تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

المثقف بين المجتمع والسياسة

زكي العليو

 

الإشكالية

شهد التاريخ العربي المعاصر عدة أنماط لعلاقات المثقف، ومن هذه العلاقات علاقة المثقف بالسياسة وعلاقة المثقف بالمجتمع، فالمثقف في التجربة العربية المعاصرة لم تفارقه السياسة والمجتمع كمواضيع وثيقة الصلة به يؤثر كل طرف في الآخر، فكانت السياسة والمجتمع دائمتي الحضور عند المثقف ونالتا اهتماماً نظرياً وفعلاً واقعياً، فهناك هاجس كبير للمثقف بالسياسة، فوفق نظر شريحة من المثقفين إن أفضل طريق لولوج المجتمع والتأثير فيه هو الدخول له من باب السياسة التي تعتبر أكثر الوسائل قدرة على إحداث التغييرات بما تملكه من سلطة، فالسياسة تحول الفكرة إلى سياسة تطبق على أرض الواقع من خلال وضع الاستراتيجيات واتخاذ القرارات السياسية، وباعتبار أن السياسة اهتمام بالشأن العام يصب فعلها في النهاية في المجتمع، كان دخول المثقف للسياسة عن طريقين: إما طريق مباشر ويأخذ أشكال عدة أهمها الوصول لمنصب سياسي أو التحالف مع السياسي أو الخضوع لرغبة السياسي، أو طريق غير مباشر وهذا أيضاً يأخذ أشكالاً عدة منها: المعارضة بإجبار السياسي على تمثل رأيه أو تنازل السياسي ليشاركه الغير في إدارة الشأن العام، وحسب تجربة المثقف لم ينجح كثيراً الطريق غير المباشر بل يمكن القول إنه - بتطبيقه على تجارب عديدة معاصرة - كان تجربة لم تكتمل، وقد يراها البعض أنها أقرب "للفشل" منها للنجاح، ومن هنا قد يكون من الصعوبة وجود مثقف - على الأقل في منظورنا القريب - يتجاهل أو يتغافل النظر للمجتمع والسياسة.

مما تقدم، تبرز عدة أسئلة، منها: ما مدى صحة ارتباط المثقف بالسياسة ولاسيما عندما يرى أن الساسة العرب في الأنظمة الحاكمة الحديثة لم يفوا بوعودهم، فضلاً عما تطالب به شعوب ونخب المجتمعات العربية ألَّا يحتكر الساسة الذين يديرون هذه الأنظمة القرارات السياسية وإدارة الشأن العام الداخلي والخارجي؟ وكذلك ما مدى صحة دخول المثقف المجتمع من بوابة السياسة؟ وهل وضع المثقف أكثر جهوده في السياسة دون المجتمع؟ بمعنى آخر: لماذا اتجه المثقف للسياسة ولم يذهب للمجتمع؟ وهل أصاب المثقف عندما اهتم بالسياسة دون المجتمع؟

لا تعد هذه الدارسة بالإجابة عن هذه الأسئلة، لحاجة كل سؤال لدراسات مطولة ومعمقة، ولكن تسعى لفتح باب لدراسة العلاقة التي تربط المثقف بكلٍّ من المجتمع والسياسة.

مقدمات أولية

هناك عدة مقدمات يمكن من خلالها المساعدة في تقريب عدد من المسائل المتعلقة بعلاقة المثقف بالمجتمع والسياسة:

1- تهتم هذه الدراسة بتعريف المثقف من خلال ماهيته التي تتكون من الوعي والمعرفة والنقد والعمل الجاد لتحقيق مشروع معين، وماهية المثقف ترتكز على مقومات تؤثر في المثقف وتضعه مباشرة في عمق المجتمع والسياسة وتؤثر في الدور الذي يمارسه عميقاً في المجتمع والسياسة.

2- تتفاوت مستويات وضوح المفاهيم بالنسبة لأفراد المجتمع، فهناك مفاهيم واضحة وأخرى أقل وضوحاً، وأحد أسباب تفاوت وضوح المفاهيم راجع لمدى حضور هذه المفاهيم في حياتهم، ففي المجتمع تحضر مفاهيم أكثر من مفاهيم أخرى وذلك لأسباب، فمثلاً المفاهيم المتعلقة بالسياسة والدين والمال واضحة إذا ما قورنت بالمفاهيم المتعلقة بالثقافة والفلسفة والفكر، ومن هنا يُواجّه صعوبة أقل في تمييز السياسي من غير السياسي في المجتمعات العربية مقارنةً بتمييز المثقف من غير المثقف في هذه المجتمعات نفسها، فتظهر صعوبة تمييز المثقف من غير المثقف في هذه المجتمعات باعتبار حداثة التجربة الثقافية في المجتمعات العربية، ولا يقصد هنا من الثقافة ارتباطها بالعلم أو المعرفة بمفهومها العام أو "البسيط أو السطحي" بل ارتباطها بمفهوم المثقف الذي له أدوار مختلفة عن السياسي، كذلك لا نجد هناك مفاهيم متبلورة لمن يعمل في المجال الاجتماعي، فمن المعلوم، أنه انبثق عدد من المؤسسات والفعاليات التي تهتم بالمجتمع وخدمة أفراده وجماعاته وفئاته، فلم يعد فقط عالم الدين أو السياسي هم من يشتغلون على المجتمع، بمعنى أنه برز هناك شخص تنصب جهوده لصالح المجتمع من باب المجتمع ومفهوم الاجتماع والخدمة الاجتماعية لا من باب السياسة أو الفقه، وإن كان هناك حالة ارتباط بين هذه الشريحة وبين السياسة والفقه من وجوه أخرى، ورغم أن هذه المؤسسات والفعاليات لا زالت قليلة لاسيما عند الحديث عنها بمفهوم عصري يرتكز على أسس علمية وحديثة وتنظيمية وهيكلية، أي أنه لم يتبلور حتى اللحظة مفهوم الإنسان الاجتماعي، بمعنى أنه لم " يُصك" مفهوم لمن يعمل للمجتمع يُدعى بالاجتماعي كما هو السياسي المشتغل بالسياسة أو المثقف المشتغل بالثقافة، فلم يتضح مفهوم من يبذل جهود لأجل خدمة المجتمع بعمومه، ولتقريب ذلك هل يسمى من يشتغل في المراكز أو المؤسسات التي تقدم خدمات لأفراد المجتمع بالاجتماعي؟

3- شهد التاريخ العربي المعاصر عدة أنماط لعلاقات المثقف، منها خمسة مهمة، وهي علاقته بالمجتمع وعلاقته بالسلطة وأكثرها في صورتها السياسية وعلاقته بالغرب وعلاقته بالدين وعلاقته بذاته، وتختلف اتجاهات هذه العلاقات من حيث إنها تارة تكون "إيجابية" وأخرى "سلبية"، ففي علاقة المثقف بمجتمعه، تارة يعمل من أجل تطور المجتمع وتقدمه ويعتبر نفسه جزءاً من هذا المجتمع، ولا يمكنه الانفصال عنه لحظة، وأخرى لا يهتم بالمجتمع أو يرى أن المجتمع لا يمكنه التقدم لمعوقات اجتماعية ذاتية، أو قد يلاقي ما لا يحبذه من المجتمع فيتخذ خيار العزلة، فيترك الاهتمام بالمجتمع ويصب كل اهتمامه بنفسه. وفي علاقته بالسلطة السياسية، تارة يكون موظفاً لدى السلطة سواء أكان يعمل في الجانب الإعلامي لها أو الجانب "الاستشاري" أو في أحيان أقل يصل لمنصب رفيع في نظام الحكم، وأخرى يعمل خارج السلطة السياسية، وقد يكون معارضاً وقد تصل حالة المعارضة قيام السلطة باغتياله في أسوء الحالات، وفي علاقة المثقف بالغرب، تارة يكون داعية للغرب وثقافته أو بصورة نادرة جداً يعمل ضمن حكومات دول غربية توصف علاقة هذه الدول بالمجتمعات العربية باستعمار أو هيمنة واستغلال، وأخرى يُحرض هذا المثقف شعوب هذه المجتمعات التي يعيش فيها ضد الغرب وضد أنظمة الحكم أو الإدارات الغربية أو في أحيان ضد مثقفي ومفكري الغرب. وفي علاقته بالدين تجده إما مع الدين وأحياناً يصل في مواقفه إلى الدفاع عن السلطات الدينية وما تسيطر عليه أو الانضواء تحتها، وتارة أخرى يقف موقفاً معادياً للدين ولكل تجليات المسألة الدينية في المجتمع. وفي علاقة المثقف بذاته، تارة يعلي من شأن المثقف والدور الذي يقوم به والدور الموكل له، وأخرى يحاول قتل هذا المثقف بقتل دوره والحكم على هذا الدور بالإعدام.. ولا حاجة للتأكيد على أن عرض نماذج العلاقات السابقة للمثقف ليس على أساس أنها القاعدة بل هو تصوير للحدين المتضادين لموقف المثقف من ذلك، وأن الحالات الكثيرة والطبيعية تقع بين هذين الحدين المتضادين.

4- تعددت مواقف المثقفين من القضايا والإشكاليات التي تعيشها مجتمعاتهم، فمنهم من يسعى للبروز الذي قد يضفي عليه أحسن الأوصاف الفكرية والأخلاقية والعلمية، ومنهم من يدعي الدفاع عن الموضوعية والقيم الحقيقية أو القيم المفتقدة في المجتمع، ومنهم من يهرب من الواقع إيثاراً للسلامة أو عدم القدرة على المواجهة التي قد تجعل بعضهم يهاجر أو ينفي نفسه داخلياً أو خارجياً، ومنهم من يلتحق بسلطة أياً كانت هذه السلطة، ومنهم من يلتزم بالثقافة وما تحمل من قيم ويضحّى بالمال والشهرة والمنصب والمكانة والجاه والعمر والأهل من أجل هذا الالتزام.

5- لا تعيش المجتمعات العربية التنظيم المؤسساتي بل أكثر ما تعيشه هو "التنظيم" القائم على الفردية، فلم تتجذر الحالة المؤسساتية في المجتمعات العربية على حساب الفردية، بمعنى ألَّا وجود حقيقياً فاعلاً للمؤسسات بل الوجود الحقيقي في المجتمعات العربية هو للأفراد وتابعيهم، فنجد أكثر الحديث عن الحاكم والسياسي لا الحديث عن المؤسسة السياسية، أو الحديث عن عالم الدين والشيخ والأب لا عن المؤسسة الدينية، أو الحديث عن المثقف لا عن المؤسسة الثقافية، ومن هنا يكون أكثر الصراع مثلاً بين أفراد: مثقف - سياسي، لا أن الصراع يكون بين مؤسسة ثقافية - مؤسسة سياسية.

6- ما هو واقع حالياً أن هناك علاقات غير طبيعية بين المثقف والمجتمع، وبين المثقف والسياسة وبين السياسة والمجتمع، ولأجل تحول العلاقة من غير طبيعية إلى طبيعية، ومن ثم إلى علاقة تفاعل إيجابي، مما سيسهم بكل تأكيد في تحقيق جزء مهم من عملية التغيير ثم النهوض بالمجتمعات العربية، وبالتالي ليست هذه العلاقات علاقات عابرة أو هامشية في حياة المجتمعات العربية، بل لو كانت في وضعها الصحيح لاستطاعت هذه المجتمعات صنع تاريخها المعاصر ومستقبلها.

المثقف بين الجماعة والمجتمع

للمثقف انتماءات متعددة، منها انتماؤه لجماعة وانتماؤه لمجتمع، والذي بحاجة لتأكيد أن انتماء المثقف لجماعة دون المجتمع يضيّق على المثقف مجالات كثيرة للعمل والتغيير، فليست بالضرورة أن تكون أهداف كل من الجماعة والمجتمع متطابقة أو متوافقة بل قد تكون متعارضة ومتضاربة، ولا سيما عندما تنمو الأهداف الضيقة على حساب غيرها من الأهداف، فأهداف الجماعة خاصة بها باعتبار محدودية هذه الجماعة، بينما أهداف المجتمع ليست نابعة من أهداف جماعة محددة بل هي نابعة من أهداف جماعات مختلفة التوجه والعدد في المجتمع، وهناك فارق في طبيعة الأهداف، فجماعة قد يكون لها هدف تسعى لتحقيقه وهذا الهدف يصب في صالح المجتمع، وجماعة أخرى قد يكون لها هدف تسعى لتحقيقه ولكنه لا يصب في صالح المجتمع بل بالعكس قد يؤثر على المجتمع، ومن هنا عندما يتبنى المثقف أهداف جماعة ينتمي لها على حساب المجتمع يكون قد ضيق من مجال عمله ودوره وأضعفه أيضاً. ويعبر د. عبد الإله بلقزيز عمَّن ينتقد المثقف المنتمي لجماعة بهذه الصورة >وحجة الجمهور في ذلك أنّ المثقف ممثِّلٌ لضمير الجماعة (الأمة أو الشعب)، وأنّه لا يجوز أن ينحاز إلى فريق منها على حساب آخر، لأنّ في ذلك الانحياز تحويلاً لمعنى المعرفة والثقافة ومضمونهما. ولمّا كان جمهورُ المعترضين في معظمه من المثقفين لا من عامة الناس، فإنّ الحجّة لم تكن لتعوزه لبيان أنّ استقلالية المثقف عن أيّ ولاءٍ سياسي هي ما يَحْفظ له مكانَتَه، ويصون وظيفَتَه، ويرفع من رصيدِ فكره في سوق القيم الاجتماعي؛ وهي -بالتالي- ما يحمي صورة الثقافة بصفتها تعبيراً عن شخصية المجموع الاجتماعي، لا رأس مال برسم التوظيف السياسي.

هذا النقد هو شبيهٌ بشعار "مَنْ تَحَزَّب خان"، الذي أطلقه بعضُ عرب هذا الزمان! وهو، وإن لم يكن كاريكاتورياً إلى هذا الحدّ، نقدٌ شديد الجفاء تجاه تجنيد المعرفة والثقافة في ميدان الصراعات الاجتماعية"(1).

حاجة المجتمع للمثقف

لن يتركز أو يفصل الحديث عن دور المثقف عن حاجة المجتمع للمثقف، فقد يحتاج المجتمع للمثقف ولكن قد لا يستطيع المثقف القيام بتلبية حاجة المجتمع وآماله في المثقف، وذلك بسبب ظروف موضوعية أو ذاتية لا تمكن المثقف من ذلك.

من المؤكد أن أي مجتمع يعيش صعوبات أو أزمات أو منعطفات أو حالة مفترق طرق بحاجة لنوعية معينة من أفراد المجتمع كي تقوم بأعمال وأدوار تسهم في تغييره أو تطويره نحو الأفضل، وهناك قناعة واضحة عند المشتغلين على / وفي المجتمعات العربية تحليلاً وتشخيصاً ونقداً أن ما تعيشه هذه المجتمعات نتاج أسباب مركبة منها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، أي أنها بتعبير أدق إشكالية. مثلاً من الصعوبة معالجة الأزمات التي تعيشها المجتمعات العربية فقط بالتكنولوجيات والتنمية الاقتصادية غير المؤسسة والمبتنية على المسألة الاجتماعية والثقافية، ففي المجال الثقافي تحديداً تحتاج مثل هذه المجتمعات لعدد من المفاهيم الثقافية المهمة التي تسهم في تغيير الواقع العربي البائس كالإنسانية والتسامح والاحترام والتعددية، وعدد آخر من المفاهيم التي يمكن للثقافة أن تؤثر فيها كالعقلانية والعدالة والديموقراطية وحقوق الإنسان والتنمية المستدامة.

ومن خلال المفاهيم الثقافية أو المفاهيم التي يمكن للثقافة الإسهام في تحقيقها تبرز حاجة المجتمع للإسهام في تنزيل هذه المفاهيم على الواقع العربي كي يحدث فيه التغيير ثم التطور والتقدم، ويتم ذلك بمساهمة المثقف كصاحب دور مهم.

ومع هذا، فلا معنى عندما يكون المجتمع بحاجة للمثقف كصاحب دور، أن يطلق المثقف العنان لنفسه في ممارسة الدور المطلوب منه من دون وجود مقيدات لهذا الدور، فمن ضمن المقيدات، قيد أن يُفترض في المثقف الذي يقوم بأداء أدوار معينة حد من المعرفة والكفاءة والقدرة مع مراعاة النسبية هنا، وقيد آخر عدم نزوع المثقف للاستحواذ على الفعل والتوجيه في الساحة الاجتماعية بصورة غير ديموقراطية ومتسامحة، وقيد ثالث التأكيد على أن المثقف أحد الفاعلين في المجتمع من الذين يطمحون ويسهمون في تطويره وتغييره الذين تبرز وجهات نظرهم في المجتمع بوضوح وتؤثر فيه، وهذه المقيدات لا تعني ألَّا يحق للمثقف التمايز في دوره مقارنة بغيره، فهو حامل للوعي والمعرفة ذات الطابع المختلف بحمل قضية يعمل من أجلها، لإسهام الوعي والفكر في تغيير الواقع الذي يمتلك المثقف قدراً منه أو يشتغل عليه.

لا يمكن للمثقف الاستغناء عن المجتمع مهما كانت طبيعة هذا المجتمع ومهما كانت طبيعة المثقف، لأن المثقف يهتم بالشأن العام للمجتمع كالوعي والنقد فلا بد أن يكون ذا علاقة بالمجتمع، ولكن الإشكالية هي في كيفية هذه العلاقة، فقد تأخذ منحى وصاية المثقف على المجتمع، وقد تأخذ منحى مشاركة وتعاون المثقف مع المجتمع، وقد تأخذ منحى تبعية المثقف للمجتمع، وقد فشل النموذج الأول وهذا ما يطالب به بعض المثقفين إثر انتقادهم ممارسة المثقف الوصائية على المجتمع بطلب رفع وصايته عن المجتمع والجماهير، وهم محقون في ذلك بشرط ألَّا يؤدي ذلك لإنهاء العلاقة بين المجتمع والمثقف، بمعنى أدق أن تتم إعادة صياغة هذه العلاقة مجدداً وفق الموضوعية والظروف الحالية، ومن المؤكد أن نتيجة النموذج الثالث كذلك الفشل لأنه نموذج مقلوب للنموذج الأول فهو ينفي أو يعدم ما توصل إليه المثقف من رؤى ومعرفة لتوظفيها لأجل خدمة الشأن العام في المجتمع، ويبقى النموذج الثاني وهو الأفضل من بين النماذج، الذي يمكن وصفه بأنه ديموقراطي يقيم علاقة متوازنة بين الطرفين، وهذا يمثل الشرط الضروري في حساب علاقة المثقف - المجتمع، بأن يكون هناك قدر واضح من الاستقلالية لدى الطرفين - المثقف والمجتمع -، لا فقط كما يطالب بعض المثقفين أن تكون للمثقف استقلالية عن المجتمع الذي ينتمي إليه، فكذلك للمجتمع الحق أن يكون له قدر من الاستقلالية عن المثقف، وهذا القدر من الاستقلالية يحمي ويخدم الطرفين، فلا يبخس المثقف قدرته على الفعل أو يجعله تابعاً من دون وعي للمجتمع ومتطلباته، ويحمي المثقف من أخطاء قد يقع فيها المجتمع فعلاً، أو أن المثقف يرى باعتبار موقعه وخطابه أن المجتمع قد يقع فيها، ولا يجعل المجتمع تابعاً للمثقف من دون وعي ومساءلة ومحاسبة، وتحمي كذلك المجتمع من أخطاء قد يقع فيها المثقف فعلاً أو يرى أن المثقف قد يقع فيها باعتبار أن المجتمع ليس مكوّناً من "قطيع" - كما يظن البعض - بل فيه متعلمون ونخب وأصحاب تجارب وتخصصات، وكذلك في المجتمع هناك شرائح تستطيع نقد ما يقوله المثقف.

لا يمكن الحكم على تجربة المثقف في المجتمعات العربية بأنها كانت ناجحة تماماً أو فاشلة تماماً، فهناك أخطاء وقع فيها المثقفون العرب، ولا يعني وقوع المثقفين في أخطاء أن يتخلى المجتمع عن المثقفين، فبعض الأخطاء كانت بحسن نية لكن كان تقدير العوامل والظروف ليس دقيقاً، باعتبار أن المثقف معرض للوقوع في مثل هذه الأخطاء كغيره، فوقوع المثقف في الخطأ لا يعني نهاية المطاف بالنسبة له، وبالتالي يحتاج المثقف استعادة ثقته بنفسه مجدداً وأن يجعل المجتمع يثق به مجدداً.

المثقف والمجتمع

تتسم العلاقة بين المثقف والمجتمع بأنها من النوع الجدلي بمعنى أن كلاًّ منهما يؤثر في الآخر، فليست العلاقة بين المجتمع والمثقف علاقة عامل مستقل وعامل تابع كما هي في علم الرياضيات، ولتوضيح ذلك، باعتبار أن المثقف نتاج مجتمعه لأنه فرد في مجتمع، فالمثقف يتأثر بما يحمل المجتمع من قيم سلبية أو إيجابية وبما يوجد فيه من تعقيدات، فالمفترض في المثقف أن يقف موقفاً سلبياً أمام القيم السلبية في المجتمع بنقدها والاعتراض عليها ومحاولة تغييرها، كما المفترض في المثقف أن يقف موقفاً إيجابياً من القيم الإيجابية لنشرها والعمل من خلالها على ألَّا تتحول هذه القيم إلى سلطة تفرض اتجاهاً واحداً يصب في صالحها وتعارض مناقشتها، ولاعتبار أن النقد الذي هو أحد مقومات المثقف الذي يمارسه على المجتمع بمكوناته، فمن خلال هذا النقد يحاول المثقف التأثير في المجتمع، وقد يمارس المثقف أفعالاً تجاه المجتمع توصف بالتمرد، ومع هذا قد يُوفق المثقف في أداء هذه الأفعال والأدوار التي تخصه وقد لا يوفق، وهذا وفق شروط وظروف تفرض أو تساعد أو تعيق المثقف في تحقيق ما يراه تجاه مجتمعه.

ولكن الواقع يشهد أن ما يُسطر أحياناً من أن هناك علاقة مثالية بين المثقف والمجتمع ليس صحيحاً، فهناك عدد من التوترات يساهم فيها أحياناً بعض المثقفين، وأحياناً أخرى يساهم فيها المجتمع أفراداً وجماعات.

يرجع عبد الله عبد الدائم بُعد المثقفين عن المجتمع لأسباب عدة منها أن تجاوب المجتمع مع المثقف رهن بقدرة هذا المثقف على الإفصاح عما يختلج في أعماق ذلك المجتمع، ونزعة المثقفين بالاهتمام بالآخر (الغرب)، وعدم اضطلاع المثقفين بدورهم التغييري، وغياب الرؤية الحضارية الشاملة لدى كثرة من المثقفين، وتشتت المثقفين وعجزهم عن تكوين قوة ثقافية متكاملة مترابطة(2).

بينما يرجع عبد الله عبد الدائم بُعد المجتمع عن المثقفين لأسباب عدة منها تشوه المجتمع العربي وأمراضه، وسيطرة بعض أنماط الفكر الديني التقليدي المتخلف الذي ولدته عصور الانحطاط، والمستوى الثقافي الضحل للكثرة من أفراد المجتمع العربي(3).

المثقف وليد تأثيرات المجتمع، فلا يمكن للمثقف العيش أو التفكير مع افتراض انعدام تأثير الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في مجتمعه عليه، فمن الصعوبة تصور نشوء مثقف من فراغ، بل هو نتاج ظروف معينة تمر وتؤثر فيه بقوة، فالمثقف مشدود للواقع الذي يحيط به، إلا إذا أراد المثقف الانعزال بوعي منه لذلك أو من دون وعي بذلك، ومن هنا تتكون مواقف وأفكار ورؤى المثقف، فمثلاً مطالبة عدد من المثقفين العرب بالديموقراطية كان نتيجة لوجود حالات القمع والاستبداد تمارس في المجتمع من قبل أفراد أو جهات ضد غيرهم، أو مطالبة بعض المثقفين العرب بالعدالة الاجتماعية كان نتيجة وجود تفاوت طبقي كبير في المجتمع وهناك من يستفيد أو يتسلط على أموال وأحوال المجتمع ويهيمن عليها دون ترك المجال لغيره للعيش بكرامة.

ليس بالضرورة أن يكون تأثير المجتمع على المثقف بتحديد اتجاهات المثقف التي يلزم على المثقف سلوكها، فقد يمارس المجتمع على المثقف دوراً سلبياً بممارسة الرقابة السلبية عليه، التي قد تكون أحياناً أقسى من رقابة السياسة، يقول أنس صايغ: إن هناك عدة رقابات على المثقف أقساها ليست الرقابة السياسية بل الاجتماعية والذاتية >فعند أي كلام عن الرقابة على الفكر والرأي أو القول أو الإيمان أو التعبير، يتبادر إلى ذهن الإنسان رقابة الدولة أو السلطة الحاكمة. وكثيراً ما يكون ذلك هو واقع الأمر. وكثيراً ما تتمثل رقابة ما بقوانين وأنظمة وقرارات تصدر عن الدولة وتطبّقها أجهزة الدولة. ولكن هذه الحقيقة لا تمنع وجود "رقابات" أخرى، قد تكون في بعض الأحيان أقسى من الرقابة الرسمية، أو على الأقل أصعب من التحايل عليها وتجاوزها. فهناك رقابة المؤسسة غير الرسمية، رقابة المجتمع ككل (تحت وطأة تاريخ من التخلف أو القهر أو الحرمان أو الجهل)، التي تمارسها جهات نافذة في المجتمع، كالعشائر والطوائف والشرائح المهنية أو الطبقية والأحزاب السياسية، بل أصحاب المؤسسات الخاصة والمصالح الضيقة. إن لسيف التقليد والجهل وضيق الصدر والأفق حداً أمضى من سيف الدولة في بعض الأحيان. ولعل أقسى وأبشع من هذه الرقابة أو تلك، رقابة الإنسان "الداخلية" التي لا يمليها عليه وعيه أو ضميره أو شعوره بالمسؤولية، بل يفرضها عليه جبنه أو شرهه أو لا مبالاته، أو عواطف هوجاء لا تتيح له أن يمارس الحرية التي وهبها الله له وسمحت بها الأنظمة"(4) إذن، حسب رأي أنس صايغ إن المشاكل التي يعانيها المثقف من المجتمع لا تقل عن المشاكل التي يعانيها من أنظمة الحكم والسياسة.

ومن هنا قد تبدأ مشاكل المثقف مع المجتمع ومن ثم يتواجه معه، وتأخذ هذه عدة مسارات منها:

1- أن "ينسلخ" المثقف عن مجتمعه، ولكن هل بمقدور المثقف الانسلاخ فعلاً عن المجتمع؟! وبالتالي لا يرى في المجتمع إلا كل شر، صحيح أن الموقف الجذري قد يكون فيه بعض الحق في نظرته للقضايا، ولكنه قد يكون أحياناً متطرفاً في وجهة نظره ولا يقبل إلا بوجهة النظر الحدية، والإشكالية التي تواجه أصحاب النظرات الحدية عدم قدرتهم على القيام بأي دور أو تأثير، وعدم قبولهم للمختلفين في أوقات كثيرة، ويصبحون دائمي التذمر من الآخرين والمجتمع والظروف، وعادة ما يبادلهم المجتمع عدم القبول أو لا يحاول الاقتراب منهم بل أحياناً يمارس المجتمع ضغطاً على من يتصل بهم.

2- أن يعيش حالة عزلة، وإن كانت هذه الحالة أقل من الحالة السابقة إلا أنها قد تكون مقدمة لها أحياناً، ولهذه العزلة درجات كثيرة أقصاها حالة الانسلاخ، ويعيش المثقف العزلة فيكون دون أي تأثير على المجتمع أيضاً كلما زادت عزلته عن المجتمع، والتي قد تصل أن ينسى المجتمع هذا المثقف، أو أن يهاجر المثقف بعيداً عن مجتمعه عند عدم قدرته على العيش أو التكيف مع الواقع المعيش بسبب ذلك، وقريب من هذه الحالة يصف فؤاد إبراهيم حال بعض النخب التي تعزل نفسها عن المجتمع "إن عقيدة النخبة تقوم على أساس أن (التميز النخبوي) يتحقق عن طريق (العزلة الاجتماعية)، وكانت العزلة الطوعية هذه تستوفي مبرراتها كلما ساءت الأحوال الاجتماعية وتدهورت الأوضاع السياسية. وازداد طغيان الظاهرة الانعزالية لدى النخبة حين بدأت النخبة وجهتها ومقاصدها فأصبح شغل النخبة الشاغل تفسير الأحداث عوضاً عن تغييرها، ولما استسلمت إلى هذا النمط من الثقافة وصرفت النظر عن التحول إلى قوة تغيير راحت النخبة تقيّم الأوضاع الاجتماعية بمنطق استعلائي، لتضيف إلى أسوار عزلتها سوراً آخر، وفي نفس الوقت تضيف إلى جهلها بالواقع الاجتماعي جهلاً آخر، فالمجتمع هو الجامعة الكبرى التي يمكن فيها تحصيل العلوم والمعارف"(5).

3- أن يرفض المثقف الحالتين السابقتين ويبقى مصراًَ على ممارسة دوره الناقد، وهذا النوع يعتمد على صدقه مع نفسه بغض النظر عن نوعية أفكاره، فإما يلتزم بهذا الدور وهذا قد يأخذ مسارين: يرفض المجتمع أفكار هذا المثقف أو لا يسمع له فتكون للمثقف ردة فعل سلبية، أي يبادل المجتمع عدم الاهتمام بما يقوله المجتمع عنه، مع البقاء على ممارسة هذا النوع من النقد للمجتمع مؤمناً أن له رسالة عليه السعي لتحقيقها، وكذلك مع بقاء لومه للمجتمع لعدم الاستفادة منه كمثقف يحمل الفكر والتنوير، أو يحاول المثقف أن يكون إيجابياً مع المجتمع بصورة أخرى، بأن يتواصل معه ويحاول إقناع المجتمع بأفكاره ورؤاه، صحيح يبقى هناك نوع من عدم قيام المجتمع بالتفهم أو عدم الأخذ بما يقوله المثقف في هذه الصورة، ولكن هذا المثقف ينظر لذاته باعتبارها جزءاً من المجتمع ويقع على كاهله واجب مواجهة الأخطاء الاجتماعية بالتفاعل الإيجابي ليحرك مياه المجتمع الراكدة فيبقى على اتصال بالمجتمع لأن ذلك قدره كمثقف، حيث يرى -كما هو حال بعض المثقفين العرب- أن ثقافة المجتمعات العربية تفرض على المثقف قيماً تؤكد ربطه بالمجتمع، كقيم التعاون مع أفراد المجتمع وخدمتهم والانتماء إليهم، كما أن بعض القيم الفردية التي يحملها المثقف باعتباره فرداً وليس بالضرورة أن القيم الفردية تكون متعارضة فعلاً مع المجتمع وقيمه، فهناك قيمة الانتماء للمجتمع النابعة من مسؤولية المثقف التي يمكن من خلالها أن يبقى هناك رابط بين المثقف والمجتمع، فليس المثقف كائناً معزولاً عن مجتمعه يمكنه تبني خيار العزلة دون مواجهة إشكالية وصراعات مع ذاته بسبب هذه العزلة.

إلا أن الجدير ذكره هنا، أن المثقف قد يدعي أنه يمارس نقداً للمجتمع، ويمارس دوراً "إعلامياً" لنفسه بأنه لا يتأثر بما يحتوي المجتمع من سلبيات، ففي أحيان يمارس المثقف دوراً إعلامياً لذاته لا يقل عن وظيفة وزارة الإعلام والمؤسسات التابعة لها في الدول العربية لدعم توجهات النظام الحاكم فيها، فيدعي المثقف أنه يقف موقفاً نقدياً من سلبيات المجتمع، لكنه واقعياً لا يمتلك القدرة على تجاوز هذه السلبيات، فمثلاً في المجتمعات العربية نجد أن المثقف ينتقد العائلية / القبلية / العشائرية / الطائفية ولكن قد تمارس عليه ضغوط من مجتمعه فيتماهى معها، أو أنه يرى أن مصلحته تتطلب هذا التماهي، أو أن ينتقد المثقف أحدها بينما يتماهى مع غيرها، وأحياناً يقع المثقف في فخ "عدم الصدق مع النفس" فكلامه ينبئ أنه ضد المحسوبيات والوساطات والرشاوي ولكنه يمارسها واقعاً، بل أحياناً لا يستطيع الاستغناء عنها ولا سيما إن كان من أصحاب العلاقات في المجتمع وأصحاب المصالح التي لا يستطيع الاستغناء عنها، بل قد تكون حياته العملية قائمة عليها، وبالتالي لا يمكن لمثقفين يتمثلون هذه الصورة تحريك مياه المجتمع الراكدة بهدف القضاء على جراثيم أو مُمرضات تستغل هذا الركود كي تنتشر.

فمتى ما نجح المثقف في مواجهة سلبيات المجتمع استطاع التأثير في المجتمع وإحداث تغييرات في مساراته، فالذي يعيق التغيرات في المجتمع هي هذه السلبيات فمتى ما زالت تغير المجتمع.

وهناك نقطة لابد من الإشارة إليها، وهي، إذا كانت الثقافة تنتج من قبل المجتمع أفراداً وجماعات ومؤسسات، عندئذ تسقط أطروحات بعض المثقفين من أن الثقافة هي من خصوصيات النخبة بصورة عامة والثقافية بصورة خاصة، ومن هذه يتبين أن علاقة المثقف بالمجتمع باعتبار نخبويته تحتاج لإعادة نظر نقدية فاحصة.

ولكن السؤال الذي يتبادر للذهن هنا، هل يمكن أن تصل حالة المواجهة بين المثقف والمجتمع أكثر مما هي عليه الآن كما في بعض نماذج المثقفين؟ أي هل يستطيع المثقف مواجهة المجتمع بصورة أكثر جرأة وموضوعية بأن يكون مغضوباً عليه؟؟؟ بمعنى هل يمكن أن تصل الحالة بالمجتمع إلى التنكر للثقافة وللمثقف ولا يرى للثقافة ولا للمثقف أي قيمة؟ أم يحدث العكس؟.

يمكن وصف المجتمعات العربية بأنها مجتمعات تحمل نزعة محافظة تتمسك بتقاليدها وموروثها وقيمها ودينها، على سبيل المثال التراث الذي يأخذ منحى مهماً في حياة المجتمعات العربية، والذي هو بحاجة في الوقت نفسه لتجديد النظرة له، فما لم يقم المثقف بتجديد نظرته لتراثه فلا يمكنه القيام بدوره في المجتمع، يقول المنصف الوناس في علاقة المثقف بالتراث "وقد تكون علاقة المثقف بالتراث علاقة واهمة مبنية على الانخداع بالسراب، والبحث عن اللا معنى. ولذلك، فالشرط الأول لأن يتعامل أي مثقف مع التراث، هو إلغاء قدسية الماضي، وتخليصه من دلالته المحنطة، وإعادة بناء تركيبة الذهن. إن إعادة إنتاج التراث بكل ثوابته، يخلق حالة من الانفصام بين المثقف والواقع الاجتماعي، ويفرز تخلفاً فكرياً، ينعكس في جزء كبير منه على وعي المثقف. وقد لا يستطيع المثقف التفرغ لأي دور تاريخي، ما لم يخلص ذاته من سطوة الماضي، وما لم يتمكن من فهم جدلية قوانين التطور التاريخي"(6).

لم يمارس المثقف أدواراً اجتماعية كثيرة مقارنة بممارسة أدوار سياسية، فلم يتجه المثقف لنقد أوضاع المجتمعات الاجتماعية كما هي في نقده للأوضاع السياسية والثقافية والدينية، وكان سبب ذلك أن أولوية المجتمع بالنسبة للمثقف كانت تأتي بعد أولوية السياسة والثقافة والدين، وقد يكون هذا بسبب عدم وجود رؤية اجتماعية للمثقف مقارنة برؤيته في السياسة والثقافة اللتين هما في نظره "السيدتان" على غيرهما من الرؤى، أو يمكن في أدنى الأحوال تصوراً منه أن المسائل السياسية والثقافية والدينية تأخذ مجالاً كبيراً من المجتمع، رغم أن أي تغيير حقيقي لا بد أن يأخذ في اعتباره "الوضع الاجتماعي" قبل أن يأخذ في اعتباره "الوضع السياسي".

يرى عبد الله عبد الدائم "من أهم العوامل التي تيسر للسلطة الحاكمة الضغط على المثقفين عجز هؤلاء عن تحقيق الالتحام العضوي بين عطائهم الثقافي وبين مطالب المجتمع العميقة، ذلك الالتحام الذي من شأنه، إذا توافر، أن يخفف أو يقضي على مقاومة السلطة للمثقفين، وإن يقرّب بالتالي بين عوامل التغيير الثلاثة الكبرى: السلطة السياسية والمجتمع والمثقفين"(7).

يرجع الطاهر لبيب عدم عضوية المثقف العربي في المجتمع لعدة أسباب "لا نبحث عن أسباب "العضوية" المفقودة، أو التي يصعب ربطها بالفئات الشعبية. أغلب التحاليل والآراء نردها إلى طبيعة التمايز الطبقي وعدم قدرته على إفراز المثقف العضوي، وإلى طبيعة السلطة السياسية، وضيق المجتمع المدني في مواجهته الدولة ومؤسساتها الرسمية، بما في ذلك من خنق لحرية الفكر والتعبير. ولا شك في أن لهذه الأسباب مجتمعة، دوراً أساسياً في الحد من قدرة المثقف الجديد على توثيق الصلة بالفئات الشعبية التي يتحدّث خطابه عنها، وباسمها وعوضاً عنها، ويعتقد أحياناً أنها تسمعه أو أن له تأثيراً فيها وعليها"(8).

عادة، ما تبرز وظيفة المثقف بصورة واضحة في حالة كون المجتمع يعيش أزمات، وبالتالي ينظر لحضور المثقف في هذه الأزمات باعتبارها مسألة طبيعية، ولكن من المفترض أن يكون المثقف حاضراً في كل لحظة للإسهام في تطوير المجتمع وتنميته، فلا ينبغي أن يتعيش المثقف بوصفه فرداً فاعلاً قائماً على الأزمات التي يعيشها المجتمع، بمعنى أن المثقف حتى في حالة كون مجتمعه يعيش حالة تقدم وتطور ومتجاوز لأزمات مستعصية لابد أن يكون له دور متميز فيه.

المثقف في المجتمعات العربية بحاجة للتحلي بعدد من الصفات الشخصية ليتمكن من السير في طريق يحقق له طموحاته، كأن "يكون ذا نفس طويل"، صابراً، لا تثبطه الظروف الاجتماعية الصعبة أو عدم استجابة المجتمع له، بمجرد أن تحدث أزمات ينسحب لأنه لا يستطيع تحملها، مع التنويه إلى أن أمام المثقف في المجتمعات العربية ما يدعو للتشاؤم رغم الممانعة والمقاومة اللتين يبديهما البعض لمثل هذه الأوضاع، ولكن هذا قدر من يحمل الوعي والمعرفة أن يتحلى بالصفات المذكورة.

ولكن تطرح إشكالية واقعية وهي ما مدى قدرة المثقف الذي يفتقد مكانة حقيقية في المجتمع وفي الوقت نفسه ينافسه عدد من الفاعلين الاجتماعيين بالقيام بدور مهم على مستوى المجتمع "إن الدعوى التي يدّعيها المثقف العربي اليوم - من أن له رسالة، ومن أن من المنتظر منه هو أن يغير واقعه بأفكاره، الأمر الذي يفترض له مكانة في المجتمع، أي أن هناك سلطة ثقافية متميزة من غيرها من السلطات - هل يستطيع أن يجد لدعواه هاته سنداً في تراثه، أي في الماضي الذي ورثه عن أسلافه من مداولي الثقافة العالمة بأصنافهم: فقهاء ومتكلمين وفلاسفة وأدباء؟ أم أن هذه دعوى جديدة تسعى إلى إنجاز دور ينبغي على مثقفينا اليوم أن يكونوا في مستواه، وإلى الاعتراف لهم بمكانة عليهم أن يستحقوها، وأنهم لن يمتلكوها إلا بتضحيات وصراع مرير؟

إن حديث مثقفينا اليوم عن "دور المثقف"، و"رسالته" حديث يخلط عادة بين الدور الذي يزعمونه لأنفسهم والرسالة التي يدّعون القيام بها، وبين وضعيتهم الحقيقية في الواقع الفعلي. وحصيلة هذا الخلط هو وعي شقي لديهم نتيجة للتناقض الحاصل بين ما يدّعونه، ومكانتهم الحقيقية التي هي دون طموحاتهم، والصورة التي يرون فيها أنفسهم"(9).

المثقف والسلطة السياسية

هناك مجالات متعددة لتناول علاقات المثقف المتعددة بالسلطة أو بالسياسة أو بأنظمة الحكم، ولكن ما سيتم التركيز عليه هنا هو السلطة السياسية الحاكمة، فقد تكون السلطة أوسع من السلطة السياسية حيث السلطة الاجتماعية والسلطة الدينية والسلطة الإعلامية، وقد تكون السياسة أوسع من السياسة السلطوية حيث السياسة الديموقراطية، وكذلك قد تكون السياسة أوسع من السياسة النظرية حيث السياسة العملية، و يمكن أن يأخذ حديث السلطة السياسية عدة أنحاء منها: الأول وهو سلطة أنظمة الحكم والثاني "سلطة" الأحزاب السياسية والثالث "سلطة" المعارضة السياسية، وبينما يكون أثر الأولى على كافة الشعب بصورة مباشرة يكون أثر "السلطتين" الثانية والثالثة على أتباعهما بصورة مباشرة وواضحة وقد يكون لها "سلطة" على الآخرين من خارج أتباعهما، ولأن الأحزاب السياسية والمعارضة السياسية ذات أثر أضعف في الحياة السياسية مقارنة بسلطة أنظمة الحكم وهذا ما أثبته الواقع الراهن، والدليل على ذلك أنه لم تتغير الأوضاع ولو بصورة طفيفة لتجبر أنظمة الحكم على التغير أو حتى التغيير، فسيكون الحديث متركزاً أكثر على السلطة السياسية التي تستحوذ عليها أنظمة الحكم.

ونظراً لكون السياسة من الناحية العملية هي الاهتمام بالشأن العام، والشأن العام للمجتمعات العربية يتمثل في مسائل عدة أهمها إدارة مؤسسات الدولة بمفهومها الحديث والتحديث السياسي والاجتماعي والاقتصادي والتعليمي والثقافي، وجدنا أن المثقف يهتم بهذه القضايا بصورة وثيقة ولم يكن بمعزل عنها، وهذا ما جعل المثقف في صلب المسألة السياسية.

ولكن قبل الدخول في مناقشة هذه المسألة هناك حاجة لتوضيح نقاط عدة:

الأولى: ليس بالضرورة أن يكون السياسي هو من يكون في السلطة، فقد يكون السياسي منتمياً لحزب أو تنظيم سياسي آخر أو معارض ونحو ذلك ويمارس السياسة، فالسياسة تتعلق بمسائل الدولة بصورة أشمل من أنها تتعلق بمسائل السلطة الحاكمة، ولتبسيط ذلك، نجد بوضوح أن هناك من يوصفون بالسياسيين وهم ليسوا داخل السلطة الحاكمة كالمعارضين، أو أنهم من المحللين السياسيين الذين لا يمارسون السياسة، وما تؤكد عليه هذه الدراسة أن المراد من السياسي هنا هو الذي في السلطة الحاكمة أو الذي ينتمي إليها أو يتبعها، وقد يكون هناك تعرض للسياسي الذي قد يكون معارضاً أو حزبياً، إذا حدث أن هناك انطباقاً في الفعل بين السياسي خارج السلطة والسياسي داخل السلطة أو لأي حاجة ضرورية أخرى.

الثانية: هناك حالتان أساسيتان لكيفية النظر لعلاقة السلطة - المثقف، الأولى هي نظرة مثالية، وهي تفترض أن تكون هناك علاقة طبيعية لا تخلو من الصراع وكل طرف بحاجة للآخر، وأن المفروض أن يتعايشا ويتعاونا لتحقيق الصالح العام بما فيه صالح الطرفين، والثانية نظرة واقعية، وهي ترى أن ما هو واقع هو عدم وجود توافق بين المثقف وبين السلطة باعتبار تكوين كليهما، والأحداث تشهد أن كثيراً من المثقفين في جانب مخالف لجانب السلطة.

الثالثة: في كون المثقف في السلطة، والخصوصية الأساسية التي تميز مثقف السلطة أي سلطة كانت هي عدم ممارسة النقد بصورة واسعة تجاه السلطة التي ينتمي إليها أو يبرر ممارستها، وإن وجدت فعادة ما تكون داخل أروقة السلطة ذاتها لا تخرج عنها، فهو بمجرد أن يكون مع السلطة كحال مؤيدي السلطة وليس ضرورياً أن يكون موظفاً فيها فهو يقوم بالدور التبريري لأفعال وتوجهات هذه السلطة، ومن هنا نرى أن مثقف السلطة يفقد مضمون المثقف لأنه يفقد مقوماً مهماً من مقومات المثقف وهو النقد حيث يوصف بأنه موظف للسلطة، وقد يتعدد توجه مثقف السلطة السياسية فقد يكون دينياً أي ذا مرجعية دينية أو يكون علمانياً ذا مرجعية علمانية فكلاهما سواء في الموقف من السلطة من حيثية أنهما يؤديان وظيفة مهمة واحدة وهي التبرير، ففي مثال النموذج الأول هناك الفقهاء والمفتون ومن يشغلون المناصب الدينية في الدولة كالإفتاء أو في مؤسسات الأوقاف أو الإرشاد الديني أو في الأقسام الأكاديمية الدينية في الجامعات، وفي مثال النموذج الثاني الإعلاميون والمثقفون والأكاديميون والباحثون العلمانيون عندما يشتغلون في داخل السلطة سواء كان عملهم إعلامياً كما في وزارات الإعلام والصحف والمجلات التابعة لها، أو ثقافياً كما في وزارات الثقافة، أو أكاديمياً أو بحثياً سواء في الجامعات أو المكتبات العامة أو مراكز البحوث التابعة للدولة، وهذا لا يعني أن كل من يشتغل في وظائف النموذج الثاني يكون فقط علمانياً بل قد يكون دينياً، المهم أن ما يجمع بين هؤلاء هو افتقاد النقد الموجه للسلطة السياسية تحديداً، وهذا يعني أن المثقف يفتقد المصداقية والاستقلالية في الرأي، إلا أنه يلزم التدارك هنا، حيث إن من يشتغل في مناصب وبصورة أكثر تحديداً في وظائف الدولة ولا يمارس دوراً تبريرياً لما تقوم به السلطة يعتبر خارج عن هذا التصنيف، فيلزم التفريق بين من يعمل في أجهزة وإدارات الدولة مبرراً ومسهماً في ممارسات الدولة القمعية أو غير الديموقراطية أو المتفردة بأي شكل من الأشكال، أو من يلتحق بالسلطة السياسية من أجل التسويغ والترويج بصحة ما تقوم به الأنظمة الحاكمة في ظل الأوضاع الاجتماعية والسياسية، وبين من يشتغلون في الإدارات الحكومية من أجل كسب لقمة عيش وفي الوقت ذاته يعارضون توجهات نظام الحكم لهذه الأوضاع محاولين التغيير وإن كانت المحاولة في حدود ضيقة منتقدين ما فيها من تسلط وفساد أو في حدود أكثر ضيقاً كعدم الرضا عما تمارسه السلطات الحاكمة، >بخصوص المثقفين نلاحظ أن بلقزيز يساوي بين المثقفين العاملين لدى الدولة التسلطية، وبين المثقفين السلطويين الذين يشاركون في السيطرة على الدولة والمجتمع. وبحسب اطلاعي، أغلب الكتّاب العرب لا يوافقون بلقزيز على رأيه بهذا الخصوص.

هذا يقودنا إلى توضيح ما ذكرناه سابقاً عن تبعية المثقفين معيشياً أو اقتصادياً للدولة، بعدما أصبحت هذه في نظامها الكلياني ربّ عملهم شبه الوحيد. فمجالات عمل هؤلاء - كعاملين ذهنيين - يكاد ينحصر في وسائل الإعلام والثقافة وفي المدارس والمعاهد والجامعات، وفي بيروقراطية الدولة الإدارية والاقتصادية، حيث الدولة هي المالكة، والسلطة السياسية هي الآمرة الناهية، وإذا لم يهاجر المثقف أو كان لا يقدر على إقامة مشروع اقتصادي خاص، فإنه سيضطر على الأرجح لأن يعمل لدى الدولة بشروطها الاقتصادية والسياسية، أو يبقى عاطلاً عن العمل. غير أن عمل المثقف لدى الدولة لا يعني عندئذ بالضرورة أنه مؤيد للسلطة. فلا نستطيع أن نحكم على المثقفين الموظفين سلفاً، وإن كان الإغراء أحياناًَ قوياً، والضغط أقوى، والانزلاق كثير الاحتمالات. ما نستطيع أن نحكم به هو أن المثقف لم يعد في ربع القرن الأخير يجد لدى الدولة التسلطية الأمان الاقتصادي، ولا الأمان السياسي والثقافي، الذي يحتاجه كمثقف مستقل أو نقدي، سواء كان يعمل لديها في أحد المجالات الثقافية أو يمارس نشاطاً ثقافياً بالارتباط مع عمله الوظيفي أو إلى جانب العمل الوظيفي بالاستقلال عنه"(10).

ففي الواقع العربي من الصعوبة خروج المثقف عن سيطرة السلطة السياسية الحاكمة التي استحوذت على المجتمع بعد أن استحوذت على الدولة التي بدورها تغولت في المجتمع وأضعفت أي مؤسسات اجتماعية فيه، بمعنى أن المساحات التي يستطيع المثقف الاستقلال داخلها من دون أن يكون هناك تأثير للسلطة السياسية على هذه المساحات قليلة جداً، فمثلاً هناك قلة من المطبوعات والمؤسسات غير الرسمية التي لا تستطيع منافسة المطبوعات والمؤسسات الحكومية، كذلك تستطيع السلطة بسهولة مضايقة مؤسسات المجتمع المدني - إن وجدت - التي قد يمارس المثقف من خلالها بعض نشاطاته وأدواره، كما تستطيع الدولة مضايقة المثقف في حياته اليومية بسهولة وتجد مبررات سهلة لقيامها بمثل هذه الممارسات أسهلها العمالة للخارج أو المروق عن الدين، ومن هنا فواقع المثقف في المجتمعات العربية لا زال يعاني من صغر المساحة التي يستطيع المثقف ممارسة دور من خلالها باستقلالية، ولعل هناك من يقول: إن القنوات الفضائية أتاحت للمثقف فرصة الظهور والحديث أمام الرأي العام لتوعيته ونقد ممارسات السلطات، وواقعاًَ استطاع المثقف الاستفادة من ذلك، ولكن في الوقت ذاته فإن هذه القنوات الفضائية أتاحت لغيره الاستفادة من ذلك، فحتى من يعملون في أجهزة استخبارات الدولة الذين ليس هدفهم حفظ الدولة بمكوناتها بل همهم حفظ أمن النظام الحاكم يظهرون في هذه القنوات ويقومون بالتشكيك بما يقوله المثقف وغير المثقف اللذان لا يتفقان مع السلطة السياسية الحاكمة وترسيخ ما تراه هذه، بل استطاع الحاكم نفسه أو الرئيس الظهور بنفسه وتوجيه ما يريد قوله وفعله عبر هذه القنوات.

يذهب عبد الرحمن منيف بعيداً في علاقة المثقف بالسياسي، فهو يرى أن السياسي قد لا يعاقب فقط المثقف بل يعاقب الثقافة "قد لا تظهر الشروخ واضحة أو حادة في فترات معينة، خاصة في أزمنة الرخاء والصعود، ما دام السياسي قادراً على تسخير الثقافة لخدمة عمله اليومي، وما دام المثقف متقبلاً القيام بمهمة الإفتاء والتبرير والتسويغ، إضافة إلى بروزه أيضاً من خلال المنظمة السياسية.

أما إذا مارس المثقف حقه الديموقراطي بالنقد والاختلاف، أو لم يقم بالدور الموكل إليه، فعندئذ لا بد أن يقع الخلاف بين الطرفين، وغالباً ما يلجأ السياسي ليس إلى معاقبة المثقف وحده بل ومعاقبة الثقافة أيضاً، معتبراً إياها ترفاً أو خيالاً، لأنها تعيق العمل السياسي وتخلق له الصعوبات، ويركز بالمقابل على ما يعتبره عملياً، أي الإعلام، مُبعِِداًَ الثقافة أو مهمشاً دورها"(11).

وفي سياق عمل المثقف في أجهزة وإدارات الدولة، يرى برهان غليون أنه تتنازع المثقف مواقف أربعة رئيسة أحدها الالتحاق بالسلطة وقد سار عدد كبير من المثقفين في هذا الطريق ولكن لعوامل لا تتعلق بالجبن والانتهازية "موقف الالتحاق بالسلطة من منظور خدمتها والعمل تحت إشرافها. وفي هذه الحالة بتحول المثقف إلى موظف أو خبير فني يقدم خبرته للسياسي البيروقراطي، لكن ليس له أي دور في إنضاج القرار أو المشاركة فيه، إن على مستوى الرأي العام أو على مستوى الأحزاب أو الدولة. وقد سار قسم كبير من المثقفين في هذا الطريق لأنه الوحيد الذي يضمن للكتلة الأساسية البقاء والحد الأدنى من الرفاه المادي، وربما الحماية الذاتية. وما حصل في المجتمعات العربية لا يختلف عما كان يمكن أن يحصل في كل المجتمعات. فلا يتعلق هذا الالتحاق بالجبن أو بالانتهازية ولا يرتبط بمسألة أخلاقية. إنه موضوع اجتماعي سياسي لأنه يتعلق بظاهرة جماعية خارجة عن إرادة الفرد وقدراته الذاتية"(12).

ويرى عبد الله القفاري أنه يمكن أن توجد حالة وسط لدى المثقفين فهناك علاقات ثلاث بين المثقفين والسلطة، اثنتان معروفتان: الأولى الالتحاق والثانية الابتعاد، والثالثة وهي أن تكون مع وضد السلطة في آن واحد، ويرى أنها الأخطر والأكثر التباساً، ويصف هذه الفئة بالتالي >أنها الفئة التي تحاول أن تمسك العصا من الوسط، فهي ليست محسوبة على المثقفين المقاولين الذين يبرعون في تمهيد الأرضية الثقافية لمشروعات السلطة القامعة أو المستبدة.. وأدوارهم مكشوفة، ونسق نشاطهم معروف، وعلاقاتهم مقدرة.. وليست كذلك محسوبة على أولئك المثقفين المعتصمين بالاستقالة أو المعارضة، سواء المعارضة الإيجابية أو السلبية.. إنهم فئة لها امتيازاتها وكلمتها المسموعة ومصالحها المستجابة.. المهم أن تتقن ممارسة أدوارها الخاصة في نسيج السلطة وعلاقاتها.

إنها فئة تتميز بقدر من الوفاء لمبادئ المثقف الحر، لكنها أيضاً تتميز بذكاء شديد يجعلها دائماً في دائرة الضوء وتحت عين السلطة ورضاها.. إنها فئة لها ضمير مستيقظ، يقلقها وينغص عليها بعض هنائها.. لكنها قادرة بلمحة عين على إسكات هذا الضمير من أجل عيون السلطة ومتطلبات المصلحة كما تفسرها ويروق لها تمريرها.

إنها فئة، تبرع في المجالس الخاصة والمغلقة في نقد السلطة، ورموزها، وتتأفف كثيراً من حال المجتمع وتلقي باللائمة على السلطة وعلاقاتها وحساباتها.. لكنها لا تتردد في أن تتمسح بالسلطة، وتبرر لها بعض إخفاقها.. وتحشد من حولها عناصر أخرى من المثقفين الذين تستقطبهم من ضفاف المعارضة أو دوائر النسيان.. متى ما وجدت أن ثمة فرصة سانحة إما للتقدم - حسب تقديرها - سواء في طريق الإصلاح أو طريق التمهيد للذات التي تزداد مع تضخم هذه الأدوار إحساساً بحتمية وجودها أو ضرورتها التاريخية"(13).

يريد المثقف التأثير في الأوضاع السياسية والاجتماعية والفكرية في المجتمع، ويمكن إرجاع ذلك لتصور المثقف أن جزءاً من نجاح فكرته هو نجاحها واقعياً ولاسيما سياسياً، باعتبار أن السياسة هي تعامل مع الواقع، حيث الأفكار وسيلة مهمة يتم من خلالها تغيير الواقع بتحويلها لسياسات من أجل تطبيقها، فهناك ارتباط وثيق بين فكر المثقف والواقع السياسي، وهو ارتباط الفكر لأجل تغيير الواقع وهذا ما يؤمله المثقف، ولو تغير هذا الارتباط لتغير واقع المثقف، وعلاقة المثقف بالسياسة التي يطمح لها المثقف ليست خاصة بمجتمعات دون أخرى فكل المجتمعات التي يتوافر فيها مثقفون فاعلون لهم رؤية مخالفة لرؤية أنظمة الحكم تحدث فيها حالات صراع بين المثقفين والسياسيين، ففي المجتمعات التي تتميز بوعي سياسي متقدم يكون للمثقف فيها حضور واضح مقارنة مع المجتمعات التي لا تتميز بوعي سياسي متقدم، فوجود المثقف مرتبط بدرجة الوعي في المجتمع، فحد معقول من الوعي في مجتمع ما يُبرز المثقفين.

وفي التجربة العربية ما يؤكد أن هناك ارتباطاً واضحاً لدى كثير من المثقفين أو النخب العربية والإسلامية بالحدث السياسي، بل أكثر من ذلك، فكثيراً ما تأثر المثقف بالأحداث السياسية الهامة التي شهدتها هذه المجتمعات، فبعض هذه الأحداث لم تجبر المثقف على تغيير بعض أفكاره الجزئية بل على تغيير بعض أفكاره الرئيسة التي يرتكز عليها وجوده و"مشروعه" ووعيه، وهناك نماذج واقعية تاريخية ومعاصرة تؤكد ذلك حدثت في مختلف المراحل التاريخية والأوضاع الاجتماعية في الواقع العربي على مدى عقود طويلة، ومن هذه النماذج، نموذج رشيد رضا، فعندما ألغيت الخلافة الإسلامية وهو حدث سياسي ذو أهمية حساسة في مجتمعات العالم الإسلامي تغيرت لدى رضا عدة مواقف منها موقفه من المرأة والتجديد والدستور، وهناك من وصف تغير رشيد رضا هذا أنه نزوع نحو السلفية، وكذلك هزيمة 67 التي أثرت في عدد من المثقفين يقول د. أحمد موصللي "لا شك أن هزيمة 1967 شكلت، على المستوى الفكري، فشلاً ذريعاً للتيارات الليبرالية والاشتراكية ومشاريع العقلنة والعلمنة والتحديث، وكذلك مشروع الدولة القومية والقطرية وإيديولوجياتها القومية والعلمانية والاشتراكية، وخاصة المشروع الناصري. هذه الهزيمة أصابت المثقف النهضوي التنويري بأزمة حادة، وجدانية ومعرفية وسياسية، أدت إلى لفظه مجتمعياً ومؤسساتياً. ومن علامات هذا اللفظ صعود التيارات الإسلامية الأصولية، ولعب المفكر الإيديولوجي الأصولي دور المثقف العضوي الجديد. فبعد وفاة الرئيس عبد الناصر، تمت تصفية الفكر العربي بمظهره الناصري، كإحدى ركائز الفكر العربي، ومع هذا تمت تصفية احتمالات قيام الدولة القومية العربية. ومع قيام الساداتية تمت تصفية المثقف القومي العربي واستبداله بالمثقف الإسلامي الأصولي"(14)، وسقوط التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي مطلع العقد الأخير من القرن الماضي الذي تحول على أثره بعض اليساريين للنموذج الليبرالي المناقض للنموذج الاشتراكي.

ولكن هنا حدث العكس وهو أن الواقع هو ما أثر في المثقف، بينما كان من المفترض أن المثقف هو من يغير الواقع ويأخذ في اعتباره مسائل الواقع، إذن، نحن أمام مشكلة أن المثقف لا يستطيع تغيير الواقع حيث يقف أمامه كالعاجز وأن الواقع هو ما يغير المثقف، أو بتعبير مبسط أن الواقع لا زال أقوى من المثقف.

كذلك فأحد الأسباب التي تجعل للمثقف ارتباطاً بالسياسة هو إشكالية افتقاد أنظمة الحكم في مجتمعات (العالم الثالث) للشرعية السياسية - والحديث هنا لا يعالج جذر هذه الإشكالية إنما يتحدث عن نتائجها حيث الاهتمام في هذه الفقرة بالنتيجة لا بجذر المشكلة - الذي يعني أن القمع سيكون خياراً حتمياً للسلطات السياسية الحاكمة، وهذا هو واقعها الحقيقي في المجتمعات العربية، الذي سبب لهذه المجتمعات معاناة ومشاكل سياسية مزمنة، وعليه، انصب اهتمام بعض المثقفين العرب بالمسائل السياسية لحل إشكالية شرعية أنظمة الحكم الحالية، فحتى أصبح بعضهم سياسياً أكثر من السياسيين وأكثر من كونه مثقفاً.. ويتحمل السياسي الجزء الأكبر في هذا مقارنة بالمثقف.

كذلك ما يربط المثقف باعتباره فاعلاً اجتماعياً بالسلطة السياسية الحاكمة في المجتمعات العربية هو أن الأخيرة تحتكر سلطة مهمة لديها قدرة على تغيير واقع هذه المجتمعات على الأقل قدرتها في الداخل، ومن هنا تشبث بعض المثقفين بالسياسة لأنها وسيلة قادرة على تحويل الأفكار والمعارف والرؤى التي يمتلكها المثقف إلى واقع معاش، ولكن كانت الإشكالية هي عندما اصطدمت النخبة المثقفة بالنخبة البيروقراطية الحاكمة، وحسب برهان غليون فقد كانت هناك مواجهة بين المثقفين والنخبة البيروقراطية الحاكمة "أسفرت هذه المواجهة بين البيروقراطية الحاكمة وبين المثقفين - الذين سيطروا فكرياً وسياسياً على النخبة الاجتماعية والنظام في الحقبة الماضية - عن دحر حقيقي وشبه نهائي للمثقفين. وخرج هؤلاء من المعركة مثخنين بالجراح ومشبعين بالحزازات والضغائن والأحقاد التي خلفها استشهاد بعضهم وتخاذل بعضهم الآخر وتهافت بعضهم الثالث على موائد السلطات المحلية أو الخارجية"(15).

بينما يرى د. إيليا حريق أنه كان لأهل الفكر نفوذ وسلطان في هذه الدولة >لو عدنا بالنظر إلى الأنظمة السياسية للبلدان العربية عند منتصف القرن الماضي وسألنا أنفسنا: إلى أي مدى كان لأهل الفكر فيها نفوذ أو سلطان؟ لكان الجواب بالنفي. ولكن إن نحن راجعنا السؤال ذاته، بالنسبة إلى القرن الحالي حتى يومنا هذا، لظهر حالاً ما بلغه رجال الفكر من عزة وشأن في فترة قصيرة من الزمن. وذلك ليس فقط من حيث إن الأفكار المكونة للدولة والسائدة فيها، هي من حصاد ما قدمه أهل الفكر العربي المحدثون، لا بل من حيث إن المفكرين أنفسهم، قد تسلموا زمام الأمور السياسية وشؤون الحكم في كثير من البلدان العربية (باستثناء نسبي في دول مجلس التعاون الخليجي)، إذ إنه علينا أن نقرّ أن عبد الناصر وزعماء حكم البعث في سوريا والعراق وابن بلا وبورقيبة والسادات وياسر عرفات والقذافي وغيرهم، يعتبرون من الإنتلجنسيا العربية، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، نظام الحكم وإن طغى عليه فرد واحد، فهو مؤلف من مجموعة، معظم أعضائها من أهل الفكر. ونحن مهما شددنا على الاختلاف الوظيفي بين الحاكم والمفكر، علينا ألَّا ننسى أن مجموعة أهل الفكر، هي البيئة التي يُستقطب (leaders Recruitment)، منها السراة السياسيون"(16).

يناضل المثقف من أجل قيم يسعى لتجسيدها واقعياً، إلا أن الفائدة العملية الحقيقية من هذا النضال أن يكون هدفها تغيير الواقع للأفضل، ويجد المثقف في السياسة المكان السريع لذلك، الذي يجعله عند الوصول للسلطة يعيش الفكرة من حيثية والواقع من حيثية أخرى، بخلافه عندما لا يستطيع الوصول إلى السلطة، فهو يحاول التأثير في السياسي كي يؤخذ بوجهة نظره لتغيير الواقع، فالمثقف يسعى للتأثير في السلطة السياسية الحاكمة إذا لم يستطع الوصول لها سواء كان ذلك من خلال تحالف أو معارضة أو انقلاب أو ثورة، فهناك عدد من الذين وصلوا للسلطة السياسية الحاكمة يمكن اعتبارهم في عداد المثقفين وكان لهم شأن في هذه السلطة - بعيداً عن تقييم نتائج وصولهم للسلطة - التي حققوها كأمثال، نابوليون، لينين، ماو تسي تونغ، الإمام الخميني، الترابي، باعتبار أنهم أرادوا تغيير الواقع المعاش.

أحد الإشكاليات التي تواجه المثقف هي مسألة انتقاله من المعارضة إلى السلطة بمفهومها العام والسياسي في مجال هذه الدراسة، فتاريخياً تحول مثقفون من المعارضة إلى السلطة السياسية الحاكمة، سواء كان ذلك بفعل انقلاب أو ثورة أو رضا أو قبول من السلطة السياسية الحاكمة بتركهم أو فسح المجال لهم للمشاركة في الحكم، فمن خلال هذا التحول أو الانتقال أو تغير الموقف تبرز إشكالية عدم قدرة المثقف في البقاء على فكره ونظرته التي يمكن التعبير عنها بانقلاب في الفكر وفي حالات أشد انقلاباً على الذات، وهذا لا يعني أن كل مثقف في موقع المعارضة يقف في الموقف الصحيح، حيث إن الخطاب المُعارض - من معارضة - مختلف كلياً عن خطاب السلطة، ولكن تبقى مسألة انتقال المثقف من المعارضة للسلطة السياسية الحاكمة في العقدين الأخيرين غير مطروحة بصورة واقعية لعدم إمكانية حدوث انقلاب أو ثورة، ولا توجد - وهذا هو الواقعي - عند الشعوب العربية قناعة بأن من يستحوذ على السلطة السياسية الحاكمة أنه سيغادرها، ليكون تحول المثقف من المعارضة للسلطة في حالة توفر حياة ديموقراطية حقيقية تتسم بتداول السلطة شيئاً طبيعياً، ولكن تبقى إشكالية السلطة حتى لو كانت نابعة من شرعية سياسية حقيقية أنها سلطة تدافع عن مكتسباتها وإنجازاتها بدلاً عن نقد ما لم يتم إنجازه.

ومما سبق يتضح أن مجرد انتقال المثقف من موقعه المعارض إلى موقع السلطة فشل في تحويل فكرته لواقع، وهذا ما تشهد عليه أنظمة الحكم في الدول العربية بأجمعها فلم تستطع تحقيق النجاحات التي وعدت ولا زالت تعد بها، بالرغم من أن مثقفين شاركوا في استقلال هذه الدول أو فيما بعد في إدارتها التي اعتمدت على مثقفين أو احتاجت لمساعدة المثقفين في اللحظات الصعبة التي مرت بها هذه الدول. وهذا يعني إما أن المثقف غيّر قناعاته بعد وصوله للسلطة، بسبب تغير أمور عدة منها موقعه بالنسبة للمجتمع، وإما أن التحول كان من الخطاب الثقافي إلى الخطاب السياسي رغم أن هؤلاء المثقفين في الأساس كانوا مسيَّسين أو أصحاب علاقة وطيدة بالسياسة فهي البوابة للتغيير، حيث لم يتغير كل الخطاب الذي يحملونه الممزوج بين الثقافة والسياسة وإن بنسب متفاوتة، وإما أن التغير هو فقط في قناعات المثقفين، وتنفيذ الأفكار التي كان يراها أو التي أوصلت للسلطة قد تفقده السيطرة على السلطة أو التحكم بها أو حتى فقدانها، حيث تبقى السلطة تمثل إغراءً حقيقياً للإنسان ومقاومتها تحتاج لجهاد حقيقي، وإما أن قناعات هؤلاء المثقفين لم تكن حقيقية بل صالحة لتحقيق التعبئة السياسية فقط دون القدرة على تحويلها لسياسات دول.

عندما يحاول المثقف التأثير في السياسي أو المشاركة السياسية تتكون عدة نماذج لعلاقة المثقف بالسياسي، منها أن تكون قطيعة بين المثقف والسياسي، أو تحالف بين المثقف والسياسي.

هناك عدة أسباب للقطيعة الموجودة بين المثقف والحاكم الذي هو سياسي، أهمها، الوضعية التي تعيشها المجتمعات العربية حيث تحضر إشكالية المشاركة السياسية بقوة، حيث لا يمتلك الحاكم العربي شرعية سياسية حقيقية، فالمسح السريع للواقع السياسي العربي يوضح أنه من الصعوبة وجود رئيس لنظام حاكم عربي منتخب من الشعب وصل للحكم بطريقة نزيهة وسليمة، فقد توجد انتخابات رئاسية أو برلمانية ولكنها تفتقد الشروط الديموقراطية الصحيحة الكاملة كتكافؤ الفرص أو عدم استغلال الأموال العامة في مصلحة مترشح دون آخر أو حرمان مجموعة من المشاركة في العملية الانتخابية أو الضغط على الناخبين لإجبارهم على عدم اختيار المرشح الذي يرونه أنه ذو كفاءة ويمكنه التعبير عن مصالحهم ويحققها وإلا سوف يعانون من عدم تسهيل إجراءاتهم المتعلقة بالحكومة كالمتعلقة بالإجراءات الحكومية التي يحتاجونها أو لن يستطيعوا السفر أو الرجوع لبلدهم لقضاء إجازات سنوية، أو شراء أصوات الناخبين المحتاجين للمال أو غير المكترثين للعملية الانتخابية، أو تزوير الانتخابات ونحو ذلك، فبقاء الحاكم العربي في السلطة السياسية الحاكمة حتى الموت أو إجباره على التخلي عن هذا الحكم بطرق عنفية دليل على أن هناك إشكالية حقيقية في كيفية وصول ومغادرة هذا المنصب، ومن هنا تنشأ علاقة متوترة ليس فقط بين المثقف والحاكم، باعتبار أن هذا المثقف له خصائص يتمايز بها عن غيره من باقي أفراد المجتمع، بل في الوقت نفسه، تنشأ علاقة متوترة بين الشعب بصورة عامة والسلطة السياسية الحاكمة ليس فقط مع الحاكم، فإشكالية الديموقراطية مُحدد مهم في كيفية تكوّن العلاقة بين الحاكم والمثقف، فهناك الكثير من الآثار التي تترتب على بقاء هذا الحاكم لسنوات في هذه السلطة.

من المؤكد أن أغلب المثقفين في تكوينهم الثقافي غير قادرين على إدارة حكم دولة، فلرجل السياسة بصفة عامة والحاكم بصفة خاصة صفات ومميزات لا يتمتع بها أغلب المثقفين، وهذا لا يعني بالضرورة أن من يحكم في المجتمعات العربية يتمتع بصفات ومميزات حقيقية تتناسب مع السياسة، ومن خلال هذه المميزات والخصائص وصل للسلطة السياسية الحاكمة فالبعض جاء من خلال القرابة والبعض الآخر من خلال الولاء والبعض الثالث أوصلته ظروف لا يدري هو كيف حصلت؟! ومن هنا ليس منطقياً أن يكون الهدف من اعتراض المثقف على السلطة السياسية الحاكمة هو الوصول لهذه السلطة كبديل عنهم، فالتفكير بهذه الطريقة يوقع المثقفين في أخطاء جسيمة قد لا تكون بمستوى أخطاء السلطة السياسية الحالية، فالمهم في هذه المسألة هو أن يستطيع المثقف من خلال موقعه ممارسة نقده للسلطة السياسية عندما تخطئ، وهذا لا يعنى أن المثقف وصي على المجتمع فلكل أفراد المجتمع الحق في النقد والاعتراض على السياسات المتفردة من السلطة السياسية، ولكن لأن المثقف جزء من هذا المجتمع ويستطيع المثقف بما يمتلك من وعي ومعرفة اكتشاف مواقع الخلل التي تقع فيها السلطة السياسية الحاكمة ومن خلال منظور ليس سياسياً.

وسبب آخر يتفرع من السبب السابق، هو عدم وجود علاقة طبيعية بين المثقف والحاكم "السياسي"، في المجتمعات العربية السياسي هو الحاكم لا المثقف، أو في أقل الأحوال أن الجزء الأكبر يقع على السياسي، وحديث د. سعد الدين إبراهيم عن أهمية تجسير الفجوة بين المثقف والأمير كما في اليابان وبريطانيا والولايات المتحدة(17) فإنه يمكن إرجاع هذه الحالة الموجودة بين المثقف والسياسي في هذه الدول لوجود ديموقراطية فيها، فهناك حالة من الديموقراطية التي يمكن أن تتيح مثل هذا التحالف بل إنه أحياناً حين يصل الحزب للسلطة السياسية الحاكمة يصل كذلك مثقفو الحزب لهذه السلطة معه باعتبار أنهم حزب واحد يضم داخله عدد من الفاعلين الاجتماعيين، بمعنى أنه في بعض المجتمعات نجد أن الحكومة منبثقة من الشعب، لها جمهورها ومؤيدوها الذين أوصلوها للحكم، وإن أتت حكومة أخرى فأيضاً لها جمهورها ومؤيدوها الذين أوصلوها للحكم، بينما نجد أن في المجتمعات العربية شرخاً واضحاً في علاقة المجتمع - والسلطة السياسية الحاكمة فكأنما المجتمع في جانب والسلطة السياسية الحاكمة في جانب آخر، لا يهمها ما يحل بالمجتمع، وكذلك، أنه اختار مثلاً لوجود هذا التحالف بين المثقف والأمير أو الحاكم في نماذج مختلفة، ولكن لماذا لم يطرح أسباب عدم وجود تحالف بين المثقف والأمير أو الحاكم في نماذج أخرى لكي يتم التعرف على سبب عدم هذا التحالف كحالة مقارنة بين تجربتين لدراسة الأسباب التي تؤدي لعدم وجود حالة تحالف بين المثقف والأمير؟

إضافة لذلك هناك مبادرات وجهها عدد من المثقفين في كثير من الدول العربية سواء كانوا في أوطانهم أو في المهجر من خلال الكتابة أو القول بأهمية أن تُصلح السلطات السياسية الحاكمة من أحوالها وفي علاقاتها بالمجتمع والعمل على ذلك، ولا يطمح هؤلاء المثقفون في استلام السلطة بديلاً عن السلطات السياسية الحاكمة كما قد تتهم بعض القوى السياسية المعارضة لأنظمة الحكم، ومع هذا لا يوجد أي تغييرات من طرف السلطات السياسية الحاكمة، فهي لا تريد أن تسمع من المثقف ولا من غيره، ولكنها في الجهة المقابلة تريد أن تسمع من أطراف خارجية كالحكومات الغربية على سبيل المثال أو أنها مجبورة على السماع منها، فلكي يوضع المثقف تحت النقد والحساب يلزم من السياسي أن ينفذ المطالبات الشعبية بإقامة الديموقراطية بمكوناتها وشروطها الحقيقية ومن ثم ينظر لموقف المثقف والمجتمع باعتبار أن المثقف جزء من المجتمع يتفق معه في المطالب السياسية للسلطة السياسية.

هناك من يرى أن إشكالية السلطة السياسية والمثقف هي مشكلة شرقية لا تنطبق على مجتمعات أخرى، فهي مشكلة سياسية وليست مشكلة ثقافية "إن المشكلة التي نتحدث عنها مشكلة شرقية ترتبط بالمجتمعات العربية أكثر من غيرها لأنها تتجسد في علاقة الفرد بالدولة فتنعكس على دور المثقف أمام السلطة وهي بذلك قضية سياسية اجتماعية وليست مسألة ثقافية فقط"(18).

بينما يرى د. محمد جمال طحان أنه لا يمكن تجسير الفجوة بين المثقف والسلطة بصورة عامة والسياسية بصورة خاصة التي يمثلها الحاكم، حيث يميّز طحان بين المثقَّف والمثقِّف حيث إن الأخير لا يمكن أن يكون مع السلطة.

"إن المثقِّف هو الذي يقرأ الواقع وينقده، ثم يعيد تشكيله عبر أسئلة الوجود المقلقة، ناشداً التقدّم. قد يكون المثقَّف مع إحدى السلطات، ولكن المثقِّف لا يستطيع إلاّ أن يكون مع الجماهير، لأن الذي ينخرط في صفوف السلطة يكف عن كونه مثقِّفاً، لأنه - بحسب موقعه السلطويّ - يعزّز الواقع المتخلّف، فكيف يدعم التخلّف ويدّعي العمل من أجل التقدم والجماهير؟

فالمثقِّف بهذا المعنى هو المثقَّف المتعلّم المعارض الفاعل الذي يتّخذ موقفاً، ويدافع عنه، أما المثقَّف السلطوي أو السلبي أو الانتهازي، وإن كنّا لا ننكر عليه ثقافته، فإننا سنترك الحديث عنه لسوانا، لأنه لا يعنينا، ولا نعوّل عليه في عملية تجسير العلاقة بين المثقف والجمهور لصالح الوطن والمواطن"(19).

وفي الوقت الذي يدعو فيه د. سعد الدين إبراهيم إلى تجسير الفجوة بين الأمير (الحاكم) والمثقف، يعاكسه الطاهر لبيب الذي يرى أن المطلوب هو تقليل الجسور بين السلطة والمثقف "..؛ فعلى عكس المجتمعات التي يتوفر فيها مؤسسات المجتمع المدني المختلفة، في المجتمع العربي مجال الخروج عن السلطة محدود موضوعياً. فأغلب المثقفين هم داخل السلطة. ومأساتهم هي الخروج من السلطة. ومعنى هذا باختصار، أن المطلوب ليس المزيد من الجسور وإنما التقليل منها"(20)، ويتفق نادر فرجاني في أن الشريحة الكبرى من المثقفين هي التي تعاونت مع السلطة، فعند نقاشه مع د. محمد براده عن دور المثقف "فهو عندما تعرض لدور المثقف تعرض لفئة واحدة من المثقفين، تلك الفئة التي اختارت الموقف المضاد للسلطة في أغلب الأحيان. ولكن في حقيقة الأمر لم تكن هذه هي الشريحة الأكبر، وإنما كانت الشريحة الأكبر هي التي تعاونت مع السلطة ربما بحسن نية أو عن تبنٍّ لهذه السلطة"(21).

على فرض إمكانية تجسير الفجوة بين الحاكم والمثقف، يلزم من الحاكم البدء بذلك لأن سلطته أقوى وأكثر فعالية من سلطة المثقف الذي في الواقع لم تكن لديه حتى هذه اللحظة سلطة، ولابد من اعتراف الحاكم بما اقترفه في حق المجتمع من ظلم وعدوان قبل أن يعترف المثقف أنه أخطأ في حق المجتمع، فالخاسر الحقيقي من عدم وجود علاقة طبيعية بين السياسي والمثقف هو المجتمع سواء كان ذلك جراء بطش السلطة أو عدم تمكين المثقف من أداء دوره في المجتمع بصورة طبيعية والحجر عليه، فالعائق الأكبر يقع على الحاكم أكثر منه على المثقف.

هُمش المثقفون في الأنظمة الشمولية والتقدمية التي يمكن وصفها بأنها كانت أنظمة ذات اتجاه واحد تمثل في نظام الحزبية الأحادي، بينما وصل عدد من المثقفين للسلطة السياسية الحاكمة، وذلك راجع لمدى قرب المثقف في رؤاه للسلطة أو العكس باعتبار أن السلطة تعرف أهمية المثقف ولكن بشرط أن يكون ولاؤه لها، يقول د. عبد الفضيل في هذا الخصوص وهو يتحدث عن مرحلة تاريخية عربية تميزت بالمد القومي غداة الحرب العالمية الثانية والذي ألقى ظلاله على المثقف حيث برز نموذج من المثقفين على حساب نموذج آخر وبروز تعقيدات القطري بالقومي والصراع العربي - الإسرائيلي والحرب الباردة، أثر على دور المثقف "فقد ظل دور ذلك المثقف العربي الطليعي قاصراً على كونه "المبشر" و"النذير"، وعندما وصلت بعض القوى التقدمية والقومية إلى السلطة، لم يكن لهذا المثقف دور يذكر سوى دور هامشي، وتمت الاستعانة بـ"المثقف التكنوقراطي" أو "الموظف الحزبي" لصناعة التاريخ الجديد... وأخذت "النقود الرديئة" تطرد تدريجياً "النقود الجيدة"، لأن المطلوب كان "المثقف - الموظف" ذا الولاء المطلق، وليس المثقف المستقل ذا العقل النقدي الخلاق، ذلك المثقف "الناصح الأمين". وهكذا تم حصار دور "المثقف الطليعي" في ذلك المنعطف المهم من تاريخ الوطن العربي (نهاية الخمسينات وطوال حقبة الستينات)"(22).

تتعرض السلطة السياسية الحاكمة للمثقف السياسي، وذلك لمعرفتها أولاً أن هناك نماذج مختلفة من المثقفين فهم ليسوا جميعاً على مستوى واحد، فهناك من يذهب بنفسه لها كي يعرض خدماته سواء كان هدفه التملص والتمرزق أو كان هدفه تطبيق الأفكار التي يراها لتكون سياسات بفضل العلاقة معها، وهناك من ينأى عن التوجه لها حيث يرى أن السلطة السياسية الحاكمة لا يمكن إلا أن تكون مستبدة وغير شرعية ولا سيما إن كانت ذات توجه سياسي مغلق أحادي غير متعدد، وفي حالة كون هذا النوع من المثقفين متميزاً تحاول السلطة السياسية الحاكمة إسقاطه في حبائلها أو في حبائل أخرى تمسكها عليه أمام المجتمع، وفي حالة عدم استجابة المثقف تتعرض السلطة السياسية الحاكمة له بالضغط عليه وفصله من عمله وإثارة المجتمع ضده تشكيكاً بأن ولاءه للخارج وأن نقده مُبطن لغرض الوصول للسلطة، أو سجنه إن لم يستجب المثقف لكل ذلك، ولكن متى ما حصلت السلطة السياسية على ولاء مثل هذا النوع من المثقف السياسي أو ضمنت ولاءه لها أو أمنت مما سيقوله أو يفعله باعتبار عدم قدرته على تكوين رأي عام ضدها أو التأثير في الرأي العام الموجود في المجتمع بالانتظام مع فاعلين اجتماعيين آخرين في إطار معين وتحديد مطالبهم ويكون عملهم كتنظيم أو جماعة على سبيل المثال أو الخروج عما تفكر به هذه السلطة، وأما إذا كان المثقف مجرد سياسي ذي نزعة فردية أو منظر أو محلل لا يستطيع القيام بأي تأثير حقيقي يهددها فستترك للمثقف الحديث أو الفعل كيف يشاء، وهذا يعني أن المثقف السياسي عندما يتعاون مع من لا شرعية سياسية حقيقية له بهدف الوصول للمنصب يفقد معنى المثقف؛ لأنه يتخلى عن مسؤوليته ويصبح موظفاً لدى السلطة السياسية الحاكمة لأداء أدوار اختصاصية معرفية وفكرية، كما يمارس العديد من الخبراء في مختلف المجالات تخصصاتهم في إدارة شؤون الدولة من دون التأثير الحقيقي على السلطة السياسية الحاكمة باعتبار أن ما يقومون به من أنشطة وأعمال مرتبط بتطوير أجهزة الدولة وخدماتها التي تقدمها للناس كالخدمات العامة.

ورغم ممارسة بعض السلطة السياسية الحاكمة انتقائية مقصودة في تفضيل نموذج من المثقفين على حساب مثقفين آخرين بناء على الولاء لها، لابد من التنويه إلى أن عدداً من المثقفين قام بممارسات سياسية أكثر منها ممارسات ثقافية تنسجم مع وضعه كمثقف "من النافل القول إن خدمات المثقف للسياسة والسياسيين ليست معرفية أو ثقافية في طبيعتها، حتى وإن خَالَها -هو- كذلك، بل هي -بالتعريف- خدمات سياسية بلا زيادةٍٍ ولا نقصان. إنه يؤديها بوصفه مناضلاً، في المقام الأول، وليس بوصفه مثقفاً أو مالكاً للرأسمال المعرفي: يزعم السياسي بأنه يرسي مشروعه على قواعد معرفية، ويزعم المثقف بأنه يوظف خبرته العلمية في "أوراش التغيير"، والحقيقة أن المعرفة هي أكبر الغائبين في الحالين! وغيابها - للتذكير - ناجم عن إهدار شخصيتها كصعيد مستقل، والتعاطي معها - بدلاً من ذلك - بوصفها مجرد وسيلة من وسائل السياسة يمكن إخضاعُها وتطويعُها للتكيُّف مع موجبات ومطالب هذه الأخيرة! وهكذا لا يوظّف المثقف في السياسة بضاعتَه المعرفية بمقدار ما يوظف صورته - في وعي الناس - كمثقف! والفارقُ وسيعٌ بين الحالين!"(23). وهذا يعني أن المثقف بحاجة لتوضيح الحدود التي تفصل السياسي عن الثقافي والحالات التي يمكن للمثقف أن يكون فيها مسيّساً وتحديد مهامه السياسية، والمقدار الذي يبتعد فيه المثقف عن السياسة باعتبارها لا تتناسب مع مكوناته وخطابه، إلا أن واقع المثقف في مختلف المجتمعات التي وجد فيها كان مهتماً بالعمل السياسي لم يفارقه، فنشأة مصطلح مثقف الذي هو مصطلح حديث وتحديداً في قضية دريفوس دليل على أن المثقف لا يمكنه العيش من دون سياسة فهو دائم التعامل مع السياسة إما في الغالب كمعارض أو في القليل كجزء من هذه السياسة، وبالتالي تبقى هذه إشكالية المثقف في ارتباطاته مع غيره.

يأخذ المثقف على السلطة السياسية الحاكمة عدة مآخذ، منها فشلها أولاً في إرساء السلم والاستقرار الاجتماعي في المجتمع أفراداً وجماعات وتنظيمات وتكوينات، وفي قيادة المجتمع سياسياً بل إن المعارضة في أكثر الأحيان تقود المجتمع سياسياً؛ إذ لو جُمع كل مؤيدي المعارضة باختلافها لكانت أكثر من مؤيدي السلطة السياسية الحاكمة، كذلك يأخذ المثقف على السلطة السياسية الحاكمة ديكتاتوريتها، عدم مشروعيتها، احتكارها للفعل السياسي، تبعية أكثرها للخارج، فأحد الأسباب المهمة التي جعلت بعض المثقفين يقفون موقفاً من السلطة السياسية الحاكمة أو بتعبير أدق المؤسسات التي أنشأتها الدولة لا المجتمع المدني التي كانت بيد السلطة الحاكمة (اتحاد كتاب وصحفيين، فرق مسرحية، نوادي سينما، ونحوه) هي خيبة أمل هؤلاء المثقفين في هذه المؤسسات وبالتالي في السلطة الحاكمة(24). إلا أنه جدير بالتنويه أن مآخذ المثقف على السلطة السياسية الحاكمة يمكن وصفها بالترابط، فالتأثير متبادل بينها فهي تغذي بعضها ذاتياًً، فمثلاً تؤدي عدم الشرعية للديكتاتورية وللاحتكار وفيما بعد للفشل. وكذلك يلزم هنا أن يُوجه النقد للمثقف أيضاً، ولاسيما عندما يأخذ على السياسي هذه المآخذ ثم يمارسها وإن كان بصورة مختلفة، أي ألَّا تكون هناك بنية مشتركة بين المثقف والسلطة السياسية الحاكمة بممارسة الديكتاتورية أو التبعية أو الفشل بطريق يتناغم مع موقعه في المجتمع، يرى الطاهر لبيب "هناك ضرورة لتعديد مستويات العلاقة بين المثقف والسلطة. وليس المثقف بالضرورة داخل السلطة أو خارجها بصورة جدية. السلطة لها أشكال ومضامين ومستويات مختلفة. قد يتعرض المثقف والسلطة معاً لسلطة أخرى تتجاوزهما مثل التعرض لسلطة أجنبية، كالتبعية للإمبريالية في أشكالها المختلفة. ثم إن علاقة المثقف بالسلطة قد تكون علاقة غير مباشرة"(25).

كل من المثقف والسلطة السياسية الحاكمة يتنازعان على المجتمع، ويحاول كل منهما ليس فقط كسب المجتمع لجانبه بل الحديث عن أنه هو الممثل الحقيقي أو الشرعي لهذا المجتمع، وأحياناً يرى كل واحد منهما أن الآخر ضد المجتمع وليس منه، وهذا أحد أسباب الصراع الموجود بينهما، فالمثقف يتصور أنه أحق من السلطة السياسية الحاكمة بتقديم رؤى للمجتمع باعتباره يتعامل معه من خلال علاقة غير سلطوية تربطه به، ويساعده في ذلك عدم سعيه للحصول على مكاسب ذاتية أو جماعية، ويرى بأن السياسي لا يمتلك مشروعية نابعة من المجتمع تخوله إدارة وقيادة هذا المجتمع، بينما ترى السلطة السياسية الحاكمة أنه لا يوجد من يعرف إدارة وقيادة المجتمع مثلها وبكفاءاتها، وترى بأن المثقف لا يعرف كيف يدار المجتمع وليست لديه القدرة على التعامل مع الواقع والآخرين والقوى الخارجية وموازين القوى في المجتمع.

وفي حالة المجتمعات العربية - وفي كل المجتمعات الأخرى - لا زالت الغلبة للسياسي على المثقف ويبدو أنها ستبقى كذلك طالما أن المثقف لم يستطع من خلال مجتمع مدني صنع سلطة ثقافية له، فتوازن القوى بين المثقف والسلطة السياسية الحاكمة مفقود فعادة ما تكون السلطة صاحبة قوة مقارنة بالمثقف الفاقد لها، فكثيراً لا يقبل السياسي بالمثقف إما تسلطاً أو قناعة منه أن المثقف ليس أكثر قدرة منه في التعامل مع الواقع، ولم يستطع المثقف تغيير هذا الميزان بل يبدو أن السلطة السياسية الحاكمة استطاعت زيادة ترجيح كفتها على حساب كفة المثقف بما تملكه من مراوغة وآلية قمع.

تختلف علاقة المثقف بغيره من الفاعلين الاجتماعيين، فلا يمكن أن تأخذ التجليات نفسها، بمعنى أن المثقف في موضعه يكون نسبياً لا مطلقاً، فيمكن للمثقف أن يأخذ منحيين مختلفين، ولكن في موقفين مختلفين، ولتوضيح هذه الفكرة، نأخذ علاقة المثقف بالفقيه وعلاقة المثقف بالسياسي، فيمكن للمثقف أن يكون مرة "واقعياً" وأخرى "مثالياً" ولكن في موقفين مختلفين، ففي علاقة المثقف - السياسي نجد أن السياسي أكثر واقعية من المثقف، فالأول مجال عمله الفعل والثاني مجال عمله القول "باختصار صنعة الحاكم هي "فن الممكن"، وصنعة المفكر هي "فن ما ينبغي أن يكون". الأول هو رجل الأعمال والأفعال، والثاني هو رجل الكلام والأفكار. وبالتالي فهذا هو جوهر التفاوت في الرؤى بين المفكر والحاكم - اختلاف في المنطلق واختلاف في الغاية، واختلاف في الوسيلة. ولكنه ليس اختلافاً في الموضوع، فموضوع الاهتمام لدى المفكر والحاكم واحد - أمور الأنساق والناس والمجتمع. فإذا كانت هناك فجوة بين الحاكم والمفكر، فهي هذا التفاوت في رؤية كل منهما للموضوع. وإذا كان هناك توتر فهو في كيفية التعامل مع الموضوع"(26) ولا نحتاج للتأكيد على أن الحاكم هو سياسي وأن المفكر مثقف، بينما في علاقة المثقف - الفقيه نجد أن المثقف أكثر واقعية من الفقيه فالأول يشتغل على الواقع بينما الفقيه يشتغل على النص الديني قرآناً وحديثاً نبوياً يرى يحيى محمد في ذلك >أن المثقف مع أنه يعول على الواقع تعويلاً كبيراً في بناء وتكوين منظومته المعرفية؛ إلا أن ما يشكل عليه هو أن هذه العملية من البناء والتكوين كثيراً ما تتم بشكل انتقائي من غير منهج محدد. فهو ينتقي صوراً جزئية ليشكل منها مفاهيم كلية يعمل على تعميمها وإسقاطها بنوع من التعسف(27) ففي هذه العلاقة يمكن أن يكون الطرف الآخر هو من يمثل عامل تحديد وضعية المثقف وليس المثقف هو من يحدد هذه الوضعية.

 

الهوامش:

* كاتب - السعودية.

(1) النخبة العربية والجماهير، د. عبد الإله بلقزيز، بيروت: مجلة الآداب، ع 9/10، عام 1998م، ص 14.

(2) راجع، المثقف العربي همومه وعطاؤه، مجموعة من الكتاب، دراسة عبد الله عبد الدائم، عطاء المثقف العربي: المثقف العربي وضغوط المجتمع، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط الأولى، ديسمبر 1995م، ص 154-160.

(3) راجع، المثقف العربي همومه وعطاؤه، مصدر سابق، دراسة عبد الله عبد الدائم، عطاء المثقف العربي: المثقف العربي وضغوط المجتمع، ص 163-170.

(4) المثقف العربي همومه وعطاؤه، مصدر سابق، أنيس صايغ، مقدمة الكتاب، ص 9.

(5) تسوية القطيعة بين النخبة والمجتمع الأهلي، فؤاد إبراهيم، بيروت: مجلة الكلمة: تصدر عن منتدى الكلمة للدراسات والأبحاث، ع 9، السنة الثانية، خريف 1995م/1416هـ، ص 104-105.

(6) الإنتلجنسيا العربية: المثقفون والسلطة، دراسة د. منصف وناس، المساهمات العربية المعاصرة في مسألة المثقف العربي: المغرب العربي مثالاً، عمان: منتدى الفكر العربي بالتعاون مع اتحاد المحامين العرب والجمعية العربية لعلوم الاجتماع، ط الأولى، عام 1988م، ص 214.

(7) راجع، المثقف العربي همومه وعطاؤه، مصدر سابق، دراسة عبد الله عبد الدائم، عطاء المثقف العربي: المثقف العربي وضغوط المجتمع، ص 154.

(8) الثقافة والمثقف في الوطن العربي، مجموعة من الكتاب: سلسلة كتب المستقبل العربي (10)، دراسة د. الطاهر لبيب، العالِم والمثقف الإنتلجنسي، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط الأولى، ديسمبر 1992م، ص 28.

(9) السلطة الثقافية والسلطة السياسية، د. علي أومليل، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط الأولى، مايو 1996، ص 225.

(10) المثقفون العرب: من سلطة الدولة إلى المجتمع المدني، بوعلي ياسين، الكويت: مجلة عالم الفكر تصدر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون - دولة الكويت، مج 27، ع 3، يناير - مارس 1999م، ص 56.

(11) العرب وتحديات القرن الحادي والعشرين، مجموعة من الكتاب: حوارات في الفكر العربي المعاصر، دراسة د. عبد الرحمن منيف، الثقافة والمثقف في المجتمع العربي، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر بالتعاون مع مؤسسة عبد الحميد شومان بعمّان، ط الأولى، عام 2000م، ص 137.

(12) المثقف العربي همومه وعطاؤه، مصدر سابق، دراسة د. برهان غليون، تهميش المثقفين ومسألة بناء النخبة القيادية، ص 102-103.

(13) المثقف العربي والسلطة.. العلاقة الملتبسة!، عبد الله القفاري، صحيفة الرياض السعودية، الاثنين 28/6/2004م.

(14) جذور أزمة المثقف في الوطن العربي، د. أحمد موصللي - د. لؤي صافي، دمشق: دار الفكر - بيروت: دار الفكر المعاصر، ط الأولى، ذو الحجة 1422هـ / مارس 2002م، ص 42.

(15) المثقف العربي همومه وعطاؤه، مصدر سابق، دراسة د. برهان غليون، تهميش المثقفين ومسألة بناء النخبة القيادية، ص 102.

(16) الإنتلجنسيا العربية: المثقفون والسلطة، مصدر سابق، دراسة د. إيليا حريق، الصراع الطبقي والإنتلجنسيا العربية، ص 89.

(17) راجع: المفكر والأمير، د. سعد الدين إبراهيم، سلسلة الأعمال الكاملة المجلد السادس، القاهرة: دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، دون ط، عام 2000م، ص 23.

(18) المثقف أم الموظف... نحو مفهوم عصري للعمل العام، مصطفى الفقي، صحيفة الحياة اللندنية، 27/5/2003م.

(19) المثقِّف وديموقراطية العبيد، د. محمد جمال طحان، دمشق: الأوائل للنشر والتوزيع والخدمات الطباعية، ط الأولى، عام 2002م، ص 21.

(20) ندوة المثقف والسلطة في الوطن العربي، نادر فرجان وآخرون، بيروت: مجلة المستقبل العربي، تصدر عن مركز دراسات الوحدة العربية، ع 74، أبريل 1985م، ص 137.

(21) ندوة المثقف والسلطة في الوطن العربي، مصدر سابق، ص 132.

(22) راجع، المثقف العربي همومه وعطاؤه، مصدر سابق، دراسة د. محمود عبد الفضيل، المثقف العربي: سعياً وراء الرزق والجاه، ص 120.

(23) نهاية الداعية، د. عبد الإله بلقزيز، بيروت - الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط الأولى، عام 2000م، ص 163-164.

(24) راجع: المثقفون العرب: من سلطة الدولة إلى المجتمع المدني، مصدر سابق، ص 54-55.

(25) ندوة المثقف والسلطة في الوطن العربي، مصدر سابق، ص 130.

(26) المفكر والأمير، مصدر سابق، ص 19.

(27) العقل المثقف والعقل الفقيه، يحيى محمد، بيروت: مجلة الوعي المعاصر، ع 10-11، السنة الثالثة، شتاء 2003م/1423هـ، ص 72-73.

 

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة