات، وتسميتها بغير أسمائها بحيث تُشْكلْ اللغة الموازية أو اللغة الأخرى التي تضيف.. انها الطريقة التي تحدد العالم وعلاقاته بحيث تنشئ علاقات جديدة متماسكة ومترابطة».
بهذه العبارات نتفتح إلى رؤى أرحب..‎في واقع تجربتنا التشكيلية.. وهنا لابد أن نلقي الضوء على تجارب الجوار في طرحهم لمقارنتها بتجاربنا المحلية..
ونتناول تجربة الفنان حسن شريف من الإمارات.. تحديداً.. فهو التحدي الذي شغل الحركة الفنية بدولة الامارات منذ بدايات الثمانينيات.. ليس لأنه موضة بل لأنه عرف كيف يؤسس ذائقة عريضة من المهتمين بما يقدمه من أعمال غريبة وجديدة.. بالأمس كان حسن شريف واليوم أصبح عددٌ من الفنانين يمارسون نفس النهج وكل فنان له أسلوبه الخاص فيه.
هدف هؤلاء الفنانين ليس نكران الفن القديم.. لأن جميعهم تعاملوا مع الرسم وبالتحديد «التصوير» في بداية تجربتهم الفنية ولكن بعد أن شعروا بأن مجال التصوير محدود، خرجوا بإقتناع ذاتي إلى مرحلة أو بعد آخر. هذا الخروج لم يأتِ إلا بعد نضج مفاهيمي وبصيري.
لقد كان اختراق اللوحة التقليدية عملاً جارحاً عنيفاً وغير مقبول لأنه غير مسبوق وغير متوقع. لقد أحدثت (صدمة) الجديد هزتها.. وذهبت ذات يوم لزيارة حسن شريف واطلعت على العديد من تجاربه وتفهمت بعض ما يريد التوصل إليه.. اقتنعت بكل أفكاره لكني عجزت على الدخول في مفهومية المغزى. تحدثت الصحافة عن جديد هذه الجماعة التي تضم كل من حسن شريف ومحمد كاظم وحسين شريف ومحمد أحمد ابراهيم.. وقبلوا التحدي.. ومن هنا تأتي قيمة التجربة. إن صمودها واستمرارها يعني تفتحها واكتسابها حيزها.
وهذا ما قام به بعض فنانو البحرين يأتي في مقدمتهم الفنان أنس الشيخ وأحمد عنان. وإذا تأملنا تجربتنا المحلية سنجد محاولات مترددة غير واثقة بأن الخروج عن اللوحة التقليدية مازال بحاجة إلى وقت أطول.. وقد وفق في هذا المجال الفنانة منيرة موصلي التي استفادت من عامل الوقت للتأمل والدراسة حتى قدمت عصارة فكرها في قوالب بصرية جريئة وثابتة في طرحها.. أما على مستوى التجديد فالكل يبحث عن التجديد لكن بالشكل الاعتيادي.. التجريد هو سمة العصر الحديث لذا تجد أن الكثير من الفنانين يتجهون للتجريد الممسوخ عن فنانين عرب لهم أسلوبهم المعروف مثل ضياء العزاوي من العراق وراشد دياب من السودان ورافع الناصري من العراق.. وبعض الأسماء التي تميزت وعرفت بتجربتها.
ورغم هذه التبعية تميزت تجارب دون سواها وأصبح أسلوب البعض مثلاً يحتفى به.. مثل تجربة فيصل المشاري الذي يملك مخزوناً كبيراً من الانفعالات يترجمها إلى أعمال فنية جديرة بالاهتمام.. فهو يملك أكثر من عشر مجموعات مختلفة.. كل تجربة بحث كامل لا ينتهي منها إلا بنهاية استكمال التجربة.
وهنا أيضاً الفنان فهد الحجيلان وإلهام بامحرز وعبد الله ادريس وهاشم سلطان وحميد السنان ونايل ملا وعبد الرحمن السليمان ومنيرة موصلي.
إن هؤلاء الفنانون وغيرهم ممن يسعون للتميز استمروا في البحث عن الخصوصية مع الاستفادة من تجاربهم السابقة وتجارب غيرهم الفنانين العرب..
ولكي نطمح للمزيد من رؤية الأعمال البصرية والتجارب الأكثر جرأة لابد أن نضع في الحسبان منذ البداية مسألة التذوق.. حتى يأتي الوقت الذي هو كفيل باستيعابنا للعديد من المفاهيم الفنية.. ولابد هنا من مشاركة أكبر عدد من المثقفين المبدعين في المزاوجة بين فن الكلمة وفن الفكرة.. فالفكرة قد تحتاج إلى كلمات شاعر وقد تحتاج إلى مصمم ومهندس صوت ومهندس اضاءة..
وهذا بالفعل ما توفق فيه معرض وجوه ـ البحرين 1997 ـ عبد الله يوسف مخرجاً ـ ابراهيم بوسعد رساماً ـ قاسم حداد شاعراً.. وأسماء أخرى مرافقة للمعرض...
المعرض استقطب شريحة كبيرة من المثقفين وأخذ بعداً جمالياً وفكرياً.. وهذا ما نطمح إليه.. ولكن ماذا قدم هؤلاء المهتمون لإبراز التجربة إلى حيز النقد الفني.. لقد اكتفى البعض بتسجيل انطباعات عامة من كتيب المعرض.
وهنا تأتي أهمية النقد التشكيلي.. الذي يعتبر المحرك الرئيسي لتجاربنا الفنية.. والحديث عن النقد في الحركة التشكيلية يجرّنا‎إلى الحديث عن النقد على وجه الإجمال.. وفي هذا الجانب المهم لا يسعنا إلا أن نستعيد بعض ما ذهب إليه الكثيرون من أن الحركة النقدية ليست مواكبة للابداع كما ينبغي. لكن اطلاق هذا الحكم جزافاً لا يكفي بل لا يجدي شيئاً.. فالمطلوب هو تهيئة المناخ المناسب للنقد.. والناقد يجب عليه المتابعة الجادة لكل ما يجري على ردهات صالات المعارض محلياً وعالمياً. والمؤسف حقاً أن كثيراً من الفنانين لا يرتضي بالنقد الجاد.. إنما الكثير يريد أن يكتب عنه بالمديح وهذا ما يسبب في عدم الارتقاء بمستوى النقد.. وإذا اعتقدنا بأهمية النقد في تعميق تجاربنا التشكيلية علينا أن نخلص في انتاجنا الابداعي.. فالعمل الفني ليس ممارسة فقط بل جهد يبذل في الطرح واللون والمضمون.
والعمل الجاد هو ما يتفاعل معه النقاد.. وتفرد له مساحات واسعة للتحليل والمناقشة عبر وسائلنا الاعلامية المقروءة.
وهنا لابد من الاشارة إلى بعض الضرورات العامة المرتبطة بإثراء الحركة التشكيلية والتي من أهمها ادخال التشكيل في الدراسة العامة كمادة أساسية وفتح نوافذ ثابتة للتعرف بالفنون التشكيلية وأنواعها وتاريخها وتقنياتها في اطار تكوين ذائقة تشكيلية لدى العموم.. وبهذا ينبغي أن يتأسس متحفٌ للفنون يستقطب محبي المعرفة التشكيلية.. وكلنا نعرف جيداً مدى الدور الكبير الذي يقدمه متحفٌ متخصصٌ للفنون.. قراءات نقدية للأعمال المختارة ـ طباعة كتيبات للفنون ـ بطاقات تحمل في مضامينها مدارس الفن وتنوعها ـ بالاضافة لتنوع واستضافة أعمال فنية متميزة.. إن هذه المقدمات من شأنها أن تساعد على تخليق رؤية نقدية مستقبلية تنطلق من ممازجة الأنواع الفنية وقراءتها في تكاملها.
والعمل الفني هو نتاج لابداع بشري ـ وهذا النتاج الذي ينفصل عن مصدره حال انتهائه إنما ينفصل بصورة نسبية.. بمعنى أن العمل حينما ينتهي منه مبدعه يبقى من حق الآخرين في رؤيتهم الخاصة لمعطيات العمل. والفنان يبقى على رأيه لتوضيح الغائب من دلالات العمل الفني المنتج وهو في دلالاته تعبير عن قيمة انسانية سابقة عليه.. القيمة القادمة من الانسان المبدع للعمل الفني. وإن لم يقدم الفنان ما يتناسب مع روح العصر فكأنه يعيش عصراً ليس منسجماً مع ما يطرح في الساحة العالمية.
لقد تغيرت الكثير من المفاهيم وأصبح السائد هو الطرح الجريء.. العمل الدرامي الذي يحمل مضامين العصر الحديث.. فلم يعد مكاناً للعمل التقليدي البائس المفتقر لعناصر الجمال في ردهات المحافل الدولية.. بل أصبح العالم يتطلع إلى مستقبل متطور للعمل الفني.. ونحن هنا بدورنا نتهيء لمزاوجة الفن بالأدب وبالفكر.. حتى نتمكن من مجاراة ما يحدث في المعارض الفنية العالمية.

الدكتور محمد بن صالح الرصيص
المشهد الثقافي الراهن في مجال الفنون التشكيلية بشكل عام في المملكة مشهد يشير إلى الازدهار والتقدم من حسن إلى أحسن، ولا مكان هنا للتراجع أمام المعطيات الحضارية التي نعيشها. وبمقارنة بسيطة نستطيع متابعة سير هذا التقدم والدلالة عليه. ففي الستينيات مثلاً، لم يكن في المملكة سوى معهد واحد لتعليم الفنون التشكيلية على المستوى الثانوي وهو معهد التربية الفنية للمعلمين بالرياض، أما الآن فهناك حوالي عشرون قسماً للتربية الفنية على مستوى كليات المعلمين والجامعات، وجميعها تمنح درجة البكالوريوس في هذه الفنون باسم مجال التربية الفنية. وفي الماضي القريب كان عدد المعارض الفنية والجماعية التي تقام في المملكة سنوياً لا يتجاوز العشرون، أما الآن فهناك أكثر من مائتي معرض تقام سنوياً في مختلف المملكة، وبفضل البعثات الخارجية إزداد لدينا عدد الفنانين المثقفين ممن يحملون درجتي الماجستير والدكتوراه في تخصصات واهتمامات مختلفة من الفنون التشكيلية.
وفي الماضي القريب أيضاً لم يكن هناك من يكتب ويحلل عن الفنون التشكيلية، أما الآن نجد أن معظم الصحف والمجلات الأسبوعية بها زاوية أو صفحة ثابتة تعالج قضايا مختلفة عن تلك الفنون. بالاضافة إلى اصدار الكتيبات الملونة عن المعارض، ونشر المستنسخات المصورة للأعمال الفنية، وبعض الكتب الخاصة بالسيرة الذاتية لعدد من الفنانين وانتاجهم الفني، كما لا ننسى أيضاً تواجد الندوات والمناقشات الفنية في المناسبات المختلفة التي تجمع الفنانين مع الجمهور المتلقي لهذه الفنون. وبالرغم مما ذكرته، يمكن القول أن التقدم الراهن يعتريه حالة من المد والجزر من فترة لأخرى، نتيجة لبعض الاجراءات الادارية المركزية وما يتبعها من محصلات قد تفسر بأنها معوقات مقصودة أو غير مقصودة.
الحضور البارز للفنون التشكيلية لم يصل بعد إلى المستوى المطلوب أو المأمول في جميع الدول العربية، وهناك أدلة كثيرة على ذلك، ومنها على سبيل المثال: أنه لايوجد إلا القليل جداً من متاحف الفن المتخصصة للفنون التشكيلية في الدول العربية، بينما يفترض أن يكون هناك عشرة متاحف منها على الأقل في كل دولة عربية في الوقت الراهن.
أما حضور الفنون التشكيلية على الساحة الثقافية في المملكة فهو حضور جيد ويسعى لفرض وجوده ويتقدم من حسن إلى أحسن. ولكن إذا ما قارنّا ذلك الحضور ببعض الأقطار الأخرى، قد نكون غير منصفين بطرح مثل هذه المقارنة، لأن العمر الزمني للفنون التشكيلية في المملكة بمفهومها الغربي الحديث لا يتعدى أربعة عقود من الزمن. بينما يصل هذا العمر إلى الضعف في بعض الدول العربية، كما يصل إلى خمسة قرون في معظم الدول الأوروبية، أي منذ بداية عصر النهضة الأوروبي الذي انطلق من إيطاليا في القرن الخامس عشر الميلادي. كما لا ننسى أن أي مقارنة من هذا النوع لابد أن تضع في الاعتبار عوامل عدة منها الخصوصية الثقافية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، لأي قطرين أو أكثر، بالاضافة إلى الجوانب التاريخية لهذه المقارنة.
وبالرغم من الحذر الشديد في هذه المقارنة، يمكن أن نقول بشكل عام أن ما تم من انجازات في الفنون التشكيلية في أربعة عقود يتساوى مع أو يتعدى الانجازات المماثلة في بعض الدول العربية التي سبقت المملكة في هذا المجال.
المواطن السعودي المثقف ذواق للفنون بشكل عام، ولكنه يحتاج إلى مزيد من الجرعات الثقافية للتفاعل مع الفنون التشكيلية، وقولي هذا ليس تعميماً على جميع المثقفين، لأن هناك عدداً منهم وصل إلى درجة عالية من التذوق لهذه الفنون، ويعمل على مساندتها مادياً ومعنوياً ، كما يعمل على إقتناء ما يمكنه أن يقتنيه من الأعمال الفنية. ونظراً لأن كلمة «مثقف» واسعة في معناها ومدلولها نجد أن هناك أنماطاً متعددة من الثقافة، وبالتالي أنواعاً من المثقفين مختلفي التفاعل مع الفنون التشكيلية، وهذا التفاعل قد يكون عالياً، أو منخفضاً، أو بين بين، اعتماداً على مدى «الثقافة الخاصة» لهذا المثقف، وعلاقتها بالفنون التشكيلية.
إن أهم مميزات الفنان التشكيلي السعودي أنه فنان ملتزم بالأخلاقيات السامية في أعماله الابداعية، ولم يتجه إلى الأساليب أو الأفكار الهابطة في انتاجه الفني. كما أنه ملتزم بالأعراف والتقاليد العربية الاسلامية الأصيلة، ومتبع للسياسة العامة لبلده.
كما ان التراث العربي الاسلامي يعتبر مصدر هام ومؤثر إلى حد كبير على الفنان التشكيلي السعودي، سواءً كان هذا التراث تراثاً مقروءاً، أو مسموعاً، أو تراثاً مادياً محسوساً. فالفنان هنا يستلهم ما يحلو له ويتفاعل معه ويختار من جنبات هذا التراث الغزير كما يشاء. فهناك التاريخ الطويل بأخباره، وفتوحاته، وحربه، وسلامه، وبطولاته، وهناك العقائد والقيم الروحية، والرموز الدينية والدنيوية، وهناك آثار العمارة العظيمة في المساجد، والقصور، والقلاع، وما تحويه من نقوش وزخارف وكتابات بأشكال لا نهائية. وهناك العادات والتقاليد الطيبة مثل الكرم والعفو والمحبة ومساعدة المحتاج، إلى العادات المتبعة في الأفراح والأعياد والمناسبات الأخرى.
وقد استفاد الفنان السعودي من المدارس الغربية بأن تعرف على فلسفات وتطبيقات تلك المدارس من خلال دراسته في الخارج، وزيارة المتاحف والمعارض الفنية ذات العلاقة بالفن الحديث، أو الحضارات القديمة والحديثة، وهذه المعرفة جعلت بعض الفنانين يقدمون أعمالاً ذات صبغة غربية بحتة، والبعض يزاوج بين المحلية في المضمون والمظهر الغربي العام. ومن تلك الرؤى المختلفة نرى أن هناك محاولات جادة للخروج بأساليب فنية عربية معاصرة شكلاً ومضموناً، مثل الاتجاه إلى أسلوب المدرسة الحروفية العربية، وأسلوب التوليفات من الخامات والأصباغ العربية.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة