تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

الفلسفة الإسلامية المعاصرة وتحديات المنهج الحداثي

الدكتور محمد المستيري

الفلسفة الإسلامية المعاصرة
       وتحديات المنهج الحداثي

الدكتور محمد المستيري*

قد تنطبق صفة الأزمة المنهجية في تناول المعرفة المعاصرة على أنساق كل من الفكر الإسلامي والفكر الغربي. لقد تأسست العلوم الإنسانية خاصة في الفكر الغربي الحديث منذ القرن التاسع عشر ترجمة لتصور فلسفي للإنسان والمعرفة الإنسانية في علاقتها بعالم الميتافيزيقا والإدراك العقلي والحدسي والتجربة، من خلال المدارس الوضعية والبنيوية والفنومونولوجية وغيرها. في حين كان الفكر الفلسفي الإسلامي ولا يزال منشغلاً عن الإنتاج المعرفي بتجديد السؤال في الهوية، وهو ما أحال علاقته بجملة المعارف الحكمية والاجتماعية وحتى الفيزيائية من المنظور الغربي إلى موقع الانفعال المتحفظ أو الناكر أو المسكون بهواجس التأصيل.

ومع تفاقم سؤال المنهج  في بنية المعرفة الإنسانية لإنسان ما يسمى بـ(ما بعد الحداثة)، يتعاظم الدور المرتقب والمنشود للفكر الفلسفي الإسلامي. إن تجاوز مشكلة ماهية الفلسفة الإسلامية المعاصرة من مستوى التعريفات إلى مستوى الإسهام في مستقبل الفكر البشري، ينبغي أن يتأسس على الانخراط في سؤال الأخلاق والقيمة الذي تفرضه إرهاصات فلسفة (ما بعد الحداثة)، أو بالأحرى الناقدة للحداثة من داخل الفكر الغربي. وهو سؤال في منهج العلاقة بين الحسي والحدسي والمادي والغيبي، يحدد من جديد مصادر المعرفة ومنزلة الإنسان ووحدة القيمة وتعددها، التي ضمن بنيتها يجدد النظر في مستقبل موضوع العلوم المتعلقة بالاجتماع الإنساني ومنهجه.

إن السؤال الفلسفي في المنهج يستفتح التحولات في الفكر البشري ويفرض على أنساق الفكر الإنساني المختلفة تحدي التفاعل. وعلى تصورنا بوجود مشكلة ماهية للمعاصرة في تعريف الفلسفة الإسلامية، إلا أننا نفترض متانة المخزون الفلسفي الإسلامي في جميع تعبيراته المؤسِّسة لعلوم المنهج في الإسلام، سواء من خلال المدرسية الفلسفية المتأثرة بالهيلينية أو الكلام أو التصوف أو أصول الفقه. وهو افتراض يقودنا إلى التفكير في إحياء الاستعمال الفلسفي الإسلامي المعاصر والإسهام من خلاله في الإجابة عن سؤال المنهج داخل الفكر الحداثي. إن بمقدور الفكر الإسلامي أن يخترق حدود هموم (جماعة المسلمين) نحو أفق الإنسانية المعاصرة، على مشروطية الصياغة المنهجية الإنسانية لمقولاته القيمية، تأسيساً لعلاقة جديدة بين عالم الغيب وعالم الشهادة من داخل فلسفة معاصرة تكون إسهاماً في تغيير النظرة إلى المعرفة الإنسانية المستقبلية.

-1-
(فلسفة إسلامية معاصرة): المشروعية والماهية

قد يوحي المشهد الفلسفي اليوم بهامشية التفلسف الإسلامي أو تبعيته التي لا مفر منها. فقضايا الفلسفة المعاصرة منذ نشأتها لم تفارق مجال الثقافة الغربية، والمرجعية التاريخية والنفسية، فقادت مطارحاتها تجاذبات المثالية والواقعية والبنيوية والاشتراكية والليبرالية وما إلى ذلك. ولئن نجحت الفلسفة الغربية المعاصرة في استقطاب وتطويع الاهتمام الفلسفي من خارجها لأجندتها، فإنها لم تبرهن كثيراً على تعدد في المصادر المعرفية والحضارية، ومسايرة لتطور الإنسانية نحو التعبير أكثر فأكثر على الهويات الفكريات الجماعية المتعددة بما في ذلك الإسلامية.

وقد يبدو الحديث عن الفلسفة من منظور إسلامي من قبيل الترف الذهني؛ لأنه من جانب ينتمي للماضي بصورة تقسيماته المدرسية المشائية والإشراقية والكلامية وغيرها، التي انقطعت صلتها بالتاريخ البشري عموماً والإسلامي خصوصاً منذ ما لا يقل عن سبع قرون فيما عدا بعض الطفرات القليلة إلى يومنا هذا، ومن جانب آخر توحي القضايا النظرية التي انعكفت عليها في تاريخها الذهبي بقابليتها الأكبر على التنظير للمدينة الفاضلة أو الدفاع عن العقيدة الجديدة حينذاك، من الاستجابة إلى تحديات العالم المعاصر العينية الإنسانية والإسلامية.

لقد رافقت الحاجة إلى الفقه النظري للتدين الفقه العملي له، كما رافق فقه التحضر تجربة الحضارة الإسلامية طيلة تاريخها سواء في المرحلة التأسيسية أو الذهبية أو خلال الكبوات المختلفة التي تلاحقت وتواصلت إلى اليوم. فليست الفلسفة الإسلامية في تصورنا علماً بذاته أو تخصصاً محدداً يمكن أن تأتي عليه السنين وتغبره الأزمنة عند انقطاع الحاجة إليه بفعل تطور العقل البشري لأمة الإسلام أو للإنسانية جمعاء، بل هو المجال التأصيلي الرحب لتجربة التدين ضمن لحظة حضارية متجددة. فهو يشمل جميع أنماط التفكير وأنساقه والمدارس التي تولدت عنه في حراكية الجدل والمناظرة مع الداخل كما مع الآخر. فالفكر الفلسفي عموماً والإسلامي خصوصاً هو المعبر عن مستوى الروح الحضارية لأمة ما، أي مستوى قدرتها على الإسهام في دورة الحضارة عبر تحويل قيمها الذاتية إلى قيم مشتركة إنسانية، تصاغ على مرجعيتها التجربة العملية. فيستحيل حينئذ انقطاعه لأنه نبض الوجود الإنساني لأية هوية جماعية، ولكن يمكن أن يتقطع إبداعه في بعده الإنساني والكوني، ومن ثم يصبح ناقلاً ومقلداً للنمط الفلسفي المهيمن، أي خارج دورة تطوره.

ويمكن أن يهيم البعض في أوتوبيا إحياء التدين الإسلامي دون الحاجة إلى إحياء فلسفته، فتتراكم فرضيات أزمة التطبيقات للدين وأولويته على فقهه ضمن التطور البشري المتجدد شرطاً لتنزيله. من هنا تزدحم دعوات أولوية تطبيق الشريعة على الاجتهاد في قضاياها، وأولوية إقامة دولة الخلافة على تجديد النظر في نظمها القيمية والمعرفية كالبيعة والشورى والقسط وغيرها. فتنحو حركة الإصلاح الفكري على هامش الإصلاحي الميداني، ويضيع المقصد ويختل المسير. ولعل الطبيعة التراثية في تناول الفلسفة الإسلامية وصورة الاستلاب التي تكشف عنها مآلات الفلسفة الغربية، يفاقمان من مشروعية تُميِّع النظر الفلسفي في ثنايا الخطاب الحشدي الكمي الذي يطبع هوية الإصلاح الإسلامي المعاصر، وبخاصة في مرحلته اللاحقة الحركية.

لقد مثّل (الكلام) منذ القرن الأول للهجرة أول نسق فلسفي أصيل حاول التنظير لعلاقة الإرادة الإلهية المطلقة بمسؤولية الإنسان الاستخلافية، بغية الإجابة عن تحديات الأديان والمذاهب الفلسفية القديمة والمعاصرة له؛ في قضايا العقيدة أساساً، وما ينبثق عنها من فلسفة الأخلاق والقيمة، وهي التي تضبط منزلة الإنسان والمجتمع في ضوء الحقيقة الغيبية. فالمتصفح لكتب الفِرق ومؤلفاتها سواء تلك التي حاولت التأريخ والتدوين للقضايا التي حكمتها، أو تلك التي عبرت عن آراء فرقة ما، يلحظ حراكية الحوار الديني والفلسفي الذي ضبط الأبواب والمسائل المناقشة(1). فهي ردود على الدهرية المقابلة للوجودية اليوم، والمانوية التي تستمر اليوم من داخل اتجاهات ثنائية الخير والشر، وعلى الطبيعية وهي التي مرجعيتها المادة، وعقائد التثليث وغيرها، وهو ما يقودنا إلى القول بأن المدرسة الكلامية لم تضع تصورها لأصول الدين العقدية بمعزل عن مجادلة الواقع الإسلامي وغير الإسلامي، بل صاغت جميع مقولاتها داخل معاصرتها، وعلى خلفية تقديم البديل المتجاوز لها. فلم يكن علم المقولات فحسب بل علم الحجاج والحوار مع الآخر كذلك. كما ليس غرض الكلام فحسب الدفاع عن المخاطر المحدقة بالعقيدة الإسلامية في الأراضي المفتوحة المجوسية والمسيحية وغيرها، بل كذلك الإجابة النظرية عن التحدي الداخلي الفقهي والسياسي والذي دارت حوله معارك منزلة مرتكب الكبيرة في علاقتها أساساً بمبحث الإمامة، وموقع الاختيار الإنساني ضمن القدر الإلهي، ومكانة العقل من النقل وما إلى ذلك من قضايا جمعت مناقشتها بين المعرفة بالأداة الأصولية والحكمية والجدالية.

ولقد خدمت اتجاهات التصوف المتعددة فيما عدا الغلاة منها مسألة التعبير عن الفلسفة الروحانية الإسلامية في علاقتها البديلة عن الفلسفات الإشراقية المعاصرة. إن مرجعية التوحيد في التصوف الإسلامي مثّلت نقطة تمايز كبيرة من داخل الاتجاهات الصوفية الفلسفية وهي تلك التي آلت إلى تحويل التصوف من الداخل الإسلامي بوصفها منهجاً في الارتقاء بالروح في مدراج التنقية والسمو نحو الخارج اللا إسلامي نموذجاً في العلاقة النفسية والحدسية تصل عالم الغيب بعالم الشهادة، وتفارق عقلانية (الواجب العقلي) التي سادت الفكر الكلامي وأساساً الاعتزالي حتى تجاه تقويم الفعل الإلهي. فلقد برهنت الفلسفة الصوفية على أن المعرفة الحدسية ليست مفارقة للإيمان بالغيب بل متطلعة وناهلة منه في حركة إلهام واستلهام مزدوجة ومتواصلة، كما أنها ليست نقيضة العقل ولا لازمة له بل نور الحقيقة، ومنهج الإحسان هو مستوى علوي تفاضلي في العلاقة بمنطق الأشياء ومعقولية الحركة.

منذ الكندي إلى ابن رشد، مرت ما تعرف بالمدرسة المشائية الإسلامية بنزعات كما مراحل مختلفة، جعلتها متداخلة في اهتماماتها مع جميع المعارف النظرية والمنهجية الإسلامية، خاصة الكلام والتصوف، بل وحتى الفقه وأصوله. فرغم لقب (المعلم الثاني) نسبة للمعلم الأول أرسطو الذي ارتبط بصورة الفارابي، غير أن مدينته الفاضلة كانت تزخر بالنَّفَس الإشراقي والصوفي، في محاولاته المتكررة لـ(أسلمة) مسار تلقي المعرفة من خلال نظرية الفيض، والتي تتحول بفضله إلى دورة في الإلهام الروحاني حيث يصير العقل الفياض إلى روح القدس، ومراتب العقول الفياضة إلى مستويات في التسامي الروحي، وينتهي العقل الأول إلى تصور التوحيد(2). وتابعه ابن سينا في نظرية المعرفة وصلاً لفكرة وحدة (التوحيد) بتعدد (العالم)، معلقاً على التراث الهيليني وشارحاً له، ولكن معبراً عن روح صياغة النسق المعرفي الهيليني الممزوج بالأفلوطونية المحدثة، داخل عقيدة التوحيد وفلسفة الإسلام في خلافة الإنسان وقدره وتعلق إرادته بالسمو الروحاني. فصاحب كتاب الشفاء هو كذلك صاحب رسالة حول الصلاة، ورسالة في تفسير بعض سور القرآن، كذلك الفارابي صاحب الشروح والتعليقات لفلسفة أرسطو وأفلاطون وجالينوس، هو الشهير بـ(إحصاء العلوم)، و(عيون المسائل) في تهذيب النفس، و(رسالة في العقل) في منهج المعرفة الإسلامية.

ولعل حجة الإسلام أبو حامد الغزالي كان من أكثر المعبِّرين عن تعدد مداخل فلسفة الإسلام. فهو الذي مرَّ بمراحل مختلفة ومتعاقبة قادته إلى استعمال الأداة الكلامية الأشعرية في رده على الاستدلال الفلسفي المشائي من خلال (مقاصد الفلاسفة) و(تهافت الفلاسفة)، وانتهت به إلى تجربة صوفية فلسفية متميزة بحثاً عن أسس المعرفة والحقيقة، ترجم بعض معانيها في مصنفه الشهير (إحياء علوم الدين). إن البحث في علاقة المعرفة الإلهية بالمعرفة الإنسانية وإن اختلفت مداخله ومفرداته غير أنه ظلَّ الدافع الأساسي للإبداع الذهني في التاريخ الفكري الإسلامي. ففي حين كان للغزالي انشغال كبير بمصادر المعرفة الحسية والعقلية والحدسية في علاقتها بأصل المعرفة الإلهية، انبرى ابن رشد إلى الوصل بين أسمى تجليات المعرفة الإلهية وهي الشريعة والمعرفة الإنسانية وهي الحكمة أو الفلسفة، وأشار إلى ذلك مثلاً في كتابه المنهجي الأساسي (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال)(3). ولئن كان رده على الغزالي صارماً وقاطعاً في (تهافت التهافت) رافضاً التحجيم من دور الأداة الفلسفية الهيلينية في قراءة العقل الديني الإسلامي، إلا أنه ظل يحافظ على منزلته الفقهية التجديدية وبعده الكلامي الحجاجي في طرح تصوراته الفلسفية. فهو الشارح الأكبر لأرسطو والذي هيَّأ أجواء نقل التراث الفلسفي الإسلامي إلى الاستعمال العقلاني الغربي منذ بداية القرن الثالث عشر من خلال ترجمة ميشال سكوت (بين 1228 - 1235م) ومن خلال تأثُّر توماس الأكويني وابن ميمون ولاحقاً ديكارت وما عُرف بنزعة العقلانية المؤمنة في الفكر الفلسفي الحديث، ولكنه كذلك القاضي والمجدد في الفقه المالكي الذي يشهد عليه مؤلفه (بداية المجتهد ونهاية المقتصد).

رغم أن ظهور ابن خلدون كان إعلاناً عن سقوط (التحضر الإسلامي) وإيذاناً ببداية تهاوي الحضارة الإسلامية من خلال (المقدمة) الشهيرة، إلا أنه مثّل تعبيراً جديداً عن روح الفكر الإسلامي، أخرجه من ثنائية المدرسة الفقهية والكلامية أو خصومة الفلاسفة والعلماء، إلى رسم ملامح لعلم اجتماع إسلامي عبّر عنه بعلم العمران البشري، وكان منطلقاً للبشرية للاهتمام بالظاهرة الاجتماعية والتاريخية في تطور الأمم، وتحويل هذا الاهتمام إلى دراسة في القوانين والنظم المعرفية التي تضبط مسيرة التجربة الإنسانية.

مع اعتلاء الفكر الغربي سدة العالمية في الفلسفة والعلوم والتقنيات، وبداية النظر إلى عالم الفكر الإسلامي من ثقب الاستشراق، دخلت صورة الإبداع الفلسفي الإسلامي مرحلة الكمون، وبدا التأريخ الجديد لميراث البشرية الفلسفي محاولة لإيهام العقل الإسلامي خاصة والوعي الجمعي البشري بصفة عامة بدونية عقلانية التفلسف عند المسلمين. فلم يعد من الغريب التشكيك -حتى من داخل الأدبيات الإسلامية المعاصرة- في المصداقية التاريخية والمضمونية للفلسفة الإسلامية. فهي الفلسفة الناقلة في وجهها المشائي، وهي المبتدعة والمجادلة في وجهها الكلامي، وهي المنعدمة في الأنماط الأخرى من الفكر الإسلامي. وقد تكون الطبيعة الوجودية والعدمية والإلحادية أحياناً للفلسفة الغربية المعاصرة ساعدت في الاتجاه نحو ارتباط التفلسف بالانحراف الفكري داخل الوعي الإسلامي المعاصر، بل وحتى من داخل أولويات تيارات الإصلاح الفكري. ولعلنا نحيل الميل إلى البعد الكمي والتكديسي في الدعوة المعاصرة، والنزوع إلى التطبيق دون برهنة فكرية وتنظيرية عليه، إلى عزوف عن صورة الفلسفة الإسلامية السلبية، وكذلك عن تحمل مسؤولية تقديم التصور الفلسفي المعاصر للإسلام ومشكلاته.

لقد ظهرت دعوة الإصلاح المعاصرة وكأنها صيحة في وادي الجهل وظلمات الاستبداد، وليست إرادة في النهوض بالفكر وتجديد صورة فلسفة الإسلام. فبالرغم من الطابع المفاهيمي للمناقشات التي سادت خطاب النهضة الإسلامية منذ القرن التاسع عشر والتي رافقت تصاعد الفلسفة الغربية باتجاهاتها الليبرالية والاشتراكية والوجودية وغيرها، من مثل علاقة العقل بالدين عند إقبال أو عبده، وإشكالية الاستبداد وتطور الأمم عند الكواكبي أو الأفغاني، إلا أنها لم تنل رضا المصنفين والمؤرخين للفلسفة المعاصرة من الغربيين، تماماً مثلما الأمر مع أنماط الفكر الفلسفي الهندي أو الصيني المعاصر. وفي المقابل يبدو الفكر الإسلامي المعاصر وقد سلّم بفرضية عدم القدرة على توليد أنساق فكرية جديدة، وحوّلها إلى عدم الحاجة إلى ذلك، بل حَسْبه تفعيل التراث الذهبي للإسلام في جميع مجالاته، وخاصة مجال الفقه بوصفه المؤطر لفكرة أولوية تنزيل التدين على فلسفة التدين. ولم تتجاوز الكثير من ادعاءات (التجديد النظري) تحت مظلة أولوية التنزيل محاكاة التراث الاعتزالي أو الأشعري أو الظاهري، أملاً في التصدي لموجات التحديث في العالم الإسلامي. غير أن مراكمة حدثت داخل الفكر الإسلامي المعاصر في ميدان مراجعة المقولات الغربية على ضوء مبادئ الإسلام ومفاهيمه منذ فكرة (النهضة)، وإن لم تكن من دوافع تأسيسية وتخصصية مثل دوافع المتكلمين والفلاسفة في مرحلة النشأة، تجعلنا نصرّ على ضرورة الاهتمام بهذا الجانب دراسةً ونقداً.

إن مشكلة تراجع العطاء الفلسفي الإسلامي المعاصر وعدم قدرته على افتكاك الشرعية ضمن الإرث الفلسفي الإنساني تعود في جزء منها إلى الصورة النمطية السلبية التي ارتبطت به كما أشرنا، ولكن إلى مسؤولية أهل النظر الفلسفي الإسلامي في قلب أولويات الإصلاح وإعادة توجيهه بالشكل الذي يسمح لإصلاح نظم الفكر لأن يكون مرافقاً للإصلاح التربوي النفسي والخلقي، وفي كل الأحوال متقدماً على مجالات الإصلاح الإجرائي فيما عرف بـ(إقامة دولة الخلافة) ورصّ الصفوف داخل (الجماعة/ الفرقة)، وإقامة الحدود، وما إلى ذلك. إن منهج صياغة فلسفة الإسلام في جميع مجالات الحياة هو شرط أيّ اتجاه للنهوض بالأمة وتفعيل طاقاتها نحو استعادة دورها الحضاري بين الأمم. فلا يمكن البرهنة على صلاحية العقيدة الإسلامية لأن تكون مصدراً للفكر البشري المعاصر، إذا لم تتجه العقول إلى إبراز فلسفتها، كما لا يمكن أن يتحول الفكر الإسلامي إلى شريك في الحوار الحضاري إذا لم يحوّر أولوياته من الفقهيّ الإجرائي الذي أساسه الفتوى إلى إظهار البعد الإنساني في أنساقه وانشغالاته. وليست العودة إلى التراث الفلسفي الإسلامي بمختلف اتجاهاته مرادفاً بالضرورة للماضوية والتقليد، بل يكون كذلك إذا عطّل إمكانات التجديد فيه، وكانت عودته تلك تراجعاً وليس وصلاً، بحثاً على معاني الاتساق والاستفادة من التجارب نحو مستقبل أفضل.

-2-
الحداثة وسؤال القيمة

لا نقصد بسؤال القيمة البحث في مدلول القيمة في مفردها، إنما الفلسفة الأخلاقية الجامعة للقيم المؤسسة للحداثة الغربية، والتي تشهد اليوم عودة إلى السؤال عن مصداقيتها، داخل تمدد آلة الهيمنة والتوسع للغرب الحداثي، وبسط رهانات الرأسمال الربحي ظلاله على رهانات الرأسمال الإنساني التي أساسها التقارب والتساوي بين الشعوب.

يُعَدُّ مشروع الحداثة انتصاراً للفكرة الليبرالية القائمة على الإيمان بتحرير طاقات الفرد المادية والحسية على حساب القيمة الجمعية (الاشتراكية) و(التعاضدية) و(الشيوعية). فمنذ فجر (الأنوار) الذي طبعه فولتير وروسو ومونتسكيو وغيرهم، مروراً بفكرة الليبرالية مع هوبز ولوك وغيرهم، وانتهاءً بأفكار الوجودية مع سارتر والتحليل النفسي مع فرويد، حاول الفكر الحداثي أن يضع قواعد قيمية تضمن تحرير الفرد والاقتصاد على أساس الربح وتنظيم التعايش بين سلطة الشعب ونوازع عودة سلطة الكنيسة، أو الاستعباد تحت رداء الرأي الواحد.

هنا تنزلت فلسفة العلمانية لتطبع قيمة الحيادية في علاقة الدولة بالدين وتكفل حرية التعبير الديني والفكري لكل المختلفين، تحت حماية مبدأ التساوي أمام القانون. فالحرية لم تعد مبدأً مقدساً كما في الشرائع الدينية بقدر ما هي شرط لنجاعة مبدأ (دعه يعمل، دعه يمر) أي تحرير الاقتصاد من رقابة الضمير الميتافيزيقي الجمعي الواحد الذي يمكن أن تفرضه سلطة دين أو متجبر، نحو رقابة القانون المشترك، وهو مشروط بتحرير السياسة من نزعات الهيمنة نحو الاختيار الحر. ومن ذلك المنطلق أعيد الاعتبار للمبدأ القديم الإغريقي في الحكم الذي يقوم على سلطة الشعب أي الديموقراطية بديلاً عن سلطة السيادة الإلهية والفردية.

وتبعت تلك القوانين الأساسية في التحررية احترام سلطة الرابط الاجتماعي واستقلاليته، الذي قاد إلى تثبيت مواثيق حقوق الإنسان وضمان بنية المطلبية والاحتجاج داخله من خلال فكرة مؤسسات المجتمع المدني من نقابات وهيئات نسوية وحقوقية وتربوية وغيرها.

ولكن بقدر ما بدا المشروع الحداثي نموذجاً إنسانياً لاحترام مبادئ الإنسان وحريته في الوجود، كان وجهه التحديثي لباقي ثقافات العالم تحكمه خلفية الأحادية القسرية التي لا مفر منها، فهي في منظوره الفيصل بين التقدم والتأخر وبين التمدن والتوحش. من ثم رافق برنامج التحديث تجربة التوسع الاستعماري وفرض التبعية وانتهاك السيادة التي لا يزال شبحها يطارد عالم الشرق، ليس بالمعنى الديني أو اللغوي ولكن بمعنى جميع من يقف مقابل عالم الغرب التحديثي.

مع سقوط المشروع الاشتراكي رسمياً وانفراد الفكرة الليبرالية الحداثية بتحديد مصير العالم المتحضر، وموازين التقدم والتأخر، دخلت الفلسفة الحداثية مرحلة سؤال الهوية بحدة، وهي تُراجع الصفة الإنسانية لقيمها وأهليتها لتوجيه المجتمعات البشرية الجديدة، التي تنزع أكثر فأكثر نحو التمازج الثقافي بفعل تدافع حركات الهجرة داخلها نتيجة طبيعية للاقتصاد الحر من جهة، ولتفاقم الاختلال بين الغرب والشرق أو الشمال والجنوب من جهة أخرى.

ليس التساؤل حول مصداقية القيمة الحداثية هو بالعلاقة بأزمة الفضيلة في الثقافة الاجتماعية الحداثية وداخل أنسجة المجتمعات التي ألقت بظلالها عليها، كما يمكن أن توحي به القراءات المتعجلة والأخلاقية داخل الخطاب الإسلامي(4)، إنما في تعاظم الطموح التوسعي (الكوني) للحداثة الليبرالية الذي عطّل الكثير من ثوابتها الإنسانية. فعندما أطلق فوكوياما صيحته الشهيرة عن نهاية التاريخ، وتتالت بعده وحوله القراءات المشيرة إلى موت الإنسان والقيمة بعد أن مات الله على يد (نيتشه)، إنما كان ذلك خطاباً إنذارياً عن محاذير تهاوي قيم الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني ودولة القانون، التي بها فرض الغرب نموذجه الاقتصادي والسياسي على العالم، وهيَّأ لنفسه المصداقية التاريخية في ريادة الحضارة. فلم تعد هذه القيم وغيرها من مشروطية التوسع، بل أضحت فلسفة العولمة كافية لتبرير العالمية اختراقاً للحدود وحتى للسيادات المحلية، دون مراعاة كبيرة لهذه القيم. فقد تداس كرامة الانسان، وتنتهك خيارات شعوب، وتكمم أفواه باسم التحضر العولمي الذي لا يبالي بغير استقرار السوق. كما أن تطور تركيبة المجتمعات الغربية نفسها من مجتمعات (البيض) أو غالبية السكان الأصليين إلى مجتمعات الهجرة التي تنامت فيها المطالبة بالاعتراف بالهويات الجمعية المختلفة الدينية والعرقية والثقافية وغيرها، كل ذلك يجعل قيم الحداثة في حرج لأنها صيغت لمجتمعات (البيض) واحدية المنشأ والثقافة وليست متعددة الثقافات(5).

ضمن هذا الإطار حول طبيعة التحول المجتمعي المتعدد والمتداخل الثقافات أمام التمادي في نفس سياسة الربح والتوسع، ينبغي أن نعي مأزق الاعتراف بالهوية الإسلامية الجمعية داخل أنسجة التجربة الغربية. فلم يعد الإسلام عنصراً فردياً قابلاً للإذابة أو للاستعمال ضمن القيم المشتركة التاريخية، بل أمسى هوية لثقافة ونمطاً في التحضر وجب احترامهما تجنباً لعاقبة الصدام، التي لشدَّما تنبَّأ بها العقل الغربي في الآونة الأخيرة، خاصة على لسان هانتنغتون، وسايره في ذلك العقل العربي وخاصة المهدي المنجرة(6). وإشاعة الفوبيا وفكرة المؤامرة هي من أهم الأسلحة داخل الخطاب الحداثي للتنصل من مواجهة حق الثقافات المغايرة في تساوي الحقوق أمام القانون، وفي الحصول على منزلة ضمن مجتمع التعدد وموقع ضمن لعبة الديموقراطية. وقد يُشهَر سيف الديموقراطية والتمدن ضد المختلف في الثقافة بتهمة نية الإرهاب وإرباك نظم التحضر. يقول الفيلسوف الفرنسي بروكنار في مقال له أثار ضجة إعلامية مستنكراً مؤامرة الدعوات المناهضة للإسلاموفوبيا لمنع حركة النقد للإسلام وداخل الإسلام، ومعنوناً ذلك بـ( مساومة الإسلاموفوبيا): (لم يعد بالإمكان المساس بالإسلام، إذ نقده أو التشكيك فيه هو دلالة على العنصرية... لو كان فولتير حيًّا بيننا لألقى به هؤلاء دعاة مناهضة العنصرية في السجن!)(7).

عندما تفقد القيمة المؤسِّسة لفلسفة التحضر مصداقيتها في أعين الشعوب يكون ذلك إيذاناً بخراب الحضارة، ونهاية تاريخها. ولكن أليست سنة التعاقب أو الاستبدال هي الضامن لتواصل الحضارة؟ هكذا نعتقد نحن المسلمين، وهكذا اعتقد هانتنغتون كذلك. ولكن إذا كان اعتقادنا مشدوداً بالإيمان بأحقيتنا في الاستخلاف والتداول الحضاري وبنصرة الله لنا، فإن هانتنغتون يفترض قدرتنا على الصدام فقط، وإحداث خلل في نظام المجتمع الغربي المتحضر، دونما إرادة لما هو أسمى في طريق البناء المستقبلي للبشرية. وقد لا تكون لدينا أجوبة فكرية جاهزة على هذا التحدي، وقد لا يكون إيجابياً كذلك، ولكن سؤال القيمة البديلة يظل يطارد وعينا الإسلامي المعاصر، لأنه البوابة الوحيدة لاستحقاق صفة المعاصرة لأنماط فكرنا، فدون قدرة على مواجهة القيم المؤسسة للحداثة، ونقد مواضع تهرمها، وتجاوز جوانب موتها بقيم بديلة تصاغ بلغة خطاب إنساني مفهوم، سنظل نراوح صور ماضينا المشرقة، وقد نمضي وتمضي أجيال بعدنا ولا تشرق شمسه علينا.

-3-
   الحداثة وسؤال المنهج

نميل إلى تقسيم المناهج الفلسفية الكبرى التي سادت تاريخ البشرية إلى مثالية وواقعية وتوفيقية، انتصاراً لوجهة ماكنزي(8). فالنظم الفلسفية المثالية هي التي نظرت إلى عامل الفاعلية الروحية والقيمية في تفسير الحركة المادية للكائنات الواعية، من مثل الأفلاطونية والكانتية والهيجلية والجودية، أما النظم الواقعية فهي التي نزعت إلى تفسير القيمي والروحي والأخلاقي بحركة المادة والسوق والمجتمع، وهي تشمل جميع مضخات الفكر الحداثي الليبرالي بما سادته من مناهج وضعية منطقية وتجريبية وفنومونولوجية وتحليلية ووجودية وغيرها، تفترق كثيراً في تفاصيل اتجاهاتها وأغراضها ولكنها تلتقي في موضوعها الأساسي، وهو إضفاء القيمة القدسية على التجربة الإنسانية الحسية في بعدها الفردي التحرري. وقد ينحو البعض إلى البحث عن معادلة أو ثنائية بين المثالية والمادية، ولعل الديكارتية في التاريخ الفلسفي الغربي والرشدية في التاريخ الفلسفي الإسلامي، من أبرز التعبيرات عن هذا الاتجاه.

إن التداخل الثقافي وتنامي الهويات القومية والدينية الجماعية، والعودة إلى المرجعية الدينية، بدأ يكتسح المجتمع الإنساني في الأزمنة الجديدة العولمية وشمولية المشروع الحداثي. فالعودة إلى السؤال الأخلاقي سواء من مدخله الديني أو الفلسفي المثالي، هو تشريع لمراجعة مصداقية المناهج الحداثية المادية في تعاملها مع أنماط مجتمعات المستقبل. فلم يعد من الممكن تصور نمطية منهجية في هضم التنوع المتزايد لمرجعيات الانتماء الاجتماعي. ومن هنا كان لزاماً أن تظهر مقولات (التمازج الثقافي) transcultural أو (التمازج الإنساني) transhumanism في التداول الفلسفي لحركات (البديل عن العولمة) Altermondialists أو شبكات ومنتديات الفلسفة بعد الحداثية(9).

إن عمق السؤال في مشروعية الحداثة وأهليتها لمواكبة التعدد الثقافي دون رغبة في تنميطه، هو منهجيًّا، يناقش قدرة التجربة الحسية على استنباط القانون وآلية العيش المشتركة. لقد مثلت العلمانية أساساً معيارياً مشتركاً في الاعتراف بالاختلاف، ولكن ليس الاعتراف بمعنى القبول لكلية المغايرة recognition بل بمعنى التسامح tolerance أي القبول المؤقت والجزئي للمغايرة تحت دافع الضرورة(10). إن سؤال المنهج في مراجعة الحداثة يعبّر عن مأزق في تناول مستقبل المعرفة الإنسانية، فقد لا يكون مجدياً مراوحة أنماط المناهج الحديثة أو إحياء التراث أو الوقوف على أطلال المناهج الروحانية الدينية القديمة والبائدة، لأن تطور المدنية البشرية المعاصرة يستدعي إبداعاً جديداً يتجاوز القديم والحديث، وخاصة فيما يتصل بالنمطية، وينفتح على آفاق المشكلات الجديدة.

فبقدر نجاح المناهج الحداثية الحسية في تنميط قيم التحضر تحت خيمة (القرية الصغيرة)، بقدر ما فشلت في تحقيق نموذج واحد للإنسانية one universal. فسوف يكون البحث في المنهج مركزياً حول العلاقة بين المشترك الإنساني universal والمختلف الجمعي داخل إطار الهوية identity. فالمشترك الإنساني ليس نمطاً قهرياً إنما قاعدة الأصل الطبيعي للمُثل التي مرجعيتها المشترك في الفطرة وفي المقصد بين الناس. من هنا نميل إلى القول بوحدة المشترك الطبيعي وبتعدد المشترك المعرفي ضمن أنماط ورؤى تختلف باختلاف مصادرها الثقافية ومفاهيمها المتعلقة بالقيمة والاجتماع والسياسة وجميع ما يتعلق بنظم التمدن البشري، وهو ما نطلق عليه (مشاريع المشتركات) universals(11).

وليس من المبالغة القول بأن عودة السؤال الفلسفي الإسلامي إلى الحقل المعرفي الإنساني مشروطة بالقدرة على عبور مدخل السؤال المنهجي، ومن ثم صياغة جديدة لمقاربة إسلامية للمشترك الإنساني islamic universal تفارق بها الصياغة الداخلية، التي لا تتجاوز صلاحيتها الإطار الإسلامي، بل والمذهبي والفرقي على الوجه الأكبر للاحتمال. إن الخطاب الإسلامي المعاصر في أرقى تعبيراته ضمن مدرسة إسلامية المعرفة أو من داخل مخابر البحث الأكاديمي الاجتماعي أو التراثي، لا يزال في مبحث المنهج غير متعدٍّ لذاته نحو هموم الإنسانية، أي بمعنى يظل حبيس المقدمات النظرية التراثية في محاولة الوفاق بين واجب النظر العقلي ومقتضى الشارع الإلهي، دون أن يتخطى طبيعة الجدل التي تماهت مع هذا التراث وأحالته كومةً من المسائل التي لا علاقة لها بسيرورة التاريخ وحراكيته. إن الوعي بأولوية النظر المنهجي في التجديد يحتاج إلى المعادلة الإنسانية الأساسية التي شكلت هي ذاتها الدافع النفسي والمعرفي لصدارة العقل الإسلامي طيلة عصوره الذهبية. ولا يمكن لمعادلات الوحي والنقل والحكمة والشريعة أن تحمل معنى شهودي مسؤول وبديل، خارج أزمنة الإنسان الحديثة، وبمعزل عن تطور مجتمعاته وتطلعات شعوبه.

-4-
    بعدية الحداثة لذاتها؟

إن ما يعرف بسؤال ما بعد الحداثة لم يتجاوز بعدُ مرحلة التساؤل، نحو وضع السؤال النهائي وما يترتب عليه من مقولات جديدة بديلة عن مقولات الحداثة. فـ(موت الإنسان) و(نهاية التاريخ) و(الصراع الحضاري)، لا تزال تراوح منطقها الافتراضي والمحاذيري دون أن تضع قواعد جديدة في نقد الحداثة وتجاوز أزمتها. فلم تكن العولمة منعرجاً تصاعدياً لليبرالية المشروع الحداثي بل تعبيراً متوحشاً عن مآلات قطبية السوق الواحدة له. وليس (الاستعمار الجديد) سوى عودة لطموح التوسع المباشر بعد أن اهتز كيان الأمة الجيوسياسي من جديد، وانفتحت شروخ جديدة تتسلل من خلالها يد الهيمنة باسم (التحضر) و(القرية الصغيرة).

لم تمت الحداثة ولم تُتَجاوز ولم تواجه ببدائل حضارية أرقى، بل يزداد انفرادها بوجهة العالم ويضيع تفردها يوماً بعد آخر. فموجة ما بعد الحداثة هي وقفة مع هذا الانفراد، ليست بالضرورة نقدية تترجم عن احتجاج المجتمع المدني من خلال (المنتدى الاجتماعي) مثلاً أو (صالونات علماء الاجتماع والفلاسفة)، إنما يمكن أن تدعم غطرسة نزعة الهيمنة على العالم تعبيراً لما يروجه أمثال هانتنغتون عن عقدة التفوق والغلبة الكونيتين وحتمية الصراع من أجل ذلك.

فكما أن منطوق العولمة بمدلول صلة التأثير على العالم أو الكون والكوكب يمثل خداعاً لحقيقة معنى الهيمنة والاستخفاف بقيم العالم التعددية التي تمضي العولمة في تنزيلها، كذلك منطوق (ما بعد الحداثة) لا ينبغي أن يوحي بمغالطة تجاوز الحداثة والاستبدال عنها بتصور جديد، بل ينبغي أن يحدد مدلولها بموجة المراجعة والسؤال التي لم تفضِ بعد إلى سوى تثبيت مسارات الحداثة التحكمية، بكبواتها وفجواتها وزلاتها الكثيرة.

ولا يزال الإجماع على مبادئ الديموقراطية والعلمانية والتحررية يسود الخطاب الفلسفي الغربي، بل ويقود موجات الاستعداء الفكري لما وراء خط التحضر الحداثي أي لمصادر (الشر) و(الإرهاب) و(التوحش)(12). لذا فنحن لا نثق في القدرة الذاتية للحداثة على المخاض وتوليد ذات لها جديدة يمكن أن تستحق لقب (ما بعد الحداثة). بل نراهن على قدرة أنساق الثقافات الأخرى الإسلامية والاشتراكية والمثالية والآسيوية والهندية وغيرها، على صياغة نماذج أفكارها صياغة عالمية تستجيب لتحديات الإنسان المعاصر وطموحاته، وتفارق مرجعيتها المذهبية والإقليمية الضيقة. وقد لا يخفى على أحد من المتتبعين لموجات ما يسمى بـ(الحوار الحضاري)، سواء في وجهه الديني أو الثقافي الإنساني، هامشية مردود وإسهام الثقافات الأخرى من خارج دائرة الثقافة المسيحية والانتماء للتجربة الحداثية. فهي أطر جديدة للنفوذ، إرادة الحوار داخلها هزيلة، ومنطلق الاستقطاب الديني والإيديولوجي مستحكم.

فستظل أسئلة ما بعد الحداثة تناجي ذاتها، تعبث بها دوائر النفوذ الكثيرة والمتداخلة أحياناً، سواء السياسية بطريقة مباشرة أو المتخصصة في التأثير والضغط بطريقة غير مباشرة، طالما لم تقم على تعدد في المرجعية الفكرية إيماناً وتنزيلاً. قد يعاب على الفكر الإسلامي كونه لم يمر بمرحلة دراسة الحداثة، وظل فكراً قبل حداثي، يعيش في قضايا تراثه ويحاول إحياءها وتجديدها ضمن أولوياته الداخلية، وهو ما لا يؤهله لأن يكون فكراً بعد حداثياً. ولكننا نحسب أن الفكر الإسلامي المعاصر كما باقي أنساق الفكر غير الغربي، وإن لم يختر مواجهة الحداثة فقد واجهته وفرضت تحديات كبرى عليه سواء في الجانب النظري أو الفقهي الإفتائي. لذا وردت الإجابات عن أسئلة الحداثة، دفاعية وبالتالي متعجلة وسطحية في الغالب. فعولجت مشكلات الديموقراطية والرأسمالية والاشتراكية وغيرها في ضوء ثوابت الإسلام، وليس انطلاقاً من ثوابت القرآن نحو إحداث التفكيك الداخلي لعقدة هذه الإشكالات وإعادة بنائها إسلامياً. ولكننا نصر على القول: إن الفكر الإسلامي خاض ولو من مدخل دفاعي التجربة الحداثية. ولكنه لازم بعدها السياسي ومآلاتها الاجتماعية والثقافية، دون أن يولي اهتماماً كبيراً بالأسس الفلسفية والمنهجية الابستيمية، التي تمثل مرجعية التجربة الحداثية وضابطها وناظمها المعرفي والأخلاقي.

فدور الفلسفة الإسلامية المعاصرة في هذا المجال أساسي ومستقبلي، وهو الانشغال في دراسة أسس النجاح والخلل وعناصر التطور ومركبات التحول داخل العقل الحداثي المعاصر. ولا يحتمل هذا العمل الطابع المخبري المنعزل والبعيد عن حراكية واقع التجربة، بل يفرض الوصل بين مدارسة منهج التنظير ومناهج التطبيق، لأن الحداثة في الآن نفسه فكرة وتجربة حضارية شاملة.

-5-
    نحو فلسفة إسلامية بعد حداثية

نقصد بـ(بعد الحداثي) القدرة على المراجعة الموضوعية للحداثة في أصولها ومنتجاتها، دون التناول التجريحي الشامل من منطلق فسادها العقدي والأخلاقي، ودون المجاراة المدحية رغبةً في نقل التجربة كليًّا إلى عالم الإسلام اليوم. فضمن هذه الحدود نحتاج إلى تعريف للفلسفة الإسلامية المعاصرة ودورها في الشهود على قدرة أمة الإسلام على النهوض الداخلي والإنهاض لباقي البشرية. فلم يعد ممكناً نسخ التجربة الفلسفية الأولى على اعتبارها مثلت العصر الذهبي للإسلام، لأن فعلها الإبداعي كان مشروطاً بالاستجابة إلى تحديات عصرها سواء الداخلية المتعلقة بتوطين فلسفة العقيدة والدين، أو الخارجية المتجهة إلى مقارعة الاتجاهات الدهرية/ الوجودية، والخرافية والثنائية وغيرها، بقوة خطاب (المشترك الإنساني)/ العالمي، برؤية إسلامية. وحري بنا بعد استحكام التعريف أن نركز الاهتمام حول القضايا والأولويات الملائمة لتفعيل تجديدي إنساني لإسهام الفلسفة الإسلامية المعاصرة في صياغة مستقبل الفلسفة الإنسانية.

أ - التعريف

الفلسفة الإسلامية المعاصرة هي المستوى التأصيلي النظري لجميع مجالات الفكر الإسلامي الحيوي، الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والتربوي، النفسي والتاريخي والفقهي القانوني. فهي تأسيس للأصول العقدية والمنهجية لوجهة الفكر الإسلامي في علاقة عالم الغيب بعالم الشهادة، وإبراز لخطاب كونيَّته وعالميَّته، ومرجعيَّة لعلم حجاج معاصر في الرد على الأطروحات المنافية لأسس الدين، ولحرية التدين. وليس لزاماً على الفلسفة أن تحمل خطاباً متعالياً ومبهماً، فقد يكون من مقتضيات التجريد المفاهيمي الدقة في استعمال المفردات والعبارات، ولكن المقصد في الاستعمال الفلسفي الإسلامي هو إيضاح سبل التفكير السليم للخاصة المنشغلين بإحدى ميادين المعرفة. ولما كانت المعرفة اليوم تنزع نحو التداخل transdisciplinarity فإن من إلزامات الفلسفة الوعي بتحديات ذلك التداخل، تماماً كما الوعي بالتداخل الثقافي والاجتماعي الذي يقود حركة البشرية اليوم.

والفلسفة التي نقصدها ليست علماً ولا فنًّا ولا تقنيةً جديدةً بذاتها، بل هي منهج في ضبط المفاهيم والمقولات التي تضفي التميز والكونية على الخطاب الإسلامي في مختلف تعبيراته. فهي تقوم بدور المصدر الضابط لأسس الخطاب المعاصر. ففي حين يكون المصدر العلوي القرآني مصدر الإلهام والنظر والعبادة، يكون للنظر الفلسفي الإسلامي أهلية مصدر التبيئة للمفاهيم والمقولات المعاصرة في ضوء مصدر الإلهام العلوي ومصادر التجربة التاريخية في بعدها النظري. ولا يقوم مشروع إصلاح فكري أو ميداني دون نظر في الشروط المنهجية المفاهيمية للخطاب الإصلاحي. ونميل إلى تفسير التخبط في حركة المشروع الإصلاحي المعاصر أساساً إلى ضعف الوعي بأولوية المجال الفلسفي في التنظير، دون أن نصرف النظر عن الأسباب المتعلقة بالتربية النفسية الروحية والعقل الاستراتيجي الاستشرافي وحكمة التدبير الجماعي.

أما أهلية التفلسف الإسلامي المعاصر فنحيلها إلى القدرة على النظر في المقاصد الكبرى من الدين عقيدة وشريعة، والقدرة على فهم مقاصد الأنساق الفلسفية المعاصرة المهيمنة أي الحداثية، وغير المهيمنة، وعلى مناقشتها من منطلق الخلفية الإسلامية، بغية وضع أفهام بديلة مهيمنة عليها في مستوى أخلاقية الكونية وواقعيتها. وهي صفات تفرض الجمع بين أصول الدين وحكمة الفلسفة، والاهتمام بالنظر المنهجي والمفاهيمي.

وقد لا يكون من الإنصاف والجدوى إنكار الجهد النظري من داخل الفكر الإسلامي، بالرغم من عدم استيفاء الشروط الكلية للتفلسف الإسلامي التي ذكرنا. فلقد تراكمت خلال تاريخنا المعاصر محاولات عديدة لتقديم فلسفة الإسلام في مجالات الحياة كلها، منذ إقبال والكواكبي ورشيد رضا مروراً بالنورسي وابن نبي وانتهاء إلى الفاروقي وباقر الصدر وغيرهم كثير. ولكن صوت هؤلاء لم يجد له صدىً إيجابياً في الفكر الإنساني، بل يواصل الفكر الغربي في التعامل الانتقائي مع أصوات التغريب المختلفة برغم ضعف مصداقيتها داخل ساحة الفكر الإسلامي. فقد يجد الفكر الفلسفي الإسلامي في المراحل المستقبلية من إنتاجه المتماسك طبقاً للمواصفات التي وضعناها، الصدود نفسه من جماعات الضغط والتأثير داخل الفكر الغربي، ولكن متانة تمكنه من مفردات الخطاب المعاصر ستجعله أكثر قدرة على التأثير من مفعول تجاربه الماضية. وقد تكون أولوية المعركة اليوم هي اكتساب شرعية الحديث عن فلسفة إسلامية، في اتجاه الاعتراف بأهلية هذه الخصوصية الإسلامية، قبل صلاحية التعميم الإنساني. ولا نحسب أن ماهية الفلسفة الإسلامية المعاصرة تمثل تحدياً خارجياً بقدر ما تمثل تحدياً في الإيمان بها والوعي بخطورتها داخل الخطاب الإسلامي. فطالما يترك مجال النظر الفلسفي لاستنباط الفلسفة العامة من نصوص القرآن مباشرة دون مراعاة قيمة التخصص وطابع التعقيد لهذا العمل، وطالما يتحول هذا المجال إلى فسحة للتغريب أو للإبهام، فسيظل الاجتهاد المعاصر دون مقصد الإنسانية.

ب - القضايا والأولويات

إن مهمة الفلسفة الإسلامية المعاصرة هي استنباط وحدة القيمة من مصدر التوحيد، ضمن مناقشة تطور مفهوم القيمة داخل الفكر الإنساني المعاصر. من ثَمَّ لسنا نرى وجوب الفصل بين التراثي والحديثي في تناول مشكلات الفلسفة، إذ تاريخ الفكر الإسلامي حافل بالمحاولات الإبداعية في استلهام فلسفة عالم الشهود. غير أن تفاصيل القضايا تحتاج إلى تبيئة وتأريخ حتى لا تتحول إلزامات الماضي إلى عبء وإحراج في مستوى أولويات الحاضر. فقد تستمر أهمية إضافة شروح لأرسطو وأفلاطون وأفلوطين من منطلق خلفية إسلامية معاصرة، ولكن الأولى الاتجاه نحو دراسة الآخر المعاصر لنا أي النظم الفلسفية والمعرفية التي تستحكم العقل البشري اليوم. وقد يكون معقولاً الاتجاه إلى مناقشة النزعات الأصولية الظاهرية والخارجية والأشعرية والاعتزالية التي استبقت إلى اليوم عقدة خلافاتها، ولكن التحديات العقدية والأخلاقية الجديدة التي بدأت تهدد بقاء النسيج المجتمعي للمسلمين والتي أحدثها تطور المجتمع البشري على وجه العموم هي التي تستدعي اهتماماً أكبر بالنظر والتحليل من أجل الضبط المنهجي لمشكلاتها.

كما لا يجوز الفصل المضموني بين مشكلات الداخل المتعلقة بالبناء النفسي والمعرفي والتربوي والمؤسسي ومشكلات الخارج المتعلقة بتحديات العلمانية والدولة القومية والاستعمار وغيرها، ذلك لأن أزمة فاعلية القيمة الإسلامية في مستوى الأمة والكون شديدة الارتباط بالقيم الغربية المهيمنة وشديدة التأثر بها، بحيث يستعصي وضع الحد الفاصل بينهما. من هنا وجب أن تتجه الدراسة المنهجية الفلسفية إلى فك العقدة الكلية للمفاهيم والمقولات في علاقتها بالإرثين الفكريين الإسلامي والغربي.

إن قياس مستوى خطورة القضايا ضمن أجندة الفكر الفلسفي الإسلامي المعاصر يجب أن يراعي المقاصد الثلاثية التالية، وهي بذاتها مراحل متدرجة في العطاء الفكري وليست بالضرورة مراحل في التعاقب التاريخي: النهوض، والتمكين، والشهود.

أما النهوض فهو مستوى بناء الشخصية والذاتية للفرد والأمة بالشكل الذي يضمن لها استقلاليتها وسيادتها. وهو يؤول إلى صرف الاهتمام إلى تأسيس مفاهيم الوحدة الداخلية، وأدب الاختلاف وقواعده، وثقافة العمل والكدح، وقيم العدل والإنصاف، والشورى والتذاكر، وغيرها من المعاني المؤسسة لتماسك البنية الداخلية للمسلمين.

وأما التمكين فهو مرحلة متقدمة من التفاعل مع الخارج بالتأثير عليه، وتصدر النموذج له. وهو يدعو إلى فهم عميق وبدائلي لمشكلات المانوية الجديدة من خلال معادلة التحضر والتوحش التي يستدل بها خطاب الاستعمار الجديد، ولمأزق النظام المادي الربحي أمام تصاعد الموجات الأخلاقية، ولمذاهب (الروحانيات الملحدة) أو الغنوصية الجديدة التي تحاول الاستعاضة عن روحانية الديني الغيبي المؤمن بالله بروحانية المصدر الإنساني النفسي(13)، ولتراجع البعد النموذجي الإنساني لأطروحات المجتمع المدني والعلمانية والديموقراطية والدولة الوطنية، كي تتحول إلى أدوات براغماتية في خدمة لعبة النفوذ الدولي.

وأخيراً فإن مدلول الشهود في تصورنا هو بلوغ درجة النموذج السلمي والتصالحي بين جميع العناصر الحضارية للبشرية. وقد يدرك ذلك عبر دحض مقولة الصراع الحضاري واستبداله بالحوار؛ لأن الصراع لا يقيم فعلاً حضارياً، بل هو نقيض التحضر والخط العكسي له، وكذلك من خلال تحجيم البون والفراق بين النزعة الإنسانية والنزعة الدينية في محاولات الحوار بين الثقافات، لأنه يربك أجواء الحوار ويعيق مقصده، ثم مواجهة مشاريع إذابة الهوية الداخلية للأديان التي كثيراً ما تمرر بين ثنايا دعاوي وحدة الأديان.

إن الأولوية الاستراتيجية في تنزيل الإصلاح الفلسفي هي نشر الوعي بعقدة قضايا الأمة التي تواجهها في حاضرها وتتربص بمستقبلها، وحاجة ذلك لتضافر المقاربات في الإصلاح الفكري، وفي أن تتصدر الفلسفة الإسلامية رؤية البناء المعرفي المنهجي والمفاهيمي، والذي على أساسه تستمد باقي العلوم الاجتماعية والإنسانية وجهته المقصدية.

وهو ما يدعو إلى إحياء ثقافة إحصاء العلوم وتوزيع أدوارها حتى يحصل التكامل الحضاري بينها ضمن الاحتياجات الجديدة للأمة ولعالم الإنسان اليوم.

رؤيتنا تميل إلى ضرورة إعادة النظر في بَدَهِيَّات التقسيم الغربي للعلوم التي لها علاقة بدراسة حركة الوعي والتاريخ وهي العلوم الاجتماعية والإنسانية واللاهوتية، وذلك ضمن أفق إسلامية المعرفة. وهو ما يقودنا إلى تصور مجالين كبيرين للمعرفة يستجيبان لمستقبل الإحياء الفكري ومراحله التي قدمنا لها، وهما مجال العلوم المنهجية، ومجال العلوم التشريعية والتنزيلية. وهو فصل يقوم على التمييز بين مستوى الفهم والتأويل الذي أساسه جملة من المداخل المنهجية، وبين تنزيل الفهم واختبار مصداقيته والذي تعين عليه بعض العلوم التطبيقية الإنسانية. ويشمل مجال العلوم المنهجية الفلسفة، وأصول الدين، وأصول الفقه، وتهذيب النفوس أو التربية والنفس، والقرآن، والحديث. أما العلوم التشريعية والتنزيلية فهي تتناول الفقه، والسير والتاريخ، والعمران أو علم الاجتماع والمدنية، والسياسة، والمستقبليات.

إن مراجعة تصور الدور التكاملي للمعرفة الإنسانية يلزم البحث الإسلامي المستقبلي باتباع المنهج الحضاري المساعد في تفعيل طاقات الأمة، فيحترم الأولويات التأصيلية على التنزيلية، ووحدة مقصد العلوم على شتاته، وجوهر الفضيلة على استعمالها الأداتي لفائدة حركة المادة.

ختاماً: الفكرة الإنسانية

قام المشروع الحداثي على جوهرية الإنسان في عملية التحضر، وحاول تحقيقاً لهذا الغرض ضمان شروط المشاركة الإنسانية الكفيلة بإخراجه من أغلال سلطة الخرافة واللاهوت نحو سلطة العقل والاختيار الإرادي. ولكن تضخّم معادلة التقنية والربح ألقى بظلاله على جوهر الفعل الإنساني وهو إراديته. فتحول الإنسان من مصدر ومرجع للرأسمال المادي، إلى رأسمال مادي جديد داخله، سمح بتسويق عضلاته وشهواته وأحزانه وأفراحه.

إن صورة الإنسان داخل دورة الحضارة المعاصرة شبيهة بأية صورة لسلع رأس المال المادية، تراهن فيها على العناصر الأكثر جاذبية واسترباحاً، وقد يستعمل فيها تحقيقاً لهذا الغرض الدين أو الروابط الاجتماعية النبيلة من صداقة وأخوة وغيرها.

وقد لا يذكر الإنسان بميزاته الأخلاقية من خارج مناطق النفوذ أو منابر الاحتجاج المدني وبخاصة أروقة حقوق الإنسان.

الإنسان الرقم في حضارة الربح هي المعادلة الأكثر إنتاجاً، ولكنها الأقل تعبيراًً عن البعد الإنساني لهذه الحضارة.

فكرة إنسان الحضارة هي المعادلة الأكثر إتلافاً داخل سبق السوق، وهي الفرصة الثمينة أمام أنماط التحضر الإنساني الأخرى وخاصة الإسلامي كي تعيد للإنسان منزلته الجوهرية. ولعل إزاحة فكرة الله من التجربة الإنسانية تحت خيمة العلمانية وخاصة في تجربتها الفرنسية والفروكوفونية، هي التأويل الثاني لسبب تمييع موقع الإنسان ضمن دورة الحضارة. ولكن البشرية لن تنسى حضارة صكوك الغفران الدينية - السياسية في القرون الوسطى وإلى نهاية القرن الثامن عشر. لن تغفر البشرية للدين السياسي الذي فوض لقلة من البشر السلطة المقدسة، والتي باسمها سلط سيف الاستعباد على ضعاف المجتمع من غير الوجهاء ومن النساء وأصحاب الألوان غير البيضاء أو كما يطلق عليهم في المجتمعات الأمريكية اليوم استظرافاً أو استخفافاً (الملونون).

ذاكرة البشرية دامية شهيدة في علاقة الدين بالسلطة، فهل سيكون مقدوراً للعقل المسلم البرهنة على ضمان الدين لكرامة الإنسان، بل ومصدرية الدين في استلهام فلسفة المعادلة بين عالم الغيب وعالم الشهادة؟ النزوع إلى الهيمنة على خلفية مرجعية الدين أو عدمه قلَّما تجرد منه عالم التجربة، فهل سينجح العقل الإسلامي المعاصر في تجريد التجربة الإنسانية من أدرانها الهيمنية من وحي صورة خلافة النبوة، وتقديم النموذج المستقبلي لخلاص البشرية من حالة الامتهان والغربة التي زرعتها أنظمة الحداثة وهي تسعى للتنصل من معيارية الغيب وغذاء الروح دون طائل؟

إن اتخاذ القرار بإحياء التداول الفلسفي داخل الفكر الإسلامي هو بداية الإجابة عن هذه الأسئلة لأنه بداية الإجابة عن سؤال المستقبل.

 

الهوامش:

* إجازة في أصول الدين من جامعة الزيتونة، دكتوراه فلسفة من جامعة السوربون، ورئيس تحرير مجلة رؤى الصادرة في باريس.

(1) انظر: (مقالات الإسلاميين) للأشعري، (الملل والنحل) للشهرستاني، (الفصل في الملل والأهواء والنحل) لابن حزم، (الفرق بين الفرق) للبغدادي، (المغني في أبواب التوحيد والعدل) للقاضي عبد الجبار...

(2) انظر: نظرية الفيض عند الفارابي، (كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة).

(3) ورد في كتاب (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال) في الحديث عن حكم دراسة الفلسفة: (إن كان فعل الفلسفة ليس شيئاً أكثر من النظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع، أعني من جهة ما هي مصنوعات، فإن الموجودات إنما تدل على الصانع بمعرفة صنعتها) ص22، و(لا يؤدي النظر البرهاني إلى مخالفة ما ورد به الشرع، فإن الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له) ص 31-32، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت ط3، 1968

(4) من أمثلة ذلك كتاب (جاهلية القرن العشرين) لسيد قطب.

(5) انظر مقالنا (جدل القطبية والتعددية ومستقبل الحوار)، مجلة رؤى، باريس، العدد 16، 2002.

(6) المنجرة المهدي، الحرب الحضارية الأولى: مستقبل الماضي وماضي المستقبل، النجاح الجديدة، الدار البيضاء، ط 7،.2001.

(7) Bruckner P., Le chantage à lislamophobie, Le Figaro, 5 Novembre 2003 .

(8) Mackenzie J., Ultimate Values, london, Hodder and Stoughton, 1929, P.75 .

(9) أعمال مؤتمر فلسفة الأخلاق في 3 أجزاء: 

CreationCreativityReproduction, Unesco Chair of interfaith dialogue, EIDOS, 2003, N° 15 – 16 – 17.

(10) Michael WALZER, Traité sur la tolérance, Ed. Gallimard, 1998, 24.

(11) نشير إلى ورقة تقدمنا بها حول موضوع (الهوية والعالمية (ونفضل (المشترك الإنساني)) Universal and Identity في الندوة التي عقدها قسم الفلسفة باليونسكو بمكتبة الإسكندرية، سنة 2003.

(12) نشير هنا إلى كتاب الفيلسوف الفرنسي بارنار هنري لفي الذي نشرته دار غراسي الفرنسية سنة 2003، والذي عنونه صاحبه بـ(من قتل بيرل؟) إشارة إلى الصحفي الأمريكي الذي اختطف ثم قتل في كاراتشي سنة 2002. والكتاب هو تحوّل خطير وجدير بالدراسة في اتجاه الفلاسفة الغربيين الذين لا يخفون تخوفهم وأحياناً كراهيتهم تجاه الإسلام. وقد اتخذ الكتاب شكل الرواية ولكنه اعتمد على دراسة ميدانية (بوليسية) تقصّى فيها صاحبها آثار الجريمة، ليعلن بكتابه ومن خلاله عن اتهامه الإسلام السياسي عموماً والقاعدة خصوصاً باقتراف الجريمة، وفي اختلال السلم العالمي.

(13) نقصد بالروحانية الملحدة الفكرة الجديدة الخفية والغالبة على المجتمعات الغربية، وهي التي تؤمن بوجود مصدر روحاني داخلي في الإنسان، يستمد من الطاقات الحدسية تأثراً بالفلسفة الحدسية لبرغسون، وبالأنساق الدينية التي لا تؤمن بالمصدر العلوي الغيبي للروحانية كالبوذية. وهو تأليه جديد (روحاني) للإنسان في مقابل التأليه المادي للحداثة، وهو تعميق لغربة الإنسان المعاصر في ذاته ولمنطق الخلاص الفردي. وقدسية الروحانية الملحدة في تصورنا هي أشد من قدسية المادية الحداثية على قدسية التدين المؤمن بالغيب، لأن هذه الروحانية الملحدة تنافس الأديان السماوية في تبنِّي مطالب الروح، أما المادية فهي تنكرها ولا تجادلها مرجعيتها. فهي مادية جديدة من حيث إنها لا تستند إلى السلطة الغيبية، وهو تحدٍّ مستقبلي كبير أمام حركات الصحوة الدينية السماوية الإسلامية وغير الإسلامية، نعتبره مدخلاً أساسياً وغائباً في التعاون بين هذه الأديان.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة