شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
يأتي كتاب >العولمة وتحولات العالم< لمؤلفه الأستاذ محمد محفوظ، لينضاف إلى سلسلة من العناوين التي ناقشت مفهوم العولمة في بداياته وحاولت تقديم شرح لظاهرة بدت آنذاك مفاجئة ودون مقدمات.
إلا أن كتاب >العولمة وتحولات العالم< تميز بكونه من الكتب القليلة التي انطلقت من هاجس وحس حضاري ملؤه البحث عن صيغ استجابات لهذا التحدي والأحروجة التاريخية التي يعرفها عالمنا العربي والإسلامي.
وقد برع المؤلِّف في ذلك من خلال رصد وجهد معرفي لتحليل الظاهرة، وما أصعب ملاحقة ظاهرة مراوغة كالعولمة.
يضم المؤلَّف بين دفتيه مجموعة من المقالات سهلة الهضم بفضل نجاحه في بسط الآراء ووصف التحولات الكبرى المتلاحقة، وهو أمر طبيعي لا يدخل >في مضاربات أيديولوجية حول الموقف من العولمة والتحديات التي تطلقها في مجالنا العربي والإسلامي، وإنما اجتراح قوتنا وفرادتنا الذاتية، والعمل على إيجاد كل أسباب التقدم والتطور في فضائنا ومجالنا...<.
ينقسم الكتاب إلى فصلين رئيسين: الفصل الأول بعنوان: في التعامل مع العولمة، أما الفصل الثاني فقد عالج الهويات وصدمة العولمة، ورغم ما يمكن أن يثيره هذا التقسيم من تساؤلات حول عنواني الفصلين، حيث يمكن أن يفهم من عنوان الفصل الأول برنامجنا للتعامل مع الظاهرة، على أنه وإن كانت هناك إشارات هامة في الموضوع لكنها غير واضحة بما فيه الكفاية، لكونها أتت في سياق وضعي لا تقريري، في حين هو محاولة لقراءة العولمة ثقافياً واقتصادياً وسياسياً، فإن الفصل الثاني يمكن اعتباره بمثابة خطة عمل -عملية- لمواجهة العولمة بإيجابية وموضوعية، عوض نكوص متأزم رافض غير واعٍ بضرورات الاندماج التاريخي والفعلي.
إن آثار العولمة وتعدد اتجاهاتها تتشابك بحيث تتناقض مع مقدماتها التي تدعو للحرية والانفتاح والديموقراطية، بينما تنتهي بحماية السوق بطرق التفافية وبدكتاتورية السوق الواحد والفكر الواحد، الأمر الذي من شأنه أن يفسر إلى حد ما صعوبة التعاطي معها خاصة وأنها عملية تاريخية لم تكتمل بعد، وربما هي نفسها تغير من أساليبها حسب ما تجده من ممانعات.
يبدأ الكاتب الفصل الأول بالتأكيد على ضرورة السؤال المعرفي في فهم اللحظات التاريخية الكبرى في حياة الأمم وخاصة مقاربة الظواهر الاجتماعية والوجودية، إذن فالتساؤل هو بداية الفهم الذي يمهّد بدوره للتقدم بالنقد والتمحيص، مع ما يعني ذلك من نبذٍ لليقينيات ودعوة للإثارة والبحث، وهذا أمر لا يجادل في أهميته اثنان، وإن كان الغرب نفسه في أيامنا هذه -وعلى عكس ما يتبادر إلى الأذهان- قد تباطأت سرعته في المساءلة والنقد والتمحيص، وأعني هنا عموم الشعب والإنسان الغربي، فباستثناء بعض المنظمات الأهلية وجمعيات المجتمع المدني، فالغرب نفسه امتلأ بيقينيات رجحت في كفة التساؤلات والنقد، سواء على المستوى الاقتصادي: كيقينيات التنمية عبر السوق والتجارة الحرة والإنتاج والنمو المطَّرد، أو على المستوى السياسي: حيث ضرورة تراجع دور الدولة وعدم مساءلة الديموقراطية الغربية.
إنه لكي يمارس الإنسان المسلم حقه -وكذلك واجبه- في الشهود الحضاري، عليه أن يتفاعل مع أسئلة الواقع لكي لا تغيب الذات عن الفعل الحضاري الحاضر، ولا عن الفعل الحضاري المستقبلي، لأن من يملك قدرة التساؤل والنقد يملك المستقبل.
بعد أن يسرد الكاتب مجموعة من التعريفات التي أعطيت للعولمة، والتي أجملها في منظومات ثلاث أساسية وهي: المنظومة المالية والإعلامية والمعلوماتية. وبغض النظر عما يمكن ملاحظته على هذه التعريفات خاصة فيما يتعلق بعلاقة الإعلامي والمعلوماتي بالمالي، يخلص الأستاذ محفوظ إلى الفرق بين آليات >الاندماج المفضي إلى العولمة<، وبين مفهوم العالمية الذي >يتشكل من جراء تعاون كل الفرقاء في صياغة نظام العالم كله<، إذ إن مشروع العولمة يسعى إلى تكريس هيمنة الغرب الحضارية والسياسية والاقتصادية، وهو ما تدل عليه صياغة المفهوم نفسه -sation- والتي تحيل على عملية تشكيل وصناعة حسب معايير محددة وأهداف معينة.
وبشكل غير مباشر وذكي في نفس الآن ناقش الكاتب مسألة التمايز الحضاري وعلاقته بالعولمة، حين أشار ضمنياً أن مشروع العولمة -كما صيغ في الغرب- هو مشروع تأسس على أرضية أيديولوجية مفادها نظرية صراع الحضارات، التي ترى أن هذا التمايز هو مناط الصراع.
إذ يرى الكاتب أن الثقافات ليست بطبيعتها عدوانية، وإنما هناك نخبة -يمكن هنا قياس مفهوم القوة المحركة في الحضارة عند تويني- تقوم بتوظيف هذه التمايزات لمصلحتها الخاصة، و >تحت عناوين ومسميات تؤثر في المخيال الغربي<، لكن رغم ذلك فهذا لا يعني أن الثقافات لا تحمل جينات وبذوراً للعنف وإن اتخذ أشكالاً وتعبيرات أخرى.
وبما أن مقدمات العولمة كمشروع تهديمي لثقافة الآخر في كل مناحي حياته -يمكن استدعاء سيرج لاتوث وكتابه تغريب العالم- فإن الأستاذ محفوظ يقترح مقولة الأمن الثقافي المقابل الموضوعي للاختراق التي تمارسه العولمة، وذلك باعتماد >الاعتزاز بالذات الثقافية<، ولكن ليس بغرض الانغلاق وإنما بقصد التفاعل مع ثقافات وصلت إلى مخادع النوم، في حين بقينا نحن بحجة الخوصصة غائبين عن الفعل الحضاري والتواصل مع الآخر.
ويبقى سؤال التأهيل للتكيف الإيجابي مع العولمة ونزع السلبية والنكوص عن مقولة الأمن الثقافي، يجيب الكاتب بتقديم ثلاثة اقتراحات استراتيجية، تمحورت الأولى حول تطوير البنى الإدارية والاقتصادية والسياسية، وضرورة استيعاب وتمثل الجوانب التقنية الأساسية للعولمة، وأخيراً إعادة بناء الفضاء التعليمي والتربوي.
ثم يضع الكاتب يده على آليات الاندماج أو بالأحرى الدمج التي تعتمد عليها العولمة وأبرزها الدمج عن طريق السوق، إذ يصبح الهامش سوقاً للمركز، وذلك باستخدام طعم المؤسسات الصناعية الكبرى التي تربط هيكلياً اقتصاديات الهامش بالمركز.
و >من هنا تصبح العولمة وفق المفهوم المطروح... مرادفاً لتوحيد العالم عن طريق السوق، لذا يقترح الأستاذ محفوظ إحياء مشروع السوق العربية الإسلامية وإزالة العوائق أمام التبادل التجاري، وإن كانت مسألة تحويل الشركات والمؤسسات الاقتصادية العربية إلى شركات مساهمة لا تزال قابلة للنقاش والمساءلة، لما أصبحت تواجهه هذه الصيغة (المساهمات) -خاصة في الأسواق المالية- من انتقادات من طرف الاقتصاديين، لكنها تبقى على أية حال الصيغة الأفضل لضمان استقلال نسبي عن دورة الرأسمال العالمي.
من الطبيعي أن يرتبط استمرار نظام ما بمستوى الأجوبة التي يوفرها للأسئلة في المحيط، ومن ذلك النظام العربي الإقليمي، فتحديات العمل الدولي والتكتلات العالمية، التي أصبحت تحتكر القرارات السياسية وتحولت إلى ما يشبه منظمات فوق -سياسية- أو -فوق دولية- supra national- وهو أمر يستدعي تغيير رؤيتنا النمطية للنشاط الدولي، >لهذا فإن فعالية العمل الإقليمي والدولي، مرهون إلى حد بعيد بحجم القوة الحضارية التي تتمتع بها الدولة الوطنية..، لذلك فإن الدول العربية الإسلامية مطالبة أولاً -لكي تتمكن من لعب أدوار إقليمية ودولية متميزة- بتصحيح أوضاعها السياسية والاقتصادية...<.
وعلى غرار النظريات الاقتصادية الحديثة -طبعاً تلك التي تغرد خارج أسراب الشركات العابرة للقارات- يمضي الكاتب إلى نقد نظرية الحاجة -Besoin- بعد استعراض مفهومها الاقتصادي المحض، مما يدل على أنه قد بُذِلَ جهد محترم من طرف المؤلف، إلى أن ينتهي إلى شرح مفهوم المنفعة الإضافية والهامشية -Utilité Marginale- أو المنفعة الحدية، ليعيد النظر في المفهوم من زاوية المسلم المستخلَف في الأرض، الذي ينظر إلى الحاجة المادية كما المعنوية بشكل مترابط ومتكامل، >فلا يمكن المقايضة بين حاجات الإنسان المادية وحاجاته المعنوية<، وهو يلتقي في ذلك مع العديد من الدراسات النقدية في الغرب التي بدأت تهاجم المفهوم الكلاسيكي والنيوليبرالي معاً للحاجة، بالنظر إلى استغلال ذلك الفهم في دفع المستهلك إلى ما يشبه استجابة بافلوفية غير واعية لما يعرض عليه من منتوجات.
ومن هنا تظهر جلياً ضرورة ترشيد الاستهلاك وإعادة منظومة العلائق بين الثروة، العمل، والحاجة، وقوامه >نقل هذه الثروات من دائرة الاستهلاك إلى دائرة الإنتاج، بما يخدم نفسه وأهله ومستقبله، ومجتمعه ووطنه...<، وهو نفس ما يصطلح عليه بالتنمية المستدامة التي تتجاوز الزمان والمكان معاً.
وفي الفصل الثاني من الكتاب وبنفس الشهود الحضاري، ينطلق الكاتب إلى رصد المفارقة التاريخية والأحروجة الحضارية، التي يعيش على إيقاعها العرب اليوم من تفتت وتمزق في عصر الوحدة والتكتلات.
ويرى الأستاذ محمد محفوظ أن الملاذ الوحيد والمتبقي للعالم العربي والإسلامي للخروج من حالة التشرذم هذه، هي الثقافة العربية الإسلامية لما تحمله من بذور توحيدية، وتأتي أهمية الإرث الثقافي من أن المشكلات التي نعاني منها في الأساس هي مشكلات فكرية - اجتماعية، ويخلص إلى أن تجاوز هذه المعضلة الكبرى يكمن في استجابة حضارية تقوم على مشروع حضاري شامل، وتحوُّل نوعي لم تحدد معالمه.
ويؤكد الكاتب على أن ضرورة الاعتزاز بالمضمون الحضاري للأمة لا يعني قطع العلاقات مع الآخر، وإنما الانفتاح عليه ومعرفته بقصد توضيح الصورة النمطية لدى الطرفين معاً.
وينحو الكاتب منحىً هو أقرب إلى إحسان الظن بالعولمة وآلياتها، بوصفها مشروعاً تاريخياً مفتوحاً وبأنها تفرض نفسها بقوة الأشياء، وهو ما يميزها عن المشاريع السابقة. ويرى الأستاذ محفوظ أن قطب الرحى في كل مشروع يتوخى النهوض والخروج من الأزمة المزمنة للعالم العربي والإسلامي هو الإنسان، الرأسمال الأول والحقيقي للأمم، إلا أن المفارقة مرة أخرى صارخة هنا، إذ ليس هناك في عالمنا العربي أبخس من طاقة إنسان قادرة على الإبداع، فالكل يشن حرباً على الكفاءات ويفتح ذراعيه لما يسمى نقل التكنولوجيا الخادعة، وطبعاً هذا التحول المنشود لا يمكن بلوغه دون تأسيس للفكر المدني الحديث، وترسيخ لقيم الديموقراطية والمواطنة.
ولعلنا لا نبالغ بالقول: إن كتاب >العولمة وتحولات العالم< يعد محطة أساسية لكل من يبحث في الظاهرة، ويشهد على ذلك عناوين الكتب والمراجع التي اعتمدها المؤلف في رصد الظاهرة، والمجهود الذي بذله من أجل تبسيطها وتقديمها سهلة الهضم للقارئ العربي.
?* باحث من المغرب.
شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
يحاول الكاتب محمد محفوظ في 166 صفحة أن بضيئ الحديث عن السلم الأهلي والمجتمعي، في الدائرة العربية والإسلامية، بحيث تكون هذه المسألة حقيقة من حقائق الواقع السياسي والإجتماعي والثقافي، وثابتة من ثوابت تاريخنا الراهن.
ينتمي مالك بن نبي وعبدالله شريط إلى بلد عربي إسلامي عانى من ويلات الاستعمار ما لم يعانه بلد آخر، سواء في طول الأمد أو حدة الصراع أو عمق الأثر. إنهما مثقفان عميقا الثقافة، مرهفا الشعور، شديدا الحساسية للمعاناة التي عاشها ملايين الجزائريين من ضحايا مدنية القرن العشرين، بأهدافها المنحطة وغاياتها الدنيئة.
عقد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات خلال الفترة الواقعة بين 6 و 8 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2012، مؤتمرًا أكاديميًّا عنوانه «الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي: تجارب واتّجاهات»، في فندق شيراتون بالدوحة، وشهد الافتتاح حشدًا كبيرًا من الباحثين والأكاديميّين من دول عربية.
يأتي الاهتمام بالقضية الفنية في فكر الأستاذ عبدالسلام ياسين من منطلق أن الوجود الحضاري للأمة كما يتأسس على أسس القوة المادية التي يمليها منطق التدافع القرآني أي التدافع الجدلي بين الخير والشر الذي هو أصل التقدم والحركة، يتأسس كذلك على جناح تلبية الحاجات النفسية والذوقية والجمالية بمقتضى الإيمان الذي هو ...
ثمة مضامين ثقافية ومعرفية كبرى، تختزنها حياة وسيرة ومسيرة رجال الإصلاح والفكر في الأمة، ولا يمكن تظهير هذه المضامين والكنوز إلَّا بقراءة تجاربهم، ودراسة أفكارهم ونتاجهم الفكري والمعرفي، والاطِّلاع التفصيلي على جهودهم الإصلاحية في حقول الحياة المختلفة
لا شك في أن الظاهرة الإسلامية الحديثة (جماعات وتيارات، شخصيات ومؤسسات) أضحت من الحقائق الثابتة في المشهد السياسي والثقافي والاجتماعي في المنطقة العربية، بحيث من الصعوبة تجاوز هذه الحقيقة أو التغافل عن مقتضياتها ومتطلباتها.. بل إننا نستطيع القول: إن المنطقة العربية دخلت في الكثير من المآزق والتوترات بفعل عملية الإقصاء والنبذ الذي تعرَّضت إليه هذه التيارات، مما وسَّع الفجوة بين المؤسسة الرسمية والمجتمع وفعالياته السياسية والمدنية..
لم يكن حظ الفلسفة من التأليف شبيهاً بغيرها من المعارف والعلوم في تراثنا المدون بالعربية، الذي تنعقد الريادة فيه إلى علوم التفسير وعلوم القرآن والحديث والفقه وأصوله، واللغة العربية وآدابها، وعلم الكلام وغيرها. بينما لا نعثر بالكم نفسه على مدونات مستقلة تعنى بالفلسفة وقضاياها في فترات التدوين قديماً وبالأخص حديثاً؛ إذ تعد الكتابات والمؤلفات في مجال الفلسفة، ضئيلة ومحدودة جدًّا، يسهل عدها وحصرها والإحاطة بها.