تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

مصادر وآثار مفهوم الإيديولوجيا عند ريكور

مارثيلو فيليكس تورا

مصادر وآثار مفهوم الإيديولوجيا عند ريكور*

بقلم: مارثيلو فيليكس تورا**

ترجمة: هشـام الميلـوي***

تحاول هذه الورقة تسليط الضوء على موضوع الإيديولوجيا في أعمال بول ريكور. فحسب هذا الأخير ليست الإيديولوجيا انعكاساً للواقع الاجتماعي فحسب، بل، إنها كذلك مرتبطة بسلطة المجتمع والاندماج البشري. والذي بدوره سيؤثر على طريقة وأسلوب فهمنا للعالم كله. إن الإيديولوجيا إشكالية أزلية لا حل لها، وبالتالي ليست هناك مساحة ومتسع خالٍ من الإيديولوجيا وتأثيرها، يتيح لنا مناقشة الإيديولوجيا.

* مدخل

حيث إن معظم المدارس الفلسفية المعاصرة اتخدت منحى المعالجة الواقعية، فسنحاول في هذه الورقة تناول موقع أعمال بول ريكور، وتتبع أبرز أثاره، خاصة ما يتصل منها بنقد الإيديولوجيا.

إنه لمن الأهمية بمكان، التذكير بمساهمة بول ريكور في ميدان الفلسفة الاجتماعية والأخلاقية “Ethics”. فلقد برهن هذا الأخير على مستوى من القدرة العالية على الإقناع، وشرح آرائه لجعلها في متناول القارئ، فضلاً عن توفره على تقليد كلاسيكي، في مناقشته لمواضيع تتطلب تقليداً فلسفياً عميقاً.

* نظرة تاريخية موجزة عن مفهوم الإيديولوجيا

سنحاول في هذه الفقرة، تقديم نظرة موجزة عن مفهوم الإيديولوجيا من مصادرها الأصلية، إلى التعريفات المتقدمة والمتطورة، مستعملين المنهج الهيرمينوطيقي كما هو.

لقد تم اختراع كلمة إيديولوجيا من طرف ديستوت دوتراسي Destutt de Tracy، من أجل تعريف الأهداف الأساسية للعلم الذي يقوم بتفسير وفهم الأفكار، خصائصها وقوانينها، ثم علاقة هذه الأفكار بالرموز التي تتخذها في المجتمعات، والتي تقوم بوظيفة تقديمها للجمهور. قبل أن يتم تطعيم هذا المفهوم بمعاني جديدة، من طرف فلاسفة آخرين كأوغيست كنت وإميل دوركايم.

واعتبرت الإيديولوجيا كذلك طريقة لإخفاء الواقع الاجتماعي، كما في أغلب التعريفات الموجودة في القواميس الفلسفية. بل أكثر من ذلك فهي -أي الإيديولوجيا- تحاول تقديم عالم مزيف ومغشوش، وفرض وجهة نظر للطبقة المهيمنة على الطبقة الأضعف. أما من وجهة نظر ريكور فإن هذا سيقودنا إلى منظور ضيق لن يقوِّي سوى الجانب السلبي القدحي من المناقشة.

ومساهمة منه في الدفع بهذا النقاش، يقترح بول ريكور إعادة التفكير في الإشكالية نفسها، لإيجاد معنى مزدوج ووجهة نظر أوسع في الموضوع. فهناك تاريخ طويل للكلمات يرجع إلى الشك الماركسي، والذي لا يشكل سوى حلقة في هذه السلسة الطويلة.

إن ريكور، في كتاب “الإيديولوجيا واليوتوبيا” يدعو إلى قراءة تاريخ موجز للإشكالية. بدأت الإيديولوجيا أولاً مع فلسفة السياسية، وبالتالي فقد ظهر وجود أكثر من ماركس: هناك ماركس الشاب، الإنساني، كما عبرت عنه كتبه “مخطوطات في الاقتصاد والسياسة سنة 1844م”، و “الإيديولوجيا الألمانية”، ثم ماركس الكهل، والكلاسيكي، كما قدمه “رأس المال”. ولقد كانت البنيات الاقتصادية للمجتمع هي الهم الأساس لماركس.

عندما تناول ماركس الشاب مفهوم الإيديولوجيا، انتقد المثالية التي تقول باستقلالية الأفكار ومفارقتها للواقع، وارتباطها بتطور العمل الجماعي. أما في أعمال ماركس الكهل، تتخذ الإيديولوجيا مصدراً للنقد الاجتماعي الوضعي، كما هو شأن البنيوية الماركسية للويس ألتوسير.

إذا قرأنا كتاب “الإيديولوجيا واليوتوبيا” عن طريق مانهايم، نجد ريكور يناقض العلم والإيديولوجيا، ويعالج بعض الوظائف الأخرى الراديكالية للإيديولوجيا، فضلاً عن شرخ الواقع وتغطيته. وبالتالي فإن استعمال منهج تحليل السلطة من طرف ماكس فيبر، هي طريقة للبرهنة على وظيفة الاندماج في المجتمع... فبالنسبة إلى ريكور، ذلك يساهم في ضمان هوية المجتمعات.

ويمكن القول، حسب ريكور دائماً، أن الفكر الحديث أصبح موضوعاً للتأويل، بينما النقاش الأساسي يتجه إلى الوهم. إن فلسفة ريكور تروم إيجاد طريقة لتفكيك وهم الذات. وهذا يفتح النقاش، ويضع شكوكاً حول اليقين الفوري للتأمل الديكارتي، كما يبين مدى ضعف الاعتقاد المبدئي في اليقين. لذا فإن ريكور يرى أن من واجب الفيلسوف الحديث، تأويل الرموز والعلامات والإيديولوجيا انطلاقاً من وجهه نظر هيرمينوطيقية. وهذا أيضاً هو هدف الفلسفة المعاصرة، التي تبدأ بمستقبلات الإنسانية وبنقد وهم الذات. وهناك نقطة مشتركة بين الأخلاق والسياسة التي تهدف إلى إقامة الحقوق الأساسية في المجتمع. هذه الحقوق هي في الأساس مرتبطة بمسألة توزيع الثروة والعدالة الاجتماعية.

لقد نشأت ظاهرة الإيديولوجيا في المجتمع الـ”ما ـ بعد” صناعي والتي تخص مسألة كشف الواقع. إن الصراعات الكبرى في المجتمع، والتي تحاول توفير أجوبة عن المجال في الدولة - الأمة، هي نتيجة شرط الوهم هذا. لقد شاهدنا صراعات في البرازيل، وهي دولة متوسطة النمو، أثارتها إيديولوجيا تنتهي إلى المجتمع الـ”ما ـ بعد” صناعي، وتحاول المحافظة عليه. يريد آخرون مع ذلك، مجتمعاً صناعياً. في حين يشدد آخرون على مشاكل هذا المجتمع.

* مصادر مفهوم الإيديولوجيا عند بول ريكور

- سنحاول باختصار شديد تتبع مفهوم الإيديولوجيا عند ريكور، انطلاقاً من كتابه عن “الإيديولوجيا واليوتوبيا”، ثم تطور هذا المفهوم منذ ماركس إلى كرتيز، مروراً بألتوسير، مانهايم، فيبر، وهابرماس.

يبدأ ريكور بشكل واضح، باستخلاص المعنى الأساسي للإيديولوجيا. يؤكد على أن وظيفة الإيديولوجيا: أولاً: تزييف الواقع، ثانياً: مشروعية السلطة، وثالثاً: الإدماج الاجتماعي. إن تحليل ريكور يبدأ منذ ماركس، مثلاً: إن التصور المشترك والجلي لظاهرة الإيديولوجيا، تزييف الواقع، والذي يأخذ بعين الاعتبار المقابلة بين الإيديولوجيا (المستوى المثالي)، و Praxis (المستوى الواقعي). وينطلق أيضاً عبر ألتوسير ومقاربته البنيوية عن الماركسية، التي تقول بدورها بوجود مقابلة أخرى بين العلم والإيديولوجيا.

وكانعطاف في هذه المسيرة، يأخذ ريكور بعين الاعتبار مقاربة مانهايم أيضاً، في تحليله لظاهرة الإيديولوجيا، ليبرهن على عدم وجود أساس علمي محايد لمناقشة مفهوم الإيديولوجيا. لهذا لا نستطيع التفريق بين العلم والإيديولوجيا، وبأن أساس معرفتنا بالواقع موسومة حتماً بالإيديولوجيا.

انطلاقاً من ماكس فيبر، يحاول ريكور إيجاد طريقة أخرى لمعالجة ظاهرة الإيديولوجيا، مركّزاً على المفهوم الثاني للإيديولوجيا، الشرعية السياسية للسلطة. فحسب ريكور، هناك مساحة بين نوايا من هم في السلطة، وبين الشرعية، وهو ما يسميه ريكور بفضل القيم السياسية، وتقوم الإيديولوجيا دائماً بتغطية هذا الفرق. بتتبع مصادر تحليل ريكور، من الضروري نقد مفهوم الإيديولوجيا بواسطة العقل، فهي دائماً مرتبطة بالسلطة، كما يستعير بعض المفاهيم من هابرماس، محاولاً التقريب بين نقد الإيديولوجيا والتحليل النفسي.

بعد إخضاع الإيديولوجيا لمختلف أنواع النقد، اعتماداً على كيرتز، يتناول المميزة الثالثة للإيديولوجيا: الاندماج الاجتماعي. ففضلاً عن التزييف والشرعية، تتوفر الإيديولوجيا على وظيفة المحافظة على الهوية والتكامل في المجتمع. بالنسبة إلى ريكور، هناك علاقة جدلية بين العلوم الاجتماعية والإيديولوجيا، على وظيفة المحافظة على الهوية والتكامل في المجتمع. بالنسبة إلى ريكور هناك علاقة أيضاً (رابط) بين الإيديولوجيا والصراعات التي تعرفها المجتمعات المعاصرة، الأمر الذي يؤكد على ضرورة مقاربات جديدة، للتوسط بينهم في مجتمع ما بعد صناعي.

* اعترافات على مقاربة ريكور

بمجرد ما يتم تناول إشكالية الأسس الفلسفية، ستظهر هناك اعتراضات على مقاربة ريكور الخاصة بظاهرة الإيديولوجيا. حسب هذا المنظور، فإن الإيديولوجيا تؤثر على كامل معرفتنا بالواقع. مما يعني استحالة وجود موقف لا إيديولوجي للحديث عن الإيديولوجيا. عادة ما نتحدث عن أن الفلسفة والعلم، خاصة العلوم الإنسانية، مليئة بالإيديولوجيا، لهذا يتم النظر إليهم أساساً وبمعنى أوسع، كمرادفات للزيف والتغطية للواقع. لهذا فالعلم والفلسفة بدورهما يخفيان ويزيفان الواقع، وإن النظريات الفلسفية والعلمية ليست مضبوطة ودقيقة بما فيه الكفاية. أكثر من ذلك فإنهما ليسا متوافقين مع الحقيقة.

هذا الاعتراض يؤدي بنا إلى طرح سؤال حول مدى الحياد العلمي، وضرورة التميز بين الفلسفة والإيديولوجيا، وباستطاعة التفكير الفلسفي لريكور الإجابة عن هذا التساؤل.

إن الهم الأساسي لريكور، هو تجنب تصور خالص حقيقي، وخطاب أحادي ينتهي إلى حقيقة مطلقة. لهذا نرى أنه يعلن معارضته للحياد العلمي، الذي تقترحه المقاربات الوضعية والوظيفية. بالنسبة إلى العلم هو عبارة عن معرفة موضوعية، تخضع للمراقبة والملاحظة دون تداخل ذاتي. بمنظور آخر، وحسب ريكور دائماً، إن اتخاذ موقف مضاد سيجعلنا أمام مقاربة نسبية للأبحاث العلمية، وستجعل من النتائج المحصل عليها أقل كونية، وطافحة بالنظرة التاريخانية.

هناك وجهة نظر أخرى أكثر رحابة وموضوعية، تجعل من العلم والفلسفة - التي لا يعمل بها إلا بعد منهج نقدي يتضمن وهم الذات، رغم هيرمينوطيقا العلامات - طريقاً لتمثل الواقع وفهمه.

إن الدرس الأساسي للفلسفة حسب ريكور، هو الكشف عن المعنى الحقيقي، مروراً بالأمر الذي لا يتأتى إلا عن طريق التقصي العلمي. وللوصول إلى هذه الغاية، يقترح الفيلسوف الفرنسي فهماً هيرمينوطيقياً للتاريخ. إنه طريق طويل لفهم الإشكال. وكوضع قائم، فإن هذا الطريق يقوم على مساحة دقيقة، تفصل بين مرحلة ما قبل فهم الواقع، ومرحلة ما قبل التصور، الراجعة إلى المسافة الفاصلة لنشوء الإيديولوجيا وأوهام الذات، وبين النقد. يمكن القول: إن الكثافة المعرفية وتراكمها قام على أساس المصالح. إذن فلقد كانت موضوعاً للتلاعب وللتوظيف، والسيطرة و... و، وواجب الفيلسوف هو فضحها، بمجرد ما تصبح مصدراً لإنتاج أوهام الذات.

إن ريكور يتفق مع مشروع تحرير الإنسان بفضل المنهج والصيرورة النقدية، وإن كان يؤكد ويحذر من ضرورة تحمل وضعنا وشرطنا التاريخي. لا يوجد هناك نقد مماثل قادر على كسر الأسس بالكامل. تلك الأسس التي قام عليها شرط الظرف التاريخي. إن الإيديولوجيا مرتبطة بفهم خاطئ للواقع وللمصالح، وتتوفر على بعض السمات الخاصة بها: عمق الخطاب، التزييف، وعن طريق الاكتشافات العديدة والقضايا. إن الإيديولوجيا كذلك، تجعل من المعرفة نظاماً عقائدياً، وهكذا فإن الباحث المهتم لن يكون باستطاعته الفصل بين العقل والاعتقاد في أبحاثه العلمية.

يقوم ريكور بإنشاء علاقة جدلية بين الفلسفة والإيديولوجيا، دون أن يعترف بطبيعة العلاقة بينهما، وأن كل طرف يؤثر في الآخر. فهو يبين لنا كيف أن واجب الفيلسوف، يقوم على نقد الإيديولوجيا من معنيين آخرين جديدين: أحدهما هو شرعية السلطة، والآخر يخص التكامل الاجتماعي، مما يعمق ويوسع من فهمنا التخصصي للظاهرة. فلا يمكن الاقتصار على المظاهر السلبية للإيديولوجيا، ولكن علينا أيضاً إبراز مظاهرها الإيجابية في التقليص والتقريب ما بين العلم والإيديولوجيا. كما يمكن لنا القول: إن موضوع أو مخرج الحياد العلمي ليس أمراً ممكناً بالنسبة لريكور، لأن التدقيق العلمي لن يجدي نفعاً إلا بعد نقد المسلك الذاتي، وهو: الأوهام.

بالنسبة للفيلسوف الفرنسي، فإن الإيديولوجيا واليوتوبيا دليلان على المخيال الاجتماعي، تحتل الإيديولوجيا موقفاً مقابلاً لليوتوبيا، ويمكن نقد الإيديولوجيا ومفاهيمها من خلال اليوتوبيا فقط. إن الإيديولوجيا محافظة، وتهدف إلى الحفاظ والإبقاء على نظام السلطة، في حين أن اليوتوبيا هي شيء ثوري لبحثها عن قلب النظام.

عندما نقارب الإيديولوجيا عن طريق الهيرمينوطيقا، تنتهي دائماً باستكمال يوتوبيا ما، لأنها تشكل حدودها الخاصة. مثلاً، إن الإيديولوجيا ترمي بنا إلى مفهوم اليوتوبيا، والعكس صحيح. إن الأسلوب الذي عالج به ريكور اليوتوبيا يستحق مقاربة منهجية، الأمر الذي ليس من أهداف هذه الورقة المقتصرة على دراسة الإيديولوجيا. ونترك المقاربة العميقة لليوتوبيا للبحث القادم.

* خلاصة

حسب ريكور، إن الفلسفة هي “تعبير عن مجهودنا الوجودي وعن رغبتنا في الوجود، بغض النظر عن الطريقة التي يرى بها هذا المجهود وهذه الرغبة”. إن ريكور يفسر الفلسفة بكونها تفكيراً دقيقاً حول الأدب والفنون، والتي هي بدورها علامات تدل على وجودنا.. إن هذه الورقة لا تدعي الإحاطة بكل آثار مناقشة ريكور للإيديولوجيا، ولكن تؤكد على مصادر أقام عليها قراءاته، والإشارة باختصار إلى نشوء آفاق جديدة لمقاربته. يمكن إيجاد هذا الحكم في كتابه.

إن هدفنا هو التركيز على أهمية المقاربة الهيرمينوطيقية للمدرسة الفلسفية، إن بعضاً من خصائص المنهج الهيرمينوطيقي يبدو واضحاً في كتابات ريكور، مثل المقاربات ومقارنة المفاهيم. ليثير صراعات جديدة في المجتمعات الحديثة والمفتوحة، وإخضاع هذه المقاربات المختلفة للنقد، والبحث عن آفاق أوسع، مع الحفاظ واحترام الاجتماعية التي تجرم تفسير الصراع.

إن مشروع ريكور الفلسفي، يرسم تقريباً جيداً بين الذات والواقع، باحثاً عن أجوبة لمشكلات الوجود التي يقدمها الواقع التاريخي. إنه يبحث عن معانٍ أعمق تؤثر على الوجود الفردي في العالم، لهذا فهو يقترح علامة هيرمنوطيقية تؤسس للذات والوقائع.

إننا لا ندعي في هذه الورقة، الإحاطة بكل أثار نقاش ريكور لمفهوم الإيديولوجيا، ولكن حاولنا إبراز المصادر التي اعتمد عليها، مؤشيرين في ذلك إلى الأفاق الأخلاقية التي يمكن أن ترمي إليها مثل هذه المقاربة. التركيز على العيش المشترك بين أناس ينتمون إلى مؤسسات مختلفة، وهو ما نجده في كتبه مثل Du texte à l 'action , Soi -même comme un autre.

إن الهدف الأساسي من هذه الورقة هو إبراز أهمية المقاربة الهيرمينوطيقية للفلسفة الاجتماعية. وبعض من خصائص هذا المنهج الهيرمينوطيقي نجده في كتابات ريكور، خاصة في مقارباته ومقارنة المفاهيم، فأتاح بذلك صراعات جديدة في المجتمعات المعاصرة المفتوحة، بإخضاعه مختلف المقاربات للمنهج النقدي والبحث خارجاً عن آفاق أخرى، خاصة الظاهرة الاجتماعية التي تتجاوز تأويل الصراعات.

إن مشروع ريكور الفلسفي يضع معالم لتقريب جديد بين الذات والحقيقة، باحثاً عن أجوبة لإشكالات الوجود الفردي كما يقدمها الواقع التاريخي، إنه يبحث عن المعاني العميقة التي تؤثر في الوجود الفردي في العالم، لهذا فهو يقترح إشارة هيرمينوطيقية تؤسس لحقيقة العالم والذات. وهذا شبيه بنص تجب ترجمته وشرحه. إن معنى الحقيقي والواقع، حسب ريكور، تكوّن بفضل تجربة الذات عبر التاريخ، قبل تجليها في السياقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية. وهذا المعنى لا تدركه الذات بطريقة فورية، وإنما يتكون عبر التاريخ.

هناك تاريخ للمعنى يرثه التقليد الثقافي. إن الطريق لا زال طويلاً لاستكمال معرفة تامة بالواقع. إن اليقين المبدئي للمعرفة الديكارتية، والاستعمال الصحيح لعلامات اللغة، ليس كافياً لإدراك الكيفية التي تكوّن بها الواقع، هناك حاجة ملحة لطريق التحليل النفسي، مثلاً، التحليل القبلي للذات، من أجل تفسير الشروط اللا عقلية لمسار المعرفة، وهذا يعني أيضاً توسيعاً لمفهوم العقل.

إنه أمر صعب ومستمر، أن تحاول شرح وتفسير الواقع، مما يدل على أن هذه المهمة تمثل سيرورة من التأويلات المستمرة. إن المنهج العلمي الصارم سرعان ما يتبخر أمام وقع الشروط النفسية والاجتماعية والتاريخية والسياسية والاقتصادية للذات. إن فن صناعة الفلسفة يتحول إلى مسلسل لا نهائي من النقد والتأويل. فبمجرد ما يتم تمثيل الفعل الاجتماعي بمجموعة من الإشارات، سرعان ما يتولد صراع بين مختلف أساليب التأويل، التي تولد بدورها ما نسميه بصراع التأويلات Conflict of interpretation، إن وجهة نظر ريكور مبدعة في مجال تقريبها ما بين التأويل التقليدي في العالم الفلسفي، وبين تأويل فعل الذات.

إن التقريب الذي قام به الفيلسوف الفرنسي مع التحليل النفسي، خاصة الفرويدي قد فتح حقلاً واسعاً جديداً للفلسفة. وتذكرنا بعض مقاربات ريكور بيونغ. ويمكننا الإشارة على سبيل المثال إلى مقاربته للخيال الاجتماعي، الذي يذكرنا باللاوعي الجمعي لدى يونغ. إن الفحص الدقيق للتقريب بينهما، يتطلب دراسة مقارنة، ليست من بين أهداف هذه الورقة.

إنني أتفق مع ريكور في نقاشه حول الإيديولوجيا، لأنه لا توجد هناك مقاربة أفضل، إن مقاربة ريكور للإيديولوجيا، تظهر العلاقة والربط بين المعرفة، والسلطة، والإيديولوجيا. يمكننا القول: إن ظاهرة الإيديولوجيا متضمنة في سيرورة المعرفة الإنسانية.

إن مساهمة الفيلسوف الفرنسي في هذا الموضوع، تتجلى في أن فعل ظاهرة الإيديولوجيا ليس مرتبطاً فقط بالظاهرة الاقتصادية، ولكن أيضاً بالسياسة والاجتماع والثقافة. إن الإيديولوجيا لا تأتي فقط من هيمنة طبقية اجتماعية، وإنما أيضاً من نظامٍ للسلطة ينشئه المجتمع.

ويمكننا القول أيضاً: إن ظاهرة الإيديولوجيا ظاهرة لا نهائية وعصيّة على الاستيعاب، لأنه من المستحيل نهج مقاربة لا إيديولوجية عند الحديث عن الإيديولوجيا.

في النهاية، وحسب هذه المقاربة، يجب إعادة قراءة الكتب الأساسية عن الإيديولوجيا، وبعضها يحتاج إلى مقاربات جديدة، مثلاً: إيديولوجيا العمل، الإيديولوجيا والدعاية، الإيديولوجيا والإعلام. يجب البحث عن معنى أعمق لظاهرة الإيديولوجيا، وللمواضيع المرتبطة بها.

 

الهوامش:

* النص الأصلي باللغة الإنجليزية، وهو في الأصل ورقة قدمت للمؤتمر العالمي العشرين حول الفلسفة، ببوسطن، بتاريخ 15/10/1998م.

** أستاذ الفلسفة  بجامعة ليشبونا/ البرتغال.

*** كاتب ومترجم مغربي.

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة