تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

معركة المعنى في بيان السلم المجتمعي

هاني ادريس

قراءة نقدية في «الأهل والدولة» للكاتب السعودي محمد المحفوظ ـ

الكتاب: الأهل والدولة: بيان من أجل السلم المجتمعي.
الكاتب: محمد محفوظ.
الناشر: منتدى الكلمة للدراسات والأبحاث.
الصفحات: 166 من القطع الوسط.
سنة النشر: الطبعة الأولى 1997م.


«الأهل والدولة»، هو عنوان أحدث أعمال المؤلف السعودي، الزميل محمد المحفوظ، المطبوع ضمن «سلسلة آفاق في البناء الحضاري»، الصادر عن منتدى الكلمة للدراسات والأبحاث.
ولعلنا من خلال العنوان، نستشف طبيعة الفكرة ـ الهاجس، التي تمثل العنصر الرئيسي في خطاب «السلم المجتمعي»، كما أراد المؤلف أن يقاربها من خلال عدد من المقالات والدراسات المتعاقبة. البحث عن صيغة ايديولوجية وحقوقية لاعادة حبك الوشائج السلمية بين المجتمع المدني والسلطة، في جزء من العالم، لايزال يخطو بكلل إلى ترتيب كيانه السياسي على أساس القانون والحق والمواطنة.. الأمر الذي يجعل من قضية العلاقة القلقة بين الدولة والمجتمع الأهلي، قضية ساخنة وفعالة في عالمنا العربي، فالسلم المجتمعي الذي غدا مطلباً ناجزاً وحاجة تاريخية ملحة للانسان العربي، لا يتحقق إلا باعادة النظر في صميم العلاقة الواصلة بين السلطة والمواطن، وذلك انطلاقاً من تحديد مفهوم السلطة ذاتها، أهدافها ووسائلها.. نهاياتها وحدودها، وأيضاً مفهوم المواطنة، وطبيعة الحقوق والواجبات المطروحة في طولها. وفي هذا الاطار، لسنا في حاجة إلى استرجاع الجدل الكلاسيكي حول الصيغة التي يجب أن يكون عليها الكيان السياسي وعلاقة الحاكم بالمجتمع في ضوء نظرية العقد، بقدر ما نحن ملزمين بتوضيح العوائق الثقافية والنفسية والاجتماعية، التي تقف حاجزاً أمام مسلسل انفراج العلاقة بين السلطة والمواطن، ضمن موقف مجتمعي سلمي.
* * *
وعرضنا هذا، لا يُعنى باستظهار فكرة الكتاب والترصد لمواقعها، بقدر ما هو في حقيقته عرض نقدي يهدف إلى تثوير الفكرة واستنطاق ما تحبل به نصوص الكتاب من منازع، حاكية في عمومها عن حالة أوسع، أو مؤشرة على أهداف أبعد، أو هائمة في قلق مزمن.. خصوصاً، ولا غرابة في أنّ كلاماً كهذا يجد مصداقيته أكثر، حينما يتعلق الأمر بمجال مأزوم، ومشكلة تنطلق من مواجعنا الجماعية وقلب مواطنة قلقة، متوثبة في طريقها، داخل لجة التسيب وهدر الحقوق.. كما حينما يتعلق الأمر بالسلطة والدولة وواجباتها..
جاء الكتاب في زمن مناسب، لذا فهو بهذا المعنى، معاصر، ابتدأه الكاتب بمقدمة ومدخل، تعرض فيهما إلى فقه الحاضر ووجهة نظر مستقبلية بخصوص العالم العربي. أما باقي الكتاب، فهو ينقسم إلى أربعة فصول، تناول في الأول المسألة الوطنية في الفكر العربي المعاصر.. عالجها من موقع الثقافة العربية بين الخصوصية والعالمية.. والثقافة الوطنية، ومسألة الهوية، في بعد الوحدة والتنوع في الاطار الوطني. أما الفصل الثاني الذي كرسه لـ: بيان من أجل السلم المجتمعي، فقد عالجه من خلال محور الدولة والمجتمع، تناقض وتكامل، والواقع التاريخي والوحدة الوطنية، ثم من خلال التساؤل عن طبيعة الدولة العربية بين التقليدانية والحداثة.. أما الفصل الثالث: فهو مكرس للدولة الحديثة والوحدة والوطنية، حيث عالج من خلاله، قضية الأقليات كمشكل وطني، والتنوع المجتمعي والعلاقة مع الخارج والتنوع المجتمعي بين الانتماء والانفتاح، ثم تطرق إلى بيان قواعد السلم المجتمعي.
وأنهى كتابه بالفصل الرابع، الذي كرسه لعدد من الموضوعات، عنُون لها بـ«مجالات»، منها: تعالوا نتعلم كيف نختلف، الأهل والتنمية السياسية، الأهل والتنمية الاقتصادية، العمل الأهلي والتنمية الثقافية، الأهل والأمن الاجتماعي، مرفقاً كتابه بملحق يشمل نصوصاً مختلفة لغير الكاتب..
* * *
الكتاب على تنوعه، وعلى الرغم من أنه جامع لموضوعات ودراسات، قد تكون كتبت في مناسبات مختلفة، إلا أن الوحدة الموضوعية واضحة فيه، مادام الكاتب يملك التعبير عن كوامنه وهمومه.. وما دام النص لا يخون كاتبه ويباشر سلطته خارج ارادة القصد، ويبني رؤيته بمعزل عن سياسة المتكلم. إن الكاتب هنا يعرض خطاباً حوارياً، يختزن رغبة جامحة في تهديم الأسس التاريخية والثقافية، لموقف يصادر على المساءلة والمشاركة والمخالفة، وهذه الرغبة، قد تأخذ لها أسلوباً ما، ذكياً، يجد قوته في مصالحة من طرف واحد، مع لغة اكتسبت قوة في راهنٍ يهيمن عليه خطاب حق الخلاف، والكاتب من خلال المقدمة يحيلنا على هذه الهواجس الساكنة في أعماق مشروع ينضح به نص مثخن بالرغبة في اختراق معنى ما، سائد.. وثمل من مقاصد مشروعة في عالم لم «يتعولم» بعد، في تصوراته لعلاقات القوة. يستعرض الكاتب الفكرة الرئيسية للكتاب في المقدمة، في لغة تناور من أجل ضمان هامش من مشروعية القول، والمراهنة على السماع، من قبل كيان سياسي «عربي»، يستنكف عن سماع مالا يهواه..
يواجه التساؤل باللاّمعنى.. ويبطش بالمقاصد.. ويفسح المضمار أمام جموح القول المسجوع. لعلني أحس هنا بمتكلم يلقي الكلام على بساط حلو ساكن في عمق المخيال العربي. فالقول في المعنى إذا مازاد عن حدّه انقلب إلى «اللامعنى»، لهذا يحرص الكيان الرابض على مساحة من المعنى أن يصادر على الوجه الآخر له. وبين المعنى واللامعنى، هناك يسكن العقل العربي، أي في قلب الدوامة، يتأرجح بين متعة المعنى ومغامرة اللامعنى.. أو بين اللذة والحرية، وهما قوام الوجود الانساني.
يحاول الكاتب، بحذر شديد، أن لا يفصل بين الدولة والمجتمع، حينما يدور الحديث عن توزيع المسؤولية من المسؤول، اذن، عن غياب السلم المجتمعي؟ منطوق النص، يتحدث عن أن الجانبين يتحملان معاً نتائج ومضاعفات الاخلال بالسلم المجتمعي، ويكون السؤال، ابتداءً، من هذه النقطة:
«هل يمكننا الحديث عن السلم الأهلي والمجتمعي، في الدائرة العربية والاسلامية، بحيث تكون هذه المسألة حقيقة من حقائق الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي، وثابتة من ثوابت تاريخنا الراهن» [ص11].
العلاقة المتوترة بين الدولة والمجتمع، هي حصيلة فقدان وعي من الطرفين. والحال أننا حينما نتحدث عن غياب وعي في تكوين مجتمعي ما، يصعب إفراد احدى مكوناته في مسؤوليتها كما يحدث من تصدعات كيانية. لكن الوعي الذي يحاول الكاتب ابرازه في عجالة، يتعلق بوعي تاريخي.. «وحينما يغيب الوعي التاريخي لمسألة العلاقة بين الدولة والمجتمع، وتضمر الثقافة البناءة، التي تبرز بعناصرها الإنسية في هذا الحقل الهام فإنها لا تنتج إلا علاقة متوترة، لاترضي الطرفين ولا تحقق طموحات كل منهما» [ص11].
إن غياب الوعي التاريخي تستكمله مفاهيم الثقافة البناءة، مما يجعل القضية أكبر من مشكلة سياسية.. فبالاضافة إلى أن مشكلة توازن «آليات الانتظام» بين الدولة والمجتمع، هي قضية سوسيوثقافية بالأساس، فإن الكاتب يحيلنا في هذه العجالة المقصودة، إلى «الوعي التاريخي». وهذا إنما يؤدي معنى «وظيفة»، أو وظيفة «معنى» في الثقافة العربية، هذا التركيز المقصود نلحظه في ذلك التأكيد المتكرر على هذا الجانب:
ـ «وحينما يغيب الوعي التاريخي لمسألة العلاقة بين الدولة والمجتمع..» [ص11].
ـ «وإنما هو مرحلة يبلغها المجتمع عبر هذا التراكم التاريخي..» [ص11].
ـ «وانه هو المدخل الضروري تاريخياً لارتقاء سديم بشري من مستوى الانحباس في دوائر الانتماء الضيقة إلى مستوى مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات» [ص11].
وفي ذات البين الذي جنح فيه الكاتب لتركيز غياب هذا الوعي التاريخي، فإنه يدرج هذا البعد في تماهٍ مع خطاب المصير والمستقبل.. «وفي تقديرنا ان السلم المجتمعي مصيرنا».. و«وان علينا فتح عقولنا وكياننا على آفاق هذه العملية، ليس لانها تنسجم وتاريخنا فحسب، بل لأنها تفاعل وانفتاح على المصير».. «وهذا يعني أن نخرج من التناحر والاقتتال [...] ونعلن بصوت صارخ وعقل ناضج، ضرورة تجاوز معاناتنا الطويلة بالوعي الكامل لتحديات راهننا وآمال مستقبلنا». [ص11]
وهذا الحضور المكثف لعنصر الزمن، وأبعاده في التحليل، يؤسس للرؤية البراغماتية ـ أيضاً ـ لخطاب السلم المجتمعي. مما يضفي الطابع الايجابي على موقف متمنع، يراهن على حقه في قلب المناورة التحاورية أو التفاوضية.. وبلغة ديمقراطية تسعى في حواريتها إلى نسف البنى التناقضية، لكيان تأسست علائقه على أساس الفصل بين المقبول واللامقبول. والدعوة متى ما توسلت بآليات متصالحة في مطارحاتها; فإنها تحتفظ ـ عادة ـ بموقفها المخاصم، وعنفها المشروع، ورؤيتها الجذرية; تلك التي تقسم مهمة الاضطلاع بمسؤولية الشراكة على الدولة والأهل.. كما ترفع الموانع والتابوهات الايديولوجية والنفسية أمام خطاب التعايش السلمي والوفاق الوطني وصدمة النزول إلى حالة التعاقد، ولغة الحقوق.
مايثيرني في هذه المناورة الخطابية التي تحتفظ بموقف جذري يؤسس لحرية الوطنية المهمشة،، بفعل تضخم علاقة القوة، وخطاب السلطة.. فيما هو يحيل على المجتمع الأهلي. ولما استعمل لفظ المناورة، والخطابية، فذلك وعياً منا بأن الكتابة في حد ذاتها هي فعل مناورة، يتجه بالمعنى إلى حيث لا يتوقع من مستمع غافل، أو لا يحتمل من قارىء حروفي. كما أن الخطابية هنا، ليس بالمعنى الذي تعارف عليه المناطقة، بجعلها على هامش البرهان، بما أننا نعتقد أن للخطابة نفسها منطقها، ومجال حقيقتها. ومما لاشك فيه، أن الكاتب لم يكن يقصد خلق خطاب لمعميات.. غير أن الكتابة هي كما يراها «كافكا» ضرب من الصلاة. فإن النص بناء عليه، يقول كلمته، وتعانق حقيقته الغائبة، هواجس اللاشعور الكامنة، وما يختزنه من موقف جذري غير متصالح مع أنصاف الحلول، كما يخفي امتعاضاً ورفضاً شديداً لواقع، فيما هو يخترق بالمسافات الحوارية عقلاً متمنعاً.
الحاضر.. الماضي.. المستقبل، في مقروئية «السلم المجتمعي»:
اختار الكاتب موضوعين ضمن مدخل عام لمؤلَّفه، عنُون له بـ«أوليات». الأول يتعلق بفقه الحاضر.. والثاني: العالم العربي، وجهة نظر مستقبلية. ثمة بلاشك حقيقة تربض بعنف خلف هذا الممشى الدلالي. فثمة فقه، وحاضر ومستقبل.. كما أن هناك عالم عربي. والهاجس المعرفي الذي يؤطر هذا الاختيار ؟؟؟ هو محنة تواصل صعب، بين غربة الأصالة وعنف حداثة مستعصية على مجالنا العربي، وهو يستعيض بماضيه عن مستقبله في حاضره. هناك بالتالي دعوة إلى فقه بالمعنى الذي تتيحه المناورة اللغوية، التي تجعل الفقه هنا بالمعنى اللغوي والاصطلاحي معاً. أي فهماً عميقاً بالحاضر، وأصيلاً أيضاً، ثمة دعوة خفية لمقاربة أصيلة لواقع متحرك باتجاه الحداثة. ثمة أيضاً ما يثيره عنوان «العالم العربي وجهة نظر مستقبلية». فحيثما نظرنا إلى هذا المجال، إلا واستشرى الحديث إلى مقاربات مستقبلية. وكأن العالم العربي لايزال يعيش حاضراً فيما هو يُولّي وجهه صوب ماضيه.. عالم يتجه إلى الأمام، فيما بصره شاخص إلى الخلف. والحال، ان العالم العربي يعيش حداثته، ويعيش مستقبله داخل عالم متغير بجنون.. وفي مسار امتد إلى أبعد من حلم العربي ذاته. إننا بلاشك أمام محاولة ترمي بمسؤولية الحاضر على المستقبل. والمستقبل كالماضي، حينما يؤطر هموم الحاضر بالصورة الموضوعية المعقولة، يمثل بعداً حقيقياً.. هذا البعد الذي ان زاد على حدّه، انتهى إلى استيلاب حاضر مأزوم في مستقبل حالم.. أو حاضر في ماضي منصرم.
إن فقه الحاضر، هو بالنتيجة موضعة زمنية تجسد أفضل توزيع لتخارجاته الثلاثة. حيث يبقى الحاضر دائماً ذلك المؤشر الحاضر / الغائب، الذي يُنتقى من ماضي بعيد أو مستقبل منظور. وفقه الحاضر فيما يؤشر إليه كاتبنا، هو في حقيقته دخول مشروع في الحداثة، واستيعاب كبير لمنجزاتها.. «فهناك [يقول الكاتب] تطور مذهل في العلوم الطبيعية والرياضية، كما في العلوم الاجتماعية والانسانية [...] لأن هذا الحاضر بتداعياته وزخمه اليومي وحجم حركته..» [ص17] غير أن دعوة الكاتب إلى الحاضر، لا تحمل معنى التنكر للماضي. ذلك أنه لا مجال للقطيعة هنا، مع التاريخ، من حيث أن «المجموعة البشرية التي تنفصل عن تاريخها فإنها تقوم بعملية بتر قسري لشعورها النفسي والثقافي والاجتماعي» [ص17].
إلا أن الرجوع إلى الماضي، لا يعني استرجاعاً زمنياً إسقاطياً، بل «الأخذ بنمط حضاري يمدنا بالقوة والمعرفة» [ص17].
أو بتعير أوضح، ان العودة هنا هي «عودة تاريخية تحاول أن تتواصل مع القيم والمبادىء والسياقات الفكرية والنظم الثقافية التي صنعت ذلك الماضي المجيد» [ص18].
والتاريخ هنا ـ أيضاً ـ وقد سبق أن التأكيد على الوعي التاريخي، مسألة جوهرية في حياة المجتمع الانساني.. فلا «يوجد مجتمع انساني بلا تاريخ ولا ماضي» [ص18].
إن فقه الحاضر، بمعنى التموضع في عالم الحداثة، هو الوجه الآخر للدعوة إلى فقه الماضي، والتموضع في عالم التراث. إن الحل المقترح في هذا الاطار، هو وصل ايجابي لروح الحاضر بروح الماضي، في معركة التحديث والتعاصر.. أي وعي تاريخي، يحيلنا إلى فلسفة المجد للعرب، كما يحيلنا إلى مواطن الايجابية في الحياة المعاصرة.
يعود المؤلف مرة ثانية إلى المجال العربي، ليحدثنا عن همومه ويحملنا إلى آفاقه.. وحيثما باشر المرء في الحديث عن العالم العربي، إلا وانفتح أمامه المجال، لكل قراءة ممكنة.. فكما أبيح التاريخ العربي وأرضه.. فإن الحاضر العربي وقراءته أضحت أفضل مؤشر على خيبة أمل أمة تزحف بيأس مرير، صوب مستقبل مستحيل، تزأبق مصيره في لجة عالم خاضع للعبة الكبار، وخيانة الصغار.. هنا ومع الكاتب ـ طبعاً ـ يتم الحديث عن مظاهر النكبة العربية.. وتوصيفاً للكيان العربي ينحدر به إلى أدنى درجة يحلم بها مجتمع ينزع إلى التقدم والكرامة; بدءاً بهيمنة المستعمر، ومروراً بالاجتياح الصهيوني وما رافقه من نكبات ونكسات، وانتهاءاً بقمع الحريات وسيادة العسكر والانكفاء على تنمية يمكننا اعتبارها تنمية ذات أبعاد تتبيعية أو تخليفية «Sovs-DEVELLOPEMEMTAL» . لقد قصد المؤلف من خلال هذا التوصيف، اعادة الاعتبار للجمهور والشعب، حيث تنتهي الدعوة إلى النخبة لكي تنهض بدورها التاريخي، أي، تأطير الجماهير ضمن خطة إنمائية حقيقية، في بناء مستقبل عربي واعد..
يغامر الكاتب مرة أخرى، حينما يتناول احدى أكثر الموضوعات حساسية في المجتمعات العربية.. تلك التي تتعلق بالمسألة الوطنية. فلاشك في أن معالجة هذه الاشكالية ضمن موضوعة الفكر العربي المعاصر، هو غير مناقشتها في اطار الواقع العربي.. فلا أقل داخله هذه المساحة نستطيع أن نقول ما لا نفعل أو يُفعل.. هكذا يدور الكلام عن جملة من العناوين القلقة، مثل الخصوصية / العالمية.. الهوية.. وقضية الوحدة والتنوع.. ولم تكن المواقع التي تنطلق منها هذه المعالجات، واضحة الملامح، أو ظاهرة الاتجاه.. كل ما يكشف عنه النص هنا، أن ثمة رؤية تحاول جهدها اقامة موقف وسطي، توليفي وأيضاً انتقائي، يواجه الفكر بالفكر، ويقحم مختلف الخطابات في معركة مفروضة. هكذا بتنا نلاحظ أن التجزئة تُواجه بخطاب الوحدة.. وخطاب الوحدة يواجه بالتعددية.. كما تواجه النزعة الحداثية بخطاب الأصالة.. وخطاب الأصالة بالعولمة. هذه النزعة الانتقائية، تؤسس في النهاية لايديولوجيا، أريد لها هنا أن تؤدي دور صمام الأمان لناقد يخفي أصوليته في حداثته أو حداثته في أصوليته.. ذلك لأن الموقف المزدوج، هو قدر الانسان العربي والمسلم، أيّاً ذهبت به منازعه وحيثما شط به قلمه.
تصدى الكاتب إلى خطاب الوحدة من منظورها الأصولي، القوماني، النافي لتعددية الأعراق والثقافات.. معتبراً الثقافة العربية في عمقها الفطري، تنطوي على روح التسامح مع الآخر. وهو هنا يتوسل بخطاب إنسي وثقافي، يتجاوز ميتافيزقا الحداثة، ليعانق خطاب ما بعد الحداثة في احتجاجاته الدؤوبة لرجّ هذه البنية المغلقة على انوية استعلائية واستعراقية، الكاتب بلا شك، هنا، ينتمي إلى نمط الكتابة الواعية بمقاصدها. يحيل على زوايا نظر متنوعة، ويستعين بمواقع القوة في مختلف الخطابات. وهو بذلك، لا يبني له موقعاً مركزياً، أو مرجعية واضحة.. إذ ليس من واجب النقد أن يؤسس له موقعاً.. أو يرتكز له على اتجاه.. لأن النقد فعل هدم وبناء.. تغييب واستحضار.. لهذا يرى الكاتب أن الوحدة: «فالوحدة لا تعني التطابق التام في وجهات النظر، وطرق التفكير بين أبناء الوطن الواحد، وانما تعني احترام حقائق التعددية والتنوع والعمل بشكل مشترك ووحدوي على ضوء تلك الحقائق» [ص41].
وان الهوية: «ونحن ننطلق من ضرورة تثبيت مسألة الهوية في الثقافة العربية، باعتبار أن الكثير من الانتاج الثقافي والمشاريع في المجتمعات العربية، قد انطلقت من اطار ومنظور مرجعي لا ينسجم والهوية التاريخية والذاتية للمجتمع العربي..» [ص38].
وان الحداثة: «ان الدولة الحديثة، ليست هي التي تقتني أدوات التكنولوجيا الحديثة بكل أشكالها ومواقعها. وانما الدولة الحديثة هي التي تعتمد في نمط تفكيرها وتخطيطها الجمعي ونظامها التعليمي على قيم العصر والعلم الحديث..» [ص63].
بيان السلم المجتمعي
خصص الكاتب ثلاثة محاور للفصل الثاني تحت عنوان يسعى إلى تشكيل «طوبا» المجتمع المستحيل; «السلم المجتمعي» و«الطوبا»، هنا تحمل دلالتها السياسية التي تحرك حلم الداعي إلى مصير أفضل. وكل دعوة تنطلق من واقع مأزوم إلى واقع أفضل، هي دعوة حالمة، هكذا نستطيع القول أن الحقيقة هي موضوع طوبا في هذا الزمن والوضع الرديئين. وحال المجتمع العربي، هو مجال لتقاطع أزمات تاريخية ومصيرية. أي أنه مملكة مهيئة لاحتضان كل أشكال «الطوبا». هذه الأخيرة التي تأخذ مقدار رداءة الواقع. إنهار انسلاخ متواصل، وتجريد حالم لنقل الواقع إلى أعلى مدارج المثل، واعادة صياغته على أساس من المعقولية.. فهو إذن نقل للمكان إلى اللامكان.. وما «الطوبا» في أصلها الايتمولوجي، سوى هذا اللامكان U-ToPiE .. وحلمنا في مجال الاجتماع العربي، حلم صغير بقدر غباء تخلفنا. إذ قدرنا أن لا نبرح اشكالية الدولة / المجتمع، التجزئة الوطنية، التقليدانية، الحداثة.. فأعلى عوالم مثلنا، ونهايات حلمنا، هو «طوبا» متحققة. فقد انتهى الغرب إلى أن يصدر ثقافته ورؤيته على أساس أنها «طوبا» العالم الثالث.. ولا غرابة من ذلك، إن كان ماركس يوماً، اعتبر الدولة المتقدمة تكشف للدولة المتخلفة عن صورة مستقبلها..
إن رأياً لا نكاد نختلف عليه، هو ذلك التخلف الباسط جناحيه على جميع قطاعات المجتمع العربي.. أي أن التخلف هو بالنتيجة حضاري.. «إن التخلف الحضاري الذي تعانيه شعوبنا العربية والاسلامية، بنسب مختلفة يلقي بظله الثقيل على مجمل مرافق الحياة ومجالاتها..» [ص51].
ومهما بدا هذا التخلف شاملاً، فهناك قطاع يمثل المؤشر الأكثر تعبيراً عن هذا المأزم الحضاري; إنه «المجال الاجتماعي». وهو فضلاً عن ذلك، يمثل مجلى هذا التخلف، وحقلاً لمجمل تمظهرات الأزمة. إذن، فالحديث عن «السلم المجتمعي» من ها هنا يكتسب مشروعيته. فالمشكلة تبدأ بنيوية. غير أن الحل يتوسل بلغة «العلية». والحال، ان السلم مطلب بنيوي، مشروط بتوفير مناخ السلم، والأمن المجتمعي، ابتداءً من الأمن الغذائي حتى الأمن الثقافي. ولا نعني «المجتمعي» هنا، بالمعنى الجغرافي ـ البشري; بل بالمعنى السوسيو ـ ثقافي..
لعلنا نصل مع المؤلف إلى نتيجة، بعد ولوجه في أكثر من مضمار.. ووقوفه على أكثر من موقع، وهو يترصد تمظهرات الأزمة هنا أو هناك.. هو أننا بالنتيجة نقف على سلسلة طويلة، وعريضة مملة من مطالب مشروعة / مستحيلة!.
لذا ظلت لغة الخطاب، تتراوح بين التعريض والفضح تارة.. وبين الدعوة والتوسل تارة أخرى هناك بالتالي استنفار عام لكل أشكال الخطابات، بحثاً عن سلطة أقوى من «غلبة» الواقع. هكذا نستطيع رسم تشكيلة بيانية، جدلية، لأهم الاشكاليات المعروضة:
الدولة / المجتمع التخلف / التنمية
الحرب / السلم الماضي / المستقبل
الخصوصية / العولمة التراث / الحداثة
الاستيلاب / الهوية...
وأمام هذا الطابور الإشكالي، نستطيع أن نحدد الموقف الجدلي المتوخى في هذه الدعوة.. أي نجعل خيار السلم في طابور، المجتمع، والمستقبل والحداثة والتنمية والهوية والعولمة.. في حين نضع خيار الدولة، في خانة، الحرب، الماضي، التراث، التخلف، الاستيلاب.. وقد يظهر هذا التصنيف هنا أو هناك، وإن كان مراد الكاتب، أن يؤسس الموقف على أساس الوسطية والتوفيق.. والسعي إلى نمط من التوازن المفقود فيما بين هذه الكائنات الاشكالية المتناحرة. ونكاد نلاحظ أن جوهر الجدل الدائر بين هذه الثنائيات الجدلية، يصب في اتجاه واحد.. فيكون انفراج علاقة الدولة بالمجتمع مؤشراً على انوجاد «السلم» المجتمعي. وأن السلم المجتمعي رهين أيضاً بحل عقدة الماضي / المستقبل، التراث / الحداثة... وبالتالي، فإن مشكلة التخلف / التنمية، هي في حقيقتها اشكالية تراث / حداثة وخصوصية / عولمة.. والكل له صلة ما بجدلية الحرب / السلم المجتمعي. إلا أننا نتعامل بدورنا، من أين نبدأ؟.
اننا بالتالي أمام قصة الثعبان العاضّ على ذنبه.. أي أمام حلقة مفرغة، تبدأ المشكلة من تأزم علاقة الدولة بالمجتمع، فنبحث لها عن الحل في السلم الاجتماعي. وهذا لن يكن إلا بوجود وعي تاريخي، أي بتعبير آخر، حلّ عقدة التراث / الحداثة والهوية / الاستيلاب.. ولن نظفر بذلك إلا إذا توفرنا على مناخ من الحريات وهامش من الحقوق.. وهو ما يشترط انفراج عقدة الدولة / المجتمع..
إن هذا بالنتيجة يؤهلنا إلى إدراك حقيقة التنمية بأنها: وهم. بل ووهم الرؤية الاجرائية، السببية، التوصيفية للتخلف. والحال، ان التخلف قضية بنيوية مغلقة ومستعصية على الحل الواحدي.. إنها لعبة الاحتمال; أي التنمية التي تأخذ بالممكن، ولا تستجيب بأي حال من الأحوال، للجاهز، المملى.. حتى لا يتحول «وهم» التنمية إلى عائق للنمو..
لقد كانت ـ حقاً ـ محاولة الزميل محفوظ القيّمة لا تخلو من جدية واجتهاد.. ورأي ونباهة.. وهي وإن في قلب مناوراتها القاصدة، تجترح مغامرة رأي سديد ودعوة مشروعة.
* كاتب من المغرب.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة