تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

الإيديولوجيا

بول ريكور

 

ترجمة: د.محمد سبيلا

أقترح القيام بمعالجة لثلاث استعمالات -مشروعة كلها- لمفهوم الإيديولوجيا، في مقابلتها لثلاث مستويات متدرجة في العمق.

الإيديولوجيا كتشويه وإخفاء

سأنطلق من استعمال كلمة “إيديولوجيا” التي أصبحت شعبية بفضل كتابات ماركس، في فترة المخطوطات الاقتصادية السياسية لسنة 1843-1844م، وخاصة الإيديولوجيا الألمانية. (...) وقد كان نابليون هو الذي اتهم هؤلاء الإيديولوجيين العزل، بأنهم كانوا بمثابة تهديد للنظام الاجتماعي، وهو ما تولدت عنه الدلالة القدحية لِلَّفظ، (...) ومن الواجب أن نشير أن ماركس الشاب، كان قد حاول أن يقدم لنا ما يعنيه بالإيديولوجيا من خلال تشبيه، فقد استخدم تشبيه قلب الصورة في غرفة سوداء، وهي منطلق فن التصوير. ومن ثمة فإن الوظيفة الأولى المسندة للإيديولوجيا، هي إنتاج صورة معكوسة للواقع.

ماذا يعني هذا التشبيه؟ إننا نعثر لدى ماركس على تطبيق له وعلى استعمال معمم. التطبيق المضبوط يأتي من فوير باخ، وقد رأى ماركس في هذا القلب نموذجاً لأشكال القلب الأخرى ذات الطابع الإيديولوجي. وبهذا المعنى، فإن نقد الدين لدى فوير باخ هو المثال النموذجي والباراديغم، لتأويل التشبيه المجازي المتعلق بالصورة المعكوسة، في الغرفة السوداء لآلة التصوير. وما هو خاص بماركس في إعادة تناول فوير باخ، هو العلاقة التي يقيمها ماركس بين التمثلات وواقع الحياة، الذي يدعوه ممارسة.

وبذلك ننتقل من المعنى الضيق إلى المعنى العام لكلمة إيديولوجيا. وحسب هذا المعنى فإن هناك أولاً الحياة الواقعية للناس، إنها ممارستهم؛ ثم هناك انعكاس هذه الحياة في خيالهم، وتلك هي الإيديولوجيا. وهكذا تصبح الإيديولوجيا هي العملية العامة، التي يتم فيها تشويه وتحريف عملية الحياة الواقعية أو الممارسة، بواسطة التمثلات المتخيلة، التي يكونها الناس عنها. (...) وإذا كانت الإيديولوجيا صورة مشوهة وقلباً، وإخفاء للحياة الواقعية، فإنه يتعين إعادة وضع الإنسان، الذي يسير على رأسه، ليمشي على رجليه، مع الابتداء بهيجل، وإنزال الأفكار من سماء المتخيل إلى أرض الممارسة. (...) لماذا لا يتعين الاقتصار على هذا المفهوم الأول للإيديولوجيا؟ إن مجاز القلب يخفي بدوره ثغرة خطيرة. إذا قبلنا أن الحياة الواقعية -الممارسة- تسبق حقًّا وفعلاً الوعي وتمثلاته، فإننا لن نفهم كيف يمكن أن تنتج الحياة الواقعية صورة عن ذاتها، وبالأحرى صورة معكوسة. إننا لن نستطيع أن نفهم ذلك إلا إذا ميزنا داخل بنية النشاط العملي ذاتها، وسيطاً رمزياً يمكن أن يكون قابلاً للتحريف. وبعبارة أخرى إذا لم يكن النشاط العملي ملوثاً بالخيال، فإننا لن نفهم كيف يمكن أن تتولد صورة خاطئة عن الواقع.

ونحن نعرف كيف تخبط الماركسيون الأصوليون في مدلول الوعي كانعكاس، الذي لم يكن التكرار للتشبيه المجازي القديم حول الصورة المعكوسة. يجب أن نفهم إذن بأي معنى يكون المتخيل مباطناً لعملية الممارسة ذاتها.

الإيديولوجيا كعنصر مبرر، أو (إضفاء المشروعية)

وبذلك نتجه نحو المستوى الثاني، حيث تبدو الإيديولوجيا لا كعنصر مشوش ومشوه، بل كعنصر مبرر. وقد لامس ماركس نفسه هذا المعنى، عندما أعلن أن أفكار الطبقة السائدة تصبح أفكاراً سائدة، وتحاول أن تمرر نفسها كأفكار شمولية. وهكذا فإن المصالح الخاصة لطبقة معينة، تصبح هي ذاتها مصالح شمولية. وقد لامس ماركس بذلك ظاهرة أكثر أهمية من مدلول القلب والإخفاء، أي محاولة التبرير التي ترتبط بظاهرة السيطرة ذاتها. وهذه المشكلة تتجاوز مشكلة الطبقات الاجتماعية، (...) فكل سيطرة تريد أن تبرر ذاتها، وهي تقوم بذلك بالالتجاء إلى مدلولات يمكن أن تصبح شمولية، أي صالحة للجميع. والحال أن هناك وظيفة للغة تستجيب لهذه الوظيفة، وهي البلاغة، من حيث إنها تزود بالأفكار شبه الشمولية. وقد كانت العلاقة بين السيطرة والبلاغة معروفة منذ القديم. (...) ليس هناك مجتمع يشتغل بدون معايير وقواعد، وجهاز رمزي اجتماعي، يتطلب بدوره بلاغة للخطاب العمومي. (...) في أية لحظة إذن يمكن أن نقول: إن بلاغة الخطاب العمومي تلك تصبح إيديولوجيا؟ من وجهة نظري إن ذلك يتم عندما توضع في خدمة عملية إضفاء المشروعية على السلطة. يجب أن نرى أن في ذلك -قبل أية حيلة أو أي إخفاء- أداءً وظيفياً، يمكن أن يكون مليئاً حقًّا بالمصائد، لكنه ضروري ولا خيار فيه.

كان ماكس فيبر قد بين في كتابه “الاقتصاد والمجتمع”، في بداية هذا القرن، أن كل مجموعة اجتماعية متطورة، تصل ضرورة إلى مرحلة يقع فيها التمييز بين الحاكمين والمحكومين، وهذه العلاقة غير المتناظرة، تتطلب ضرورة بلاغة إقناع، ولو فقط للحد من استعمال القوة في فرض النظام. كل نظام للمرافقة الاجتماعية، يقوم على أداء إيديولوجي مسخر لإضفاء المشروعية على مطالبته بالسلطة. وهذا ليس فقط صحيحاً بالنسبة للسلطة التي يدعوها فيبر بالسلطة الكارزمية، ولا فقط بالنسبة للسلطة المرتكزة على التقليد، بل حتى بالنسبة للدولة المعاصرة، التي يصفها بأنها دولة بيروقراطية.

لماذا يكون الأمر كذلك؟ لأن ادعاء المشروعية بالنسبة لمنظومةٍ سلطويةٍ ما، يتجاوز دوماً ميلنا إلى الاعتقاد في مشروعيتها الطبيعية. وتلك ثغرة يتعين ملؤها، وضرب من فائض القيمة الاعتقادي، تكون كل سلطة في حاجة إلى استخراجه من رعاياها. وعندما أقول فائض قيمة، فأنا أشير طبعاً إلى المفهوم الذي طبقه ماركس على علاقات رأس المال والعمل، فقط على ميدان الإنتاج، لكن يبدو لي أنه قابل للانطباق عامة على كل علاقة سيطرة. هناك حيث تكون السلطة، تكون المطالبة بالمشروعية. وهناك حيث تكون المطالبة بالمشروعية، يتم اللجوء إلى بلاغة الخطاب العمومي بهدف الإقناع.

وهذه الظاهرة تشكل في نظري المستوى الثاني للظاهرة الإيديولوجية. وسأسميه بإضفاء المشروعية لا الإخفاء، كما في المستوى الأول(...).

الوظيفة الإدماجية للإيديولوجيا (احتفالات الذكرى)

لكن إذا لم يكن بمستطاعنا تتبع تولد ظاهرة السلطة، فإننا نستطيع أن نفهم ما هي الأسس العميقة التي تقوم عليها. وذاك مستوى ثالث أعمق من مستويات الظاهرة الإيديولوجية يتم الكشف عنه. ووظيفته على ما يبدو هي وظيفة إدماج، وهي وظيفة أساسية أكثر من وظيفة إضفاء المشروعية، وبالأحرى من وظيفة الإخفاء.

ومن أجل أن نفهم بم يتعلق الأمر، سأنطلق من استعمال خاص للإيديولوجيا حيث تكون وظيفتها الإدماجية واضحة وبديهية. ويتعلق الأمر بالاحتفالات التذكارية التي تحيي الجماعة بواسطتها الأحداث التي تعتبرها أحداثاً مؤسسة لهويتها، يتعلق الأمر إذن بالنسبية الرمزية للذاكرة الاجتماعية. ونحن لا نعلم ما إذا كانت هناك مجتمعات غير ذات علاقة بأحداث تأسيسية تبدو وكأنها أصل الجماعة ذاتها.

وأنا أشير إلى ظواهر مثل الإعلان الأمريكي الشمالي للحرية، أو الاستيلاء على الباستيل خلال الثورة الفرنسية، أو ثورة أكتوبر بالنسبة لروسيا الشيوعية. في كل هذه الحالات تحافظ الجماعة على علاقة معينة، مع جذورها الخاصة الممثلة في الحدث المؤسس. ما هو دور الإيديولوجيا هنا إذن؟. إنه لنشر الاعتقاد واليقين، بأن هذه الأحداث المؤسسة هي التي شكلت الذاكرة الجماعية، وعبرها، شكلت هوية الجماعة ذاتها. إذا تماهى كل واحد منا مع التاريخ الذي يمكن أن يحكيه عن ذاته، فإن الأمر هو كذلك بالنسبة لكل مجتمع، مع فارق يتمثل في أن علينا أن نتماهى مع أحداث ليست ذكرى مباشرة لأي أحد، بل ولم تكن ذكرى إلا لدائرة محدودة من الآباء المؤسسين. وتلك وظيفة الإيديولوجيا في أن تعمل كمعبر بالنسبة للذاكرة الجماعية، حتى تصبح القيمة التأسيسية للأحداث المؤسسة، موضوع اعتقاد من طرف الجماعة كلها. وينتج عن ذلك أن الفعل المؤسس ذاته، لا يمكن أن يكون قد تمت معاناته وإحياؤه، إلا بواسطة تأويلات لا تكف عن تعديله، وأن الحدث المؤسس ذاته يتماثل إيديولوجياً مع وعي الجماعة. ولعله ليس هناك أية مجموعة اجتماعية، سواء تعلق الأمر بطبقة أو بشعب، دون مثل هذه العلاقة غير المباشرة، مع أحداث تنسب لها الجماعة دلالة كونها حدثاً مؤسساً. هذا المثال المتميز، عن العلاقة بين الذكرى الاحتفالية والحدث المؤسس، عبر تمثل إيديولوجي، يمكن تعميمه بسهولة. فكل جماعة قائمة تتطلب صلابة واستمراراً، بفضل الصورة الثابتة والدائمة التي تقدمها لنفسها عن ذاتها. وهذه الصورة الثابتة تعبر عن المستوى الأعمق للظاهرة الإيديولوجية.

 

الهوامش:

* P.Ricour: Du texte à l’action. seuil 1986 P380-387.

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة