شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
تقديم الدراسة في أهمية المناهج ومكانتها
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، وبعد.
كان التعليم ولا يزال الملاذ الآمن الذي يلاذ به عند الهمِّ بالارتقاء بالأمم والنهوض بالشعوب والمجتمعات، وذلك بحسبانه العمود الفقري للتنمية الشاملة، كما كان التعليم ولا يزال بمؤسساته ومناهجه المرجعية التي يلجأ إليها عند البحث عن الحلول الناجعة لمختلف الأزمات والنوازل الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والسلوكية التي تجابه حياة الأمم، وتؤثر في سيرها وتطلعها نحو الترقي والتنمية والتطور والتقدم. ولا غرو والحال كذلك أن يغدو التعليم بمؤسساته ومناهجه محل اعتزاز أو اهتزاز، فالأمم تعتز بتعليمها إذا كانت مؤسساته ومناهجه تحقق لها ما تصبو إليه في الحياة من رقي ونهضة وتطور وتقدم، كما أنَّ مؤسسات التعليم ومناهجه تشهد اهتزازًا إذا عجزت عن تحقيق تطلعات الشعوب وآمالها القريبة والبعيدة.
ومن ثم، فإنَّ الأمم الراغبة في الشهود الحضاري، والتمكين الفكري في الأرض، كانت ولا تزال تلقي بثقلها المادي والمعنوي على التعليم بترقيتها مؤسساتها التعليمية ترقية شاملة، وبتعهد مناهجها التعليمية بالمراجعة الدائبة، والتطوير المتواصل سعيًا إلى تمكين التعليم بمؤسساته ومناهجه من مجابهة الظروف والأزمات والتحديات التي تداهم حياتها بين الفينة والأخرى، وأملاً في تمكين الأجيال التي تعد مخرجات التعليم من الاستفادة من الفرص والآفاق والإمكانات المتوافرة في النهوض بالشعوب والارتقاء بها.
وبالمقابل، فإن الأمم والشعوب التي لا تتطلع إلى أي قدرٍ من الشهود الحضاري، ولا ترنو إلى أي نصيبٍ من الحضور والتمكين في الأرض، لا تولي مؤسسات تعليمها أدنى اعتبارٍ أو تقدير، كما لا يمس مناهج تعليمها بأدنى تطوير أو تغيير أو تحديث أو تجديد، بل تحظى مؤسساتها بإهمال دائم، ونظرة دونية رجعية منبثقة عن رغبة عارمة في التمادي في حالة التيه الفكري والتخلف العلمي والتأخر المادي والتقهقر الحضاري، كما تتمتع مناهجها التعليمية بركود عميق، وجمود عتيق يدفعانها دومًا وأبدًا إلى الاعتصام المزيَّف بماضٍ مجيدٍ لم تصنعه أبدًا، والاعتزاز الأجوف بمنجزات حضاريةٍ لم تسهم فيها قط، بل أفقدتها قيمتها ومكانتها نتيجة تقاعسها وارتكاسها وابتعادها المتعمد عن الزيادة فيها والانطلاق منها.
وتأسيسًا على هذا، فإن أيَّ طمع في شهود حضاري أو تمكين فكري وثقافي في الأرض، لا يمكن له أن يتحقق ما لم يتربع التعليم بمؤسساته ومناهجه المكانة العليا والمنزلة السامية على مستوى الميزانيات التي ترصد له، وعلى مستوى التقدير والاهتمام الذي يناط به في المجتمع، ولن يُؤتي التعليم أكله ما لم تتعهد مناهجه بالمراجعة الدائمة، والتطوير اللازم الذي يجعل منه مصنعًا هامًّا ومهمًّا يصنع الأجيال الأكفاء القادرين على النهوض بالأمم والارتقاء بالشعوب، وتحويل التحديات الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية إلى فرص وآفاق تجعل منهم أمة حاضرة وشاهدة وفاعلة ومشاركة في الفعل الحضاري.
وتأتي هذه الورقة المتواضعة لتسلِّط الضوء على حتمية تعهد المناهج التعليمية في عالمنا الإسلامي المنكوب بالمراجعة الدائبة الدائمة، وضرورة تطويرها قصد تمكينها من صنع الجيل الشاهد الحاضر الفاعل والمشارك في الفعل الحضاري المعاصر، وتنطلق الورقة من فرضية تتمثل في أن حاجة هذه المناهج إلى المراجعة غدت اليوم فريضة دينية وضرورة عصرية، ذلك لأنَّها لم تتمكن حتى هذه اللحظة من صنع ذلك الجيل المرتقب الذي يعيد للأمة الدور الريادي على المستوى الفكري والسياسي والاجتماعي والاقتصاديّ، فمن المكابرة ادِّعاء تبرئة المؤسسات والمناهج التعليمية السائدة من الأزمة الفكرية، والتخلف العلمي، والانفلات الاجتماعي، والتأخر المادي، والانسحاب الحضاري الذي تتقلب فيه معظم الأقطار الإسلاميَّة إن لم يكن كلها.
وبتعبير آخر، إنَّه من العقلية النعاميّة الاعتقاد الأجوف بأنَّ وضع عالمنا الإسلامي ومكانته في المحافل الدولية وضع لا يستحق مراجعة شاملة ولا استنفارًا عامًّا للمسألة التعليمية برمتها، كما أنَّه من الحيف الفكري والزيف العلمي، الإيمان الأجوف بأنَّ الوضع العلميَّ والفكريَّ والسياسيَّ والاقتصاديَّ والاجتماعيَّ لعموم الأمة في المرحلة الراهنة لا يستدعي كل أولئك تغييرًا جذريًّا واستنهاضًا شاملاً في المؤسسات التعليمية عامة وفي المناهج التعليمية خاصَّة، فلا مخرج من التيه الذي عمَّت به البلوى ما لم يعد عالمنا الإسلامي النظر الحصيف المخلص البعيد عن العاطفة والحماسة في مناهجنا التعليمية، وقوفًا على مكامن الضعف والوهن فيها في الأهداف والمحتويات والأساليب وطرق التقويم التي تنتظمها تلك المناهج، وتغييرًا لما ران عليه البلى والقدم، وتطويرًا لما يستدعي الواقع المعاش تطويره وتجديده، أملاً في أن تغدو المناهج بأهدافها ومحتوياتها وأساليبها وطرق تقويمها قادرة على تخريج جيل الشهود والحضور والفاعلية.
انطلاقًا من أن المناهج عند عامة أهل العلم بالتربية تتكون من الأهداف والمحتوى والأساليب وطرق التقويم، لذلك، فإن الورقة عنيت بإبراز أسباب حتمية المراجعة والتطوير لكل واحدٍ من هذه العناصر الأربعة التي تتشكل منها المناهج التعليمية في الدراسات التربوية الحديثة، كما عُنيت أيضًا بتحقيق القول في السبل العلمية التي ينبغي اتِّباعها عند الهمِّ بتحقيق المراجعة المنشودة والتطوير المرجو للمناهج التعليمية في ضوء الواقع المعاصر.
وبناءً على هذا، فإن الورقة انتظمت مبحثين، كان أولهما إبرازًا للأسباب العلمية والمنهجية لحتمية المراجعة وضرورة التطوير، وتناول المبحث الثاني تحقيقًا للسبل العلمية التي ينبغي السعي وفقها لتحقيق المراجعة والتطوير، واحتضنت الخاتمة اقتراحات عنّت لها، ومن شأن الأخذ بها تحقيق تلك المراجعة المنشودة الهادئة وذلك التطوير الشامل المرجو والمتزن، ومن أهمِّ النتائج التي توصلت إليها الدراسة، ضرورة اعتماد فكرة التكامل بين القيم والمعارف من جهةٍ، وبين علوم الدين وعلوم الدنيا من جهة أخرى، وضرورة إعادة النظر في أهداف المناهج التعليمية ومحتوياتها في ضوء الواقع المعاصر لتغدو مواكبة ومعبرة، وضرورة إحلال أساليب التشويق والترغيب والحوارية والنقدية في التعليم محل أساليب القمع، والاستبداد، والتكميم، والإملاء التي كانت ولا تزال إحدى الأسباب الرئيسة التي تدفع الناشئة إلى الغلو والتطرف والتزمت والانحراف في الفكر والتصور والسلوك.
وفضلاً عن هذا، فإنَّ الدراسة دعت إلى ضرورة الالتزام بالمراجعة الشاملة للمناهج بصورة منتظمة، كأن يتم النظر فيها بعناصرها الأربعة بعد كل فترة زمنية لا تتجاوز أربعًا من السنين ضمانًا لصيرورة المناهج انعكاسًا للواقع الذي يعيش فيه الناس، وسعيًا إلى تمكينها النشء من حسن التعامل مع مختلف الأزمات والنوازل والتحديات التي تداهم ساحتهم بين الفينة والأخرى.
على أنه من الجدير تقريره أننا تجاوزنا في هذه الدراسة الإشارة إلى مناهج تعليم قطر أو بلد بعينه إيمانًا منا بأن الدراسة ليست ميدانية، ولا تروم نقد مناهج قطر دون آخر، ولكنها تتناول بالتحليل والدراسة المناهج السائدة في العالم الإسلامي، وإننا نعتقد أنه ليس ثمة تفاوت كبير يذكر بين تلك المناهج من حيث الإجمال.
وختامًا، الله نسأل أن يوفقنا والقائمين على التعليم في عالمنا الإسلامي إلى تقديم مناهج تحقق للأمة دورة حضارية أخرى، واستنئنافًا عاجلاً للدور الريادي الذي كان ذات يوم للآباء والأجداد بفضل ما كانوا يتمتعون به من إيمان راسخ بضرورة محاسبة الذات قبل محاسبة الآخر، وضرورة الاستفادة مما تجود به الأيام من مستجدات مع الحفاظ التام على الثوابت والأصول العامة التي لا يطرأ عليها تغيير أو تحوير أو تبديل في كل عصر ومصر. إن نريد إلا الإصلاح ما استطعنا وما توفيقنا إلا بالله العلي العظيم.
المبحث الأول: في الأسباب الموضوعية والعلمية
لحتمية مراجعة المناهج وضرورة تطويرها
أولاً: أهمية المناهج في بناء الحضارات والتعامل مع الأزمات
لا يشكّ أحد من العالمين بأن تقدّم الأمم وسؤددها، كان - ولا يزال - مرهونًا كل الرهان بما يوليه القائمون على أمرها من اهتمام عظيم، وعناية فائقة، ورعاية كريمة للمؤسسة التعليمية عامة وللمناهج التعليمية خاصة، ذلك لأن هذه المؤسسة التعليمية هي المسؤولة مسؤولية مباشرة عن صنع الأجيال من خلال رسم السياسات الثاقبة، وتحديد المنطلقات الصائبة، وتوجيه الطاقات الشابة توجيهًا يجعلها تتفاعل
- بفعالية واقتدار - مع المجتمع حوله، كما أنها هي المسؤولة عن نهضة الشعوب، وتقدم الأمم وتطورها، وتوكل إليها مهمة الإصلاح والتطوير، والترقي، وفضلاً عن هذا، فإن استقلال الشعوب والأمم وحفاظ الدول على سيادتها ومكانتها يتوقفان توقفًا أساسًا على مدى استقلال مؤسساتها التعليمية، وأصالة نظامها التعليمي والتربوي، وتعبير مناهجها التعليمية عن مبادئها وأهدافها وتطلعاتها في الحياة، ولهذا، فلا غرو أن يؤمّ المصلحون المخلصون المؤسسة التعليمية عامة، والمناهج التعليمية خاصة عندما يحزّ بهم أمر، أو تداهمهم نازلة، أو تفجعهم فاجعة، بل لا عجب من أن يتخذ أولو النهى والألباب من المناهج التعليمية بأهدافها ومحتوياتها وأساليبها، منطلقات لتحقيق ما يصبون إليه من إصلاح منشود للواقع الذي هم فيه، وتغيير مرجوّ للظروف التي يعيشون فيها.
لقد كانت المناهج التعليمية - ولا تزال - أهم جهة مستهدفة للإصلاح والتغيير والتطوير والتعديل، وقد شهدت - ولا تزال تشهد - على مر العصور وكر الدهور ضروربًا من إعادة الصياغة والتصميم أملاً في أن تسهم بفاعلية في إنتاج جيل متمسك بالثوابت والمبادئ، ومواكب للتغيرات والتطورات، ومتفاعل مع مستجدات الواقع المعاش، فتتحقق لهذا الجيل حياة ملؤها الاستقرارُ، والتقدم، والنهضة، والتطور، والأمانُ. ولن تقوى المناهج على تحقيق هذه الغايات ما لم تغدو مناهج جامعة بين الأصالة والمعاصرة، ومتمتعة بوضوح الرؤية، وسلامة الهدف في الحياة، وواقعية الأساليب والوسائل التي تستخدم من أجل الوصول إلى الغايات والأهداف المرسومة.
إنّ هذه الأهميّة القصوى والمكانة العليا التي تحتلها المناهج التعليميّة في تحديد مصائر الشعوب ومستقبل الأمم، هي التي تجعلها - كما أسلفنا - محل اهتمام وتركيز وتصميم ومراقبة لدى الأمم التي ترغب في السيطرة والتأثير والاستيلاء على غيرها من الأمم بغية ضمان استمرارية سيطرتها وقبضتها على مقدراتها، والتحكم في مصائرها ومنطلقاتها ومواقفها.
إذ إنَّ تحكم أمّة في غيرها لا تحقيق له ما لم تكن الأمة المتحكمة ذات مناهج رائعة واقعية جامعة شاملة تتسم في الغالب بوضوح الهدف، وسلامة المنطلق، وسداد الأسلوب؛ وبالمقابل تكون الأمة المتحكَم فيها ذات مناهج مهلهلة، هائمة، وعائمة، غامضة الهدف، وغير واقعية، ولا مواكبة لما تجري به الحياة في الواقع، مما يجعلها فريسة لغيرها يتصرف فيها كيفما شاء، ويطوّعها لإرادتها وابتلاءاتها، والتاريخ المعاصر خير شاهد على هذا الأمر.
ومن ثمّ، فإن الأمم الراغبة في استعادة عافيتها، واستئناف دورها الحضاري، تنطلق من المراجعة الحصيفة الشاملة الواعية لمناهجها بأهدافها ومحتوياتها وأساليبها، قصد الوقوف على الوهن الحضاري الذي ابتليت به، والهامشية التي فرضت عليها بحبل منها لا بحبل من الناس، وبغية تجاوز ما ران عليه البلى من أهداف مثالية ضبابية غير قابلة للتحقق في أرض الواقع، ومحتويات غير مواكبة لما يعيش فيه الناس، وأساليب تعليم بالية تذكي روح الغلو والتطرف والإرهاب، وتقضي على كل ابتكار أو إبداعية أو حرية في التعبير والحوار والمناقشة.
وعندما تقف الأمم على هذه الأدواء المدمرة، تدرك - حينئذٍ - أن الخلل فيها، وليس في أعدائها كما توهمت، وأن العلاج بيدها لا بيد أعدائها، وليس بالإمكان معالجة هذه الأدواء ما لم تتجرّع تلك الأمم جرعات عنيفة من الظروف الاستثنائية والأهوال المفجعة مما تدفعها إلى إعلان حالة طوارئ قصد إنقاذ الأجيال الصاعدة من الذوبان والهزيمة الشاملة ماديًا وروحيًا، والتبعية المؤكّدة لغيرها من الأمم.
ثانيًا: الأسباب الموضوعية للمراجعة والتطوير
وتأسيسًا على ما سبق ذكره أعلاه، فإنّ الواقع المرير الذي تعيش فيه الأمة الإسلامية اليوم من فوضى تشريعية، وتخلف عام عارم على جميع الأصعدة، يعود شطر كبير منه - إن لم يكن كله - إلى المؤسسات التعليمية عامة والمناهج التعليمية خاصة، فهذه المؤسسات والمناهج التعليمية هي المسؤولة مسؤولية أساسية عن التردي والانسحابية والخنوع الذي آلت إليه الأوضاع الفكرية والعقدية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية السائدة في سائر الأقطار الإسلامية المنكوبة، ذلك لأنها هي المسؤولة - كما أسلفنا - عن صنع الأجيال من صنّاع القرار والمسؤولين عن إدارة الدولة، كما أنها هي المسؤولة عن تحديد الأهداف، ورسم السياسات، وتحديد المنطلقات والأساليب التعليمية القادرة على تكوين جيل متكامل وواع ومواكب.
سواء آمنا أم لم نؤمن، فإن الحقيقة التي لا تخفى على أحدٍ هي أن ثمة خللاً وقصورًا واضحًا وجليًّا في العديد من مناهجنا التعليمية المعاصرة في عالمنا الإسلاميّ، فعلى الرغم من تبني معظم الدول الإسلامية المنكوبة الإسلام مصدرًا للتشريع والتقنين غير أن المرء لا يجد في واقع الأمر حضورًا حقيقيًّا لهذا الإسلام في الواقع العملي، فجلُّ أهداف المناهج التعليمية غير معبّرة عن هويّة الأمّة وإرثها العقدي والثقافي، ولا هي منبثقة انبثاقًا حقيقيًّا من ثوابتها التي لا تتغير بتغير الزمان والمكان، مما يجعل تحقيقها أمرًا مستحيلاً ومتعذرًا في دنيا الناس؛ وأما محتويات تلك المناهج ومضامينها، فإنها لا تنتظم موادَّ وموضوعات عميقة الصلة ووثيقة العلاقة بالأهداف المنسوجة والمرسومة، فجلها في التخصصات العلمية والإنسانية مستوردة ولا علاقة لها بواقع الناس حتى إنها تدرس بلغات أجنبية في الديار الإسلامية، وفي التخصصات غير العلمية تعد تلك المواد والموضوعات تقليدية غير موصولة الصلة بالواقع الذي يعيش فيه الناس، الأمر الذي أدّى ولا يزال يؤدي إلى تمكن هذه المناهج عبر هذه المحتويات المستوردة والغريبة إنتاج جيلٍ مغرم باستهلاك المعرفة والعلم ولا ولن يحلم أبدًا في إنتاج ملعقة أو شوكة بنفسه، بل إنه يكرس التخلف والتأخر، ولا يمكن له - بأي حال من الأحوال - أن يحلم بتحقيق شهود حضاري للأمة، أو تمكينها من استئناف دورها القياديّ.
وفضلاً عن هذا، فإنه لا يماري أحد من العقلاء والمنصفين في أنّ العديد من الأساليب والوسائل التعليمية التي تستخدم لتمكين النشء من المواد والمقررات والموضوعات التي تقدم لهم، تعاني تشوّهًا وتخلّفًا واضحين وجليِّين، وتعمّق عقلية الاستبداد في الفكر والسلوك والتعصب الأعمى للانتماءات المذهبية الضيقة المقيتة، كما أن تلك الأساليب تلعن وتتبرأ من الروح النقدية والابتكار والإبداع، وتقضي على المواهب الشابة والناشئة في مهدها، وتنمي الاستمتاع بتكميم الأفواه واختلاق الأكاذيب والافتراءات للنيل من الخصوم والمخالفين، بل إن تلك الأساليب ترى في الحرية والانفتاح والشفافية شؤمًا وكفرًا، مما ينعكس انعكاسًا سلبيًّا على نوعية الأجيال التي تصنع عن طريق هذه الأساليب التقليدية البالية المفنية المقيتة المخالفة لأسلوب خير المعلمين وإمام العالمين مصطفى الرحمن الرحيم - فداؤه أبي وأمي، وعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
أجل، إنَّ المراوغة حول الذات، والإيمان المزيّف بسداد المناهج التعليمية السائدة ووجاهتها جملة وتفصيلاً، بل إنَّ خداع الذات بسمو بهذه المناهج على المراجعة على الرغم من كل ما تحمله من نقائص وأزمات ومشاكل، يمثل كل أولئك دلائل ومؤشرات أكيدة بأنّ الحاجة ماسّة كل المساس إلى مراجعة هذه المناهج التي أورثتنا هذه السلوكيات التي لم تزدنا عبر التاريخ إلا تخلفًا وانسحابًا وتبعية لغيرنا من الأمم التي تتعهد مناهجها يومًا بعد يوم بالمراجعة الدائبة الهادفة.
هبْ أنّ فئة من المخلصين ذوي النوايا الحسنة الطيّبة زعمت بأنّ المناهج التعليمية التقليدية السائدة في الأقطار الإسلامية تنتظم أهدافًا واضحة ومعبّرة، وتتضمن موادَّ وموضوعات ومقررات سليمة وسديدة، ويتم تقديم تلك المواد والمقررات من خلال أساليب ووسائل تعليمية راقية، ولذلك فلا داعي لمراجعتها أو تقويمها مادامت متسمة بما ينبغي أن تتسم به المناهج؟!
إن أقل جواب يمكن أن ينسف به هذا الموقف القائم على مخادعة الذات، يتمثل في التساؤلات التالية:
- إذا كانت مناهجنا التعليمية سديدة وسليمة، ولا تحتاج إلى مراجعة، فما السبب - إذًا - في تخلف عموم الأمة، وتأخرها عن ركب الحضارة المعاصرة؟
- وما الذي جعلها تتخلى عن قيادة البشرية، والشهادة على الأمم كما أمرها ربها؟
- ولماذا هزمت في عقر دارها، وأمست لا تملك لا قرارها ولا قوتها في معظم الأحيان؟ ولماذا تستباح أراضيها ودولها، وتمتهن على الملأ كرامة السواد الأعظم من أبنائها في أرجاء المعمورة؟
- بل لماذا تجري كل هذه المحن والإحن والإهانات والإملاءات التي ما جرى على أمة رسالية مثلها قط؟ لماذا لم يضمّن مصمّمو هذه المناهج ومهندسوها مناعات تعصم عموم الأمة من الهزيمة المادية وشبه المعنوية؟ فمادامت هذه المناهج التعليمية متسمة بالروعة والسداد والوجاهة، لماذا لم تخرج حتى هذه اللحظة جيلاً ينتج العلم والمعرفة، ولا يستهلك إلا ما يصنعه بنفسه؟!!
إن الإجابة عن هذه التساؤلات بصدق وأمانة تنبئك عن أن المسؤول المسؤولية الأولى عن هذه الظروف الاستثنائية هي المؤسسات التعليمية عامة والمناهج التعليمية خاصة، فالحقيقة التي لا ينبغي أن يُمارى فيها اليوم هي أنّ الأطر الأكاديمية المتنوعة فشلت “.. في تلبية الحاجة الثقافية للأمة، ولم تستطع أداء دور يذكر في ذلك.. فلم يتمكن المسلمون خلال ما يقرب من قرنين من التعليم اللاديني القائم على النموذج الغربي أن يحققوا تقدمًا، أو يبدؤوا نهضة حقيقية.. فهم لم يستطيعوا أن يؤسسوا لحد الآن مؤسسة أكاديمية تخرج من أبناء المسلمين منافسين لأمثالهم الغربيين في الإبداع والتفوق، والتعامل مع قضايا مجتمعهم من خلال الرؤية الإسلامية والكفاءة والفعالية المطلوبة.. أما مشكلة المستويات المتدنية والمتخلفة في الإطار الأكاديمي في جامعات العالم الإسلامي ومعاهده، فيصعب حلها بالطرق التي تعالج بها الأمم عادة مشكلاتها المماثلة، لأنها نتيجة حتمية للضياع الفكري وانعدام الرؤية المعرفية الصحيحة..”(1).
إذًا، ليس من سداد الرأي ولا وجاهة النظر تحميل زمرة من أبناء الأمة - كما جرت العادة - مسؤولية الواقع الذي تعيش فيه الأمة، فتلك الزمرة سواء أكانت سياسية أم فكرية أم اجتماعية، تعدّ من نتاج المناهج التعليمية التقليدية التي كان يفترض فيها أن تصنع العباقرة، وتنتج القادة وصناع القرار الواعين بدورهم وغايتهم في الحياة، المواكبين لما تجري به الحياة!
وعلى العموم، إننا لعلى ثقة بأن ثلة من السادة الأفاضل المؤتمرين - حفظهم الله - سيرون في هذه الحقائق الدامغة والواقع المؤلم شيئًا من اليأس على مناهجنا التعليمية التقليدية، بل ربما ظنّ بعض - والعياذ بالله - أن هذا النقد الموّجه للمناهج التعليمية مرجعه إلى تلك الدعوة المنكورة التي استيقظت عليها الأمة عشية هزيمتها النكراء، وإننا - بلا شك ولا تردد - نبرأ إلى الله من تلك الدعوة جملةً وتفصيلاً!!
إن للسادة المؤتمرين الأجلاء أن يفسّروا هذا النقد بما يروق لهم من تفسير، غير أننا نؤمن جازمين بأنّ إنكار هذه الحقائق الدامغة يعدّ في حدّ ذاته تأكيدًا لما قرّرناه، وتثبيتًا لقولنا بأن هذه المناهج كانت ولا تزال تذكي الاستبداد، وتكميم الأفواه، وتربّي في النفوس - عبر أساليبها - التفكير الانهزامي الانسحابي التوهمي المتآمر؛ ولكن - مع ذلك كله، فإننا ماضون قدمًا في إظهار هذه الحقائق وعرضها على البقية الباقية من المصلحين في الأمة، ولن يثنينا شيء عن ذلك أملاً في أن ينهض غَيارَانا المخلصون بالمراجعة الصادقة الشاملة للمناهج التعليمية، والإصلاح العاجل للمؤسسات التعليمية برمتها.
فالخلل كل الخلل فينا نحن المسلمين، وإننا مسؤولون قبل أعدائنا عن هذا الواقع الاستثنائي المزري الذي تعيش فيه الأمة اليوم، فما لم نغيّره تغييرًا شاملاً من خلال نقدنا البنّاء للذات، ومراجعتنا الصادقة الشاملة للمؤسسات التعليميّة عامة وللمناهج التعليمية التقليدية خاصة بأهدافها ومحتوياتها وأساليبها وطرق التقويم فيها، فإننا لا نخال المدد السماوي سيسعفنا مما نحن فيه من تيه وضياع، وصدق الله في كتابه العزيز {إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}.
ثالثًا: الأسباب العلمية لحتمية المراجعة وضرورة التطوير
إن الحاجة تمّس اليوم إلى مراجعة المناهج التعليمية التقليدية في ضوء التحديات والنوازل الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية المعاصرة التي لم تكن حاضرة يوم أن صمِّمت تلك المناهج ووضعت أهدافها ومحتوياتها، وذلك قصد النهوض بها، وتطويرها، والارتقاء بها، وصيرورتها مناهج معبّرة - بصورة واضحة وعملية - عن هويّة الأمة وأهدافها وغاياتها في الحياة، وقادرة على إنتاج ذلك الجيل الذي تعقد عليه آمال التمكين والشهود الحضاري.
إن المراجعة التي تدعو إليها هذه الورقة المتواضعة لا تعني - بأي حال من الأحوال - الإلغاء العشوائي أو التغيير التعسفي والاعتسافي للمناهج التعليمية التقليدية القائمة بأهدافها ومحتوياتها وأساليبها، وطرق التقويم فيها، ولكنها تعني - بكل إخلاص وصدقٍ - إعادة النظر الثاقب الناقد في الأهداف المرسومة في هذه المناهج، ومحتوياتها، وأساليب تقديمها، وطرق التقويم فيها في ضوء الواقع المعاصر، وذلك بغية التعرف على مكامن الضعف والقوة والوهن في هذه العناصر الأربعة، وقصد الارتقاء بما ينبغي الارتقاء به، وتطوير ما يحتاج إلى تطوير، وتغيير ما يجب تغييره، والتبرؤ مما يجب التبرؤ منه. وبتعبير آخر، تروم هذه المراجعة التحقق من مدى توافر عوامل القوّة والإنتاجيّة والفاعليّة والإبداعيّة في العناصر التي تتكون منها هذه المناهج التعليمية التقليدية وذلك في ضوء الواقع الذي تعيش فيه الأمّة، فإذا انكشف غياب هذه العوامل في أي عنصر منها وجب تغييره إن بتطوير أو إلغاء، أو إعادة صياغة!
إن التركيز على مراجعة المناهج التعليمية مراجعة شاملة دون غيرها من المسائل المتصلة بالمؤسسة التعليمية، يعود إلى كون المناهج - كما أسلفنا - المحضن والمصنع الذي يتم من خلاله إعداد النشء وتمكينهم من الإرث العقدي والفكري والثقافي للأمة، فضلاً عن تأهيلهم تأهيلاً متكاملاً ومتوازنًا في كافة المعارف والعلوم المعاصرة تمكينًا لهم من التفاعل الإيجابي المؤثر - بثقة واقتدار - مع مجتمعاتهم، والعالم الذي حولهم.
إنّ تعهد المناهج التعليميّة بالمراجعة الأمينة والتقويم البنّاء والتصويب الهادف والتعديل المتوازن والتطوير الشامل شأن تألفه الأمم المتقدمة، وتمارسه الشعوب الواعية بين الفينة والأخرى بغية الارتقاء بها، وتفعيل دورها وحضورها الفعّال لتلبية حاجات المجتمع المتجددة بتجدد الزمان والمكان.
بطبيعة الحال، إننا نبادر كل البدار إلى تقرير القول بأن دعوتنا إلى مراجعة المناهج التعليمية في العالم الإسلامي مراجعة جذرية وشاملة، لا تعني - بأي حال من الأحوال - الإذعان لحلم حالم، أو مكر ماكرٍ، كما لا تعني - وحاشاها - ترديدًا للنداء الغريب العجيب الذي جاد به هذا الزمان من مطالبة بعض الشعوب غيرها بتغيير مناهجها لتلبي خططها وغاياتها ولتغدو معبرة لا عن آمال تلك الشعوب وأحلامها وأهدافها وغاياتها في الحياة، وإنما عن آمال الشعوب الغالبة وأهدافها وغاياتها! فدعوتنا - أيها السادة المؤتمرون - إلى مراجعة المناهج التعليمية، لا تمت بأدنى صلة بتلك الدعوة الغريبة العجيبة الشاذة التي استيقظ عليها العالم الإسلامي عشية تأكُد القوى الغازية من هزيمته ماديًا وعسكريًا، بل إننا نبرأ إلى الله منها ومن مصادرها، ونحسبها كلمة حق أريد بها باطل!
إن دعوتنا إلى تعهد المناهج التعليمية بالمراجعة والتقويم المستمر ترتكز وتنطلق من المنهج الإسلامي الراسخ الذي يقوم على المداومة على مبدأ محاسبة الذات، وتزكية النفس من وقت إلى آخر مصداقًا لقوله (ص): “حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا”، كما تنطلق من قناعتنا بأن تجديد الدين تعليمًا وتطبيقًا مأمور به بنصّ قوله (ص) في الحديث الذي أخرجه أبو داود في سننه: “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة عام من يجدد لها أمر دينها”.
فالمراجعة تعدّ نوعًا من أنواع التجديد إذ لا تجديد بلا مراجعة، وما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب، فإذا كان التجديد واجبًا، وكان تحقيق التجديد متوقفًا على المراجعة، فإن المراجعة تعدّ - والحال كذلك - واجبة بحسبانها مقدمة الواجب، ومقدمة الواجب عند أهل العلم بالأصول واجب!
وفضلاً عن هذا كله، فإنَّ الدعوة إلى مراجعة المناهج تنبثق من إيماننا بأن الاجتهادات البشرية أنى كانت درجتها لم تسمُ - ذات يوم - في تاريخنا الإسلامي على المراجعة والتصحيح والتقويم والتعديل والتطوير، ويستوي في ذلك الاجتهادات التي نسجت حول معاني نصوص الكتاب والسنة عقيدةً وشريعةً، والاجتهادات التي رامت بيان حكم الشرع في مستجدات الحياة؛ واعتبارًا بأن المناهج التعليمية تعد من حيث الأهداف والمحتوى والوسائل وطرق التقويم اجتهادات بشرية تنامت وتطورت عبر التاريخ هادفة رسم السبل الأمثل للتعامل مع الواقع الإنساني، وإعداد الفرد الصالح النافع لنفسه ولمجتمعه ولمن حوله، لذلك، فإنها هي الأخرى لا يمكن لها أن تسمو على المراجعة والتقويم والتعديل والتطوير بين الفينة والأخرى، وذلك قصد الارتقاء بها، وتطعيمها بما استجد في عالم الناس من قضايا ومسائل؛ وليس من سديد الرأي ولا من حصيف النظر، الجمود على هذه المناهج بأهدافها ومحتوياتها وأساليبها وطرق التقويم فيها، واتخاذها نصوصًا مقدسة منزلة من عند الله، بل لابد من تعهدها بالتقويم والتصويب والتعديل والتغيير والتطوير لمواكبة الواقع الذي يعيش فيه الناس.
وصدق القائل بأن المناهج ليست “.. آية منزلة، مطيبة بعبير الألوهية، وإشراقة من الجنة لا يشوب صفاءها كدرة أو دكنة، لا، بل هي ككل عمل إنساني يبدو نقصه عندما يظن صاحبه أنه تم واكتمل. وإلا لما كانت أرقى أمم الأرض تعدل مناهجها كل مدة حسب مقتضيات العصر والبيئة، وتقدم العلوم، وفنون التربية. فنظرتنا إلى المناهج يجب ألَّا تكون نظرة العابد إلى.. قرآنه، بل نظرة المسافر إلى الطريق الذي يستخدمه، ويستسرشد به لبلوغ غايته وتحقيق هدفه. وما أغبى المسافر الذي لا يمتد نظره إلى أبعد من الخط المرسوم للطريق..”!(2)
واعتبارًا بأنّ المناهج التعليمية يراد بها ذلك النظام المتكامل “.. من الحقائق والمعايير والقيم الثابتة، والخبرات والمعارف والمهارات الإنسانية المتغيرة التي تقدمها مؤسسة تربوية إلى المتعلمين فيها بقصد إيصالهم إلى مرتبة الكمال التي هيّأهم الله لها، وتحقيق الأهداف المنشودة فيهم..”(3) لذلك، فإن مراجعة هذا النظام المتكامل من الحقائق والمعايير والقيم والمهارات والخبرات ينبغي أن تتمحور - في نظرنا - حول فكرة إعادة التكامل الأمين المتزن بين العلوم والقيم من ناحية، وبين علوم الدين وعلوم الدنيا من ناحية أخرى، بحيث يتم التخلص من الفصام النكد المفتعل بين المعارف والعلوم والقيم، وبين هذه العلوم المتداخلة والمتكاملة والمترابطة، ويغدو ثمة وصل وترابط بينها، وليتم ترجمة هذا التكامل المنشود بصورة واضحةٍ وجلية في كافة محتويات المواد، كما يتم ترجمته أيضًا في الوسائل التعليمية من خلال الاستعانة بكل وسيلةٍ نافعةٍ بغض النظر عن مصدرها انطلاقًا من مبدأ “الحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أولى بها”.
ومرد هذا كله إلى إيماننا الراسخ بأنه إذا كان ما يسمى اليوم بعلوم الدين (=العلوم الشرعية) “.. إجبارية وفرض عين في كل الأوقات، فإن العلوم الكونية الأخرى كالرياضيات والفيزياء والكيمياء والإنسانيات وعلوم المهن والحرف والصناعات يكون تعلمها إجباريًا وفرض عين عندما يكون المجتمع في حاجة إليها..”(4) ولا يخفى على كل ذي بصيرة وعقل مدى حاجة الشعوب الإسلامية المنكوبة إلى هذه العلوم التي أصبحنا - بفعلٍ من مهندسي المناهج والسياسات التعليمية والأنظمة التعليمية في عالمنا الإسلامي - نستهلكها ولا ننتجها!
إنَّ فكرة إعادة التكامل بين علوم الدين وعلوم الدنيا لا تعني بأي حالٍ من الأحوال قضاءً مقصودًا على فكرة ما يعرف اليوم بالتخصص الدقيق في المعارف والعلوم، ولكنها تعني نفي التنافر والتناقض بين الديني والدنيوي، وبين النقلي والعقلي، وبين عالم الغيب وعالم الشهادة، كما تعني تمكين الجيل الصاعد من المبادئ والأسس العامة التي تقوم عليها النظرة الإسلامية الناصعة المتوازنة والمتكاملة إلى الإنسان، والكون، والحياة، والوجود، فضلاً عن أنها تعني جعل تعاليم وحي السماء قيِّمًا على الواقع المعيش، وتطويع الواقع الإنساني بجميع شعابه لمقاصد خالق الكون ومدبره، ومقتضى هذا التكامل تحصين النشء بالكليات والثوابت والقيم التي لا ينبغي أن يحيد عنها الفرد أنّى كان تخصصه وزاده المعرفي.
وبناءً عليه، فإن على المناهج التعليمية أن ترفض أي تقسيم للنشاط المعرفي يقوم على الفصل بين الديني والدنيوي، وبين النقلي والعقلي، وبين المادي والروحي، إذ ليس ثمة تنافر أو تناقض بين هذه الثنائيات، بل هي ثنائيات متكاملة ومترابطة ومتداخلة، ولا يصح الفصل بينها بتاتًا، بل إن أي فصل عشوائي أو تعسفي بينهما، يفضي - ولا محالة - إلى غبش في الرؤية، واضطراب في المنهج، وقلق في الحركة، وتشوه في تعامل الإنسان مع الكون والحياة والوجود، مما يجعل الحياة متسمة بدوام الصراع.
على أن مراجعة المناهج التعليمية لا ينبغي لها أن تقف عند محتوياتها وحمولاتها ومضامينها وأهدافها، ومراميها، بل لا بد لها من أن تنتظم مراجعة أمينة للوسائل التعليمية التقليدية التي يتم استخدامها في تعليم النشء، فليس من شك في أن ثمة جزءًا كبيرًا من الوسائل التقليدية عفا عليها الزمن، ولم تعد صالحة لتعليم نشء القرن الحادي والعشرين، فأساليب الترهيب والضرب والتأليم وسواها من الأساليب البدائية القديمة، لم تعد أساليب ناجعة مفيدة، بل ضررها أكبر من نفعها في كثير من الأحيان، وكذلك الحال في أساليب التسلط والتكميم والاستعلاء والازدراء وسواها من الأساليب التعليمية الفاشلة، لم تعد كل أولئك محل تقدير أو ترحيب في هذا العصر.
وبدلاً منها جميعًا، ينبغي العودة عودة مباركة وحميدة إلى الأساليب الإسلامية الأساسية في التربية والتعليم أعني أساليب التشويق والترغيب والإقناع والانفتاح والحرية وسواها، فهذه الأساليب الراقية كانت في الأساس أساليب إسلامية، غير أنها انزوت واختفت - بقدرة قادر - في الحياة الإسلامية المعاصرة، وحلت محلها تلك الأساليب التي لا تتناسب بأي حالٍ من الأحوال مع واقع النشء في القرن الحالي. إن الطفل الناشئ يحتاج إلى خطاب “يبني ويكوّن ويغرس في نفسه الصفات والطاقات النفسية الإيجابية التي تدفعه إلى الثقة بنفسه، والرغبة في أداء مهمته في الحياة والاعتزاز بها، والشوق إلى النجاح فيها، ومعرفة أسرارها، بما يجعل شخصيته تتجلى بالقوة والثقة والاعتزاز والمبادرة وما يتصل بها من صفات لازمة لنجاح الأمة في أداء مهمتها في الخلافة.
إن من المهم أن نجنّب الطفل في مراحل تكوينه النفسي خطاب الإرهاب والتخويف السلبي المدمر للطاقات النفسية اللازمة لصفات الشجاعة والثقة والاعتزاز والمبادرة، وأن ننهج في تربيته وفي الإجابة على تساؤلاته منهج الحب والتشجيع فيما يتعلق بمفهومه ونظرته وعلاقته بالله سبحانه وتعالى الحق العدل الودود الرحمن الرحيم، بحيث يقبل الطفل، في قوة وفي صبر وفي تشوق وفي حب، على الله سبحانه وتعالى وعلى الحياة، ودوره فيها، وعلى الدار الآخرة ولقاء الله فيها، أي تلقين الصغير لمبادئ الدين وقيمه وغاياته وعقائده يجب أن تكون في مراحل التكوين الأولى إيجابية تنمّي مشاعر الحب والشوق والتطلع والإنجاز، لأن من يحب ويتطلع ويعتز يقبل ويؤدي ويتفانى ويضحي ويصبر، أما من يخاف ويرهب، فهو يحذر، وينفر، ولا يعمل إلا بالحد الأدنى وتحت ألوان من الصراع والتمزق النفسي المستمر والذي يلازمه طوال حياته نتيجة مشاعر الإرهاب التي تنفره عن الإقبال من ناحية، وتدفعه إلى الخضوع والإذعان من ناحية أخرى، فيكون التكاسل وعدم الانتظام والتقصير والتفاوت والتناقض والأداء بالحد الأدنى وعلى غير حماس أو إتقان، وهو ما نلحظه من صفات أكثر المسلمين في العصور المتأخرة..”(5).
ومن الأمور التي ينبغي الالتفات إليه في مجال مراجعة الوسائل التعليمية التقليدية، ضرورة الإسراع في تمكين المعلم من أوجه الاستفادة مما جادت به الأيام من وسائل وتكنولوجيات تعليمية حديثة بحسبانها وسائل تقصر المسافات، وتعصم الجهود والأوقات من الضياع، وسوء الاستغلال، فليس من الحكمة ولا من الإسلام في شيء الجمود على الوسائل التعليمية التقليدية وتقديسها، بل لا بد من تحديثها والتخلص من كافة الوسائل التقليدية التي تجاوزتها الأمم المتمدنة والمتقدمة.
وإننا لا نرى من مانع في إعادة النظر بصورة جذرية في المراحل التعليمية التي ورثناها عمن سبقونا من الأمم والشعوب، فللزمن قيمة، وهو سيفٌ إن لم تقطعه قطعك، ذلك لأن ما كان تحصيله بالأمس من المعلومات والمصادر والمراجع يتطلب سنوات في الماضي، فإن تحصيله اليوم غدا لا يتطلب سوى شهور بل أيام، مما ينبغي أخذه بعين الاعتبار، نعني أنه لا محظور اليوم بتاتًا في إعادة النظر الحصيف في كل مرحلة من المراحل التعليمية المختلفة، فالعبرة ليست ولم تكن أبدًا في عدد السنوات، ولكنها كانت وينبغي أن تكون دومًا وأبدًا في النوعية والجودة.
وإنني لعلى يقين بأن ثمة حاجة إلى إعادة النظر بشكل جذري في سني الدراسة والتحصيل على جميع المراحل التعليمية بدءًا بالمرحلة الابتدائية والمتوسطة والثانوية والجامعية، ذلك لأن جملة من المعلومات التي كان تحصيلها متوقفاً على المدرسة، غدت اليوم في متناول الأطفال عبر مختلف مصادر التعلم وخاصة الأجهزة السمعية والبصرية وغيرها، مما يدعو إلى تجاوز تلك المعلومات واستبدالها بمعلومات متقدمة، وينتج عن ذلك إعادة النظر في سني الدراسة والتحصيل. وبطبيعة الحال، لم يقل أحد من الخلق بأن سني الدراسة المتبعة اليوم في المؤسسات التعليمية التقليدية مبنية على نصوص منزلة من خالق الكون، كما لم يقل أحد من أهل العلم بالتربية والتعليم بأن تلك السنين تسمو على المراجعة والتقويم في ضوء ما يستجد في واقع الناس من تقدم وتطور وتغير، فالشأن في تحديد تلك السنوات كالشأن في أي أمر اجتهادي قابل للخطأ والصواب، وخاضع للمراجعة والتقويم والتعديل والتطوير والتغيير.
ولهذا، فليس من حصيف القول ولا من سديد الرأي، اعتبار الاجتهادات التربوية والتعليمية المتصلة بمحتوى مناهج التعليم ووسائله اجتهادات مقدسة ودائمة وأبدية، بل يجب أن تخضع لما تخضع له كافة الاجتهادات من مراجعة وتقويم وتسديد وتطوير وتغيير إذا لزم الأمر في بعض الأحيان. وهذا ما درجت عليه كثير من الأمم المتمدنة والراغبة في التقدم والتطور والنهضة، حيث إنها تتعهد مؤسساتها التعليمية وخاصة مناهجها التعليمية بالمراجعة الدائبة والتقويم المستمر، وتحدث فيها الكثير من التعديلات والتطويرات والتغييرات لتلبية ما يستجد في واقعها وأحوالها.
إن مأساتنا - أيها السادة - أننا لن نراجع قضايانا بإرادتنا وبرغبة صادقة منا، حتى إذا ما طولبنا بها بحق ودونه، تسارعنا إلى الإذعان والخضوع، وهذه منهجية في التغيير والترقي لا بد للأمة من التخلص منها، ولا بد لنا من التفكير الجاد والتخطيط المتمعن في كل ما نقدم عليه من عمل، بل لا بد لنا من مواظبة محاسبة أنفسنا ونقد ذاتنا بإرادتنا وبطريقتنا وبالكيفية التي نريد ونسعى إليها؛ وفي ذلك صلاحنا وصلاح أمرنا وأمر أمتنا جميعًا.
إنّ تعهد المناهج بالمراجعة والتطوير ينبغي أن يكون ذلك منهجًا ثابتًا ومستمرًا لا يجوز التوقف عنه، إذ إن التوقف عن المراجعة الدائبة للمناهج يعني التوقف عن الترقي والتطور والنهضة والتقدم، كما يعني المداومة على مراجعتها قصد تطويرها والنهوض بها ومواكبتها لما يستجدّ في العالم من معارف وخبرات وتجارب وأساليب، تمكين الأجيال من المشاركة الفاعلة والفعالة في الفعل الحضاري، والحفاظ على استقلالهم وسيادة دولهم.
ومهما يكن من شيء، فإننا نخلص إلى القول بأنّ مراجعة المناهج التعليمية تمثل أحد القضايا المحورية الأساسية التي تحتاج إليه الأمة في هذا العصر، وتعد أحد أهم هموم الإصلاح الشامل للحياة، ذلك الإصلاح الذي يدعو إلى أن “.. تواكب قدرة العقل والفكر والمنهج المسلم حاجة الأمة والتحديات التي تواجهها، وأن تقدم لها الطاقة والزاد الفكري، والرؤية، والمناهج الفكرية والحضارية اللازمة لإنجاح مسيرة جهود بناء مرافقها وأنظمتها. فالأمة لا ينقصها الإخلاص ولا القيم ولا القدرات البشرية أو المادية؛ ولكنها تحتاج إلى فكر سليم، ومنهج متكامل قويمٍ، ورؤية واضحة تسير على هداها، وتسعى إلى تحقيقها، وتنشئ أبناءها على مقتضاها.. إنه دون إصلاح مناهج الفكر، وتحقيق رؤية أصيلة واضحة لن يستقيم جهد، ولن ينجح عمل، ولن تفيد تضحية. هذا ما نشأت عليه حضارة الإسلام، وما قامت عليه الحضارات الأخرى من قبل.. وإذا كان لا يصح للمرء المسلم أن يتكرر عليه الدرس، فلا يتعظ ولا يرعوي، فقد تكررت الدروس والعظات والتجارب، وآن لنا أن ندرك أولوياتنا، وألَّا نهمل الأسس، مهما كان إلحاح الأحداث، وهجمات التصدي التي تصرفنا عن إعادة بناء الطاقة التي يتولد عنها الجهد الصحيح بالقدر الصحيح في الاتجاه الصحيح.. فالإسلامية بمفهومها الشامل إطار للحياة الإنسانية والحضارة والإعمار البشري، وغاية كل نشاط وجهاد وعمل وتنظيم اجتماعي إسلامي، غاية واحدة، ومسيرة واحدة، ولا يصح إهمال أي جانب منها، أو التقليل من شأنه..”(6).
المبحث الثاني: في مرتكزات المراجعة المنشودة
والتطوير الشامل لمناهج التعليم
إذا كان ما سبق حديثًا عامًا عن مكانة المناهج التعليمية وأهمية تعهدها بالمراجعة الدائبة المستمرة والتطوير المستمر، فإنه في إطار هذا الهمّ الجاثم على صدر كلّ غيور على مستقبل هذه الأمة، تكسب الدعوة اليوم إلى مراجعة هذه المناهج قصد إصلاح عناصرها، المشروعيّة كل المشروعية، كما تكسب هذه الدعوة المخلصة الأهمية الآنية في هذا العصر، ذلك لأنّ هذه المناهج لم تقدر حتى هذه اللحظة على تحقيق شهود حضاري للأمة منذ عقود مديدة، كما أنها لم تتمكن من تمكين الأمة من استئناف دورها القيادي والريادي ناهيك عن عجزها الواضح الجلي عن إعداد جيل من النشء قادر على انتشال الأمة من براثن التخلف والتأخر في كافة ميادين الحياة، كما أن عجزها المخجل عن تحقيق السعادة والرفاهية والاستقرار للشعوب الإسلامية لا يخفى على أحد على الرغم من تلك الثروات الهائلة التي تعج بها الأقطار الإسلامية، والكنوز العظيمة التي تزخر بها.
إن الواقع الذي تعيش فيه الأمة يؤكد للمخلصين بأن ثمة تدهورًا مستمرًا وتراجعًا متواصلاً لمكانة الأمة بين أمم الأرض، إذ إنها تزداد - يومًا بعد يومٍ - كرهًا ورفضًا من أمم الأرض وذلك بفعلٍ منها لا بفعل من غيرها وإن حُمّل الغير جميع ذنوبها وأخطائها التاريخية!
واعتبارًا بأن المناهج التعليمية تمثل “.. مجموعة المعارف والحقائق والمهارات التي يشتمل عليها المنهج والتي تهدف إلى تحقيق أغراض معينة محددة على نحو مسبق..”(7)، لذلك، فإن إصلاح هذه المناهج لا يروم - بأي حال من الأحوال - إضفاء الصبغة الدنيوية المحضة على هذه المناهج أهدافًا ومحتويات وأساليب وطرق تقويم، وذلك بجعلها مناهج دنيوية خاوية من كل القيم والمبادئ السامية، وتغدو أهدافها ومحتوياتها متمركزة حول طرق إشباع الغرائز المادية، وتخريج جيل مادي شهواني استعلائيٍّ طيِّع في يد الأمم الغالبة، ومنبتّ الصلة عن قيمه وإرثه الفكري والعقدي، كما لا يسعى إصلاح هذه المناهج في منظور هذه الدراسة إلى إضفاء الصبغة الدينية الخالصة على هذه المناهج بجعلها مناهج دينية تتمحور حول قضايا ومسائل ما يعرف اليوم بعلوم الدين والشريعة دون سواها، بل لا يعني إصلاحها - بأي حال من الأحوال - فصل هذه المناهج عن الواقع الذي تعيش فيه، وعزلها عن الحياة العملية، وحصرها في دائرة ما يعرف بالعلوم الدينية أو الشرعية.
إنّ إصلاح هذه المناهج يعني في منظور هذه الدراسة صياغة مناهج التعليم - أهدافًا ومحتوياتٍ، وأساليب، وطرق تقويم - في إطار من التصور الإسلامي الكلي الشامل للكون والإنسان والحياة والوجود، وذلك بغية إنتاج علمٍ إصلاحي إعماري توحيدي أخلاقي رشيد، وقصد إعداد فرد صالح ملتزم بقيم دينه، وقادر على التفاعل مع المجتمع الذي يعيش فيه، وعلى القيام بمهمة الخلافة لله، وعمارة الأرض، وترقيتها وفق منهج الله(8).
فإصلاح المناهج يروم معالجة ما خالج العقل المسلم من أزمات في المفاهيم والرؤى والتصورات التي تنبثق منها العلوم والمعارف المختلفة التي تقدم للنشء دونما تنقية وتصفية، كما يرمي إلى تصحيح ذلك الاضطراب المذهل في تعامل الإنسان المسلم مع الأولويات والمنطلقات، فضلاً عن ضرورة تمكينه من كافة الوسائل والأساليب التعليمية التي استجدّت في هذا العصر ليتمكن من استخدامها وتوظيفها لترسيخ القيم والمبادئ الثابتة في نفوس الأجيال الصاعدة، وتعميق فهمهم بمحتويات المناهج وموضوعاتها.
إنّ إصلاح المناهج التعليمية يعد جزءًا لا يتجزأ من المشروع الحضاري الإسلامي الكبير الذي يهدف إلى إعادة الوصل المكين بين وحي السماء وواقع الأرض، و”..ممارسة النشاط المعرفي كشفًا وتجميعًا وتوصيلاً ونشرًا من زاوية التصور الإسلامي للكون والحياة والإنسان..”(9).
في ضوء هذا التصور الشامل للمراد بإصلاح مناهج التعليم، يمكننا تقرير القول بأنّ ثمة مرتكزاتٍ ضرورية ينبغي أن يقوم عليها إصلاح المناهج، ولا تحقيق لهذا الهمّ الإصلاحي والتصحيحي للمناهج التعليمية ما لم تغدو سائر هذه المرتكزات معبِّرة عن هوية الأمة وهدفها في الحياة. وتتمثل تلك المرتكزات فيما يعرف عند علماء التربية والتعليم بعناصر المناهج التعليمية، وهي: الأهداف، والمحتويات، والأساليب، وطرق التقويم، فهذه العناصر الأربعة متداخلة ومترابطة، ومتصلة بعضها ببعض. مما يعني أن إصلاح مناهج التعليم تعني إصلاح الأهداف التعليمية، وإصلاح المحتويات التعليمية، وإصلاح الأساليب التعليمية، وإصلاح طرق التقويم، وتتحقق الإصلاح الحقيقي للمناهج التعليمية بإصلاح هذه العناصر كلها، مما يعني أن بقاء أي عنصر منها بلا إصلاح سينعكس ذلك على بقية العناصر.
ومن ثمّ، فإنّ الإصلاح المأمول لمناهج التعليم ينبغي له أن ينصبّ على هذه العناصر الأربعة بصياغة مكونات كل عنصر منها في إطار من التصور الإسلامي الكلي الشامل للإنسان والكون والحياة والوجود. وتأسيسًا على هذا، فإننا نرى أن نوسع في هذه العناصر الأربعة جانب التأصيل والتفصيل والتحقيق ارتقاء بالمناهج التعليمية السائدة في الأقطار والمجتمعات الإسلامية لتغدو مناهج منتجة ومعبّرة وفاعلة وقادرة على تغيير الواقع المرير الذي تعيش فيه الأمة منذ قرون خلت. فهلمّ بنا إلى إلقاء نظرة على كيفية إصلاح كل واحد من هذه المرتكزات الأربعة في النقاط التالية:
المرتكز الأول: إصلاح الأهداف التعليمية
يذهب علماء التربية والتعليم إلى أنّ الهدف التعليمي عبارة عن “..التغير المرغوب إحداثه في سلوكيات التلميذ والقابل للملاحظة، أي محاولة لجعل المعنى الذي يتجسد في غاية ما إجرائيًا حيث إنه يعمل بمثابة نقطة نهاية عندما نصل إليها ندرك أن الغاية قد تحققت..”(10) وبتعبير آخر يراد بالهدف التعليمي “.. وصف للسلوك المتوقع من المتعلم نتيجة لاحتكاكه ببعض الحقائق والقيم الإلهية الثابتة والخبرات التربوية المتغيرة وتفاعله معها..”(11).
فالأهداف التعليمية التي يسعى إلى تحقيقها من خلال المناهج التعليمية ينبغي لها أن تتسم بدرجةٍ عالية من الوضوح والدقة والشمولية والواقعية بحيث يمكن مقايستها وتقويمها، كما ينبغي الابتعاد عند صياغتها عن الغموض والضبابية والعمومات والمثالية. وفضلاً عن هذا، ينبغي التفريق بين أنواع الأهداف التعليمية، إذ ثمة أهداف تعليمية ثابتة لا يعتريها تغيير أو تبديل أو تعديل، وهنالك أهداف تعليمية متغيرة تتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال والعادات والتقاليد والأعراف.
فأما الأهداف التعليمية الثابتة، فتتمثل في ترسيخ مجموع القيم والمبادئ التي نصّ عليها الشرع في الكتاب والسنة، وتمثل في جوهرها ما يعرف اليوم بثوابت الدين وكلياتها، ولا تتغير بتغير الزمان والمكان، ولا تتأثر بالأحوال والظروف بتاتًا، ومن تلك القيم الخالدة والمبادئ الثابتة، الإيمان بأركانه الستة (=الإيمان بالله، وبرسله، وكتبه، وملائكته، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره) والتزام الصدق، والوسطية والاعتدال، والأمانة، والوفاء، والمساواة، والحرية، والشورى، والرحمة، والسماحة، والرفق، والاستقامة، والشجاعة، والإيجابية، والواقعية، والمروءة، وغيرها من أمهات الفضائل والأخلاق، إلخ.. فهذه القيم والمبادئ لا تعرف تبدّلاً ولا تغيّرًا ولا تطوّرًا أو تطويرًا، ذلك لأنّها قيَم وأهداف لا تتأثر - كما أسلفنا - بظروف الزمان والمكان، بل إنّها فوق الزمان والمكان، وتمثل معالم أساسية لشخصية الإنسان المسلم والجماعة المسلمة.
وتأسيسًا على هذا، فإن على المناهج التعليميّة في عالمنا الإسلاميّ أن تتخذّ من هذه القيم والمبادئ أهدافًا ثابتة واضحة تسعى إلى غرسها وتعميقها في نفوس الناشئة، وتبذل قصارى جهدها في تمكينهم من تمثلها والعمل بها في حياتهم العملية؛ كما أنّ على مصمّمي المناهج التعليمية التزام الواقعية والموضوعية والاتزان عند صياغة هذه الأهداف بحيث يتم ربطها بالواقع العملي الذي يعيش فيه الناس.. فعلى سبيل المثال، يعدّ ترسيخ مبدأ الوسطيّة والاعتدال في الفكر والسلوك والتصرف هدفًا ثابتًا من الأهداف التعليميّة التي ينبغي العناية به، والإيلاء من شأنه، والسعي إلى ترسيخه في حياة النشء، فينبغي أن يصاغ هذا الهدف صياغة واقعية يسهل على التلميذ فهمه وإدراك أبعاده الفكرية والاجتماعية والثقافية، وآثار الالتزام به على حياته وحياة المجتمع الذي حوله، وكذلك الحال في بقية القيم من تسامح ورحمة ورفق..
وأما الأهداف التعليمية المتغيرة، فإنها تتمثل في أمرين، أولهما: ما عدا هذه القيم والثوابت المشار إلى بعضها، مما يعني أن هذه الأهداف تتغير بتغير الزمان والمكان، وتختلف من زمان إلى آخر، ومن مكان إلى آخر، ومن مجتمع إلى آخر، ومن حق كل مجتمع صياغة ما يروق له من أهداف تنموية وسياسية واقتصادية واجتماعية شريطة ألا تتضمن تلك الأهداف مخالفة للأهداف الثابتة الراسخة.
وأما الأمر الثاني، فإنه يتمثل في كيفيات ووسائل تنزيل العديد من الأهداف الثابتة وتطبيقها في أرض الواقع، فعلى سبيل المثال، تعد الشورى هدفًا ثابتًا من حيث التجريد، غير أنّ تطبيقها في الواقع العمليّ يخضع لظروف الزمان والمكان، ولأحوال المجتمعات والشعوب، كما أن طريقة تطبيقها تختلف من مجتمع إلى آخر، ومن زمان إلى آخر، وليس مقبولاً في شيء إلزام الناس بطريقة واحدة عند الهم بتطبيق الأهداف الثابتة مادام الشرع الحنيف تجاوز - قصدًا - عن بيان الطريقة المثلى لتطبيقها في الواقع العملي. وقد أشار إلى هذا الأمر العالم التربوي الكبير المعروف الدكتور علي مدكور عندما قال ما نصه:
“.. ومنهج التربية الإسلامية له أهداف ثابتة وأخرى متغيرة، فالقيم الإنسانية الواردة في منهج الله وشريعته، هي قيم ثابتة، وهي، بالتالي، تمثل أهدافًا ثابتة للمنهج، وذلك مثل: الصدق والأمانة.. وهناك أيضًا أهداف متغيرة بتغير الزمان والمكان والناس، فالله سبحانه وتعالى أمر بالعدل، وهذه قيمة ثابتة، ولكنه ترك وسائل تحقيق العدل للإنسان، يقوم به وفقًا لظروف الزمان والمكان والناس، وأمرنا بالشورى، وهذه قيمة ثابتة، ولكنه ترك تحقيق الشورى وفقًا لظروفنا المختلفة، وأمرنا بتحقيق العدالة الاجتماعية، ولكنه ترك لنا حرية اختيار الأساليب المناسبة لنا ولظروفنا في تحقيق العدالة الاجتماعية..”(12).
وصفوة القول، إن إصلاح المناهج التعليمية على مستوى الأهداف لا تمام له إذا لم يتضمن تنصيصًا واضحًا على الأهداف الثابتة والربط بينها وبين الأهداف المتغيرة بصورة علمية جلية، فعلى سبيل المثال، اعتادت العديد من المناهج التعليمية التقليدية المعاصرة من صياغة أهم هدف تعليمي لها بالقول: إعداد الإنسان الصالح، أو المواطن الصالح، فإن هذا الهدف يتسم بالغموض والضبابية، ذلك لأن لكل فردٍ أو مجتمع أن يحدد مواصفات الإنسان الصالح أو المواطن الصالح، ثم ينتهج المنهج الذي يراه في إعداد هذا الإنسان. وعليه، فإنه يجب الابتعاد عن صياغة أمثال هذه الأهداف الهائمة المدعاة إلى الاختلافات، وبدلاً منها يمكن إعادة صياغة هذا الهدف بالقول: إعداد الإنسان الصالح الملتزم بمبادئ وقيم دينه الثابتة، والقادر على عمارة الأرض وترقيتها وفق منهج الله؛ وهكذا دواليك.
إن نظرة عاجلة في العديد من المناهج التعليمية التقليدية في عالمنا الإسلامي تجدها خلوًا من الأهداف الثابتة، ويجدها المرء تتمحور حول الأهداف المتغيرة وتعتنقها، ولذلك، فلا غرو أن تكون مخرجات هذه المناهج ما نراه اليوم من أشخاص وجماعات يتنصلون - بلا حياء - من جميع المبادئ والقيم الثابتة التي وضعها الشرع في هذا الكون وأمر بالالتزام بها، بل ليس من عجب في شيء أن تعجز هذه المناهج بأهدافها المهلهلة من إنتاج ذلك الجيل من النشء القادر على تمكين الأمة من استعادة عافيتها واستئناف دورها الريادي والقيادي في هدي البشرية.
من ثم، فإن إصلاح مناهج التعليم تقتضي اليوم إعادة النظر في جميع الأهداف التعليمية في إطار من التصور الإسلامي للإنسان والكون والحياة والوجود، كما تقتضي ضرورة انبثاق تلك الأهداف من المبادئ والقيم الراسخة التي جاء الإسلام من أجل تحقيقها في حياة البشر. وفضلاً عن هذا كله، فإن الإصلاح يرنو إلى الربط المكين بين الواقع الذي يعيش فيه التلميذ والمثال المتمثل في المبادئ والقيم المشار إليها من قبلُ. وأيًّا ما كان الأمر، فإن تمكين المناهج التعليمية من تحقيق هذه الأهداف السامية يجعل منها مناهج قادرة على “.. إنشاء جيل جديد إنشاءً فكريًّا خلقيًّا ممتازًا..”(13)، وتلك هي أسمى الغايات وأعلى الأمنيات التي تصبو إليها المناهج التعليمية برمتها.
المرتكز الثاني: إصلاح محتوى مناهج التعليم
إن ما أسلفناه من توضيح للأهداف التعليمية المثلى التي ينبغي توافرها في المناهج التعليمية يمثل حديثًا مجردًا في عالم النظر والمثال، ذلك لأنه لا تحقيق للأهداف التعليمية إذا لم يتم ترجمتها إلى واقع عملي ملموس من خلال ما يصطلح عليه بمحتويات المناهج، وهي عبارة عن “.. مجموعة الحقائق والمعايير والقيم الإلهية الثابتة والمعارف والمهارات والخبرات الإنسانية المتغيرة بتغير الزمان والمكان، وحاجات الناس التي يحتك المتعلم بها، ويتفاعل معها من أجل تحقيق الأهداف التربوية المنشودة منه..”(14).
فإذا كانت الأهداف التعليمية تُعنى بتحديد القيم والمبادئ الثابتة، وضبط الغايات المثلى التي يسعى المعلم إلى إحداثها في حياة المتعلم فكرًا وسلوكًا، فإن محتويات المناهج تمثل الميدان الذي يتم من خلاله ترجمة تلك الأهداف وتحويلها إلى واقع ملموس قابل للتقويم والمقايسة، مما يعني أن إصلاح الأهداف لا تحقيق له إذا لم ينعكس ذلك في المقررات والمواد التعليمية التي يتوصل من خلالها إلى الأهداف المرسومة سلفًا.
اعتبارًا بتنوع المواد والمقررات والموضوعات التي تتشابك وتتداخل عند الهمّ بترجمة الأهداف وتطبيقها في الواقع، لذلك، لا غرو أن يختلط الحابل بالنابل عند تحديد المواد المناسبة والمعبرة عن الأهداف التعليمية. وانطلاقًا مما أسلفناه من تقرير حول ضرورة كون الأهداف التعليمية متسمة بالوضوح والشمول والواقعية، فإنّ هذه السمات الأساسية يجب أن تتسم بها المواد والمقررات المعبرة عن محتوى المناهج بصورة أكبر، ذلك لأنّها في النهاية هي تعكس الأهداف وتترجمها، وتجعلها واقعًا ملموسًا.
وعليه، فإنه يمكن القول بأن هذه المحتويات ينبغي لها أن تنتظم كل “.. الخبرات والمعارف والمفاهيم والمهارات التي تساهم في بناء الإنسان الصالح كله: وجدانه، وعقله، وجسمه، تعتبر هامة ويجب تضمينها في محتوى المنهج..”(15).
وتأسيسًا على مبدأي المرونة والسعة في تشريعات الإسلام المتعلقة بالتعليم وغيره من الموضوعات، فإن الشرع الحنيف لم يعن بحديث مفصل وواضح عن محتويات المناهج أو العلوم بشكل عام، بل أمر بالقراءة في الكتاب المسطور والكون المنظور، وحث المسلمين على السعي في الأرض والكشف عن سننه في الخلق والتاريخ والكون. فكل هذا تقرير بأن للعقل الإنساني دورًا في ضبط المواد والموضوعات التي من شأنها تحقيق الأهداف المرجوة من المناهج التعليمية، كما أن هذا يؤكد عدم حصر المعرفة الإسلامية في فن دون آخر، أو في تخصص دون غيره، إذ إنّ المعرفة الإسلامية لا يمكن أن يستوعبها تخصص من التخصصات، ولا يمكن أن تقف عند حد فن من الفنون، بل هي “.. منهجية.. تلتزم توجيه الوحي، ولا تعطل دور العقل، بل تتمثل مقاصد الوحي وقيمه وغاياته، وتدرس وتدرك وتتمثل موضوع اهتمام الوحي وإرشاده وهو الفرد والمجتمع الإنساني، والبناء والإعمار الحضاري، وما أودع الله في هذه الكائنات والعلاقات من فكرة ومن طبع، وكيف توجه تلك الطبائع وتتفاعل، وكيف تطوّع وتستخدم، وكل ذلك من أجل تفهم هذه الكائنات وعلاقاتها حتى يمكن تسخيرها لتوجيه الإسلام وغاياته..”(16).
وإذ الأمر كذلك، بأن إصلاح محتويات المناهج يعني تقديم كافة المواد والمقررات التعليميّة التي يتوقف عليها تحقيق الأهداف التعليميّة الثابتة والمتغيرة في إطار من التصور الإسلامي الكلي للإنسان والكون والحياة والوجود. ومقتضى هذا أن أية مادة تقدّم في إطار من التصور الإسلامي تعد مادة إسلامية ولو كان ذلك في الرياضيات أو الفيزياء أو الكيمياء، ذلك لأن “.. كل علم يصمّم منهجه ويدرّس على أساس أن يساهم في بناء الإنسان المسلم القادر على المشاركة بإيجابية وفاعلية في عمارة الأرض وترقيتها وفق منهج الله هو علم ديني من وجهة نظر الإسلام يستوي في ذلك علوم الشريعة والعلوم الحديثة كالرياضيات والطبيعة، والكيمياء، وعلوم التقنية الحديثة..”(17).
وبناء على هذا، فإن ما نشاهده اليوم من فصام نَكِد بين ما يسمّى بعلوم الدين وما يسمّى بعلوم الدنيا، يحتاج من القائمين على شؤون التعليم في العالم الإسلامي إلى مراجعة عاجلة شاملة، ذلك لأنه يعد المسؤول مسؤولية كبيرة عن تقسيم أبناء الأمة الواحدة إلى علمانيّين، ومتديِّنين!.
وعلمانية العلمانيّين تعود إلى تشبعهم في معظم الأحيان بما يعرف بالعلوم الدنيوية، وانخداعهم بعظمة هذه العلوم ورجالاتها، مما جعلهم يتخيّلون أنّ إصلاح الواقع المعاصر ينبغي أن يتم من خلال المناهج التي تعتمدها الأمم المتمدنة القدوة في نظرهم وطروحاتها، ويؤمن أكثر هؤلاء أنه لا يمكن للإصلاح أن يتحقق إذا لم يتم التخلص والقضاء المبرم على زمرة المتديّنين الذين يحسبونهم عقبة كؤودًا أمام مشاريعهم وبرامجهم الإصلاحية!
وأما دينيّة المتدينين، فإنّه يعود إلى تمكن أكثرهم مما يعرف بعلوم الدين والشريعة المحضة، ويرون أن إصلاح الواقع المعاصر، لا يمكن له أن يتحقق إلا من خلال المناهج الدينية التي تعلموا عليها، ويعتقدون اعتقادًا جازمًا أن خصومهم العلمانيين هم المسؤولون عن كل ما جرى وما يجري من محن وابتلاءات في العالم الإسلامي، ولولاهم وصنيعهم وبعدهم عن منهج الله لكان الواقع الإسلامي أكثر استقرارًا وتقدمًا وتطورًا ونهضة!
أجل، إنّ هذا التشوه في الرؤية والتحليل والنقد عند كلا الفريقين، يعد أثرًا من آثار الفصام النكد المفتعل بين علوم الدين وعلوم الدنيا، كما يعدّ نتيجة حتميّة لمحتويات علوم الدين وعلوم الدنيا التي تعمّق الهوة والفجوة والجفوة بين الديني والدنيوي، وتختلق خصامًا بين النقلي والعقلي، وبين المادة والروح. ورُحم الإمام المودودي عندما نبّه على هذا، فقال ما نصه: “.. وفي الحقيقة أن تقسيم العلوم إلى (دينية) وأخرى (دنيوية) يقوم على أساس نظرية الفصل بين الدين والحياة. وتعتبر مثل هذه النظرية متعارضة تعارضًا تامًّا مع الإسلام الحنيف. ذلك أن الدين في نظر الإسلام ليس شيئًا منفصلاً عن الحياة. وعلى هذا، فاعتبار العالم ملك الله تبارك وتعالى، واعتبار الناس فيه عبادًا لله، يحيون وفق مشيئته، وحسب تعاليمه، لهو الدين بمعناه الصحيح، وهو في نفس الوقت الأساس الذي تقوم عليه الشريعة الإسلامية.
وهكذا، فإن مثل هذا التصور للحياة البشرية على هذه الأرض يؤدي إلى تحويل جميع العلوم الدنيوية إلى علوم دينية. أما تقسيم العلوم إلى قسمين: قسم ديني يدرس من وجهة النظر الإلهية، وآخر دنيوي، يدرس من وجهة النظر الأخرى المقابلة يفضي بأجيالنا إلى الاعتقاد بأن الدين شيء، والحياة شيء آخر، وأن كلاًّ منهما يسير في مجرى لا صلة له بالآخر. وهكذا يصبح التوفيق بينهما بغية إخراج الجماعة المؤمنة التي يريدها القرآن الكريم - إذ يقول {ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً} - أمرًا صعبًا للغاية بالنسبة لهذه الأجيال..”(18).
وأيًّا ما كان الأمر، فإننا نعتقد بأن كلا الفريقين - العلمانيين والمتدينين - مسؤولان أمام الله وأمام التاريخ مسؤولية مباشرة ومتساوية عن هذا الواقع المزري للأمة، إذ إنّ دينهم الحنيف لم يأمرهم قط بهذا الفصل بين الديني والدنيوي، كما أنّ انقسامهم إلى هاتين الجبهتين المتناقضتين والمتنافرتين لم ينزل الله بذلك سلطانًا، بل لم يأمرهم به قرآن ولا سنة، وإنما اختاروا بأنفسهم ما هم فيه من وهنٍ وضعفٍ، وما يتقلبون فيه من تخلف وتأخر.
إيْ (=نعم)، لم يأمر الإسلام أحدًا بالانسحاب من الحياة العملية وتركها كلأً مباحًا للآخرين، ثم اللياذ بلوم أولئك الآخرين على ما فعلوا بهذه الحياة، وما تصرفوا فيها من تصرفات، كما أنه لا يوجد إسلام نهى أحدًا عن تعلم قيمه الراسخة ومبادئه الثابتة التي تنور القلوب وتجلي الأبصار وتهدي إلى صراط مستقيم. فمن اختار الانسحاب والانزواء والسلبية، فلا يلومن إلا نفسه، ومن اختار الإعراض والانبهار بالوافد المارد، فلا يلومن أحدًا إلا نفسه.
وصفوة القول، إن إصلاح محتويات المناهج التعليمية يتحقق من خلال إعادة الرحم المقطوعة بين الديني والدنيوي، وتجاوز الفصل المفتعل بين علوم الدين وعلوم الدنيا، فضلاً عن ضرورة تزويد النشء بقدرٍ معقول من مبادئ كل واحدٍ من هذه العلوم التي شققها المسلمون عندما تسربت إليهم - على حين غرة - الآفة التي وقعت فيها الكنيسة ورجالاتها في القرون الوسطى، ففصلوا فصلاً اعتسافيًا وتعسفيًا بين العلم والدين، واختلقوا صراعًا بينهما زورًا وبهتانًا.
وليس من الممكن على الأمد القريب، التقريب بين الفئتين المتنازعتين في الأقطار الإسلامية كلها ما لم يتم القضاء على هذا الفصل من خلال ما يعرف اليوم بفكرة التكامل بين القيم والمعارف والعلوم، والتكامل بين علوم الدين وعلوم الدنيا.
إننا لعلى يقين بأن لهذا الفصام النكد دورًا في نشأة الغلو والتطرف لدى فئام من الشباب المخلص وخاصة منهم أولئك الشباب الذين يسوقهم قدرهم إلى التوجه إلى العلوم الحديثة أو العلوم الدنيوية (=العلوم غير الدينية)، فمن الملاحظ أن حظ كثير منهم من المعرفة الإسلامية الصحيحة ضحل وضئيل، وأما الحماسة التي تملأ جوانحهم، فهي مثل الجبال شموخًا ورسوخًا، وكثيرًا ما تدفعهم تلك الحماسة التي لم تصقل بفهم عميق لقيم الإسلام وتعاليمه إلى الغلو والتطرف والتعصب في مسائل وقضايا يحرم فيها الغلو والتطرف والتعصب والتهجم على المخالف، ولكن عذرهم أن زادهم المعرفي مغشوش ومشوّه وبخس، فلو أنهم نالوا حظًّا أوفر وفهمًا أعمق لتبرؤوا من كل فكر يدعو إلى إزهاق الأرواح البريئة والخروج على الطاعة، وشق الكلمة، وإشاعة الفتنة والبلبلة، وإدخال الرعب والخوف في النفوس ظلمًا وجورًا.
وبالمقابل، فإنه من الملاحظ أيضًا أنّ حظّ كثير ممن ساقهم قدرهم إلى العلوم الدينيّة (=العلوم غير الدنيوية) في المعرفة الحديثة وخاصة المعرفة المتعلقة بالواقع المعيش ومكوناته، وما يطرأ عليه من ظواهر وأحوال، بئيس وضئيل، ولكنه يخيّل إلى كثير منهم بأنهم يعرفون هذا الواقع المعقّد والمتشابك معرفة صحيحة، والحال أنّ مصادر معرفة هذا الواقع المتمثلة في علوم الدنيا لم يسعفهم حظهم إلى القراءة فيها أو التعلم منها، ولكنهم مع ذلك تدفعهم المعرفة الظاهرية والاعتقاد غير الصحيح إلى إساءة التعامل مع هذا الواقع، فترى بعضهم يلجأ إلى استخدام الوسائل العنيفة لتغيير هذا الواقع، والاعتداء على الأنفس والأموال، ظنًّا منهم -بل جهلاً مطبقًا- بأن الواقع لا يتغير إلا من خلال هذه الوسائل الفاشلة العليلة المخالفة لسنن الله في الكون والتاريخ والحياة.
إذًا، إن معالجة ظاهرة الغلو والتطرف الديني أو الدنيوي، تكمن في إعادة صياغة محتويات المناهج التعليمية صياغة إسلاميّة لا ترى فصامًا بين الدينيّ والدنيويّ، ولا بين العقليّ والنقليّ، ولا بين الروح والمادة، ولا بين عالم الغيب وعالم الشهادة، بل تقوم على رؤية ناضجة ناصعة ترى في هذه الثنائيات جمالاً وروعة وتكاملاً وتساندًا وترابطًا. فالتكامل هو الأمل الأوحد لتخفيف حالة الرهق الفكري والتشتت المرجعيّ الذي عمّت به البلوى، وجلبت ولا تزال تجلب للأمة مزيدًا من المآسي والآلام والويلات.
المرتكز الثالث: إصلاح أساليب التعليم
إن سلامة القيم والغايات، وسداد الموضوعات والمقررات التي تتضمنها المناهج التعليمية تمثل مقدمات ضرورية وأساسية لتحقيق إصلاح واعٍ رشيدٍ ومتزن لهذه المناهج، غير أنّها لا تضمن - بأي حال من الأحوال - نجاح العملية التعليمية، أو لا تضمن أيضًا تمكن المناهج من إعداد جيل قادر على القيام بمهمة الخلافة لله وعمارة الكون وفق منهج الله؛ ذلك لأن هنالك عنصرًا ثالثًا لا بد من الاعتداد به عنصرًا هامًّا في العملية التعليمية، وتتمثل في الأساليب التعليمية التي تستخدم من أجل تمكين الأجيال الصاعدة من الأهداف التعليمية المحدّدة، والموضوعات والمقررات المنضبطة، فهذه الأساليب تمثل أحد العناصر الهامة التي يتوقف عليها نجاح العملية التعليمية، وتمكن المناهج التعليمية من الإسهام بفعالية في تغيير الواقع الذي يعيش فيه الناس.
وعليه، فإن للمرء أن يتساءل عن كيفية إصلاح الأساليب التعليمية التقليدية التي يتم من خلالها تزويد النشء بالأهداف والمحتويات التعليمية. وبطبيعة الحال، إننا نبادر إلى تقرير القول بأن الإسلام تجاوز - قصدًا - عن حصر الأساليب التعليميّة في أساليب تعليمية معيّنة، كما أنّ الشرع اكتفى برسم الأسس والكليات العامة التي ينبغي الوعي عليها عند الهمّ بتزويد النشء بالأهداف والمحتويات التعليمية.
ومن ثم، فإننا نفزع إلى القول بأن إصلاح الأساليب التعليمية تعني الانطلاق من المنهجية الإسلامية الخالدة المتمثلة في الحواريّة والتشويق والترغيب والترهيب والنقديّة والواقعيّة وذلك عند الهمّ بتمكين النشء من الأهداف والمحتويات التعليمية بعيدًا عن القمع والإرهاب والاستبداد والتسلط.
فالأساليب التعليمية القادرة على إحداث التغير المطلوب في النشء هي تلك الأساليب التي تقوم على مراعاة واحترام مشاعر النشء، وتقدير واقعهم وأحوالهم، وتوفير جوّ من الرحمة والرفق والتفاعل الإيجابيّ والحوار البنّاء معهم تمكينًا لهم من حسن استيعاب الأهداف والمحتويات التعليمية. فإذا اكتملت في الأساليب التعليمية هذه الركائز المذكورة، كان من شأن ذلك إقبال النشء على التعلم بشغفٍ وشوقٍ ورغبةٍ، فضلاً عن أن ذلك سيوفر لهم تحصينًا عميقًا بالأهداف والمحتويات، فيصبحون لا يقبلون ما يلقى عليهم إلا بعد اقتناعهم بجدواه وصحته. وهذا بدوره يؤدّي إلى ترسيخ ما يتلقونه من خبرات ومعارف ومهارات وتجارب في أذهانهم، ويدفعهم ذلك كله إلى التفاعل الإيجابي الواقعي مع أنفسهم ومع الواقع والمجتمع الذي يعيشون فيه.
إننا نروم بالحوارية في هذا المقام توفير جو من المناقشة البنّاءة الهادفة القائمة على توفير جو من حرية الرأي والتعبير لدى النشء عند تقديم المعلومات والمعارف والمهارات، وتنمية مبدأ الحوار والحرية فيهم، مما يدفعهم إلى التفاعل مع تلك المعارف والمعلومات التي تقدّم لهم. وبتعبير آخر يراد بالحوارية عند بعض المفكرين المعاصرين تلك الصفة التي يتربى عليها العقل “.. فيصبح في حركته الفكرية ممتدًا إلى عقول الآخرين يعرض عليها ما توصل إليه من أفكار: شرحًا لحقيقتها، واحتجاجًا لها، بغية بيانها لتلك العقول، ووضعها أمامها على محكّ الامتحان، كما يصبح ممتدًّا إليها لاستبانة ما توصلت إليه من آراء للنظر فيها والوقوف على ما تضمنته من قوة ومن ضعف، استفادة من قوتها، واتقاء لضعفها، وذلك في حركة تفاعل مشترك بين العقول..”(19).
وأما النقدية، فنروم بها تبني أسلوب الانفتاح على الآراء والأفكار عند تقديم المعلومات والمعارف والخبرات إلى النشء، بحيث يتعلمون من خلال هذا الأسلوب قبول المخالفين لهم في الرأي والفكر، والتقارب معهم قدر الاستطاعة. فعلى سبيل المثال، ينبغي على المعلم والأستاذ عند تدريسه المذاهب الإسلامية الانفتاح على الآراء المختلفة والنظر فيها نظر المقارنة بينها في غير حجب لشيء منها واستبعاد له من دائرة البحث والدراسة، سعيًا إلى التلاقي العاصم من الخصام والتعادي، وتحقيقًا للتعاون العاصم من الفرقة والتشتت.
فهذه النقدية إذا تربى عليها النشء وغدت خاصية راسخة في أذهانهم، من شأنها “.. أن توجههم وجهة التقارب مع المخالفين لهم في الرأي، وتجعل المتكونين عليها من أهل المذاهب ينفتح بعضهم على بعض، ويأنس بعضهم لبعض، ويعتذر بعضهم لبعض.
وأما الواقعية، فإننا نقصد بها تبني أسلوب تقدير المواقف وحسن فهمها، وإيجاد الحلول للمشاكل المطروحة بطابع الانطلاق من الواقع المعاش في حياة الناس بعيدًا عن المثالية المجردة التي تبنى فيها الآراء والحلول من المثال الحاصل في الذهن على غير هدي واعتبار للواقع الذي تجري به الحياة ومقتضياته العملية.
وعلى العموم، إن تضمن الأساليب التعليمية هذه الركائز الأساسية من شأنها ضمان تمكن النشء من الأهداف والموضوعات التعليمية المقدمة لهم. وإن المتأمل - بعمق ودقة - في سيرة خير المعلمين وقدوة العالمين رسول الله (ص) يجد أن هذه الركائز كانت حاضرة دومًا وأبدًا عند تعليمه الصحابة - رضوان الله عليهم - ومن توافد عليه من أهل البادية والحضر. فقد امتثل مبدأ الحوارية في تعليم ذلك الأعرابي الذي بال في المسجد، كما كان التشويق والترغيب منهجًا حاضرًا في دعوته وتعليمه للناس، وأما النقدية، فقد اتخذها منهجًا في استكشاف آراء الصحابة في النوازل التي كانت تنزل بساحتهم إذا لم يكن ثمة وحي يبين حكم الشرع فيها، وأما الواقعية، فقد أرسى قواعد وصدر عنها في سائر تصرفاته المتمثلة فيما اتخذه من منهج وطريقة في الدعوة إلى الله في مكة المكرمة والمدينة المنورة.
ومهما يكن من شيء، فإن النظر المتفحص في الأساليب التعليمية التقليدية الشائعة في العالم الإسلامي، يفضي إلى تقرير القول بأنه لا حضور حقيقيًا لهذه الركائز، وبدلاً منها، فإن أساليب القمع والاستبداد والتكميم تعد الأساليب التعليمية المفضلة والمقننة والمحببة في النفوس نتيجة ما يفتقر إليه الواقع الإسلامي من حرية في الرأي والتعبير، ولهذا، فلا غرو أن تغدو الديار الإسلامية أوكارًا لنشأة أفكار الغلو والتطرف والتعصب.
إن الحاجة تمس اليوم إلى إعادة الحوارية والنقدية والواقعية إلى الأساليب التعليمية التقليدية السائدة لتغدو أساليب تعليمية إسلامية، فالاستبداد والقمع والتكميم يعد كل أولئك أساليب غير إسلامية وإن تبنتها المناهج التعليمية في الأقطار الإسلامية. إن الأساليب التعليمية التي لا تبنى على الركائز المذكورة لا يمكن لها - بأي حالٍ من الأحوال - أن تعدّ جيلاً قادرًا على القيام بمهمة الخلافة، وعمارة الأرض وترقيتها، ولا يمكن لها أن تسهم في تمكين الأمة من استعادة عافيتها ودورها الريادي والقياديِّ، ولن يشفع لهذه الأساليب سداد الأهداف ووجاهة المحتويات، بل إنها تزيد الناس رفضًا وابتعادًا عن تلك الأهداف والمحتويات ظنًا منهم بأن الخلل فيها وليست في الأساليب!
على أنه من الحري بالتقرير أنّ ثمة وهمًا أو توهّمًا لا يزال جاثمًا على القلوب، ويتمثل في تخوف الكثيرين من فتح باب حرية الرأي في التفكير والتعبير ظنًّا منهم أن ذلك مدعاة إلى الفرقة والتنازع، والحال أنّ هذه الحرية هي التي تعصم المجتمع من الفرقة والتشتت والتنازع، ذلك لأنه عندما تتاح هذه الحرية، فإن للمرء أن يعلن عن كل خواطره وأفكاره، فتطرح تلك الخواطر والأفكار على محك الحجة ومائدة النظر، وتمتحن بالحوار مع الآخرين، وحينئذ يتبين لديه الصحيح منها من الخطأ، والقوي من الضعيف، ويكون ذلك سبيلاً للالتقاء مع الآخرين المخالفين له.. وأما حينما يتربى الفرد على القمع الفكري في نطاق المذهبية المنغلقة، فإن الكثير من الخواطر والأفكار التي تنشأ في الذهن تبقى حبيسة فيه بحكم القمع المعلن أو المضمر، وشيئًا فشيئًا، ترتقي تلك الأفكار في النفس إلى درجة اليقين الجازم بأنها حق، حتى ما كان منها مظنونًا أو موهومًا، لأنها لم تمتحن بتداولها مع الآخرين.. فيرتقي في نفسه ما يرى من أفكار مخالفة بأنها باطل ضال، وفي نهاية المطاف، ينتهي الأمر بهذا الفرد المقموع في رأيه إلى أن يكون منافرًا للآخرين، ناشزًا عنهم، ناميًا في اتجاه معاكس لاتجاه العامة، ولا يلبث كل ذلك أن يعبّر هذا المقموع عن نفسه في مظاهر عملية من الخصام والغلو والتطرف والخروج على الجماعة(20).
وصفوة القول، إن الأساليب التعليمية التقليدية السائدة تحتاج إلى الارتقاء بها وتجريدها من جميع ألوان القمع والاستبداد والإرهاب. وليكن الرفق والرحمة والتشويق والحوارية والنقدية والترغيب الأساليب الأساسية الشائعة في المؤسسات التعليمية التي ترنو إلى إعداد الفرد الصالح الملتزم بقيم دينه، القادر على التفاعل والتأثير في مجتمعه، والقادر على القيام بمهمة الخلافة لله، وعمارة الأرض وترقيتها وفق منهج الله، وذلك هو غاية الإصلاح المنشود للمناهج والمؤسسات التعليمية.
المرتكز الرابع: إصلاح طرق التقويم
لئن أوضحنا ما يناط بالمرتكزات الثلاثة من دور وأهمية في الارتقاء بالمناهج التعليمية السائدة، وإعادة صياغتها صياغة معبِّرة عن هوية الأمة وفي إطار من التصور الإسلامي الكلي الشامل للإنسان والكون والحياة والوجود، ولئن سلّطنا الضوء على كيفية إصلاح تلك المرتكزات، فإن هذا المرتكز الأخير، لا يحتاج بيان طريقة إصلاحه إلى جهود كبيرة، ذلك لأنه كالمرتكزات التي قبلها، يتطلب إصلاحه إلى صياغة طرق التقويم صياغة تستند إلى التصور الإسلامي الكلي في مجال التقويم والاختبار مستحضرًا قيم العدالة والإنصاف والشفافية؛ ومستحضرًا كون التقويم نوعًا من الشهادة التي يسأل عنها المرء يوم القيامة، فإن شهد بحق، كان له ثواب، وإن شهد بغير ذلك تحمل عواقبه ونتائجه.
إن إصلاح هذه الطرق بالالتزام التام بالقيم المتعلقة بالشهادة، من شأنه إعداد جيل سليم واثق من نفسه، وعارف قدراته وإمكاناته، مما يدفعه إلى التفاعل البنّاء مع المجتمع بإيجابية وفاعلية؛ وإذا اختلت هذه القيم في هذه الطرق، كان ذلك مدعاة إلى تخريج جيل مضطرب غير واثق من نفسه، فلا يؤمن على نفسه ولا على مجتمعه بله على أمته.
وأيًّا ما كان الأمر، فإن على القائمين بالمناهج التعليمية انتقاء الطرائق التقويمية التي يرونها قادرة على تعريف النشء بقدراتهم وإمكاناتهم دون بخس أو نقص، نعني أنه ينبغي أن يكون الإنصاف أساسًا وقيمة لا ينازع فيها، فليس من العدل حرمان أحد ما يستحقه، كما أنه ليس من العدل إعطاء شخص ما لا يستحقه، وإنما العدل كل العدل إعطاء كل ذي حقّ حقه، وفي ذلك التزام بالمنهج الإسلامي في التقويم والاختبار.
الخاتمة
بفضل من الله وتوفيقه، توصلت الدراسة إلى جملة حسنة من النتائج، يحسن بنا تلخيصها في النقاط التالية:
أولاً: أوضحت الدراسة أن تقدم الأمم، ونهضة الشعوب، يتوقف على مدى اهتمامها ورعايتها للمؤسسة التعليمية عامة والمناهج التعليمية خاصة، وذلك بحسبانها المصنع المسؤول عن صناعة الأجيال، ورسم السياسات، وتحديد المنطلقات، ويعني أنّ حظ الأمم من النهضة والتقدم والتطور ومن التخلف والتأخر والهامشية تحدِّده مناهجها التعليمية بمكوناتها.
ثانيًا: أكدت الدراسة القول في أن الأمم المتقدمة والمتطورة تتعهد مناهجها التعليمية بالمراجعة والتطوير بين الفينة والأخرى، ولا تترفع عن معالجة ما يتبدى فيها من قصور أو نقص، ذلك لأن المناهج التعليمية اجتهادات هادفة إلى إعداد جيل المستقبل إعدادًا يتناسب مع تطلعات الشعوب وآمالها وأحلامها. وأما الأمم الراغبة عن التقدم والنهضة والمشاركة في صنع الحضارة، فإنها تنظر إلى مناهجها التعليمية بوصفها نصوصًا مقدسة لا يجوز المساس بها ولو تطويرًا، مما يزيد هذه الأمم تخلفًا وتأخرًا ورجعية وهامشيّة.
ثالثًا: أصّلت الدراسة القول في حتميّة مراجعة المناهج التعليميّة من المنظور الإسلاميّ وضرورة تعهدها بالمراجعة والتعديل والتطوير والتغيير، قصد الارتقاء بها وتمكينها من إعداد جيل قادر على إنتاج علم إصلاحي إعماري أخلاقي رشيد، وانتهت الدراسة إلى تقرير القول بأن المناهج بعناصرها تعد اجتهادات بشرية لا ينبغي أن تسمو على المراجعة والتقويم والتطوير كلما دعت الحاجة إلى ذلك، وتعد المراجعة من باب نقد الذات، ومحاسبة النفس، ولذلك، فليس من الإسلام في شيء النظر إلى اعتبار المناهج نصوصًا منزلة ومقدسة، بل هي ككل عمل إنساني يعتريه النقص والقصور، ولا ينكشف نقصه ولا قصوره إلا من خلال المراجعة الشاملة الصادقة المخلصة.
رابعًا: أكدت الدراسة أن المراجعة لا تعني بالضرورة التغيير، فمراجعة المناهج لا تعني تغييرها، وإنما تعني فيما تعني تطويرها، ومعالجة أوجه النقص والقصور فيها، واعتبارًا بأنها عمل بشري، فإنها لم ولن تخلو من نقص أو قصور، مما يجعل تعهدها بالمراجعة الدائمة مقصدًا ومطلبًا شرعيًّا في كل عصر ومصر. وبطبيعة الحال، إن المراجعة من أجل الارتقاء أو التطوير ينبغي أن يلاذ بها بغض النظر عن أن يكون ذلك تلبية لدعوة عدو أو صديق، فالمبدأ الإسلامي الناصع: رحم الله امرأً أهدى إليّ عيوبي.. وليكن ذلك المرء عدوي أو صديقي، فالعبرة هي معرفة عيوبي والبحث عن سبل علاجها.
خامسًا: أوضحت الدراسة أن دعوتنا إلى مراجعة المناهج لا تربطها أية رابطة بتلك الدعوة الماكرة التي استيقظ عليها العالم الإسلامي عشية هزيمته العسكرية النكراء، ولكنها تنبثق من إحساسنا بحاجة هذه المناهج التي مضت عليها قرون وهي عاجزة عن إعداد ذلك الإنسان الصالح الملتزم بقيم دينه، والقادر على القيام بمهمة الخلافة لله، وعمارة الأرض وترقيتها.
سادسًا: أصلت الدراسة القول في أن الدعوة إلى إصلاح المناهج يعد من قبيل تطويرها، ذلك أن إسلاميتها تعني صياغة عناصرها الأربعة - الأهداف والمحتويات والأساليب وطرق التقويم - في إطار من التصور الإسلامي الكلي الشامل للإنسان والكون والحياة والوجود، ولا يمكن إصلاح المناهج ما لم تتم مراجعتها لمعرفة مكامن الداء والضعف والوهن فيها.
سابعًا: تناولت الدراسة العناصر الأربعة التي تتكون منها المناهج، وأوسعت كل واحد منها جانب التأصيل والتفصيل والتحقيق، وبينت سبل وطرق إصلاح كل عنصر منها، مع الإشارة إلى واقع هذه العناصر في الأقطار الإسلامية عامة، ولم يفت الدراسة تأكيد القول بأن إصلاح هذه العناصر هو الأمل الوحيد المتبقي لتمكين الأمة من استعادة عافيتها واستئناف دورها الريادي القيادي. إذ بإصلاح هذه المناهج بعناصرها، يمكن إعداد جيل قادر على تحقيق تلك الآمال والأحلام.
وأخيرًا: أوضحت الدراسة أن إصلاح المرتكزات الأربعة التي تتكون منها المناهج، من شأنه تعميق فكرة التكامل بين القيم والمعارف من جهة، وبين علوم الدين وعلوم الدنيا من جهة أخرى؛ فالفصام النكد بين هذه الثنائيات المتداخلة والمترابطة يمثل أهم دليل على فشل المناهج التعليمية التقليدية السائدة في إعداد الجيل المأمول، بل إن هذا الفصام يعد مسؤولاً عن الصراع التقليدي بين من يعرف بالعلماني وغريمه المتدين أو الديني. ولا أمل في القضاء على هذا الصراع بين الفريقين ما لم يتم إعادة التكامل بين الديني والدنيوي، وبين النقلي والعقلي، وبين الروح والمادة، وبين عالم الغيب وعالم الشهادة.
وآخرًا: تقترح الدراسة تشكيل لجان علمية في وزارات التربية والتعليم العالي تكون مهمتها الأساسية تعهد المناهج بالمراجعة الدورية والتطوير الدوري، كما تقترح الدراسة دعوة الجامعات والمعاهد والمراكز البحثية إلى ضرورة عقد المؤتمرات والحلقات الدراسية لبلورة سبل وطرق إصلاح المناهج وصيرورتها مناهج مواكبة لما يطرأ على الواقع من تغيرات وتطورات.
وبهذا نصل إلى نهاية هذه الدراسة سائلاً المولى الكريم أن ينفع بها، وينصر أمة الإسلام، ويمكّنها ويستخلفها في الأرض، إنه ولي ذلك، وعليه قدير.
قائمة بأهم مصادر الدراسة ومراجعها الأساسية
* أزمة العقل المسلم - عبد الحميد أبو سليمان - (واشنطن، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، طبعة أولى 1991م)
* أسلمة مناهج العلوم المدرسية: تصور مقترح - حمدي أبو الفتوح عطيفة - (المنصورة، دار الوفاء، طبعة أولى لعام 1986م)
* إصلاح الفكر الإسلامي بين القدرات والعقبات - طه جابر - (واشنطن، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، طبعة 1991م).
* التربية الإسلامية الحرة - الندوي - (القاهرة، طبعة أولى بدون تاريخ)
* مدخل إلى إسلامية المعرفة - عماد الدين خليل - (واشنطن، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، طبعة عام 1991م)
* مناهج وأساليب في التربية والتعليم - إلياس ديب - (بيروت، دار الكتاب اللبناني، طبعة ثالثة لعام 1981م)
* مناهج التربية: أسسها وتطبيقاتها - علي أحمد مدكور - (القاهرة، دار الفكر العربي، طبعة 2001م)
* المنهج الإسلامي الجديد للتربية والتعليم - أبو الأعلى المودودي - جمع وتقديم وتعليق محمد مهدي الإستانبولي (بيروت، المكتب الإسلامي، طبعة عام 1982م)
* منهج التربية الإسلامية - علي أحمد مدكور - (الكويت، مكتبة الفلاح، طبعة أولى لعام 1987م).
* منهج التربية الإسلامية: أصوله وتطبيقاته - علي أحمد مدكور - (الكويت، مكتبة الفلاح، طبعة أولى لعام 1987م) ص 268 باختصار.
* منهجية تدريس المواد الشرعية - علي أحمد مدكور - (القاهرة، دار الفكر العربي، طبعة عام 1999م)
* الوجيز في إسلامية المعرفة - المعهد العالمي للفكر الإسلامي (واشنطن، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، طبعة أولى).
* مجلة وحدة الأمة، العدد الأول، السنة الأولى، عام 2003م.
الهوامش:
* عضو مجمع الفقه الإسلامي الدولي، وأستاذ أصول الفقه بالجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا، ومدير المعهد العالمي لوحدة الأمة الإسلامية بماليزيا.
(1) انظر: إصلاح الفكر الإسلامي بين القدرات والعقبات، طه جابر، (واشنطن، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، طبعة 1991م) ص 82-83 باختصار.
(2) انظر: مناهج وأساليب في التربية والتعليم، إلياس ديب، (بيروت، دار الكتاب اللبناني، طبعة ثالثة لعام 1981م) ص14 بتصرف.
(3) انظر: مناهج التربية: أسسها وتطبيقاتها، علي أحمد مدكور، (القاهرة، دار الفكر العربي، طبعة 2001م) ص14 باختصار.
(4) انظر: منهجية تدريس المواد الشرعية، علي أحمد مدكور، (القاهرة، دار الفكر العربي، طبعة عام 1999م) ص60 وما بعدها، وانظر للمؤلف أيضًا منهج التربية الإسلامية (الكويت، مكتبة الفلاح، طبعة أولى لعام 1987م).
(5) انظر: أزمة العقل المسلم، عبد الحميد أبو سليمان، ص193 وما بعدها باختصار.
(6) انظر: الوجيز ص81-82 بتصرف.
(7) انظر: أسلمة مناهج العلوم المدرسية: تصور مقترح، حمدي أبو الفتوح عطيفة، (المنصورة، دار الوفاء، طبعة أولى لعام 1986م) ص96 باختصار.
(8) انظر: أسلمة مناهج العلوم المدرسية: تصور مقترح، مرجع سابق، ص26-27 باختصار.
(9) انظر: مدخل إلى إسلامية المعرفة، عماد الدين خليل، (واشنطن، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، طبعة عام 1991م) ص15.
(10) انظر: أسلمة مناهج العلوم، مرجع سابق، ص36 باختصار.
(11) انظر: مناهج التربية: أسسها وتطبيقاتها، مرجع سابق، ص130.
(12) انظر: منهج التربية الإسلامية: أصوله وتطبيقاته، علي أحمد مدكور، (الكويت، مكتبة الفلاح، طبعة أولى لعام 1987م) ص 268 باختصار.
(13) انظر: التربية الإسلامية الحرة، الندوي، ص8.
(14) انظر: منهجية تدريس العلوم الشرعية، علي مدكور، ص131 باختصار.
(15) انظر: منهج التربية الإسلامية، مرجع سابق، ص289 باختصار.
(16) انظر: الوجيز في إسلامية المعرفة، مرجع سابق، ص 78 باختصار وتصرف.
(17) انظر: منهج التربية الإسلامية، مرجع سابق، ص290 باختصار.
(18) انظر: المنهج الإسلامي الجديد للتربية والتعليم، أبو الأعلى المودودي، جمع وتقديم وتعليق محمد مهدي الإستانبولي (بيروت، المكتب الإسلامي، طبعة عام 1982م) ص23.
(19) انظر: بحث بعنوان: دور التربية الفكرية في الوحدة المذهبية للأمة، عبد المجيد النجار، مجلة وحدة الأمة، العدد الأول، السنة الأولى، عام 2003م، ص21.
(20) لمزيد من التأصيل حول هذا الموضوع، ينظر بحث دور التربية الفكرية في الوحدة المذهبية للأمة للدكتور النجار.. ص14-15 من مجلة وحدة الأمة، العدد الأول، السنة الأولى.
شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
يحاول الكاتب محمد محفوظ في 166 صفحة أن بضيئ الحديث عن السلم الأهلي والمجتمعي، في الدائرة العربية والإسلامية، بحيث تكون هذه المسألة حقيقة من حقائق الواقع السياسي والإجتماعي والثقافي، وثابتة من ثوابت تاريخنا الراهن.
ينتمي مالك بن نبي وعبدالله شريط إلى بلد عربي إسلامي عانى من ويلات الاستعمار ما لم يعانه بلد آخر، سواء في طول الأمد أو حدة الصراع أو عمق الأثر. إنهما مثقفان عميقا الثقافة، مرهفا الشعور، شديدا الحساسية للمعاناة التي عاشها ملايين الجزائريين من ضحايا مدنية القرن العشرين، بأهدافها المنحطة وغاياتها الدنيئة.
عقد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات خلال الفترة الواقعة بين 6 و 8 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2012، مؤتمرًا أكاديميًّا عنوانه «الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي: تجارب واتّجاهات»، في فندق شيراتون بالدوحة، وشهد الافتتاح حشدًا كبيرًا من الباحثين والأكاديميّين من دول عربية.
يأتي الاهتمام بالقضية الفنية في فكر الأستاذ عبدالسلام ياسين من منطلق أن الوجود الحضاري للأمة كما يتأسس على أسس القوة المادية التي يمليها منطق التدافع القرآني أي التدافع الجدلي بين الخير والشر الذي هو أصل التقدم والحركة، يتأسس كذلك على جناح تلبية الحاجات النفسية والذوقية والجمالية بمقتضى الإيمان الذي هو ...
ثمة مضامين ثقافية ومعرفية كبرى، تختزنها حياة وسيرة ومسيرة رجال الإصلاح والفكر في الأمة، ولا يمكن تظهير هذه المضامين والكنوز إلَّا بقراءة تجاربهم، ودراسة أفكارهم ونتاجهم الفكري والمعرفي، والاطِّلاع التفصيلي على جهودهم الإصلاحية في حقول الحياة المختلفة
لا شك في أن الظاهرة الإسلامية الحديثة (جماعات وتيارات، شخصيات ومؤسسات) أضحت من الحقائق الثابتة في المشهد السياسي والثقافي والاجتماعي في المنطقة العربية، بحيث من الصعوبة تجاوز هذه الحقيقة أو التغافل عن مقتضياتها ومتطلباتها.. بل إننا نستطيع القول: إن المنطقة العربية دخلت في الكثير من المآزق والتوترات بفعل عملية الإقصاء والنبذ الذي تعرَّضت إليه هذه التيارات، مما وسَّع الفجوة بين المؤسسة الرسمية والمجتمع وفعالياته السياسية والمدنية..
لم يكن حظ الفلسفة من التأليف شبيهاً بغيرها من المعارف والعلوم في تراثنا المدون بالعربية، الذي تنعقد الريادة فيه إلى علوم التفسير وعلوم القرآن والحديث والفقه وأصوله، واللغة العربية وآدابها، وعلم الكلام وغيرها. بينما لا نعثر بالكم نفسه على مدونات مستقلة تعنى بالفلسفة وقضاياها في فترات التدوين قديماً وبالأخص حديثاً؛ إذ تعد الكتابات والمؤلفات في مجال الفلسفة، ضئيلة ومحدودة جدًّا، يسهل عدها وحصرها والإحاطة بها.