تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

الوظيفة الرمزية للإيديولوجيا

د. محمد مزوز

الوظيفة الرمزية للإيديولوجيا

- من خلال فكرة الخلاص -

د. محمد مزوز*

* توطئة

قبل التعرف على أهم جوانب هذا الموضوع، يستحسن الرجوع إلى الفلسفة الألمانية، وبالضبط إلى هيغل، وذلك للتمييز بين وضع الإنسان والحيوان في العالم، أي الشروط التي تتحكم في وجودهما معاً، يقول هيغل في هذا الصدد: إن الحيوان يعيش في هذا العالم بالمباشرة انطلاقاً من إحساسه بذاته، أما الإنسان فيعيش بتوسطٍ انطلاقاً من وعيه الخاص.

بعد هذا يمكن التساؤل عن معنى هذا التمييز، والذي ليس سوى أن الحيوان يقيم علاقاته مع العالم عن طريق الحواس، بحيث يتكون له إحساس بالذات، في حين أن الإنسان ورغم اشتراكه مع الحيوان في ذلك، يمكنه أن يدرك وضعه في العالم، ومن ثم يتكون له وعي بالذات.

كما يمكن التساؤل كذلك، عن طبيعة ذلك التوسط الذي يوجد بين الإنسان والعالم، في حين يعيش الحيوان بالمباشرة، وبمعنى آخر، كيف يعي الإنسان ذاته؟.

الإنسان يتكون لديه إدراك عن طريق التمثل، في حين يعجز الحيوان عن التمثل، ولا يتجاوز ذلك عنده مرحلة الإحساس، فحين يعي الإنسان العالم، وتلك درجة أرقى من الوعي، ويعي وجوده في العالم، يكوّن في الوقت نفسه وعياً بالذات، وهذا الوعي ليس متجانساً ولا من طبيعة واحدة، وهو بالإضافة إلى ذلك وعي يشمل أصنافاً عديدة أخرى من الوعي، أي تلك التجليات التي أنتجها الإنسان في سيرورته التاريخية، فالإنتاج كانت أسبابه تغيرات دينية أسطورية وإيديولوجية.

-1-
     الإيديولوجيا والمعنى

من خلال تمثلنا للعالم إيديولوجياً أو شعائرياً أو دينياً، ننحاز بالضرورة إلى رؤية معينة لما ينبغي أن يكون. وحين نتبنى رؤية دينية للعالم، فإننا نرفض أية رؤية أخرى، عندما لا نعترف إلا بهذا التمثل للعالم، ونرفض تمثلات مغايرة. الاعتراف بالعالم دفاع عن الذات. إن هذه التمثلات هي حصيلة لتجربة تاريخية طويلة عند شعبٍ ما أو أمةٍ معينة، والدفاع عنها قد يصل إلى حد الموت، وكمثال على ذلك الجهاد الديني والثورات السياسية.

هذا الدفاع عن التمثلات، هو اعتراف بالذات في التاريخ أو في العالم. وعملية الاعتراف هذه، هي ما تدعوه سلزفسكي بالوظيفة الإيديولوجية. وماركس يقول: “الصراع الطبقي هو محرك التاريخ”، وقياساً على هذا القول يمكن أن نقول: إن الثمتل هو محرك الذات في التاريخ، سواء كان ذلك التمثل دينياً أو إيديولوجياً.

ما غاب عن سلزفسكي، هو أن عملية الاعتراف بالذات في التاريخ، ليست وظيفة خاصة بالإيديولوجيات فحسب، بل تشترك فيها الأديان والأساطير أيضاً، لماذا؟ لأن جذر هذا الاعتراف وأساسه هو التمثل، إذن فالتمثل آلة تشتغل بين الإنسان والواقع، من أجل إنتاج التصورات والرؤى التي تحرك الذات في التاريخ، وهي التي ستنتج الفكر والواقع، حين نتأمل الفعل الإيديولوجي في التاريخ، نجد أنه لا يعترف بالذات في التاريخ بقدر ما يتجاوزها، أو يعمل على تجاوز هذا الاعتراف، وذلك لأن هدف الإيديولوجيا هو زحزحة ذوات تاريخية معينة، وهي بالضبط الذوات التي تؤسسها الأديان والأساطير، وذلك من أجل بناء ذات تاريخية جديدة، ستتعرض بدورها لزحزحة أخرى. وهذا ما يفسر النضال كمطلب إيديولوجي، أي الدخول في صراع مع إمكانية تأسيس ديني أو أسطوري، لذاتٍ ما قسراً على التاريخ، لماذا تحاول الإيديولوجيا زحزحة الذوات الدينية والأسطورية؟ إنها ترى فيها ذوات تزيف الواقع فترفضها.

الإيديولوجيا لا تعترف بالذات في التاريخ، وإنما ترفضها باستمرار، إنها ترفض كل الذوات حتى ذاتها هي. والسبب في ذلك أنها لا تعترف بطبيعتها الإيديولوجية، بل ترى أن الآخر هو الإيديولوجيا. وبذلك تسقط في مفارقة، بحيث إن عملية التجاوز لا تعرف نهاية حقيقية، وليست لها نهاية أو حد، بل هي في سيرورة دائمة، أي أن تحطيم الذوات لا نهاية له،  إنجلز يقول بأن التطور الجدلي لا يعترف بما هو ثابت ومقدس، بمعنى آخر، إن الإيديولوجيا حينما تركب منطق التجاوز، سيؤدي بها الأمر إلى الإطاحة بالتمثلات التي تريد تشييدها حول العالم.

أمام عجز الإيديولوجيا عن ترميم هذه الشروخ داخل منطقها الخاص، تأتي الأحداث لتفجر هذا التناقض، ويظهر التجاوز في صيغة خيانة تاريخية، وكمثال على ذلك علاقة الكنيسة بالبورجوازية في أوروبا، ذلك أن الكنسية تحولت من كونها خصماً تاريخياً للبورجوازية، وحليفاً للإقطاع، إلى كونها رمزاً للهوية الحضارية المسيحية. وذلك يعود إلى الفراغ الرهيب الذي بدأ يعاني منه الوعي الأوروبي، بعد انسحاب الدين أمام زحف العلمانية، وهكذا ما يحدث اليوم في أوروبا الشرقية، حيث يظهر التجاوز كخيانة تاريخية للمبادئ السابقة.

يجوز الحديث هنا عن الثورة المغدورة - الإيديولوجيا، رغبة في تحطيم التمثلات السائدة، لأن تغيير الواقع يمر عبر تغيير القناعات أولاً، لكن بمجرد وصولها إلى مواقع السلطة السياسية، تنقلب الوظيفة الإيديولوجية على نفسها، إذ تتنكر للتجاوز، وتبدأ في الدفاع عن التمثلات التي أقامتها، أي تدافع عما هو كائن وتنبذ الممكن.

وفي هذه الحال يبدأ انزلاق الواقع فوق التمثل، لأن السيرورة التاريخية لا يمكن أن توقفها التمثلات. إلا أن التمثل يعمل جاهداً كحارس لإيقاف سيل السيرورة، ومن ثم يصاب بالإرهاق المزمن، فيقترب من الشيخوخة وتتصلب شرايينه. وأمام ذبول التمثلات، لن يجد وعي الناس ما يقتات به، فتبدأ الإيديولوجيا في فقدان وظيفتها، أي فقدان احتواء السيرورة بالتمثل، ولهذا تتدخل السلطة لحمايتها.. وهكذا.

وعندما تتلوث الإيديولوجيا بالسلطة فإنها تشيخ، وتظهر التمثلات الشابة خارج مواقع السلطة، وتبدأ البحث عن النسقية، حين يشتد ضغط التاريخ وتتواتر السيرورة، وذلك استعداداً لشغل منصب البديل الإيديولوجي، تبدأ التمثلات الشابة في اتهام الإيديولوجيا الملوثة بالسلطة، لأنها سمحت للسلطة بشغل المنصب الذي كان يحتله التمثل، وبذلك تريد أن تنفي الذات التاريخية، التي أسستها الإيديولوجيا المتزاوجة مع السلطة، ولهذا اعترضنا سابقاً على تعريف سلزفسكي، الذي لا يرى في الوظيفة الإيديولوجية إلا الاعتراف بالذات في التاريخ، وينسى أو يهمل عملية النفي أو الرفض لهذه الذات.

نستخلص مما سبق، أن الإيديولوجيا هي رغبة في الخلاص من الآن الذي جمده التمثل، إذا كانت الإيديولوجيا في طور النشوء، أما إذا كانت ملوثة بالسلطة، فهي ترغب في الخلاص من المستقبل الرهيب المجهول، الذي تبشر به التمثلات الناشئة.

خارج هذه الرغبة في الخلاص من الآن، توجد أنواع أخرى من الرغبة، التي قد تكون رغبة في الخلاص من الوجود، (هذا هو الدين)، وقد تكون رغبة في الخلاص من الشر، (هذه هي الأسطورة)، الإيديولوجيا -الدين- والأسطورة تعبيرات متباينة عن قضية واحدة، وهي الرغبة في الخلاص، كيف؟.

أمام ثقل الوجود وصعوبة مجابهته، يفضل التفكير الديني تجنب المواجهة والصراع، فيعمد إلى حل يرضي شعور الإنسان المهزوم، وهو الانتظار، انتظار أن تهزم السيرورة، وتنتهي الحياة، ويخمد نبض الوجود، إذن فعلى المستوى الديني، ينتصر الإنسان وهو في قعر الهزيمة، أي حينما ينهزم أمام ثقل الوجود، تتكون لديه رغبة في تجاوزه، رغبة في التعالي عليه.

التفكير الأسطوري يعمد إلى حل آخر، وهو الرغبة في تجاوز الشر، فأمام سيادة الشر على مستوى الطبيعة (البشرية أو الفيزيائية)، تتكون للإنسان البدائي رغبة في تجاوز هذا الشر الواقعي، فيفضّل أن ينصر الخير على مستوى الخيال.

النتيجة هي أن هناك رغبات ثلاثاً للخلاص، أولاً: من الآن - الإيديولوجيا -، ثانياً: من الوجود - الدين -، وثالثاً: من الشر - الأسطورة -، هذه الرغبات الثلاث، هي التي تنتج الدلالة وتضفيها على الأشياء والكائنات، وبدونها سينعدم المعنى ويسود العبث، وزوال المعنى سيؤدي إلى انهيار التمثلات، وهذا سيقطع الصلة بين الفكر والواقع، بين الإنسان والعالم.

الإنسان يعيش في العالم بتوسط، وهذا التوسط يمثله التمثل، وهكذا يقع الانسجام بين الإنسان والعالم، لذا يلزم إنتاج المعنى، والمعنى لا يصبح دالاً إلا إذا كان تعبيراً عن رغبة، ونحن لدينا رغبات ثلاث، فما هي العلاقة بينها؟.

بما أن الأديان والأساطير تختزن أماني بعيدة التحقيق، فإن الفعل القريب يظل مفتوحاً أمام الإيديولوجيا، الفعل الإيديولوجي فعل آني، يدخل في صراع مع الأماني البعيدة لأنها تغتال اللحظة الراهنة، الإيديولوجيا ترى في الأديان والأساطير تزييفاً للواقع الراهن وترميماً له بالوهم، وتتهم الدين بأنه يؤجل الرغبة الآنية ويستبدلها بالانتظار، انتظار مجيء اليوم الآخر لتحقيق الآنية، كما ترمى الأساطير بالزيف، لأنها تستبدل هي الأخرى الشر الواقعي بالخير الخيالي، الأديان إذن تطمس الآن، والأساطير تطمس الهنا، في نظر الإيديولوجيا، في حين أن المطلوب هو تعرية الآن والهنا من أجل تجاوزهما.

لكن الإيديولوجيا قد تتصالح مع الأديان والأساطير، وذلك عندما تفقد السيطرة على التمثلات المنتجة للمعنى، وعندما تعجز الإيديولوجيا السائدة، الملوثة بالسلطة، عن احتواء الواقع بواسطة التمثل، بفعل سيل الصيرورة الجارف، تصاب بالهلع، وتتراجع إلى الوراء، بحثاً عن مناطق “شبقية” غنية بالمعنى، وهذه المناطق الشبقية -التي تغذي الوعي والغنية بالمعنى- مناطق تستوطنها الأديان والأساطير، وهنا تقع عملية نكوص إيديولوجي، أي أن الإيديولوجيا تتراجع إلى الوراء، أمام صعوبة التكيف مع متطلبات التطور، وحين تراجعها إلى الوراء فإنها لا تجد إلا أيادي عدوها ممتدة إليها، فتتمسك بها، والخصم العنيد للإيديولوجيا هو كل ممارسة تزيف الواقع، وها هنا خصوم تاريخيون، عملت الإيديولوجيا كثيراً على محاربتهم، وهم بالخصوص الأديان والأساطير.

تنهار الإيديولوجيا حينما تتجمد التمثلات، والمعنى يتقلص بالضبط عندما يتجمد التمثل، بما أن الوعي يقتات بالتمثل، وها هنا قد وقع جمود وقحط في مجال التمثل، فإن الوعي سيعاني من سوء التغدية، وهذا يعني أن الإيديولوجيا لن تستطيع التحكم في وعي الناس ومصائرهم، وهكذا تظهر التمثلات الشابة، لتعد الوعي بإمكانية توفير ما يكفي من المعنى لضمان الحياة، ومن ثم ينقاد الناس إلى هذا المعنى الذي يختزن ملامح مستقبل موعود. لذا يصبح المعنى نبيلاً، وترتقي التمثلات الشابة إلى مستوى المبادئ، وسيموت الناس من أجل تحقيق المبادئ، ويصبح الإسراع في الكشف عن المعنى النبيل الذي يبشر بمستقبل سعيد ضرورياً.

-2-
       الإيديولوجيا والزمان

مصائر الناس هي مجموعة من المعاني يراد لها أن تتحقق في زمن آت، لهذا تبشر الإيديولوجيا دوماً بهذا الآتي، فتعمل على ضم المعاني بعضها إلى بعض، لرسم خارطة ذلك الآتي. وهنا تلتقي الإيديولوجيا بالدين، فكلاهما يبشر بعالم آخر، والفرق بينهما يكمن فقط في الموقف من الزمن، فبينما تصر الإيديولوجيا على تحويل المعاني إلى وقائع، يفضِّل الدين أن تتحول المعاني إلى أماني، ولهذا يستجيب الناس للدعوات التبشيرية، التي تراهن على مواصلة الطريق من أجل تحقيق المستقبل السعيد، فالسعادة تناجي دوماً ما هو آت، إنها تهتف في أذن الفرد: “أنت الآن شقي، ولكنك ستصبح سعيداً بعد انهزام الآن”، هنا يجبر الإنسان على الانتظار، وسيكولوجية الانتظار هي الخاصية المميزة للأديان.

الإيديولوجيا ديانة مقلوبة، لأنها تضحي بالأماني في سبيل الوقائع، وتنتحر على عتبة الزمان لكي تحيا اللحظة الراهنة. إلا أن الإيديولوجيا حين تلح على تقريب الآتي وإخضاعه للآن، تدفع بعجلة التاريخ إلى الوراء.

ما يخفف من حدة هذه العملية، هو بروز الفرحة التي تخلقها الرغبة في الخلاص من الآن، ولإنجاز هذه الفرحة يلجأ الناس إلى نصرة الزعيم “الكاريزمي”، الذي يعتبر رمزاً مكثفاً للمعاني المأمولة، هكذا يتم تسريح المعاني من قفص التمثلات الصلبة، فترفرف بعيداً، وتحلق في سماء المستقبل الموعود السعيد، فتعود بشفرات مرموزة ستفكك في أبراج التوجيه والإرشاد القومي والتوعية والدعاية.

حين تتحول المعاني -بعد تفكيكها- إلى وقائع، أي حين تتلوث الإيديولوجيا بالسلطة، تجد الرغبة مجالاً للإشباع، وهنا تنفجر الطاقة المتوترة التي كانت تتوق للتحرر، ومن ثم يهدأ الغليان (النضال)، فيتوجه الوعي، ويتثاقل الاندفاع الحيوي الذي كان يؤجج الرغبة.

في هذه اللحظة بالضبط، يتقاطع الآن مع الآتي، وبفعل اصطدامهما تتوقف السيرورة وتتساقط رذاذاً، هنا تلجأ الإيديولوجيا إلى استغلال منطق الأديان، أي أنها تعمد إلى الزمان وتقذف به إلى المستقبل، أي يلزم انتظار مرور الزمن لنحقق ما عجزنا عنه الآن، لكن هذا الاستغلال الإيديولوجي لمنطق الدين ليس تقليداً صرفاً، لأننا في مجال الإيديولوجيا ننتظر وصول المستقبل إلينا، بينما في مجال الدين نتخلى عن الآن، ونسير إلى ذلك المستقبل البعيد.

الإيديولوجيا تطمح أن يحيا الآن في قلب الآتي، بينما تمنح الأديان كل الامتياز للآتي على حساب الآن. هناك إذن اتجاهان متعاكسان بخصوص استغلال سيكولوجية الانتظار، الدين يسير نحو الآتي، أما الإيديولوجيا فالآتي هو الذي يسير نحوها.

-3-
       الإيديولوجيا والقيمة

عندما تتصلب التمثلات، تبدأ عملية انهيار المعاني، وهذا يؤدي إلى حدوث انشقاق في وعي الناس، هنا تتدخل السلطة لترميم الوعي، أي أنها تبدأ في معالجة مجال ليس من اختصاصها. وبما أن تقوية الوعي تمر عبر إنتاج المعنى، وهذا الأخير يتغدى بالتمثلات، والتمثلات تحركها الرغبة، فإن السلطة تريد إحياء الرغبة، ولكن مع كبح جماحها إلى أقصى الحدود، (القمع).

ذلك أن السلطة هي رغبة في الآن وليست رغبة في الخلاص منه، لذا تشتغل بالمعاني المنهارة من أجل توحيد الوعي. لهذا تربط السلطة بين الرغبة في الآن وبين القيم النبيلة، والتي تقف قيمة الخير على رأسها، ونحن نعلم أن الخير هو الهدف الأسمى للتفكير الأسطوري، أي أن الأسطورة تريد تحقيق الخير على مستوى الخيال، للتخلص من الشر على مستوى الواقع.

هكذا تعمل السلطة على قلب منطق الأسطورة، إذ تنتشل الخير من الخيال وتربطه بالواقع، بينما تقذف الشر من الواقع وتربطه بالخيال، السلطة إذن أسطورة مقلوبة، السلطة ترى أن المواطنين هم سعداء بالتعريف ما داموا يقطنون المدينة، لأن الخير واقعي والشر خيالي، إن الشر يوجد في أذهان الناس فقط، وإذا كان الخير يتربع في كل مكان، فلن تعود هناك أية رغبة للخلاص من الآن، وسواء كانت الإيديولوجيا ملوثة بالسلطة أم لا، فهي تشتغل بأدوات غيرها، إما دينية وإما أسطورية، لكن الإيديولوجيا تعمل على قلب هذه الأدوات بعد انتزاعها من مجالها الأصلي، ومن ثم تتغير وظائفها.

الإيديولوجيا هي نقطة تقاطع بين الزمان والقيمة، وهنا ينتج المعنى، هذا الأخير ليس زماناً وليس قيمة، ليس واقعاً وليس خيالاً، إنه رمز، الوظيفة الإيديولوجية هي وظيفة رمزية بهذا المعنى، المجال الرمزي يقع بين الواقع والخيال، وهنا تشتغل الإيديولوجيا، لهذا السبب فإنها تطلق المعنى -إذا تضخم أكثر من حجمه- فترمي به إلى مجال الخيال، أو -إذا تقلص أكثر من اللازم- فترمي به إلى مستوى الوقائع.

هنا تعجز التمثلات عن الإمساك بالواقع، فتلفظ الإيديولوجيا أنفاسها، وذلك قدر محتوم. هذا القدر المأساوي الذي يلاحق الإيديولوجيا نابع من محاربتها للزمان، ورغبتها في تجميد الصيرورة والتخلص من الآن، وأمام عجزها في تحقيق هذه الأهداف، تشعر الإيديولوجيا بمرارة الهزيمة، فتتولد لها رغبة في الخلاص من هذا العبء الثقيل: (الزمان/ الوجود/ الآن/ القيمة)، الذي سيحتاج إلى نوع آخر من الخطاب، يتجاوز الخطاب الإيديولوجي، ويؤدي وظيفة أخرى غير رمزية.

هذه الوظيفة المغايرة، هي التي تمارسها الفلسفة، لأن الفيلسوف هو الذي يملك القوة النظرية لتأمل الوجود وملاحقة الزمان، والبحث عن جذور القيمة وتحمل عبء المعنى.

 

الهوامش:

* أستاذ الفلسفة - المغرب.

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة