تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

معايير الظاهرة الإيديولوجية

بول ريكور

معايير الظاهرة الإيديولوجية*

بقلــــم: بــول ريكور

 

(...) إن الظاهرة الإيديولوجية مرتبطة بحاجة الجماعة -ضرورة- لأن تقدم لنفسها صورة عن ذاتها، وأن تمثل نفسها أمام ذاتها، بالمعنى المسرحي للكلمة، وأن تلعب في الميدان، وتظهر على المشهد، وتلك هي السمة الأولى التي أود الانطلاق منها.

لماذا يكون الأمر كذلك؟ يعتبر J.Ellul، في مقال أثّر عليَّ كثيراً وألهمني: العلاقة التي تقيمها مجموعة تاريخية ما، مع الحدث المؤسس الذي أقامها، علاقة أولية، مثل الإعلان الأمريكي للحقوق، الثورة الفرنسية، ثورة أكتوبر ...إلخ، إن الإيديولوجيا دالة وتابعة للمسافة التي تفصل الذاكرة الاجتماعية عن حدث يتعين مع ذلك ترديده؛ ودورها ليس فقط نشر الاعتقاد خارج دائرة الآباء المؤسسين، لتجعل منه عقيدة الجماعة كلها؛ بل يتجاوز ذلك إلى إدامة الطاقة الأولية فيما بعد مرحلة الغليان.

إن الصورة والتأويلات تتدخل في إطار هذا الفاصل، الذي يميز كل الوضعيات اللاحقة لحدث ما؛ إن الحدث المؤسس يعاد تناوله وإحياؤه دوماً، عبر تأويل يدخل عليه بعض التعديل، من خلال منظور اللحظة اللاحقة، ولعله لا وجود لجماعة لا تقيم علاقة غير مباشرة مع لحظة نشوئها الخاصة بها، وهذا هو ما يجعل الظاهرة الإيديولوجية تنطلق مبكرة جداً: إذ إن الإجماع، بل أيضاً الاتفاق والعقلنة، كلها تنشأ مع التدجين بواسطة الذاكرة. وهنا تتوقف الإيديولوجيا عن أن تكون تعبوية، لتصبح تبريرية؛ أو بالأحرى فهي لا تستمر في كونها تعبوية، إلا بشرط كونها تبريرية.

ومن ثمة فإن السمة الثانية للإيديولوجيا في هذا المستوى الأول: ديناميتها؛ فهي تنتسب لما يمكن أن ندعوه نظرية في الحوافز الاجتماعية؛ فهي بالنسبة للممارسة الاجتماعية، مثل الحافز بالنسبة لمشروع فردي، فالحافز هو في الوقت نفسه ما يبرر وما يدفع.

وبالطريقة نفسها فإن الإيديولوجيا تبرهن؛ فما يحركها هو إرادة البرهنة، على أن للجماعة التي تبشر بها الحق في أن تكون كما هي، لكن يجب ألا نستخلص من ذلك بسرعة حجة ضد الإيديولوجيا، إن دورها الوسيط يظل غير قابل للاستبدال.

يتبين من ذلك أن الإيديولوجيا هي دوماً أكثر من مجرد انعكاس، وذلك من حيث إنها أيضاً تبرير ومشروع. إن هذه السمة “التوليدية” للإيديولوجيا، تعبر عن نفسها في السلطة المؤسسة من الدرجة الثانية، التي تمارسها تجاه المؤسسات والمنشآت، التي تتلقى منها الاعتقاد في الطابع المضبوط والضروري للفعل المؤسس.

لكن كيف تحافظ الإيديولوجيا على ديناميتها؟ هنا تطرح علينا السمة الثالثة، إن كل إيديولوجيا تبسيطية وخطابية. إنها خانة، ونظام من القواعد، تستهدف تقديم رؤية شاملة، لا للجماعة فقط، بل للتاريخ، وفي النهاية للعالم. وهذه السمة ملازمة للوظيفة التبريرية للإيديولوجيا، وقدرتها التحويلية لا يمكن المحافظة عليها إلا بشرط أن تصبح الأفكار التي تحملها آراء، وأن يفقد الفكر من دقته ليضاعف فعاليته الاجتماعية، كما لو أن الإيديولوجيا وحدها هي التي يمكن أن تستخدم كواسطة، لا فقط ذكرى الأفعال المؤسسة، بل منظومات الفكر ذاتها؛ وهكذا يمكن أن يصبح كل شيء إيديولوجيا، الأخلاق، الدين، الفلسفة.

و”هذا الانتقال من منظومة فكرية إلى منظومة معتقدية” كما يقول Ellul، هو الظاهرة الإيديولوجية. وما إضفاء طابع مثالي على الصورة الخاصة التي تكونها الجماعة عن نفسها، إلا العنصر الملازم لهذه السمة الخطابية. إن كل جماعة تمثل لنفسها صورة عن وجودها، من خلال صورة أضفي عليها طابع مثالي. وهذه الصورة هي التي تقوّي -بمفعول معاكس- النظام التأويلي؛ ونحن نرى ذلك في أنه منذ الاحتفاءات الأولى بالأحداث المؤسسة، تبرز ظواهر الشعائر الطقوسية والنماذج الواحدة، ومعها يتولد قاموس من المصطلحات الخاصة، ومعه نظام من “التسميات الصحيحة”، إنه سيادة الصيغ المذهبية، الليبرالية والاشتراكية. ولعله ليس هناك صيغ مذهبية، بالنسبة للفكر التأملي، إلا بالتماثل مع هذا المستوى من الخطاب، روحانية، مادية.

وهذه السمة الثالثة تمكننا من استشراف ما سأدعوه بالطابع المعتقدي للإيديولوجيا، فالمستوى الإبستمولوجي للإيديولوجيا هو مستوى الرأي، أو ما كان الإغريق يسمونه الدوكسا (Doxa). أو إذا ما فضلنا استعمال مصطلحات فرويدية، فهو لحظة التبرير العقلي. وهذا هو السبب في أنها تعبر عن نفسها تلقائياً بأمثال وشعارات وصيغ مختصرة. وهذا أيضاً هو السبب في أنه لا شيء أقرب إلى الصيغة البلاغية -فن المحتمل والمقنع- من الإيديولوجيا. وهذه المقاربة توحي بأن التماسك الاجتماعي لا يمكن، بدون شك، أن يكون مضموناً، إلا إذا لم يتم تجاوز الحد المعتقدي الأقصى، الذي يقابل المستوى الثقافي المتوسط للمجموعة المعينة. لكن، مرة أخرى، يجب ألا نكون متسرعين في اعتبار ذلك غشًّا أو حالة مرضية، إن هذه السمة الخطابية، وهذا الإضفاء للطابع المثالي، وهذه البلاغة هي الثمن الذي يتعين أداؤه لتحقيق الفاعلية الاجتماعية للأفكار.

مع السمة الرابعة تأخذ في التحدد الصفات السلبية والقدحية، المنسوبة عادة لإيديولوجيا معينة، ومع ذلك فهذه السمة ليست عيباً في حد ذاتها. فهي تعني أن نظام القواعد التأويلي لإيديولوجيةٍ ما، تجعل الإيديولوجيا هيئة غير نقدية بطبيعتها. والحال أنه يبدو جليًّا، أن عدم الشفافية في  نظام قواعدنا الثقافية، هو شرط إنتاج الإرساليات الاجتماعية.

والسمة الخامسة تعقد وتضخم الطابع غير التفكيري وغير الشفاف للإيديولوجيا. فأنا أشير إلى العطالة والتأخر الذي يبدو أنه يسم الظاهرة الإيديولوجية. ويبدو أن هذه السمة هي المظهر الزمني الخاص للإيديولوجيا.

فهي تعني أن الجديد لا يمكن أن يتقبل إلا مما هو نمطي، الذي هو نفسه ناتج عن استقرار التجربة الاجتماعية. وهنا يمكن أن تندرج وظيفة الإخفاء. فهي تمارس على وجه الخصوص، تجاه أجزاء من الواقع عاشتها الجماعة، لكنها لم تتمثل من طرف خطابتها الرئيسية. فكل جماعة تظهر أشكالاً من الأرثوذكسية، وعدم قابلية الهوامش.

ولعل مجتمعاً تعددياً إلى أقصى الحدود، وتسامحياً إلى أبعد مدى، غير موجود بتاتاً. هناك دوماً قدر مما لا يسمح به، والذي يكون منطلق عدم التسامح. يبدأ عدم التسامح عندما يهدد الجديد بقوة، إمكانية الجماعة في أن تتعرف على ذاتها، وأن تعيد العثور على نفسها. ويبدو أن هذه السمة تناقض الوظيفة الأولى للإيديولوجيا، التي هي إدامة وقع الصدمة الملازم للفعل المؤسس.

لكن لهذه الطاقة الأولية قدرة محدودة؛ فهي خاضعة لقانون الإنهاك. فالإيديولوجيا هي في الوقت نفسه مفعول إنهاك ومقاومة للإنهاك. وهذه المفارقة موشومة في الوظيفة الأولية للإيديولوجيا، والتي هي إدامة الفعل المؤسس الأولي على شكل “تمثل”، وهذا ما يجعل الإيديولوجيا في الوقت نفسه تأويلاً للواقع، ومحلأً للممكن.

إن كل تأويل يحدث في مجال محدود؛ لكن الإيديولوجيا تجري تقليصاً للمجال، بالقياس إلى إمكانيات التأويل، التي تنتمي إلى الاندفاعة الأولية للحدث. وهذا هو المعنى الذي يمكن أن نتحدث به عن انغلاق إيديولوجي، بل عن اعتماء إيديولوجي(...).

يصل تحليلنا هنا إلى المفهوم الثاني للإيديولوجيا. يبدو لي أن وظيفة الإخفاء تتغلب بجلاء، عندما يتم الربط بين الوظيفة العامة للإدماج، التي عالجناها لحد الآن، والوظيفة الخاصة للسيطرة، التي ترتبط بالمظاهر التراتبية للتنظيم الاجتماعي.

لقد أصررت على وضع تحليل المفهوم الثاني للإيديولوجيا بعد المفهوم السابق، حتى أنتهي إليه بدل أن أنطلق منه. ويتعين على المرء أن يكون قد فهم الوظيفة الأولى للإيديولوجيا، حتى يفهم تبلور الظاهرة إزاء مشكل السلطة. إن ما تؤوله الإيديولوجيا وتبرره أساساً، هو العلاقة مع السلطة، ومع أنظمة السلطة. ولكي أفسر هذه الظاهرة، سأستعمل -كمرجع- تحليلات ماكس فيبر الشهيرة حول السلطة والسيطرة. فكل سلطة في نظره تعمل على إضفاء المشروعية على ذاتها، والأنظمة السياسية تتمايز حسب نمط مشروعيتها. إلا أنه يبدو أنه، إذا كان كل ادّعاء للمشروعية مرتبطاً باعتقاد الأفراد في هذه المشروعية، فإن العلاقة بين الادعاء المعلن عنه من طرف السلطة، والاعتقاد الذي يستجيب له، أمران غير متناظرين. سأقول: إن ادّعاء السلطة هو دوماً أكثر من الاعتقاد فيها(...)، وهنا تكون الإيديولوجيا هي مطية فائض القيمة، وفي الوقت نفسه تؤكد ذاتها كمنظومة تبريرية للسيطرة.

هذا المفهوم الثاني للسلطة مندغم بالأول، من حيث إن ظاهرة السلطة هي ذاتها ملازمة لنشأة الجماعة. فالفعل المؤسس لجماعة تتمثل نفسها إيديولوجياً، فعل سياسي في جوهره، والجماعة التاريخية لا تصبح واقعة سياسية، إلا عندما تصبح قادرة على اتخاذ القرار؛ ومن ثمة تنشأ ظاهرة السيطرة. وهذا هو السبب في كون الإيديولوجيا - الإخفاء، تتداخل مع السمات الأخرى للإيديولوجيا - الإدماج؛ وخاصة مع سمة عدم الشفافية التي ترتبط بالوظيفة التوسطية للإيديولوجيا(...).

عندما يلتقي الدور التوسطي للإيديولوجيا بظاهرة السيطرة، فإن طابع التشويه والإخفاء المرتبط بالإيديولوجيا يقفز إلى الصف الأول. ولكن، من حيث إن اندماج الجماعة، لا يؤول أبداً كليًّا إلى ظاهرة السلطة والسيطرة، فإن كل سمات الإيديولوجيا التي أرجعناها إلى دورها التوسطي، لا يجري به العمل في وظيفة الإخفاء، التي طالما اختزلت الإيديولوجيا إليها.

وها نحن الآن على عتبة مفهوم ثالث للإيديولوجيا، المفهوم الماركسي. وأود أن أبين أنه يبرز إذا ما أدمجناه في المفهومين السابقين. فما الذي يحمله من جديد؟ إنه يحمل أساساً فكرة التشويه والتحريف بواسطة القلب(...).

وأعتقد أن ما قدمه ماركس، هو عرض تحديد خاص لمفهوم الإيديولوجيا، يفترض المعنيين السابقين. كيف يمكن أن تكون فعلاً للتخيلات الطليقة، وللأوهام وللشطحات الخيالية، فعالية تاريخية ما، إذا لم يكن للإيديولوجيا دور وسيط، مندغم بالرابطة الاجتماعية الأساسية، وكأنه مكونه الرمزي بالمعنى الذي أعطاه ماوس وليفي ستروس؟ وهو ما لا يجيز لنا الحديث عن نشاط واقعي قبل إيديولوجي أو غير إيديولوجي.

ومن ناحية أخرى، فإننا لن نفهم أيضاً كيف أن تمثلاً مقلوباً للواقع، يمكن أن يخدم مصالح الطبقة السائدة، إذا لم تكن العلاقة بين السيطرة والإيديولوجيا أقدم من التحليل إلى طبقات اجتماعية، وأكثر قدرة على البقاء بعده. إن ما يقدمه ماركس من جديد، يبرز على هذه الأرضية الأولية، المتعلقة بنشأة رمزية للرباط الاجتماعي عامة، ولعلاقة السلطة على وجه الخصوص. وما يضيفه هو أن فكرة الوظيفة التبريرية تنطبق أساساً على علاقة السيطرة، المنبثقة عن الانقسام إلى طبقات اجتماعية، وعن صراع الطبقات (...).

... وهذا يجب ألا ينسينا الأطروحة الرئيسية، التي تهيمن على القسم الأول من بحثنا، وهي أن الإيديولوجيا ظاهرة لا يمكن تجاوزها بالنسبة للوجود الاجتماعي، وذلك من حيث إن للواقع الاجتماعي دوماً وأبداً تكويناً رمزياً، ويتضمن تأويلاً للرابطة الاجتماعية ذاتها في صور وتمثلات.

 

الهوامش:

* P.Ricoeur : Du texte à laction. Seuil 1986 .P306 - 314.

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة